من أقوال الآباء في الصوم
من قصائد مار أفرام السريانيّ (+٣٧٣)
هَا هُوَ صَوْمُنا المُبَارَكْ فَلْنُبَادِرْ إِلى لِقَائِهِ.
إِنَّهُ خِزَانَةٌ مَفْتُوحَةٌ لِلعُقَلاء، وَفَرَحُ قَلْبٍ لِلعُلَمَاء، وغِذَاءُ عَقْلٍ لَدى الحُكَماء،
النَفْسُ العَاقِلَةُ تَسْتَنِيْرُ بِهِ أَكْثَر، وَالرُوحُ العَاقِلَةُ، إذَا تَاَمَّلَتْ بِالأَوَّلِين، تَكْتَسِبُ بِالصَومْ، سِلاحَ آلِ مُوسى وإيليَّا.
ها إنَّ الصَوْمَ الذي يَمْنَحُ نَوْعَيْنِ مِنَ الجَمَال، يُزَيِّنُ الجَسَدَ والنَفْسَ معاً:
يُعْطِي النَفْس سَنَاءً أَمامَ المَلائِكَة، وَيُعْطِي الجسَدَ بَهَاءً أَمَامَ البَشَر.
لكَ المَجْدُ يا مَنْ بِصُوْمِكَ تَلألأوا.
من أقوال أفراهات الحكيم الفارسي (+٣٤٥)
جَميلٌ هُوَ الصَوْمُ النَقِيُّ في عَيْنَي الرَّبّ. كَنْزٌ في السَمَاءِ هُوَ وسِلاحٌ ماضٍ بِوَجْهِ الشَّر، وَدِرْعٌ ضِدَ سِهَامِ العَدُوّ.
مَنْ فَقَدَ نَقَاوةَ القَلْب، فَصُوْمُهُ غَيْرُ مَقْبُول.
تَذَّكَرْ، أَيُّهَا الحَبيب، كِمْ هيَ غَنِيَّةٌ رَغْبَةُ الإِنْسَانِ الذي يُنَقّي قَلْبَهُ وَيَحْفَظُ لِسَانَهُ وَيَمْنَعُ يَدَيْهِ مِنْ فِعْلِ الإثْم، كَمَا سَبَقَ وَكَتَبْتُ لَكَ.
لا يَلِيقُ بالإنْسانِ أَنْ يَمْزُجَ العَسَلَ بِالمَرارَة. إذا صامَ عَنِ الخُبْزِ وَالمَاء، فَلا يَنْبَغي أَنْ يَمْزُجَ بِصَومِهِ التَجادِيفَ واللَعَنات. واحدٌ هوَ بَابُ بَيْتِكَ، وَبَيْتُكَ هُوَ هَيْكَلُ الله.
عِنْدَمَا يَصُومُ الإِنْسَانُ عَنِ السَيِّئات، وَيَأَخُذُ جَسَدَ المَسيحِ وَدَمَهُ، عَلَيْهِ أَنْ يُحَافِظَ بِكُلِّ عِنَايَةٍ عَلى فَمِهِ الذي بِهِ يَدْخُلُ ابْنُ المَلِك. لا يَحِقُّ لَكَ أَنْ تُخْرِجَ مِنْ فَمِكَ الكَلِماتِ المُشِينَة. إِسْمَعْ ما يَقُولُهُ واهِبُ الحَياة:
''لَيْسَ ما يَدْخُلُ الفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَان، بَلْ ما يَخْرُجُ مِنْ الفَمِ هُوَ الذي يُنَجِّسُ الإنْسَان''.
من أقوالِ مار اسحقَ السُّرياني (أواخر القرن السابع)
مائدة الإِنْسَانِ الذَي يُداومُ الَصَلاةَ هيَ أَحْلَى مِنْ عِطْرِ المِسْكِ وَأَذْكَى مِنْ أَريجِ الزَهْر، وَمُحِبُّ اللهِ يَتُوقُ إِليهَا كَإِلى كَنْزٍ لا يُقَوَّمُ بِثَمَن.
خُذْ لِنَفْسِكَ شِفَاءً لِحَياتِكَ مِنْ مَائِدَةِ الصائِمِينَ السَاهِرين، أُولَئِكَ العامِلينَ في الرَّبّ، وانْهَضْ بِنَفْسِكَ مِنْ مَوتِها. بَيْنَ هؤُلاءِ يِتَّكِئُ الحَبِيب، وَيُقَدِّسُهُم مُحَوِّلاً مَرارَةَ رِيْقِهِم إِلى حَلاوةٍ تَفُوقُ التَعْبِير.
حِينَ يَنْحَلُّ الجَسَدُ بِالأَصوامِ والإِمَاتَة، تَتَشَدَّدُ النَفْسُ بِالصَلاة. الجُوعُ أَكبَرُ مُعِينٍ على تَهذِيبِ الحَواسّ. في بطنٍ مُتْخَمٍ بِالأَطْعِمَة، لا مَكَانَ لِمَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الله.
كُلُّ كِفَاحٍ للخَطِيئَةِ وَشَهَوَاتِها يَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالصَوم، خُصوصَاً إِذَا كَانَ الجِهَادُ يَتَناولُ خَطِيئَةً دَاخِليَّة. إِذَا ابْتَدأَتَ بِالصَومِ في جِهَادِكَ الرُوحيّ، فَقَدْ أَظْهَرتَ كُرْهكَ لِلخَطِيئَة، وَصَارَ النَصْرُ مِنْكَ في مَنَالِ البَاع.
الصَوْمُ بَدْءُ طَرِيقِ اللهِ المُقَدَّس، وَصَدِيقٌ مُلازِمٌ لِكُلِّ الفَضَائِل. الًصَوْمُ مُقَدِّمَةٌ لِكُلِّ الفَضَائِل، بَدَاءَةُ المَعْركَة، تاجُ النَصْرانِيَّة، جَمَالُ البَتُوليَّة، حِفْظُ العِفَّة، أَبُو الصَلاة، نَبْعُ الهُدُوء، مُعَلِّمُ السُكُوت، بَشِيرُ الخَيْر.
بِمُجَرَّدِ أَنْ يَبْدَأَ الإِنْسَانُ بِالصَوم، يَتَشَوَّقُ العَقْلُ عِشْرَةَ الله.
حِيْنَ أَظْهَرَ مُخَلِّصُنَا الصَالِحُ نفْسَهُ لِلعَالَمِ، عِنْدَ الأُرْدُنّ، ابْتَدَأَ مِنْ هذِهِ النُقْطَة:
فَورَ اعتِمَادِهِ، قَادَهُ الرُوحُ إِلى البَرِّيَّة، فَصَامَ أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَة.
وَكُلُّ الذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَقْتَفُوا خُطَاه، يَجِبُ أَنْ يُؤَسِّسُوا جِهَادَهُم على نَمُوذَجِ عِمَلِهِ. يُقَالُ في الشُهَداءِ إنَّهُم، حِيْنَ كَانَ يَبْلُغُهُم خَبَرُ اليَوْمِ الذي سَيَنَالُونَ فِيْهِ إِكْلِيْلَهُم، لا يَذُوقُونَ شَيْئاً بَتَّةً في اللَيْلَة السابِقَة، وَلا يَتَناولُونَ طَعَاماً،
وَلكِنَّهُم يَنْتَصِبُونَ مِنَ المَسَاءِ إِلى الفَجْر في الصَلاة، مُتَيَقّظِينَ في شُكْرٍ وَحَمْدٍ، بِتَراتِيْلَ وتَماجيدَ وَتَسَابِيحَ وَأَلحَانٍ رُوحِيَّةٍ شَجِيَّة، مَسْرُورينَ مُنْتَعِشِين، مُتَرَقّبِينَ تِلْكَ اللَحْظَة، كَمَا يَشْتَاقُ الناسُ إلى دُخُولِ بَيْتِ العُرْس.
يَتُوقُونَ، وَهُمْ صَائِمُون، إلى ضَرْبَةِ السَيْفِ يُكَلِلّهُم بإِكْلِيلِ الشَهَادَة.
وَنَحْنُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، هكَذا يَجِبُ أَن نَكُونَ على الدَوام، مُسْتَعِدّيْنَ مُتَوَقِعِيْنَ الشَّهَادَةَ الخَفِيِّةَ وَنَوَالَ إِكْلِيلِ الطَهارَة.
من أقوال القديس يوحنا فم الذهب (+٤٠٧)
إنَّ مِنَ الواجِبِ عَلَيْنا أَنْ نَعْرِفَ مَقَاصِدَ أَصْوامِنا، فَلا نَكونَ كَالتَائِهينَ في البَحْر، يَتَوَهَّمونَ أَنَّهُ إلى المَدِينَةِ قاصِدُون، وَهُمْ في مُتَّجَهٍ آخَرَ هَائِمون.
فَإنْ قُلْتَ ما الصَوُمُ في الحَقِيقَة، أَهوَ غَيْرُ الامْتِنَاعِ عَنْ جَمِيعِ الرَذائِلِ والتَمَسُّكُ بِجَميعِ الفَضَائِل، بِمَنْعِ النَفْسِ عَنِ اللَذَّاتِ البَدَنِيَّةِ كَالأَطْعِمَةِ والأَشْرِبَةِ وَسِوَاها.
لَيسَ الصَوْمُ أَنْ يَضَعَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَيَحْنِيَ عُنُقَهُ وَيَفْتَرِشَ لَهُ مِسْحَاً وَرَمَادا، بَلْ أَنْ تَحُلَّ أَغْلالَ الإِثْم، وَتَقْطَعَ رُبُطَ الظُلْم، وتُجَانِبَ المَكْرَ والغِشّ، وتُعْتِقَ المُسْتَعْبَدين،
وتَكْسِرَ خُبْزَكَ لِلجَائِع، وتُؤْويَ الغَريبَ إلى بَيْتِكَ، وَتُنْصِفَ الأيْتَامَ والأَرَامِل، ولا تَتغاضى عَنْ لَحْمِكَ وَدَمِكَ. فَإِنْ تَفْعَلْ ذَلِكَ، فَيُشْرِقُ نُورُكَ في الظُلْمَة، ويَظْهَرُ بِرُّكَ سَريعاً، ويَنْفَجِرُ ضياؤكَ مِثْلَ الصُبْح،
وتَجْمَعُ كَرَامَةُ الرَّبِّ شَمْلَكَ، ويُدَبِّرُكَ اللهُ تَدبيراً صَالحِا، وتَشْبَعُ نَفْسُكَ مِنَ الخِصْب، وتَصِيرُ كالبُسْتَانِ الذي تَمُوجُ أغْصَانُهُ نَضِرَةً، وكَيُنْبُوعِ المَاءِ الذي لا يَنْقَطِع. وتَبْني مِنْ خَيْراتِكَ الخِرَبَ التي خَرِبَت مُنْذُ القَديْم، وتُقِيمُ الأسَاسَ الذي سَقَطَ مِنْ أَوائِلِ الزَمَان.
الخَيْرُ الأَعْظَمُ هُوَ الصَلاة، أَي التَكَلُّمُ بِدالّةٍ مَعَ الله. الصَلاةُ عَلاقَةٌ بِاللهِ واتِّحَادٌ بِهِ.
وكَمَا أَنَّ عَيْنَي الجَسَدِ تُضَاءَانِ عِنْدَ رُؤْيةِ النُّور، كّذِلِكَ النَفْسُ البَاحِثَةُ عَنِ اللهِ تِسْتَنِيرُ بِنُورِهِ غَيْرِ المَوْصُوف. لَيْسَتِ الصَلاةُ مَظْهَراً خَارِجِيّا بَلْ مِنَ القَلْبِ تَنْبَع.
لا تُحْصَرُ بِسَاعَاتٍ وأَوقَاتٍ مُعَيَّنة، بَلْ هيَ في نَشَاطٍ مُسْتَمِرّ لَيْلَ نَهار. فَلا يَكْفي أَنْ نُوَجِّهَ أَفْكَارَنا إِلى الله وَقْتَ الصَلاةِ فَقَط، بَل يَجْدُرُ بِنَا أَنْ نَمْزُجَ هذِهِ الأفْكَار بِذِكْرِ اللهِ تَعالى،
حينَ نَكُونُ مَشْغُولينَ بِأُمُورٍ أُخْرى، كَالعِنَايَةِ بِالفُقَراءِ والعَمَلِ الصَالِح، لِكَي نُقَدِّمَ لِسَيِّدِ الكَوْنِ غِذَاءً شَهِيَّاً مُصْلَحَاً بِمِلْحِ مَحَبَّةِ الله. الصَلاةُ نُوْرُ النَفِس، المَعْرِفَةُ الحَقِيقِيَّةُ لِله،
الوَسِيطَةُ بَيْنَ اللهِ والإِنْسَان. بِهَا تَرْتَفِعُ النَفْسُ إلى السَمَاء، كَرَضِيعٍ مَعَ أُمِّه. تَصْرُخُ الصَلاةُ إلى الله بَاكِية، عَطْشى إِلى الَلبَنِ الإلهي.
وإذْ ما تُظْهِرُ أشْواقَهَا الحَمِيمَة، تَتَقَبَّلُ مِنَ اللهِ هَدايا أَرْفَعَ مِنْ كُلِّ طَبِيعَةٍ مَنْظُورَة. الصَلاةُ التي بِها نَتَقَرَّبُ إلى الله بِاحْتِرامٍ هيَ فَرَحُ القَلْبِ ورَاحَةُ النَفْس ... الصَلاةُ تَقُودُنا إِلى اليُنْبُوعِ السَماوي، تَمْلأُنا مِنْ ذَاكَ الشراب، وتُجْري مِنّا يُنْبَوعَ ماءٍ يَنْبَعُ لِلحَيَاةِ الأبَدِيّة.
الصَلاةُ تُؤَكِّدُ لَنا الخَيْراتِ الآتِية، وبِالإيْمان، تُعَرِّفُنا المَعْرِفَةَ الفُضْلَى لِلخَيْراتِ الحاضِرَة. لا تَظُنَّ أَنَّ الصَلاةَ تَقْتَصِرُ على الكَلِمات، إِنَّها انْدِفاعٌ إِلى الله، حُبٌّ غَريْبٌ لا يَأْتِي مِنَ البَشَر، عَلى قَولِ الرَسول:
''الرُوحُ أَيْضَاً يَعْضُدُ ضَعْفَنا، فَإِنَّا لا نَعْلَمُ ماذا نُصَلّي كَما يَنْبَغي، ولَكِنَّ الرُوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فينا بِأنّاتٍ لا تُوصَف''... إِنَّ هَذِهِ الصَلاة، إذا وَهَبَها اللهُ لأَحَد، تُضْحي غِنىً لا يُسْلَبُ وَغِذاءً سَماويّاً يُشْبِعُ النَفْس. مَنْ ذَاقَها مَرَّةً، تَمَلَّكَهُ شَوْقٌ أَبَديٌّ إلى الله، كَنَارٍ آكِلَةٍ تُضْرِمُ القَلْب.
فَدَعِ الصَلاةَ تَتَفَجَّرُ مِنْكَ بِمِلْئِها، فَتُزَيِّنَ بِلَطَافَةٍ وَتَواضُعٍ مُخْدَعَ قَلْبِكَ وتَجْعَلَهُ ساطِعاً بِضِياءِ الحَقّ، مَصْقولاً بِالأَعْمَالِ الصَالِحَة.
جَمِّلْ بَيْتَكَ بِالإِيمانِ والنُبْلِ لا بِالفُسَيْفَسَاء، وضَعِ الصَلاةَ في أَعْلى البُنْيانِ فَيَكْتَمِلَ بِها. وهَكَذا يُصْبِحُ مَنْزِلُكَ أَهْلاً للإسْتِقْبَالِ الرَبّ، كَأَنَّهُ قَصْرٌ مَلَكِيّ، أَنْتَ الذي بِالنِّعْمَة، تَمْلِكُ الرَّب، على نَحْوٍ مَا في هَيْكَلِ نَفْسِكَ.