الرهبنة القبطيّة
في الحقيقة أنّ الرهبنة منذ بدايتها هي حركة للعُمق الروحي، وتكريس القلب والحياة للعريس الحبيب في نذورٍ ثلاثة: العِفّة والطاعة والفقر الاختياري.. هي انحلال من الكلّ للارتباط بالواحد.. هي انفراد مع الله بعيدًا عن الناس، ولكن من أجل الناس ومن أجل خدمة الصلاة لخلاص العالم كلّه..
هي بالحقيقة الظهير الصحراوي القوي للكنيسة.. هي الجذور العميقة التي تخدم شجرة الكنيسة وتقوِّيها وتمدّها بعصارة الحياة، فتنمو وتتقوَّى.. ليس فقط لأن قادة الكنيسة ورؤساءها يُختارون من بين الرُّهبان، ولكن أيضًا لأن الأديرة الحيّة بالروح هي مُستودَع لخبرات الحُب الإلهي، وينبوع متجدِّد للفكر الإنجيلي المُعاش، وبؤرة ملتهبة لنار الروح القدس.. يستطيع الناس كلّما تلامسوا معها أن ينهلوا منها، ويتجدَّد ذهنهم، وتستضيء مصابيحهم، وتشتعِل قلوبهم بالنار الإلهيّة..
الرهبنة هي ظهر الكنيسة.. وكلّما تقوَّت الرّهبنة، أفقيًّا بكثرة عدد الأديرة والرُّهبان، ورأسيًّا بالعُمق المُثمِر في العبادة الحارّة والفِكر الأصيل والخبرات الروحيّة.. كلّما انعكس ذلك على الكنيسة انتعاشًا وقوّة ونموًّا وإشعاعًا… والعكس صحيح، كلّما ضَعُفَت الرهبنة انعكس ذلك في هُزال واضح ببنيان الكنيسة، وضمور في فكرها وشهادتها للمسيح في العالم..!
وإذا كان تاريخ الرهبنة بدأ في مصر بالعظيم الأنبا أنطونيوس، فلم تكُن البداية فقط هي ما يفخَر به وطننا العزيز.. فلقد سَرَتْ روح التكريس الرهباني بعده في مئات الآلاف من شُبّان مصر كما تسري النار في الهشيم.. حتّى أنه في أواخِر القرن الرابع عندما حضر بعض الزوار الغربيين إلى مصر (مثل: بلاديوس وجيروم ويوحنا كاسيان..) كانوا يَشهَدون أنّ أصوات التسبيح المُنبعِثة من المغائر لا تنقطع من أُذُن السائر منذ أن يطأ بقدميه شاطئ الإسكندريّة حتى يَصِل إلى أسوان..!
لقد كانت هناك عشرات المناطق الرهبانيّة التي تضمّ مئات الأديرة.. [جنوب وغرب الإسكندريّة: 600 دير (السنكسار) – وادي النطرون: 37 ديرًا في القرن العاشر ("قديسو مصر" للأب شينو) – صحراء الفيُّوم وجبل النقلون ومنطقة القلمون – جنوب الصعيد بالمنيا وجبل أسيوط وسوهاج وأخميم ونقادة وإسنا وأسوان... هذا بخلاف أديرة البحر الأحمر وسيناء..] يكفي أن نعرف أنّه كان تحت إرشاد القديس باخوميوس عِدّة آلاف.. وكان تحت إرشاد الأنبا شنوده رئيس المتوحِّدين في سوهاج أكثر من أربعة آلاف راهب، وتحت إرشاد القديس أبو فانا بصحراء هور بالمنيا حوالي ألف راهب…إلخ.. وكان هذا كلّه سبب قوّة جبّارة وسندًا هائلاً للكنيسة..
وإذا قدَّرنا عدد سُكَّان مصر في ذلك الوقت بحوالي عشرة ملايين، فقد كان عدد الرهبان يقارب النصف مليون إن لم يكُن أكثر.. أي بواقع واحد من كل عشرين شخصًا…!