الفساد
من وجهة نظر مسيحيَّة
تمهيد
الفساد ظاهرة واسعة الانتشار ومتعدِّدة الأوجه والمظاهر لا يمكن لأحد تجاهلها، إن لم يكن مستفيداً منها أو متواطئاً معها بشكل من الأشكال. والمسيحي، المدعو لعيش إيمانه في الإطار المدني والاجتماعي الذي ينتمي إليه، لا يستطيع أن يتجنَّب ضرورة التفكير في هذه الظاهرة ومحاولة فهمها وتقييمها على ضوء الإنجيل ومبادئه المسيحيَّة، لكي يتمكَّن من اتخاذ مواقفه العمليَّة واختياراته الشخصيَّة أو الجماعيَّة المناسبة.
يُذكِّرنا مجمع العقيدة والإيمان الڤاتيكاني في إحدى أحدث وثائقه(1):
«.. لا يمكن إغفال حقﱢ وواجب المواطنين الكاثوليك، وكذلك سائر المواطنين، في أن يبحثوا بصدقٍ عن الحقيقة، وأن ينشطوا ويحموا، بوسائل مشروعة، الحقائق الأدبيَّة الخاصة بالحياة الاجتماعيَّة والعدالة والحرية واحترام الحياة وبسائر حقوق الإنسان.»
ويستندُ هذا "الحق والواجب" إلى مبدأ هام كان البابا يوحنا بولس الثاني قد صاغه في رسالته عن العلمانيين بالعبارة التالية:
لا يمكن [للمؤمنين] أن يجمع وجودُهم بين حياتَين متوازيتَين، من جهة الحياة المسمَّاة "روحيَّة" مع كلﱢ قيمها ومتطلباتها؛ ومن جهة أخرى، الحياة المسمَّاة "عالميَّة"، أي حياة الأسرة والعمل والعلاقات الاجتماعيَّة والالتزام السياسي والنشاطات الثقافيَّة. إنَّ الغصن المطعَّم والثابت في الكرمة، التي هي المسيح، يؤتي ثماره في كلِّ قطاعات النشاط والوجود. في الواقع، كلُّ قطاعات الحياة "العالميَّة" تندرج في تدبير الله، الذي يريدها "مجالاً تاريخيًّا" للوحي، ولتحقيق محبَّة يسوع المسيح، لمجد الله الآب ولخدمة الأخوة. إنَّ كلَّ نشاط وكلَّ حالة وكلَّ التزام فعلي، كالكفاءة والتضامن في العمل، والحب والتفاني في إطار الأسرة وتربية الأولاد، والخدمة الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وعرض الحقيقة في عالم الثقافة، كلُّ هذا يشكِّل فرصة مؤاتية لممارسة الإيمان والرجاء والمحبَّة بصفة مستمرَّة (2).
ما هو الفساد ؟
هناك دون شك مجموعة طرق لتحديد الفساد، أكثرها انتشاراً على المستوى العالمي التعريف التالي الذي "تعتمده منظمة الشفافية الدولية"(3): «الفساد هو عيب ينال من سلطة عامَّة أو خاصَّة يجعلها تسعى لتحقيق مصالحها الشخصيَّة». وهذا التعريف يعني خصوصاً الفساد السلبي أو الإيجابي الذي يقع فيه موظفون في مؤسسات عامَّة أو أصحاب المنشآت الخاصة.
هناك تعريف آخر تعتمده "إدارة التنمية والتعاون" (DDC): الفساد هو ما يقوم به أشخاص عهدت إليهم مهمَّات عامَّة أو خاصَّة عندما يتخلون عن واجباتهم بهدف الحصول على مكاسب لا تحقُّ لهم من أي نوعيَّة كانت. فيما يكتفي عالم الاقتصاد والأخلاقيات "بيتر أورليخ" بالتحديد المختصر التالي: الفساد هو استغلال الخير العام من أجل مصالح خاصَّة.
أمَّا المفكِّر العربي "عزمي بشارة"، فيحدده كما يلي:(4)
يصم المعنى الدارج على ألسن العرب بالفساد الاستفادة الشخصية من التعامل مع الشأن العام بحكم الوظيفة أو الموقع، وذلك بإدخال اعتبارات ليست ذات علاقة، ولا تمت للشأن العام بصلة بل قد تضر به. وبكلمات غير دارجة غياب الفصل بين الحيز العام والحيز الخاص، وبين المال العام والمال الخاص. وتقوم الإدارة الحديثة لشؤون الدول والمجتمعات على افتراض أن القرار العقلاني بالشأن العام يتخذ على أساس الصالح العام، وان الفرد، مهما عظم شأنه وعلا مركزه وكثرت صلاحياته، لا يمثل ولا يجسد بشخصه أو بمزاجه أو بجيبه المصلحة العامة، وانه إذا كان على رأس عمل عام، فإنه يحمل صفتين صفة خاصة وصفة عامة. ومهما كانت هذه الصفات متنافرة أو ومتداخلة إلى أن يصبح شأن الخاص شأناً عاماً، إذ قد يشعر المجتمع بأن من حقه معرفة تفاصيل صحة الشخصية العامة وميولها وما إلى ذلك، إلا انه يبقى هنالك فصل بين الصالح العام وصالحه الخاص، أو صالح أسرته، أو أصدقائه، أو أقربائه.
ويتابع توصيف حالة الفساد، خصوصاً عندما تنتشر وتستشري في مجتمع ما:
ينتشر.. قانون الفساد من القمة إلى القاعدة، مثل الخيط الناظم لحبات متناثرة من المصالح المتناثرة التي لا تؤسس لصالح عام أو لبناء أمَّة، حتى يكاد الفساد يصبح نمط إنتاج قائم بذاته. الراتب هو دخل البؤساء وحدهم. وهو في حالة الفساد مجرد بقشيش يضاف إلى الدخل الحقيقي الناجم عن استغلال الصلاحية أو الوظيفة أو السطوة أو القوة أو علاقات القرابة والنسب. والفساد هو عملياً عملية إعادة توزيع "أكثر عدالة" للدخل. ولكن إعادة التوزيع هذه تتم بدَوس المواطن وسحقه، أي بتحويل حقوق يستحقها المواطن إلى رهائن تحرر مقابل فدية. وتدفع الفدية مقابل الحقوق ذاتها، أو مقابل النجاعة وعدم التأجيل، أو مقابل التخلي عن "تطليع الروح" وهو اختصاص قائم بذاته. أو يتم التأثير على قرارات هيئات مقابل المال، أو يتم استغلال النفوذ السياسي لتسهيل التراخيص والمعاملات مقابل نسبة مئوية، أو لإعاقتها وعرقلتها بدون مقابل، ولو كانت عرقلتها ضد الصالح العام.
لا شكَّ في أنَّ الفساد هو أحد أكبر العوائق التي تقف في وجه التنمية، فهو يجعل وسائلها تفقد الجزء الأكبر من فعاليتها. الفساد ينخر روح العدالة في المجتمع، يُنهك الفعاليات الديموقراطيَّة ويعزِّز الطغيان، يجعل الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً.
تنتشر ظاهرة الفساد في العالم بأسره، بدرجات متفاوتة دون شك، لكن باتساع يكاد لا يحتمل استثناء. بالطبع يمكن ملاحظة ظاهرة الفساد بشكل أكثر وضوحاً في البلدان النامية أو التي تمرُّ بمرحلة انتقاليَّة، إلاَّ أنَّ كبريات الشركات والمؤسسات العالميَّة كثيراً ما تكون متورطة في جانب من ظاهرة الفساد ومشاركة فيها بشكل فعَّال أو متواط.
ولا يمكن الحديث عن محاربة الفساد، يؤكد عزمي بشارة، «وبالتالي عن نمو اقتصادي اجتماعي ولا يجوز التشدق بالديموقراطية والحريات من دون تطبيق سيادة القانون والمساواة أمام القانون والفصل بين الحيز العام والخاص. ويطرح بحق السؤال: هل في الإمكان تطبيق ذلك كله من دون رقابة سلطة لسلطة، ومن دون حرية إعلام واستقلال القضاء؟..»(5)
لهذا السبب تتكوَّن أكثر فأكثر القناعة بأنَّ مشاركة المجتمع الأهلي ومؤسساته المدنيَّة والدينيَّة على السواء، في التوعية والجهود المبذولة، لهو أمر لا غنى عنه من أجل الوصول إلى تعامل مع الظاهرة يتَّسم بالجديَّة. وهذا ما سنحاول المساهمة به مهتمين بشكل خاص بدراسة الجانب الأخلاقي والموقف الديني والروحي المنسجم معه.(6)
أشكال الفساد وملامحه العامَّة
يميِّز الدارسون عادة بين نوعين أو مستويين للفساد:
- فساد الفقر وهو ما يسمى عادة "بالفساد الأصغر" (petite corruption; petty corruption) وهو ظاهرة يولِّدها الفقر، خصوصاً عندما تكون الأجور منخفضة إلى حد كبير أو يجري التأخُّر في دفعها، أو لا تؤمَّن الحاجات الأساسيَّة للعيش الكريم. آنذاك يبدأ الناس بالبحث عن مصادر إضافيَّة للدخل، غالباً ما تكون ناجمة عن استغلال صلاحيات وظائفهم لتحقيق منافع شخصيَّة ماديَّة أو معنويَّة.
- فساد السلطة وهو ما يدعى عادة "بالفساد الأكبر" (grande corruption; grand corruption) وينبع عادة من رغبة سلطة ما في الحفاظ على امتيازاتها والحصول على مكاسب اقتصاديَّة من خلالها. وكثيراً ما تشترك به شركات كبرى وجهات رسميَّة. ويدعى أيضاً فساد المكاسب وفساد التسريع، والمقصود مجمل الطرق التي تؤدِّي للحصول على مال أو خدمات، ما كان بالإمكان دون ذلك الحصول عليها، إذ كان ينبغي تسديد تكاليف إداريَّة أكبر بكثير ممَّا جرى دفعه في الواقع، أو التقيُّد بمهل نظاميَّة محدَّدة.
ويمكننا عموماً رؤية ملامح الفساد في التصرفات التالية: البحث غير المشروع عن مكاسب شخصيَّة أو لا حقَّ لنا فيها؛ الأنشطة التي تتَّسم بالسريَّة أو بنقص في الشفافيَّة؛ الاستخدام غير المجدي للوسائل الاقتصاديَّة؛ المساومات على المناصب وتفضيل الأقارب وانتشار المحسوبيات؛ الإخلال باتفاقات موثقة ومعتمدة شرعاً؛ الاستهتار بالقيم الأخلاقيَّة والأعراف العامَّة؛ انتهاك حقوق مشروعة والاستخفاف بقيم الحق والعدالة..
يختلف الفساد إذاً اختلافاً بيِّناً عن تصرُّفات مثل تقديم الهدايا أو ما يمكن أن يعتبر من ضمن الأجر (الإكراميات) أو بدل الخدمات. لكنَّ هذه العناصر كثيراً ما تختلط وتصير دافعاً لتبرير الفساد ضمن ما صار يدعى "بثقافة الهدية". الهدايا الحقيقيَّة تتَّصف بالعلنيَّة، لا تقدَّم سراً، ولا تتصل بما يقدَّم عوضاً عنها في إطار من المساومة أو الابتزاز.. وفي كلِّ حال، لا يمكن أن نعتبر هدية تلك المبالغ الضخمة التي تقدَّم في سبيل إبرام الصفقات أو الفوز بالمناقصات وما يشبه ذلك..
إنَّ أبرز أشكال الفساد وأكثرها شيوعاً هي، دون شك، الدفعات المتعددة الأشكال التي تقدَّم للموظفين مثل الشرطة ورجال الجمارك وجباة الخدمات العامة، وهذه الدفعات غالباً ما تشكل جزءاً أساسياً، ولو سرياً، من الدخل الثابت لهؤلاء الموظفين. لهذا يعكس هذا الشكل من الفساد في أغلب الأحيان الحالة الماديَّة الكارثيَّة التي يبلغ إليها المستخدمون من جراء تدنِّي مستوى دخلهم وضغط التضخُّم المالي عليهم. وهناك إذن علاقة جد وثيقة وأكيدة بين اتساع مدى انتشار الفساد في بلد ما وعلو مستوياته وبين انخفاض مستوى رواتب الموظفين وأجور المستخدمين في المؤسسات العامَّة. ففي إطار معيشي يشبه ما وصفنا يصعب جداً عدم الخلط بين "دفعات تحت الطاولة" وبين الأجر الشرعي الذي يستحقه العامل أو بدل الخدمات المناسب لعمله.
القيم الأخلاقيَّة الأساسيَّة التي يهددها الفساد
العدالة : عادلٌ هو ما يساهم في ردم الهوَّة بين الأغنياء والفقراء. وعادل هو ما يخدم على الوجه الأفضل مصالح الأكثر ضعفاً. الفساد الأكبر يضاعف من امتيازات الأقوياء ويعمِّق بالتالي الهوَّة بين الفقراء والأغنياء.
المساواة : وتعني تمتُّع الجميع بالحقوق ذاتها بما في ذلك الأشخاص الأكثر ضعفاً أو فقراً في المجتمع. والفساد يُصيب في أغلب الأحيان بالضرر حقوق الناس الأكثر ضعفاً الذين لا يمتلكون الوسائل التي تمكنهم من تقديم الرشاوى، أو الذين لا تحترم حقوقهم من قبل القضاة الفاسدين.
الحقيقة : أحد دوافع الفساد يبقى الخوف من الحقيقة، وهذا ما يؤدي غالباً إلى غياب دولة القانون وإلى العنف.
الحرية: يخلق الفساد شبكة متماسكة من الارتباطات المتبادلة والضغوط الممارسة على الأشخاص، وهذا ما يعيق التعبير الشرعي عن الحرية السياسيَّة القائمة على احترام حقوق وواجبات المواطنين وحقوق الإنسان.
العمل : يجعل الفساد السرقة تحلُّ محل النشاط الاقتصادي الشريف، ويعرقل اتساق قوانين السوق والمنافسة البناءة، وهذا ما يضيِّق من مساحة سوق العمل ويقلِّل من فرصه.
المشاركة : يرتكز الفساد على نقص الشفافيَّة، وهذا ما يتعارض مع إمكانيَّة الرقابة الديموقراطيَّة ومشاركة الرأي العام فيها. فالمشاركة في آليات صنع القرار تفترض إحاطة حقيقيَّة بالمعلومات اللازمة لذلك.
حقوق الإنسان : يمنع الفساد الأفراد من التمتُّع بحقوقهم التي تمنحهم إياها الأنظمة العامَّة، إذ يصير من المحتَّم عليهم أن يدفعوا ثمناً لذلك. وهكذا من "يملك" يستطيع الحصول على "حقه" أكثر بكثير ممن لا يملك شيئاً. وقد اعتبرت الجمعية العامة لمجلس الكنائس العالمي عام 1998 أن حماية الأفراد من أفعال الفساد هو من الحقوق الإنسانية الأوليَّة.
الخير العام : وهو ذو أولويَّة لا جدال فيها على المصالح الشخصيَّة، إلا أنَّ الفساد بكونه تحويل للسلطات العامة نحو تحقيق الفوائد الخاصَّة، إنما يضحِّي بالفائدة العامَّة في سبيل الفائدة الخاصة. إنه باختصار استنفاذ المصالح الفرديَّة للخير العام.
ماذا يبقى من مجتمع انهارت فيه كل هذه القيم؟ يختم عزمي بشارة مقاله بهذه الملاحظة:
لا أعرف عن لغة غير العربية تشترك فيها المعاني على لفظ "الفساد"، بمعنى العطب والفناء والاندثار decay، وبالمعنى الدارج على لسان الناس تذمراً من حالة الإثراء من المال العام أو الاستفادة من الموقع العام والسلطة والسطوة والقوة لغرض الإثراء أو استغلال سوء الإدارة وشراء الذمم من أجل اتخاذ قرار وغيرها من الدلالات corruption. وليس لدي شك بأن الحديث هنا ليس عن كلمتين متجانستين بلاغياً بدلالتين مختلفتين. إنه لفظ واحد تشتق دلالاته من بعضها.
الضمير المسيحي أمام الفساد
أمام ظاهرة الفساد المستشري يحتار المؤمن في تكوين موقف متوازن ومنسجم أخلاقياً: فهل تكفي الإدانة السريعة للفساد باعتباره نوعاً من أنواع السرقة، أو شكلاً من أشكال الاحتيال والنهب؟ أم هل يمكن بسهولة إيجاد الأعذار الكافية أو الأسباب المخفِّفة نظراً لسعة انتشار هذه الممارسة، أو بناءً على مبدأ اختيار "أهون الشرِّين" عندما يتعلَّق الأمر بحياة الأشخاص أو الأسر الكريمة أو مستقبل الأفراد المهني أو الاجتماعي؟ ببساطة شديدة، ماذا يفعل المسيحي عندما يجد الفساد محيطاً به من كل جانب؟ هل يمكنه أن يقبل الأمر الواقع ويعتبره طبيعياً..؟ أم هل ينخرط في اللعبة قائلاً لنفسه: "هل أنا الذي سأصلح العالم؟ لماذا لا أستفيد من الفرص المتاحة كما يفعل الآخرون؟ أم ينسحب من الحياة العامَّة ويختار طريق الهجرة؟
لا يصعب في الغالب تبرير الفساد الأصغر في الممارسة اليوميَّة أخلاقياً. فهل يمكن لأحد أن يدين موظفاً صغيراً يحاول أن يحسِّن راتبه البائس لكي يقوم بأود عائلته؟ أم هل يمكن الحكم على موظف جمارك يقبل "مغلفاً" ليسرِّع تخليص شحنة أدوية قبل أن تفسد أو تنتهي مدتها؟ إلاَّ أنَّ هذه الأنواع من الفساد الأصغر وإن كان من السهل تفهُّمها وتجنُّب الحكم على ممارسيها، فإنما ينبغي رفض تبريرها أخلاقياً بحزم ودون مواربة. فهي مثل الفساد الأكبر، وإن بمقدار أقل، تساهم في تخريب الثقة واضطراب الجماعة وتهديم الديموقراطيَّة. ومع أنه في بعض الحالات يصير من غير الممكن على المستوى الفردي تجنُّب هذا النوع من الممارسات في إطار المحافظة على الحد الأدنى من إمكانيات العيش الكريم، إلا أن ذلك لا يعني التوصُّل إلى اعتبارها شرعيَّة من وجهة النظر الأخلاقيَّة. وهنا نواجه تداخلاً معروفاً بين البنى الاجتماعيَّة غير العادلة والمسؤولية الفرديَّة عن الأفعال الشخصيَّة. وها نحن في قلب المعنى المسيحي للخطيئة والغفران، الذي يسمح لنا بتسمية الظلم وتحديده ولو لم يكن باستطاعتنا تجنبه، بدلاً من أن نسعى لتبريره أخلاقياً.
الفساد بحسب تعليم الكنيسة
منذ كتُب العهد الجديد نجد موضوع الفساد حاضراً. فيوحنا المعمدان الذي كان يعلن، بحسب نبوءة أشعيا، اقتراب ملكوت السماوات وقدوم المسيح، كان يعظ بالتوبة كل من يأتي إليه لينال المعمودية.. وها هو يجيب جباة الضرائب الذين «قالوا له: يا معلِّم، ماذا نعمل؟ فقال لهم: لا تجمعوا من الضرائب أكثر ممَّا فرض لكم» (لو 3/13). وفي الاتجاه نفسه يقول للجنود: «لا تظلموا أحداً ولا تشوا بأحد، واقنعوا بأجوركم» (لو 3/14). وفي الحالتين يمكن إجمال تعليم يوحنا لهؤلاء الموظفين بأن يتجنبوا الفساد وأن يبقوا في حدود ما تتطلبه منهم واجبات وظائفهم: الواجب كل الواجب ولا شيء أكثر من الواجب. وتوبتهم بهذا المعنى تصير قائمة في تحقيق الأمانة لواجباتهم.
يسوع ذاته، ما أن اعتمد من يوحنا، حتى واجه تجربة الفساد.. إنها التجربة الثانية التي يعرضها عليه المجرِّب بعد أن أراه جميع ممالك الدنيا ومجدها: «أعطيكَ هذا كلَّه إن سجدت لي وعبدتني» (متى 4/8-10). يمكن فهم معنى هذه التجربة بإدراك يسوع العميق لما يمثلُّه المال من سطوة على حياة البشر، تجعل منه منافساً حقيقياً لسلطة الله وإرادته الخيِّرة، فنراه يصرِّح بالقول: «لا يمكن لأحد أن يعبد ربين..» (متى 6/24). إلاَّ أنَّ يسوع لم يتردَّد في مخالطة العشَّارين مع علمه بأنَّ جباية الضرائب كان ينخرها الفساد، وذلك لأنَّه كان يؤمن بقدرة الإنسان على التوبة وتغيير أسلوب حياته جذرياً، وهذا ما تؤكده دعوته لمتى (متى 9/9-13) وقبوله دعوة زكا رئيس العشارين وتوبته (لو 19/1-10).
لكنَّ الشكل الأكثر خطراً من أشكال الفساد كما يبدو، هو ذاك الذي يظهر في قلب الجماعة الكنسيَّة وينال من أمور الإيمان ذاتها. يُخبرنا كتاب أعمال الرسل بشيء من التفصيل عن أوائل ظواهر الفساد في الجماعة المسيحيَّة الناشئة، وذلك في رواية "حنانيا وسفيرة"، حيث يعلن بطرس جسامة ما ارتكبه حنانيا، لا بناء على قيمة المال الذي اختلسه، بل على موقفه من الله: «أنتَ كذبتَ على الله لا على الناس» (رسل 5/4). إنَّ الرسالة التي ينقلها لنا أعمال الرسل بشأن الفساد، وإن تمَّ التعبير عنها من خلال أسلوب روائي، لهي بالغة الأهميَّة من الوجهة الأخلاقيَّة. ويمكننا أن نستمدَّ منها القيم الأساسيَّة التي يمكن أن نبني بواسطتها ما ندعوه اليوم "أخلاق الشفافيَّة".
كذلك تشهد رواية "سمعان الساحر" الذي حاول أن يعرض مالاً على الرسولين بطرس ويوحنا لكي يحظى بموهبة استدعاء الروح القدس بوضع الأيدي (رسل 8/8-24)، على النموذج الأول لإحدى أكثر ممارسات الفساد التي ستعاني منها الكنيسة عبر العصور (السيمونيَّة)، والتي لم تفتأ تهدِّد نقاوة حياة الجماعة المسيحيَّة ومصداقيَّة شهادتها للإنجيل. هنا أيضاً يُعلن بطرس بعنف بارز حكماً قاطعاً يتجاوز القاعدة الأخلاقيَّة، لأنَّ الأمر يمسُّ قيمة المواهب الإلهية ذاتها: «إلى جهنَّم أنتَّ ومالك، لأنَّك ظننتَ أنَّك بالمال تحصل على هبة الله!».
لقد عرفت الجماعات المسيحيَّة عبر تاريخها الطويل أشكالاً عديدة من الفساد، بعضها يتعلَّق بالمال، وبعضها بالسلطة، وبعضها بالجنس، وبعضها بحقوق الإنسان الأساسيَّة.. واللائحة طويلة. وهذا ما جعلها شيئاً فشيئاً تكوِّن مجموعة قوانينها وتنظيماتها ومجالسها الخاصَّة، التي تسمح، من حيث المبدأ على الأقل، بالانتباه إلى حالات الفساد ومعالجتها وإصلاحها. فمن الواجبات الأولى الملقاة على عاتق المؤمنين والرعاة على حدٍّ سواء واجب اليقظة والجهد المتواصلين لكي لا تصير القوانين حبراً على ورق، أو تتحوَّل المجالس واللجان (إن وجدت) إلى نوادي.. بل يبقى في الكنيسة متَّسع للتعبير عن الرأي والاعتراض والمراجعة والتقييم والاعتراف بالخطأ.. وكلُّها تضيِّق الخناق على الفساد وتحد من انتشاره أو تناميه في الجماعة المسيحيَّة.
ولا شكَّ بأنَّ الشجاعة التي تبديها الجماعات المسيحيَّة في مواجهة ظواهر الفساد الداخليَّة، سوف تجعلها أيضاً أكثر شجاعة في التصدِّي بموقف نبوي لمظاهر الفساد في المجتمع، وعلى وجه الخصوص الفساد الأكبر، الذي يصعب في أكثر الأحيان على الأفراد التعامل معه أو حتى الإشارة إليه وانتقاده. وسنعرض في ما يلي نموذجاً معاصراً لموقف كنسي من الفساد يمكن الاقتداء به.
وثيقة مجلس الأساقفة الكاثوليك في الكاميرون
يَعتبر تقرير منظمة "الشفافيَّة الدوليَّة" السنوي الكاميرون من بين الدول الأكثر فساداً في العالم. ولعلَّ هذا ما حدا بمجلس الأساقفة الكاثوليك في هذا البلد إلى إصدار وثيقة خاصة بهذا الموضوع(7)، نالت شهرة كبيرة واهتماماً واسعاً في أنحاء مختلفة من العالم، لكونها من الوثائق النادرة التي تعبِّر عن موقف كنسي رسمي مفصَّل ومحدَّد من موضوع الفساد، ولما تميَّزت به من جرأة ووضوح في وصف المشكلة والجديَّة في العزم على التصدِّي لها. إذ ترافق إصدار الرسالة حملة توعية وتشجيع شاملة ومنظمَّة، حاولت أن تطال أكبر عدد ممكن من شرائح المجتمع.
تبدأ الرسالة بتحديد الحالة التي بلغت إليها البلاد بسبب انتشار الفساد فيها على أوسع نطاق:
«ها إنَّ الفساد المستشري يوشك أن يحيل بلدنا خراباً. إنَّه يهدم اقتصادنا، يحطِّم حياتنا الاجتماعيَّة، ويخرِّب على وجه الخصوص ضمائرنا.
الفساد مأساة تعنينا جميعاً، مرضٌ خطير يهدِّدنا كلُّنا من قريب أو من بعيد، ويطال مختلف مجالات حياتنا الاجتماعيَّة. وها نحن نجده أيضاً في وسط جماعاتنا الكنسيَّة، يصيب بالاختلال نظامنا المحاسبي وحياة أبرشياتنا ورعايانا ومنظماتنا وجمعياتنا الخدميَّة.
هناك أمران ينذران بالخطر بشكل خاص: الأول هو أنَّ المثل السيئ يأتي من الأعلى، فها هم أشخاص قد وصلوا إلى أعلى المناصب في بلدنا ومجتمعنا وهم متورطون في فضائح فساد، وهذا ما يمنح الآخرين حجَّة لكي يفعلوا مثلهم. الأمر الثاني هو أنَّ أطفال بلدنا يولدون ويكبرون حالياً في جوٍّ من الفساد العام الذي يشوِّه ضمائرهم منذ حداثة سنِّهم، إذ يأخذون بالاعتقاد أن النجاح لا يمكن الحصول عليه بالاجتهاد أو بالعمل الشريف وإنما بالغش والسرقة. إنَّ من لا يقبل الاشتراك في حالة الفساد ويصرُّ على العيش شريفاً صار في هذه الأيام يوصف بالسذاجة وقلَّة الحيلة. لقد انقلبت القيم الأخلاقيَّة إلى درجة صار فيها الغشاشون يوصفون بالأقوياء أو الشجعان أو الأذكياء. وصارت الاستقامة الأخلاقيَّة والضمير المهني والمثابرة في العمل ينظر إليها بازدراء واحتقار.
لقد بلغ الفساد في مجتمعنا مستوى انتحارياً. وقد صار مقبولاً اليوم باعتباره نمطاً طبيعياً من الحياة، إلى حدِّ لم يعد يشعر فيه أحد بأي شعور بالذنب عندما يمارسه. الفساد شرٌ داهم، إنه يميت الإنسان. يولِّد الفساد مجتمعاً ظالماً لا يمكنه أن يضمن المساواة في الحقوق والفرص لمواطنيه. إنه يخلق جواً من التوجس وانعدام الثقة بين الناس ويحكم عليهم بالعيش خائفين وفاقدي الأمان».
ثمَّ تستعرض الوثيقة أشكال الفساد المتنوعة المنتشرة في المجتمع فتذكر:
- دفع الرشاوى للحصول على التعهدات أو الفوز بالمناقصات.
- فرض نسبة من قيمة العقود أو الصفقات التجارية كثمن للتوقيع عليها أو لتصديقها.
- التلاعب في مواصفات الإنشاءات العامة وتسريب المواد إلى المصالح الخاصة.
- التهرُّب الضريبي الذي يتم بالتواطؤ بين المكلَّف والجابي يحصل بموجبه الأخير على حصته مقابل تجاهل مبالغ كبيرة كان ينبغي أن تصب في خزانة الدولة، وتستخدم بالتالي من أجل الخير العام.
- الرشاوى الصغيرة لكن المتواترة التي يتلقاها رجال الشرطة والمرور والجمارك وسواهم للتغاضي عن المخالفات أو التجاوزات، وهذا ما يعرض للخطر السلامة العامة.
- الوساطات والوسائل المتنوعة التي يتم بواسطتها الوصول إلى المناصب العامة.
- ما يتقاضاه المدراء والموجهون والأساتذة في المؤسسات التعليميَّة مقابل إيجاد وسائل غير شريفة لإنجاح الطلاب أو تحسين علاماتهم أو قبولهم في الصفوف الخاصة أو إرسالهم في البعثات العلمية..
- الدفع لأعضاء المؤسسات الصحيَّة من أطباء وممرضين ومدراء للحصول على الخدمة الملائمة في المشافي العامَّة أو الحصول على فرص أفضل في العلاجات المعقدة.
- فساد الجهاز القضائي وهو بدون شك أخطر أنواع الفساد على الإطلاق، فهو الجهاز الذي يفترض به حماية العدالة وسيادة القانون. تباع فيه الأحكام القضائية وتشترى على حساب كرامات الناس وحقوقهم.
بعد ذلك تطرح الوثيقة السؤال التالي: كيف وصل بنا الأمر إلى هذا الحد؟
«لقد سكن الفساد وحلَّ في ما بيننا، وبسببه فقدت أمتنا لا أموالها وازدهارها الاقتصادي فحسب، لا بل روحها أيضاً. لقد تشوَّهت قيمنا وانحرفت ضمائرنا، فما الذي أوصلنا إلى ذلك؟
إنه أولاً حبُّ المال الكفيل بتخريب أجمل ما لدينا من قيم تقليديَّة مثل التضامن الاجتماعي والزود عن الضعفاء ونجدة المحتاجين والواقعين في ضيق. حبُّ المال يوقعنا في حالة أنانيَّة يسعى فيها كل واحد للاهتمام بنفسه ولو أدَّى ذلك إلى سحق الآخرين. في هذا المناخ يبدأ الكثيرون بالسعي للحصول على المناصب والوظائف ليس من أجل أداء خدمة للناس بل للحصول على المنافع والمكاسب المتأتية عنها.
ثانياً، البؤس الناجم عن الأزمة الاقتصادية وتدهور الرواتب والأجور. هذا الدافع هو ما يقدمه عادة الموظفون الفاسدون كسبب مبرِّر لما يقومون به، فيحولون المرافق العامة إلى مكان لعقد الصفقات المشبوهة. صحيح أن شعبنا يرزأ تحت وطأة الفقر المتنامي، وهذا يجعل العديد من مواطنينا ينجرفون وراء تجربة الاعتقاد بأن الفساد هو الحل الوحيد المتبقي لديهم لتحسين مستواهم المعيشي. لكن هؤلاء المفسدين ينسون أن الأموال التي يسرقونها والتي يفترض أن تحل مشكلات فقرهم الشخصيَّة، إنما يسلبون بها ظلماً وعدواناً من هم في معظم الأحيان أكثر فقراً منهم بكثير.
ثالثاً، المصالح السياسيَّة والطائفيَّة والعشائريَّة تقف أيضاً وراء الفساد الذي يعيث بنا. فالمحسوبيات الحزبية والعائلية والاجتماعية المختلفة تعمي أبصارنا وتجعلنا عاجزين عن رؤية الفساد ومحاربته. فنحن نميل إلى التستُّر على من تربطنا به علائق قربى سياسيَّة أو أسريَّة وإيجاد الأعذار لما يرتكبونه من أخطاء. وهذا التصرُّف يحمي الفاسدين ويمنحهم نوعاً من الحصانة تجعلهم يوغلون في فسادهم.»
ويختم الأساقفة رسالتهم بالتأكيد على أنَّ محاربة الفساد مسؤولية الجميع:
«إذا لم نتكلم عن الفساد بجرأة وصوت عال فنحن نشترك فيه بصمتنا. وإذا لم نحاربه بما أوتينا من قدرة وفعالية فهذا تخاذل لا نقبله على أنفسنا. وأن نكتفي بالفرجة ولا نفعل شيئاً لمحاولة إيقاف هذا السيل الجارف فهذه خيانة لشعبنا. واجبنا أن نكوِّن ضمائر مواطنينا لتكون أكثر حساسيَّة تجاه هذا الشر فتتمكن من معالجته بشكل أفضل. وهذا لا يتم إلا إذا نمَّينا في كل المجالات المتاحة وعياً أكبر بحقوق وواجبات المواطن، لكي يستطيع التشهير بالفساد ومجابهة نتائجه الهدامة على امتداد الوطن، وبوجه خاص مع الشباب الذين يتوقون إلى المثل العليا وإلى إرساء قواعد صلبة لتحقيق نموِّهم بشكل متناغم.
لهذا السبب، لا نكون أمينين على مسؤوليتنا كرعاة إذا لم نلح في تذكير المسيحيين وكافة أصحاب الإرادة الحسنة بواجب التصدِّي للفساد بكافة أشكاله، والعمل على تحقيق العدالة والسلام في بلدنا. فالفساد، وعلى عكس ما يظن البعض، ليس قدَراً حتمياً كتب علينا ولا نستطيع تجاهه شيئاً. "أنا معكم حتى نهاية الدهر" يقول لنا يسوع (متى 28/20) فلنتخذ بعون الله معاً قرارنا بأن نتجنَّب من الآن فصاعداً كلَّ تصرف يندرج في إطار الفساد، سواء في الكنيسة أو في المصالح العامَّة أو الخاصة، وفي كل مكان يظهر فيه ويمارس.»
القيم الدينية الأساسيَّة التي يمكن الاستناد عليها لمقاومة الفساد
1- الحق أو الصدق
«أنا الطريق والحق والحياة» يقول يسوع، ويشترك التقليد المسيحي مع سواه من النظم الأحلاقيَّة أو الدينيَّة، في اعتبار الحق أو الصدق قيمة راسخة وأصيلة يفتخر المؤمن بالمحافظة عليها. فالإنسان الحق أو الصادق هو الإنسان الأمين الكامل الذي يمكن الاعتماد عليه. الله ذاته حق وصادق أمين لا يخلف بوعوده. والحق بهذا المعنى لا يعني الموقف الذي يعتنقه الإنسان فكرياً بقدر ما يشير إلى إطار من العلاقات الإنسانية المتناغمة، المستندة على الثقة والاحترام المتبادل.
والكذب هو، على العكس، ما يحطِّم هذا التناغم وتلك الثقة، ويقيم بدلاً منهما الشك بالآخرين والتنازع معهم وبالتالي اضطراب العلاقات. مع ذلك يبدو الكذب وكأنه قد تحوَّل إلى ممارسة طبيعيَّة لا نتردَّد في اللجوء إليها: نكذب لكي نجد لأنفسنا عذراً، ونكذب لكي نحصل على صفقة ما، ونكذب عندما نريد أن نتستر على نقص ما فينا أو في الآخرين.. إن اعتبار الكذب أمراً طبيعياً وتلقائياً في المعاملات الإنسانية، لا يمكنه إلا أن يشجِّع على الانخراط بسهولة أكبر في ممارسة الغش والنهب وسائر أنواع الفساد.
2- معرفة القوانين واحترامها
يخاطب الله في المسيحيَّة البشر موحياً إليهم بإرادته، والوحي الإلهي يحيل دوماً إلى ما يطلب الله من الناس أن يلتزموا به ليحافظوا على علاقتهم الوثيقة معه. وهذا ما يسمَّى عادة "الشرع الإلهي" (الوصايا العشر وشريعة المحبَّة). في العهد القديم يوحي الله بشريعته لموسى في أثناء الخروج من أرض الاستعباد، مما يجعل من هذه الشريعة أداة تحرير من العبودية، والتسلُّط، والعشوائيِّة، ومن استغلال الأقوياء للضعفاء، لا أداة تقييد أو تحديد. غاية الشريعة أن تنشئ أسلوباً جديداً متناغماً في حياة الجماعة. وهذا يتطلب أمرين: الأول أن تبقى الشريعة في خدمة الإنسان، لا أن يصبح الإنسان في خدمة الشريعة (مر 2/27)، والثاني أن يتمَّ احترام هذه الشريعة طالما هي كذلك. وهذا يفترض بدوره أن يكون القانون معروفاً من قبل الناس وموضوعاً للتفكير والمناقشة. ينطبق الأمر ذاته على القوانين المعتمدة في المجتمع، لذلك لا بدَّ للمؤمن من الاهتمام الجدي بحال القوانين والتنظيمات في بلده: هل هي بالفعل في خدمة الإنسان؟ هل تؤدي إلى تحقيق الانسجام في حياة المجتمع؟ وهل هذه القوانين معروفة ومقبولة من أعضاء المجتمع عموماً؟
3- بذل الجهد
عندما ينتشر الفساد في المجتمع تتغيَّر قيمة بذل الجهد فيه، ويصير النصابون والمحتالون والشطَّار أكثر قيمة من الشرفاء المساكين الخاسرين. وهذا الجو يدفع بالشبان على وجه الخصوص إلى التخلِّي عن طريق التربية المتطلِّب أو التمرُّن والتمرُّس الصعب باحثين عن الكسب المادي السريع والسهل الذي يعتمد في أغلب الأحيان على طرق الفساد والاحتيال.
لكنَّ التقاليد الروحيَّة المسيحيَّة تُجمع على اعتبار الطريق إلى الفضيلة طريقاً صعبة تتطلب من المؤمن جهداً حقيقياً يبذله للسلوك فيها. يتكلم الإنجيل عن "الباب الضيِّق" وعن "الصليب" الذي ينبغي على المؤمن أن يحمله لاتباع المسيح. ويبرز هنا مفهوم "الجهاد الروحي" بمعناه الإنساني الأوسع الذي يجاهد فيه المؤمن ذاته لينقيها من الرذائل والعيوب الداخلية، ويجاهد مع أصحاب الإرادة الصالحة لمواجهة انتشار الشرور وتناميها في العالم. المتديِّن إذن، لا يعتبر الحياة الدنيا مكاناً للراحة أو للهو، بل محلاً للعمل الجاد حيث العامل مستحق أجره، وهذا ما يمنح بذل الجهد قيمة خاصة.
4- الأصالة والشفافية
الله في الكتاب المقدس هو الذي يرى كل شيء ويعلم بكل شيء. فلا يمكن لأحد أن يتوارى من أمام وجه الله، كما حاول