رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
القداسة مسيرة واقعية.. إن الطموح الأول والأخير للمسيحي الحق، كما رأينا، هو القداسة. وهكذا كانت تيريز ليزيو (الطفل يسوع) تعلن باستمرار عن هذا الطموح. فتقول بشجاعة: "إن الشوق إلى القداسة، لازمني حياتي كلّها". لذلك سوف نتأمل روحانيتها بشكل أعمق لعلنا نشاهد فيها وجها نموذجياً ومعاصراً (1897) للقداسة، خصوصاً بعد أعلنتها الكنيسة "معلمة" فيها.. إن تيريز، بالرغم من وعيها إن القداسة هي دعوةٌ للجميع بفضل نعمة المعمودية، اكتشَفَتْ سرَّ دعوتها الخاصة. فقد كتبت في باكورة رسائلها في "السيرة الذاتية" لأختها "الأم أنييس يسوع" مُفسِّرةً قول الإنجيل: "صعد يسوع إلى الجبل، ودعا إليه الذين أرادهم، فأقبلوا إليه" (مر3/13)، لتحدثها عن "سرّ دعوتها، بل سرّ حياتها كلها، وسرّ ما خصَّ به يسوع نفسها"، فتقول: "لقد طالما تساءلتُ: ترى لماذا نجد لدى الله خصائص تتناول هذا أو ذاك؟ لماذا لا تتساوى النفوس كلها في نِعَم الله؟ وكان يأخذني العجب لدى رؤيته يغمر بعطايا خارقة، قديسين حَفَلتْ فترة من حياتهم بالخطيئة، كالقديس بولس والقديس أغسطينوس، بل إنه كان يُرغمهم على قبول نِعَمِه. وعندما أقرأ سيرة بعض القديسين، وكنت أرى أن الرب قد طاب له أن يداعبهم من المهد إلى اللحد، وكان يُبادر هذه النفوس بمواهب خاصة، دون أن تخبو إشراقة حلّة العماد فيها... لقد تنازل يسوع وكشف لي هذا السر. لقد وضع أمام عينيَّ كتاب الطبيعة ، وأفهمني أن الزهور التي أبدعها، كلها جميلة، وأن روعة الوردة ونقاء الزنبقة لا يقضيان على أريج البنفسجة الصغيرة، والبساطة الأخّاذة في الأُقحوانة... وفهمت أن الزهرات الصغيرة، لو كانت كلّها وروداً، لفقَدَتْ الطبيعة حلّتها الربيعية، وحُرِمَت الحقول تنوُّع الزهور فيها. تلك هي الحال في دنيا النفوس، أعني بستان يسوع. فقد شاء أن يغرس القديسين العظام، على غرار الورود والزنابق، وشاء أن يغرس زهرات صغيرة، لابدَّ لها أن تكتفي بأن تكون أقحوانات أو بنفسجات يتمتع بها نظر الله.. فالكمال هو في الأمانة لإرادته، وفي أن نكون ما يشاء لنا أن نكون". تؤكد هذه الراهبة الصغيرة، التي ما تعلَّمت يوماً في مدارس اللاهوت، بل الطبيعة وكلمة الله كانتا مدرستها، أنَّ محبة يسوع تشمل جميع البشر دون استثناء، فهي "تتجلّى في النفس الأكثر وضاعة، تلك التي تتجاوب كلياً مع نعمته، كما تتجلّى في النفس الأكثر سموّاً". ذلك "أن ميزة الحب أن يتنازل.. وفي تنازل يسوع، تتجلّى عظمته اللامحدودة". فالطفل "الذي لا علم له بشيء.. وساكن الأدغال الذي ليس له ما يقود مسيرته إلا الناموس الطبيعي.."، هما أيضاً مدعوان إلى القداسة!.. هكذا "يعتني الرب يسوع بكل نفس ، كما لو كانت فريدة". ويمنح كلَّ إنسان التطلع إلى اللقاء به. إذ "لا يمكن لله، تقول تيريز في نفسها، أن يبعث فينا أشواقاً يستحيل تحقيقها. فبوسعي، إذن، وبالرغم من صِغَري، أن أصبو إلى القداسة". وما يميِّز دعوة تيريز إلى القداسة هو رغبتها السريعة في تحقيقها، رغم إدراكها لحقيقة الضعف المتأصلة في الإنسان، تقول: "لابدَّ لي من أن أقبل واقعي كما هو، بكلِّ ما فيه من نواقص. إني أريد أن أذهب إلى السماء، سالكةً طريقاً مستقيمة وقصيرة المدى، طريقاً صغيرة وجديدة. فنحن في عصر الاختراعات، ولم يَعُد ضرورياً أن نتسلَّق السلالم درجة درجة.. هناك المِصعَد!.. أنا أريد أن أجد مصعداً يرفعني إلى يسوع، فأنا أصغر من أن أتسلَّق سلّم الكمال، وهي سلّم شاقة". ولكن، ما هو المِصعَد في نظر صغيرتنا القديسة؟!.. الطبيعة..؟ أم الكتب المقدَّسة؟.. أم كلاهما معاً؟.. لقد وجدت تيريز في تأملها الكتب المقدسة "ما كانت تسعى إليه". فكانت تعتبر أن كلمة الله هي دائماً واقعية، بشكل أن تكون موّجهة إلينا مباشرة، وشخصيّاً، ولقد كانت باستمرار "موضوع أشواقها". فحين تتأمل مثلاً نصاً إنجيلياً يتحدَّث عن مريم العذراء، تقول: "يجب ألا نذكر عن مريم أموراً مجهولة أو يصعب تصديقها. مثلاً، أنها ذهبت صغيرة إلى الهيكل لتقدّم ذاتها للرب بعواطف حب مضطرمة وحرارة خارقة العادة، في حين أنه ذهبت ربما لمجرّد طاعة والديها. فلكي يأتي بثمر تأمل عن العذراء، يجب أن يظهر هذا التأمل حياتها الواقعية كما تستشف من الإنجيل، لا حياتها المفترضة. ومنه ندرك أن حياتها الواقعية في الناصرة، شأنها فيما بعد كانت حياة عادية... يروننا العذراء بعيدة عن متناولنا. يجب أن يرونا إياها كمن يمكن الإقتداء به، أي أنها كانت تمارس الفضائل خفية. وأن يقولوا أنها عاشت نظيرنا من الإيمان، مستندين إلى براهين مأخوذة من الإنجيل". ولَكَم كانت الطبيعة أيضاً مصدر إطلالة حبِّ الله عليها، حتى أكثرت من الاستعارات والتشابيه المستمّدة من الطبيعة كالورود والطيور والشمس والعاصفة والمطر والضباب، تقول: "يا يسوع، يا أول صديق، يا صديقي الأوحد، أنت الذي أحبك وحدك، فَسِّر لي هذا السر.. . لماذا لا تحصر التطلعات الوسيعة في النفوس الكبيرة، في النسور التي تُحلِّق فوق القمم؟.. أنا أحسب ذاتي عصفوراً صغيراً.. لست نسراً، إلا أنَّ لي عينا النسر وقلبه، لأني برغم صغري، أجرؤ على التحديق بالشمس الإلهية ، شمس الحب، وقلبي يشعر في أعماقه ، بكل ما للنسر من تطلعات.. يا يسوع إني أتفهَّم حبك للعصفور الصغير.. ولكني على عِلمٍ أيضاً ، وكذلك أنت، أن هذا المخلوق الناقص ، مع التزامه أن يبقى تحت أشعة الشمس، قد يسهو قليلاً عن اهتمامه الأوحد، فيلتفت تارةً إلى اليمين، وطوراً إلى اليسار، ليلتقط حبة صغيرة، أو يسعى وراء دودة صغيرة... وإذا ما لحظ قليلاً من الماء قد تجمَّع على الأرض، عدا إليه ليُبلِّل ريشه الطري؛ وإذا وقع نطره على زهرة تحلو له، مال إليها تفكيراً واهتماماً.. . ولأنه لا يستطيع أن يُحلِّق كالنسور، يعكف العصفور الصغير على توافه الأرض، ويوليها اهتمامه. مع ذلك، وفي أعقاب هذه النقائص، وبدلاً من أن يندُب فيها شقاءه ويموت ندماً، يلتفت العصفور الصغير صَوْب شمسه الحبيبة، ويعرض لأشعتها المُحيية، جناحيه الصغيرين المُبلّلين، ويتنهَّد على مثال السنونوة ويُغني، وعبر نشيده الشجي، يسرد تفاصيل إساءاته ويستودعها من يستمع له.. ويستجلب عطاء أغزر من حب ذاك الذي لم يأتِ ليدعوَ الصديقين بل الخطأة..." لم تتردَّد تيريز مطلقاً أن تظهر في سيرتها نقائصها التي كان يسوع ساهراً على تجاوزها، لذلك "لا تجد صعوبةً في النهوض عندما تكبو"، على حدِّ قولها. فحين يكتشف الإنسان ضعفه، تقول تيريز: "يتحمَّل نقائص الغير، ولا تصدمه مواطن الضعف فيه". فلا يكفي أن نقول أننا نحبُّ الآخرين، "بل علينا أن نقيم الدليل على هذا الحب". وكما قالت القديسة تيريزيا الأفيلية: "ينبغي أن نتعامل بفن مع ضعفنا"، عاشت تيريز الصغيرة هذا الفن، ليس مع ضعفها وحسب، بل ومع ضعف الآخرين أيضاً. ولقد اقتبست هذا الفن، كما تقول، من يسوع نفسه الذي هو "فنّان النفوس". لم تتأخر تيريز في إظهار عفويتها، ومواقفها المرحة، كأن تذكر مثلاً أن أمها كانت تنعتها بالـ"عفريته".. وأنها حين كانت تمازح أباها تتمنى له أن يموت لكي يذهب إلى السماء. وعندما تهددها الوالدة بأنها ستذهب إلى جهنم حين لا تكون "عاقلة"، تردُّ عليها أنها سوف تتعلّق بها لتذهب معها إلى السماء، "إذ كيف يمكن للرب، تقول تيريز لها، أن يُبعدني؟ ألا تضميني إلى ذراعيكِ بشدة". كأنها كانت على قناعة أن الله "لن يستطيع حيالها شيئاً" طالما هي بين ذراعي الأم! التي هي بدورها، تصف صغيرتها، أنها، رغم صراحتها وشفافيتها و"قلبها الذهبي"، "طائشة"، "عنادها لا يقهر.. عندما تقول "لا"، لا يمكن لأي شيءٍ أن يُزعزعها". وتحتار الأم حول مستقبلها وتتساءل عنها "ماذا ستكون"؟.. ليتكِ علمتِ أيتها الأم الفاضلة التي قدَّمَتْ للكرمل أربع زهرات من بناتها، أن الصغيرة منهن ستكون قديسة!! تختار تيريز الطفولة الروحية طريقةً لقداستها التي طالما تشوَّقت إليها، تقول: "لستُ في حاجةٍ لأن أكبر، بل بالعكس، لابدَّ لي من أن أظلّ صغيرة، وصغيرة جداً، وأن أصغر أكثر فأكثر". ولكن، كيف تفهم قديستنا الطفولة الروحية: "سوف أبقى أبداً طفلةً، ابنة سنتين أمامه تعالى كي يضاعف اهتمامه بي.. فالطفل يرتضي بصغره وضعفه، ويقبل أن يكون بحاجة إلى المعونة.. سأتوكَّل على الله أبي في كلِّ شيء، وأطلب إليه كلَّ شيء، وأرجو منه كلَّ شيء. سأترك له الماضي مع ما فيه من المتاعب والمآثم ليغفرها.. وسأقبل الحاضر والمستقبل منه مسبقاً كما تشاء يده الحنون أن تنسجها لي.. سوف أبقى أبداً طفلةً أمامه، وأحاول دوماً أن أرتفع إليه بالرغم من ضعفي ووهَني.. الطفل الصغير يستطيع المرور بكلِّ مكان لصغره.. كم أتوق إلى السماء، حيث نحبُّ يسوع دون تحفظ أو حدود.. في قلب يسوع، سأكون دوماً سعيدة.. الشيء الوحيد الذي أرغب في أن تطلبه نفسي، هو نعمة حبِّ يسوع، وأن أجعل، قدر إمكاني، كلَّ إنسان يحبه.. سوف أعكف دائما على التغني بمراحمك.. " تطمح تيريز في طفولتها الروحية إلى النبوءة، وإلى الكهنوت. وتتشوّق، كبولس الرسول، إلى المواهب العظمى، لتكتشف في النهاية، أن الحب هو غاية المواهب والدعوات، تقول: "يا يسوع، سامحني واشفِ نفسي بمنحها ما تصبو إليه!!.. أن أكون عروستك.. أن أكون كرميلية.. أن أكون، باتحادي بك، أماً للنفوس.. كان يجب أن أكتفي بهذا... ولكن الواقع غير هذا.. لأني أشعر في ذاتي بدعوات أخرى.. أشعر بدعوة إلى الكهنوت والرسالة والتعليم والاستشهاد.. أشعر في نفسي بالحاجة والشوق، إلى أن أقوم في سبيلك، يا يسوع، بكلِّ الأعمال الأكثر بطولة!.. مع أني صغيرة، أتشوّق إلى أن أنير النفوس، على غرار الأنبياء والمعلمين. إني مدعوَّة إلى الرسالة... ورغبتي أن أجتاز الأرض، وأنادي باسمك، وأغرس في الأرض النائية، صليبك المجيد. ولكنَّ رسالةٌ واحدة لا تكفيني. يا حبيبي، أنا أريد، في الوقت نفسه، أن أحمل بشارة الإنجيل ، إلى القارات الخمس، وحتى الجُزُر القاصية.. وأريد أن أكون مرسلة، ليس على عدد من السنين وحسب، بل منذ خلق العالم، وحتى اليوم الأخير.. ولكني أصبو، فوق كل شيء، يا مخلصي الحبيب، إلى أن يُراق دمي لأجلك، حتى النقطة الأخيرة".. ولكنها، ولشدة واقعيتها تختار دعوتها في المسيح أن تكون الحب، فتقول: "أجل، وجدتُ موقعي في الكنيسة. وهذا الموقع، قد أعطيتنيه أنت، يا إلهي.. في قلب الكنيسة، أمي، سأكون الحب.. وسأكون بهذا الحب كلَّ شيء.. . لقد وعيت أن الحب يحوي في ذاته، جميع الدعوات، وأن الحب هو كلّ شيء، وأنه يَلُفُّ جميع الأزمنة والأمكنة، وبكلمة، إنَّ للحبِّ الخلود.. يا يسوع، يا حبي، لقد اهتديتُ أخيراً إلى دعوتي ، إنَّ دعوتي هي الحب!". لذلك نجدها، وبهذا الحب، تصلّي من أجل جميع الناس، خصوصاً الذي يحملون دعوة التكريس الكامل لله والخدمة، ولعلها كانت تحمل الكهنة في كلِّ صلاةٍ لها. هكذا، تتجلى قداسة تيريز في واقعيتها الطموحة. تعرف حدودها، تسرُّ بصغرها، ولكن لا تمنع نفسها التطلع إلى العظائم. لعل القدير الذي ينظر إلى ضعتها، يمنحها كفتاة الناصرة عظائمه، وهكذا فعل، تقول: "إنَّ كلَّ شيء يؤول في النهاية إلى خلاصي وسعادتي ومجده تعالى.. الله يعلم كلَّ شيء، وهو قادرٌ على كلِّ شيء.. ويُحبني.. إن أصغر لحظة حب خالص، لأكثر فائدة لها ، من جميع ما عداها من نشاطات مجتمعة.. " "يا يسوع، كن لي كلَّ شيء. هب لي ألا تتمكن أشياء الأرض من أن تلقي الاضطراب في نفسي، وألا يُقلق سلام نفسي أي شيء . يا يسوع لست أسألك إلا السلام، والحب أيضاً، ذاك الحب اللامتناهي، الذي لا يحده غيرك... الحب الذي يُحوِّلني من ذاتي إليك.. أعطني أن أموت شهيدة.. يا يسوع لتكمُل مشيئتك فيَّ بكمالها.. إن مسرتك وعزاءك، هما محور ما أريد". |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
علينا أن نبدأ منذ الآن مسيرة القداسة |
قداسة البابا تواضروس الثاني “حياة القداسة و القداسة للكل فكيف تكون” |
القداسة مسيرة واقعية.. |
القداسة مسيرة صحراء |
القداسة مسيرة صحراء |