خلاّق بين الخالق و المخلوق
من كتاب "السّائحان بين الأرض والسماء" الله والإنسان
لابدَّ من تعريف هذه الكلمات بسرعة لندرك علاقة كلّواحدة منها بالأخرى. الخالق هو الله، وهو الذي أوجد، من اللا وجود، كلَّ ما هو موجود، وهذا يدعى المخلوق أو الخليقة.
الخلاّق هو الإنسان، وهو مخلوقٌ من الخالق الوحيد الواحد ذاته، لكنه جُبل على صورة الله ومثاله، وهو الوحيد بين كلّ الكائنات المخلوقة القادر على معرفة الله وبناء علاقةٍ معه.
الإنسان هو الوحيد من بين كلّ الخلائق الذي يستطيع أن يتصل بالله. هذا الخلاّق يتفنّن ويبدع في صياغة ظروف حياته وتطويرها مستخدماً الخليقة، فيحوِّل اللون الجامد إلى صورةٍ ناطقة، والتربة إلى عمارة، والخشبُ يصيِّرُه قارباً ويفكِّك طاقة الذرة ذاتها...
لكن هل ينتهي فنُّه عند هذه الحدود؟ إنّ أعظم فنٍّ يمارسه الإنسان ليس في تجميل وتركيب عناصر الطبيعة بل في تقديمها قرباناً لله، وفي أن يبني منها بطرقه الرّوحية علاقةً مع الله الخالق. لهذا الصلاة هي فنُّ الفنون.
عندما يتعامل الإنسان الخلاّق مع الخليقة دون تذكّر الخالق فإنه يســتخدمها كفنّــــان، لكن عندما يتذكّـر منـهاواهبَها تختلف نظرتُه إليها. ولا تعود مجرَّد مادةٍ مفيدة بل هديةً مؤثِّرة!
نعرف الخليقة بواسطة الحواس ونحلّلها ونسيطر عليها بواسطة العقل. أما الله الخالق فلا نعرفه بالحواس، لأنه غير مخلوقٍ وغير منظور، وإنما بالعقل الذي يقرأ من وجود الخليقة حكمةَ خالقها. نعرف الله إذاً من أعماله وليس بحواسنا.
الخليقة هي أحد أعماله، وتاريخ التدبير الإلهي والوعد والتجسد والقيامة والعنصرة... كلُّها أعمال الله التي تُعرِّف الإنسان على خالقه.
إدراك الخليقة ومعرفتها أمرٌ سهل ومفروض لأنّ الحواس تُدرِك المخلوق. أما معرفة الله فلا تحتاج إلى بصرٍ فقط بل إلى بصيرة، ليس إلى حواسٍ فقط بل إلى عقلٍ وحكمة.
ولطالما انغمس الإنسان في استخدام الخليقة والتفنّن بها، لدرجة أنه نسي أن يقرأ فيها حضرة خالقها. "فعَبدَ الخليقة دون الخالق". ولمّا كانت الخليقة "إشارة" إلى الله، توقّفَ البعض عند قراءتها دون النظر إلى المشار إليه.
معرفة الله، من خلال الخليقة وتدبيره وأعماله، تحتاج إلى إنسانٍ حرّ غير مستعبدٍ من عناصر الخليقة بل سيّدٍ عليها. لذلك تتطلب هذه المعرفة التحرّر من المبالغات وتتطلب قراءةً حكيمة للخليقة.
هذه القراءة تتم في "الهدوء" لأنّ الارتباك بالدنيا يحرمنا قراءة معناها.
الهدوء لا يعني مجرّد العزلة أو الوحدة، رغم أنه يحتاجها في البداية. الهدوء يعني "التأمل" من خلال الخليقة بالخالق. الهدوء ليس هروباً من العالم إلاّ بمقدار ما يكون سجوداً لله والتصاقاً به. الهدوء هو فنُّ قراءة حضور اللاّ مخلوق في المخلوق، فنُّ الاتصال بالخالق من خلال الخليقة.
الهدوء ممارسةٌ تتم بالصلاة، المطالعة، الاعتدال في تناول العالم، التحرر من الدنيويات، عَتْق الذهن من مخاوف الحياة والحواس من عبودية اللّذات. دون هذه الممارسة، مصير الإنسان أن يعبدَ الخليقة وينسى الخالق.
عندما يكتشف الإنسانُ اللهَ غير المخلوق في الهدوء، عندها يدرك المعنى الحقيقي للخليقة.
الله محبّة، وقد وهب الخليقة للخلاّق فعلَ محبّة، عندها يقف الإنسان أمام كلّ ما في الخليقة وقفة "رعشة". الخليقة هديةٌ ثمينة من المحبّة الإلهية، ثمينةٌ لدى الله لأنها من أجل الإنسان.
حضرة الله غير المخلوق تدفع الإنسان إلى احترام المخلوق برهبة.
يتحسس الإنسان الحكيم لكلّ عناصر الخليقة، وفي مقدمتها الإنسان، بحسٍّ مرهفٍ روحيٍّ مسـؤول. لولا حضرة الله المحِبّ لصارت الخليقة بما فيها البشر بالنسبة للإنسان مادةً للاستهلاك والمتعة،
والأمثلة على ذلك عديدةٌ في دهرنا. حضرة الله في حياة الإنسان تجعل للخلائق معنىً اعتبارياً، فهي ليست مجرّد مادةٍ جامدة للإبداع بل هي رسالة محبةٍ إلهية تولّد في مستخدِمها "رعشة" سجود، وتغدو الخليقة للإنسان مادةً محبوبة بدل ضرورية.
هكذا يسحبنا الهدوء في البداية من العالم ولكن ليعيدنا إليه إنما بقراءةٍ جديدة له، يسحبنا ونحن مستخدميه ويُعيدنا إليه ونحن نحبّه! فأية روعةٍ هي ممارسة الهدوء.
ملاقاة الخليقة بهذا الحبّ تقودنا إلى "عذوبةٍ مؤلمة"! من يحبّ، مصيره أن يُعاني. الخليقة المادية تتنهّد بحسب تعبير بولس الرسول، والإنسان فيها خليقةٌ في حياته الكثير من أوجه الألم والعديد من الحاجات. من يحبّ يعاني!
الحبّ مقابل الألم يملؤنا خشوعاً. هذا الخشوع يتبنىّ كلّ آلام الناس وكلّ تنهّد الخليقة.
إذاً هذه القراءة الرّوحية للخليقة بعين الحبّ تجعل الإنسان مسـؤولاً متخشِّـعاً، تجعله يواجه الدنيا والقريب وفي عينيه دوماً دموع! يعطي الحبُّ سعادةً، ولكن عندما تُحبُّ متألماً يتسلّل إلى عذوبة الحبّ ألم، ألمٌ ضروري جداً ليجعل الحبّ عملياً ومسـؤولاً.
الحبّ أب الدموع، المحبّة أم المسؤولية. الدموع هي عزم المحبّ، خاصةً عندما يذرفها في الصلاة أمام الله الخالق فيعصر فيها كلّ الكون أمامه، ويبرهن أنه ابنٌ له وليس مجرد عبدٍ أو أجيرٍ مستخدَم.
خلاّقٌ وخالقٌ ومخلوق، ثلاثةٌ تجدّد العلاقة بينهم حكمة الخلاّق، والحكمة تقرأ في الخليقة حبّ الخالق فتقدِّس المخلوق وتحبّه. احترام المخلوق في الهدوء يولّد رعشة الحبّ ومن ثَمَّ دموع الرجاء.
هدوءٌ فرعشةٌ ومن ثَمَّ دموع، آمين.