الصّلاة الشّفاعيّة
كلمة شفاعة مُشتقّة من الأصل شفعَ، يشفعُ، شفاعةً وهي تعني في اللغة التّوسُّط أو التّضرُّع، أي أنّ الشّفاعة لُغويّاً هي التّوسُّط بين شخصٍ وآخَر لأجل إصلاح ذات البَين أو لِحَسم خلافٍ معيّنٍ. أمّا لاهوتيّاً أي في الفكر اللاهوتي، فإنّ كلمة شفاعة تعني وترمز إلى الشّخص الذي يُمثِّل الله أمام النّاس، ويُمثِّل النّاس أمام الله. وبما أنّ الصّلاة في مفهومها العام هي الشَّرِكة مع الله وهي التّعبير الطّبيعي عن طبيعة أو كُنه العلاقة الرّوحيّة بين الله والمؤمن به ـ تلك العلاقة التي مَنحَنا الله إيّاها عن طريق الفداء الذي تمّ بموت المسيح الكفّاري على الصّليب ـ إذاً فالصّلاة الشّفاعيّة هي الصّلاة التي يرفعها المؤمن المسيحي إلى الله لأجل أخيه.
ففي الصّلاة الشّفاعيّة يقوم المؤمن برَفع احتياجاتِ وهُمومِ شخصٍ ما أو جماعةٍ بعينِها أمام محضر الله، ومن خلالها يختبر محبّة الله لهُم. وفي ذلك إعلانٌ صريحٌ عن إيمان رافِع الصّلاة بالله وبقدرته على تلبية طلباته التي هي بحسب مشيئته، كما فيه أيضاً إعلانٌ عن اعتماده الكُليِّ على الرّبّ خالق السّماوات والأرض في كُلِّ نواحي حياته.
إنّ الصّلاة الشّفاعيّة ليست بالأمر المُستَحدَث كما يظنّ الكثيرون، لكنّها تُمثِّل حضوراً أصيلاً ومتأصِّلاً في تاريخ علاقة البشر بالله كما هي مدوَّنة في الكتاب المقدّس. وفيما يلي سنقوم بتقديم بعض الأمثلة للصّلوات الشّفاعيّة من الكتاب المقدّس. ولكن قبل أن نعرض إلى ذلك دعونا ندلف لنُبحرَ قليلاً في المفهوم الكتابيّ للشّفاعة أو الوساطة بين العهدين القديم والجديد.
كما ذكرنا سالفاً فإنّ دور الوسيط هو الجمع بين الأشخاص المتخاصمين أو المتنازعين لإصلاح العلاقة المفقودة، وذكرنا أيضاً أنّ المفهوم اللاهوتي للكلمة يرمز إلى الشّخص الذي يُمثِّل النّاس أمام الله. في العهد القديم عُرِفَ الكاهن بأنّه الوسيط بين الإنسان والله، وتُعتبَر الشّفاعة أو الوساطة هي محور الارتكاز الأساسي في خدمته. إذ أنّه يقوم بتقديم الذّبائح المختلفة، كذبيحة الخطيئة وذبيحة المُحرَقة إلى الله كما يقوم أيضاً برفع الصّلوات الشّفاعيّة لأجل الشّعب. ولكن ما يجب ملاحظته هنا هو أنّ رؤساء الكهنة بالعهد القديم كانوا أنفسهم خطاة محتاجين لتقديم الذّبائح لخطاياهم قبل أن يتشفّعوا من أجل خطايا الآخَرين (سِفر اللاويّين 9: 8).
لهذا كانت الحاجة ماسّةً لشفيعٍ آخَر بلا عيبٍ، طاهر وقدّوس ليس بحاجة للتّكفير عن خطاياه وإنّما قادر على التّكفير عن خطايا الآخَرين والتّشفُّع لأجلهم. وهذا ما تمّ في شخص الرّبّ يسوع المسيح الكاهن الأعظم الذي قدّم نفسه ذبيحة دائمة لا تحتاج إلى تكرار (رسالة العبرانيّين 10: 12)، فهو الوسيط الأوحد بين الله والنّاس (رسالة تيموثاوس الأولى 2: 5)، وهو الوسيط الذي بلا خطيئة (رسالة العبرانيّين 7: 26).
إذاً، فيسوع المسيح هو الوسيط الذي فيه تمّت كُلّ المطاليب الشّرعيّة، لكونه ابن الله القدّوس (رسالة بطرس الأولى 2: 22)، لذا فإنّ شفاعته لأجلنا لَهِيَ المثال الأعظم لنا كمؤمنين، لكي نسكب أنْفُسنا في حضرة الله مُتشفِّعين لأجل بعضنا البعض ولأجل أخوتنا الذين هُم في أمسِّ الحاجة لصلواتنا، بسبب الضّيقات أو الاضطهادات التي يمرُّون بها، أو لأجل تسديد احتياجاتٍ روحيّةٍ كانت أو جسديّة لهم.
إنّ العهد القديم مليء بالأمثلة الحيّة للصّلوات الشّفاعيّة لرجال الله الأُمَناء الذين سكبوا أنفسهم أمام محضر الله متضرِّعين ومتشفِّعين لأجل الخليقة في مناسبات عديدة. ففي سفر التكوين 18، نقرأ عن واحدة من أعظم أمثلة التّشفُّع بين الإنسان والله، وذلك حينما تقدَّم ابراهيم أمام الله متشفِّعاً بإلحاحٍ شديد لأجل الأبرار فى مدينة سدوم سِفر التّكوين 18: 23 - 28، وهنا توالت تشفُّعات ابراهيم وتوسُّلاته سائلاً الله الصّفح عن المدينة إلى أن وصل إلى عشرة أبرار.
العهد الجديد كما العهد القديم مليء بالأمثلة المتميِّزة للصّلوات التّشفُّعيّة، فهناك مثلاً صلاة استفانوس التّشفُّعيّة لأجل أولئك الذين كانوا يرجمونه سِفر الأعمال 7: 60.
ختاماً وفي سِفر حزقيال 22: 30 حيث نرى صورة ناطقة بكلمات مقروءة عن رغبة قلب الله في أن يجد رجلاً مُتشفِّعاً لأجل الآخَرين.
لَيتَ الرّبّ يرشدك ويستخدمك لتكون ذلك الشّخص الذي يبني الجدار ويقف في الثَّغر أمام الله مُتشفِّعاً لأجل الآخَرين.
بقلم/دانيال