مريم المجدلية ورباطات الشياطين
كانت المجدلية تنعم بوسط إجتماعى مرموق، إلا أنها عانت من سبعة شياطين جعلتها مرتاعة، بعد أن تحكمت في تصرفاتها، إلى أن جاء إليها الطبيب الحقيقي، فشملتها رحمة إلهنا الشافية المشفية من كل الأمراض والعلل والأسقام الروحية والجسدية، خلال أشعة محبته المعلنة في عطاياه الصالحة والتامة.
رآها السيد في عذابها وقيودها، التي أفقدتها سلامها الروحي والنفسى والعقلى، فشفاها طبيب مداوى يحمل أدوية الشفاء، زارعاً فيها النبتة السمائية، مريداً أن يقدم عمله بحب لأجل شفائها كصاحب سلطان إلهي، وبمقدرته التي لا تقاوم وسلطانه الذي ليس له مثيل سحق الشياطين بمجرد أنه أراد أن يكون الأمر كذلك.
إنه ينادى للمأسورين بالإطلاق ويرسل المنسحقين إلى الحرية، وهو الإله الرحوم نفسه الذي يحرر الجسد من الفساد ومن طغيان الشيطان، لذلك تصلى الكنيسة في أوشية المرضى من أجل المقبوض عليهم في عبودية مرة ومن أجل المعذبين من الأرواح النجسة لكي يعتقهم المسيح ويرحمهم.
لقد قابل السيد المسيح -الإله المتجسد- هذه الأرواح السبعة، وعتق المجدلية من عذاب شرها ونجاستها لأنه جاء ليحطم عمل الشيطان ويحل قواه ويسحق رأسه إلى الأبد، جاء ليحاكمهم، فمجرد وجوده عذاب للشياطين.
ويذكر لوقا الطبيب والبشير أن "السيد المسيح كان يسير في مدينة وقرية ويكرز ويبشر بملكوت الله ومعه الإثنا عشر وبعض النساء كن قد شفين من أرواح شريرة وأمراض، مريم التي خرج منها سبعة شياطين. ويوَّنا إمرأه خوزي وكيل هيرودس، وسوسنة وأخرى كثيرات كن يخدمنه من أموالهن (لوقا 8:1-3).
مريم المجدليه
وهنا إشارة إلى أن المجدلية كانت أسوأ حالاً من الأخريات اللواتى شفين، لذلك ذكر أنه كان بها سبعة شياطين. أي تملك عليها العدو الشرير وحاصرها لكن الرب حصنها وشفاها، فحالما وقعت عليها عين المسيح الرحيمة أراحتها، وسمعت الصوت المفرح والأمر الإلهي لهذه الأرواح النجسة بالخروج، فوهبت النجاة من قوى إبليس.
وجدت الراحة والشفاء ونالت السكينة بعد أن كانت روحها المضطربة كرسى للشيطان، وتهيأت لتكون تلميذة للمسيح رب المجد، في صفاء قلب ونقاوة الاشتياق والأحاسيس والدوافع، وثقة التوقع، فصار السلام حبيباً لها وصديقاً، وصار قلبها مضجعاً للرب، بعد أن نالت راحة مطمئنة بدون ألم ولا قلق ولا تعب ولا خيال.
أقامها المسيح بعد أن ثقلت بالويلات، وللوقت سلكت حياة فاضلة بإرادة مقدسة مع الطبيب مصدر حياتها وسر شفائها وقداستها، وبعد أن كانت مغارة لصوص شيطانية، أضحت بيت صلاه، مقدمه نفسها لذاك الذي يعرفها، بعدما كشف هو ذاته لها بشفائها وتحريرها، فلم يعد شيء يقلقها أو فكر يشتتها، كونها صارت بالتمام في ملء النور، مثبتاً إياها بإرادته القادرة، وهي طائعة لإرادته الممجدة، تاركة كل العلل الرديئة. فمعرفة المسيح الحق هي التي تحرر (يو 3: 21)،وهي التي ثبتت مريم المجدلية في الحرية التي حررها المسيح بها (غلا 5: 1)، لتصير حريتها في المسيح، تعيش الحياة المقدسة معه، لأنه قدوس ويقدس، بار ويبرر.
تلك البركات التي تمتعت بها مريم المجدلية فصارت محبتها عاملة تفيض وفرة وغنى وغزارة وأمانة وجهاد مستمر، فهي الأنا الصغيرة التي لن تستريح إلا في الرب، ولا تعرف آخر سواه.
فلنرى عظم الآية التي صنعها يسوع مع المجدلية عندما هز طغيان الشيطان وحررها من شره وسحق رؤوس الحيات، إذ بعد أن كانت في بؤس ومهانة مملوكة للشيطان، ملك عليها المخلص، ، وبدلاً من سطوة الأرواح النجسة التي أفقدتها إتزانها وتعقلها، أنقذها الرب وقطع عنها قيودها وحررها من تلك الكائنات المرة والأثيمة، لأنه جاء ليطرد بسلطان، مطهراً الخليقة التي استخدمها عدو الخير مراكز عمل له، وكما سقطت أسوار أريحا بقوة الله، كذلك تحطمت مدن الشيطان وأسوار الشر التي تحارب المجدلية.
يالحنو الله القدوس الذي يدعو النجسين لينالوا المغفرة، ويالشرور الشياطين الموحشة التي أقلقت نفس المجدلية، فتحنن الرب عليها وصد عنها سطوة الشياطين القاسية التي وجدت لها مسكناً فيها كى تؤذيها، لكن الطبيب الحقيقي لم يسمح بعذابها وعبوديتها، فبالرغم من أن طبيعته واحدة إلا أنها تطلب كثرة، تطلب كثيرين ليكونوا موضع حبه وشفائه ومعطائيته.
وكل من يستعبد للخطية يفقد سلام فكره وجسده وروحه، ويخسر حياته الروحية ويفقد إتزانه وبنوته لله، إذ أن مخلصنا يريد أن يرفعنا جميعاً نحو حياة الشركة التامة معه في عشرة وعلاقة كيانية معه في المحبة وجمال العشرة والتوبة عن الأعمال الميتة إنها موهبة الفضائل ولغة القلب للقلب، لغة الحوار المباشر معه، والسلوك بلا عثرة في دعوة القداسة لنصل إلى ملء الإنسان الكامل.
فكثيرون مستعبدون للعالم (لأن كل آلهة الأمم شياطين) في قلق ومادية وإباحية، يعيشون سائرين في جبال العتمة، ولا علاج ولا شفاء إلا في توجيه القلب إلى المسيح الينبوع ليتحنن ويهب حياة وسلام ونصرة، فلا يكون للشيطان موضع فينا وسط تحديات هذا العصر، إذ، أن الحرية الحقيقية هي الحياة مع الله وغلبة الشيطان بالصليب، هي الوجود الدائم مع الله والحياة بواسطته، والحرية هي الدخول في اللانهائيات، لانهائية في الحب، لانهائية في الطاعة والتلمذة، لانهائية في الفرح والسلام. الحرية هي كمال الإستعباد للمسيح ربنا الذي حررنا وإشترانا. لذلك لا يتصور أحد أن نفسه قد إستنارت كلها مرة واحدة إستنارة كلية، فلا يزال يوجد قدر من الخطية في الداخل، يحتاج الإنسان إلى تعب وكد كثيرين على حسب النعمة المعطاة له، والتي تمتحن قصد الإنسان لترى هل يحفظ حريته وحبه نحو الله كاملاً، بحيث لا يتفاوض مع الشرير في أي شيء، بل يسلم نفسه كلية للنعمة؟ وبهذه الطريقة عندما تنجح النفس مرة بعد مرة، وهي لا تحزن النعمة في أي شيء ولا تسىء إليها في أي أمر، ينال الإنسان معونة متزايدة، والنعمة نفسها تجد مرعى لها في النفس وتضرب بجذورها إلى أعماق أعماقها، إذ توجد النفس مقبولة وموافقة للنعمة بعد تجارب كثيرة، إلى أن تتشبع النفس تماماً بالنعمة السماوية. وهكذا كانت مريم المجدلية بعد أن أخذت عطية السرور التي هي المسيح نفسه، الذي نزع عنها مسوح المرارة وأعطاها ثوب مفرح، بعد أن رأى كيف مسك بها الشيطان وقادها في طريقة الممتلىء بالعثرات. فتحنن عليها برحمته التي لا قياس لها ورأى بعين التحنن التي لصلاحه أن يكسر شموخ الشيطان وإفتخاره ويفضح غشه.
فكل الحكمة والفهم هما منه، وهو ينبوع كل بركة ومعرفة وكل خير يأتينا منه، فيه نصير حكماء مملوئين بالمواهب الروحية، ندوس التنانين والوحوش السامة، ونترك المهالك والطرقات الوعرة، لأنه هو قوتنا، به ننال النصرة، ومنه نأخذ السلطان أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو.
وبعد أن أخضعت الشياطين المجدلية لسيادتها وإستعبدتها لحسابها الخاص وصبت فيها خمر الإثم وتعاليم الشر، أتى المسيح وسكب فيها خمر الحياه وأعطاها التعليم الجديد ومنحها حرية مجد أولاد الله.
أعطاها عقلاً جديداً ونفساً جديدة وعيوناً جديدة وآذاناً جديدة، ولساناً جديداً روحانياً، حملها في ضعفها على منكبيه.
لتستقر فيه، فصار هو مكافأتها ومجدها، سندها ونصرتها، شبعها وكفايتها، صلاحها وقوتها، عزائها وشفائها ونسمات حياتها.
لذلك أحبت مريم المجدلية الرب من كل قلبها، وإجتهدت في أن تحيا في كل فضيلة وتمم كل وصية وتعيش كل تعليم بنقاوة وبلا لوم، بعد أن جحدت سيرتها الأولى الشريرة، وإستردت أوانى الفضة والذهب، وصارت بهية مضيئة بدلاً من السواد والعار، بعد أن حررها الرب وصالحها لنفسه من بعد العداوة.
فأوضحت له تلميذة تتذكره أكثر من النفس الذي تتنفسه وتتنسم نعمته وتثبت في وصاياه:
فهو رب وهي عبدة هو خالق وهي مخلوقة هو صانع وهي صنعة يديه سر الرب أن تكون باكورة من خلائقه (يع 1: 18) مسكناً له وعروساً طاهرة.