مزمور 119 (118 في الأجبية) - قطعة ر - تفسير سفر المزامير
20- ر
بعيد هو الخلاص عن الخطاة
[153 - 160]
إذ يقترب الأشرار إليَّ ليطردونني خارجًا تقترب أنت إليَّ جدًا وتتجلى في داخلي. هؤلاء الأشرار يبتعدون عن ناموسك [150]، فيحرمون أنفسهم من اقترابك إليهم. بإصرارهم على عدم التوبة يبقى الخلاص بعيدًا عنهم، مع أنك تريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1تي4:2).
1. بالاتضاع ننعم بخلاصه
153-154.
2. بعيد الخلاص عن الخطاة
155.
3. قبولي رأفاتك ورفضهم لها
156-160.
من وحي المزمور 119 (ر)
1. بالاتضاع ننعم بخلاصه
سبق فأعلن أن الرب قريب منه [151]، هنا يعلن سرّ هذا القرب من جانبه ألا وهو الاتضاع والطاعة له:
"أنظر إلى تواضعي وأنقذني،
فإني لم أنسَ ناموسك" [153].
الرب المخلص هو حال في كل موضع، يشتاق في حبه اللانهائي أن يحتضن كل نفس ويخلص الكل. لكن كبرياءنا وعصياننا يحجبان وجهه عنا، فيصير خلاصه بعيدًا.
إذ يتضع المؤمن أمام مخلصه، ويحتضن ناموسه الروحي، يتمتع بالشركة معه، فيصير ما له للمؤمن، وما للمؤمن له؛ حتى تصير شكوى المؤمن ومتاعبه كأنها أمور تخص المخلص شخصيًا، الذي يحكم له في دعواه ويخلصه ويهبه حياة أبدية.
* ليت كل إنسان ثابت في جسد المسيح لا يظن أن هذه الكلمات غريبة عنه، لأنه بالحق كل جسد المسيح موضوع في هذا الحال المتضع يقول: "أنظر إلى تواضعي وانقذني، فإني لم أنس ناموسك".
* لا يمكننا أن نفهم ناموس الله كما ينبغي، حيث تقرر نهائيًا أنه "من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع" لو11:14، 14:18.
القديس أغسطينوس
"أحكم لي في دعواي ونجني،
من أجل كلامك أحيني" [154].
يظهر المرتل هنا كمن يستأنف قضيته أمام المحكمة العليا الإلهية، طالبًا من الله أن ينظر إلى دعواه. أما من جانبه فيقدم أمرين: اتضاعه وتمسكه بناموس الله. بهذا فهو مطمئن أن يقف أمام العرش الإلهي. يطلب من الله أن ينظر إليه، فهو وحده يقدر بنظراته الإلهية أن يدرك ما في أعماق النفس من حزنٍ أو ضيقٍ؛ ويعطيها سلامًا فائقًا، ويرد لها بهجتها، كما أن نظراته يصحبها عمل إلهي، وليس كنظرات الناس التي وإن حملت أحيانًا ترفقًا لكنها تعجز عن إنقاذ النفس.
* ماذا قيل: "لا أنسَ ناموسك" [153] وهي تتفق مع الكلمات هنا "من أجل كلمتك أحيني" [154]. فإن هذه الكلمات هي ناموس الله الذي لا ينساه، لهذا اتضع فارتفع.
أما كلمة "أحيني" فهي تخص هذا الارتفاع عينه، لأن ارتفاع القديسين هو حياة أبدية.
القديس أغسطينوس
2- بعيد الخلاص عن الخطاة
إن كان المؤمن باتضاعه وطاعته ينعم بالشركة مع مخلصه، فالشرير في كبريائه وعصيانه أو رفضه لأحكام الله ووصيته يحرم نفسه من التمتع بهذه الشركة وثمرها الروحي في حياته.
"بعيد هو الخلاص من الخطاة،
لأنهم لم يطلبوا حقوقك" [155].
هناك نوعان من الخطاة، نوع يشعر بخطاياه ويعترف بها ويطلب العمل الإلهي، والنوع الآخر لا يبالي بخطاياه لذا لا يطلب الله، مثل هؤلاء الخلاص بعيد عنهم تمامًا.
* الخلاص ليس بعيدًا عن جميع الخطاة، لأن المسيح الذي هو الخلاص جاء ليدعوهم إلى التوبة ويخلصهم، إنما هو بعيد عن الذين لم يطلبوا التوبة التي تبرئهم من الخطية.
أنثيموس أسقف أورشليم
* هذا يفصلك عنهم، لأنهم لا يفعلون ما تفعله أنت، إذ أنت تنظر إلى برّ الله. "وأي شيء لك لم تأخذه؟!" 1كو7:4... لقد أخذت من (الله) الذي دعوته القوة لكي تحفظ برّه. هو نفسه فصلك عن أولئك الذين هم بعيدين عن سلامة (النفس) لأنهم لا يراعون برّ الله.
القديس أغسطينوس
شعر القديس أغسطينوس بخطورة الحوار مع الشرير الذي يسحب المؤمنين إليه لكي يحرمهم من خلاصهم: "بعيد هو الخلاص من الشرير"، فيقول: "هكذا وقفت أمامه وانسحبت إليه تدريجيًا دون أن أدرك".
لا يتمتع الخطاة غير التائبين بالخلاص، الذي يصير بعيدًا عنهم لأنهم لا يطلبون حقوق الله، أو الحق الذي هو المسيح.
* شريعتك هي الحق، والحق هو أنت (يو 6:14)1.
القديس أغسطينوس
3. قبولي رأفاتك ورفضهم لها
إن كان الخلاص بعيدًا عن الخطاة فليس سرَّه الله بل الخطاة أنفسهم، ولئلا يظن أحد أن الله قاسي يكمل المرتل حديثه بتأكيد رأفات الله الكثيرة التي يرفضها الأشرار.
يعلن الرب المخلص الرأفات الإلهية على الصليب للعالم كله، وتبقى أبواب محبته مفتوحة حتى اللحظة الأخيرة من حياتنا، من يرد ينعم بها وينال الحياة، عندئذ يقاومه الأشرار ويحزنون قلبه، أما هو فيبقى أمينًا في حفظه لكلمات مخلصه، متمسكًا بناموس الرب ورحمته الواهبة الحياة.
"رأفاتك كثيرة جدًا يا رب،
فحسب أحكامك أحيني" [156].
وكأن المرتل يوجه اللوم إلى الأشرار بطريقة غير مباشرة مقدمًا خبراته، فقد ذاق رأفات الله التي قدمت له الحياة عوض الموت. لقد حُكم علينا بالموت، لكن بالصليب تبدل الحكم فوهبنا الحياة المُقامة. إنه يدعو الأموات لكي يتمتعوا بالحياة الجديدة خلال مراحم الله كما اختبرها هو، فإن الله لا يشاء موت الخاطى مثل أن يرجع ويحيا.
"كثيرون هم الذين يضطهدونني ويحزنونني،
وعن شهاداتك لم أجنح" [157].
* هذا ما نتحققه ونعرفه ونتذكره.
كل الأرض صارت حمراء بدم الشهداء،
السماء تزهر بأكاليل الشهداء،
الكنائس تتزين بذكريات الشهداء.
الفصول تتميز بأعياد ميلاد الشهداء،
أشفية تتحقق باستحقاقات الشهداء.
لماذا هذا إلا لأنه قد تحققت نبوة ذاك الذي انتشر في العالم كله. نحن ندرك هذا ونقدم الشكر للرب إلهنا. وأنت يا إنسان قلت بنفسك في مزمور آخر: "لولا أن الرب كان معنا، لابتلعونا ونحن أحياء" مز2:157، 3. انظر السبب لماذا لم تجنح عن شهاداته...
القديس أغسطينوس
لم يقف الأمر عند بعدهم عن الخلاص وحرمانهم من الحياة الأبدية لكنهم يضطهدون المؤمنين ويحزنونهم بلا سبب. إنهم لا يريدون التمتع بالخلاص ولا ترك الغير في سلامهم الداخلي. يشتهون تحطيم كل نفسٍ بشرية. لكن ما هو موقف المؤمنين الحقيقيين منهم؟ إنهم يبكونهم ويحزنون عليهم.
كان لداود كشخصية عامة أعداء كثيرون ظاهرون وخفيون، لكنه لم يخشَ أحدهم، ولا مالق أحدًا على حساب شهادات الرب ووصاياه.
"رأيت الذين لا يفهمون فاكتأبت،
لأنهم لأقوالك لم يحفظوا" [158].
* من هم هؤلاء الذين لا يحفظون عهدك إلا الذين حادوا عن شهادات الله، ولم يحتملوا متاعب مضطهديهم الكثيرين؟ الآن هذا هو العهد أن من يغلب يكلل. فالذين لا يحتملون الاضطهاد إذ ينحرفون عن شهادات الله لا يحفظون العهد. هؤلاء رآهم المرتل وذاب أسى لأنه أحبهم. فالغيرة حسنة، هذه النابعة عن الحب لا الحسد. أضاف بخصوص الذين فشلوا في حفظ الناموس: "لأنهم لأقوالك لم يحفظوا"، لأنهم صاروا جاحدين في ضيقاتهم.
القديس أغسطينوس
إذ ننظر إلى الذين لا يفهمون فنحزن عليهم طالبين خلاصهم يرد لنا الرب نظرتنا إليهم بنظرته هو إلينا، وشوقنا إلى خلاصهم برحمته علينا الواهبة الحياة. ما نمارسه من حنو حتى نحو مضطهدينا يرتد إلينا مضاعفًا على مستوى سماوي فائق!
"أنظر يا رب فإني أحببت وصاياك،
فبرحمتك يا رب أحيني" [159].
* هذه (الوصايا) قدمتني للموت، فأحيني.
القديس أغسطينوس
لم يقل داود النبي "أنظر فإني قد تممت وصاياك" لأنه يعلم تمامًا أنه مقصر وله ضعفات، لكنه يقول "قد أحببت وصاياك"، مجاهدًا في تنفيذها.
"بدء كلامك حق،
"وإلى الأبد كل أحكام عدلك" [160].
* من الحق تصدر كلماتك، فهي صادقة ولا تخدع إنسانا، وفيها تُعلن الحياة للأبرار والعقوبة للأشرار. هذه أحكام برّ الله الأبدية.
القديس أغسطينوس
يرى العلامة أوريجينوس أن بدء كلام الله هو وعده لأبينا إبراهيم، وقد حقق ما وعد به إذ صار نسله الروحي مثل نجوم السماء ورمل البحر، ومن نسله جاء ربنا يسوع المسيح الذي بارك الأمم الذين آمنوا به.
من وحي المزمور 119(ر)
نظراتك الإلهية تملأني سلامًا!
* أنظر إليّ في ضيقي،
نظراتك تنقذني وتهبني سلامًا وبهجة.
نظراتك مملوءة حنانًا عمليًا،
تترفق بي، وتعمل من أجلي،
وتهبني حياة أبدية!
* هب لي أن اعترف بخطيتي،
مقدمًا التوبة عنها،
فلا يكون خلاصك بعيدًا عني!
لأطلب الحق الإلهي... أنت هو الحق!
* رأفاتك كثيرة جدًا يا مخلص العالم،
لكن الأشرار يجنحون عنها ولا يبالون بها!
يحرمون أنفسهم من الخلاص،
ويضطهدون من يطلبون خلاص أنفسهم!
هذا ما ملأ نفسي حزنًا وكآبة!
لا أخشاهم لكنني أخاف عليهم!
* لأنني مملوء حنوًا حتى على مضطهديَّ!
لتنظر إليّ وترد حنوي عليهم بحنوك عليَّ!
فإن هذا هو وعدك الإلهي،
وهذا هو الحق الأبدي!