حب القنية
إذا ما التزمنا المنهج الأصيل حسبما تسلمنا من الآباء، فإن التجرد هو سمة المسيحي الحقيقي، إذ يكتفي من الطعام بما يسد الرمق، ومن الثياب ما يستر عريه، ومن حطام الدنيا بما هو ضروري فقط، بل ومقتنياته بكاملها إذا سرقت فلن يكون هناك ما يحزن عليه، فالمهم هو الإنسان نفسه.. محتواه الداخلي.. وليس ما يجمعه حوله مثل الغني الغبي، فالغني الحكيم هو ذاك الذي تعنيه محبته للمسيح ومحبته للآخرين وزينته الداخلية، وأما الغبي فهو الذي يجعل رجاءه واتكاله علي غني العالم.
في دير البرموس عاش راهب يدعي "الأب تادرس الأنبا بولا" هذا كان يحتفظ بصندوق خشبي صغير خارج قلايته، وكان الرهبان يضعون له فيه الطعام وأنصبته مما كان يوزع علي الآباء من بركة، وكان هو يترك ما فيه حتى يفسد في أغلب الأحوال، فإذا أراد أن يأكل شيئًا، كان يخرج ويأكل بعضًا مما ُترك له وهو واقف في مسكنة، إذ لم يكن يُدخل قلايته طعامًا.. كان له في قلايته عملًا أهم!.
أتذكر أيضا أنني كنت في زيارة راهب في قلايته، وهناك لاحظت أنه لا يمتلك كتبًا سوى واحد أو اثنين يضعهما فوق الحصير ليقرأ فيهما، فلما سألته عما إذا كان يحتفظ بمكتبة في قلايته، أجاب بأن كل كتاب يوجد في قلايته ولا يقرأ فيه فهو شاهد عليه ودائن (ديان) له!! وقديما بكَّت أحد شيوخ الرهبان راهبًا لأنه كان يحتفظ بالكثير من الكتب (المخطوطات) في قلايته، فقال له: لقد أخذت قوت الفقراء وملأت به طاقات قلايتك!!
وكلما استنار الإنسان أو المكرس أو المسيحي بشكل عام، وصار ممتلئًا من الداخل فإن ذلك سيجعله مع الوقت يزهد فيما حوله من حطام هذا العالم يروي قداسة البابا شنودة الثالث القصة التالية عن حب القنية فيقول: تنيّح أحد شيوخ الرهبان، وكانت قلايته ممتلئة بأشياء كثيرة بعضها ضروري والأخر عادي وغير ذي أهمية، وما أن دفن الأب في طافوس الدير، حتى قال أب الدير للآباء: من له احتياج إلي شيء من هذه القلاية فليأخذه، وفي دقائق معدودة كان أكثر الرهبان عائدون إلي قلاليهم وفي يد كل منهم شيئًا علي سبيل البركة من القلاية،وهكذا لم تمر ساعات قلائل علي نياحته حتى كانت قلايته قد أصبحت خالية تمامًا من محتوياتها، ليتولي البعض تنظيفها وإعدادها لراهب آخر يسكنها!!