سراج الجسد هو العين
أكمل السيد المسيح تعاليمه السامية فقال: "سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا. فإن كان النور الذي فيك ظلامًا، فالظلام كم يكون؟!" (مت6: 22، 23).
العين البسيطة
وقد أورد السيد المسيح هذا التعليم بعد كلامه مباشرة عن أهمية عدم تكوين كنوز على الأرض بل في السماء، ثم أضاف بعد الكلام عن العين البسيطة كلامه عن عدم الارتباك في خدمة سيدين وهما الله والمال، لأنه لا يقدر أحد أن يخدم سيدين.
وبهذا نفهم أن السيد المسيح قد ربط بين العين البسيطة وبين عدم الطمع، والبعد عن محبة العالم الناتجة عن شهوة العين. وهذا ما تؤكده كلمات القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى: "لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم. إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب. لأن كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم. والعالم يمضى وشهوته وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد" (1يو2: 15-17).
إن العين مثل باقي الحواس الخمس هي منفذ للأفكار التي تتولد منها الرغبات والشهوات. وبساطة النظرة معناها التعفف في النظر بالبعد عن الاشتهاء.
بساطة النظر هي أن يرى الإنسان ما يشير إلى الله في كل ما يراه، ولا يرى شيئًا سواه. فالبساطة هي عدم التركيب. وحينما تتداخل محبة العالم مع محبة الله؛ تفقد النظرة بساطتها لأنها تكون مركبة وليست بسيطة.
وكيف يرى الإنسان الله في كل ما يراه؟ إن هذا يتحقق حينما تملأ محبة الله قلب الإنسان أي حينما يحب الله من كل قلبه ومن كل فكره. ومن المعلوم أن "محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" (رو5: 5). هناك معونة إلهية من الروح القدس تمنحنا إمكانية النمو في محبة الله باستمرار.
فالذي يؤمن بالمسيح كمخلّص، وينال الولادة الجديدة بالمعمودية ويتأهل لانسكاب وسكنى الروح القدس في داخله، يصير قادرًا بمعونة الروح القدس على الانطلاق في محبة الله نحو الكمال، لكي يصل إلى المحبة الكاملة التي تحدّث عنها القديس يوحنا الرسول بقوله: "لا خوف في المحبة، بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج. لأن الخوف له عذاب، وأما من خاف فلم يتكمل في المحبة. نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولًا" (1يو4: 18، 19). وقد أوضح الرسول أن هذه المحبة تنشأ من عمل الروح القدس فينا بسبب إيماننا بالمسيح فقال: "بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا، أنه قد أعطانا من روحه. ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلّصًا للعالم،من اعترف أن يسوع هو ابن الله؛ فالله يثبت فيه وهو في الله. ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا. الله محبة ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه" (1يو4: 13-16).
الإنسان الذي يحب الله يستطيع أن يدرك قدرة الله في كل أعماله: يراه بعيني قلبه في جمال وإتقان الخليقة، ويراه في بذله ومحبته على الصليب، ويراه في تدبير العالم وحفظه.
حينما يرى الذهب لا تتحول نظرته إلى شهوة اقتناء المادة، بل يرى فيه ما يشير إلى صفات الله الذي لا يتغير وتكون هذه هي النظرة البسيطة.
وحينما يرى امرأة لا يتأمل في مفاتن جسدها، بل يرى عطية الله لآدم إذ خلق له معينًا نظيره، وبالمرأة أمكن أن يأتي المسيح من نسلها لخلاص العالم. فيرى في المرأة العذراء مريم في طهارتها، في عفتها، في أمومتها وهى قد صارت سماء ثانية حينما حملت الله الكلمة في أحشائها، وبهذا يستطيع أن يرى المسيح بعيني قلبه مولودًا من امرأة في ميلاد طاهر عذراوي.
وهكذا يستطيع الإنسان بنظرته البسيطة أن يدرك الله في كل ما يراه. ويتحقق فيه قول السيد المسيح: "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت5: 8). ومثل هذا الإنسان يتأهّل لرؤية السيد المسيح في مجد ملكوته الأبدي.