البخور البروتستانت لا يستخدمون البخور، ولا المباخر (المجامر) ويعتبرون ذلك من عبادات العهد القديم التي انتهت، لأنها في اعتقادهم كانت مجرد رمز. ونود هنا أن نستعرض تاريخ البخور قديما وحديثًا. ونري هل كان رمزا أم عملا روحيا قائما بذاته. 1) "قال الرب لموسى: وتصنع مذبحا لإيقاد البخور" (خر1:30). ويقدم الرب لنا هنا ملاحظة جميلة جدا. وهي أن البخور كان يعتبر في حد ذاته ذبيحة يقدمونها علي مذبح يسمي مذبح البخور. 2) وقد أهتم الرب بمذبح البخور اهتماما شديدا، فأمر أن يكون مغشي بالذهب من كل ناحية، وله إكليل من ذهب، ويحمل علي عصوين مغشيين بالذهب. ويوضع قدام الحجاب الذي أمام تابوت العهد (خر30: 3-6). حيث يجتمع الله بموسى. 3) كان يشترط في البخور أن يكون "بخورًا عطرًا". ويقول الرب في ذلك (ويوقد عليه هارون بخورا عطرا كل صباح) (خر7:30). وكذلك في العشية (بخورا دائما أمام الرب في أجيالكم) (خر8:390). وقد ذكرت مواد البخور العطرية في (خر34:30). وقيل عن هذا البخور (يكون عندك مقدسًا للرب) (خر37:30). بل قيل أكثر من هذا أنه (قدس أقداس) يكون عندكم (خر36:30). فلا يصنع أحد منه لنفسه. وقد تكررت عبارة البخور العطر في مواضع كثيرة من الكتاب، كما في (خر25) (خر29:37) (لا12:16). فكان البخور يمثل رائحة زكية عطرة تصعد إلي الرب. 4) قال البعض خطأ أن البخور كان يقدم مع المحرقات، لإزالة رائحتها. وقد ألغيت الذبائح الحيوانية، فألغي البخور. وهذا الفهم ليس سليمًا، فالبخور كان لونًا من العبادة مستقلا بذاته، وكان له مذبح خاص غير مذبح المحرقة، ولكن له طقس خاص في تقديمه. وكان مقصود لذاته كصلاة، وليس رمزا لشيء، كما سنري. 5) نلاحظ أنه عندما ضرب الرب لشعب بالوباء أوقد هارون رئيس الكهنه البخور بأمر موسى النبي، ليشفع في الناس أمام الله. ولما دخل في وسطهم وبخر انقطع الوباء وقبل الله منه هذا البخور كصلاة (عدد16: 44-48). ونلاحظ هنا أنه لم تقدم ذبيحة عنهم، إنما قدم البخور وحده، ولم يكن من أجل رائحة محرقات، إنما قدم للتكفير عن الشعب، كأنه ذبيحة (عد16: 46، 47). 6) من أهمية البخور، أنه ما كان يقدمه أحد سوي الكهنة فقط. وهو هنا يبدو مركز اعلي من الصلاة، لأن الصلاة يقدمها لله أي فرد من الشعب. ونلاحظ أنه لما تجرأ قورح وداثان وابيرام، وقربا بخورًا، انقلبت الأرض وابتعلتهم جميعًا أحياء، هم وكل بيوتهم (عد16: 31، 32). ولم يكن بسبب تقديمهم ذبيحة، وإنما لتقديمهم بخورًا، مع أنهم من سبط لاوي.. 7) ومن أهمية البخور، أنه كان يقدم في مجامر من ذهب كما ورد (عب4:9). وكما قيل عن الأربعة والعشرين قسيسًا أنه كانت لهم (جامات من ذهب مملوءة بخورًا) (رؤ8:5). 8) وقد وردت نبوءة في سفر ملاخى النبي عن استمرار البخور وعدم اقتصاره علي العصر اليهودي. إذ قال الرب (لأنه من مشرق الشمس إلي مغربها اسمي عظيم بين الأمم. وفي كل مكان يقربون لاسمي بخورا وتقدمة طاهرة) (ملا11:1). وطبعًا العبادة وسط الأمم (فى كل مكان) لم تحدث إلا في العصر المسيحى. وبهذا يكون الرب قد جعل البخور من بنود العبادة المسيحية. 9) ومن اهتمام الرب بالبخور في العهد الجديد وردود مثالين عنه في سفر الرؤيا وهما: أ) * قيل عن الأربعة والعشرون قسيسًا (كاهنا)، إن لهم جامات من ذهب مملوءة بخورا هي صلوات القديسين (رؤ8:5). ب)* يقول القديس يوحنا الرائي (وجاء ملاك آخر ووقف عند المذبح، ومعه مجمرة من ذهب. وأعطي بخورا كثيرا، لكي يقدمه مع صلوات القديسين جميعهم علي مذبح الذهب الذي أمام العرش. فصعد دخان البخور مع صلوات القديسين من يد الملاك أمام الله) (رؤ8: 3، 4). 10) تعليقا علي عبارة (صعد دخان البخور مع صلوات القديسين) نقول إن حياة الكنيسة كلها بخور. بل أن الكنيسة شبهت في سفر النشيد بالبخور. وذلك حينما قال عنها الوحي الإلهي (من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر) (نش6:3). 11) ومن المواقف الجميلة أيضا في قصة تاريخ البخور في حياة القديسين: أن زكريا الكاهن ظهر له ملاك الرب وقفا علي يمين مذبح البخور فيما هو يبخر في دورته (لو1: 8-11). مما يدل علي قدسية هذا الموضع، وقدسية عملية التبخير. واستحقاق هذه المناسبة المقدسة لأن تصحب بالإعلانات الإلهية. وواضح من قصة نوبة زكريا الكاهن في التبخير، أن رفع البخور كان عملا قائما بذاته، غير مرتبط بتقديم ذبيحة أو محرقة. 12) من أهمية البخور في المسيحية. أن اللبان (مادة البخور) كان من الهدايا التي قدمها المجوس للسيد المسيح وكانت رمزا لكهنوته أو اعترافًا من المجوس بكهنوتة، كما كان الذهب رمزا لملكة والمر رمزا لآلامه. 13) للبخور معان كثيرة تشبع الحواس وتغذي النفس. وليس جميع الذين يحضرون إلي الكنيسة من المستوي الذي يشترط فيه عمق الروح وعمق التفكير.. فالأطفال مثلًا، الذي لا يدركون كثيرًا ما يُقال في العظات، وما يسمعونه من القراءات، حتى ما يسمعونه من الصلوات هؤلاء يتأثرون روحيًا بحواسهم من جهة البخور والشموع والأيقونات وتكون كدروس روحية لهم تنقلهم إلي جو روحي. وهكذا الكثير من العاوم، والمؤمنين العاديين غير المتبحرين في العلم والمعرفة وغير الدارسين لكتب اللاهوت. فماذا في البخور من معان روحية، ومن تأملات؟ 14) أول درس يتلقونه من البخور، هو قول الرب (من أضاع حياته من أجلي يجدها) (مت39:10). ومثال ذلك حبة البخور التي تحترق وتحترق، حتى تتحول إلي أعمدة معطرة دخان. وتبحث عنها في المجمرة كحبة بخور، فلا تجدها، إذ تكون قد قدمت ذاتها محرقة لله فالمحرقات ليست فقط من الذبائح، وإنما من البخور أيضا، الذي اعتبره الكتاب ذبيحة تقدم علي مذبح البخور، وتعطينا درسا وأي درس. فما أجمل أن يقدم الإنسان ذاته محرقة للرب. كل تقدمة أخري هي خارج الذات. أما تقدمة الذات فإنها أعظم التقدمات. وتقدمه الذات يمثلها وضع حبة البخور في النار. وقد قيل عن إلهنا أنه نار آكلة (تث24:4). وقد كان القديسون حبات من البخور وضعت في المجمرة الإلهية فاحترقت بمحبة الله. 15) والدرس الثاني في البخور هو الصعود إلي فوق باستمرار. لا يقبل البخور علي نفسه إطلاقا أن يقبع في أسفل، بل هو يرتفع في السماء، ويمتد وينتشر، ولا يتوقف مطلقا في صعوده، وفي انتشاره. وأنت إذا نظرت إلي البخور وتابعته، لابد أن ترفع عينيك إلي فوق إلي السماء، أردت أو لم ترد. هكذا كان البخور باستمرار يجذب حواس الناس إلي فوق. وكأنه سهم يشير إلي السماء باستمرار. 16) درس آخر للبخور: أنه يمثل الرائحة الزكية: ولهذا كان الكتاب يشترط فيه أن يكون بخورا عطرا. كل من يشم هذا البخور يتذكر أن حياة الإنسان ينبغي أن تكون عطرة الرائحة أمام الله. وكما قال الكتاب (لأننا رائحة المسيح الزكية لله..) (يظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان) (2كو2: 15، 14). 17) ومن أجمل ما في البخور من تأملات أنه يذكرنا بالضباب أو السحاب الذي كان الله يظهر فيه. وكما قال الرب (لأني في السحاب أتراءى علي الغطاء) (غطاء تابوت العهد) (لا2:16). وهكذا وردت في سفر اللاويين عبارة (سحابة بخور) (لا13:16). وقيل عن هارون رئيس الكهنة (يأخذ ملء المجمرة نار عن المذبح من أمام الرب، وملء راحتيه بخورًا عطرًا، ويدخل بهما إلي داخل الحجاب. ويجعل البخور علي النار أمام الرب، فتغشي سحابة البخور الغطاء الذي علي الشهادة فلا يموت (لا 16: 12، 13). وكان الله في إرشاد شعبه في العهد القديم، سواء في خيمة الاجتماع، أو في الهيكل، أو في برية سيناء، يظهر للناس في السحاب، أو في الضباب، وكان إرشاده للشعب في برية سيناء، علي هيئة سحابة تظللهم في النهار، تمثل الله وهو يظلل عليهم، فإذا تحركت السحابة يعرفون أن الله يحركهم فيتحركون، وإن وقفت السحابة يقفون) (عدد17:9). وهكذا قيل (وكانت سحابة الرب عليهم نهارًا في ارتحالهم) (عدد34:10). 18) وفي مجيء المسيح إلي مصر، قيل إنه علي سحابة (أش1:19). وكانت السحابة ترمز إلي العذراء، وكانت العذراء رائحة بخور صعدت إلي فوق. وفي مجيء المسيح الثاني سيأتي أيضا علي السحاب (مت30:24). فالسحاب كان يمثل حضور الله في العهدين القديم والجديد. 19) وفي قصة التجلي نجد مثالًا لحضور الرب في السحاب: لقد قيل إنه بينما كان السيد المسيح يكلم تلاميذه الثلاثة (كانت سحابة تظللهم. فخافوا عندما دخلوا في السحابة. وصار صوت من السحابة قائلًا: هذا هو أبني الحبيب. له اسمعوا) (لو9: 34، 35). 20) وهكذا كان الرب يكلم موسى من السحاب. حينما كلم الرب موسى يقول الكتاب (فصعد موسى إلي الجبل. فغطي السحاب الجبل. وحل مجد الرب علي جبل سيناء، وغطاء السحاب ستة أيام. وفي اليوم السابع دعي موسى من وسط السحاب) (خر24: 15، 16). وبالمثل حينما كان يكلمهم من خيمة الاجتماع، وكان يغطيها السحاب أو الضباب. 21) نفس الأمر نجده في تدشين هيكل سليمان. يقول الكتاب (وكان لما خرج الكهنة من القدس، أن السحاب ملأ بيت الرب ولم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب السحاب. لأن مجد الرب ملأ البيت. (حينئذ تكلم سليمان: قال الرب أنه يسكن في الضباب...) (1مل12:8). 22) فالبخور يمثل سحابا أو ضبابا يذكر بحلول الله أو مجد الله. وفي (مز2:97) من مزامير الساعة التاسعة يقول (السحاب والضباب حوله. ركب علي السحاب وطار. وطار علي أجنحة الرياح). البخور إذن فيه الكثير من المعاني الروحية لمن يحب أن يستفيد منه وهو لون من العبادة، قائم بذاته، لم يكن مرتبط بالذبائح بحيث يزول بزوالها. 23) وأخيرا نقول انه لا يوجد نص واحد في العهد الجديد يأمر بإلغاء البخور. (من له أذنان للسمع فليسمع، ما يقوله الروح للكنائس) (رؤ3:2).