اجلس مع نفسك
أنت تريد أن تتوب. هذا حسن جدا. الله أيضًا يريدك أن تتوب ألانه "يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تى 2: 4). ولكن يبقى السؤال أمامنا هو:
تتوب عن ماذا؟ وكيف تتوب؟
لذلك فأنت محتاج أن تجلس إلى نفسك، لأنك واحد من اثنين:
1- إما أنك لا تحس ما أنت فيه من خطأ. لا تعرف حالتك بالضبط، ولا تدرك أخطاءك، ولا عمقها وبشاعتها، لأن دوامة المشغوليات والاهتمامات تجذبك إليها باستمرار، وأنت غارق فيها تمامًا.. ليس لديك وقت أن تفكر أو نفسك وفي روحياتك، وربما لم يخطر هذا الموضوع على فكرك!
فأنت إذن محتاج أن تجلس إلى نفسك، لتدرك حالتك وتعرف أخطاءك.
2-أو أنت تعرف أخطاءك، أو تعرف البارز منها. ولكن ليس لديك وقت ولا فرصة، لكي تفكر كيف تترك هذه الأخطاء، وكيف تعالجها.. فقبل أن يدور بذهنك أن تعالج خطأ معينًا، تكون قد وقعت فيه مرة أخرى، أو وقعت في غيره أو في ما هو أبشع منه.. والأخطاء والخطايا تحيط بك من كل ناحية. وليست هناك فرصة للتخلص منها.
فأنت محتاج إذن أن تجلس أيضًا إلى نفسك لكي تعالجها.
إنك تشبه مريضا: إما أنه لا يحس ما فيه من مرض، أو يدرك أنه مريض، ولكنه يحتاج إلى كشف وتشخيص دقيق وعلاج
أتحتاج أن يجلس إلى أجهزة التحليل، وإلى كشف الأشعة، ومعرفة ما يدور في داخله بالضبط، ونوعية ومدى خطورة أمراضه. وهو يحتاج أيضًا أن يعرف العلاج، ويمارسه لكي يشفى، وأن يتابع هذا العلاج طبيب حكيم خبير بالأمراض وعلاجها.. وهذا كله لا يتأتى للمريض إلا إذا أنتزع نفسه من جميع مشغوليته مهما كانت أهميتها، وجلس إلى أجهزة التحليل والأشعة لمعرفة نفسه ن بعيدا عن الناس0 وهنا تبدو أهمية الجلوس مع النفس روحيا..
ولكن ما هو برنامج هذه الجلسة الروحية وعمل الإنسان فيها؟
إنها جلسة هدفها التوبة وتنقية النفس. وذلك بأن تكتشف خطاياك وضعفاتك، وتلوم نفسك عليها. ثم تعرف أيضًا أسباب سقوطك، سواء أكانت أسبابا خارجية تضغط عليك، أو أسبابا داخلية تسعى فيها أنت إلى الخطية، أو هي طباع وعادات أو تأثر بآخرين.. وتحاول أن تتحاشى كل هذا وتبعد عنه أو تعالجه
وفى هذه الجلسة تعرض ضعفاتك وخطاياك على الله..
تعرض عليه كل ضعفاتك، لكي تنال منه القوة، وتعرض عليه في ندم كل خطاياك، ليهبك الحل والمغفرة
تعرضها وأنت تقول للرب فلا صلاة منسحقة، ما سبق أن قاله داود: "انضح على بزوفاك فاطهر، واغسلني فأبيض أكثر من الثلج" (مز 50). ثم تخرج من هذه الجلسة، لكي تعترف بهذه الخطايا أمام الأب الكاهن، لكي يقرأ لك صلاة الجلسة، ويرشدك بما يلزم، ويسمح لك بالتناول.
وفى جلستك الروحية مع نفسك، تعزم في قلبك عزمًا أكيدا على ترك الخطية، بكل رضى واقتناع داخلي..
فأنت لا تقصر جلستك فقط على بحث الماضي والندم عليه، ولوم النفس وتبكيتها على سقوطها.. إنما أنت أيضًا في جلستك مع نفسك:
تضع خطه حكيمة للمستقبل من واقع حالتك واختباراتك..
وتصمم في أعماقك أن تسلك فيها بتدقيق شديد، وبجدية والتزام وفي هذا العزم على حياة نقية في المستقبل، لا تته وسط تفاصيل عديدة، إنما اهتم أولا بنقط الضعف الواضحة التي فيك، وبالفضائل الأمهات التي تحوى داخلها باقي الفضائل.. فإنك إن أدركت واحدة منها في عمقها -كمحبة الله مثلًا- أدركت الحياة الروحية كلها.
وهذا العزم المقدس، لابد أن تعرضه على الله ليباركه ويقويك.
وأنا أنصح أن هذا لا يكون نذرًا تنذره كما يفعل البعض. ولا يكون استنزالا للويلات على نفسك، كما يقول البعض "يفعل بي الله ويزيد، إن فعلت هذا مرة أخرى في المستقبل.."
فهذه النذور والويلات، قد تحوى في داخلها اعتمادًا على ذراعك البشرى.
كأن لك القوة الذاتية التي تستطيع أن تنفذ بها ما تعد الله به، مهما كانت العقبات والحروب التي تصادفك. وما أكثر من وعد الله وعودا، ولم ينفذ. ثم عاد ليقول في حزن:
كم وعدت الله وعدًا حانثا ليتني من خوف ضعفي لم أعد.
إنما الأمر لا يعدو أنها رغبات مقدسة، تعرض فيها إرادتك وعزمك أمام الله، ليعطيك قوة على التنفيذ، لأنك بدونه لا تستطيع أن تفعل شيئًا (يو 15: 5). وهكذا تتحول جلستك مع نفسك إلى صلاة تطلب فيها القوة للسير في حياة التوبة ونقاوة القلب..
ولا شك أن الشيطان يقاوم بكل قوته جلوسك مع نفسك. لأنه يخشى أن تفلت من سيطرته، عن طريق أمرين:
أ-إنه يخشى أن تجلس مع نفسك، فتدرك سوء حالتك حالته الروحية، فتفكر جديا في التوبة، وبهذا تفلت من يده.
ب-يخشى إن جلست مع نفسك، أن تجلس مع الله أيضًا، وتنال منه قوة روحية لا يقوى الشيطان على مقاومتها، فتغلبه بهذه القوة الإلهية.
والشيطان جرب أن كثيرين، جلسوا مع أنفسهم فتابوا.. وكمثال لهؤلاء قصة الابن الضال (لو 15: 11-24).
لما كان هذا الابن الضال مشغولا مع أصحابه، استمر في ضلاله، إذ لم يكن لدية وقت ولا رغبة للجلوس مع نفسه..
ولكن كيف إذن بدأت قصة توبته؟ تلك القصة التي استحقت أن تسجل في الإنجيل من فم الرب نفسه.
بدأت لما جلس إلى نفسه في يوم ما، وفحص حالته، وفكر في حياته وفي الوضع الذي وصل إليه. وأدرك الحقيقة المرة
أدرك -في جلسته مع نفسه- مقدار سوء حالته التي انحدر إليها.. فقالت "كم من أجير عند أبي بفضل عنه الخبز، وأنا هنا أهلك جوعًا"..ولكن هل مجرد إدراك سوء الحالة يكفى؟ كلا. إنما لابد من الوصول إلى جل. وما هو الحل؟ قال "أقوم وأذهب إلى أبى، وأقول له "أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقا أن أدعى لك ابنًا. اجعلني كأحد أجرائك" (لو 15: 17 - 19).
لقد أدرك سوء حالته، وعرف الحل، ووصل إلى قرار، ونفذ..
نفذ في الحال، إذ يقول الكتاب بعدها مباشرة "فقام وجاء إلى أبيه.." (لو 15: 20). وبدأ حياة جديدة اصطلح فيها مع الآب..
ويقينا لو لم يجلس الابن الضال هذه الجلسة المصيرية مع نفسه، ما كان قد وصل إلى القرار وإلى التوبة والانسحاق والرجوع والتصالح، والخروج من قبضة الشيطان، إلى حيث لبس الحلة الأولى..
مثال آخر هو القديس أوغسطينوس..
إنه لم يستطيع أن يتوب وهو في دوامة المشغوليات، دوامة الصحاب والخطية واللذة، ثم دوامة الفلسفة والفكر.. ولكنه لما جلس إلى نفسه، تلك الجلسة العميقة. استطاع أن يصل إلى الإيمان وإلى التوبة، ويرجع إلى الله، ويفلت إلى البد من قبضة الشيطان، ويصير بركة لكثيرين.
إنها ليست مجرد جلسة عادية،إنما هي جلسة مصيرية..
صدقوني إن أهم عمل للآباء والمرشدين والوعاظ، هو دعوة كل إنسان خاطئ إلى الجلوس مع نفسه في حضرة الله، وفي ضوء وصاياه، مثلما فعل أوغسطينوس أو الابن الضال الذي حسنا قيل عنه إنه "رجع إلى نفسه" (لو 15: 17).