مزمور 72 - تفسير سفر المزامير
مملكة المسيح مخلص العالم المجيدة
ركز المزمور السابق على برّ الله الأمين في وعوده الصادقة نحو مؤمنيه المتألمين. هنا يكشف المرتل بروح النبوة عن مملكة المسيح المهتم بخلاص البشر، والذي يرد لهم المجد المفقود.
الصورة المقدمة هنا عن الملك ومملكته تقترب جدًا من النبوات الواردة بخصوص السيد المسيح في إش 11: 1-5؛ إش 60-62.
يعتبر هذا المزمور خاتمة القسم الثاني من سفر المزامير الذي يطابق سفر الخروج (مز42-72)، والتي تتحدث عن الخلاص كحياة كنسية جماعية. جاءت مقدمة هذا القسم (مز42-48) تعلن عن الأم الكنيسة شعب الله وخلاصها وهذا يطابق بداية سفر الخروج (1-15)، وجاء هذا المزمور الختامي يطابق ما ورد في نهاية سفر الخروج (25-40) حيث يعلن عن إقامة خيمة الاجتماع وظهور مجد الله علانية فيها كقصرٍ للملك السماوي، يريد أن يسكن وسط شعبه.
هنا في نهاية هذا القسم من سفر المزامير ننعم بمملكة ابن داود، مملكة المسيَّا مخلص العالم.
يُقال إن هذا المزمور كان يُستخدم في الكنيسة الأولى كتسبحة في عيد ميلاد السيد المسيح وعماده، فتحتفل بقبول الأمم لمملكة المسيح والخضوع له، كما تتذكر مجيء المجوس من الأمم للخضوع للملك.
أقسامه
1. دستور المملكة: البرّ
1-4.
2. مملكة بلا نهاية
5-7.
3. مملكة بلا حدود
8-11.
4. مملكة حب
12-14.
5. مملكة مباركة
15-17.
6. مملكة تسبيح
18-20.
من وحي مز 72
العنوان
لِسُلَيْمَانَ: يرى البعض أن الكاتب هو سليمان الحكيم، أو على الأقل هو الذي وضعه في قالبه الشعري. غير أن كثير من الدارسين يرون أن الكاتب هو داود النبي بخصوص سليمان الملك في عيد تجليسه كرمزٍ للسيد المسيح، فهو
مزمور رمزي مسياني.
نقف في دهشة أمام داود الملك الشيخ، وهو يحتفل بتجليس ابنه سليمان ملكًا، فإن ما يشغل قلب داود وفكره ليس ابنه سليمان الحكيم، وإنما الملك الحقيقي المسيَّا المخلص، الذي يقيم مملكته الإلهية في قلوب البشرية لكي تتمتع ببرِّه، وتختبر الحياة السماوية المطوبة.
يتطلع كثير من علماء اليهود إلى هذا المزمور بكونه مسياني. ظن اليهود أن هذا المزمور خاص بالملك سليمان بن داود، يقدمه المرتل داود لله، لكي يفيض ببركاته على الملك الشاب سليمان كما على الشعب. غير أننا نرى بعض العبارات لا تنطبق على سليمان، إلا بكونه رمزًا للسيد المسيح:
ا.
يحكم أبديًا.
ب.
يحقق السلام حيث وحَّد الأمم، مقدمًا للجميع سلامه. وكما جاء عنه في الرسالة إلى أهل أفسس أنه سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا، ونقض الحجاب الحاجز.
ج.
جعل البعيدين أهل بيت الله.
د. جاء شرح هذا المزمور في الترجوم اليهودي أنه خاص بالمسيَّا. يقول: [اللهم أعطِ مشورات أحكامك للملك مسيَّا، وبرَّك للملك ابن داود.] كما جاء فيه شرح للعدد 17 بخصوص اسم الملك هكذا: [يُذكر اسمه إلى الأبد، وقبل أن توجد الشمس كان معدَّا، وجميع الأمم تتبارك باستحقاقه.]
هـ. جاء في التلمود والمدراس أن الكلمة المترجمة
"يمتد" [17] هي بالعبرية
yinnon ومعناها سيدوم، وهي أحد أسماء المسيَّا، حتى أن الربيِّين يقولونها سرّا ويشرحونها "أي المسيَّا"، وأنه دُعي هكذا لأنه سيجعل النائمين تحت التراب يقومون من الأموات.
إلى مجيء السيد المسيح كان اليهود يظنون أن هذا المزمور وأمثاله تشير إلى المسيَّا الملك الذي يملك على الأرض. فلا نعجب إن كانت الجموع أرادت أن تقيم يسوع المسيح ملكًا. بل والرسل أنفسهم إلى لحظات ما قبل صعوده "سألوه قائلين: يا رب هل في هذا الوقت ترد إلى إسرائيل". وأخيرًا بعد صعوده وحلول روحه القدوس عليهم تذوَّقوا عربون ملكوته السماوي، وأدركوا قوله الإلهي: "مملكتي ليست من هذا العالم".
* "سليمان" تفسر "صانع سلام"، ولهذا فإن مثل هذه الكلمة موجهة إلى ذاك الذي بالحق تنطبق الكلمة عليه، والذي به تنم الوساطة لغفران الخطايا، نحن الذين كنا أعداء صولحنا مع الله. "ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه" (رو 5: 10). هو نفسه صانع سلام... فإننا إذ نجد سليمان الحقيقي، أي صانع السلام الحقيقي، فعلينا أن نلاحظ ما يعلمنا به المزمور خاص به
[1].
1. دستور المملكة: البرّ
اللهُمَّ، أعْطِ أَحْكَامَكَ لِلْمَلِكِ،
وَبِرَّكَ لاِبْنِ المَلِكِ [1].
لا ينطبق هذا القول على شاول بن قيس، ولا على داود بن يسَّى، لأن كليهما ليسا ابنيّ ملك، إنما ينطبق على سليمان بكونه ملكًا، وفي نفس الوقت هو ابن ملك.
* يقول الرب نفسه في الإنجيل: "الآب لا يدين أحدًا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن" (يو 5: 22). هذا إذن هو "اللهم، أعطِ أحكامك للملك". ذلك الذي هو الملك أيضًا هو ابن الملك، فإن الله الآب بالتأكيد الملك. هكذا مكتوب أن الملك صنع عرسًا لابنه (مت 20: 2)[2].
* يليق بنا أن نتبع طريق الملك، ولا نميل من أي جانب، لا إلى حقلٍ ولا إلى كرمٍ (عد ٢١: ٢٢)، بمعنى أنه يجب ألاَّ يميل عقل المؤمنين إلى الأعمال الشيطانية أو أفكارهم[3]
.
العلامة أوريجينوس
* لقد أحيا الإنسان فيه، فإنه لأجل هذا اتحد الكلمة بالإنسان، حتى لا تعود تملك اللعنة التي ضد الإنسان. هذا هو السبب الذي لأجله سجل (الأنبياء) الطلب المُقدم لحساب البشرية في المزمور الواحد والسبعين (٧٢): "اللهم أعطِ أحكامك للملك"، سائلين أن يُسلم حكم الموت الذي صدر ضدنا للابن. عندئذ إذ يموت عنا يبطله فيه. هذا ما عناه حين قال بنفسه في المزمور السابع والثمانين: "عليَّ استقر غضبك" (مز ٨٨: ٧). فقد حمل الغضب الذي حلّ علينا[4]
.
* ينطبق هذا القول على سليمان بن داود وعلى ربنا يسوع المسيح له المجد. أما سليمان فيُدعى ملكًا، لأنه استولى على المملكة اليهودية، وهو ابن ملك، لأن أباه داود ملك، طلب من الله لابنه حكمة وعدلًا ليحكم بالعدل للشعب. أما ربنا فهو أيضًا ملك، لأنه إله أزلي، وملكه دائم، ويُقال عنه إنه ابن ملك، بكونه ابن الله. وأما حسب الجسد فهو من ذرية داود الملك. دعاه يعقوب رئيس الإيمان أسدًا وشبلًا. ودعاه يهوذا، لأنه ملك ابن ملك، من سبط يهوذا. جاء عنه في نبوة إشعياء أنه يسند الكرسي بالرحمة، ويجلس عليه حقًا في مسكن داود حاكمًا وطالبًا للحكم، ويجازي سريعًا بالعدل...
قوله: "
لأعطِ حكمك للملك" معناه أنك أيها الإله الآب كما حكمت بإرسال ابنك لخلاص العالم، كما أعلن روحك القدوس، فتمم ما قد حكمت به، وأرسله إلى العالم. فالمسيح بما أنه هو الله ذاته فهو عنصر العدل، لكن بما أنه إنسان أيضًا يُقال عنه أنه أخذ عدلًا من الآب. ويدعو الذين آمنوا من اليهود شعبه، لقوله في إشعياء: "هذا الشعب يقترب مني بفمه". أما الفقراء هنا فهم الأمم الذين كانوا عديمي الخبرة الإلهية.
يَدِينُ شَعْبَكَ بِالعَدْلِ،
وَمَسَاكِينَكَ بِالحَقِّ [2].
الملك الذي ينعم بأحكام الله وبرّه يهتم بالشعب بكونه شعب الله المؤتمن عليه. يسلك معه بروح البرّ والحب، ويهتم بالمساكين أي بالمظلومين.
لا يطيق الله ظلم الرؤساء والحكام، سواء الدينيِّين أو المدنيين: "الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم. وأنتم قد أكلتم الكرم. سلب البائس في بيوتكم، ما لكم تسحقون شعبي، يقول السيد رب الجنود؟" (إش 3: 14-15). "اسمعوا هذا أيها المتهممون المساكين لكي تبيدوا بائسي الأرض" (عا 8: 4).
يرى
القديس أغسطينوس أن التكرار هنا مع ذكر كلمتي "شعبك" و"مساكينك"، إنما تعني أن شعب الله مساكين بالروح. [بالحقيقة بهذا يُظهر أن شعب الله يلزم أن يكونوا مساكين أي غير متشامخين، بل متواضعين. فإنه طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات (مت 5: 3). كان أيوب فقيرًا بهذا الفقر حتى قبلما يفقد غناه الأرضي العظيم. فإنه يلزمني أن أشير إلى هذا، لأنه يوجد أشخاص مستعدون أن يوزعوا كل مالهم على الفقراء، ولكنهم لا يريدون أن يكونوا هم أنفسهم مساكين الرب. إذ يفتخرون في تشامخ، ظانين أن حياتهم الصالحة تُنسب إليهم لا إلى نعمة الله. بهذا لا يعيشون حسنًا مهما فعلوا من أعمال صالحة كما يبدو لهم
[5].]
تَحْمِلُ الجِبَالُ سَلاَمًا لِلشَعْبِ،
وَالآكَامُ بِالبِرِّ [3].
الملك الذي يسلك ببرَّ الله تمتلئ مملكته بالسلام. وكما قيل عن سليمان: "هوذا يولد لك ابن يكون صاحب راحة، وأُريحه من جميع أعدائه حواليه، لأن اسمه يكون سليمان، فاجعل سلامًا وسكينة في إسرائيل في أيامه" (1 أي 22: 9). وقيل عن السيد المسيح: "فيقضي بين الأمم، وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمةٍ سيفًا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد" (إش 2: 4). "لنمو رياسته وللسلام لا نهاية" (إش 9: 7). "ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك 9: 10).
يرى
القديس أغسطينوس أن السلام والعدل (البرَّ) متلازمان، وأن من يتمتع بالسلام الحقيقي يتمتع بالعدل أيضًا. كما يرى الجبال تشير إلى العظماء (المهتمين بخلاص الآخرين)، بينما تشير التلال إلى من هم أقل منهم. وكما قيل في مزمور آخر: "عند خروج إسرائيل من مصر... الجبال قفزت مثل الكباش، والآكام مثل حملان الغنم" (مز 114: 1، 4).
* أولئك المتفوقون في الكنيسة لسلوكهم بالقداسة هم الجبال. إنهم مهمون لتعليمهم الآخرين (2 تي 2: 2). بحياتهم هكذا يتمثل الآخرون بهم لنفعهم. أما الآكام فهم الذين يتبعون سمو السابقين خلال طاعتهم لهم... لكِلا الاثنين (الفريقين) العدل والسلام لازمان، ويمكن للعدل أيضًا أن يُدعى سلامًا. فإن هذا هو السلام الحقيقي، الذي يختلف عن ذاك الذي يقوم بين الظالمين.
يرى
الأب أنثيموس الأورشليمي أن الجبال هنا والتلال طغمات سماوية متباينة، هذه التي لم تكن تتردد بكثرة على الشعب قبل
تجسد الكلمة، أما بعد التجسد فصارت في أُلفة مع شعب المؤمنين، وصار الشعب في سلام، لأن دم حمل الله - يسوع المسيح - رفع الخطية الحاجزة بين الطغمات السماوية والشعب، فاتحد السمائيون مع الأرضيين وصار الكل كنيسة واحدة. كما يرى أيضًا أن الأمم كانت تقدم ذبائح للأصنام على الجبال والتلال وكل أكَمة مرتفعة، أما وقد آمنت بالسيد المسيح فزالت عبادة الأوثان، وامتلأت الجبال سلامًا للشعب، والتلال عدلًا وبرًا.
* يقول النبي "
جبالًا" و"
تلالًا" عن رتب الملائكة، الذين منهم أوائل "الجبال" ومنهم من بعدهم "التلال". فإنهم لم يكونوا يترددون مع الشعب، ولكن بعد تجسد ربنا صاروا في أُلفةٍ مع شعب المؤمنين، وصار سلام للشعب. لأن دم حمل الله يسوع المسيح
رفع الخطية الحاجزة بينهم وبين الناس، وضمّ السمائيِّين والأرضيين وصيَّرهم كنيسة واحدة. وأيضًا صار فرح عظيم للملائكة بتوبة الخطاة.
هذا ويأمر الروح القدس
المرتفعين بالفضيلة مثل موسى وسائر الأنبياء أن يصيروا في صُحبة الشعب، أعني مع الذين آمنوا من الأمم. بمعنى أن عابدي الأصنام كانوا يذبحون لآلهتهم على الجبال والتلال، وعلى كل أكَمة مرتفعة. فِعْلهم هذا كان يغضب الله، لأنهم تركوه، وهو الإله الحقيقي، وعبدوا المخلوقات. ولكن لما آمنوا بالمسيح الإله زالت معابد الأصنام، وبنيت هياكل لله. بهذا تحمل الجبال سلامًا للشعب، والآكام البرّ.
يَقْضِي لِمَسَاكِينِ الشَعْبِ.
يُخَلِّصُ بَنِي البَائِسِينَ وَيَسْحَقُ الظَالِمَ [4].
"ويسْحق الظالم" أو
"ويذل الباغي"، إذ تمتع الكل - العبرانيون والأمم - بخلاص المسيح، تحطم عدو الخير الباغي أو الظالم، الذي سبق فملك على هؤلاء وأولئك ظلمًا، والذي لا يكف عن أن يشتكي ضد أولاد الله ويفتري عليهم بأكاذيب باطلة.
يرى
الأب أنثيموس الأورشليمي أن مساكين الشعب هم العبرانيون، الذين كانوا يلازمون أسفار الشريعة بغير فهمٍ روحي الذي هو الغنى الحقيقي. وأن بني البائسين هم الأمم. صار الفريقان أبناءً للرسل بالإيمان، إذ نالوا الميلاد الروحي. بهذا انسحق الظالم، أي الشيطان!
* "يقضي لمساكين الشعب، يخلِّص بني البائسين، ويسحق
المفتري" (مز 72: 4). بحق يُدعى الشيطان "
المفتري"، فقد افترى على الله، فبسبب الحسد اِدَّعى أن الله منع الأكل من شجرة (معرفة الخير والشر) ، وافترى على أيوب بأكاذيب، قائلًا: "هل حقًا مجانًا يتقي أيوب الله...؟ أبسط يدك الآن، ومس كل ما له، فإنه في وجهك يجدف" (أي 1: 9، 11). في المزمور الثامن أعطاه اسمين
"عدو ومنتقم
"، بينما يدعوه هنا (مز 72: 4) مفتريًا[6].
ثيؤدورت أسقف قورش
يرى
القديس أغسطينوس أن المساكين هنا وبني البائسين هم ذات الأشخاص، كأن نقول "صهيون" و"ابنة صهيون". لكن أن أردنا التمييز بينهما، فيمكن القول بأن المساكين هم الجبال، وبني البائسين هم الآكام.
2. مملكة بلا نهاية
يَخْشُونَكَ مَا دَامَتِ الشَمْسُ،
وَقُدَّامَ القَمَرِ إِلى دَوْرٍ فَدَوْرٍ [5].
القائد الروحي الحق يمجد الله وسط مرؤوسيه، يحمل مخافة الرب فيه. يخشونه كل أيام حياتهم، في النهار حيث تشرق الشمس، وبالليل حيث ينير القمر. يخشون الله في أفراحهم (الشمس)، كما في وسط ضيقاتهم (بالليل).
يترجمها
القديس أغسطينوس "يثْبتون مع الشمس". يظنونأن المسيحية لن تثبت إنما تظهر إلى زمنٍ معين ثم تزول. لكن المرتل يؤكد أنها تبقى إلى نهاية العالم، تحمل بهاء شمس البرّ، وتثبت الكنيسة (القمر) عبر كل الأجيال.
يَنْزِلُ مِثْلَ المَطَرِ عَلَى الجُزَازِ،
وَمِثْلَ الغُيُوثِ الذَارِفَةِ عَلَى الأَرْضِ [6].
يشير سليمان هنا إلى العلامة التي أُعطيت لجدعون، حيث طلب من الله أن يحدث طلّ على الجزَّة، وجفاف على الأرض كلها، وبعد ذلك طلب العكس أن يحدث جفاف على الجزَّة، ويكون طلّ على كل الأرض (قض 6: 37-40)، وقد حقق له الأمر.
يرى كثير من الآباء مثل
العلامة أوريجينوس[7]، والقديسان أمبروسيوس
[8] وأغسطينوس[9] والأب قيصريوس أسقف آرل[10]، أن الجزَّة تشير إلى اليهود الذين قبلوا كلمة الله خلال خدمة موسى كالطلّ، وكل الأرض تشير إلى الأمم التي قبلت كلمة الله وآمنت بالسيد المسيح في العهد الجديد.
فيما يلي مقتطفات مختصرة من تعليقاتهم على الجزَّة وكل الأرض.
* إذ تعرّف داود على حضوره بالتأنس قال: "سينزل مثل المطر على جزاز الصوف ومثل الغيوث الذارفة على الأرض"، إذ دخل إلى رحم العذراء بلطفٍ في غير ضجيج[11]
.
* يوجد مطر للنعمة النافعة، الواهب الصحة، كقول داود: "ينزل مثل المطر على الجزاز، ومثل الغيوث الذارفة على الأرض". لقد وعدتنا الأسفار الإلهية بهذا المطر ينزل على كل الأرض، يروي العالم بندى الروح الإلهي عند مجيء المخلص. الآن قد جاء الرب، وسقط المطر؛ جاء الرب وأحضر معه الغيوث السماوية. وها نحن الآن نشرب، نحن الذين كنا قبلًا عطاش، فنشرب من هذا الروح الإلهي بجفافٍ داخلي[12]
.
* "ينزل مثل المطر على الجزاز، ومثل الغيوث الذارفة على الأرض" (مز 72: 6). إنه يذكرنا وينصحنا أن ما حدث بواسطة جدعون القاضي يبلغ غايته في المسيح. لقد طلب من الرب علامة أن الجزة الملقاة على الأرض تبقى وحدها عليها المطر، والأرض نفسها جافة. مرة أخرى أن الجزة وحدها تبقى جافة، والأرض عليها طل، وقد حدث.
تشير الجزة الجافة... إلى شعب إسرائيل القديم. فقد جاء المسيح مثل المطر على الجزة، بينما بقيت الأرض جافة. عن هذا قال: "لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 15: 27). هناك في إسرائيل اختار أمًا من خلالها أخذ صورة عبدٍ لكي يظهر للبشرية. وهناك أعطى هذا الأمر لتلاميذه قائلًا: "إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 10: 5-6).
بقوله اذهبوا
أولًا إليهم أظهر أيضًا أنه بعد ذلك عندما تصير الأرض في طلّ، يذهبون إلى خراف أُخر، ليسوا من شعب إسرائيل السابق. عن هذا يقول: "ولي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراعٍ واحد" (يو 10: 16). ولهذا السبب يقول الرسول أيضًا: "وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء" (رو 15: 8). هكذا نزل المطر على الجزاز بينما بقيت الأرض جافة. بخصوص ذلك أكمل الحديث: "وأما الأمم فمجَّدوا الله من أجل رحمته" (رو 15: 8). وعندما جاء الوقت ليتحقق ما قاله بالنبي: "شعب لم أعرفه يتعبد لي، من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 43-44).
الآن نفهم أن أُمة اليهود بقيت جافة عن نعمة المسيح، بينما كل الأمم في كل العالم نزلت عليهم الأمطار من سُحب مملوءة بالنعمة المسيح
[13].
* إذ يسمع سليمان أباه داود ينطق بهذه الأمور، ويبني بيتًا عجيبًا، في دهشة يتساءل: هل يسكن الله حقًا على الأرض مع الإنسان؟! (1 مل 8: 27) بلى، يجيب داود متنبأ في المزمور المنسوب لسليمان: "ينزل مثل المطر على الجزَّة" (مز 72: 6).
"
مثل المطر" لطبيعته السمائية، و"
على الجزَّة" لناسوته. ولأن المطر ينزل على الجزاز بغير ضوضاء. لهذا فإن المجوس وهم لا يدركون سرّ الميلاد يتساءلون: أين هو المولود ملك اليهود؟ وإذ سمع هيرودس ذلك اضطرب، وأراد أن يعرف من هو هذا المولود فسأل: أين يولد المسيح؟![14]
* لسنا نكرز بمجيء واحد للمسيح بل وبمجيء آخر فيه يكون ممجدًا جدًا أعظم من الأول. المجيء الأول أظهر صبره، والثاني فيحضر معه إكليل مملكته الإلهية. لأن تقريبًا كل شيءٍ في ربنا يسوع المسيح يحمل جانبين: فله نسب مزدوج، مولود من الله قبل كل الدهور، ومولود من العذراء في ملء الدهر.
ونزوله مزدوج، واحد يأتي فيه مختفيًا، "مثل المطر على الجزاز" (مز 72: 6)، والآخر مجيء واحد مُنتظر.
في مجيئه الأول كان ملفوفًا بقماطات في المذود، وفي ظهوره الثاني يظهر "اللابس النور كثوبٍ" (مز 104: 2).
في مجيئه الأول "احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2)، وفي الثاني تحوطه جيوش الملائكة ممجدًا[15].
فنحن لا نستند على مجيئه الأول فحسب، وإنما ننتظر مجيئه الثاني أيضًا. وكما قلنا في مجيئه الأول: "مبارك الآتي باسم الرب" (مت 21: 9؛ 23: 39). سنردد أيضًا هذا في مجيئه الثاني. فإذ نتقابل مع سيدنا وملائكته، نتعبد له قائلين: "مبارك الآتي باسم الرب".
سيأتي لا ليُحكم عليه، بل ليدين من حاكموه. ذاك الذي صمت أثناء محاكمته يقول للأشرار الذين فعلوا معه هذه الجسارة: "هذه الأشياء صنعتم وسكت" (مز 50: 21).
إذن، قد جاء بتدبير إلهي معلمًا الناس بالإقناع، أما هذه المرة بالضرورة يقبلونه ملكًا حتى الذين لا يريدون![16]
* إن الذين يتساقط عليهم ندى روح الحياة "ينزل مثل المطر على الجزاز، ومثل الغيوث الزارفة على الأرض (مز 72: 6) تنجذب قلوبهم بحبٍ إلهيٍ للمسيح يأسرهم ذلك الجمال والمجد إلى اشتهاءٍ دائمٍ نحو المسيح.
القديس أبا مقاريوس الكبير
* لن يأتي المسيح الحقيقي، ابن الله الوحيد، بعد من الأرض، فإن جاء أحد صانعًا أعمالًا مزيفة في البرية لا تذهبوا وراءه. إن قيل: "هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدقوا". لا تعودوا تنظروا بعد إلى أسفل إلى الأرض، لأن الرب يأتي من السماوات، ليس وحده كما حدث من قبل، لكنه يأتي محاطًا بربوات الملائكة، ليس سرًا "كالمطر على الجزاز" (مز 72: 6). لكن يأتي بلمعان مثل البرق، إذ قال بنفسه: "لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا أيضًا يكون مجيء ابن الإنسان". وأيضًا: "يبصرون ابن الإنسان آتيًا على سحاب السماء بقوةٍ ومجدٍ كثيرٍ، فيرسل ملائكته ببوقٍ عظيم الصوت" (مت 24: 30)[17].
القديس كيرلس الأورشليمي
* وبينما كان الملاك منهمكًا في مثل هذه الأفكار قال له الرب: "لماذا أنت مضطرب وقلق يا جبرائيل؟! ألم تُرسل من قبل إلى زكريّا الكاهن؟! ألم تبعث إليه ببشائر مفرحة خاصة بميلاد يوحنا؟! ألم توقِّع على الكاهن المتشكك عقوبة الصمت؟! ألم تحمَل العاقر...؟ هل يوجد شيء غير مستطاع لديّ أنا خالق الكل؟! ألعلَّك أنت أيضًا تشك؟!"
فبماذا أجابه الملاك؟ إنه يقول: "إن شفاء فساد الطبيعة، ونزع الآفات الشرّيرة، واستدعاء الأعضاء الميّتة لقوّة الحياة، ونزع العقر عن الأعضاء التي تعدّت حدود الزمن الطبيعي، وتغيير الشيوخ - العود اليابس ليكون حيًا نشيطًا - وإنتاج حنطة في أرض يابسة للحال... هذه جميعًا تستلزم قوّتك... وها هي سارة ومن بعدها رفقة وأيضًا حنّة، هؤلاء يشهدن بعد ذلك إذ رُبِطن بمرض العقر فوهبت لهن البرء منه. أما أن العذراء تلد من غير أن تعرف رجلًا، فهذا فوق حدود كل قوانين الطبيعة. ومع هذا فأنت تُعلن عن مجيئك لعبدة! السماء والأرض لا يسعانك فكيف تسعك أحشاء العذراء؟!
يجيبه الرب: "نعم بالتأكيد لو أن النار التي كانت في البريّة أحرقت العلّيقة، لأمكن أن يكون مجيئي مضرًا لمريم". ولكن إن كانت تلك النار التي ترمز لمجيئي -نار اللاهوت السماوي- محيية للعلّيقة وليست حارقة لها، فماذا تقول عن الحق الذي ينزل، لا في لهيب نار، بل "ينزل مثل المطر" (مز 72: 6).
لذلك قدّم الملاك نفسه لحمل الرسالة، وتوجه إلى العذراء، وخاطبها بصوتٍ جهوريٍ، قائلًا: "السلام لك يا ممتلئة نعمة، الرب معك. لا يعود بعد الشيطان يضايقك. لأنه إذ أصابك العدو بجرحٍ[18] منذ القديم، جاء الآن يعلن عن الطبيب لكي يخلّصك. فقد جاء قبلًا "الموت" (خلال حواء)، والآن يعلن عن "الحياة". بامرأة جاء فيض الشرور، وبامرأة فاضت علينا البركات".
السلام لك... فإنكِ قد صرتٍ والدة الديّان والمخلّص في نفس الوقت.
السلام لك أيتها الأم الطاهرة للعريس الذي يفتقر إليه العالم[19].
القديس غريغوريوس صانع العجائب
* استعد أبناء إسرائيل وهيأوا أنفسهم، فحفظوا أنفسهم طاهرين لمدة ثلاثة أيام حسب وصية موسى (خر ١٩: ١٥-١٦)، حتى يتأهلوا لسماع صوت الله، وينظروا إعلانه. وإذ حلّ الوقت لم يستطيعوا استقبال رؤية نوره وعنف صوت رعوده. أما الآن حيث يسكب نعمته على العالم بمجيئه، ينزل لا في زلازلٍ، ولا في نارٍ، ولا صوتٍ مرعب قوي (١ مل ١٩: ١٢)، وإنما كالمطر على الجزاز، ومثل الغيوث الذارفة على الأرض. يتحدث معنا بطريقة رقيقة ومختلفة. هذا حدث كما في خزانة، فقد أخفى خلالها كما في حجاب جسده (عب ١٠: ٢٠)، وتحدث معنا في ذلك الجسد الذي أُعد في رحم العذراء مريم الثيؤتوكوس[20]
.
* ليس من عجبٍ أن يخضع (اليهود) لجفاف عدم الإيمان، حيث حرمهم الرب من أمطار الأنبياء المثمرة، قائلًا: إني أأمر السحاب ألاَّ يُرسل مطرًا على تلك الكرمة. صحيّ هو مطر السحاب النبوي، كما قال داود إنه مثل مطر ينزل على المروج، ومثل غيوث تروي الأرض. وعدتنا الأسفار المقدسة التي للعالم كله بهذا المطر الذي يسقي العالم عند مجيء الرب المخلص بندى الروح الإلهي[21]
.
يُشْرِقُ فِي أَيَّامِهِ الصِدِّيقُ وَكَثْرَةُ السَلاَمِ،
إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ القَمَرُ [7].
جاء في الترجمة السبعينية
"يشرق في أيامه البرّ"، القائد الحامل برًّا، في إشراق هذا البرّ في حياة الشعب، بسلوكه العلمي يتلمذ الكثيرين، فيحملون برّ الله. بقوله:
"إلى أن (حتى) يضمحل القمر، لا يعني أنه بعد اضمحلال القمر لا يشرق في أيامه الصدِّيق.
يرى
القديس أغسطينوس أن كلمة
"يضمحل" هنا جاءت
"تُرفع" بمعنى صالح. وكأن البرّ والسلام يشرقان حتى تُرفع الكنيسة (القمر) خلال مجد القيامة لتملك مع مسيحها الذي سبقها إلى المجد، البكر من الأموات، ليجلس عن يمين الآب (مر 16: 19).
في تفسيره إنجيل القديس متى دافع
القديس يوحنا الذهبي الفم عن بتوليتها عند تفسيره العبارة: "لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر"، ذاكرًا بعض العبارات الكتابية جاءت فيها كلمة "حتى" بطريقة لا تعني المحدودية[22]، نذكر على سبيل المثال: "وأرسل الغراب فخرج مترددًا حتى نشفت المياه عن الأرض (تك 5: 7)، فإن كلمة "حتى" لا تعني أن الغراب عاد بعد أن نشفت المياه وجفت الأرض. وأيضًا: "قال الرب لربي اِجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك" (مز 11: 2)، لا يعني أن الجلوس عن يمين الآب ينتهي بوضع الأعداء موطئًا لقدميه، وأيضًا: "يشرق في أيامه الصدِّيق وكثرة السلام، حتى يضمحل القمر" (مز 72: 7) لا يعني عدم إشراق الصديق أو نزع السلام بعد اضمحلال القمر. كما دلل القديس على بتوليتها وعدم إنجابها أولادًا آخرين من تسليم السيد لها في أيدي القديس يوحنا الحبيب حين كان معلقًا على الصليب. فلو كان لها أولاد لما سلمها إليه.
* لكي نقترب من النور الحقيقي، أعني المسيح، نسبحه في المزامير، قائلين: "أنر عينيَّ لئلا أنام نوم الموت". فإنه موت حقيقي هو موت النفس لا الجسد حين نسقط عن استقامة التعاليم الصادقة، ونختار الباطل عوض الحق. لذلك يلزم أن تكون أحقاؤنا ممنطقة وسرجنا موقدة كما قيل لنا هنا[23].
القديس كيرلس الكبير
3. مملكة بلا حدود
وَيَمْلِكُ مِنَ البَحْرِ إِلَى البَحْرِ،
وَمِنَ النَهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ [8].
هنا يشير إلى اتساع المملكة، فتضم الأرض كلها ببحارها وأنهارها، بدون حدود أو أسماء. فللرب الأرض وملؤها. جاء في سفر زكريا: "ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك 9: 10).
* إن كان بحقٍ ويعني بتعبير القمر الكنيسة، فإنه يظهر في ديمومتها مدى اتساع الكنيسة حيث تنتشر في كل اتجاه...
يقول إنه في أي حدود للأرض من أقاصيها إلى أقاصيها سيكون هو الرب، حيث يُكرز باسمه وسلطانه في كل العالم، ويغلب على الدوام. ولكي لا يوجد معنى آخر يُفهم من القول:
"من البحر إلى البحر"، أضاف للحال:
"ومن النهر إلى أقاصي الأرض"...
لكن إذ يقول:
"من النهر" يُعبر بوضوح أن المسيح أراد أن ينشر سلطانه من ذلك الموضع الذي فيه بدأ يختار تلاميذه، أي من نهر الأردن حيث نزل الروح القدس على الرب عند عماده، وجاء صوت من السماء: "هذا هو ابني الحبيب" (مت 3: 17). من هذا الموضع وَضع تعاليمه وسلطان خدمته السماوية، حتى تتسع وتبلغ إلى أقصى العالم، حيث يُكرز بإنجيل الملكوت في العالم كله، شهادة لكل الأمم، وعندئذ يأتي المنتهى (مت 24: 14).
أَمَامَهُ تَجْثُو أَهْلُ البَرِّيَّة،ِ
وَأَعْدَاؤُهُ يَلْحَسُونَ التُرَابَ [9].
"أهل البرية" تعبير خاص بالذين ليس لهم مسكن ولا وطن يعيشون فيه. هؤلاء الأحرار من العالم يخضعون له، أما الذين يقاومونه فليس لهم إلا أن يلحسوا التراب. يصيرون كالحية التي قيل لها: "ترابًا تأكلين كل أيام حياتك" (تك 3: 14).
جاء في كتابات
القديس أغسطينوس: "في حضرته يجثو الإثيوبيون"، إذ كانت إثيوبيا تُحسب مكانًا بعيدًا بالنسبة لإسرائيل في ذلك الحين.
* إذ تُحب الأرض بالتأكيد تلحسها، وتصير عدوًا لذاك الذي يقول عنه المرتل: "وأعداؤه يلحسون التراب"[24]
.
* قول النبي "يلحسون التراب" معناه أن الحية القديمة بسبب اغتيابها وعدوانها لآدم العتيق، حكم عليها أن تدب على صدرها وبطنها، وتأكل ترابًا، كذلك الذين لم يؤمنوا، بل لبثوا يعادون آدم الجديد الذي هو ربنا، يصرعون على الأرض يأكلون ترابًا. هكذا الشياطين، لأننا أخذنا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب.
مُلُوكُ تَرْشِيشَ وَالجَزَائِرِ يُرْسِلُونَ تَقْدِمَةً.
مُلُوكُ شَبَا وَسَبَأٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّة [10].
ترشيش: هي بلاد جنوب آسيا، كانت بلادًا غنية.
الجزائر: يُقصد بها جزائر البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه.
شبا: جنوب شرق الجزيرة العربية، وكانت غنية بتجارتها.
* تترجم "
ترشيش" مراقبة الفرح، لأن أهل الإيمان وعاملي الفضائل ينتظرون الفرح الدائم لقوله: "نَعمًا أيها العبد الصالح والأمين، أدخل إلى فرح ربك".
* تقال "الجزائر" عن النفوس الثابتة والمستقرة في الرأي القويم، التي لا تزعزعها أمواج العالم وملاطمتها.
* تترجم "
سبأ" رجوع، أي توبة. فالذين ترقَّبوا الفرح، وكفوا عن شنائعهم، ورجعوا بالتوبة إلى الله، وصاروا ملوكًا "صالحين" وضابطين ذواتهم، هؤلاء خضعوا لملك الملوك ربنا يسوع المسيح، وقدموا لله ذواتهم وأجسادهم وأعمالهم الصالحة.
* لاق هذا القول بالمسيح إلهنا الذي عند ميلاده حضر ملوك المشارق، وسجدوا له، وقربوا له هدايا. والذين كانوا سابقًا أعداء له من جهة عبادتهم للأصنام، والذين كانوا يلحسون التراب، أي المتمرغون والمولعون بالأرضيات قد خضعوا له ساجدين.
يرى
القديس أغسطينوسأن هؤلاء الملوك المقاومين للحق إذ يقتلون المؤمنين يقدمون لله تقدمة ثمينة، ألا وهي الشهداء القديسون.
وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ المُلُوكِ.
كُلُّ الأمم تَتَعَبَّدُ لَهُ [11].
ينطبق هذا على الملك سليمان، فقد طلب ملوك الأرض سليمان، ليسمعوا حكمته، وكانوا يأتون إليه، ويقدمون له هدايا. وقد جاءت ملكة سبأ لتسمع حكمته. في هذا كان سليمان رمزًا لشخص السيد المسيح، ملك الملوك.
* إن كان بعض منهم الآن اختلف (لم يؤمنوا به)، فإن يوم الدينونة قادم، حيث تنحني له كل ركبة ويعرفه الكل إلهًا وملكًا، كما حرر الرسول في الفصل الثاني من رسالته إلى أهل فيلبي، قائلًا: لكي باسم يسوع تجثو كل ركبة للسمائيين والأرضيين، وكل لسان يعترف أن يسوع المسيح رب لمجد الإله الآب.
4. مملكة حب
لأَنَّهُ يُنَجِّي الفَقِيرَ المُسْتَغِيثَ،
وَالمِسْكِينَ إِذْ لاَ مُعِينَ لَهُ [ع12].
سرّ سلطان القائد الحي، حتى تخضع له كل الأرض ليس إمكانياته المادية أو العسكرية أو مواهبه وقدراته، وإنما اهتمامه بالفقراء والمساكين الذين ليس لهم من يعينهم. فمن يهتم بالمساكين يهتم الله به ويكرَّمه.
* الإنسان الفقير والمسكين هو الشعب الذي يؤمن به. يوجد في هذا الشعب ملوك يسجدون له. فإن هؤلاء لا يستنكفون من أن يكونوا فقراء ومساكين، أي متواضعين يعترفون بالخطايا ويحتاجون إلى مجد الله (رو 3: 23)، ونعمة الله، حتى يخلصهم هذا الملك، ابن الملك من القوي (إبليس). فإن هذا القوي نفسه المتعالي يدعى قتالًا، الذي يخضع الناس له، ويأسرهم في أسر خطايا البشر.
* يَدعي الرسل الأطهار وكافة المؤمنين فقراء، لأنهم قبلوا الفقر لأجل محبة الذي اِفتقر لأجلنا، ونجَّانا من الرياء والظلم عندما مزق الصك المكتوب علينا، وعلمنا أن نتجنب الظلم والرغبة في الاستكثار والطمع، ونصنع رحمة وإحسانًا.
يُشْفِقُ عَلَى المَِسْكِينِ وَالبَائِسِ،
وَيُخَلِّصُ أَنْفُسَ الفُقَرَاءِ [13].
إذ يريد الله أن يفتح مخازنه لنا، ويكرمنا يدعونا أن نفتح قلوبنا لإخوتنا المساكين والبائسين. "اقضوا للذليل واليتيم. اَنصفوا المسكين والبائس نجوا المسكين والفقير، من يد الأشرار اَنقذوا" (مز 82: 3-4).
* ذاك الذي يغلب القتَّال (إبليس) ويدخل إلى بيت القوي يربطه ويسلب آنيته (مت 12: 29)، يخلص الفقير والمسكين. لأنه ليس بفضيلة أحد يتحقق هذا ولا بواسطة أي إنسان بار ولا بأي ملاك. فإنه حيث لا يوجد معين، يخلصهم هو بمجيئه.
مِنَ الظُّلْمِ وَالخَطْفِ يَفْدِي أَنْفُسَهُمْ،
وَيُكْرَمُ دَمُهُمْ فِي عَيْنَيْهِ [14].
يحسب الله نفسه مدافعًا عن المظلومين والذين يُسفك دمهم ظلمًا. "لأنه مُطالب بالدماء. ذَكَرَهُمْ. لم ينسَ صراخ المساكين" (مز 9: 12).
* "من الربا الفاحش والظلم يفدي أنفسهم" [14]. ما هو هذا الربا الفاحش إلا الخطايا، التي تُدعى أيضًا ديونًا (مت 6: 12)؟ إنها تدعى ربًا فاحشًا، إذ توجد شرورًا أكثر في العقوبات عما في ارتكاب الخطايا. على سبيل المثال، بينما القاتل يقتل جسم الإنسان فقط دون أن يقدر أن يؤذي نفسه، إذا به يحطم نفسه وجسده في جهنم. يُقال لمثل هؤلاء المستخفين بالوصية الحاضرة والساخرين بالعقوبة المقبلة: "عند مجيئي كنت آخذ الذي لي مع ربا" (مت 25: 27). مِن مثل هذا الربا تخلص نفوس المساكين، وذلك بالدم المسفوك لمغفرة الخطايا.
* إن كان المسيحيون يبدون مُحتقرين في هذا العالم، فإن اسمهم مكرم في حضرته، الاسم الذي أعطاه لهم.
5. مملكة مباركة
وَيَعِيشُ وَيُعْطِيهِ مِنْ ذَهَبِ شَبَا.
وَيُصَلِّي لأَجْلِهِ دَائِمًا.
اليَوْمَ كُلَّهُ يُبَارِكُهُ [15].
كلمة
"يعيش" هنا تشير إلى التحية التي كانت توجَّه للملوك: "ليحيا الملك" (1 صم 10: 24؛ 2 صم 16: 16).
"يُصلي لأجله دائمًا"، أي تُرفع عنه الصلوات، لكي يحفظه الرب وينجح طريقه.
جاءت "شبا" في كتابات
القديس أغسطينوس "العربية"، ويرى أنها تشير إلى الأمم، وأن الذهب يشير إلى الحكمة، هذه التي تسمو على كل التعاليم، كما يسمو بين المعادن. مكتوب: "خذوا التعقل كالفضة، والحكمة كالذهب المنقى" (راجع أم 8: 10)...
لكن كيف يفهم
"ويُصلي لأجله" إذ هذا أمر صعب، إن لم يفهم بأن الصلاة التي لأجل الكنيسة إنما هي صلاة لأجله، لأنها هي جسده. لأنه بخصوص المسيح والكنيسة فهذا السرّ عظيم، فإن الاثنين في جسد واحد (راجع أف 5: 32). والآن ما جاء بعد ذلك يوضح الأمر بما فيه الكفاية:
"يوم كله يباركه".
* تتطلع الأسفار المقدسة إلى الذهب بكونه يحمل "السلطة"[25]
.
* يشير ذهب العربية (شبا) إلى العقل الصافي من الأكدار.
* أنشد داود أبوك مزمورًا لك، قبل مجيئك،
بأنَّ لك يُقدم ذهب من سبا (مز 72: 15).
المزمور الذي تغني به قد تحقق الآن،
فأمامك المر والذهب[26].
القديس مار أفرام السرياني
تَكُونُ حُفْنَةُ بُرٍّ فِي الأَرْضِ فِي رُؤُوسِ الجِبَالِ.
تَتَمَايَلُ مِثْلَ لُبْنَانَ ثَمَرَتُهَا،
وَيُزْهِرُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ مِثْلَ عُشْبِ الأَرْضِ [16].
يشير هنا إلى القمح، الذي يُصنع منه الخبز المكسور.
اقتطفت الديداكية (تعليم الاثني عشر رسولًا) هذه العبارة للإشارة إلى سرّ الإفخارستيا، مصدر بركة الكنيسة.
يرى
القديس أغسطينوس أن رؤوس الجبال هم كتَّاب الأسفار الإلهية، أما ثمرة هذه الكتابات فهي المحبة. تُسمى هذه الثمار "عشب الأرض"، أي نباتات مثمرة.
يَكُونُ اسْمُهُ إِلَى الدَهْرِ.
قُدَّامَ الشَمْسِ يَمْتَدُّ اسْمُهُ.
وَيَتَبَارَكُونَ بِهِ.
كُلُّ أُمَمِ الأَرْضِ يُطَوِّبُونَهُ [17].
جاءت الكلمة المترجمة هنا "
يمتد" في النسخ السبعينية والسريانية والترجوم "
يثبت"، إذ يبقى اسم السيد المسيح ثابتًا إلى الأبد، وبه تتبارك كل أمم الأرض.
* قال القديس أثناسيوس الجليل، إن أقوال هذا المزمور لم تكن موافقة لسليمان المولود من امرأة أوريا، لأنه لم يكن اسمه قبل الشمس، ولا يدوم مع القمر، ولا تعبدت له كل الأمم. فإذًا من هذا كله يتبين أن القول نبوة عن ربنا يسوع إله إسرائيل، أي الذين يبصرونه بالعقل، ويؤمنون به، ويعترفون بلاهوته، الذي تمجده كافة القبائل بألسنه مختلفة.
* "يكون اسمه إلى الدهر، فوق الشمس يمتد اسمه، ويتباركون به، كل الأمم يطوبونه" (راجع مز 72: 17). إن كانت كل الأمم تطوَّب في المسيح، ونحن الذين من كل الأمم نؤمن به، فهو إذن بالحقيقة المسيح، ونحن مطوَّبون فيه
[27].
6. مملكة تسبيح
مُبَارَكٌ الرَبُّ اللهُ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ،
الصَانِعُ العَجَائِبَ وَحْدَهُ [18].
جاءت هذه الذكصولوجية [18-19] كختام للكتاب الثاني من سفر المزامير (مز 42 - مز 72). المؤمن الحقيقي يمجد الله في كل الظروف، ويحسب الله صانع العجائب وحده.
"لأنك عظيم أنت وصانع عجائب. أنت الله وحدك" (مز 86: 10).
"الصانع العجائب العظام وحده، لأن إلى الأبد رحمته" (مز 136: 4).
"فاعل عظائم لا تُفحص، وعجائب لا تُعد" (أي 9: 10).
* كيف يُقال هنا عن الابن إنه صانع العجائب وحده؟ نقول إن كلمة "وحده" هنا لم تُقل عن أقنوميته بل عن طبيعة اللاهوت المساوي فيها الآب والابن والروح القدس بغير اختلاف.
* فلنشكر الله، ليس فقط لأنه هدَّأ العاصفة، وإنما أيضًا لأنه سمح بالعاصفة أن تحل. ليس فقط لأنه أنقذنا من الدمار، بل ولأنه سمح لنا أن نسقط في ضيقات، وسمح بكارثةٍ خطيرةٍ للغاية أن تحل بنا. هكذا يأمرنا بولس أن نشكر الله في كل شيءٍ (1 تس 5: 18)... إنه يعني نشكره ليس فقط في خلاصنا من الشرور، بل وأيضًا في الوقت الذي فيه نعاني من الشرور[28]
.
القديس يوحنا الذهبي الفم
وَمُبَارَكٌ اسْمُ مَجْدِهِ إِلَى الدَهْرِ،
وَلِتَمْتَلِئِ الأَرْضُ كُلُّهَا مِنْ مَجْدِهِ.
آمِينَ ثُمَّ آمِينَ [19].
"أمين ثم أمين" هو دعاء استجابة الشعب المجتمع، يؤكد الاشتراك في تمجيد الله، مع اشتياق المؤمنين أن تشترك الأرض كلها في تمجيده.
تَمَّتْ صَلَوَاتُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى
الخاتمة الواردة في هنا لا تعني المزامير التي كتبها داود النبي كلها قد انتهت. إنما هي ختام للكتاب الثاني من سفر المزامير الذي ينقسم إلى خمسة كتب.
من وحي مز 72
لتعلن مملكتك في أعماقي
* نزلت يا ملك الملوك إلى أرضنا التي تنبت شوكًا وحسكًا.
نفوسنا تئن من أجل الظلم الذي يسيطر على العالم.
نزلت أيها القدوس وقبلت الظلم والألم،
لتقيم مملكة البرّ في قلوبنا.
تجعل من مؤمنيك ملوكًا يحملون برَّك.
لا يخشون الظلم، ولا يرتبكون أمام الشر.
أنت هو دستورهم، وقانون حياتهم.
* لتعلن ملكوتك في أعماقي،
فلا أحيد يمينًا ولا يسارًا عنك.
لن يميل قلبي إلى مالٍ أو كرامةٍ أو سلطانٍ.
أنت غناي ومجدي وقوتي وتسبحتي.
* تهتم بشعبك المسكين بالروح.
تغنيه بك أيها الحق الذي لن يتغير.
تملأه بالبرّ السماوي.
* تقيم من خدامك جبالًاً تفيض سلامًا على شعبك،
ومن شعبك آكامًا مملوءة من برَّك.
تخلص البائسين من كل الأمم والشعوب.
* يظن الأشرار أنهم يبيدون اسمك،
فلا يوجد للكنيسة موضع في العالم.
يبقى اسمك مهوبًا إلى انقضاء،
يشرق بنوره على الكثيرين الذين في الظلمة.
وتتجلى في وسط كنيستك كل الأيام!
* نعمتك تفيض بلا توقف،
تحول البراري إلى جنات روحية مقدسة.
عوض الشوك والحسك تأتي بثمر الروح الفائق.
* قدر ما يذلون شعبك يتلألأ المؤمنون كالكواكب.
وتمتد كنيستك من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.
تحول شاول المضطهد والمجدف إلى بولس الكارز.
يطير المؤمنون كالحمام نحو السماء.
ويسقط الأشرار على التراب يلحسونه.
ينال المؤمنون سؤل قلوبهم: رؤية مجدك!
وينال الأشرار مما اكتنزوه: تراب العالم!
* سلطانك يكشف عن حبك وحنوك.
تلتصق بالمتألمين والمظلومين ومن ليس لهم معين
تكسر الفخاخ وتطلقهم في حرية مجد أولاد الله.
دمهم المسفوك ظلمًا أمام عينيك، تكرمه!
تملأ شعبك بالفرح،
فلا يكف عن التسبيح لك.
يشهدون لأعمال حبك المجيدة.
لك المجد يا ملك الملوك القدوس وحده!