الأنبا أنطونيوس المصري أبو الرهبان
للمتنيح الأنبا غريغوريوس
نال هذا القديس هذا اللقب بجدارة,لا لأنه كان أول من اعتزل العالم طلبا للتعبد فقد سبقه كثيرون,أخذ هو نفسه عنهم وتعلم منهم,وكان يختلف إليهم ليقتبس منهم فضائلهم وينتفع من خبراتهم.
لكنه هو نفسه صار أبا لمئات حذوا حذوه واقتدوا بسيرته واتخذوه لهم معلما وقائدا ,وكان ذلك في حياته وأيضا بعد وفاته.وفي حياته تبعوه بالمئات والألوف
التفوا حوله واتخذوه لهم مرشدا وأبا ومعلما وإماما للطريق,
وكان هو يفتقدهم ويتحدث إليهم مشجعا وهاديا,وكان يجيبهم علي
أسئلتهم ويحل مشكلاتهم,ويرسم لهم طريق الحياة الناجحة.
لذلك سميبأبي الرهبان.
لم يكن فقيرا قصد إلي الرهبانية هربا من مسئوليات الحياة,
بل كان غنيا ورث عن أبويه أكثر من ثلاثمائة فدان من أجود الأراضي في بلدته قمن العروس بمركز الواسطي بمحافظة بني سويف ولكنه كان متدينا تدينا عميقا ,
تلقنه عن والديه وكان يواظب علي حضور القداس واجتماعات الكنيسة ,فلما توفي والداه وكان قد بلغ نحو العشرين من عمره,وتركا له العقار والأموال,ولم يكن له غير أخته التي تصغره سنا,أخذ يفكر فيما صنعه الرسل الذين تركوا كل شيء وتبعوا المخلص.
وحدث أن دخل الكنيسة وسمع في إنجيل القداس رب المجد
يقولإن كنت تريد أن تكون كاملا فاذهب
وبع كل شيء لك وأعطه للمساكين فيكون لك كنز في السماء ,وتعال اتبعني.فحسب هذا القول الإلهي رسالة شخصية له.
ولما خرج من الكنيسة اعتزم أن يبيع أملاكه ويوزعها
علي الفقراء.وفعلا فعل.ولم يبق إلا قليلا من المال احتجزه لشقيقته.
ودخل الكنيسة في يوم آخر وسمع إنجيل القداس
يقولفلا تهتموا للغد,لأن الغد يهتم بما لنفسهمتي 6:34فمضي ووزع ما تبقي من المال وأودع شقيقته في بيت للعذاري اللائي نذرن أنفسهن للعفة الكاملة,واعتزل هو نفسه في مكان هاديء خارج بلدته.وكان كلما سمع عن ناسك صالح
كان يمضي إليه لينتفع بخبرته وتجاربه ويتعلم عنه أكبر فضيلة فيه.ويقول القديس أثناسيوس الرسولي الذي كتب لنا سيرته وكان يصب له الماء علي يديه كابن له:إن القديس أنطونيوس
كان يأخذ عن أحد النساك صبره واحتماله وطول أناته,
ويأخذ عن غيره محبته وعن ثالث وداعته وسماحته ويأخذ عن
ناسك رابع حكمته وعن الخامس احتقاره للمدح
والمجد الباطل وهكذا,وكأنه يجمع باقة من زهور مختارة ليزين بها نفسه بالفضائل.
عاش القديس الصغير سعيدا بهذه الحياة الحرة الطليقة من
قيود المادة,ومغتبطا بعشرة العباد والنساك الذين باعوا أباطيل
الدنيا واشتروا بها اللؤلؤة الكثيرة الثمنوصاروا في قمة
الحرية وعلي قول القديس أوغسطينوسجلست علي قمة
العالم عندما وجدت نفسي حرا من كل رغب
ة ماديةولكن القديس الشاب لم تخل حياته من حروب الأفكار,
فكان الشيطان تارة يوبخه علي بيعه مقتنياته,
وتارة يرغبه في العودة إلي حياة العالم .
وتارة يصور له مناظر مغرية ليفسد عفته ,وأخري يصور له في عزلته مناظر مخيفة من حيوانات ضارية.ولكنه قد انتصر عليها جميعا بالصلاة والصوم ورسم علامة الصليب.وكلما حل به الخوف كان يردد قول النبي في المزمورالرب
نوري وخلاصي فممن أخاف,الرب عاضد حياتي فممن أفزع.عندما يقترب مني الأشرار ليأكلوا لحمي,مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا.وإن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي..
مز26:3,1وكان الرب يبدد مخاوفه ويزيل أوجاعه.
ومرة صرخ إلي الرب وقال:أين كنت ياربي وسيدي,
ولماذا لم تبدد مخاوفي في مبدأ الأمر.فسمع صوتا من السماء يقول:لقد كنت قريبا منك,ولم أشأ أن أظهر لك ذاتي,لأني أردت أن أشاهد قتالك للأفكار ولعدو الخير.
ولقد انتصرت ,فسأكون معك دائما وأعضدك.
ولما تحقق القديس لذات الحياة النسكية وجمال الوحدة والسكون,
رغب في المزيد منها,فترك مكانة إلي أعماق البرية الداخلية
,وهناك وجد برجا مهجورا من أيام الفراعنة
,كانت تسكنه الوحوش والحشرات,فلم يجفل القديس منها ,وإنما دخل البرج بكل رباطه جأش,والغريب أن واحدا منها لم يؤذه بشر,
وإنما أخذت تتفرق في أرجاء البرية الواسعة وأخلت له المكان فسكن فيه سنوات.وعلم بفضائله الكثيرون فقصدوا إليه لينتفعوا بتعاليمه ويتباركوا به,ولكنه كان يرفض الخروج إليهم
مصرا علي الاعتكاف والوحدة,وكانوا هم لايفارقون المكان ولو لكي
يسمعوا نغم صلاته وترنيمه من بعيد.وكان هو في أحيان قليلة
يجد نفسه مضطرا تحت إلحاحهم إلي الخروج إليهم وقد منحه الله
مواهب كثيرة لشفاء المرضي وإخراج الشياطين.
فزاد إقبال الناس عليه واشتدت أشواق البعض إلي أن يصيروا له تلاميذ.ولما بلغ الخامسة والخمسين وكانت قد مضت له في مكانه الأخير عشرون سنة,خرج ملبيا رغبة
الكثيرين في حياة الرهبانية والنسك وأقاموا صوامعهم من
حوله ووضع لهم نظاما روحيا,يتدرج بهم في حياة الفضيلة
وكان يفتقدهم بين وقت وآخر,ثم يعتزل عنهم,وبعد وقت يعود إليهم.
وعلمهم أيضا أن يشتغلوا بأيديهم ويزرعوا الأرض ويفلحوها
فتحولت الصحراء بعد قليل إلي أرض خضراء مزهرة بالثمار.
وذاع صيت فضيلته في الشرق والغرب,وقصد إليه كثيرون وتتلمذوا علي يديه وجاء إليه فلاسفة من الشرق والغرب يناقشونه ويباحثونه,وكان يدهشهم بمنطقه البسيط,فيشعرون بسمو شخصيته وقوة حجته.وقد راسله قسطنطين أحد ملوك الروم فتباطأ عن الرد,فذهل تلاميذه من الرهبان فقال لهم بكل هدوء واتزان:أتطربون لأن ملكا من الأرض يكتب لنا وهو إنسان مثلنا ولا تعجبون بالحري لأن الله
كتب لنا شريعته وفوق ذلك خاطبنا في
ابنه يسوع المسيح وهو كلمة الله المتجسد؟
ولما ألحوا عليه بالرد كتب للملك يعظه بكلمات قوية من غير مداهنة ,ولا تملق حتي هابه الملك وأرسل يطلب صلواته وبركاته.
ولما ثار الاضطهاد في زمانه وسمع ببلوي المسيحيين نزل ومعه عدد من شيوخ الرهبان إلي مدينة الإسكندرية,يشدد إيمان الشعب بالمسيح وقصد إلي السجون يثير
المسيحيين أن يتمسكوا بدينهم,وكان يجتمع بالمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة يرغبهم في الاحتمال والصبر من أجل الحياة الأبدية,بل وكان يمضي إلي المحاكم ويدافع عن المسيحيين المتهمين ظلما.وكان في هذا كله يعرض نفسه للأخطار.وكان هو شخصيا لايبالي بحياته,بل
كان فعلا راغبا في أن يموت شهيدا من أجل المسيح.
ومن ذلك شاء الله إن ينجو من الموت لأن حياته كانت
ألزم لأولاده وتلاميذه,وعاد إلي ديره بسلام يواصل رياضاته الروحية.
ونزل مرة أخري إلي العالم عندما علم بخبر
بدعة الأريوسيين,الذين زعموا أن المسيح مخلوق,وكان القديس أثناسيوس بابا الإسكندرية قد نفي من كرسيه,بسبب
استمساكه بالإيمان الأرثوذكسي في لاهوت السيد المسيح.
فرأي الأنبا أنطونيوس أن الضرورة تلزمه بأن يثبت إيمان المسيحيين,في غياب راعيهم الأكبر,فأخذ معه عددا من شيوخ الرهبان وذهب إلي الإسكندرية,وصار ينتقل بين الناس واعظا ومعلما,
ومدافعا عن الإيمان,ومبطلا حجج الأريوسيين وتعاليمهم الفاسدة المنحرفة.فانتفع المسيحيون بوعظه وازداد المخلصون استمساكا بإيمان آبائهم.وعاد بعد
ذلك القديس أنطونيوس ورهبانه إلي ديرهم مرة أخري.
إن من العسير أن نسجل كل فضائل هذا القديس الذي شهدت عنه السماء مرة,أن الأرض وما عليها لاتستحق وطأة من قدمه,والذي حاربته الشياطين بألوان مختلفة من
الحروب ولكنه انتصر عليها.هذا الرجل الذي جذب الملايين
إلي الهداية,بصلواته وتعاليمه وسيرته العطرة وقدوته الصالحة,
وقد علم بالمثال أكثر من الكلامعن زوال الحياة الدنيا,
واحتقار أباطيل العالم,وأهمية السعي لخلاص
النفس من خطاياها,ولذات الحياة العقلية الروحانية
,ولفت العيون إلي قيمة الحياة الأبدية.
ولقد انتفع بسيرته الشرق والغرب,وأسسوا الأديرة
اقتداء بما فعل,وقال مؤلفو الغرب عن سيرتههذه السيرة قد خلقت أثرا قويا في كل أنحاء العالم,وهي التي أوقدت شعلة الرغبة النسكية في روما وفي كل الغربوقالت
عنه دائرة المعارف البريطانيةأنه أبو الرهبنة المسيحية.
ومع شظف الحياة التي عاشها ,ومع أنه لم يأكل اللحوم قط,فقد كان يأكل مرة
في اليوم وأحيانا مرة في كل يومين,أو ثلاثة أو أربعة,
ومع أن طعامه كان بسيطا,لكنه لم يمرض في حياته قط,وعاش إلي أن بلغ 105 سنوات وقد علم بأمر موته فودع أبناءه
الرهبان وضم رجليه وأسلم الروح وعلائم الرضي والسرور
تعلو وجهه الملائكي في الثاني والعشرين من طوبة سنة 356م أما مولده فكان في سنة 251م.