البعد عن الرئاسات والمناصب
ثانيا: البعد عن الرئاسات والمناصب:
1 لانها خطرة على الإنسان وخير للحكيم أن يهرب.
ولنورد كمثال خبر القديس بينوفيوس الذي عرفنا قصته من القديس يوحنا كاسيان مؤسس الرهبنه في فرنسا.
كان القديس بينوفيوس رئيسًا على دير يضم 200- 300 راهبًا في منطقة البرلس. وكان متضعا جدا ومهابا وله مكانة عند الكثرين اذ كانوا يحبونه بسبب قداسته وحياته الفاضلة، ولموهبه العظيمة التي منحه أياها، ولكهنوته ولانه شيخ وقور جلس هذا القديس ذات يوم آلي نفسه وقال: "ماذا تكون نتيجة هذا الموضوع؟ كل يوم مديح وكرامة واحترام وتوقير. أنني أخاف أن يأتيني الله في اليوم الأخير ويخبرني بأننى استوفيت خيراتى على الأرض. وأين الطريق الضيق والكرب عملا بالآية التي تقول:
"بضيقات كثيرة ينبغى أن ندخل ملكوت الله" (أع22:14). وأنا رجل متمتع باحترام وتوقير وكرامة ورئاسة!"
لذلك هرب القديس بينوفيوس ذات يوم من الدير دون أن يشعر به أحد، متنكرا في زى علمانى وسار جنوبا حتى وصل آلي أحد أديرة القديس باخوميوس الكبير في اسنا وطرق الباب طالبا ان يقبلوه في الدير فنظروا اليه في احتقار. من هذا الرجل الشيخ الذي أتى ليترهب؟ وقالوا له: "انك أتيت بعد أن تمتعت بملاذ العالم وشبعت من الدنيا، وكذا شبعت الدنيا منك. هل تأتى في آخر الايام وتترهب وتعمل قديسا؟ انك لا تصلح، فارحل عنا "والح القديس بينوفيوس عليهم فرفضوا وقالوا له "أنت رجل شيخ، ولا تحتمل الرهبنة وجهاداتها "فظل يلح ووقف على الباب مدة رغم رفضهم دون أكل أو شراب. فعندما رأوا احتماله وصبره، أدخلوه الدير على شرط ألا يرسم راهبا، ويكون في زى العلمانيين، يخدم في الدير وأسندوا اليه مساعدة الراهب الشاب المسئول عن حديقة الدير، ليكون كصبى عنده، فلم يمانع وأخذ الشاب يوجه اليه أوامر يعمل بها فكان مطيعا خاضعا. وتحول القديس الذي كان يحترمه الناس ويطيعونه آلي تلميذ.. لكنها كانت أمنيته اذ اراد ان يغير حياته الداخلية ويكون خاضعا لغيره وليس غيره ان يربى الشيخ تربية صحيحة، لان الرهبنة ليست كسلا. وصار القديس يطيعه طاعة كاملة وينفذ أوامره بكل دقة، لا يجادل ولا يناقش. وسار على هذا المبدأ مدة، وسر به الشاب. وايضا كان يقوم في ساعة متأخرة من الليل – حيث الرهبان جميعهم نيام – ويعمل الاعمال التي كان يشمئز منها الاخرون لقذارتها. فاذا استيقظوا في الصباح، يجدون كل شىء قد تم دون أن يعرفوا من الفاعل فيبتهجون ويباركوا الرب من أجل ذلك. أما هو فكان مسرورا بهذا العمل.. وظل على هذا الطقس مدة ثلاث سنوات. يقول:
"اشكرك يا رب من أجل عطاياك ونعمك العظيمة، فلا احترام ولا تقدير ولا توقير، بل طاعة وأوامر".
ثم بعد ذلك أتى لزيارة هذا الدير راهب من أديرة البرلس ورأى القديس بينوفيوس يحمل السباخ ويضعه حول الشجر. فشك في نفسه ولم يصدق أنه هو. واخيرا سمعه يتلو المزامير بصوته المعهود، فعرفه وسجد له وكشف الموضوع فأخذوه بمجد عظيم وارجعوه آلي ديره. ثم بعد ذلك هرب ايضا آلي بيت لحم وعمل خادما في قلاية يوحنا كاسيان، وتصادف أن ذهب راهب آخر لزيارة القديس وعندما قابله عرفه فأعادوه مرة ثانية بأحترام أيضا آلي الدير وزاره يوحنا كاسيان عند مجيئه لمصر وكتب عنه في مؤلفاته. انه مثال حى للهروب من الرئاسات.
فالذى يريد أن يخلص من مديح الناس والكرامة يجب ان يهرب من الرئاسات والمناصب لانها لا تخلص النفس في اليوم الاخير. فلا تبحث عن الرئاسات والمناصب لانها تشعرك أنك شىء في ذاتك. اذا نجحت فيها دخلك حب المديح والكرامة واذا فشلت ربما تقع في دينونة كثيرة.
2- أحلام الرئاسة تعب داخلى:
كثيرا ما يخلوا الإنسان آلي نفسه وفي أحلام اليقظة يتصور أنه في مركز عظيم وانه يعمل.. ويعمل.. ويعمل. تدور على ذهنه مشروعات كبيرة وأمور خطيرة ويظن أنه لو أعطى السلطان سوف يعمل ما لا يستطيع غيره أن يعمله. وهذه تخيلات المجد الباطل وكبرياء موجودة في الداخل تشعر الإنسان أنه يستطع الشىء الكثير. وقد يسمح الله أن تسند آلي هذا الإنسان مسئولية فيفشل فيها لكي يعرف مدى ضعفه
ذهب احد الشيوخ ليزور راهبا شابا في قلايته الخاصة وعندما هم بقرع الباب سمع صوتا من الداخل فانتظر قليلا حتى لا يعطل الراهب الشاب فسمعه يعظ من الداخل فانتظره حتى انتهى من العظة وصرف الموعوظين وقال لهم امضوا بسلام، ثم قرع الباب وفتح الراهب الشاب ففوجىء بالشيخ امامه فخجل وفكر ما عسى أن يقول عنه الشيخ اذا كان سمعه يعظ بمفرده دون موعوظين في قلايته فقال له انى أسف يا أبانا لئلا تكون قد جئت من زمن وتعطلت على الباب فابتسم الشيخ وقال له "جئت يابنى وانت تصرف الموعوظين "وعرف الشيخ أن الراهب محارب بالمجد الباطل اذ يتصور أنه شماس كبير ممن يعملون ويعظون الموعوظين.
احذر أن تتخيل أنك رئيس أو قائد أو مشير أو انك تعمل، ربما يسمح الله بفشلك لكي تشعر بأنك ضعيف، وأنك لا تعرف شيئا. وربما تصبح رئيسا، وتقع في الاخطاء التي يقع فيها غيرك.
3- الرئاسات ضارة لغير الناضجين:
قال القديس الانبا أوراسيوس أحد خلفاء باخوميوس: "أن الرياسة مضرة للاشخاص الذين لم ينضجوا "وضرب مثلا لذلك فقال "أذا احضرت لبنة لم تحترق بعد بالنار والقيتها في الماء تذوب. أما اذا حرقت بالنار فلو القيت في الماء تبقى وتشتد "كذلك الشخص الذي يصل آلي محبة الرئاسة قبل أن ينضج- قبلما يزول منه المجد الباطل، هو معرض للهلاك. كذلك مساكين هم الناس الذين يخضعون لرئيس محب للمجد الباطل فهو يضيع نفسه ويضيع معه الناس من أجل المجد الذي يطلبه منهم.
4- اشتهاء الرئاسة لعمل الخير ضربة يمينية:
سئل القديس يوحنا الاسيوطى في هذا الموضوع وقالوا له "هل يليق بالإنسان أن يطلب رتبة وسلطانا لتقويم المعوجين وأبطال الشرور؟ "فأجاب: "كلا، لانه أن كان الإنسان وهو بعيد عن الرتبة والسلطان، ينتفخ ويحب العظمة، فكم بالحرى يتشامخ ضميره اذا تسلط.. وأن كان وهو بعيد عن الدرجة يريد أن يكون عظيما. فماذا يعمل عندما يصل آلي الرئاسة والعظمة نفسها؟ لان الذي لم يعرف الاتضاع وهو في حقارته، فماذا يعمل عندما يأخذ المناصب؟.. وبينما لم يكن لديه سبب للعظمة كان يطيش في ضميره فكم بالحرى يكون عندما ينال سببا للافتخار؟.. فأن كنت لا تشتهى درجة الاتضاع فلا تطلب درجة الرعاية. واذا لم يكن فيك افتخار فلا تشته درجة الكهنوت لان الله يعتنى بشعبه أكثر منك اشته أن تكون خروفا في رعية المسيح لا راعيا يطلب دم رعيته من يديك. اشته أن تكون حملا من القطيع يرعاك، لا أن تكون مسؤلا عن رعيه.
ان كنت لا تقدر أن تربح نفسك ألان فكيف تقدر أن تقتنى نفوسا كثيرة..؟ أذكر الموت وعاقبة كل أحد، ولا تشته التسلط. واذكر أنك مهما كنت اليوم مكرما بالعظمة، فغدا ستكون مثل سائر الناس محبوسا في القبر.. ان كنت في الوقت الذي لم يكن عليك فيه أثقال لم تستطع أن تحيى ذاتك فكيف تقدر أن تخلص شعبا كبيرا من شر هذا العالم،ان كنت ألان بلا مسئوليات كبيرة، ولم تقدر أن تخلص هذه النفس الواحدة التي هى نفسك، فكيف تقدر على نفوس الناس؟..
منذ سنوات جاءنى شاب رشح للكهنوت وسألنى عن رأيى فقلت له: "يا أخى عندما تصير قسيسا ماذ ستعمل "فأجابنى أسعى لاخلص النفوس. فقلت له "هل قدرت أن تخلص نفسك حتى تستطيع أن تخلص الاخرين؟.. نفسك التي تعرف عنها كل شىء، تعرف جميع أسرارها وتاريخها كله وضعفاتها واسباب الضعفات والعيوب التي فيها وأمراضها.. اذا لم تستطع أن تخلص هذه النفس المعروفة جدا لديك فكيف تقدر على خلاص نفوس الناس الذين تجلس معهم فترات قليلة فلا تعرف الا القليل جدا عنهم.. نفسك التي اذا وبختها تقبل منك التوبيخ لم تقو على تخليصها، فكيف تقدر على تخليص الاخرين الذين كانت كلماتك شديدة سيغضبون منك.. نفسك التي تثق بك ومستعدة أن تسمع منك، لست قادرا عليها، فكيف تعمل مع الناس الذين قد لا يسمعون منك ويشكون في كلامك.
"فأهتم أولا بخلاص نفسك، لان تخليص الغير ليس سهلًا".
الإنسان الذي يريد أن يخلص نفسه لا يفكر أن يصير راعيا، بل هو يهرب من الرعاية على قدر ما يستطيع. وأن أمسكه الله بالقوة وصار راعيا، عند ذلك يطلب منه قوة يعمل بها، لانه بنفسه لا يستطيع شيئا.. والذي يثق بقوته ومواهبه وقدرته على أن يخلص الاخرين. لابد أن يكون شخصا مغرورا..
فليبعد الإنسان عن حب الرئاسة حتى ولو كان سببها رغبة خلاص الناس. ففى الحقيقة ان هذه سببها محبة المجد الباطل لا خلاص الناس.
5-الهروب آلي المتكأ الاخير:
الإنسان المتضع يبعد عن الرئاسات والمناصب، ويحب المتكأ الاخير لانه يشعر أن هذا هو استحقاقة اذ قال القديسون: "اعتبر نفسك أقل من الكل وآخر الكل لكي تستريح.. "قال القديس برصنوفيوس: "لا تحسب نفسك في شىء من الامور ولا يحسبك أحد سيئا.. وأنت تتنيح (تستريح)".
الإنسان غير المحب للمديح والكرامة يهرب من المناصب والمتكآت الاولى ويشتهى أن يخدم غيره ولا يخدمه أحد.. يشتهى أن يتتلمذ على المرشدين ولا يكون مرشدا لاخرين: قال الشيخ الروحاني: "في آي مكان وجدت فيه كن صغير اخوتك وخديمهم". طلب من احد الاباء الكهنه بعد رسامته ان اقول له كلمة أو نصيحة فقلت له: "كن ابنا وسط أخوتك واخا وسط أولادك "فالذى ينزل درجة يرتفع درجات.
وهذا هو الذي يستريح في منصب من المناصب، أما اذا كان يريد أن يتمتع بكل كرامة هذا المنصب ويملا كرسيه أو ينتفخ، فهذا إنسان مسكين. أما أنت فكن آخر الكل، صغير اخوتك وخديمهم، في كل مكان تحل فيه. وان كان السيد المسيح قد غسل أرجل التلاميذ وهو المعلم والسيد، فهل تبقى أنت رئيسا على أحد.
6- واذا كنت رئيسًا:
وليس معنى هذا الكلام أن أرفض الرئاسة لوأتت آلي في وضعها الطبيعى فليس الضرر هو الرئاسة أنما الضرر هو محبة الرئاسة ليس الضرر أن تبقى رئيسا ولكن الضررهو ان تتسلط على الناس.. هناك إنسان يبقى رئيسا وصاحب المتكأ الاول وهو شخص متواضع يعامل الناس بمنتهى الرفق لانه واحد منهم. والرئيس ليس رئيسا على الافراد، ولكنه رئيس على العمل فقط. والرئيس والمرؤوس سواء عند الله، بل ربما تكون للمرؤوس منزلة أكبر. والرئيس الحقيقى هو الذي يشعر بأنه زميل يتفاهم مع مرؤسيه بالمحبة وبالبساطة، لان الرئاسة والسلطة تعطى للناس من أجل ادارة العمل، وليس من أجل كرامتهم الشخصية – كالذى يأخذ درجة عليا من الدرجات الكهنوتية – ان أعتبر ذلك تكبيرا لذاته، يكون قد انحرف بالسلطة عن معناها الاصلى كوسيلة تمكن صاحب العمل من ادارة العمل.
يحكى عن القديس باخوميوس أب الرهبان أنه كان يسير مرة مع مجموعة منهم وكل يحمل حاجياته. فتقدم أحد الرهبان ليحمل حاجيات باخوميوس فرفض وقال له: "اذا كان المسيح له المجد دعا نفسه أخا للتلاميذ فهل استخدمكم أنا في حاجياتى.. لا يصير هذا الامر أبدا. من أجل الاديرة الاخرى كائنة بانحلال لان كبارهم مستعبدون لصغارهم".
وبولس الرسول يقول: "حاجاتى وحاجات الذين معى خدمتها هاتان اليدان" (أع 34:20).
7- كن رئيسًا على ذاتك أولًا:
وقال الشيخ الروحاني وهو ينصح الرهبان الصغار الا يشتهوا رئاسة مجمع الرهبان: "ان حوربت بهذا الفكر فقل ان مجمعى هو مجمع افكارى التي اقامنى الله رئيسا عليها لكي أدبر أهل بيتى". فكن رئيسا على أفكارك وأحكمها حسنا، لئلا تطيش شرقا أو غربا. كن رئيسا على حواسك ونظراتك وعلى سمعك، كن رئيسا على شهوات قلبك واضبطها. وان تمكنت من ان تكون رئيسا على نفسك وتضبطها،
فأنت الشخص الذي تصلح أن تكون رئيسا. واذا كنت لم تعرف ان تحكم نفسك ولا لسانك ولا فكرك ولا قلبك من الداخل، فكيف تصلح ان تكون رئيسا على غيرك؟.. ان لم تكن أمينا على القليل لا يمكن ان تكون أمينا على الكثير.
جاء أحد الرهبان آلي القديس تيموثاوس وقال له: "يا أبى انى أرى فكرى مع الله دائما "فأجابه:
"يابنى أفضل من هذا أن ترى فكرك تحت كل خليقة".
أبعد عن الرئاسات والمتكآت الاولى.. أحترم الكل، وعامل الكل بلباقة فأية محبة تكون للذين يعاملون من هم أقل منهم باحترام وتوقير.. انك تقدر أن تحترم الشخص الاكبر منك، وهذا أمر لا فضل لك فيه لانك مرغم ومضطر أن تحترمه، لكن من يحترم الاقل منه يكون متضعا.. الذي يحرم الاصغر منه في المنصب أو العلم أو السن أو المقام، ويحفظ حقوقهم ويشعرهم بشخصيتهم، يكون هو الشخص الذي يستحق المحبة من الكل، وليست كرامتك هى ان يخضع الناس لك بحكم القانون أو الاحترام ولكنها شعور توقير ينبع من القلب وليس من الظاهر فقط.