رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الخطيـــــــــــــــة والسقــــــوط 2 – الخطية والسقوط: يقول القديس باسيليوس الكبير: [ الله ليس مسبباً لعذابات الجحيم، بل نحن أنفسنا. لأن أصل الخطية وجذرها كائن في حُريتنا وإرادتنا ] فمنذ القديم وفي بدء الزمان، خلق الله السموات والأرض وكل ما فيها وما عليها في منتهى الإتقان والجمال الطبيعي الفائق، لا لأجلها في حد ذاتها ولكن لغرض وهدف وضحه الله بعد ذلك حينما خلق أجمل خلائقه وأعقلها؛ خلق الانسان - محبوبه الخاص - علي صورته ومثاله كشبهه. خلقه كائنا فريداً في خلقه، فريداً في حياته، وفريداً في مصيره. ووضعه في مكان فريد أعده له خصيصاً ليكون مكان راحته وفرحه كإنسان فريد لا يوجد له نظير آخر في الخليقة كلها، بل ومتميزاً عنها في كل شيء لأنه يعتبر رأسها وراعيها. وقد كان كل شيء متوفراً لديه، كل شيء موضوع لخدمة ذلك الكائن الذي خُلِقَ ليصير ملكاً وسيداً ورئيساً علي الكون وكل الخليقة التي فيه. وبالرغم من كل شيء، أرادا الله من الإنسان أن يبقي حراً، غير مقيد أو مربوط بإرادة آخر، فلقد خلقه كائنا علي صورته. الله حُرّ والانسان حُرّ. فالله أراده حُراً دائماً، يستعمل إرادته الحرة في كل أعماله ومواقفه وقراراته وأقواله وتصرفاته. لذلك جعله قادراً علي الاختيار الحُر بدون ضغط ولا إكراه. والله يحترم الانسان ويحترم – بالتالي – حُريته، فهو يحترم صورة ذاته في الانسان الكائن الذي خلقه علي صورته ومثاله كشبهه من جهة الحرية في طهارة ونقاوة طبيعته الإنسانية، لأن الله هو من خلقها بالطهارة الأصيلة التي فيها، فزاده جمالاً على جمال بالحرية التي توجه بها. وإرادة الله منذ البدء أن يشاركه الإنسان حياته الإلهية، لذلك أراده ان يصير علي مثاله كشبهه، لذلك صار النموذج والمثال أمام الخليقة كلها، ينمو نحو خالقه، ينمو ويزداد في ما أعطاه من قداسة وطهارة ونقاوة في صميم جوهر طبيعته الإنسانية، فيتعمق ويتأصل في معرفة الله الخالق ويأخذ من مجده ونوره ويتوشح به، إذ أراده الله إلهاً بالنعمة، أي كائناً خلاقاً مبتكراً ومبدعاً على شبه من خلقه (طبعاً لا يفهم أحد من الكلام أن الإنسان يتساوى مع الله أو يصير إله بالمعنى الحرفي للكلمة، فهذا مستحيل على وجه الإطلاق، ولكن المعنى أن تتحقق فيه الصورة الإلهية حسب القصد المبارك الذي أعطاه الله للإنسان) ... فمنذ البدء تأسست علاقة شركة محبة مع الله: [ وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار ] (تكوين 3: 8)؛ والمحبة تُمارس في جو الشركة بين طرفين، الله والإنسان، والمحبة – حسب طبيعتها – لا تحيا الا في جو من الحرية، فهي تتغذي من هذه الحرية. فلا إكراه أو غصب في المحبة وإلا صارت عبودية. والله أراد من الإنسان أن يحبه بكل جوارحه وكيانه من داخله، أن يحيا لأجله، و ينمو في الشركة معه باختياره، بملء إرادته وحريته. فإن شاء الانسان نما في هذه الشركة، وإن شاء قطعها مباشرة مع الله ليحيا لنفسه. عموماً في الاصحاح الثالث من سفر التكوين، وفي صميم وضع الانسان في علاقته مع الله والخليقة، فجأة يدخل عنصر غريب يزلزل كيان الإنسان على مستوى الداخل، وكأنما كان لابد أن يدخل هذا العنصر الغريب لتكتمل صورة الإنسان، وخاصةً فيما يتعلق بعلاقته بالله التي قامت منذ البدء علي حرية الإرادة المشروطة، فالإنسان لم يأخذ حرية إرادة مطلقة أو خضوعا مطلقاً لأوامر الله؛ إنما تظهر الحرية المشروطة بقول الله له: [ وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت ] (تكوين 2: 17) وهكذا يظهر منذ البدء أن الطاعة للوصية بالمحبة الصادقة الحرة لله هي الشرط الدائم اللازم لبقاء الانسان حُراً في إرادته الشخصية، يختار ما يختاره الله له بمنتهي الانسجام والتوافق التام، لأن هذا هو مفهوم خلقة الانسان علي صورة الله كشبهه، لأن الصورة إذا اتبعت أصلها، فمن ذا يستطيع أن ينتقص من حريتها وقدرتها علي الحركة نحو الله حبيبها الشخصي، ولكن أن عصت الصورة أصلها فكيف تظل صورة تُشابه من كونها ؟ لأن المرآه أن كانت نظيفة ومصقولة صقلاً جيداً فأنها تعكس الصورة كما هي بدون تشويش، أما أن أصابها خلل أو شرخ أو كسر أو التصقت بها الأوساخ الصعبة فكيف تعكس الصورة نقية واضحة !!! حيث أن العصيان يمثل استقلال الإنسان عن الله، وهُنا يكمن خطر الموت، لأن الله هو مصدر الحياة الدائمة للإنسان، وعلي أقل تقدير نقول أن نفخة الله في الإنسان تتوقف عند استمرارها أو تتعطل !! عموماً، نجد أن حواء تعرضت لإغراء مُضلل، ولكنها كانت حُرة لترفض هذا التضليل وتنفر منه. لكنها نسيت (أو تناست) الكلام الإلهي وسمعت الإغراء الشيطاني؛ وصار ما صار وحدثت المأساة البشرية، إذ أغوت رجلها أيضاً الذي بدوره لم يردها ويذكرها بالوصية لأنه هو من تلقى الوصية أولاً. ومنذ ذاك الحين لازال الإنسان يؤخذ بالخدعة أكثر منه بالصدق. فخطية آدم وحواء تتألف من عصيان واعٍ للفعل المرتكب، مع رفض متعمد للمحبة الإلهية إذ تزعزعت الثقة في وصية الله. وبذلك صارت الخطية اختيار حُر جعل الإنسان يتحوّل من الله إلي الذات (أنظر تكوين 3: 22, 23) ؛ لقد طمعا في أن يصيرا إلهين مستقلين ونسيا المحبة والشركة مع الله الحي، فقد طمعا في أن يصيرا إلهين بقدرتهم ولحساب ذاتهم ولمصلحتهم الشخصية بدون الله. فاستفاد الشيطان من سذاجتهما ونجح في تشويه طبعهم المقدس، فشوه صورة الله فيهما وانطمست. ونأتي لسؤال هام وضروري: لماذا سمح الله للإنسان – والملائكة قبله – بالخطية ؟ لماذا يسمح بالشر والتألم ؟ الجواب : أولاً الله لا يسمح بالشر ولا يأذن به، لأن السماح معناها أن أتى واحد يسأل والآخر جاوب، أو استجاب لهُ، فالله لم يستجيب لأحد ولا أحد استأذنه ليرتكب شرّ فسمح له، لكن السؤال الأدق كيف سقطت الملائكة والإنسان والله لم يمنعهما، أليس هو بقادر أن يمنع اي شر يُرتكب أو أية جريمة تُقام !!! طبعاً بكونه إله المحبة، والمحبة تعني المشاركة، والمحبة تعني أيضاً بالضرورة: [ الحرية ]. وكثالوث المحبة رغب الله أن تُشاركه حياته أشخاص مخلوقة علي صورته الثالوثية، قادرة علي الدخول معه – بحرية إرادة – في شركة محبة. فحيثما توجد حرية توجد محبة، فالإكراه لا يتواجد مع المحبة، لأن لو وجد إكراه إذن تتلاشى المحبة وتُصبح الطاعة عبودية قهرية كالأغلال والقيود التي يستثقلها الإنسان، مثلما يوجد عبد في البيت، فمهما ما كان محبوباً عند أهل البيت فهو يشعر أنه لازال عبداً تحت طاعة أمر ونهي صاحبه، لأنه مملوك لأحدهما لا يستطيع ان ينفك من هذا القيد وهذه التبعية !!! وبالطبع لا يستطيع السيد معرفة محبة عبدهُ لهُ إلا إذا اعطاه حريته الكاملة وتكه لاختياره الحُر. والإنسان خُلق حراً والحُرية هي من صفات الصورة الإلهية فيه. والله – كما يقول بول افديموكوف: [ يستطيع أن يفعل أي شيء ما عدا إكراهنا علي محبته ]، فلذلك لم يخلق الله آلات تطيعه آلياً بتلقائية السميع المجيب، بل خلق ملائكة وكائنات بشرية قادرة علي الاختيار الحُر الواعي وذلك لرغبته في أن تشاركه محبته الفائقة من أعماق كيانها من الداخل. فبدون الحرية لا يكون الإنسان إنساناً، وكائن عاقل مفكر بلا حرية لم يوجد بعد. فنحن نعرف أن الحرية هي قدّر الإنسان الذي لا يخضع لقدّر محتوم، فليس للحيوانات مصير سوي الرعي والذبح والموت. أما الإنسان فهو صاحب مصير خاص، وهو ينسج بيديه مصيره، متراوحاً بين أعلي درجات القداسة وأدني درجات الوحشية. فبدون الحرية لا توجد خطية. ولكن بدون الحرية لا يغدو الانسان علي صورة الله: وبدون الحرية لن يصبح الإنسان قادراً علي الدخول في شركة مع الله في شركة محبة؛ بل ونقدر أن نقول أيضاً بدون الحرية لا توجد طهارة ولا برّ ولا حتى عقل للتفكير، وبالتالي لا خيار بل إجبار، وفي النهاية سيبقى الإنسان ليس إنساناً بل ربما جماد أو إنسان آلي !!! الانسان أخطأ بحرية. ولكن ما الذي يؤلف الخطية الأصلية ؟ الإنسان تلقي الوصية الالهية في روح المحبة، وكان عليه أن يستجيب لإرادة الله بثقة تامة، وبالتالي كان عليه أن يفصل نفسه – بكل رغبته – ليس فقط عن الثمرة، ولكن عن كل شيء خارجي لكي يحيا لله فقط، ليسعي للاتحاد به. وصية الله تظهر للإنسان الطريق المؤدية للارتفاع للمستوى الإلهي، أي إلي الانفصال عن كل ما هو غير إلهي؛ لكن الارادة البشرية اختارت الطريق المضادة، وانفصلت – بحريتها – عن الله، وخضعت بكليتها للشيطان وصارت عبدة لأهواء ذاتها خاضعة للشر الذي يعمل في أبنا المعصية. القديسان غريغوريوس النيسي ومكسيموس المعترف يضعان نبرة خاصة عن المفهوم الطبيعي للخطية. فبدلاً من توجه الروح البشرية نحو الله خالقها وميلها الطبيعي له، توجهت نحو العالم الخارجي وانحدرت لأسفل. وبدلاً من طهارة الجسد وترويضه والارتقاء به وحفظ ملكاته الخاصة، دخلت الروح نفسها إلي تيار الحياة الحيوانية والحّسية، وصارت خاضعة للظروف المادية. لقد دخل الشيطان إلي العالم عبّر الارادة. فالشر ليس طبيعة Φύσης physis، ولكنه حالة (حالة اعتيادية – استعداد ردئ – حالة السوء) و يقول ذياذوخوس فوتيك: [ إن طبيعة الخير أقوي من عادة الشر، لأن الخير يوجد (له مصدر – الله)، والشر لا يوجد (حالة سلبية ليس لها قوام)، أو بالأحرى يوجد فقط في اللحظة التي يُصنع فيها ( وقتي وضعيف جداً لأنه زائل) ] فالخطية هي مرض الإرادة المخدوعة، ولهذا السبب، فبمجرد الرغبة بتذوق ثمرة معرفة الخير والشر كان بحد ذاته خطية. إذ تبعاً للقديس غريغوريوس النيصي: المعرفة تفترض نزعة معينة – رغبة – تجاه الشيء الذي يُريد المرء أن يعرفه، والشر لكونه في ذاته غير موجود ولا كيان لهُ، يجب ألا يُعرف. لقد صار الشرّ واقع فقط بسبب الإرادة وحدها، وبها فقط استمر ليكتمل. إنها الإرادة البشرية التي تعطي للشرّ كياناً معيناً يتحسسه الإنسان. فالإنسان كان ميالاً – بالطبيعة – الي معرفة الله ومحبته، واستطاع بسبب إرادته واختياره الانحراف نحو الخير غير الموجود، أي نحو الشر، أي انه اتجه نحو هدف خادع؛ وهذا تم بتأثير خارجي وإغراء وحث الإرادة الإنسانية لتقبلهُ. الله بعلمه السابق للأمور كان يعرف ما سيجري للإنسان، وكان بإمكانه التدخل لمنعه من الذلل والسقوط بالقوة. فلماذا إذاً لم يتدخل ؟ سؤال يطرحه كثيرون في كل جيل: ولكن هذا السؤال – كما قلنا سابقاً – مناقض لمفهوم الحرية.. الله خلق الإنسان حراً، و لفرط صلاحهُ يريدني أن اختارهُ بكل حرية كما خلقني بحريته ووضع فيَّ صورته وجعلني حراً وفي إمكاني اشوهها أو أحفظها. فلقد أعطاني الحرية لا بأن أرفضه فقط، بل بأن أنكر وجوده أيضاً. ومع ذلك يستمر هو في محبته لي، محبة لا حدود لها، غير متغيرة قط، بدون قيد أو شرط، ودائماً ما يحاول أن يُناديني ليردني إليه لأنه يُريد نجاتي لا إهلاكي .. |