تارح ومأساته
وأية مأساة أقسى من هذه المأساة؟ وأي ضياع أرهب وأشد من هذا الضياع؟، أليس هو ذلك الرجل الذي كان من أقدم من وصفهم الرسول بطرس يوم قال: "لأنه كان خيراً لهم لو لم يعرفوا طريق البر من أنهم بعدما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة المسلمة لهم قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب قد عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة"؟! أجل لقد ضاعت الخمسمائة ميل في طريق دون خير أو جدوى، فلا هو بالإنسان الذي استقر مع قومه دون أن يرحل عنهم وعن صحبتهم وعن الليالي السامرة التي لم يعد يجد مثيلها في الأرض الغريبة النائية،.. ولا هو الذي سار مع ابنه إلى الأرض العظيمة أرض الموعد، ليرى بركات الله وإحسانه ورحمته وجوده!!.. كان تارح من أقدم رجال التاريخ الذي عرجوا بين الفرقتين، وأدرك أنه لا يمكن الاستفادة من القديم أو الجديد على حد سواء!!.. وكان مثلاً بشعاً من أقدم الأمثلة التي تحكي مأساة الارتداد الديني المحزن عن شخص الله،.. وما من شك بأن إبراهيم ابنه –وقد دفنه هناك- وقف على قبره في آلم حالة وأقسى حزن، إذ لم يكن يود له هذا المصير، وودع هذا القبر بالعين الباكية وكأنما يردد بعد ألفي عام ما قاله المسيح لبنات أورشليم اللواتي خرجن وراءه في يوم الصليب نائحات باكيات: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ بل أبكين على أنفسكن وعلى أولادكن".. أو ما قاله الرسول بولس، عندما كتب رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، ويعتقد أنه كتبها من كورنثوس وكان يرى من بعض النوافذ هناك مقابر الوثنيين وقد حفر فوقها لغة اليأس والحزن في عبرات تعتبر ضياع الأمل، وانقضاء الرجاء!!.. ومن ثم كتب: "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الأخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم".. أجل إنه شيء محزن أن نخسر الضياع أو المركز أو الشهرة أو الجاه أو أي متاع أرضي، لكن هذا كله لا يمكن أن يقارن بالخسارة الأبدية!!.. وحق للشاعر "دانتي" أن يكتب على باب الجحيم هذه العبارة: "أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!"..
كان تارح مأساة لنفسه، ومأساة قاسية لابنه الذي كانت ينتظر ولا شك أن يأخذ أباه معه إلى كنعان السماوية،.. ولكن الرجل تخلف وراءه في الطريق، وأضحى مأساة تحذر الآخرين أيضاً في كل جيل وعصر!!.. كان من أشد ما روع الكابتن سكوت في رحلته في القطب الجنوبي. وهو يسير أميالاً متعددة فوق الجليد المتكسر، أن أبصر ورفقاؤه المتعبون معه، شيئاً يلوح من بعيد،.. كان علماً أسود رفع على بقايا ضحايا من الرحالة الذين سقطوا في الطريق، وقد فقدوا الحياة دون أن يبلغوا الغرض المنشود!!... ومنذ آلاف السنين ارتفع علم أسود فوق قبر قديم في أرض حاران لرجل تعثر في الطريق، ومات هناك، وتركه ابنه بعيون دامعة وهو يضع رخامة محزنة فوق القبر ما تزال كلماتها باقية إلى اليوم: "ومات تارح في حاران"..