الشركة في المجد الإلهي
+ قيامة المسيح تفتح أمام الإنسان طريق المحبة التي هي أقوى من الموت، فصورة الله قد استعادت قوتها، وأصبح الموت بذلك عبورا ًللحياة الأبدية، واسترد الإنسان مرة أخرى بنويَّته الله، وحظى بـ «نور الآب»، وأتاه المجد الإلهي، وذلك من خلال حضور المسيح ببشريته اللانهائية. وهكذا صار تنازل الله واتضاعه طريقاً سهلاً لعلو الإنسان وارتقائه إلى المجد الإلهي.
[لنَعُدْ بالذاكرة (إلى ما قبل التجسد) ونتعمن في غالبية الوسائط التي استخدمعا الله لإصلاح الإنسان مما أصابه من ضرر وتفاقم في الإثم نتيجة تعديه، فقد أمَّنه الله أولاً بالوصاية وبالوعد، ثم أعطاه الشريعة (جملة وتفصيلاً، وأرسل له الأنبياء، وزوَّده بالخيرات الوفيرة. ولما تفاقمت شروره، هدد بالعقاب، فأنزل عليه ماء الطوفان ونيران الصواعق، وبعد ذلك أنذره بالحروب. فهمنَّ عليه بالنصرة مرة وتركه للهزيمة مرة أخرى، وأخافه بعلامات خطيرة تحدث في جَلَد السماء، وفي الهواء وفي البر وفي البحر، وبتهديدات من أفراد ومن أمم، وبانقلابات غير متوقعةً، قاصداً بكل هذه إخماد الشر وملاشاته. ولكن الإنسان كان أخيراً في حاجة ماسة إلى دواء أشد فاعلية ليشفيه من مساوئه الكثيرة التي استفحلت... والتي كان آخرها، بل وعلى رأسها وأشدها شراً، عبادته للأوثان التي قدمت للمخلوقات العبادة الواجبة واللائقه بالخالق وحده.
هذه الشرور استلزمت مُنقذا قديراً، لا عيب فيه، لكي يقاومها ويُنهي عليها. هذا هو «كلمة الله» نفسه، الأزلي الأبدي، غير المُدرَك بالحواس البشرية، من ذات جوهر الآب، والنور المولود من النور، منبع الحياة والخلود، والصورة الحية المضاهية تماماً والمعبِّرة في كل شيء عن الله الآب؛ غاية مَرام وعلة وجود الإنسان. إنه يأتي لمن جُبل على صورته الخاصة، بل ويلبس جسده ونفسه الناطقة ليُخلَّص الإثنين: الجسد والنفس كليهما معاً، مطهراً ومصححاً مَنْ تكوَّن على مثاله. لقد قدم لنا يد المعونة كإله، ولكن في هيئة بشرية، متجداً بها في ذات الكيان الواحد.
أواه! الكائن بذاته الذي لا يتغير يُخضع نفسه للصيرورة؛ وغير المخلوق يولد، واللامحدود ينحصر فيما بين اللامادية الإلهية والجسد المادي للبشر. صاحب الخبرات يتخذ صورة مسكنتي.. لكيما يغنيني بلاهوته.. ما هذا السر الذي يحيطني (كإنسان)؟ أنعم الرب عليَّ بالصورة الإلهية ولم أعرف أن أصونها؛ فيتخذ الله شكل بشريتي ليخلِّص هذه الصورة ويمنح الخلود للجسد. إنه يهبنا عهداً جديداً يفوق عجباً بما لا يُقاس ذلك العهد الأول.]1 القديس غريغوريوس النزينزي
[ربنا «الحامل كل الأشياء بكلمة قدرته» (عب 3:1) أتى إلينا في هذه الأزمنة الأخيرة (في هيئة بشرية) لا بحسب ما اقتدر هو، بل بكيفما قدرنا نحن أ، نحتمل رؤيته. أما هو في الحقيقة فكان يمكنه أن يجيء إلينا في مجده الفائق التعبير، لكننا نحن لم يكن في طوقنا بعد أن نحتمل عظم بهاء مجده الإلهي، إذ كنا ما زلنا بعد أطفالاً، لذكا أُعطينا خبز الله الكامل (النازل من السماء) كما في شكل لبن.
هكذا كان مجيئه إلينا كإنسان، حتى إذ نغتذي من ثديي نعمة تجسده ونتعود بهذه الرضاعة، مع النمو قليلاً قليلاً، أن نأكل ونشرب كلمة الله، نقدر أن نصون في أنفسنا ’’خير الخلود‘‘ الذي هو روح الآب.]2 القديس إيرينيئوس
[ابن الله صار إنساناً ليصير الإنسان ابنا لله.]3 القديس إيرينيئوس
[كلمة الله تجسد... ليبيد الموت ويُحيي الإنسان.]4 القديس إيرينيئوس
+ في الواقع، إنه في المسيح أصبح الإنسان منذ الآن فصاعداً، مُعَدًّا لتقبُّل الروح القدس الذي هو قوة القيامة.
[الروح القدس نزل على ابن الله الذي صار أيضاً ابناً للإنسان، وإذ استقر عليه وتآلف معه، حلَّ في الجنس البشري، وسُرَّ أن يتعايش مع الناس.]5 القديس إيرينيئوس
+كما أن الروح القدس قائم في الابن منذ الأزل، وهو الذي يقوم بالمسحة المسيَّانية للابن الآتي في الجسد، فهو أيضاً يستقر على الكنيسة جسد المسيح السري. الروح القدس بمسح بالمثل كل من يطلبون أن يحيوا في المسيح بمعرفة كاملة ووعي روحي، هؤلاء الذين يصيرون «مُسحَاء» على الأرض، الذين بعد أن نالوا معرفة الخلاص يُدعَوْن ويُفرزون لكي يكرزوا به للعالم أجمع.
[المصابيح المنيرة التي تفوق الحصر تُوقد من نفس اللهب، أي أن كلها تشتعل وتنير بفاعلية ذات الجوهر الواحد. كذلك المسيحيون فإنهم يضيئون (كأنوار في العالم) من تأثير فعل ذات النور الإلهي (نور العالم)، ابن الله. فمصابيحهم الموقدة كائنة في أعماق قلبهم، وهي تضيء بسبب حضوره فيهم، في غضون عبورهم في أرض الغربة، تماماً بنفس القدر الذي به يتألق هو ببهائه فيهم. ألم يَقُل الروح القدس: «من أجل ذلك مسحك الله بدهن الابتهاج» (مزمور 8:45)؟ لقد دُعي «مسيحاً» لأنه إذ تقبَّل مسحة نفس الدهن، نقدر نحن أيضاً أن نُدعى «مسحاء» لكوننا نحوز نفس الطبيعة ونُكوِّن معه نفس الجسد. وقد عبَّر الرسول عن هذ تماماً عندما كتب قائلاً: «الذي يُقدِّس والذين يتقدسون هم كلاهما من واحد (أي يكوِّنون كلاَّ واحداً.» (عب 11:2)]6 القديس مقاريوس الكبير
+ وهكذا باتحاد الروح القدس مع حريتنا نقدر أن نرتقي من «الصورة» إلى «المثال أو التماثل». هذا «التماثل أو المشابهة» لا تتمثل إلا في قوة القيامة العامة، وفي الحياة الأبدية الفائقة عن كل وصف، وفي شركة القديسين حول المائدة السماوية التي يُدعى إليها المخلَّصون، حيث يبلغ المؤمنون هناك غاية مطلبهم، حينما يتجلى الله بمجده ويُستعلن فينا، فيصير «الكل في الكل» و«الكل في كل واحد». فالمثال (الذي هو تكميل «الصورة» إنما يتم ويكمل بعد نهاية هذه الحياة الدنيا وبدء الحياة الأخرى في السماء. ولكنه يتحقق جزئياً الآن متطلعاً بعين الرجاء إلى بلوغ اكتمال ملئه في سيادة الله الكاملة على الحياة.
[(على صورة الله ومثاله جُبل الإنسان): أما الصورة فقد نال الإنسان كرامتها منذ البداية؛ ولكن المثال قد استُبقي ليكون قمة الكمال (الروحي) الذي ينبغي أن يصل إليه... والقديس يوحنا الرسول يشير أيضاً إلى هذه الحقيقة بأشد وضوح وبتعبيرات عجيبة للغاية عندما يقول: «يا أولادي نحن لا نعلم بعد ما سنكون، ولكن إذا أُظهر لنا، حينئذ سنكون مثله.» (1يو 2:3)
وفي الإنجيل يومئ الرب إلى هذا ’’المثال‘‘ لخير آتٍ أو بالأحرى وعلى وجه التحديد كنعمة سنحظى بها بواسطته، عندما يطلب من الآب من أجل تلاميذه قائلاً: «أيها الآب أريد أنه حيث أكون أنا، يكونون هم أيضاً معي» (يو 24:17)؛ «كما أنت وأنا واحد، ليكونوا هم واحداً فينا.» (يو 21:17).
في هذا الكلام يمكن أن يُلاحظ أن هذا المثال يرقى، وكأنه ينمو بنوع ما حتى يصير وَحدة (روحية مع الله)، فاتحاً لنا باب الرجاء لبلوغ الكمال حيث المصير النهائي والغاية العليا لكل شيء، حينما سيكون الله الكل في الكل.]7 العلامة أوريجانوس
__________________
تم تضمن الحواشي في ملف PDF و الـ WORD لحدوث مشاكل في ظهورها في الموضوع (بعض الكلمات تظهر على هيئة رموز)
__________________
ترجمة وإعداد: رهبان دير القديس أنبا مقار
مقالات مُترجمة عن كتاب:
SOURCES: Les Mystiques Chrétiens des Origines (منابع الروحانية المسيحية في أصولها الأولى). للفيلسوف الفرنسي المعاصر والعالم الآبائي أوليفيه كليمانت Olivier Clément
الناشر: دار مجلة مرقس
الطبعة الأولى: 1944
مقالات سبق نشرها في مجلة مرقس أعداد من شهر سبتمبر إلى ديسمبر 1989
__________________
.
.
.