رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
البابليّون
كان القسم الجنوبي من العراق الحديثة هو مملكة بابل القديمة. وقد برزت مدينة بابل أول مرة كقوة عظيمة نحو 1850 ق م لبضعة أجيال، ومرة أخرى بعد 1200 سنة وذلك تحت حكم نبوخذنصر. والذي جعل بابل شهيرة في التاريخ العالمي ما هو إلا مجد المدينة التي بناها نبوخذنصر. الكتابة:لكن الحضارة ابتدأت في بابل قبل بروز نجم المدينة بزمان طويل. فما إن تعلم الإنسان كيف يستعمل مياه الأنهار لري الأراضي حتى أخذت المدن تنشأ هناك وقد اكتُشِفت هياكل ضخمة من الآجُرّ في أُرُك (وركة الحديثة، وأَرَك في الكتاب المقدس- تكوين 10: 10). وأعمدة هذه الهياكل، الواقفة وحدها، مزينة بقطع الفسيفساء الملونة. وُجدت في بابل أقدم كتابة معروفة، وهي أوائل المدونات بالخط المسماري البابلي حيث تمثل 800 صورة بسيطة (أو أكثر) أشياء شائعة الاستعمال وأفكاراً معينة. وسرعان ما تحول دور هذه الصور عن تمثيل الأشياء إلى استعمالها رموزاً للمقاطع اللفظية نظراً لقيمتها الصوتية فقط. فمثلاً، إذا رُسِمت صورة قس ثم صورة طاس، فهاتان الصورتان تفيدان إما أن القس يستعمل الطاس وإما أن الطاس خاص بالقس، ولكن يمكن استخدام هاتين الصورتين لتمثيل المقطعين اللفظيين اللذين يؤلفان الكلمة "قسطاس" ومعناها "ميزان". بُعَيْد ذلك أضيفت علامات أخرى للإشارة إلى التحولات النحوية بين فاعلٍ ومفعولٍ ونحوهما. السومريون والأكاديون:لا نستطيع أن نفهم ألواح الآجُرّ الأقدم عهداً. ولكن تلك العائدة إلى المرحلة التالية- نحو 3200 ق م- مكتوبة على نحوٍ واضح بلغةٍ ندعوها السومرية. وتحتوي هذه الألواح على قوائم كلمات موزعة في مجموعات (أحجار، حيوانات، صنائع) ونماذج أدبية بدائية، وقيود حساب وسندات بيع. فبسرعة تطورت الصور المعروفة إلى مجموعاتٍ من الخطوط (كان من السهل أن تكتب على الطين)، ونتج من ذلك الخط المسماري الشبيه بالأسافين. وألواح الآجُرّ الطينية تحفظ جيداً في التربة. وقد استفدنا منها معلوماتٍ عن بابل أكثر مما لدينا تقريباً عن أية حضارة قديمة أخرى. ربما لم يكن السومريون أول شعبٍ عاش في بابل. ولكن لأنهم تركوا تلك الوثائق، فهم أول من يمكننا أن نحدِّدهم ونسمِّيَهم. أما أصلهم فغير معروف، ولا نستطيع أن نربط لغتهم بأية لغة أخرى في العالم. وجنباً إلى جنب معهم في الشمال عاش أهل القبائل الأكادية. أما لغة هؤلاء فكانت لغةً سامية وهي شكلٌ بدائيٌّ من أشكال البابلية ذات صلةٍ بالعربية والعبرية. وقد قام علماء بابل القديمة بترجماتٍ من السومرية إلى الأكادية، وهذه الترجمات تمكّن الدارسين المحدثين من ترجمة السومرية. الفن والعمران:وأي من كان السومريون، فإن عبقريتهم- على ما يبدو- أفضت إلى اختراع الكتابة، وربما إلى العربات ذات العجلات، وإلى الحياة المدينية في بابل. وقد دوّن السومريون نحو السنة 200 ق م قصصاً تتحدث عن مآثر أبطالهم وآلهتهم. وأشهر هؤلاء هو جلقامش ملك أُرُك، وقد عاش في أوائل الألف الثالث ق م، وزحف إلى جبال لبنان لإحضار خشب الأرز، وربما إلى تركيا أيضاً. وقد أدّى به بحثه عن الحياة الأبدية إلى لقاء نوحٍ البابلي، فأفاده هذا كيف أُعطي الخلود بعد نجاته من الطوفان. وأُتيحت لجلقامش فرصتان لبلوغ هدفه، إلا أنه ضيعهما كلتيهما، وعاد إلى موطنه مستنتجاً أن الإنسان لا يمكن أن يحي اسمه بعد موته إلا من طريق الشهرة. وقد بينَّت الأبحاث الحديثة أن بعض هذه القصص قد يكون لها أصلٌ في الواقع، وإن كانت معروضة بطريقة السرد الأُسطوري. نحو السنة 2300 ق م تأتي للساميين أن يسيطروا على بابل بقيادة الملك سرجون. وكانت عاصمته في أكاد، وهو مكان لم يُستكشف بعد. وقد امتدت مملكته إلى شمال سوريا، حيث حارب ملك إبْلَة. منذ ذلك الزمن فصاعداً صارت اللغة السومرية أقل أهمية من الأكادية. وقد حافظت أسرة سرجون على مملكته قرابة قرن حتى كسر شوكتها غُزاة من الشرق. ومنذ 2100 إلى 2000 ق م تقريباً أقامت سلسلة ملوكٍ كانت أُور قاعدتهم مملكةً موازية. في الألف الثالث ق م (3000- 2000) أنتج الصاغة حليّاً ومجوهرات دقيقة مصنوعة من الذهب والفضة وأشباه الأحجار الكريمة المستوردة من الشرق والجنوب. وسبك الحدّادون نُحاساًً وبرونزاً للأسلحة والتماثيل. كما أنتج النحاتون قطعاً من أجل منجزات الفن البابلي- من الأنصاب الضخمة إلى الأختام الأسطوانية (بارتفاع 5 سم) التي كانت تدحرج براحة اليد على سطحٍ طيني فتنطبع فيه الصورة المنحوتة عليها. وقد وُجدت أمثلة بارزة على هذه البدائع في القبور الملكية بأُور (ويعود تاريخها إلى نحو 2400 ق م). فالرؤساء المحليّون دُفنوا في تلك القبور مع رجال حاشيتهم، مزينين بجواهرهم، مع عرباتهم ومركباتهم. النقوش:تبدو الألواح الصغيرة، التي دونت عليها المعاملات والحسابات، أقل فائدة من سائر النقوش. لكنها مع ذلك ذات قيمة كبيرة نظراً للأسماء التي تتضمنها. فإذا درسناها بتدقيق، نستطيع فوز أسماء سومرية وأكادية وأجنبية. ويتبين أنه منذ 2400 ق م تكثر الأسماء من نوع الذي استعمله الساميون في الغرب في ما بعد (عند الكنعانيين والعبرانيين). وبحلول العام 2000 ق م كانت أعداد وافرة من هؤلاء "الغربيين" (الأموريين) تصب في بابل ومنهم من تولوا حكم المدن القديمة. حمورابي: كان أشهر ملوكهم حمورابي ملك بابل، نحو 1792- 1750 ق م. وقد ظفر بالسيادة على مدينته من طريق الحرب واللباقة. وخلال مدة ملكه راجع قوانين البلد وطلب نقشها في الحجر. وقد كانت هذه "قوانين افتراضية" شبيهة بما جاء في خروج 21 و22، إذ يبدأ كل منها بالقول "إذا فعل أحدٌ كذا وكذا..." إنما في شريعة حمورابي لا يُمنع شيء على أسس أخلاقية كما هي الحال في الوصايا العشر. ورغم الدعم الملكي، بطل سريعاً استعمال هذه القوانين، لكنها ظلت تُنسخ في المدارس ألف سنة أخرى. انهارت سلالة حمورابي لما غزا جيش حثي بابل سنة 1595 ق م. ومن ثم تولى الحكم ملوكٌ شرقيون لم يكونوا ساميي الأصل، إلا أنهم تكيفوا سريعاً مع الحضارة البابلية. وشهدت البلاد فترة سلام دامت 400 سنة، ثم قامت سلالةٌ محلية تولد المُلك. نبوحذنصَّر والإمبراطورية: ظل الكلدانيون والأراميون من الغرب يُثيرون الاضطراب حتى هزم الملك الكلداني نبوبلاسر الأشوريين (612 ق م). وقد شملت مملكته الجديدة معظم الولايات الأشورية، مع أنه كان على ابنه نبوخذنصر (605- 562 ق م) أن يسحق المتمردين في الغرب، بمن فيهم يهوذا. وقد أتاح ثراء المملكة لهذين الملكين أن يعيدا بناء بابل على نطاق أوسع وبكثير من التزيين. ويصف سفر دانيال كيف ضُرب نبوخذنصر وهو يتباهى بصنعة يديه (دانيال 4). وقد قُتِلَ ابنه على يد القائد نرجلاسر (نرجل شراصر في إرميا 39: 3)، ولكن نبونيدس بدوره أزاح ابن نرجلاسر. وكانت لدى هذا الملك قناعاتٌ دينية قوية، فترك بابل في عهدة ابنه بيلشاصر، وقضى عشر سنين في العربية. وبعد عودته، استولى جيش كورش الفارسيّ على بابل. وهكذا انتقل مركز التاريخ العالمي بعيداً عن تلك المدينة مرةً أخيرة. وتعود أفضال البابليين على العالم عموماً إلى الفترة الممتدة ما بين 3000 و1600 ق م، عندما انتشر نظام الكتابة البابلي في الشرق الأوسط. ومعه انتشرت معرفة الفلك والرياضيات (تقسيم الدائرة، الساعة، اليوم)، الأمر الذي اقتبسه اليونانيون. وقد كان للبابليين بلا شك تأثيرات قوية أخرى، إلا أنه يصعب تتبع آثارها. راجع أيضاً ديانة أشور وبابل. |