المقدمة
تنقسم بلاد اليونان إلى مقاطعتين رئيسيتين هما: إخائية فى الجنوب وأشهر مدنها كورنثوس وأثينا، ومقاطعة مكدونية فى الشمال وأشهر مدنها فيليبى وتسالونيكى. ولقد ضم فيلبس المكدونى فيليبى إلى مملكته سنة 356 ق.م ووسعّها وحصنّها ودعاها بإسمه. وفيلبس المكدونى هو أبو الإسكندر الأكبر.
وفيليبى تشمل مناجم ذهب. وهى طريق رئيسى بين أوروبا وآسيا. ولموقعها الجغرافى صارت مدينة تجارية هامة ولقد سقطت تحت يد الرومان سنة 168 ق.م وأصبحت فيما بعد كولونية (أع 16: 12). أى مستعمرة لها إمتيازات خاصة تحت حكم الرومان. ولقد أسكن أغسطس قيصر جنوده المنتصرين فيها مكافأة لهم. وكان سكانها يتمتعون بكل حقوق وامتيازات المواطن الروماني كسكان روما تماماً. ولا يدفع أهلها ضرائب، مما جعلهم يعتبرونها جزءً من روما (وهذا معنى كولونية). ولذلك كان أهل فيليبى يفتخرون بهذا الوضع ولسبب رعويتهم الرومانية المتميزة. بل كانوا يلبسون أزياء رومانية، حتى صارت فيليبى صورة مصغرة لروما. وقبل إيمان فيليبى إنتشر فيها السحر والعرافة والعبادات الوثنية، أى أن الشيطان كان مسيطراً على أهل المدينة.
زارها بولس الرسول سنة 52 م حيث أسس أول كنيسة فى أوروبا بعد أن ظهر له فى رؤيا رجل مكدونى يطلب إليه قائلاً "أعبر إلينا وأعنا" (أع 9:16). فآمن على يديه كثيرون منهم ليديا، وكانت ليديا أول من آمنت فى فيليبى. وفيها سُجِن الرسولان بولس وسيلا حيث أخرجهما الرب فكرزا للسجان وأهل بيته وكانا بولس وسيلا قد سُجنا بسبب ثورة حدثت حينما أخرج بولس الشياطين من العرافة فغضب أسيادها لانقطاع أرباحهم. وهم قبضوا على بولس وسيلا ظناً منهم أنهما يهوديان، ثم أدركوا أنهما رومانيان. وكان ليس من السهل القبض على الرومان إلاّ بحسب القانون الرومانى، لذلك إذ عرفوا أنهما رومانيان أطلقوا سراحهما.
تاريخ كتابتها:
يُرجج أنه نحو سنة 63 م قرب نهاية أسر بولس الأول فى روما، حيث كان يتوقع سرعة الإفراج عنه (13:1، 25) + (2: 24،23). ورسائل الأسر الأول هى أفسس وكولوسى وفيليبى وفليمون.
غرض الرسالة:
vلما سمع أهل فيليبى أن بولس مسجون ومريض أرسلوا له أبفرودتس بالعطايا والهدايا. ولكن أبفرودتس مرض أثناء خدمته لبولس فى روما. وإذ مرض أبفرودتس وقارب الموت، سمع بذلك أهل فيليبى وحزنوا، فحزن الرسول على حزنهم وأرسل لهم يطمئنهم على أبفرودتس وأرسله لهم ليطمئنوا. وأرسل لهم أيضاً يشكرهم على عطاياهم ومحبتهم (25:2 + 4: 18،16،10). وهو يشيد بهم لتبرعاتهم (2كو 11: 9،8 + 8: 4،3). ولنرى مشاعر الحب العجيبة فى محبة الكل للكل. وبولس لم يقبل مساعدة مالية سوى من أهل فيليبى وذلك لشعوره بمحبتهم الحقيقية ومشاعرهم الطيبة، أما هو عن نفسه فنعرف أنه قد تعلم أن يكون قنوعاً ومقتنعاً بما عنده حتى لو كان قليلاً. بل أن أهل فيليبى تبرعوا بالكثير لأورشليم (2كو8: 1-5) حيث ترى إشارة بولس الرسول لكرم كنائس مكدونية.
vوردت كلمة الحب فى هذه الرسالة 11 مرة، وهى خالية من التوبيخ أو النقد، بل نرى فيها عواطف حارة نحو أبناء لهم مكانتهم الخاصة فى قلب الرسول، إذ ذهب إليهم برؤيا، وكانوا أول كنيسة يؤسسها فى أوروبا. ونرى فى الرسالة إهتمام الرسول برعيته المحبوبة. ومحبته الخاصة لهم وفرحته بهم إذ كانوا كنيسة قوية. وبالرغم من أسر الرسول وسجنه فالرسالة تنضح بنغمة الفرح، لقد تعلّم الرسول أن يفرح بالرب كل حين. لقد حبسه العالم فى سجن ولكن لا يستطيع أحد أن يمنع تعزيات الله عنه، بالرغم من السلاسل والضرب والإهانات وهذا ما حدث مع الرسل (أع 41:5). وهذا هو معنى الإنتصار فى المسيحية. فالانتصار ليس في الخروج من التجربة أو انتهاء الألم أو الظروف المكدرة بل فى إستمرار الفرح والتعزيات حتى فى وسط التجربة.
مثال: الثلاثة فتية فى أتون النار. فالله لم يطفىء النار بل جاء وسطهم وحوّل النار لجنة يسيرون فيها. وهذه هى طريقة الله. فهو لا يخرجنا من التجربة بل يعطينا التعزية وسط التجربة "شماله تحت رأسى ويمينه تعانقنى" (نش 6:2). بل نرى أنه ولا حتى الموت صار من الأمور المقاومة لنا، فالموت سيقودنا للسماء، فإن كنا نحيا فى السماء من الآن كعربون لما سوف نأخذه بعد ذلك "سيرتنا فى السماوات" (فى20:3). فإننا بالتأكيد سنشتهى أن نذهب فعلاً إلى السماء (فى23:1). المسيحية جعلتنا نحيا فى السماويات الآن كعربون (أف6:2). وجعلت الموت شهوة. هذه هي الغلبة على الموت، وهذا هو الإنتصار فى المسيحية على الألم، أى الفرح الذى لا ينزعه أحد منا (يو22:16). مهما كانت الظروف مكدرة. نحن نعيش منتظرين بشوق مجيىء المخلص. ولقد وردت كلمة الفرح فى هذه الرسالة 16 مرة، لذلك فهى رسالة حب وفرح. حب من راعٍ أمين لرعيته، وحب من الرعية لراعيها، وحب بين أفراد الرعية بعضهم لبعض، ودعوة للحب الحقيقى بينهم ونبذ الذات، ليستمر هذا الحب ويستمر هذا الفرح وسط الضيقات، وتستمر التعزيات الإلهية وسط طريق الألم. عموماً فلا فرح بدون محبة ولا محبة بدون فرح. فالفرح ناشىء عن المحبة، وثمار الروح "محبة، فرح، سلام..." (غل22:5) وهذه هى الحالة الفردوسية الأولى فى جنة عدن (عدن تعنى فرح) إذ كان آدم يحب الله ويحب حواء قبل الخطية. والله بعد فدائه لنا تركنا في العالم المملوء بالألم ولكنه قادر أن يملأ قلوب أولاده بالفرح والسلام والتعزية (يو 22:16).
vيبدو أن البعض من المتهودين والمتفلسفين (غالباً من الغنوسيين) كرزوا بالمسيح أثناء سجن الرسول بغرض سيىء، ألاّ وهو إغاظة بولس الرسول، ولكى يتعرض لضيقات أكثر، فجاءت نغمة الرسالة، وحدانية الروح والفرح. والرسول انتهز الفرصة ليعطيهم بعض التعاليم ضد ما سمعوه من أفكار فلسفية ومن متهودين من الذين كرزوا لإغاظته.
vالله قادر أن يخرج من الجافى حلاوة. فنجد أن الرسول استغل فرصة سجنه وبشر كثيرين من الجنود، بل ومن بيت قيصر. وهنا نجد الرسول يُطمئن أهل فيليبى على إستمرار خدمته وسط آلامه وسجنه، وأن كلمة الله لا تُقيد.
vكان للنساء عملهن وخدمتهن فى الكنيسة، ويبدو أن إختلافاً فى الفكر دب بينهن (2:4). لذلك أكثر الرسول من كلمة "جميعكم" مع التشديد على الوحدانية وحثهم على نكران الذات والتواضع، وطلب الصلح بين سيدتين خادمتين هما أفودية وسنتيخى، ويبدو أنهما كانا لهما مركزاً هاماً فى كنيسة فيليبى. ولكن يبدو أنه لم يكن فى كنيسة فيليبى خلافات تُذكر سوى خلاف هاتين السيدتين.
vنلاحظ أن حالة أهل فيليبى كانت جيدة، فلم يكن هناك داعٍ لأن يوبخهم على شىء، ولا نرى فيها تعليماً مرتباً كما فى رسالة رومية مثلاً، لذلك فهى تتضمن ما يختص باختبارات القديسين وهم فى حالة مرضية لله.
vالرسول هنا كان يرسل لأصدقاء فحدثهم عن أخباره وأخبار نجاح خدمته.
vكان عدد اليهود الذين أقاموا فى فيليبى قليلاً جداً، ولم يكن هناك مجمع لليهود. بل كان النسوة يجتمعن على شاطىء النهر للعبادة. لذلك كان تعصب اليهود فى فيليبى لا يُذكر. وكان هناك مذبح لإله وثنى على جبل قرب المدينة. ويبدو أن اجتماع اليهود عند هذا النهر كان ينضم إليه بعض الوثنيين، فليديا الوثنية كانت حاضرة لخطاب بولس فى هذا الاجتماع وآمنت. وربما تكون ليديا قد تهودت، قبل أن تؤمن بالمسيح على يدى بولس.
vعَيَّرَ الوثنيون المؤمنين فى فيليبى بأنهم عبدوا إنساناً حُكِمَ عليه بالموت صلباً، وهذه الميتة هى أحقر ميتة عند الرومان واليونان، لذلك فالرسول يوضح لهم فضل معرفة المسيح المصلوب. وربما بدأ الوثنيون يتهمون المسيحيين بإنشاء دين محرم جديد، فيقول لهم الرسول "وُهِبَ لكم أن تتألموا" (فى 29:1).
vكتب لهم الرسول يذكرهم بأنهم إن كانوا يفتخرون برعويتهم الرومانية، فعليهم بالأولى أن يفتخروا برعويتهم السماوية.
vحمل أبفرودتس هذه الرسالة لأهل فيليبى لكى يطمئنوا على صحته.
vينظر الرسول على كنيسة فيليبى وهم بدونه كمعلم ومصلح لأخطائهم ومشجع لهم ليعلمهم أن يلقوا برجائهم على الرب وحده.