كيف اميز مشيئة الله
لعلنا ندرك أن :
ضعفنا البشرى ومحدودية معرفتنا بالحاضر وجهلنا بما يخبؤه المستقبل.
ضرورة توافق مشيئتنا مع الله المحب، القادر على كل شئ، صانع الخيرات.. مع قناعة كاملة، وثقة فى حنان الله وحكمته.
ضرورة
الاحتماء بمظلة الصلاة، وروح التسليم طوال مسيرتنا، ونحن نناقش موضوعاً
معيناً، لنستطيع أن نضمن التدخل الإلهى بالصورة المناسبة وفى اللحظة
المناسبة.
ضرورة أن تتناغم كل قوى النفس، وتعمل معاً، بقيادة روح الله
القدوس، فيأخذ كل من: الضمير والعقل والنفس والجسم والمجتمع، الدور
المناسب، بالحجم المناسب.
أهمية سؤال الله باستمرار، والتشاور مع أب
الاعتراف،والدخول فى حوار هادئ وهادف، دون تشبث أو عناد، بل فى إحساس
بالضعف والقصور والحاجة إلى مشورة بناءة.
بعد كل ذلك.. كيف أميز مشيئة الله؟ هل هناك علامات معينة، أستطيع بها أن أتأكد أن
ما أستقر عليه الرأى هو مشيئة الله؟
+ العلامات :
يتصور
البعض أن يعطينا الرب علامات معجزية أو محددة، نتعرف بها على مشيئة الله،
كأن نحلم بشئ، أو يحدث شئ محدد، أو نسمع كلمة معينة من شخص ما... الخ.
ولكن هذا الأسلوب غير سليم لأسباب:
أن الله أعطانا روحه القدوس ليرشدنا
إلى جميع طرق الحق، فلا يصح أن نتعامل مع الله من باب الخرافات والتخمين
والرؤى والأحلام، لأنه حاضر معنا، وعامل فينا وقادر على إرشادنا..
سهولة تدخل عدو الخير فى هذه الأمور، إذ يعرف إلحاحنا عليها واهتمامنا بها، وهكذا يصور لنا هذه العلامة أو تلك ليسقطنا فى حفرة...
احتمالات
الخداع النفسانى، فلاشك أن الأحلام مرآة لشهوات واهتمامات النفس، فإذا
اشتهيت أمراً ما حتى إذا كان سلبياً - فمن الممكن أن يدخل الارتباك.. وحتى
الإنحراف!
وهكذا فالإنسان المؤمن لا يعلق نفسه بأمور غريبة، فكم أضاعت الرؤى والأحلام قديسين
فقدوا
الافراز أو الاتضاع، وانساقوا وراء إيحاءات عدو الخير. وهناك باب فى بستان
الرهبان مخصص لهذا الخطر. كما أن القديس انطونيوس الكبير يعتبر فضيلة
الإفراز أهم الفضائل، وبدونها تتحول الفضائل إلى رذائل. فهذا يصلى دون
إفراز لدوافعه، فيطيل فى صلاته طالباً مديح من الناس، فتحسب صلاته عليه
ولا تبنى حياته إطلاقاً، بل بالحرى تضخم من ذاته فيسقط فى الكبرياء..
وهكذا.
لذلك لا يصح أن ننتظر علامات غريبة لنعرف مشيئة الله فى أمر ما،
بل هناك روح الله القدوس، وهناك التفكير الإنسانى، وأب الاعتراف، والأسرة
والأحباء المشيرين.. الخ.
+ القرعة الهيكلية :
يلجأ
البعض إلى هذا الأسلوب لكى يتعرف على مشيئة الله، ولكن هذا الأسلوب غالباً
ما لا يكون مناسباً.. والحالة الوحيدة التى يكون فيها مناسباً، تستلزم
شروطاً صعبة التنفيذ وهى:
أن يكون الإنسان مخلصاً تماماً فى التعرف على مشيئة الله، وتاركاً النتيجة بصفة نهائية وحاسمة لله.
أن يكون الاختيار بين أمرين متساوياً تماماً، بحيث استحال على الإنسان أن يختار هذا ويترك ذاك.
ألا يتردد الإنسان بعد خروج النتيجة بل يعتبرها نهائية.
وعموماً،
هذه الأمور صعبة التواجد فى الحياة اليومية، إذ لابد أن يجد الإنسان -
بروح الله، وبالتفكير، والمشورة - ما يجعله يرجح كفة على الأخرى. وما
نلاحظه عموماً أن الإنسان بعد خروج النتيجة يتضح أنه :
إما كان يشتاق إليها فيستريح، وقد يكون اشتياقه على أساس خاطئ.
وإما أنه كان ينتظر الرفض مثلاً فتأتى النتيجة بالإيجاب (أو العكس)، فيطلب تكرار القرعة.
وإما أنه أقتنع فيما بعد بإختيار لم تفرزه القرعة فيتشكك.. أنه خالف المذبح.
لهذا
فيستحسن عدم اللجوء إلى القرعة الهيكلية عموماً، ما لم تتوافر الشروط التى
ذكرناها قبلاً. وإذا ما تحير الإنسان، فعليه أن يلجأ إلى المزيد من
الصلاة، والتفكير والتشاور، والرب سيحسم الأمر لأولاده سلباً أو إيجاباً
بآلاف الوسائل.
إن الآباء الرسل لم يلجأوا إلى القرعة إلا :
قبل حلول الروح القدس...
2- فى حالة تساوى الاختيارات، فالشروط توافرت بالتساوى بين متياس ويوسف (أع 21:1-26).
فنصلى من عمق القلب طالبين تدخل الرب، وإرشاده، وحسمه للأمور، وقطعاً سيتدخل، ويوضح كل شئ!
+ إذن، كيف أعرف ؟
إن
مشيئة الله، حينما تتضح لنا من خلال الصلاة المتواترة التى تلح على روح
الله، والتسليم الصادق لمشيئة الله عن ثقة واقتناع، والتفكير الهادئ
الرزين، والحوّار البناّء مع آخرين.. تحمل معها علامات معينة :
السلام الداخلى :
إذ
يحس الإنسان بصفاء نفسى وسلام داخلى، نحو القرار الذى أتخذه، مع ضمير
مستريح أنه يترك للرب أن يحدد ما يختاره، بحكم علمه الواسع، وحنانه الدافق
وقدرته اللانهائية.
موافقة الكتاب المقدس :
إذ يستحيل أن يتعارض
الإختيار الإلهى مع وصايا الكتاب، فمكان العمل المعثر والذى يسبب نكوصاً
على الأعقاب ليس من الله، وشريكة الحياة البعيدة عن روح المسيح ليست من
الله، والقرار المادى الذى تفوح منه رائحة الطمع أو استخدام وسائل غير
مشروعة ليس من الله.. وهكذا.
سير الظروف :
إذ يتحرك الإنسان تحت
حمى مظلة الصلاة، تاركاً للرب أن يتدخل بالصورة التى يراها، بحيث تسود
مشيئته كل مشيئة. حينئذ سوف يتدخل الله قطعاً إما إيجاباً أو سلباً أو
تأجيلاً.. وسوف يكون الإنسان فى قمة الراحة لأى اختيار إلهى من هذه
الثلاثة، "لأن شهوة قلبه مختارة أفضل من الذهب والحجر الكثير الثمن، وأحلى
من العسل والشهد. عبدك يحفظها، وفى حفظها ثواب عظيم"
(مز 10:19).
وهكذا يتحرك الإنسان فى الطريق دون توتر، ودون شهوة ذاتية أو مشيئة خاصة، وصرخة قلبه المستمرة: "لتكن مشيئتك" (مت 10:6).
من
حقه أن يطلب، حسب وصية الرب: "اسألوا تعطوا، أطلبوا تجدوا" (مت 7:7)، "لا
تهتموا بشئ، بل فى كل شئ بالصلاة والدعاء مع الشكر لتعلم طلباتكم لدى
الله" (فى 6:4)، ولكنه يسلم كل شئ لله، تاركاً له تحديد المسار، والنتيجة
النهائية: "لتكن لا إرادتى بل إرادتك" (مت 42:22)
وقديماً قال الآباء: "سوف يأتى وقت فيه نشكر الله على الصلوات غير المستجابة أكثر من الصلوات المستجابة".
ونحن
كثيراً ما نطلب دون أن نأخذ، لأننا حسب تعبير الرسول "نطلب ردياً لكى ننفق
فى لذاتنا" (يع 3:4)، "فلنطلب أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تزاد لنا"
(مت 33:6).
فليعطنا الرب القلب المرتبط به، والحياة السالكة فيه،
والأذن الواعية لصوته، لنتعرف على مشيئته المقدسة، ونضعها بفرح قائلين:
"طعامى أن أعمل مشيئة الذى أرسلنى وأتمم عمله" (يو 34:4)، ولاشك أن مشيئته
"صالحة ومرضية وكاملة" (رو 2:12).