رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
العلاقة بين مفهوم حرية الإنسان وحق الإنجيل إن كل ما يحدث على الساحة في الأوساط المسيحية من تداول لنظريات وتعاليم تمس الإيمان المُسَلَّم مرة للقديسين، يُثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن إبليس ما زال يعمل بكل جدٍّ واجتهاد ليُرسِّخ في الأذهان بناءً شاهقًا يرتفع ضد معرفة الله، وعلى كل أمينٍ للرب أن يهدمه في كل ذهن، مُمسكًا سيف الروح الذي هو كلمة الله (٢كو١٠ ٣-٦)، كما وعلى كل مَن يقول إنه للرب أن يُثبت ذلك بأن يتجنب كل إثم تعليمي، أي ينفصل ليس عن الإثم نفسه فقط بل عمَن يُنادي به أيضًا، كما وعن كل مَن اتخذ موقفًا رماديًّا منه (٢تي٢: ١٩-٢١). منذ فجر تاريخ الكنيسة التي جعلها الله في نعمته شهادته على الأرض (١تي٣: ١٥)، زرع الشيطان فيها بذرة ما أردأها! تلك البذرة التي أطلق عليها الرسول بولس ”إنجيل آخر“. فالشيطان إذ يعمل جاهدًا لتشويه صورة الله أمام الإنسان، نجد على الساحة الآن عدة قضايا، وما سنتناوله هنا هو ما يتعلق برسالة الإنجيل. والإنجيل الآخر – بمفهوم الرسول بولس - ليس إنجيل تم تحريف نصوصه، لكنه ذلك الإنجيل الذي يُقدِّم المسيح للنفوس كمُخلِّص، لكن بعد تفريغ إنجيل الله النقي من تفاصيل الحق المختص به، ليُقدَّم للنفوس إنجيلًا منزوع الحق، ويؤدي بالنفوس للهلاك بدلًا من الخلاص. في البداية كان إنجيل التهود أو الإنجيل الطقسي هو أول إنجيل آخر، والشيطان لأنه الكذّاب لديه الكثير من الأناجيل الأخرى، ولكل واحد منهم عملاؤه ومريدوه. والإنجيل الآخر المُروَّج له الآن يقف على النقيض من الإنجيل الطقسي الذي قد ثبَّت جذوره على مدى قرون طويلة، فهو إنجيل له طابع تحرري بشكل عام، ولذا لم يكن مُكتسِبًا أرضًا تُذكر طوال العقود السابقة، خاصة في بلادنا. لكن الشيطان، وهو يجيد اختيار التوقيت الذي فيه يعرض بضاعته، اغتنم الحالة الثورية التي اجتاحت كل شيء في مصر في السنوات الماضية، حيث كانت تلك الحالة بمثابة بيئة مناسبة للترويج لمثل هذا الإنجيل؛ ذلك لأنه أتى بتعاليم تنادي بكرامة الإنسان وحريته ليتلاقى بذلك مع جزء أصيل من مطالب ثورة الشباب. كما أنه حمل شعار التنوير والمعرفة، واعتمد منهجية الفلاسفة التي تقوم على التشكيك في كل الثوابت كنقطة انطلاق عقل الإنسان للوصول لليقين من خلال تحكيم المنطق. تلك المنهجية التي اعتُمدت كمرجعية للفصل في أي قضية فكرية متعلقة بالإيمان المسيحي، وصار الكتاب المقدس حجة تؤخذ في الاعتبار بين حجج أخرى كثيرة، حتى أن مذاهب مسيحية للأسف الشديد رفضت ما سبقت وقبلته كإرثٍ ثمين تركه لهم السابقون الذين كان شعارهم: ”الكتاب وحده، والكتاب كله“. وبالطبع هيهات لهذه المنهجية أن توَصِّل الإنسان لمعرفة الحق وتعطيه اليقين بذلك، وهكذا ضاع من بين أيدينا شيئًا ثمينًا طالما افتخرنا به كمسيحيين، وهو أن مسيحيتنا تتميز بلغة ”عالِم وموقن“ لتُصبح بدلًا من ذلك مسيحية وجهات النظر والظنون، بل والرأي والرأي الآخر، وصار هذا هو الطابع السائد على تعاملنا حتى مع الحقائق الحيوية في كلمة الله. غير أنه من أسفٍ شديدٍ أقول إن الأرضية الفكرية التي مهدت لذلك تمثلت في ظننا بأنه لا يمكن للمؤمن أن يعرف الحق الكامل رغم علمنا أن هذه هي إرادة الله لكل مَن نال الخلاص بالمسيح (١تي٢: ٤)، كما مكَّنه من التمييز بين الحق والضلال (١يو٤: ١-٦). وهكذا أطلقنا على الضلال مسمى مُخففًا، وهو ”رأي آخر“، وهكذا أضللنا أنفسنا بأنفسنا، وحققنا هدف الحية القديمة. لكن كلمة أمينة أخرى يجب أن تُقال في هذا الموقف، وأوجِّهها لكل من استخدمه الله قبلًا في المناداة بالإنجيل الصحيح، والآن يُنادي بإنجيل آخر. أقول له: احذر، فالرسول بولس نطق بالحكم الإلهي على مثل هذا قائلًا عبارة ما أقصرها لكن ما أخطرها وهي: «فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا»! (غل١: ٦ - ١٠). ودعنا الآن نتتبع بعض الأفكار تحت العناوين الآتية: أولًا: مفهوم حرية الإنسان عندما هاجم الرسول بولس الفلسفة الغنوسية في رسالة كولوسي، لم يحذرنا من هذه الفلسفة فحسب، بل من الفلسفة بوجه عام (كو٢: ٨). وبنظرة سريعة نجد أن لحرية الإنسان قيمة عظمى لدى كثير من الفلاسفة، حتى إنك تجدها وقد صارت نقطة الانطلاق في كثير من نظرياتهم عن الإنسان. على أن كلمة الله، عندما كلَّمتنا عن الحرية كعطية ممنوحة من الله للإنسان، أشارت إليها على خلفية تحرير الإنسان من عبودية كان يرزح تحتها (يو٨: ٣٤-٣٦). أما عندما نتكلَّم عن الإنسان حين خلقه الله، فلا نجد أن الكتاب يُخبرنا أصلًا عن أن الله أعطاه حرية أو أنه خلقه حرًّا. لا أقصد بكلامي هذا نفي أن الله خلقه حرًّا، لكني أنبه القارئ العزيز إلى عدم اكتراث الروح القدس أن يسلط الضوء على هذه الحقيقة، بل إننا لا نجد أيضًا تسليط للضوء على أنه أعطاه عقلاً وإرادة، مع أنه بالتأكيد أعطاه عقلاً وإرادة. ولعل السبب وراء هذا أنه أخبرنا أن الله أوصاه بوصية (تك٢: ١٧،١٦)، فمن البديهي لدى أي قارئ للكتاب أن يفهم أن وجود الوصية يتطلب بالضرورة وجود عقل وإرادة حرة غير مسلوبة، فإن أعطاك شخصٌ ما سيارته وكلّفك بمسؤولية استخدامها في مهام محدَّدة، فإنه ليس من الطبيعي أنك تخرج وتهلل أمام الناس قائلًا: لقد أعطاني فلان محركًا داخل السيارة! لأن هذا أمر بديهي. لقد اعتدت أن أتوقع التعاليم الشريرة بمجرد سماع أفكار صحيحة لكنها تعطي انطباعًا للسامع بأن لشيء ما قيمة ضخمة جدًا، بينما أجد الكتاب لا يعطي لهذا الشيء ذات هذه القيمة، فلا بد أن مَن يُعلِّم بذلك يريد أن يبني تعليمًا شريرًا على المبالغة في تقييم هذا الشيء. إذن الله وضع الإنسان تحت وصية، وليس شيء يبرهن على خضوع الإنسان لله صاحب السلطان سوى طاعة الوصية، وكان لا بد أن يكون الإنسان عاقلًا غير مسلوب الإرادة لتكون طاعته ذات قيمة. لاحظ أنه لم يعطِه الإرادة الحرة ليفعل بها ما يشاء، لكنه أعطاها إياه لتعطي هي قيمة لطاعته. من كل ما سبق، نفهم أن القول بأن الله خيَّر الإنسان بين فعل الخير وفعل الشر يحتوي على خطأين، الأول أن الإنسان في الجنة لم يكن يعرف لا الخير ولا الشر، بدليل أن الشجرة المنهي عنها اسمها شجرة معرفة الخير والشر، فلا يمكن أن الله يخيِّره بين أمرين لا يعرفهما. أما الخطأ الثاني هو أن كلام الله مع آدم لا يتضمن أصلًا فكرة وضعه أمام اختيارين، لكنه ببساطة كان يتكلم عن وصية، فالله لم يضع أمامه طريقين وخيَّره بينهما معطيًا إياه نصيحة باختيار إحداهما، وتحذير من عواقب اختيار الآخر، لكنه وضع أمامه طريقًا واحدًا وأوصاه أن يسير فيه، وأعطاه الإرادة الحرة لتعطي لطاعته الوصية قيمة كما فهمنا. إن الأمر ذاته نراه في تعامل الله مع الإنسان حتى بعد السقوط، فلم يضع الله إسرائيل أمام اختيارين، حتى في تلك العبارة التي تُفهم خطأ أحيانًا، والتي يقول فيها أنه قد وضع أمامهم الحياة والموت، فإننا إذ نكمل الآية نجد أنه يأمرهم بأن يختاروا الحياة (تث٣٠: ١٥-٢٠). وكذلك في رسالة الإنجيل، لا نجد أن الله يخيِّر الإنسان، بل إنه يأمره بالتوبة (أع١٧: ٣٠)، والموقف الذي يتخذه من يقبل المسيح مخلصًّا يسميه الكتاب ”إطاعة الإيمان“ (رو١٦: ٢٥، ٢٦). وهنا أذَكِّرك قارئي العزيز بأننا لسنا أمام فكرة خاطئة أو تعليم شرير، بل إننا أمام بنيان فكري متكامل يفتقد لمصادقة الكتاب عليه، فإن كنا قد رأينا مدى الانحراف الفكري في مسألة مفهوم حرية الإنسان، إلا أن هذا الفكر لم يكن إلا حجر الأساس لأفكار أخرى سنراها الآن. ثانيـًا: مشكلة الشر والألم بعد أن تم تثبيت التعليم الخاطئ الأول في أذهان الناس، وهو أن إعطاء الله الحرية للإنسان يُلزم الله أن يضع أمامه اختيارين، أحدهما يسير فيه الإنسان خاضعًا لله والآخر عكس ذلك، وكان على الله فقط أن ينصحه بالاختيار الصحيح، ويُحذره من عواقب الاختيار الخاطئ، وعليه – وهذا هو التعليم الشرير الثاني – أن الإنسان عندما اختار الاختيار الخاطئ وأكل من الشجرة، كان لا بد لله أن يجعله يتحمل عواقب اختياره هذا، وإلا أصبحت أيضًا الحرية الممنوحة له أصلًا حرية غير حقيقية، فسلوك مثل هذا يُعد سلوكًا غير أخلاقي لا يصح أن نصف الله به. ولما كان دخول الشر والألم للخليقة هو نتيجة سقوط الإنسان – لاحظ أنه كان عقوبة وليس نتيجة، لكنهم لا يشيرون إلى ذلك – فإننا نجد أن هذه المحاجَّة قيلت في الأصل للرد على منطق استخدمه الملحدون في تبرير إلحادهم، وهو استحالة وجود إله كلي الصلاح والقدرة ويسكت عن وجود الشر والألم*. بالطبع إن المنطق الذي اعتمده هذا التعليم لدحض منطق الملحدين ليس له أساس كتابي، والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا سيفعل هذا الملحد إذا اهتدى وآمن بالمسيح عندما يصطدم بأن الكتاب مليء بالبراهين التي تقول إن الله هو الذي يسمح بالشر والألم؟ بالطبع إن الرد على هذا التعليم يطول، والمجال لا يسمح هنا بهذا، لكني فقط أقول إن ما قاله الله للحية والمرأة وآدم في تكوين ٣ لم يكن أبدًا على سبيل إخبارهم بما سيحدث تلقائيًّا كنتائج لسقوطهم، لكنه كان يُصدر أحكامًا متعلقة بوجود الإنسان على الأرض لم يكن لها أن تحدث إن لم يسمح هو بها. فعلى سبيل المثال: هو الذي سيكثِّر أتعاب حبل المرأة تكثيرًا، والأرض لن تقع عليها اللعنة من تلقاء ذاتها، فتعبير البركة واللعنة ينُمَّان عن فعل إلهي له تأثير حقيقي. كما وأريد الرد فقط على الحجة التي تبدو منطقية في ظاهرها لنفحصها في ضوء كلمة الله، تلك الحجة القائلة بأنه إذا تدخل الله ومنع الإنسان من فعل الشر فإنه بذلك يسلبه حريته، لذا لا يمكن أن يفعل الله ذلك. والرد هو: ماذا عن أبيمالك الذي أمسكه الله من أن يخطئ إليه (تك٢٠: ٦)؟ وماذا عن لابان الذي منعه الله من ارتكاب شر بيعقوب ومن معه (تك٣١: ٢٤، ٢٩)؟ وماذا عن ملك أشور الذي حوَّل الله قلبه للخير نحو الراجعين من السبي (عز٦: ٢٢)؟ ما نتعلمه من الكتاب، أن الله، وإن كان لم يخلق الإنسان ساقطًا لكنه كان قابلًا للسقوط، وبالتالي فالسقوط حدث بسماح من الله، ودخول الشر والألم أيضًا كان بسماح من الله. ثالثًا: الدينونة والموت الأبدي كانت قضية الشر والألم تمس ما هو متعلق بوجودنا على الأرض، أما فيما يتعلق بأبدية الإنسان فثمة حكمٌ آخر تم تجاهله بشكل لافت للنظر، ألا وهو الدينونة والموت الأبدي، أي الوقوف أمام العرش العظيم الأبيض ثم الطرح في جهنم. وكما كان عدم المساس بحرية الإنسان باعتبارها القيمة الأسمى هو حجر الأساس في التعليم بأن الله لا يسمح بالشر والألم، كان هو أيضًا حجر الأساس في رفض أن تكون نظرتنا لعبارة «مَوْتًا تَمُوتُ» (تك٢: ١٧)، أن يكون الموت هنا حكمًا أو عقابًا، بل هو مجرد نتيجة تلقائية، مثلما هو نتيجة تلقائية لمن يشرب السم. والمنطق الذي أرادوا أن يصدِّروه لنا هو أنه إذا كان الموت عقوبة، تكون حرية الإنسان غير حقيقية، فأن يعطيني الله بيده اليمنى الحرية في اختيار أن أكون في العلاقة معه ثم يهددني بأنه سيحكم عليَّ بالموت إذا لم أختره، فإنه بذلك سحب الحرية بيده اليسرى. وأعتقد أن ما ذكرناه في كلامنا عن مفهوم حرية الإنسان يكفي لأن يتبين القارئ العزيز مدى فساد هذا التعليم. ولأن في هذا العدد مقالات أخرى يتناول فيها إخوة أفاضل هذا الموضوع بتوسع، فأني أريد فقط أن أورد بعضًا من المواضع الكتابية التي تؤكِّد أن الموت كان حكمًا وليس مجرد نتيجة، وأن هناك دينونة احتملها المسيح في جسده نيابة عنا، وأن مَن لم يؤمن بالمسيح سوف يأتي إلى هذه الدينونة (رو٥: ١٢-١٨؛ عب٩: ٢٧؛ يو٥: ٢٨، ٢٩؛ رؤ٢٠: ١١-١٥). وأقول: إن هناك من لا ينكر لاهوت الابن صراحةً، لكنه ينادي بتعليم يتعارض مع لاهوته، وإن كان عن دون قصد، فلو أن الآب يريد أن يدين بينما الابن لا يريد، فإننا إذن أمام إرادتين لشخصين منفصلين تمامًا، ويا له من تجديف! رأينا فيما سبق كيف أن الأفكار تُبنى على بعضها البعض، لكن هناك أفكارًا أخرى تتشابك معها لتؤيدها وتدعمها، وبطبيعة الحال إن اللاهوت الليبرالي بكل ما يقدِّمه من طرق للتعامل مع الكتاب يدعم كل ما سبق وتكلمنا عنه هنا. ويوجد أيضًا أفاضل آخرون سيتناولون هذا الموضوع باستفاضة، لكني فقط أريد الإشارة للنظرة السائدة الآن عن علاقة المسيحية بالدين نظرًا لارتباطها الوثيق بموضوعنا. هل المسيحية دين؟ في أوقاتٍ سابقة كنا نقول إن المسيحية ليست دين، دون أن نشعر بوجود مشكلة فكرية نتجت عن هذا، لكننا يجب أن نعترف أننا لم نتوخَ الدقة في تناولنا لهذه القضية مما أدى لاستغلال هذه الثغرة استغلالاً رديئًا. وللإجابة عن هذا السؤال نقول إن لأي دين تقريبًا توجد أربعة أعمدة رئيسية يقوم عليها، وهي: أولًا: وجود عقيدة أو إيمان محدد. ثانيًا: وجود وصايا أدبية. ثالثًا: وجود فرائض وممارسات. رابعًا: وجود مجازاة بأبدية سعيدة لمن ظل متمسكًا بالعقيدة، مجتهدًا في تتميم الوصايا الأدبية، وملتزمًا بالفرائض والممارسات، والعكس صحيح. إذا بحثنا داخل المسيحية عن هذه الأربعة أعمدة، هل سنجدها؟ هل نحن عندنا عقيدة أو إيمان محدد؟ بالطبع نعم، فهناك ”إيمان مسَلَّم مرة للقديسين“ (يه٣). ثم هل عندنا وصايا؟ بالطبع نعم، ومحبتنا للرب لا يمكن أن تقودنا لغير حفظها (يو١٤: ٢١،١٥). هل عندنا فرائض وممارسات؟ لا يوجد عندنا فرائض طقسية غير مفهوم معناها كما هو الحال عند اليهود، لكن عندنا ممارسات نفهم معناها تمامًا وهي المعمودية وعشاء الرب، ففي هذه النقطة تختلف المسيحية عن الدين. هل عندنا مجازاة بأبدية سعيدة؟ الإجابة لا، لأن مبدأ المجازاة يعني أن الإنسان يفعل شيئًا لله يعطيه شيئًا من الاستحقاق ولو نسبي في الأبدية السعيدة، لكن الأبدية السعيدة في المسيحية هي على مبدإ النعمة، إلا أن هذه النعمة بها يمنحنا الله قبول الإيمان المسيحي (أف٢: ٨) والتمسك به، الأمر الذي بدونه لن نصل للأبدية السعيدة، كما وأن هذه النعمة تقودنا في طريق حفظ الوصايا (تي٢: ١٢،١١). أما الممارسات المسيحية، وهي المعمودية وعشاء الرب، فليس لها ارتباط بالأبدية السعيدة نهائيًّا، لأنها ترتبط بوجود المؤمن على الأرض. إذن في هذه النقطة أيضًا تختلف المسيحية عن الدين. وهكذا نرى أن المسيحية ليست دين بالمعنى الكامل، إلا أنها تحمل بعضًا من ملامح الدين. ما دفعني لطرح هذه القضية، هو أنه قد تزامن مع المد الليبرالي وجود حالة ملفتة للانتباه من تسليط شديد للضوء على مسألة أن المسيحية ليست دين، وكما ذكرت سابقًا، أني اعتدت على توقع التعاليم الشريرة وراء كل حالة تسليط شديد للضوء على أمر معين والمبالغة فيه. فمع وجود موجة من الهجوم على الدين لأسباب عديدة، كان من الطبيعي أن تتصاعد في هذا الجو نغمة أن المسيحية ليست دين، لتؤسِّس لتوجُّه تحرّري يخفِّف من ضرورة الممارسات المسيحية، ثم يخفف من معايير القداسة العملية بدعوى أن الخطية مرض تستدعي شفقة الله، وليست ذنب تستوجب حُكمه، وصولًا للتعليم بأن من لم يؤمن بالابن من الممكن أن يخلص. على أننا يجب أن نعترف أننا كنا سببًا في توطيد هذه الفكرة، فالأوضاع الروحية والأدبية لكثير من مرتادي الكنائس، والازدواجية الصارخة بين الحياة داخل الكنيسة وخارجها كان بمثابة باب مفتوح على مصراعيه دخلت منه ليس فقط الثعالب الصغيرة بل التعاليم الشريرة. إننا إذا دققنا النظر في كل ما يُطرَح على الساحة من تعاليم غريبة صنعت إنجيلًا آخر، سنجد أن الخط المستقيم الذي يوضع عليه كل ما تناولناه وما سيتناوله أفاضل آخرون، يتسم بشيئين: الأول هو الاتجاه لرفع قيمة كل ما يتعلق بالإنسان وكرامته وحريته. والثاني هو الاتجاه لخفض قيمة كل ما يتعلق بالله في سلطانه المطلق وحقه في الدينونة. أعطوا لله صورة تبدو جميلة حيث قالوا إنه ليس ديكتاتورًا يكسر قوانين دولته، نعم إن الله لا يكسر قوانينه الأدبية، لكن ليس لأنه حاكم خاضع لنظام ديمقراطي، بل لأنه بار، وعلينا نحن أن نخضع للكتاب كله بألفاظه، وأتحدى إن وُجد شيء واحد استخدم الله فيه سلطانه المطلق في عدم بر. وأخيرًا أقول إنه حتى لو أن نشر هذه التعاليم كان محاولة مُخلِصة لإقناع الملحدين بوجود الله، لكنها محاولة غير مبرَّرة أبدًا، فهي ضللت المسيحيين واخترعت ”إله تفصيل“ تم انتقاص سلطانه ليتوافق مع أمزجة الملحدين ليرتضوا به! والتبجح كل التبجح أن يدَّعي أحدهم أن ما يقدمونه من تعاليم إنما هي لإنقاذ الإيمان المسيحي. أما إذا لم يكن الأمر هو محاولة مُخلِصة فلن يبقى إلا احتمال واحد مُحزن للغاية، وهو أن ثياب المنقذ لشبابنا المسيحي من وحش الإلحاد لم تكن إلا ثياب الحملان التي ارتدتها الذئاب الخاطفة. إننا ليس بوسعنا سوى أن ننتظر رحمة ربنا يسوع المسيح للحياة الأبدية. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|