رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بصمة الله في خليقته لو أردنا أن نلخِّص الأفكار الرئيسية للكتاب المقدس في ثلاث كلمات، تكون هي “الخلق ... السقوط ... الفداء”. والخلق والفداء هما أعظم أعمال الله على الإطلاق التي أظهرت لنا صفاته. ففي الخلق تجلَّت قدرته وعظمته وحكمته وإبداعه ومجده. بل وفي استمرارية النظام الكوني بتفصيلاته الدقيقة وعدم الحياد عن مساراته ونواميسه نرى العناية والرعاية؛ فكم من مشاريع عظيمة، كانت رائعة في بدايتها، ولكن بسبب نقص أعمال الصيانة والعناية أصبحت أطلالاً وخرابًا. وفي الفداء نرى، بالإضافة لكل صفاته التي ظهرت في الخلق، محبته لخليقته، وتضحيته لكي يعيدها لنصابها ومسارها الطبيعي الذي خلقها من أجله، والذي حادت عنه كثيرًا كنتيجة حتمية للسقوط. لقد استراح الله في تكوين 2 بعد أن رأى أن كل ما عمله فإذ هو حسن جدًا. وكلمة استراح في العبري تعني رضيَ، وطابت نفسه بما أنجزته يداه. لقد خلق الله الإنسان في اليوم السادس؛ خلقه على صورته وشبهه، فكان أول شيء انفتحت عليه عينا الإنسان، هي خليقة الله الرائعة، وكان أول يوم للإنسان على الأرض دعوة من الله له أن يشاركه في سبته، أي في استمتاعه بخليقته. غير أن السقوط شوَّه بالتمام خليقة الله، فنفهم من الكتاب أن الله لم يعُد مستريحًا، والمسيح أعلن ذلك في قوله: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» (يو5: 17). وأيضًا في أعماله إذ نراه طوال فترة خدمته «جَالَ يَصْنَعُ خَيْرًا وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ» (أع10: 38). فنراه يصنع معجزات لا مثيل لها، في الكمِّ أو في النوع، حتى يُعيد لخليقته - ولو جزئيًّا - ما فقدته بسبب السقوط. ولم يجد - تبارك اسمه - مجالاً للراحة إلا بعد أعلن للملأ من فوق الصليب: «قَدْ أُكْمِلَ» (يو19: 30). لقد وضع حجر الأساس هناك على الخشبة لراحة الخليقة العتيدة، التي تئن إلى الآن وتتمخض من الآثار المدمِّرة للخطية، فما نراه من حولنا من زلازل وأمراض وأوبئة، هو الحصاد المُرّ للخطية، وعمَّا قريب جدًا سيتم القول: «يَسْكُتُ (يستريح) فِي مَحَبَّتِهِ» (صف3: 17)، عندما يرى خليقته وقد أُعتقت من عبودية الفساد. إن أعمالنا البشرية هي دومًا تُبنى من مادة “خام” هي في الأساس لها وجود سابق. والمبدأ الذي نتحرك نحن البشر من خلاله “أن المادة لا تُخلق، أي لا تُستحدث من عدم”، فالمادة نجدها قبلنا، لا نخلقها نحن، ويُمكننا أن نطوِّرها ونضيف إليها موادًا أخرى أو نقسّمها أجزاءً مستغلّين كل طاقاتها الدفينة؛ أما الخلق فهو في النظرة اللاهوتية، “خلق من العدم” «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ» (عب11: 3). وهذا التعبير يعني أن لا وجود لأي شيء خارجًا عن الله، فكل ما هو موجود مصدره من الله، وجميع الكائنات تأخذ كيانها من الله. إن المتأمِّل في هذا الكون من حولنا وفي خليقة الله في تفصيلاتها، في الكون اللانهائي، سواء في عالم الجماد من ذرات وإلكترونات، أو في عالم النبات والحيوان، سيخرج بنتيجة واحدة أنه أمام خالق مُبدع، ذي قدرة فذَّة وإمكانيات غير محدودة، وأهم من هذا كله أن له بصمه خاصة تُميِّزه ... وهذا هو الجانب الذي سوف أتناوله في فكرة “بصمة الله في خليقته”. فحينما يخلق الله أي شيء وينجز أي عمل، فهو عادة لا يحيد عن هذه البصمة التي تُميِّزه، وهذه البصمة لها غرض في قلب الله، لا يستطيع أحد أن يدركها غير الفاهم لفكر الله، الباحث في صفحات الكتاب المقدس، هذا الكنز العظيم الذي بين أيدينا، والمذخَّر فيه كل كنوز العلم والمعرفة. قال أحد خبراء الفنون: “إن ما يميز كل فنان أن له بصمته الخاصة، والتي تجدها حتمًا في جميع أعماله الفنية، وهذه البصمة هي موهبته الخاصة التي حباه الله بها، وهي التي تُعطي عمله قيمة وتميُّز”. إن بصمة الله التي نراها في كل خليقته، هي فكرة “المركزية”، أو بعبارة أبسط: إن كل خليقة الله، بدون استثناء تقريبًا، تخضع لهذا القانون، أن هناك مركزًا له توابعه. فلو تأملنا في الفلك، سنجده مكوَّن من ملايين المجرَّات، والمجرة تتكون من ملايين المجموعات الشمسية، والمجموعة الشمسية هي عبارة عن شمس تكون هي المركز، ومجموعه من الكواكب تسير في مدارها، بل ومعظم هذه الكواكب تكون هي مركز لمجموعة من الأقمار تدور حولها. فلو تأملنا في الكواكب نفسها مثل كوكب الأرض، فسنجد أن هناك مركز يُسمى لب الأرض “The core” يحيط به عدة طبقات بسمك مختلف حتى تصل إلى القشرة الخارجية والتي نعيش فوقها. وكل الفلزات والمواد المختلفة الموجودة في الكون تتكون من ذرات ذات مركز هو النواة، تدور حولها إلكترونات. بل لو تركنا عالم الجماد وتأملنا في عالم النبات والحيوان والإنسان، سنجد البصمة ذاتها؛ فكل الأنسجة الحية تتكون من خلايا، والخلية تتكون من مركز، وهو النواة، وحولها جُسيمات كثيرة لها وظائف مختلفة تدور في سائل السيتوبلازما لخدمة النواة وتتبع أوامرها في منظومة ما أروعها. ولو ذهبنا إلى عالم الحشرات سنجد أن مملكة النحل - على سبيل المثال - تخضع للملكة التي هي المركز، وملايين من النحل - والذي نُطلق عليهم تعبير “شغالة” - تتحرك من حولها ولخدمتها. وهذا قليل من كثير، فأينما توجَّهنا، سواء صعدنا إلى السماوات، أو نزلنا إلى الأرض، بل لو غُصنا في أعماق البحار، أو نزلنا إلى باطن الأرض؛ سنجد دائمًا فكرة المركزية موجودة. بل لكي يحافظ الله على هذه المنظومة، سخَّر كثير من القوانين الفيزيائية والكهربائية والكيمائية بل والمغناطيسية لكي يجعل لهذه المنظومة استمرارية دائمة تتلخَّص في مركز له توابعه. والكارثة تحدث في أي من هذه المجالات حينما يختل هذا النظام. وكل ما نراه من سرطانات، من حولنا هي نتيجة لحياد الخلية عن نواتها المركزية وأخذها في التصرف باستقلاليه عن الترتيب المعمول لها. إن هذه الفكرة باتت دائمًا مجالاً لبحث العلماء في نظريات مختلفة لمعرفة ما يُسمَّى بمركزية الكون. ودعنا الآن نتجه للعالم الروحي، وفيه سنجد البصمة نفسها تميِّزه، حتى إننا نقول مع الرسول بولس: «أَمْ لَيْسَتِ الطَّبِيعَةُ نَفْسُهَا تُعَلِّمُكُمْ؟» (1كو11: 14). فحينما خلق الله الإنسان جعله مركزًا لكل الكون، وأخضع له كل شيء، فالكون بجملته تابع له، على شرط واحد: أن يكون هو تابع لله، والله هو المركز النهائي. غير أنه بالسقوط كسر الإنسان هذه المنظومة وأتلفها، وكانت النتيجة ما نراه من حولنا من تشويش وكوارث. ويحدِّثنا المزمور الثاني عن نسل آدم في صورة الملوك والأمم التي أرادت أن “تكسر نير الله ومبادئه”. وفي زمان العهد القديم أراد الله أن يؤكِّد هذا الفكر فأتمن شعبه على سره، وأعلن لهم أنه المركز وهم تابعون له، فأمرهم أن يبنوا له مقدسًا “ليسكن في وسطهم” (خر25: 8). ومن بداية علاقته بشعبه جعله يدرك أنه هو المركز ممثِّلاً ذلك في أهم أجزاء خيمة الاجتماع وهو “التابوت”. كما جعل الخيمة في الوسط أو في مركز المحلة، يُحيط بها ثلاثة أسباط في كلٍّ من الاتجاهات الأربعة (عد:1-34). بل نجد فكرة مركزية المسيح عينها في ارتحال الشعب (عدد10: 11-28)، وفي توزيع الأسباط مرة ثانية في الملك الألفي (حز 48: 1-10). واليوم فإن المسيح وسط اجتماعات الكنيسة مكانه هو الوسط (عب2: 12). وهكذا سيكون أيضًا في كل الأبدية كما نتعلم من سفر الرؤيا (رؤ4: 4). وفي رسالة أفسس حينما تكلم بولس عن “تدبير مِلْءِ الأَزْمِنَةِ” قال: «لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ» (أف1: 10). وسوف أقتبس عبارة رجل الله القدير “ف.ب.هول” في تفسيره لهذه الآية، إذ أن الرسول هنا يحدِّثنا عن أزمنة رد كل شيء لوضعها الطبيعي قبل السقوط، أو بتعبير آخر فكر الله في الخلق، فقال: “يستعرض الروح القدس ويميط اللثام عن سر من أسرار الله وغرض الله النهائي في الدهر الآتي والمعبر عنه "بملء الأزمنة"، فالله سيجعل المسيح مركز الكون في العالم العتيد، ومن حوله كل الخليقة في دائرتيها السماوية والأرضية، في منظومة مباركة متجانسة”. ويستطرد هول موضحًا الفرق بين هذا العالم الذي نعيش فيه والعالم العتيد “إن العالم الحالي، بسبب الخطية، جعل الإنسان يستقل عن فكر الله، بوجود كيانات صغيرة يضع الإنسان نفسه فيها كالمركز والكل تابع له”. إن هذا هو فكر الله الخالق، والبصمة التي تميِّز كل أعماله. أن يعطي لابن محبته، الذي هو مركز عواطفه وفكره وقلبه، يعطيه مملكة (كو1: 13)، يكون هو مركزها وكل الذين فيها خاضعين له. ليتنا نحرص من الآن أن يكون هو مركز حياتنا ومحورها، وكذا في اجتماعاتنا من حوله لنمجد اسمه ونسر قلبه. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
معاملات الله مع خليقته |
الله بيحب خليقته |
بيهتم بكل خليقته مش هيهتم بيك يا أغلى خليقته ؟ |
الله يُعَظِّم خليقته |
الله يُمَجِّد خليقته |