الله الخالق
«ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه»
(إش40: 26)
يسجِّل الوحي قصة الخلق في الأصحاح الأول من سفر التكوين الذي يبدأ بالقول «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ». إن الفعل «خلق» هو إيذان ببدء الخليقة، وهو مؤشِّر ببدء الزمن، ولا صلة له بالإنسان والبيئة المرتبطة به، والتي نراها في الأعداد من تكوين1: 3 فصاعدًا. الجدير بالملاحظة أن الإشارة إلى عملية الخلق «خَلَقَ» وردت ثلاث مرات فقط: الأولى خاصة بخلق السماوات والأرض في البدء (تك1: 1)، الثانية خاصة بخلق النفس الحية أو الخليقة الحيوانية (تك1: 21)، الثالثة خاصة بخلق الإنسان الذي هو روح كما هو نفس أيضًا (تك1: 27). وعليه، ففي كل مرة جاء ذكر للخلق كانت نتيجته العملية إدخال شيء جديد في الكون، لا ارتقاء مادة سبق وجودها. أما بالنسبة لما عُمل في الستة الأيام إجمالاً فلم تُستعمل قَطّ كلمة “خَلَقَ”، بل “صَنَعَ”: «فِي سِتَّةِ أيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا» (خر20: 11).
مَنْ الذي خلق؟
«فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (تك1: 1)، وفي العبرية لفظ الجلالة «الله» يرد بلفظ «Elohim»، وهي جمع كلمة «إيلوه» «Eloah». وقد ورد في صيغة المفرد 57 مرة وفي صيغة الجمع 2700 مرة؛ إنه الثالوث الأقدس.
ويخبرنا الوحي المقدس المسجَّل على صفحات الكتاب المقدس، بكلا عهديه القديم والجديد (التوراة والإنجيل)، أن عملية الخلق تُنسب إلى الله مثلث الأقانيم (الله الآب والابن والروح القدس)، وإليك بعض الشواهد على سبيل المثال لا على سبيل الحصر:
في التوراة (العهد القديم):
«فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ (إيلوهيم) السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (تك1: 1)، هذا عن الثالوث الأقدس.
أما عن الابن فيقول: «مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ» (مز102: 25). وكالحكمة الخالق ترد هذه الأقوال المباركة: «مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ الْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ الأَرْضِ ... لَمَّا ثَبَّتَ السَّمَاوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا ... لَمَّا رَسَمَ أُسُسَ الأَرْضِ، كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعًا، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِمًا قُدَّامَهُ» (أم8: 12-30). أما كون «الحكمة» هو المسيح فهذا نفهمه من أقوال الرب في الإنجيل إذ يقول: «قَالَتْ حِكْمَةُ اللهِ: إِنِّي أُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً» (لو11: 49) مقارنة مع قوله: «لِذَلِكَ هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَحُكَمَاءَ وَكَتَبَةً» (مت23: 34)، ومنها يتبين أن المسيح هو حكمة الله.
وعن الروح القدس كالخالق يقول: «بِنَفْخَتِهِ السَّمَاوَاتُ مُسْفِرِةٌ (مُشْرِقَةٌ)» أي “بروحه زين السماوات” (أي26: 13) و«تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ» (مز104: 30).
في الإنجيل (العهد الجديد):
يرد عن الآب كالخالق القول: «اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ» (أف3: 9)، «لَكِنْ لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ: الآبُ الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ» (1كو8: 6). أما عن الابن كالخالق فنقرأ هذه الأقوال المباركة «وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ» (1كو8: 6) و«ابْنِ مَحَبَّتِهِ ... اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أمْ سِيَادَاتٍ أمْ رِيَاسَاتٍ أمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ» (كو1: 13-17). وعن الروح القدس كالخالق فيقول: «اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي» (يو6: 63).
وهكذا نجد أن الخَلق يُسند إلى الأقانيم الثلاثة: أي الآب والابن والروح القدس.
ماذا خلق؟
(أ) الخليقة الأولى (القديمة) أي السماوات والأرض (تك1: 1)
السماوات بشموسها وأقمارها ونجومها، بكل الأجرام التي لا حصر لها، ولا استقصاء لها ولأبعادها ولأحجامها. كما خلق الأرض بحسب فكره الإلهي؛ خلقها سويّة لا ينقصها شيء « لَمْ يَخْلُقْهَا بَاطِلاً (خربة). لِلسَّكَنِ صَوَّرَهَا» (إش45: 18). لقد خلقها كاملة متقنة، لمرآها ترنمت كواكب الصبح وهتف جميع بني الله. لكن أصابتها نكبة كونية فجعلتها «خَرِبَةً وَخَالِيَةً» (تك1: 2)، ولم يشأ الله أن يُخبرنا عن علة هذا الخراب، لكنه تدخل بنفسه - وبنفس القوة والسلطان والحكمة التي بها خلق السماوات والأرض في البدء - لكي يُعِدّ الأرض لسكن الجنس البشري. ونحن المؤمنين لا يسعنا إلا أن نهتف مع المرنم قائلين: «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ» (مز104: 24).
(ب) الخليقة الجديدة (2كو5: 17)
وذلك بالمسيح الذي مات وقام؛ فكل من يقبله بالإيمان ويرتبط به، يُولد ولادة جديدة، ويصير في المسيح في دائرة الخليقة الجديدة التي رأسها آدم الأخير (الرب يسوع المسيح)، الذي بقدرته يصونها ويحفظها إلى الأبد.
(ج) السماوات الجديدة والأرض الجديدة:
يقول الوحي المقدس «لأَنِّي هَأَنَذَا خَالِقٌ سَمَاوَاتٍ جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، فَلاَ تُذْكَرُ الأُولَى وَلاَ تَخْطُرُ عَلَى بَالٍ» (إش65: 17). وإن كان هنا يُلمّح إلى السماوات والأرض في الملك الألفي، لكن الغرض النهائي هو السماوات الجديدة والأرض الجديدة التي يسكن فيها البر وذلك في الحالة الأبدية كما ورد في 2بطرس 3: 13. و«ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ» (رؤ21: 1). ولماذا السماء الجديدة والأرض الجديدة؟ لأن السماء الأولى دنسها الشيطان، والأرض الأولى أفسدها الإنسان، فما عادتا تصلحان أمام عين الله.
(د) الشر:
يقول الكتاب «مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ. أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هَذِهِ» (إش45: 7). ليست هناك صعوبة في فهمنا لخلق الله للنور والظلمة والسلام، لكن قد تبدو هناك صعوبة، كيف يخلق الله الشر وهو القدوس الذي عيناه أطهر من أن تنظرا الشر؟ لكي نفهم هذه المعضلة علينا بالرجوع إلى الكتاب الذي يُخبرنا بأن هناك نوعين من الشر:
1- الشر الأدبي (الخطية الفعلية)، وليس هذا هو المقصود هنا، فهذا لم يخلقه الله، لكن إرادة الإنسان الحرة هي التي اختارت التمرد والعصيان. وهذا النوع من الشر هو الذي يذكره الكتاب في تكوين6: 5 «وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ»، وفي يونان1: 2 «قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي».
2- الشر القضائي: وهذا النوع من الشر هو الذي خلقه الله كما يقول الكتاب في إشعياء45: 7 «خَالِقُ الشَّرِّ». وفي عاموس3: 6 «هَلْ تَحْدُثُ بَلِيَّةٌ فِي مَدِينَةٍ وَالرَّبُّ لَمْ يَصْنَعْهَا؟»، وهنا يقول عن هذا الشر إنه «بلية أو مصيبة»، وفي يونان3: 1 «فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيئَةِ، نَدِمَ اللَّهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أَنْ يَصْنَعَهُ بِهِمْ، فَلَمْ يَصْنَعْهُ». هذا النوع من الشر هو ما نراه في المجاعات والكوارث الطبيعية والزلازل والفيضانات والصواعق. والله يسمح بذلك لحكمته العظيمة، بسبب دخول الخطية إلى العالم. وإن كان الله يسمح بالمصائب في العالم لكنه يتحكم فيها بالنسبة للمؤمن إذ يجعل «كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ» (رو8: 28).
متى خلق؟
لقد خلق الله الخليقة القديمة في «البدء» (تك1: 1)، ولا يقول في «الأزل»، لأن الكون ليس أزليًا. لكن متى كان هذا البدء؟ ذلك الموضوع لم تتعرض له كلمة الله، لا سيما وأن أداة التعريف “ال” غير واردة في النص العبري، ولأن الأيام الستة الحرفية لا تدخل في نطاق هذا «البدء». إنه البدء الذي توسط بين الأزلية والأبدية، حيث نرى إيلوهيم (الله) خالقًا، فهو «بدء» تاريخي مرتبط بالكون الظاهر. أما البدء الأزلي فهو الذي لا يعرف التاريخ سبيلاً إليه، هو الذي فيه «كان» الله، وفيه «كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ» (يو1: 1). فإن كان «بدء» التكوين يعود بنا إلى أوليات المنظور، فإن «بدء» انجيل يوحنا يوقفنا أمام جلال الأزل في وقار وسجود. في «بدء» التكوين نرى “عظائم” الله فنسجد، وفي «بدء» إنجيل يوحنا نرى «الله» فنسكت قدامه.
كيف خلق؟
تطلبت عملية الخلق من الله: كلمة، حكمة، وقوة.
أولاً: كلمة: والكلمة قالها الله «لأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ» (مز33: 9). ومما جاء في عبرانيين11: 3 نعرف أن العالمين أُتقنت بكلمة الله، ونفهم ذلك بالإيمان.
ثانيًا: حكمة: والحكمة كانت في شخص الرب يسوع المسيح «أَنَا الْحِكْمَةُ أَسْكُنُ الذَّكَاءَ، وَأَجِدُ مَعْرِفَةَ التَّدَابِيرِ» (أم8: 12).
ثالثًا: قوة: والقوة كانت في الروح القدس «تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ. وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ» (مز104: 30).
لماذا خلق؟
لقد خلق الله الخليقة للأسباب التالية:
أولاً: نرى في الخليقة استعراضًا لمجد الله «اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ» (مز19: 1).
ثانيًا: إذ ينظر الله إلى هذه الخليقة التي أبدعها، ويرى أن كل ما عمله حسنٌ جدًّا، تستريح نفسه وتطيب، بل و«يَكُونُ مَجْدُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ. يَفْرَحُ الرَّبُّ بِأَعْمَالِهِ» (مز104: 31).
مسؤوليتنا تجاه الخالق
(1) نتعرف به ونذكره في باكورة عمرنا «فَاذْكُرْ خَالِقَكَ فِي أَيَّامِ شَبَابِكَ، قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامُ الشَّرِّ أَوْ تَجِيءَ السِّنِينَ إِذْ تَقُولُ: لَيْسَ لِي فِيهَا سُرُورٌ» (جا12: 1).
(2) نُسبّحه ونرنِّم له وحده «أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ! حَيْثُ جَعَلْتَ جَلاَلَكَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ ... إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، الْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي كَوَّنْتَهَا ... أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ!» (مز8: 1، 3، 9).
(3) نسجد له وحده «هَلُمَّ نَسْجُدُ وَنَرْكَعُ وَنَجْثُو أَمَامَ الرَّبِّ خَالِقِنَا» (مز95: 6)، علمًا بأن سجودنا له باعتباره الخالق سيكمل ونحن مِن حوله في المجد في السماء (رؤ4: 10،11).
(4) نفرح به «لِيَفْرَحْ إِسْرَائِيلُ بِخَالِقِهِ» (مز149: 2)
ليتنا إذ نعرف الله الخالق نُمجّده ونشكره، ولا نُبدل مجده الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى، والطيور، والدواب، والزحافات؛ وأن نعبده وحده “الذي هو مباركٌ إلى الأبد” (رو1: 19، 21، 23، 25، 28).