نيقوديموس الآثوسي
ولد القديس نيقوديم الآثوسي في جزيرة ناكسوس Naxos سنة 1747 من أب يدعى أنطونيوس وأم تدعى أنسطاسيا. اسمه في العالم نيقولاوس. كان والد نيقولاوس ذا شأن في تلك الأيام، تقياً ورعاً، تعاون مع زوجته انسطاسيا على تربية أولادهما على مخافة الرب، والسلوك بمقتضى مشيئة الله. لنيقولاوس (القديس نيقوديموس) أخ يدعى بطرس. أخبرنا أنه كان يمسك بيده فيذهبان معاً برفقة الأهل إلى الكنيسة.
في الكنيسة كان الشقيقان يساعدان كاهن الجزيرة في شؤون الهيكل أثناء القداس الإلهي، وكانا في الوقت نفسه يساعدان في الترتيل والقراءة والإنشاد. ليس عندنا معلومات البتة عن أخيه بطرس، هل مات، أم تزوج وانتقل إلى مكان آخر… جل ما في الأمر أننا سمعنا عنه بشكل موجز في إحدى كتابات القديس نيقوديم دون أن يغني ذلك من معلوماتنا عن بطرس.
بعد موت أبيه أنطونيوس، ترك نيقولاوس العالم ومضى إلى جبل آثوس حيث صار راهباً يحمل أسماً جديداً هو نيقوديمو Nicodimus / Nicodemus . أما والدته أنسطاسيا فقد توجهت إلى دير نسائي على أسم القديس يوحنا الذهبي الفم يقع في إحدى أطراف الجزيرة النائية Naxon، حيث صارت راهبة تحمل أسم (أغاثي أي صالحة).
ما إن حط به الرحال في آثوس، حتى طاف في الجبل واستقر في النهاية في دير القديس ديونيسيوس ليبدأ حياته الملائكية. وما هي إلا فترة قصيرة، حتى تقدم ولمع بالفضائل، وتميز بالطاعة، واشتهر بحب الصلاة القلبية، فكان رجل الصلاة، يتكلم عليها وفي كل المناسبات والذي يقرأ كتاباته، يلاحظ أنها لا تخلو البتة من لهفة والتفاتة واضحة إلى ضرورة الصلاة وحلاوتها.
لم يكن القديس نيقوديم إنساناً أمياً، بل كان مثقفاً كبيراً وعارفاً علوم عصره. فكان ذا عقل علمي، وفكر ثاقب خلاق. وكان إلى جانب ذلك يتمتع بأخلاق عالية تندر بين بني البشر.
تلقى القديس نيقوديم علومه الأولى، منذ أن تفتح على الحياة، على يد كاهن رعيته، الأرشمندريت خريسانثوس (الزهرة الذهبية)، الذي كان أستاذاً في مدرسة الجزيرة Naxos. ولما بلغ الخامسة عشر من عمره، أرسلته أمه انسطاسيا إلى مدينة أزمير (تركيا)، إلى مدرسة داخلية تعرف باسم “المدرسة الإنجيلية”، وكانت بحق على المستوى اللائق بين مدارس ذلك الزمن. أعجب نيقوديموس القديس لا سيما بمدير المدرسة القدير اروثيوس بولسام. وفي تلك المدرسة التقى نيقولاوس (نيقوديم لاحقاً) رفيق الدراسة غريغوريوس السادس بطريرك القسطنطينية. كان نيقولاوس مثل الطالب الخلوق النجيب والمجتهد. أحب العلم جداً وانكب على التحصيل بكل جوارحه. درس اللاهوت والآداب واللغات الأجنبية. ويقال أنه تعلم الإنجليزية أيضاً. كان باختصار رجل الحكمة والفضيلة معاً. ثم إن مدير مدرسة أزمير، طلب منه أن يُعِدّ نفسه لخلافته على إدارة المدرسة وشؤونها، لكن نيقولاوس رفض عرضه بلطف، فنارُ الشوق الإلهي كانت تستعر في داخله، وكانت أنظاره تتطلع إلى آثوس.
كان في نفس نيقولاس الشاب حنين لا يوصف إلى حياة الصلاة والسكينة، وقد رغب من كل قلبه في أن يكرس حياته لله. لقد أحب القول الآبائي الشهير: “مغبوطة عيشة أهل البراري لأنهم بالعشق الإلهي يتطايرون دائماً”.
في تلك الأثناء، اضطر نقولاوس أن يعود إلى جزيرة ناكسوس بسبب اندلاع الحرب بين روسيا وتركيا في صيف 1770. فعاد إلى مسقط رأسه ناكسوس، وهناك أوكل إليه المطران أنثيموس مهمة إدارة ديوان المطرانية وجعله كاتباً عنده وأمين سره. فقام نيقولاوس ينفذ المهمات الموكولة إليه، بجد وغيرة واخلاص. وخلال الخمس السنوات التي قضاها في ديوان المطرانية تقرب من كتابات الآباء القديسين والنصوص النسكية الأرثوذكسية، فالتهب قلبه من جديد وتحركت فيه الدعوة الرهبانية. تعرّف نيقولاوس إلى الأسقف مكاريوس مطران كورنثوس، الرجل القديس الذي فتح نفس نيقولاوس على السيرة الملائكية وحلاوتها. وكان بنتيجة اتصاله بهذا الأسقف أن وطد العزم على الرحيل إلى آثوس، فقام يودع والدته أنسطاسيا، ثم حمل حقيبته وتوجه إلى الشيخ (Starets) سلبستروس للتبرك فحمله ذاك بعض الرسائل إلى القديسين في آثوس.
وصل نيقولاوس إلى آثوس سنة 1775 وكان ابن ست وعشرين سنة. نزل على دير القديس ديونيسيوس أخاً مبتدئاً. ومنذ وصوله تحول اسمه إلى نقيوديم Nicodimus الاسم الذي طبقت شهرته الآفاق، فيما بعد، نظراً لعلمه وغزارة كتاباته الروحية ونوعيتها.
وفي الدير تدرج نقوديم في الفضائل، فبداً قارئاً، ثم كاتباً. كان الراهب نيقوديم صاحب قلم سيّال، وفكر دفاق، ورحانية مشرقة، فوضع كتابه الأول وسماه (فيلوكاليا الآباء النساك). وبعد فترة وجيزة وضع كتاباً أخر سماه أقوال الآباء الشيوخ، ثم ألحقه بثالث سماه (المناولة المتواترة)، ودفع بهذه الكتابات كلها إلى مطران كورنثوس مكاريوس الذي كان في زيارة للجبل المقدس (آثوس) بغية الاستجمام الروحي والتبرك من الآباء القديسين. فما أن تسلم المطران مكاريوس هذه الكتابات وطالعها، حتى وعد نيقوديم بطباعتها فور عودته.
لم يكن نيقوديم رجل القلم والفكر فقط، بل كان إلى جانب ذلك، رجل المحبة والجهاد والصلاة وكل الفضائل. وبسبب عشقه لحياة الصلاة، وموهبته الفكرية، وقدرته على الكتابة، فقد وضع كتاباً رائعاً يعتبر بحق درّة ولؤلؤة في كل أنحاء العالم الأرثوذكسي، سمّاه (الاعتراف). فجاء هذا الكتاب وسواه من كتابات القديس نيقوديم، ليليي حاجة، ويسدّ فراغاً عند العرفين والمعترفين معاً، لا سيما وأن الأبوة الروحية ركيزة أساسية في مدماك التقليد الأرثوذكسي الشريف Holy Tradition. ثم ما لبث نيقوديم أن وضع بعد حين كتاباً آخر في تفسير رسائل القديس بولس، وآخر في تفسير كتاب المزامير. ثم أضاف كتاباً آخر سماه (بستان النعم) شرح فيه، مطولاً، التسع الأودية في صلاة السحر.
إن حياة النسك الشديد، وشظف العيش، وحد الأعداء المقربين والبعيدين، تضافرت معاً عل هدم صحته، فاعتلّ، لكنه رغم هذا ظلّ مواظباً على الصلاة بغيرة منقطعة النظير. وتمكن، في مرضه، من وضع كتاب جديد سماه (اعتراف الإيمان).
في نهاية حياته، ومع اقتراب موعد رحيله، خارت قواه، ودبّ إليه المرض ناشباً برائنه فيه، وضرب الشيب رأسه، وخف سمعه، وضعف عزمه رغم أنه لم يكن قد تجاوز الستين من العمر. ولم تمض فترة من الزمن حتى شُلّت يمناه، فأدرك أن النهاية باتت وشيكة، وأن الرحيل قريب. والروحانيون لا يهابون الموت هذا الضيف العزيز فهو جسرهم إلى الله، وهم منذ بداية حياتهم في الروح، يحيون في انتظار الموت، وأدبهم النسكي ممهور بذكر الموت (Memory of death) فليس من حياة روحية بدون قاعدة الموت؛ فالموت عندهم أساس الحياة. وهكذا طلب نيقوديم مقابلة الأب الروحي، فكان له ما أراد. ولما امتثل ذاك في حضرة هذا الشيخ الجليل الممدد على فراش الموت، انبرى نيقوديم يبوح له بكل مكنونات قلبه، على نحو يندر بين البشر. وفي الثالث عشر من تموز، ساءت حاله وتراجعت صحته، وخفت صوته وغار النور في عينيه، وضربته رجفة تجلّت في كل جسمه. في تلك اللحظة الرهيبة وقف واحد من الموجودين في المنسك وقال: هل أنت في هدوء يا أبتِ؟ وكان جواب الأب القديس: كيف لا أكون في الهدوء (Hesy chia) وقد جعلت المسيح في مركز حياتي، وكل حياتي، وغاية وجودي؟ هذه كانت آخر كلمات نطق بها هذا الفم الطاهر. وفي صبيحة الرابع عشر من تموز، غادر هذه الفانية إلى العالم العلوي، بعد حياة في الجسد عاشها يغب من فيض النعمة الإلهية. فتمت الصلاة على جثمانه وفض عادة الدير وتقاليده. ثم دفن في منسك سكورتي، باحتفال رهباني ليتورجي مهيب. وما تزال هامته إلى اليوم في المكان الذي دفن فيه. رقد بالرب في 14 تموز سنة 1807.
للقديس نيقوديم شهرة طبّقت الآفاق في حدود آثوس وخارجه. فلا يكاد اسمه يطرح في أوساط اللاهوتيين والرهبان إلا ويقوم من يتكلم على لاهوت نيقوديم وسيرته وقداسته. ونقل بعضها إلى الروسية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والايطالية بما فيها الرومانية والتركية أيضاً. وقامت البطريركية المسكونية سنة 1955 باعلان قداسته بعيد قرن ونيف على رقاده. ما يزال هذا القديس إلى اليوم في ضمير المؤمنين، لا سيما أحباء اللاهوت والروحانية الأرثوذكسية. كانت حياته مرآة تعكس الجمالات الفردوسية وتشهد بالمذاقة أن عذابات الأرض لا تقاس بأفراح السماء. إنه وجه معاصر لفحته النعمة الإلهية، فسطع التراب فيه وتجلى.
تُعيد له الكنيسة في 14 تموز.
كتاباته:
مع كبير الحزن نقول بأن جزءاً ضئيلاً من أعماله قد ضاع. لكن لحسن الحظ، إن معظم كتاباته ما تزال محفوظة، فبعضها قيد الطبع، والبعض الآخر تحت أكوام من التراب، وآخر صدر بحلة رائعة تشهد في الشكل والمضمون على روعة الفكر النسكي والأدب الروحاني. يبقى أن نقول بأن ماطبع حتى الآن يعتبر في ذاته كنزاً رائعاً وتراثاً فريداً وتحفة أرثوذكسية آثوسية لا تُنسى.
فما هي أعماله؟
في التفسير:
تفسير كتاب المزامير (مجلدان – 1200 صفحة).
تفسير رسائل القديس بولس (ثلاثة مجلدات 1350 صفحة).
الرسائل الجامعة (كتاب في 370 صفحة).
في القانون الكنيسي:
تفسير القوانين الموجودة في البيزاليون (789 ص).
وانين الاعتراف (400 ص).
في النسك والاخلاق والتصرف:
فيلوكاليا الآباء النسالك (5 مجلدات).
أقوال الأباء الشيوخ (نصوص، وسير، وآباء، ونسكيات) وهذه تقع في 5 مجلدات ضخمة.
في المناولة المتواترة (288 ص).
في الإرشادات الروحية، كتاب يقع في 220 صفحة يتناول موضوع حفظ الحواس الروحية الخمس.
كتاب عن البار ملاتيون المعترف (225 ص).
تعريف بكتابات القديس سمعان اللاهوتي الجديد، ومدخل إلى قراءته، وهو كتاب كبير يقع في (758 ص).
تعريف بالأب القديس غريغوريوس بالاماس وبكل كتابات (3 مجلدات ضخمة) لم يحفظ لنا الدهر منها سوى المقدمة فقط.
كتاب الحرب غير المنظور (276 ص).
كتاب الرياضات النسكية (608 ص). وقد أكسبه شهرة عالمية في الأدب النسكي.
حقيقة يسوع المسيح، درّة فريدة ولؤلؤة روحية (395 ص).
كتاب يتناول حياة القديسين برصنوفيوس ويوحنا يتناول فيه القديس نيقوديم أسئلة روحية ومشاكل كنيسة عالقة ويرد عليها ببساطة وعمق نادرين ويقع في (855 ص)
في سير القديسين:
قائمة بسير باقة من الأبرار والقديسين (مجلد واحد).
قديسون شهداء معاصرون (مجلد واحد).
سير قديسين على مدار السنة (3 أجزاء ضخمة).
كتاب يمدح فيه شخصية القديس يوحنا الذهبي الفم.
في الليتورجيا:
شروحات قانونية ليتورجية عن والدة الإله مريم العذراء، هي بمثابة تفسير لكل القوانين الكنسية التي وضعتها المجامع حول مريم والدة الإله.
كتاب الأفخولوجي.
كتاب مزامير خاص بصلوات الأديار.
بستان النعيم. وهو بمثابة شروحات مستفيضة للأودية التسعة. ويقع في (357 ص)
كتاب الأعياد السيدية، يتناولها كلها بشروحات رائعة متسلسلة وتقع في 1500 صفحة موزعة على مجلدين.
كتاب (السلم الجديد) هو بمثابة شرح مستفيض لكل قطع الأنافثمي باللحن الثامن (يقع في 390 ص).
في الكتابات التسبيحية Hymnography:
هي بمثابة 51 كتاباً ضخماً يتناول فيها بالتفسير والشرح صلوات السحر والغروب والبراكليسي.
رسائل Epistles:
رسائل روحية.
رسائل بمثابة إرشادات.
رسائل إلى أحباء خارج الجبل المقدس ويلغ عددها قرابة 79 رسالة طويلة تربو الواحدة منها على 60 صفحة.
في الدفاع apologetics:
كتاب اعتراف الإيمان (وجهة نظر شخصية خاصة به).
في الأحلام On dreams:
متفرقات:
كتاب تحت عنوان (ما هو إنجيل الراعي؟).
ثلاث مقالات ضخمة في ماهية التوبة.
مقالات رائعة في ماهية الرثاء الأرثوذكسي.
مقالة في خدمة صلاة السهرانة.
رسائل مختلفة في شرح محطات ليتورجية.
رسائل يشرح فيها معاني الأعياد في خلال قطعتي القنداق والبيت.
من كتب عن القديس نيقوديموس؟ وماذا قال؟:
جراسيموس مكاريناتيس (متفرقات).
نيقوديم بالنرداس (متفرقات).
المطران نفروكوبيوس (متفرقات).
دراسات قام بها الراهب ثيوكليتس ذيونيسياتي تحت عنوان (القديس نيقوديم) منشورات، الكواكب، أثينا، 1959، يتناول فيه الكاتب كل أعمال القديس نيقوديم جملة وتفصيلاً.
دراسة قام بها يعقوب مليروس تحت عنوان (القديس نيقوديم، الراهب الآثوسي، والشخص التاريخي الفذ) أثينا نيسان 1963.
دراسة وضعها قسطنطين نيوليندس تحت عنوان (القديس نيقوديم، اللاهوتي الآثوس) أثينا 1967.
دراسة وضعها بيلاليس تحت عنوان (البار نيقوديم الآثوسي)، طُبعت مزدانة بالصور والأيقونات، أثينا، حزيران 1969.
دراسة وضعها كوستي سرذليس (نيقوديم والمكتبة الآبائية)، طبع مرتين 1969 – 1974.