المقدمة
إذا رُمنا فهم أفكار الروح القدس في ما يتعلق بإنجيل مرقس فهمًا أفضل وجب أن نفحص تعليمهُ في الأناجيل الأربعة فحصًا مختصرًا. فهذه الأناجيل تعرض لدينا المسيح، لكنها تبين لنا مسيحًا مرفوضًا وفي الوقت نفسهِ تقدّم لنا المخلص في أربعة مظاهر، ثم يوجد فرق بين الأناجيل الثلاثة الأولى والإنجيل الأخير. فالثلاثة الأولى تعرض المسيح بمظهر إنسان يجب أن يقبلهُ العالم وإن كانت النتيجة تفرض عليهِ تجرُّع غصص المنون، أما في الإنجيل الرابع فنرى يسوع مرفوضًا من خاصتهِ من الأصحاح الأول فصاعدًا ونرى أيضًا أنه ينظر إلى اليهود كمرفوضين من أولهِ وليس للمسيح قبول إلا عند المولودين من الله وبالنتيجة نُعاين مبادئ النعمة في هذا الإنجيل ظاهرة ظهورًا كاملاً كما قيل: لا يقدر أحد أن يُقبل إليَّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني (يوحنا44:6)، فالخراف متميزة عن العالم قبلما دُعيت. فالأناجيل الثلاثة الأولى تجلو المسيح لدى أبصار البشر جلاءً يدعوهم لقبولهِ. ثم تبيّن لنا تاريخ عداوة الإنسان المتزايدة نحوهُ وأخيرًا تصرّح لنا برفضهِ وموتهِ.
أما الصفات المختصة بكل إنجيل على حدى فهي إن إنجيل مَتَّى يعتبر المخلص عمانوئيل ومسيَّا الموعود به ويهوه الذي يُخلَّص شعبهُ من خطاياهم. فمعنى اسم يسوع «يهوه المخلص»، ومنَ ثم يتسلسل نسبهُ من إبراهيم إلى داود رئيسي المواعيد وآنيتها اللذين كان مزمعًا إن يتسلسل منهما المسيح. ففي هذا الإنجيل الأول رُفض المسيح أدبيَّا من وقت ما أظهر ذاتهُ لشعبه بحسب حقيقة شَخصهِ وإرساليته لغاية (أصحاح 12) فحكم على اليهود بالقضاء الإلهي حكمًا شمل الأمة بأسرها. فلم يطلب الرب ثمرًا في كرمهِ بعد، بل يُصرِّح بالحقيقة انهُ هو الزارع ويعلن الملكوت إنما إعلانًا سريَّا (أي على الأسلوب الذي يكون الملكوت عليه في غيابهِ)، وفي (أصحاح 16) يذكر الكنيسة التي سوف يبنيها هو نفسهُ بعد موتهِ ثم يذكر عدَّة أمثال في شأن أحوال ملكوته مدة غيابهِ مُصَرحّا انهُ مزمع إن يأتي بقوة لينقي ملكوته ويقيمه فعلاً على الأرض في حالٍ يوافق مجدهُ. ثم حوادث حياته الأخيرة وبعض خطاباته.
أما مرقس فيرسم لدينا صورة المخلص بمظهر خادم ونبي، ومن ثم لا يذكر شيئًا من تاريخ ولادته، بل يبتدئ إنجيله بذكر خدمتهِ وسوف نتكلم عن مضمونهِ. وأما إنجيل لوقا فيصوّر المخلص بصورة ابن الإنسان فنرى به صورة النعمة والعمل الجاري الآن. ويذكر سلسلة نسبهِ حتى آدم. فالأصحاحان الأولان في ذلك الإنجيل يُعلنان لنا بقية اليهود القليلة العدد التقية وما تلك إلا صورة بديعة عن عمل روح الله في وسط أمة شريرة وفاسدة. فأولئك القوم الأتقياء كانوا يعرفون بعضهم كل المعرفة وكانوا ينتظرون فداء لإسرائيل. فقد أنذرت حنة الطاعنة في السن التقية قومها المتوقعين الخلاص بحضور المخلص المنتظر. وفي الأجزاء الباقية من هذا الإنجيل يبدو لنا المسيح في صورة مخلَّص للأمم.
أما إنجيل يوحنا فلا يذكر شيئًا عن نسب المسيح قط، بل أن الكلمة الذي هو ابن الله صار جسدًا فهو الخالق ابن الله الذي لم يعرفهُ العالم وخاصتهُ لم تقبلهُ. فكل الذين يقبلونهُ يكونون أبناء الله؛ لأنهم وُلدوا بالحقيقة منهُ وبما أن هذا الإنجيل يُعلن المسيح كصورة الله المُعلنة فلهذا السبب نفسهِ نراهُ مرفوضًا كل الرفض فإن البشر لا يطيقون مَجد شخصهِ، ولكنهُ يجمع خرافه الخاصة من اليهود والأمم ويُعطيها حياةً أبدية ولن تهلك إلى الأبد. ثم يوضح لنا في ختامة إتيان الروح القدس.