منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11 - 02 - 2014, 05:21 PM   رقم المشاركة : ( 81 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 79 - تفسير سفر المزامير
صرخة بسبب هزيمة أمام الأمم



اختلف الدارسون في تحديد الكاتب وتاريخ كتابة المزمور. وهل هو نبوة عن الخراب الذي يحل بأورشليم والهيكل بواسطة الأمم، أم سجل وُضع بعد حدوث الخراب.
يرى البعض أن الكاتب هو إرميا النبي، لأنه يحوي مرثاة تشبه المراثي التي كتبها إرميا وسط خرائب أورشليم المحبوبة له.
يصوَّر الكاتب المدينة المقدسة وهيكل قدس الله مدوسين من الأمم، وأنهار دماء الأبرياء تجري حول أورشليم، وقد صار الأحياء هزءًا وفي عارٍ قدام الأمم.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
أقسامه

1. شكوى المرتل
1-4.
2. صلاة المرتل
5-12.
3. تسبيح المرتل
13.
من وحي مز 79
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. شكوى المرتل

مَزْمُورٌ. لآسَافَ
اَللهُمَّ إِنَّ الأُمَمَ قَدْ دَخَلُوا مِيرَاثَكَ.
نَجَّسُوا هَيْكَلَ قُدْسِكَ.
جَعَلُوا أُورُشَلِيمَ أَكْوَامًا [1].
يسكب المرتل شكواه أمام الرب. ففي وسط الخراب الذي حلّ به، والعار الذي لحق به، وجد المرتل في الله أبيه القدير ملجأ له.
كان للمدينة المقدسة وهيكل الرب اعتبار خاص لدى المؤمنين، لأنهما ميراث الرب، وليسا ميراث المرتل أو المؤمنين.
لقد أُصيب المرتل بنوعٍ من الذعر بسبب ما حلّ بالمقدسات الإلهية من تدنيس بواسطة الأمم الوثنيين. هذا وقد تحولت مدينة الله إلى أكوامٍ من الخراب.
لم يحدث مثل هذا الغزو في أيام آساف، فقد يكون هذا المزمور نبوة تصف ما سيحل بأورشليم في أيام نبوخذنصر، أو في أيام أنطيخوس أبيفانس أو على يدي تيطس الروماني.
التدنيس الذي حدث بواسطة الأمم، إنما بسبب التدنيس الذي فعله اليهود أنفسهم بالمدينة المقدسة والهيكل المقدس. وكما قيل في حزقيال: "من أجل ذلك حي أنا يقول السيد الرب، من أجل أنكِ قد نجستِ مقدسي بكل مكرهاتكِ وبكل أرجاسكِ، فأنا أيضًا أجزُّ ولا تشفق عيني، وأنا أيضًا لا أعفو" (حز 5: 11).
* كانت أرض الموعد، وعلى الخصوص مدينة أورشليم، ميراث الله، لأنه قد بنى فيها سليمان هيكل الله، وفيها كانت تُمارس فرائض الشريعة.
الأب أنثيموس الأورشليمي
دَفَعُوا جُثَثَ عَبِيدِكَ طَعَامًا لِطُيُورِ السَّمَاءِ،
لَحْمَ أَتْقِيَائِكَ لِوُحُوشِ الأَرْضِ [2].
من كثرة القتلى لم يكن يوجد من يدفن الجثث، فجاءت طيور السماء وحيوانات البرية تنهشها. إنه منظر مرعب ومحزن للغاية. حينما أراد جليات أن يسخر بداود قال له: "تعال إليّ، فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية" (1 صم 17: 44). وكان رد داود: "هذا اليوم يحبسك الرب في يدي، فأقتلك وأقطع رأسك. وأعطي جثث جيش الفلسطينيين هذا اليوم لطيور السماء وحيوانات الأرض، فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله لإسرائيل" (1 صم 17: 46). يحسب أغلب الأمم والمسيحيين دفن الموتى عملًا مقدسًا.
لقد رفض الشعب التمتع بكلمة الله، الطعام السماوي، فصاروا هم طعامًا للطيور والحيوانات النجسة.
سَفَكُوا دَمَهُمْ كَالْمَاءِ حَوْلَ أُورُشَلِيمَ،
وَلَيْسَ مَنْ يَدْفِنُ [3].
انسكبت دماء القتلى، فصارت كالماء حول مدينة أورشليم. وكما قيل في إرميا: "والشعب الذي يتنبأون له يكون مطروحًا في شوارع أورشليم من جرى الجوع والسيف، وليس من يدفنهم، هم ونساؤهم وبنوهم وبناتهم، وأسكب عليهم شرهم" (إر 14: 16).
صورة مُرة أن تتحول دماء القتلى إلى شبه نهر يحوط بأورشليم، مدينة الله. هذه هي صورة المؤمن الذي يرتد إلى الشر، ولا يقدم توبة، يصير عارًا وخزيًا ودنسًا، ولا يتمتع بالمغفرة والطهارة لعدم توبته.
يرى القديس أغسطينوس أننا إذا أخذنا هنا كلمة "أورشليم" بكونها مدينة أورشليم الأرضية، فإننا نفهم سفك دمائهم حولها بالمفهوم الحرفي حيث يمكن للعدو أن يجد من هم خارج أسوارها فيقتلونهم. ويمكن أيضًا أن نفهم أورشليم بكونها الكنيسة الممتدة والحاملة للثمر والنامية على مستوى المسكونة، فإن الاضطهاد ضدها عنيف في كل موضع، فتُسفك دماء الشهداء، ويصير مثل الماء، وهو يمثل كنزًا سماويًا[1].
صِرْنَا عَارًا عِنْدَ جِيرَانِنَا،
هُزْءًا وَسُخْرَةً لِلَّذِينَ حَوْلَنَا [4].
جاء سفر عوبديا يتنبأ عن بني أدوم الذين شمتوا في شعب الله يوم سبيهم، وصاروا يسخرون به، بل ويقبضون عل الهاربين من الشعب لتسليمهم للعدو. جاء في المزامير: "اذكر يا رب لبني أدوم يوم أورشليم القائلين: هدوا، هدوا حتى إلى أساسها" (مز 137: 7).
يقول القديس أغسطينوس إن جيران أورشليم الأرضية هم الأمم المحيطة بها، والذين يشتمون فيها. أما جيران أورشليم الحرة، أمنا، فهم أعداء الكنيسة القاطنين في العالم أجمع[2].
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. صلاة المرتل

إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَغْضَبُ كُلَّ الْغَضَبِ،
وَتَتَّقِدُ كَالنَّارِ غَيْرَتُكَ؟ [5]
في مرارة يعاتب المرتل الله، إذ يشعر كأن التأديبات القاسية التي حلت بالشعب بلا نهاية، ولم يبقَ للرحمة الإلهية موضع. إنه يتوسل إلى الله ألا تلتهم نيران الغضب الإلهي شعب الله.
* أنت ربي يسوع.
أين هي مراحمك العتيدة (مز 89: 9)؟ إلى متى غضبك عليَّ يا رب... إلى الأبد؟
إني أتضرع إليك أشفق عليَّ... ارحمني. لا تحجب وجهك عني (مز 27: 9).
يا من جلدوك وبصقوا عليك، إنني أعترف، ارتكبت المعاصي والخطايا، ومستحق الدينونة.
ندمي ليس كافيًا للتكفير عن خطاياي، لكن مراحمك تفوق كل آثامي.
* غضب الله وغيرته ليسا انفعالين في الله، كما يتهم البعض الأسفار المقدسة بهذا عن عدم فهمٍ (يقصد أتباع ماني).
إنما تحت اسم "الغضب" يُفهم النقمة من الشر، وتحت اسم "الغيرة" إبراز العفة (القداسة)، حتى لا تستخف النفس بشريعة ربها، وتهلك بممارستها الزنا وراء الرب. فالغضب والغيرة في السلوك العملي عند البشر عنيفان، أما في تدبير الله فيتمَّان في هدوء، هذا الذي يُقال عنه: "أما أنت يا رب القوات فتقضي بالهدوء" (حك 12: 18). ولكن واضح بما فيه الكفاية من هذه الكلمات أنه بسبب الخطايا تحل متاعب على البشر حتى وإن كان مجد الشهداء يتلألأ بصبرهم، ويحتملون نير التهذيب بتقوى كجلدات من قبل الرب[3].
القديس أغسطينوس
في أكثر من موضع يتحدث القديس مار يعقوب السروجي عن غضب الله في جوهره رحمة وحب للإنسان، مقدمًا أمثلة كثيرة لذلك.
* تطلع الاستعلان من الله على (يونان) النبي، ليذهب يرد الشعوب الأممية إلى التوبة.
أرسله إلى نينوى ليدعو بانقلاب خيراتها، لكي بتهديدها تبطل الشرور.
قال له: قم، أمضِ، وأكرز هناك لأهل نينوى، وتكلم في آذانهم بالكرازة التي أقولها لك...
لو أراد الله أن يضرب نينوى بسبب كثرة آثامها، لما أرسل إليها لتبتعد عن الشرور.
لو وضع وجهه ليؤذيها حقيقة، لأرسل الغضب بغتةً وضربها.
أرسل إليها لكي تشعر بالموقف، وتطلب المراحم لتخلصها.
رفع يده ليضرب ويهلك النائمة، ودعاها وأيقظها حتى لا تُلطم في نومها...
استيقظت الغيرة على العدالة ضد الشقية، وأرسل إليها بالنعمة لتستيقظ بالتوبة.
خرج الغضب على المدينة ليهلكها، وتقدم الحنان وغلق الأبواب ولم يدخله.
لولا وجود هذه المراحم، ما الحاجة أن يُرسل الكارز.
أرسله إلى المكان ليرده من الشرور، وبالتوبة يكون له راحة، ولا يحل الفساد...
لما عرفوا أن الغضب حال من العلي، هربوا منه، والتجأوا إلى التوبة...
جاهدوا بصفوف الصوم ضد الغضب، ولبسوا المسوح ليدخلوا الحرب التي ثارت ضدهم. أقاموا جانب البٌر بصومهم، ولبس الكبير والصغير الآلام بسبب الرعب... سأله الملك فلم يداهنه. طلب منه فلم يهدأ من تهديداته...
بماذا يرضي سيدك الغاضب كما تقول؟ إن أمكن اسأل معنا من أجل الغضب، وعن الأسباب التي أعدت الحربة لتهديدنا. عملنا بأية وسيلة يبطل الغضب عنا...
جعل الرجال والنساء والأطفال يمسكون بالصوم، كل واحدٍ حسب قوته، ليصطفوا للقتال مقابل الغضب...
صوم عظيم يبطل الغضب العظيم! كل الشعب يلبسون المسوح، هم وبهائمهم...
بالطلبة الكثيرة يستريح رب الديون. الرماد هو الغنى، هذا يليق بالملك ليتزين به. البكاء هو الذهب، به تُمحى جميع الصكوك...
قم أيها النشيط من الطلبة، وافرح معنا.
أيها الحكيم غيِّر مسوحك، لأن الغضب قد بطل.
قم من الرماد لأن الرب ارتضى بتقربنا إليه. اختم طلبتك، لأن المدينة تغطت بالمراحم.
القديس مار يعقوب السروجي
أَفِضْ رِجْزَكَ عَلَى الأُمَمِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَكَ،
وَعَلَى الْمَمَالِكِ الَّتِي لَمْ تَدْعُ بِاسْمِكَ [6].
إن كان الله قد استخدم الأمم الوثنية لتأديب شعبه، فالمرتل يطلب تدخل الله ضد هذه الأمم التي أساءت استخدام الله لها كأداة للتأديب بل وصارت تعير الله وتسخر به.
إن كان الله يؤدب شعبه الذي يعرفه، فإن الأمم أداة التأديب التي لا تعرف الله تستحق أيضًا التأديب على تجديفها على الله وتخريبها لشعبه فوق كل الحدود.
حقًا لم تعرف الأمم الله لأنها عبدت الأوثان، وأنكرت وجود الله الحقيقي. لكن من الجانب الآخر فإن إسرائيل وإن كان قد عرف الله وعبده، لكنه خلط عبادته أحيانًا بعبادة الأصنام، كما دنَّس الهيكل وكسر الوصية ولم يكن أمينًا في العهد.
يدهش المرتل كيف يسمح الله بتأديب شعبه بواسطة الأمم الوثنية في عنف وقسوة، بينما يترك الأمم بلا عقاب!
يرى القديس أغسطينوس أن هذه العبارة هي نبوة تتحقق بخصوص الأمم المقاومة لله، وليست رغبة. هذه الكلمات لم ينطق بها كلعنةٍ صادرة عن حقدٍ، إنما هي نبوة يسبق فيراها (المرتل) بالروح، كما في حالة يهوذا الخائن بخصوص التنبوء عن الشرور حلت عليه، قيلت كما لو كانت رغبة (يطلبها النبي)[4].
لأَنَّهُمْ قَدْ أَكَلُوا يَعْقُوبَ،
وَأَخْرَبُوا مَسْكَنَهُ [7].
يبرز المرتل بشاعة جرائم الأمم، فإن كان من يمس الشعب يمس حدقة عين الله، فإنهم لم يمسوه فقط إنما أكلوه وافترسوه، وبعد أن شبعوا خربوا مسكنه. إنهم لا يعرفون الرحمة، ويطلبون الخراب حتى وإن لم ينتفعوا به في شيء.
السقوط في يد الرب أفضل من السقوط في يد إنسان، فالإنسان في شره لا يعرف للعنف حدًا، ولا وجود للرحمة في قلبه.
يرى القديس أغسطينوس أن مسكن يعقوب هنا هو تلك المدينة التي بها الهيكل، حيث أمر الرب بالاجتماع فيها، لتقديم الذبائح وممارسة العبادة والاحتفال بعيد الفصح[5].
لاَ تَذْكُرْ عَلَيْنَا ذُنُوبَ الأَوَّلِينَ.
لِتَتَقَدَّمْنَا مَرَاحِمُكَ سَرِيعًا،
لأَنَّنَا قَدْ تَذَلَّلْنَا جِدًّا [8].
هل يعاقب الله أو يؤدب إنسانًا بسبب خطية أسلافه؟
"كان إليّ كلام الرب قائلًا: "ما لكم تضربون هذا المثل على أرض إسرائيل، قائلين: الآباء أكلوا الحصرم وأسنان الأبناء ضرست؟ حي أنا يقول السيد الرب: لا يكون لكم من بعد أن تضربوا هذا المثل في إسرائيل. ها كل النفوس هي لي. نفس الأب كنفس الابن، كلاهما لي. النفس التي تخطئ هي تموت" (حز 18: 1-4). إنما إن استمر الابن في شر أسلافه، وتمادى أكثر منهم يذَكره الرب يوم تأديبه بخطاياهم.
يعترف المرتل هنا أنهم مخطئون أبًا عن جد، ومستحقون لكل تأديب، لكن يرجو من إلهه أن يفتقدهم بمراحمه سريعًا. فقد اشتد التأديب جدًا، وصاروا في مذلة. يخشى المرتل أن يسقط الشعب في اليأس في مراحم الله فيتحطم!
الله في محبته لمؤمنيه، يود أن يذكروه بمراحمه الإلهية كعلامة ثقة فيه وفي حنوه. "اذكر مراحمك يا رب وإحساناتك، لأنها منذ الأزل هي. لا تذكر خطايا صباي ولا معاصي. كرحمتك اذكرني أنت من أجل جودك يا رب" (مز 25: 6-7).
جاء في الأب أنثيموس الأورشليمي "قد افتقرنا جدًا" عوض "قد تذللنا جدًا"، معلقًا: [أما قوله "افتقرنا جدًا" فيخبر أن الخطايا تُبعد الغنى الحقيقي الذي هو محبة الله.]
* إذ يضيف: "قد افتقرنا جدًا". بهذا الهدف يريد أن تتقدمنا مراحم الله، حتى تكون لنا الرحمة من أجل افتقارنا أي ضعفنا، وبهذا نتمم وصاياه فلا نسقط تحت الدينونة[6].
القديس أغسطينوس
أَعِنَّا يَا إِلَهَ خَلاَصِنَا مِنْ أَجْلِ مَجْدِ اسْمِكَ،
وَنَجِّنَا وَاغْفِرْ خَطَايَانَا مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ [9].
لا يبرر المرتل نفسه أو شعبه، إنما يعترف أن الكل محتاج إلى الخلاص، لا لعملٍ صالحٍ أو عن استحقاقٍ، وإنما لأجل مجد اسم الله محب المؤمنين وغافر الخطايا. ليس لدى المؤمن ما يقدمه لله للتمتع بمراحمه سوى مجد اسم الرب نفسه. يتحرك المرتل بالله محب البشر، ويطلب أن يبلغ إليه، ويحتمي فيه. هذا ما يمجد اسم الله.
يترجم القديس أغسطينوس "إله خلاصنا" الشافي. يقول بأننا إذ افتقرنا جدًا حلّ بنا هذا المرض وحدنا في حاجة إلى الشافي.
* بينما يريد لنا العون لا يجحد (المرتل) النعمة، ولا ينكر حرية الإرادة. فإن من يُعان يمارس شيئًا ما. لقد أضاف أيضًا: "من أجل مجد اسمك يا رب نجنا". فلا يتمجد (الإنسان) في ذاته، إنما يتمجد الرب. يقول: "كن أنت رحومًا على خطايانا، من أجل اسمك، وليس من أجلنا نحن. فإنه ماذا تستحق الخطايا إلا العقوبات اللازمة...؟ الخطية إثم، فإن أخذت بالآثام من يثبت؟[7]
القديس أغسطينوس
لِمَاذَا يَقُولُ الأُمَمُ: أَيْنَ هُوَ إِلَهُهُمْ؟
لِتُعْرَفْ عِنْدَ الأُمَمِ قُدَّامَ أَعْيُنِنَا نَقْمَةُ دَمِ عَبِيدِكَ الْمُهْرَاقِ [10].
تسخر الأمم باليد الإلهية التي سمحت لهم أن يؤدبوا المؤمنين، وتشامخوا عليها، بل وأنكروا وجود الله نفسه. هذا ومن جانب آخر، فإنه وإن أخطأ شعبه لكن الله لن يصمت على الدم البريء المسفوك بلا ذنب الذي سفكته الأمم.
لقد شفع موسى النبي في شعبه، قائلًا: "لماذا يا رب يحمي غضبك على شعبك الذي أخرجته من أرض مصر بقوة عظيمة ويدٍ شديدةٍ؟ لماذا يتكلم المصريون قائلين: أخرجهم بخبثٍ ليقتلهم في الجبال، ويفنيهم على وجه الأرض؟ ارجع عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك" (خر 32: 11-12).
* لئلا يبلغ (الأمم) إلى نهاية شريرة، إذ ييأسون من الله الحقيقي، ظانين أنه غير موجود، أو أنه لا يعين خاصته، ولا رحوم بهم[8].
القديس أغسطينوس
لِيَدْخُلْ قُدَّامَكَ أَنِينُ الأَسِيرِ.
كَعَظَمَةِ ذِرَاعِكَ اسْتَبْقِ بَنِي الْمَوْتِ [11].
في وسط الأسر لم يستطع شعبك أن يقدم لك تسابيح وترانيم، فقد تحولت حياتهم إلى أنات مرة. إنها صرخات القلب التي لن يسمعها ولن يدركها إلا فاحص القلوب.
إنها أنات أناس صارت حياتهم أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. ليس من يقدر إن يقيمهم من هذا الموت سوى ذراع القدير واهب الحياة.
يدعو المرتل الأسرى في السبي "بني الموت".
وَرُدَّ عَلَى جِيرَانِنَا سَبْعَةَ أَضْعَافٍ فِي أَحْضَانِهِمِ،
الْعَارَ الَّذِي عَيَّرُوكَ بِهِ يَا رَبُّ [12].
لا يطلب المرتل النقمة من الغزاة بسبب ما فعلوه من شعب الله، إنما بالأكثر من أجل سخريتهم بالله نفسه، وتعييرهم له.
يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن الجيران هنا ليسوا بني البشر المحيطين بهم، إنما الشياطين التي لن تتوقف عن مقاومتهم وحثهم على ارتكاب الخطايا. أما قوله "في أحضانهم"، فيرى الأب انثيموس أن العار الذي يرتد عليهم لا يأتيهم من الخارج، بل هو ملازم لهم ولا يفارقهم. وكأن ما يصبه الله عليهم هو كشف الفساد والخزي والعار، الأمور الكامنة فيهم وفي أحضانهم.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. تسبيح المرتل

أمَّا نَحْنُ شَعْبُكَ وَغَنَمُ رِعَايَتِكَ نَحْمَدُكَ إِلَى الدَّهْرِ.
إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ نُحَدِّثُ بِتَسْبِيحِكَ [13].
بالإيمان رأى المرتل التدخل الإلهي، فقد تحولت أنات القلب إلى تسابيح حمد وشكر لله، صار بنو الموت أشبه بالسمائيين دائمي التسبيح لله.
في دالة يقول للرب: "نحن شعبك وغنم رعايتك".
* عنايته لا تُفسَر، وحنانه غير مُدرَك، وصلاحه يا يُحَد، وحبه لا يُستقصى[9].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كلماتك تضربني بشدة في صدري، وتسيج حولي من كل جانب[10].
القديس أغسطينوس
* إنه لصانع حكيم، من الذي أعد الرحم ليحمل الجنين؟!
من يهب الحياة للأشياء التي بلا حياة في داخلك؟!
من الذي ربطنا بعضلات وعظام، وكسانا بجلدٍ ولحمٍ، وما أن يولد الطفل حتى يفيض اللبن من الثديين؟!
كيف ينمو الطفل ليكون صبيًا، فشابًا، فرجلًا، ويبقى هكذا حتى يعبر إلى الشيخوخة، دون أن يلاحظ أحد هذا التحول الدقيق من يومٍ إلى يومٍ؟![11]
القديس كيرلس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 79

لتحول أنات قلبي إلى تسبيح لا ينقطع


* إلهي نفسي تئن في داخلي.
أنت تود أن تقيم منها مقدسًا لك.
تجعل منها أورشليم الجديدة.
لكن العدو لن يكف عن محاولة تدنيسها.
يريد أن يجعل منها هيكلًا دنسًا بسكناه.
أنت تود أن تجعل منها سماءً متهللة!
وهو يريد أن يقيم منها قبرًا.
يود أن يقتل أعماقي،
ويجعل منها جثة لا حياة فيها.
يتهلل حين يرى الطيور الجارحة تنهشها،
ووحوش البرية تقترسها.
تود أنت أن تقيم فردوسك المثمر فيّ.
وهو يود أن يجعل منها بركة دماء نتنة.
* لا تتركني، فإني عاجز عن الحركة.
ارفع غضبك عني،
وأشرق بنعمتك عليّ.
من أجل اسمك أعلن رحمتك سريعًا.
انزع عني العار والخزي.
رد لي بهجة خلاصك.
حررني من أسر العدو.
أنت مخلصي، مجدي ورافع رأسي.
لك المجد والكرامة والتسبيح،
من دور إلى دور وإلى الأبد آمين.

  رد مع اقتباس
قديم 11 - 02 - 2014, 05:24 PM   رقم المشاركة : ( 82 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 80 - تفسير سفر المزامير
النور الإلهي والكنيسة المتألمة

مع اختلاف الدارسين على المناسبة التي من أجلها وُضع هذا المزمور، إلا أن الغالبية يرون أنه مزمور الكنيسة المتألمة، والتي تعاني من التأديب الإلهي بسبب الخطايا. إنها في حاجة إلى الجالس على الكاروبيم ليشرق عليها بنور وجهه، فتنعم بالرحمة الإلهية. إنها الكرمة المحبوبة لدى الله غارسها، والمحتاجة على الدوام إلى رعايته، فهو القادر أن يتعهدها.
يرى القديس أغسطينوس أن هذا المزمور خاص بمجيء ربنا ومخلصنا يسوع المسيح وبكرمته (كنيسته). أو كما يقول إن هذا المزمور يخص المسيح وكَرْمه؛ الرأس والجسد؛ الملك والشعب؛ الراعي وقطيعه. يحوي كل سرّ الأسفار المقدسة، المسيح والكنيسة. إن كانت الكنيسة في وسط ضيقاتها المستمرة تشعر كما لو كانت في ظلمة التجارب، فإن رأسها السماوي هو شمس البرّ الذي يشرق عليها ويهبها الاستنارة.
1. لتنر ظلمتي
1-3.
2. يا لمرارة التأديب!
4-7.
3. نحن من غرس يمينك!
8-13.
4. اطلع علينا وتعهدنا
14-19.
من وحي مز 80
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]العنوان[/FONT]

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى السَّوْسَنِّ.
شَهَادَةٌ. لآسَافَ. مَزْمُورٌ
جاء العنوان في الترجمة السبعينية: "لآساف في الآخرة. شهادة على المتغيرين؛ تسبحة على الأشوريين".
يقول الأب أنثيموس أسقف أورشليم: [يخبر هذا المزمور بتحويل الأمور وتبديلها. ما كان مزمعًا وقوعه بعد زمان هذا حُرر في عنوانه للتمام من أجل المتغيرين. وأما قوله: من أجل الأشوري فيدل على أنه يتضمن سبي الإسرائيليين بيد الأشوريين. وأما أثناسيوس الجليلفقال: إن الأشوري معناه المحال الذي تعبد له اليهود لصلبهم المسيح[1].]
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. لتنر ظلمتي

يَا رَاعِيَ إِسْرَائِيلَ اصْغَ،
يَا قَائِدَ يُوسُفَ كَالضَّأْنِ،
يَا جَالِسًا عَلَى الْكَرُوبِيمِ أَشْرِقْ [1].
يرى البعض أن كلًا من الاسمين "إسرائيل" و"يوسف" يشير إلى الشعب كله.
رعاية الله لإسرائيل تعني اهتمام الله بشعبه الذي حرره من عبودية فرعون، وقيادته ليوسف الذي تآمر عليه إخوته واغتالوه كالذئاب المفسدة للرعية. الله الذي كان يرعى إسرائيل القديم هو الذي لا يزال يرعى الكنيسة "إسرائيل الجديد".
* لقد بيع، وكان الثمن بخسًا، ثلاثين من الفضة (مت 26: 15). لكنه هو يشتري العالم بثمن عظيم وهو دمه (1 كو 6: 20، 1 بط 1: 19). قيد كشاة للذبح (إش 53: 7)، إلا أنه يرعى إسرائيل (مز 80: 1)، والآن يرعى أيضًا العالم كله[2].
القديس غريغوريوس النزينزي
"يوسف" تعني "إضافة الله"، فتشير الكلمة إلى الأمم الذين جذبهم الراعي الصالح إلى كنيسته كأعضاء فيها. يقول السيد المسيح: "ولي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراعٍ واحدِ" (يو 10: 16).
* تفسير اسم (يوسف) يفيدنا كثيرًا، فهو يعني "زيادة". فقد جاء بحقٍ لكي ما يزيد القمح الذي يُقدم للموت وتضاعف (يو 12: 24)، أي كي يزيد شعب الله[3].
القديس أغسطينوس
جاءت كلمة "يقود" هنا تشير إلى الماضي (2 صم 6: 3)، كما إلى الحاضر (جا 2: 3)، وإلى المستقبل (إش 11: 6).
"يا جالسًا على الكروبيم أشرق": يقول المرتل: "الرب قد ملك، ترتعد الشعوب، هو جالس على الكاروبيم، تتزلزل الأرض" (مز 1:99).
في سفر حزقيال دعا النبي المخلوق الحيّ كاروبًا. والعجيب أن الكاروب ارتبط بخلاصنا ارتباطًا وثيقًا.
ظهر في أول أسفار الكتاب المقدس ممسكًا سيفًا ملتهبًا نارًا يحرس طريق الفردوس حتى لا يدخل الإنسان إلى شجرة الحياة. إذ لا تقدر طبيعة الإنسان الساقطة أن تقترب من سرّ الحياة. كما ظهر في آخر أسفار الكتاب المقدس مع الأربعة وعشرين قسيسًا السمائيين، يشتركون في تسبحة الحمل التي هي تسبحة خلاصنا (رؤ 9:5)، إذ صار للإنسان حق الدخول إلى السماء عينها، وقد تمجدت طبيعته في المسيح يسوع الحمل الحقيقي. أما بين بدء الكتاب ونهايته فيظهر أيضًا كاروبان على تابوت العهد في خيمة الاجتماع والهيكل علامة الحضرة الإلهية، وكان الله يتحدث مع موسى من خلالهما.
أما وجود كاروبين فوق تابوت العهد حيث يمثل عرش الله، فيشير إلى أن الله الساكن وسط شعبه يتحدث معهم ويعاملهم خلال الرحمة والحب.
أيضًا وجود اثنين يشير إلى دور السمائيين من نحونا: الصلاة لأجلنا والعمل كخدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 14:1). ورسم شكل الكاروب على ستائر الخيمة والحجاب (خر 27-25) يقترب من شكل الإنسان مجنحًا ليعلن عن اقتراب الطبيعة البشرية إلى الحضرة الإلهية.
لقد عرف الإنسان الكاروب، فصار ليس غريبًا عن البشرية. لهذا عرفته الأمم ولاسيما الكلدانيون، وإن كانوا قد أضفوا عليه أشكالا من عندياتهم كما فعل سائر الأمم في كل الحقائق الإيمانية التي تسلموها شفاهًا بالتقليد، وصبغوها بفكرهم المنحرف.
إذن حين نرى الكاروب نتذكر طبيعتنا البشرية التي تمتعت بالخلاص من خلال اتحادها مع الله الآب في المسيح يسوع ربنا بواسطة روحه القدوس. أما وجوهه الأربعة فتشير إلى تقديس طبيعتنا الجديدة من كل جوانبها: العقلية (إنسان) والروحية (النسر) والعمل (الثور) والسلطان (الأسد).
تبع القديس إكليمنضس السكندري فيلون اليهودي قائلًا إن كلمة "كاروب" تعنى "معرفة". فاسم "الشاروبيم" يعني فيضًا من المعرفة أو تدفقًا من الحكمة. لذا فهم يشيرون إلى قوة المعرفة وإلى رؤية الله. يتأملون في جمال اللاهوت في أول إعلاناته، يتمتعون بحكمة إلهية. يفيضون بينبوع حكمتهم على من هم أقل منهم. وكأنه من خلال المعرفة الروحية تصير حياتنا مركبة تحمل الله داخلها.
هذا ما قبله أيضًا القديس جيروم الذي رأى في الكاروب رمزًا لمخزن المعرفة التي تعمل في طبيعتنا لترفعها وتنطلق بها بين القوات السماوية. تعمل في طبيعتنا المتسلطة على الشهوات كأسد، وتحلق في الأمور العلوية كنسر، وتعمل مجاهدة كالثور، وبتعقل كإنسانٍ. هذه المعرفة نغترفها من الأناجيل الأربعة، إذ يقول نفس القديس: [متى ومرقس ولوقا ويوحنا هم فريق الرب الرباعي، الكاروبيم الحقيقيون، أو مخزن المعرفة؛ فإن جسدهم مملوء عيونًا ومتلألئ كالبرق... أقدامهم مستقيمة ومرتفعة، ظهرهم مجنح، مستعدون للطيران في كل الاتجاهات، كل واحدٍ منهم يمسك بالآخر، يتشابك الواحد مع غيره، كالبكرات وسط البكرات يتدحرجن على طول الخط، يتحركن حسب نسمات الروح القدس[4].]
* الكاروبيم هم كرسي مجد الله، وترجمتهم "كمال المعرفة". الله يجلس على كمال المعرفة. فإن كنا نفهم الكاروبيم أنهم قوات علوية، وقوات سماوية، إلا أنكم إن أردتم يمكنكم أن تكونوا كاروبيم. فإن كان الكاروبيم هم عرش الله، اسمعوا ما يقوله الكتاب المقدس: "نفس البار هي كرسي الحكمة". تقولون: كيف نصير نحن في كمال المعرفة. من يحقق هذا؟ لديكم الوسيلة لتحقيق هذا: "المحبة هي تكميل الناموس" (رو 13: 10). كما يقال: "الله محبة" (1 يو 4: 8)[5].
القديس أغسطينوس
يوضح لنا القديس غريغوريوس النزينزيماذا يعني القول: جلوس الله على الكاروبيم.
* بعض الأشياء المذكورة في الكتاب المقدس ليست حقائق (بل رموز)، وبعض الحقائق غير مذكورة، وبعض الأشياء غير الحقيقية غير مذكورة، وبعض الأشياء حقيقية ومذكورة. هل تريدون مني أمثلة تثبت ذلك؟ أنا مستعد لأقدمها لكم. نقرأ في الإنجيل أن الله يتغافى (ينام) (مز 44: 23)، و"يستيقظ" (إر 31: 26)، ويغضب (مز 79: 5؛ قارن إش 5: 25)، و"يمشي" (تك 3: 8)، و"جالس على عرش فوق الكاروبيم" (إش 37: 16؛ مز 80: 1)، ومع ذلك هل كان الله يتأثر بالعاطفة؟ وهل سمعتم من قبل أن الله كائن جسدي؟ هذه صورة عقلية غير حقيقية. الحقيقة هي أننا قد استخدمنا أسماء مشتقة من الخبرة البشرية وطبقناها - بقدر ما استطعنا - على جوانب من الله. فعلى سبيل المثال، فإن انعزال الله عنا - لأسباب يعلمها هو - بشكل يكاد يكون عدم نشاط لا يبالي بنا هو ما نسميه "نوم" الله، فإن النوم البشري له خاصية عدم النشاط والسكون. وعندما يتغير الحال ويقوم الله فجأة بعمل ما في صالحنا، نسمي هذا استيقاظه. والاستيقاظ ينهي النوم كما أن النظر إلى شخص ما ينهي التحول بالنظر بعيدًا عن هذا الشخص. وقد جعل عقاب الله لنا هو "غضبه"، لأن العقاب ينتج من الغضب. ونسمي عمل الله في أماكن مختلفة "سيرًا"، لأن السير هو الانتقال من مكان إلى مكان، جاعلًا هذه الأماكن شبه مسار له. ونتحدث أيضًا عن "جلوس الله على العرش"، وهذه أيضًا لغة بشرية، فالإله لا يبقى ويسكن في مكان بقدر ما يسكن في القديسين. ونسمي حركة الله السريعة "طيرانًا" (مز 18: 10)، ومراقبته لنا هي "وجه الرب" (مز 4: 6، 34: 16)، وعطاءه وأخذه هما "يد الرب" (مز 145: 16). وفي الواقع فإننا نصف كل قدرة أو عمل لله بصورة مماثلة من الناحية الجسدية[6].
القديس غريغوريوس النزينزي
* "لم يكن لهما موضع في المنزل" (لو 2: 8). الذي أوجد كل الأرض لم يكن له موضع هنا... وكانت تقوته باللبن الذي يعول الكل ويهب حياة لكل كائن حي، وقمّطت بالخرق ذاك الذي يصون المسكونة كلها... واضطجعت في المزود، الجالس فوق الشاروبيم (مز 80: 1).
أشرق نور سماوي حول ذاك الذي يضيء المسكونة كلها.
جنود السماء أسمعته التسابيح، هذا الممجّد في السماء من قبل الدهور.
نجم بضيائه قاد الآتين من بلاد بعيدة إلى ذاك الذي افتقر من أجلنا!
أما والدة الإله فقد حفظت هذا الكلام وخبّأته في قلبها كمن يتقبّل كل الأسرار...
إن مدحك أيتها العذراء الفائقة القداسة يفوق كل مديحٍ، بسبب تجسّد يسوع ربنا الذي له المجد مع الروح القدس والآب، الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين[7].
القديس غريغوريوس صانع العجائب
ما أروع ما يقوله القديس أغسطينوس في تعليقه على هذه العبارة، وهو أن الله يطلب أن نسأله كي يأتي، وهو ينتظر لكي يأتي، ويشتاق أن يأتي!
قُدَّامَ أَفْرَايِمَ وَبِنْيَامِينَ وَمَنَسَّى أَيْقِظْ جَبَرُوتَكَ،
وَهَلُمَّ لِخَلاَصِنَا [2].
يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا رمزيًا لهذه الطلبة أن يظهر الله قدام أفرايم وبنيامين ومنسى.
* أفرايم معناها "مثمر"، وبنيامين "ابن اليمين"، ومنسى "من هو كثير النسيان". إذن لتظهر قدام من هو مثمر، ابن اليمين، الكثير النسيان، حتى لا يعود ينسى بعد بل تحل أنت في ذهنه لتخلصه[8].
القديس أغسطينوس
يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن المرتل ذكر هؤلاء الأسباط الثلاثة لأحد الأسباب التالية:
أ‌. لأن الله وعد بأن يكثرهم، فيذكره المرتل بوعده ويلتمس تحقيقه.
ب‌. اتفقت هذه الأسباط مع سوريا لمحاربة يهوذا، فيطلب المرتل الخلاص من أذيتهم.
ج‌. تتقدم هذه الأسباط الشعب من الجهة القبلية (شمالًا).
* بهذا القول يبين جهارًا انتظاره مجيء ابن الله بالجسد على الأرض ليصنع خلاصًا للجميع من الأشوري المغري للشر، الذي هو الشيطان.
الأب أنثيموس الأورشليمي
يَا اللهُ أَرْجِعْنَا،
وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ [3].
إن كان البعض يجد صعوبة في تجسد الله الكلمة وحلوله بيننا لأجل خلاصنا، فإن الإنسان يحمل ناموسًا طبيعيًا يشتاق أن يرى الله. فلا ندهش إن كانت البشرية حين انحرفت عن عبادة الله صنعت الأصنام وحسبتها آلهة. فقد أرادت أن ترى الله بعينيها. وموسى النبي بعد خبرة سنوات طويلة في معاملات الله معه يطلب أن يرى مجده (خر 33: 16-18). وفي سفر نشيد الأناشيد تتساءل العذارى: "أين ذهب حبيبك أيتها الجميلة بين النساء؟ أين توجَّه حبيبك، فنطلبه معك" وجاءت الإجابة: "حبيبي نزل إلى جنته إلى خمائل الطيب ليرعى في الجنات ويجمع السوسن" (نش 6: 1- 2). لقد نزل إلى عالمنا ليرعى قلوبنا، بكونها جناته المملوءة بخمائل الطيب والسوسن. يريد أن يتجلى في أعماقنا، ينير بوجهه علينا فنخلص.
الطلبة هنا هي توسل لكي نتمتع بازدهار عمل الله ورعايته ونعمته.
* نحن ابتعدنا عنك، ولن نرجع ما لم أنت تردنا.
"أنر بوجهك فنخلص" هل له وجه مظلم بأية وسيلة؟ ليس له وجه مظلم، لكنه وضع أمامه سحابة من الجسد، كما لو كانت حجابًا من الضعف. عندما عُلق على الشجرة لم يُنظر إليه كما عُرف بعد عندما جلس في السماء... لقد غطيت وجهك، وكنا نحن مرضى. أنر وجهك ذاته، فنصير أصحاء[9].
القديس أغسطينوس
* ارددنا يا الله إلى ما كنا فيه من الحرية والراحة. وأما وجهه فهو ابنه الوحيد الذي لم يزل مثله وشعاع مجده وصورة أقنومه. فلما تجسد ظهر لنا وجهه ورأيناه عيانًا.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* هذا هو السبب أن الحب الذي يتوق نحو رؤية الله، حتى وإن كان ينقصه الحكم (السليم)، يحمل روح التقوى. هذا هو السبب الذي جعل موسى يتجاسر ويقول: "إن وجدت نعمة في عينيك أرني وجهك" (راجع خر 33: 16-18). أخيرًا هذا هو السبب أن الأمم صنعوا الأصنام، ففي خطأهم أرادوا أن يروا بعيونهم ما يعبدونه[10].
بطرس خروسولوجوس
رئيس أساقفة رافينا
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]2. يا لمرارة التأديب![/FONT]

يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ،
إِلَى مَتَى تُدَخِّنُ عَلَى صَلاَةِ شَعْبِكَ؟ [4]
جاءت الترجمة السبعينية وأيضًا القبطية: "أيها الرب إله القوات؛ إلى متى تسخط على صلاة عبدك؟"
الله هو الكائن القدير الذي يُدبر كل الأمور كما يليق، حينما يُخفى وجهه نصير في اضطراب شديد. صمت رهيب.عندما يتأخر في استجابة الصلاة نظن أحيانًا أنه يرفض طلباتنا، ونتساءل "إلى متى؟" (مز 4: 2).
* الآن أنا عبدك. كنت تسخط على صلاة عدوك، فهل لا تزال تسخط على صلاة عبدك؟ لقد أرجعتنا، ونحن نعرفك، فهل لا تزال تسخط على صلاة عبدك؟ واضح أنك تغضب بالحق كأبٍ يُصلح، وليس كقاضِ يدين. واضح أنك تغضب هكذا، إذ مكتوب: "يا بنيَّ، إن أقبلت لخدمة الرب، قف في البرّ والمخافة وأعدد نفسك للتجربة" (راجع سي 2: 1). لا تظن أن غضب الله قد عبر لأنك رجعت. سخط الله يعبر عنك، إنما فقط لكي لا تُدان أبديًا. لكنه يجلد كل ابنٍ يقبله (عب 12: 6)[11].
القديس أغسطينوس
يدعو الله هنا "إله الصباؤوت" أو "رب الجنود". فإن كانت الطغمات السماوية ذات قدرة عجيبة، كم يكون ربها وخالقها؟
إذ يؤجل الله استجابة الصلاة يظن الإنسان كأن غضب الله حجب الصلاة عن الله فلم يصغ إليها.
قَدْ أَطْعَمْتَهُمْ خُبْزَ الدُّمُوعِ،
وَسَقَيْتَهُمُ الدُّمُوعَ بِالْكَيْلِ [5].
صورة لمرارة النفس حين تنهمر الدموع على الخبز بسبب شدة الحزن، فتصير طعامًا أو شرابًا للشخص.
يرى البعض أن المعنى هنا إما أن جيراننا يصارعون ضدنا، أو يصارعون فيما بينهما بسببنا. وفي كلا الحالتين نصاب بالكثير من الأذى.
يرى القديس أمبروسيوس أنه يلزم أن تكون الدموع بكيلٍ، أي في حدود معينة لا نتعدها، لئلا تصير هذه الدموع مهلكة للنفس. فقد خشي القديس بولس لئلا يهلك الزاني التائب من فرط الحزن (2 كو 2: 7).
* سيعطينا الله "خبز الدموع" ويسقينا "الدموع بالكيل" [٥]، هذا الكيل يكون حسب أخطاء كل واحد[12].
العلامة أوريجينوس
* حتى خبزنا نأكله بالبكاء، وكأسنا تمتلئ بالدموع، كأنها ملء كيل؛ بمعنى أن دموعنا مُكالة وتقَّدر بآثامنا.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* ما هو الكيل؟ اسمع الرسول: "الله أمين، الذي لا يدعكم تُجربون فوق ما تستطيعون" (1 كو 10: 13). الكيل هو حسب قدرتكم. الكيل هو أن تتدربوا لا أن تتحطموا[13].
القديس أغسطينوس
* مادام البكاء له معانٍ مختلفة فإن الضحك يلزم أن يُفهم تبعًا لهذا. فالبكاء ليس له معنى واحد، ولا أيضًا الضحك. أحيانًا يُمدح الضحك، وأخرى يُوبخ. هكذا أيضًا يلزمنا أن نفهم البكاء بنفس الطريقة، فالضحك الممتدح يتطابق مع الحزن الممتدح، وبنفس الطريقة بالنسبة للضحك المذموم والبكاء.
غالبًا الحياة التي تنكب بالأكثر على الشهوة، أكثر من محبة الله هي ضحك بطريقة،ٍ يصير بها الضحك نفسه إلهًا. كما يحسب البعض بطونهم آلهة، وآخرون محبة المال، فإنه يوجد من يحب التسلية ويود أن يكون فكاهيًا. وبهذا يبني مذابح للضحك حاسبًا إياه إلهًا، مقدمًا ذبائح له...
على أي الأحوال يوجد ضاحك يستحق المديح. يقول الله: "يملأ فاك ضحكًا" (أي 8: 21) (بلا شك) بواسطة ضاحك مستحق المديح. هذا يطابق ثمر الروح الذي هو الفرح، لأن "ثمر الروح هو محبة، فرح، سلام" (غل 5: 22). الضاحك الذي يطابق الضحك بالفرح ممتدح. أي حزن يضاد هذا النوع من الضحك، ويقاوم فرح الروح القدس مستحق للذم. مثل هذا الحزن لن يسند أورشليم (لو 19: 41؛ 23: 28)... ولماذا الأمر هكذا؟ لأنه لا يتوب في الوقت اللائق بالتوبة[14].
القديس ديديموس الضرير
* يعلمنا بولس الرسول ألاَّ نهجر أولئك الذين ارتكبوا خطية للموت، إنما نلزمهم بخبز الدموع (التي للتوبة)، لكن ليكن حزنهم معتدلًا. وهذا هو ما تعنيه عبارة: "سقيتهم الدموع بالكيل" (مز 80: 5). فحزنهم يجب أن يكون بكيلٍ، لئلا يبتلع التائب من فرط الحزن (2 كو 2: 7). وذلك كما قال لأهل كورنثوس: "ماذا تريدون، أبعصا آتي إليكم، أم بالمحبة وروح الوداعة؟!" (1 كو 4: 21). إنه يستخدم العصا، لكن بغير قسوةٍ، إذ قيل: "تضربه أنت بعصا، فتنقذ نفسه من الهاوية" (1 مل 23: 14)[15].
وماذا يقصد الرسول بالعصا، ظهر عند طعنِهِ ضد خطيَّة الزنا (١ كو ٥: ١)، منذرًا ضد الفسق بالأقرباء المحرَّم الزواج بهم، معنِّفًا كبرياءهم، إذ تكبر هؤلاء الذين كان يلزمهم أن يحزنوا. وأخيرًا في حديثه عن المُذنب أمر بعزله عن الجماعة وتسليمه للشيطان، ليس لأجل هلاك نفسه، بل لهلاك جسده.
القديس أمبروسيوس
* ينبغي أن نعظ الذين يحزنون بسبب أفعالهم الشريرة بطريقةٍ، أما الذين يبكون علي خطايا الفكر فبطريقة أخرى.
علي الذين يبكون الأفعال الشريرة أن يتطهروا بحزنٍ كاملٍ وحقيقيٍ، لئلا يتورطوا ويصيروا مدينين بالأكثر بفعل الشرور، وكذلك بسبب شح دموع الندم. يقول الكتاب: "وسقيتهم الدموع بالكيل" (مز 80: 5)[16]، بمعني أنه ينبغي علي الروح أن تشرب في ندمها علي الشهوة دموعًا بنفس النسبة التي تحولتْ بها عن الله، فأصابها الجفاف بسبب الخطيئة[17].
الأب غريغوريوس (الكبير)
جَعَلْتَنَا نِزَاعًا عِنْدَ جِيرَانِنَا،
وَأَعْدَاؤُنَا يَسْتَهْزِئُونَ بَيْنَ أَنْفُسِهِمْ [6].
مما يزيد مرارة نفوسهم أن جيرانهم صاروا يسخرون بهم، وقد نشأ نزاع بين جيرانهم وبعضهم البعض، ربما لأن كل أمة تود أن تغتصب أكبر قدر من الغنائم، أو تستخدم أراضيهم كمراعٍ لغنمهم.
* كان جيران العبرانيين في ذلك الزمان هم الأدوميون والموآبيون والعمونيون، هؤلاء كانوا يستهزئون بهم، لكن الآن صاروا هزءًا لجميع أعدائهم.
الأب أنثيموس الأورشليمي
يرى القديس أغسطينوس أن جيراننا هم الأمم الذين إذ نكرز لهم بالسيد المسيح أنه مات وقام من الأموات، يرون في هذا تناقض، ويدخلون في نزاع. لكن المتنازعين يُغلبون، وعوض النزاع يؤمنون.
أعداؤنا كانوا يستهزئون بنا قائلين: "من هم أولئك الذين يعبدون ميتًا ويسجدون للمصلوب؟" الآن يقبلون الإيمان، ويرجعون إليه
يَا إِلَهَ الْجُنُودِ أَرْجِعْنَا،
وَأَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ [7].
جاءت العبارة هنا مطابقة للعبارة الثالثة، بل وتتكرر للمرة الثالثة في العبارة 7، وفي نهاية المزمور [19]. إنها السؤال الأول للمؤمن في وسط متاعبه أن يشرق الله بنور وجهه عليه، والسؤال المستمر في الحياة، بل والأخير حتى في لحظات تسليم روحه وعبوره من هذا العالم. ليس شيء أفضل من التمتع بنور وجه الله واهب الإنارة والمجد والخلاص الأبدي.
يعلق القديس أغسطينوس على هذه العبارة وما يشبهها، قائلًا إنه إن كان الرجوع إلى المسيح يتحقق بالإيمان، فإنه لا يستطيع أحد أن يأتي إليه ما لم يُعط هذا من الآب[18].
* عندما يقول الله "ارجعوا إلىّ... فأرجع إليكم" (زك 1: 3)، تحثنا إحدى الفقرتين للرجوع إلى الله فتنتمي إلى إرادتنا، بينما يعد الله في الأخرى بالاقتراب إلينا وهذه تخص نعمته. قد يظن البيلاجيون أنهم يجدون هنا تبريرا لفكرهم الذي يتقدمون به بمباهاة، قائلين إن نعمته تعطى حسب استحقاقنا... هذا الفكر مُغاير لإيمان الكنيسة الجامعة وغريب عن نعمة المسيح. كما لو أنه يرجع إلينا حسب استحقاقنا، فتوهب لنا نعمته برجوعه إلينا... وقد فاتهم أن رجوعنا إلى الله هو نفسه عطية منه، وإلا ما كان يُقال في الصلاة: "يا إله الجنود أرجعنا"، و"ألا تعود أنت فتحيينا" و"أرجعنا يا إله خلاصنا" (مز80: 7؛ 85: 6، 4)... لأن اقترابنا إلى المسيح ماذا يعني سوى أن نؤمن به، ومع هذا يقول: "لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إن لم يعط من أبي" (يو 6: 65)؟![19]
القديس أغسطينوس
* تخضع القوات العلوية والأرضية جميعًا لقدرتك أيها الرب الإله. نقدر أن نقهر أعداءنا، وتعيدنا إلى ما كنا عليه، بظهورك فقط.
الأب أنثيموس لأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]3. نحن من غرس يمينك![/FONT]

كَرْمَةً مِنْ مِصْرَ نَقَلْتَ.
طَرَدْتَ أُمَمًا وَغَرَسْتَهَا [8].
هذا التشبيه لكنيسة العهد القيم كما لكنيسة العهد الجديد كثيرًا ما ورد في الكتاب، وهو تشبيه محبوب ورائع، يكشف عن اعتزاز الله ورعايته لشعبه فالكرمة نبات ضعيف ويحتاج إلى رعاية، وثمره محبوب وغزير. ولكن متى صار عقيمًا لا يصلح لشيءٍ.
* لا يريد الله أن يغرسنا في مصر (محبَّة العالم)، ولا في أماكن فاسدة شرِّيرة، لكنه يريد أن يُقيمنا في جبل ميراثه. ألا تبدو الكلمات: "وتجيء بهم وتغرسهم" (مز 80: 8) كأنما يتحدَّث عن أطفالٍ يقودهم إلى المدرسة، حتى يتثقَّفوا بكل أنواع العلوم...؟!
لنفهم كيف يفعل هذا. "كرمة من مصر نقلت، طردت أممًا وغرستها. هيَّأت قدَّامها فأصَّلت أصولها، فملأت الأرض. غطَّى الجبال ظلَّها وأغصانها أرز الله" (مز 80: ٩-١١)...
إنه لا يغرسها في الوديان، بل على الجبال، في أماكن مرتفعة وعالية.
لا يريد أن يترك الخارجين من مصر في الحضيض، إنما يقودهم من العالم إلى الإيمان.
يريد أن يقيمهم على المرتفعات. يريدنا أن نسكن في الأعالي، لا أن نزحف على الأرض.
لا يريد ثمرة كرمته تلمس الأرض، إنما يريد أن تنمو كرمته دون أن تشتبك فروعها مع أيَّة شجيرة، بل تلتصق بأرز الله العالي المرتفع. أرز الله في رأيي هم الأنبياء والرسل، فإننا إن التصقنا بهم نحن الكرمة التي نقلها الله من مصر، تنمو أغصاننا مع أغصانهم. إن كنَّا نتكئ عليهم نصير أغصانًا مغروسة برباطات الحب المتبادل، ونأتي بلا شك بثمرٍ كثيرٍ[20].
العلامة أوريجينوس
* بما أن الكرمة إذا كانت مثمرة فإن صاحبها يسيجها ويحرسها أكثر من كل حديقة، وإن فسدت ثمرتها يترك فترة مُهملة، هكذا حدث مع الإسرائيليين.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* إن ضعف شخص غير راغب في التمسك بعظمتها (الكنيسة)، يزعم أنها غصن ضعيف، تلك التي قهرت جميع الملوك، وألقت حّلا علي العالم بأجمعه! بالمعاناة ازدادت قوتها.
مبارك هو ذاك الذي صيرها أعظم من كرمة مصر (مز 80: 8)[21].
القديس مار أفرام السرياني
هَيَّأْتَ قُدَّامَهَا فَأَصَّلَتْ أُصُولَهَا،
فَمَلأَتِ الأَرْضَ [9].
اهتمام الكرّام بكرمه يجعله يتقدمها، أي لا ينتظر ما تطلبه، بل يسعى لتحقيق كل احتياجاتها لمساعدتها على الإثمار، حتى تتعمق جذورها، وتقدر على القيام بدورها. بهذا تبسط الكرمة فروعها، وكأنها تود أن تملأ الأرض بثمارها.
غَطَّى الْجِبَالَ ظِلُّهَا،
وَأَغْصَانُهَا أَرْزَ اللهِ [10].
ما هذه الظلال التي غطت الجبال، والغصون التي غطت أرز الله إلا أن الأولى تشير إلى الناموس. الظلال التي قبلتها الجبال بفهمٍ روحيٍ خلال نعمة العهد الجديد، والأغصان هي النبوات التي أدركتها الكنيسة وتظللت بها.
تشير الجبال إلى رجال الإيمان في العهد الجديد، وأرز الله إلى القوات السماوية. فبمجيء حكمة الله المتجسد تكشفت حقائق الناموس الروحية والنبوات أمام المؤمنين والسمائيين.
* إن الكرام هو المعلم، وله في ذلك اختباراته الكثيرة في نقل الكروم "كرمة من مصر نقلت. طردت أمما وغرستها" (مز 8:80) "غطى الجبال ظلها وأغصانها أرز الله" (مز 80: 10). أنشدت العروس بهذه الكلمات لتظهر حبها العريس واستعدادها للقاء العريس في مجيئه... والعريس كامن دائمًا في أعماق قلبها... بين ثدييها يبيت (نش 1: 13).
العلامة أوريجينوس
مَدَّتْ قُضْبَانَهَا إِلَى الْبَحْرِ،
وَإِلَى النَّهْرِ فُرُوعَهَا [11].
انتشرت الكرازة إلى كل المسكونة، فغطت لا الجبال والأرز فحسب، بل وامتدت أغصانها إلى المحيطات والأنهار.
يقصد بالبحر هنا البحر الأبيض المتوسط، وبالنهر نهر الفرات (تك 15: 18؛ تث 11: 24؛ يش 1: 4؛ مز 72: 8).
فَلِمَاذَا هَدَمْتَ جُدْرَانَهَا،
فَيَقْطِفَهَا كُلُّ عَابِرِي الطَّرِيقِ؟ [12]
لقد فقد إسرائيل القديم جدرانه، فلم يعد يتمتع بالحضرة الإلهية والوعود الإلهية ولا الفهم الروحي، واستطاعت الشياطين أن تفسد ثماره، هذه التي صارت كعابري الطريق.
الله نفسه هو حصننا الذي يحمينا ويسيج حولنا. في شكوى الشيطان ضد أيوب قال: "أليس أنك سيجت حوله، وحول بيته، وحول كل ما له من كل ناحية. باركت أعمال يديه، فانتشرت مواشيه في الأرض" (أي 1: 10).
يُفْسِدُهَا الْخِنْزِيرُ مِنَ الْوَعْرِ،
وَيَرْعَاهَا وَحْشُ الْبَرِّيَّةِ! [13]
يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن خنزير الغاب وحمار الوحش هما نبوخذ نصر وأنتيخوس وأمثالهما وعلى الخصوص الشيطان الذين استحوذ عليهم.
يرى القديس أغسطينوس الخنزير القادم من الوعر يشير إلى الأممي الذي كان اليهود يحسبونه نجسًا كالخنزير، وهو قادم من الوعر أو من الغابة وليس من الكرمة (كنيسة اليهود).
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]4. اطلع علينا وتعهدنا[/FONT]

يَا إِلَهَ الْجُنُودِ ارْجِعَنَّ.
اطَّلِعْ مِنَ السَّمَاءِ وَانْظُرْ،
وَتَعَهَّدْ هَذِهِ الْكَرْمَةَ [14].
إن كان اليهود يئنون بسبب دخول الأمم الإيمان فإن المرتل من جانبه يرى دخولهم إلى الإيمان عطية إلهية، حيث يتطلع رب القوات من السماء ويتعهد هذه الكرمة الحقيقية.
تحتاج الكنيسة كما كل مؤمنٍ فيها إلى نظرات الرب، فهي تبعث قوة ورجاءً وفرحًا. نظراته في حقيقتها هي افتقاد إلهي ورعاية فائقة. نظرة الله تحمل فيها عملًا إلهيًا فعالًا.
* يسأل النبي الله أن يعيد نظره على هذه الكرمة، بكونه كرَّامًا وطبيبًا، فلأنها بشرية ومريضة محتاجة إلى نظر طبيب وتعهده لها. وإما لأنها شُبهت بالكرمة وفسدت فتحتاج إلى غرسها ليصلحها ويقطع ما هو خالٍ منها، ويُبقى على ما هو مثمر فيها، ويقتل الدود الذي هو بأرض جذورها، الذي هو الشيطان مفسدُ الإيمان.
الأب أنثيموس الأورشليمي
وَالْغَرْسَ الَّذِي غَرَسَتْهُ يَمِينُكَ،
وَالاِبْنَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِكَ [15].
جاء في الترجمات السبعينية والقبطية والفولجاتا والسريانية الخ. "وعلى ابن الإنسان" أي على المسيا المخلص.
إن كانت يمين الله تشير إلى الابن الكلمة، فإنه بتجسده وصلبه غرس الكرم الإلهي، أي الكنيسة. هذا وقد أختاره الآب بكونه موضع سروره، ومخلصًا ورأسًا للكنيسة "العرس الإلهي".
هِيَ مَحْرُوقَةٌ بِنَارٍ مَقْطُوعَةٌ.
مِنِ انْتِهَارِ وَجْهِكَ يَبِيدُونَ [16].
إذ يغرس الله الكنيسة بالمسيح يسوع، أي بيمينه، يحرق الشرور التي كانت للأمم ويبيدها بنار روحه القدوس. قبوله للأمم لا يعني تهاونه مع الخطية والفساد، فهو محب لكل البشر، ولا يطيق الخطية والشر! النار الإلهية تهب استنارة للتائبين الراجعين إليه، وتحرق الشرور والآثام. صار اليهود -الكرمة القديمة- محترقة كما بلهيب الغضب الإلهي، بعد أن أصروا على جحد الإيمان بالمسيا المخلص.
* أحرق نبوخذنصر هيكل هذه الكرمة، وجاء إلى مدينتها وأهلكها. كذلك الذين حاربوها من بعده وذلك بسبب غضبك. أما الرومان فبسبب غضب ابنك الذي يُقال عنه إنه وجهك وصورة أقنومك فصلبوه.
الأب أنثيموس الأورشليمي
لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَى رَجُلِ يَمِينِكَ،
وَعَلَى ابْنِ آدَمَ الَّذِي اخْتَرْتَهُ لِنَفْسِك [17].
يَرى كثير من الدارسين أن الحديث هنا عن السيد المسيح، ابن الإنسان، آدم الثاني. فقد أقامه الآب، وهو موضع سروره، والمختار مخلصًا للعالم.
فَلاَ نَرْتَدَّ عَنْكَ.
أَحْيِنَا فَنَدْعُوَ بِاسْمِكَ [18].
إذ جلس مسيحنا عن يمين الآب كبكر لنا، التهبت قلوبنا بالحب الإلهي والاشتياق للانطلاق إلى أحضان الإلهية، نتمتع بالحياة الأبدية، ونمجد اسمه القدوس. نجد بهجتنا في العبادة والتسبيح وانطلاق القلب إلى السماء.
* إننا يا رب قد بعدنا منك يا أيها الحياة الحقيقية، وبسبب بعدنا قد متنا بآثامنا، فالآن هب لنا حياتنا ولا نعود نبتعد عنك كالأول. ولا نُدعي باسم أي بشر أي يهودًا (من يهوذا)، ولا بأسماء سائر القبائل (الأسباط)، بل نُدعي باسمك أي مسيحيين.
الأب أنثيموس الأورشليمي
يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ أَرْجِعْنَا.
أَنِرْ بِوَجْهِكَ فَنَخْلُصَ [19].
* يعيد النبي القول تأكيدًا واستعجالًا لمجيء ابن الله ووجهه إلى العالم، ويشرق على البشرية ويتمم الخلاص للكافة.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* في عهد ربنا كان قد أشرق نور عظيم، ليقتل الظلمة التي أعمت العالم في موضعها.
أشرق ضياء الآب شعاعه على السفليين، ليُضاء بإشراقه الدرب الكئيب للسائرين عليه.
نزل شمس البرّ، ومشى على الأرض، فانهزمت الظلال الكثيفة من بهائه (مل 2: 4).
نشر أشعته على الجهات وأبهجها، فاستنارت المسكونة، التي كانت كئيبة قبل أن يشرق.
طرد الضلالة التي كانت منتشرة في جميع الشعوب، وأظهر للعالم سبيل الحياة ليسير عليها.
رش الشفاء على البشرية التي كانت مريضة، وانطفأت آلام المرضى العديدة.
صبّ شفاءه على المجروحين، وثبتهم، ونفخ في ضيقات الضعفاء وأطفأها.
وسكب موهبته ليثري العالم من معوناته، وفتح خزائنه، فنهب كل محتاجٍ واغتنى.
العميان يرون، والمشلولون يتعافون، والشياطين يُطردون، والمنحنون ينتصبون.
أعطى السمع للصم، والنور لمن هم بلا نور، وطهر البرص، وأعطى الغفران للخطاة.
نزل كالمطر على أرض اليهودية المريضة، ونبتوا من الأسرة كالجذور المريضة (هو 6: 3).
طرد الشياطين الذين تسلطوا على الإنسانية، وبروح فمه زجر الأذى من الكثيرين.
كان يشفي مجانًا، وهم ينكرون جميله ولا يغضب، ويضمد الجروح، ويشتمونه بأسئلتهم.
أبغضه الشعب بينما كان شفاؤه عزيزًا، وكان يلام بينما كانت معوناته عديدة.
الشعوب الغرل آمنوا به وبمعوناته، والشعب المختون تشكك من شفائه[22].
القديس مار يعقوب السروجي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 80

من ينير ظلمتي سواك؟!

* إلهي، تئن أعماقي في داخلي،
فقد سيطرت الظلمة عليّ.
بحبك طأطأت السماء ونزلت إليَّ، يا شمس البرّ.
حملتني على منكبيك،
وقبلتني عضوًا في جسدك.
أشرقت على الصليب على الجالسين في الظلمة.
بهاؤك حطم متاريس الهاوية.
حبك ملأ نفوسنا بالرجاء.
* صعدت إلى السماء، وأصعدت قلوبنا معك.
تُرى هل ننعم بالنور الإلهي ما لم تشرق أنت علينا.
هل يمكن للجسد أن يستريح ما لم يستقر معك، أيها الرأس العجيب؟
هل يمكن للكرمة أن تحمل ثمارًا بدون الكرّام؟
هل للقطيع أن يتحرك ما لم يتقدمه راعيه؟
هل للكنيسة وجود بدونك؟
يا جالسًا على الكاروبيم ثبتنا فيك.
لتقم من نفوسنا مركبة سماوية.
* لقد حجبت الغيمة صلواتنا إلى حين.
لتصغِ إليها يا راعي إسرائيل وقائد يوسف.
إنها لا تسألك شيئًا سوى أن تقتنيك.
لا تطلب منك توسلاتنا سوى أن نرجع إليك.
إلى متى؟ لتضئ بنورك علينا، فنستنير.
أنقذنا من عبودية رئيس قوات الظلمة،
كما أنقذت شعبك من عبودية فرعون.
لتغرسنا في جنبك المطعون،
فتلتهب أحشاؤنا بنار حبك.
* حوطنا بروحك القدوس كسياجٍ ناريٍ.
فلا يقتحمنا خنزير الوعر،
ولا يرعى فينا وحش البرية.
أنت هو سور خلاصنا وملجأ نفوسنا.
أنت حياتنا وبهجتنا ومجدنا.
لتكن يدك معي فأصرخ مع يعبيص:
"ليتك تباركني، وتوسع تخومي،
وتكون يدك معي،
وتحفظني من الشر، حتى لا يتبعني" (1 أي 4: 14).

  رد مع اقتباس
قديم 18 - 02 - 2014, 03:41 PM   رقم المشاركة : ( 83 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 81 - تفسير سفر المزامير
أعياد مبهجة

لاحظ كثير من آباء الكنيسة الأولين أن ثلاثة مزامير جاءت بالعنوان "لأجل المعاصر" (في الترجمة السبعينية)، وأنها تقابل الأعياد اليهودية الكبرى "الفصح، والخمسين، والمظال". فالمعاصر تقدم خمرًا يشير إلى الفرح الروحي. هذا وقد دُعيت الكنائس "معاصر"، لأنها تشارك مسيحها صلبه، هذا الذي اجتاز المعصرة وحده. وكأن الكنيسة في حقيقتها شركة صلب مع المسيح، وهي حياة متهللة، وعيد لا ينقطع! أما المزامير الثلاثة فهي مز 8، 81 (80)، 84 (83).
المزمور الذي بين يدينا هو دعوة للتمتع بعيدٍ حقيقيٍ لا ينقطع، بالمسيح يسوع فصحنا، وينبوع فرحنا السماوي.
1. دعوة للتسبيح
1-3.
2. دعوة للتحرر
4-7.
3. إله مُشبع
8-10.
4. سحق الذات
11-12.
5. الله واهب النصرة
13-15.
6. الله واهب الشبع
16.
من وحي مز 81
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى الْجَتِّيَّةِ. لآسَافَ.
جاء في الترجمة السبعينية: "في التمام، لأجل المعاصر".
سبق أن رأينا في عناوين الكثير من المزامير "في التمام" أو "في النهاية". هذه النهاية أو هذه الغاية هي "المسيح غايتنا"، فيه نتمتع بروح التسبيح والفرح."لأجل المعاصر"، أي لأجل كنيسة المسيح المصلوب، حيث نُكرَّم بمشاركتنا له صلبه، نتألم معه فنتمجد معه.
* إذ توجد ثلاثة احتفالات مقدسة: الفصح والبنطقستي والمظال، لذلك وُجد أيضًا ثلاثة مزامير تحمل العنوان "لأجل المعاصر"... لا توجد معاصر، حيث لا توجد كرمة، وفيض من محصول العنب... يقول الرب المخلص: "قد دست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3). هذا هو السبب الذي لأجله أحضر كرمة من مصر ونقلها (مز 80: 9). يقول إرميا: "أنا قد غرستكِ كرمة سورق، زرع حق كلها. فكيف تحولتِ لي سروغ جفنة غريبة؟" (إر 2: 21)[1].
القديس جيروم
* تُقال "المعاصر" عن كنائس الله التي في العالم قاطبة. ويخبر هذا المزمور عن رفض جماعة اليهود، وإيمان شعوب الأمم بالله مثل عناقيد العنب[2].
أنسيمُس أسقف أورشليم
كثيرًا ما دعا القديس أغسطينوس الكنائس معاصر، سواء معاصر عنب أو معاصر زيتون. خلالها كان يُداس على العنب أو الزيتون بالأقدام أو يُسحق بين الأحجار، بدون هذا العصر والسحق لا ننعم بالخمر (الروحي) والزيت (المقدس). العصر هو عطية لبنيان المؤمنين، وفضيحة للأشرار.
* لتأخذ المعاصر أنها سرّ الكنيسة العاملة الآن. نلاحظ في المعاصر ثلاثة أمور: الضغط، ومنه يصدر شيئان: واحد يُستخرج والآخر يُطرح. في موضع المعاصر نجد الدوس (السحق) والعصر والثقل، وبهذه الأمور ينزع الزيت سريًا ويوضع في الأجران، أما الرواسب فتُلقى في الشوارع[3].
القديس أغسطينوس
يرى آدم كلارك أن هذا المزمور كان يُسبح به في عيد الأبواق (لا 23: 24)، في اليوم الأول من شهر تشري، بدء السنة اليهودية. ويرى البعض أنه كان يستخدم أيضًا في عيد المظال وأعياد الشهر الجديد، والاحتفال بخلقة العالم، وخلاص إسرائيل من عبودية فرعون. يرى آخرون أنه كان يستخدم في كل مناسبة مفرحة.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. دعوة للتسبيح

رَنِّمُوا لله قُوَّتِنَا.
اهْتِفُوا لإِلَهِ يَعْقُوبَ [1].
إن كان الله يريد أن تتحول رحلتنا في الحياة مع ما فيها من مشقات إلى عيدٍ لا ينقطع. فإن سرّ فرحنا يكمن في أمرين رئيسين هما: التمتع بالله قوتنا، وممارسة عربون الحياة السماوية. فمن جهة الله قيل: "رنموا لله قوتنا"، ليس من يبهج مثل الله بكونه هو قوتنا وسندنا وفرحنا. ومن جهة عربون الحياة السماوية قيل: "اهتفوا لإله يعقوب". وقد جاء الفعل: "اهتفوا" في مواضع أخرى بمعنى اصرخوا، اصرخوا عاليًا، اصرخوا بفرحٍ، اهتفوا بصرخة النصرة. هذا الفعل كثيرًا ما يُستخدم للتعبير عن عبادة الملائكة مشتركين مع الخليقة بالبهجة. يرى البعض أن الهتاف هنا يشير إلى عجز اللغات البشرية عن التعبير، فتهتف القلوب معًا من الأعماق وبروح الوحدة.
هكذا يدعونا المرتل للتسبيح الجماعي بروح النصرة والشركة مع السمائيين لإله يعقوب، هذا الذي اختبر قوة الله في علاقته مع عيسو العنيف، كيف أعطاه نعمة في عينيه، ولم يؤذه. إن كان "يعقوب" يشير إلى حياة الجهاد، إذ جاهد مع الله والناس وغلب، فإننا مدعوون للتسبيح وسط جهادنا الذي لا ينقطع. إننا أولاد إله يعقوب المجاهد!
* ابتهجوا لله معيننا" آخرون يبتهجون لإلههم الذي هو بطونهم...
ذاك الذي بفيض الأفراح لا يجد كلامًا كافيًا، يلجأ إلى الهتاف: "اهتفوا لإله يعقوب" [1][4].
القديس أغسطينوس
* يحث النبي الشعوب التي سلمت من أذية الأعداء أن تفرح فرحًا روحيًا، وتسبح تسبحة الشكر لذاك الذي يعضدها ويخلصها. وأيضًا يدعو الأمم أن تشكر الله الذي أعانها وخلصها من اقتدار الشيطان.
أنسيمُس أسقف أورشليم
* لنهتف لله في النصرة، فلا ننسبها لأنفسنا، بل ندرك أنها نصرة الرب[5].
القديس جيروم
ارْفَعُوا نَغْمَةً،
وَهَاتُوا دُفًّا، عُودًا حُلْوًا مَعَ رَبَابٍ [2].
جاءت الترجمة السبعينية: "خذوا مزمورًا واضربوا دفًا وكنارة مطربة مع قيثار".
إن سألنا المرتل: كيف نسبح الرب ونتهلل بإله يعقوب؟ يجيب: أقدم لكم المزمور أو تعليم الرب وكلمته، وأنتم تعزفونه بآلاتكم، أي تقديس أجسادكم ونفوسكم وأرواحكم وعواطفكم وكل أحاسيسكم. أي يتحول الإنسان بكليته إلى مجموعة آلات موسيقية تعمل معًا، وتقدم سيمفونية حب لله.
قيل: "وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب، وكان داود متنطقًا بأفود من كتان" (2 صم 6: 14).
* أعني خذوا مني أنا داود (المزمور) الذي وضعته بالهام الروح القدس، واعزفوه على نظم آلات الطرب، ورتلوه بالدفوف والمزمار والقيثارة. أي خذوا التعليم الإلهي، واجعلوا ذواتكم مثل الدف الذي هو من جلود مميتة، أي تميتون شهواتكم الذميمة بتقديم أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدسة مرضية لله.
صيروا قوات نفوسكم وأعضاء أجسادكم متفقة ومتناغمة في تسبحة الله، مثل مزمار وقيثارة.
الأب أنسيمُس أسقف أورشليم
* "زمرنا لكم فلم ترقصوا" (لو 31:7-35). تغنى الأنبياء بأغانٍ روحيةٍ ارتفعت إلى الكرازة بالخلاص العام، وأيضًا بكى الأنبياء لكي يميلوا بمراثيهم الحزينة قلوب اليهود المتحجرة.
يعلمنا الكتاب أن نرتل للرب (مز 8:46)، وأن نرقص في حكمة كقول الرب لحزقيال أن يضرب بيده ويخبط برجليه (حز 11:6). الله لا يطالب بحركات مضحكة يقوم بها جسم ثائر، ولا يطلب تصفيق النساء... إنما يوجد الرقص الوقور، حيث ترقص الروح بارتفاع الجسد بالأعمال الصالحة، عندما نعلق قيثاراتنا على الصفصاف.
يأمر الرب أن يضرب باليد والرجل وأن يغني، لأنه كان يرى عرس العريس الذي فيه تكون الكنيسة هي العروس، والمسيح هو الحبيب. إنه عرس رائع فيه تتحد الروح بالكلمة، والجسد بالروح...
هذا هو العرس الذي حاول داود النبي أن يحققه، وله قد دُعينا... إنه يحثنا لنسرع نحو هذا المشهد المفرح: "ارفعوا نغمةً، وهاتوا دفًّا وعودًا حلوًا مع رباب" (مز 2:80-3).
ألا تتخيل النبي راقصًا...؟! ألا تسمع صوت ضاربي قيثارة (الرباب) ودقات أرجل الراقصين؟!
إنه العرس! لتأخذ أنت أيضًا قيثارة حتى إذا ما تمتعت بلمسة الروح، تستجيب أوتارك الداخلية مع صدى الأعمال الصالحة. لتمسك بالعود، فيتحقق الانسجام بين كلماتك وأعمالك، وخذ الدّف، فيهبك الروح أن تترنم خلال آلة جسدك من الداخل[6].
القديس أمبروسيوس

انْفُخُوا فِي رَأْسِ الشَّهْرِ بِالْبُوقِ،
عِنْدَ الْهِلاَلِ لِيَوْمِ عِيدِنَا [3].
كانت الأبواق تُضرب في رأس كل شهر. كان اليهود عادة يرسلون بعض الأشخاص على قمة تلٍ أو جبلٍ مع بدء القمر الجديد، وعند ظهوره مباشرة يضربون بالبوق، ويعلق رئيس المجمع (السنهدرين) أن ذلك يتفق مع الحسابات الفلكية، صارخا "ميقديش" Mikkodesh، أي "مُقدس"، ويصرخ الشعب ناطقين ذات الكلمة مرتين، وعندئذ تُضرب الأبواق في كل مكان!
يقول يوسابيوس أسقف قيصرية أنه قد بطلت هذه العادة، بعد الكرازة بالإنجيل المقدس كبوقٍ تسمعه الأرض كلها، في عيدٍ مشهورٍ.
* "انفخوا بالبوق" ، هذه هي الكرازة بصوتٍ عالٍ وجراءة. لا تخف! كما يقول النبي في موضع آخر: "اصرخ، ارفع صوتك كبوقٍ" (راجع إش 58: 1)...
"رأس الشهر" هو القمر الجديد، والقمر الجديد هو الحياة الجديدة.
ما هو القمر الجديد؟ إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة" (2 كو 5: 17). ما هو النفخ بالبوق في بدء الشهر؟ اكرزوا بكل ثقةٍ بالحياة الجديدة، ولا تخافوا من إزعاج الحياة العتيقة[7].
القديس أغسطينوس
* قال القديس أثناسيوس: أمر الله إسرائيل القديم أن يبوقوا بأبواق حسية، شهادة لعتقهم من عبودية مصر، وهكذا أمر إسرائيل الجديد (المسيحيين) أن ينذروا بالبوق الروحي الذي هو الإنجيل المقدس في رؤوس الشهور، أي عند تجديد عقولهم بالمسيح الإله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* قديمًا دعا الرب بواسطة موسى.. إلى حفظ أعياد اللاويين في المواسم المقررة قائلًا: "ثلاث مرات تعيد لي في السنة" (خر 14:23). الثلاثة أعياد هي: عيد الفصح أو الفطير، عيد الخمسين أو الأسابيع أو الحصاد، عيد المظال أو الجمع. وكانت أبواق الكهنة تهتف حاثة على حفظ العيد، كأمر المرتل الطوباوي القائل: "انفخوا في رأس الشهر بالبوق عند الهلال ليوم عيدنا" (مز 3:81).
وكما كتب، كانت الأبواق تدعوهم أحيانًا إلى الأعياد، وتارة إلى الصوم، وثالثة إلى الحرب، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة أو جزافًا، إنما كان الهتاف يتم لكي يتسنى لكل واحدٍ أن يحضر إلى الأمر المُعلن عنه.
هذه الأمور التي أتحدث عنها ليست من عندي، بل جاءت في الكتب المقدسة الإلهية، إذ كما جاء في سفر العدد، عندما ظهر الله لموسى كلمه، قائلًا: "اصنع لك بوقين من فضة، مسحولين تعملهما، فيكونان لك لمناداة الجماعة" (عد 1:10-2). وهذا يطابق دعوة الرب الآن للذين يحبونه ههنا..
إنهم لم يكونوا يهتفون بالأبواق في وقت الحروب فحسب (عد 9:10)، لكن كانت هناك أبواق يهتفون بها في الأعياد أيضًا كما جاء في الناموس.. إذ يقول: "في يوم فرحكم وفي أعيادكم ورؤوس شهوركم تضربون بالأبواق" (عد 10:10).
ومتى سمع أحدكم الناموس يوصي باحترام الأبواق، لا يظن أنه أمر تافه أو قليل الأهمية، إنما هو أمر عجيب ومخيف!
فالأبواق تبعث في الإنسان اليقظة والرهبة أكثر من أي صوت آخر أو آلة أخرى. وكانت هذه الطريقة مُستخدمة لتعليمهم إذ كانوا لازالوا أطفالًا..
ولئلا تؤخذ هذه الإعلانات على أنها مجرد إعلانات بشرية، فقد كانت أصواتها تشبه تلك الني حدثت على الجبل (خر 16:19) حينما ارتعدوا هناك، ومن ثم أعطيت لهم الشريعة ليحفظوها[8].
البابا الأنبا أثناسيوس الرسولي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. دعوة للتحرر

لأَنَّ هَذَا فَرِيضَةٌ لإِسْرَائِيلَ،
حُكْمٌ لإِلَهِ يَعْقُوبَ [4].
يلتزم أبناء إسرائيل الجديد، أي المسيحيون، أن يحتفلوا دومًا لا بظهور القمر، وإنما بظهور شمس البّر مفرح القلوب. نشهد على الدوام بعمله فينا، إذ يحول كل كياننا للتسبيح ببهجة قلب، وتصير حياتنا بوقًا روحيًا يدوي في كل الأرض!
جَعَلَهُ شَهَادَةً فِي يُوسُفَ،
عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ.
سَمِعْتُ لِسَانًا لَمْ أَعْرِفْهُ [5].
قبلًا دعا شعبه يعقوب أو إسرائيل، حيث كان يلتزم الشعب بالجهاد بروح الفرح والتسبيح، الآن إذ يتحدث عن شعبه في مصر فدعاه "يوسف"، إذ نزل الكل إلى مصر بسبب يوسف.
* كما أن يوسف عند نزوله إلى مصر سمع لغة ما كان قد سمعها من قبل، وهي لغة المصريين، هكذا الإسرائيليون عندما خرجوا من مصر، ومضوا إلى البرية، سمعوا وصايا الله التي ما كانوا قد سمعوها من قبل.
الأب أنسيمُس أسقف أورشليم
* عندما خرجنا من أرض مصر، سمعنا نحن أيضًا لغة غير معروفة لدينا. من منا عرف الإنجيل؟ من عرف الرسل؟ من عرف الأنبياء؟ لقد خرجنا من مصر، وسمعنا حديثًا غير مألوف، وتعلمنا لغة لم نعرفها قط من قبل[9].
القديس جيروم
* يوسف، بإيمانه جُرب في مياه النضال، وخلص من تجربته، وأقام الرب معه عهدًا، إذ قال داود: "جعله شهادة في يوسف" (مز 81: 5).
موسى أيضًا بإيمانه تمم أعمالًا قوية عجيبة. بإيمانه أهلك المصريين بعشر ضربات. وبالإيمان شق البحر، وعبر بشعبه، بينما غرق المصريون في وسطه. بالإيمان طرح خشبة في المياه المرة، فصارت حلوة. بالإيمان أنزل منًا أشبع شعبه. بالإيمان بسط يديه وهزم عماليق، كما كُتب: "كانت يداه ثابتتين في إيمان إلى غروب الشمس" (خر 17: 12 ترجمة بشيتو السريانية Pechito). أيضًا بالإيمان صعد إلى جبل سيناء، عندما صام مرتين أربعين يومًا. أيضًا بإيمان هزم سيحون وعوج ملكي الأموريين[10].
القديس أفراهاط الحكيم الفارسي
إذ تترجم كلمة "يوسف" بمعنى الزيادة، يرى القديس أغسطينوس في بيع يوسف لفوطيفار المصري، وما صار إليه فيما بعد في قصر فرعون بعد تجارب ومتاعب كثيرة، وزواجه بمصرية، صورة حيَّة للسيد المسيح الذي لم تقبله خاصته وسلمته للأمم ليُصلب، فاجتذب إليه الأمم كرعية له، إنه يقول: "ولي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، وتكون رعية واحدة لراعٍ واحدٍ" (يو 10: 16). هكذا حدثت الزيادة بدخول الأمم إلى الإيمان بالمسيح. وإذ خرجت عظام يوسف من مصر (تك50: 25) هكذا تخرج الكنيسة من محبة العالم إلى المسكن السماوي! هذه هي شهادة يوسف عند خروجه من مصر (مز 81: 5).
* "جعله شهادة في يوسف". انظروا يا إخوة ما هذا؟ "يوسف" تترجم "زيادة". إنكم تتذكرون وتعرفون أن يوسف بيع في مصر. يوسف الذي بيع في مصر هو المسيح الذي عبر إلى الأمم. هناك تمجد يوسف بعد التجارب، وهنا تمجد المسيح بعد الآم الشهداء. منذ ذلك الحين نُسبت الأمم ليوسف، حدثت زيادة. "لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل" (إش 54: 1). لقد فعل هذا، ولكن كان يلزمه أن يخرج من أرض مصر[11].
القديس أغسطينوس
أَبْعَدْتُ مِنَ الْحِمْلِ كَتِفَهُ.
يَدَاهُ تَحَوَّلَتَا عَنِ السَّلِّ [6].
تحت نير العبودية كان يلتزم الإسرائيليون أن يحملوا على أكتافهم ما فوق طاقتهم، ويملأوا السلال بالطين أو اللبن (الطوب)، ويحملوها بأياديهم. هكذا تحت نير العبودية نحمل على أكتافنا أثقالًا مرة، وندنس أيادينا بالوحل والفساد.
* عندما كان الإسرائيليون في مصر كابدوا مشقات كثيرة، من جملتها أنهم كانوا يحملون على ظهورهم أحمالًا ثقيلة، ويجرفون الطين في السلال. فمن شدة وجعهم صرخوا إلى الله بزفيرٍ وأنينٍ، وقد شفق عليهم وخلصهم، وأبعد من الأحمال ظهورهم، وتوقف تعب خدمتهم بالسلال. هكذا نجانا ربنا له المجد من أحمال خطايانا، ومن أتعاب اللبن والطين والطوب، أي من الاشتغال بالأعمال الفاسدة.
الأب أنسيمُس أسقف أورشليم
يرى القديس جيروم أن الله حرر أيدي إسرائيل القديم من حمل السلال التي تمتلئ بالتراب والوحل لعمل اللبن (الطوب)، أما بالنسبة لإسرائيل الجديد (الكنيسة) فيهبها أن تمتلئ سلالها بالكسر التي تبقى من الخبز بعد أن باركه أشبع الجموع! إنها في أشخاص الاثني عشر تلميذًا تحمل سلال فيض البركة الإلهية لجموع المؤمنين.
* حين كنا في مصر، في عمل العبودية بنينا مدن فرعون؛ حملنا الطين والطوب، وانهمكنا في البحث عن التبن. لم يكن لنا حنطة؛ لم يكن لنا الخبز الإلهي النازل من السماء. ولم يُعط لنا المن السماوي، ولا كان لنا الحية النحاسية تُرفع على عمودٍ لأجلنا، ولا كانت لنا الصخرة التي تفيض بمياهها، ولا كنا نبسط أيادينا، فيخسر عماليق المعركة. كنا نجلس في الوحل، وكنا عبيدًا لمصر، ونبني مدن فرعون.
"أبعد من الحمل كتفه" [6]. ولهذا يقول لنا موسى الذي لنا: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين بالخطايا، وأنا أريحكم" (راجع مت 11: 28). "يداه استعبدتا في سّل" (راجع مز 81: 6)[12].
القديس جيروم
* دعنا نذكر جميع القديسين منذ البدء، ونرى ما تحمّلوه، فبينما كانوا يفعلون الصلاح، ويتكلمون بالصلاح، ويثبتون في كل حقٍّ، كانوا يُحتقَرون ويُبتلون من الناس حتى نهاية حياتهم، وكانوا يصلُّون لأجل أعدائهم والذين يُسيئون إليهم حسب قول المخلِّص (لو 6: 28؛ مت 5: 44). هل باعوك مثل يوسف الصدِّيق (تك 37)؟ وهل "يداك استُعبِدتا لعمل السلال" (مز 81: 6 السبعينية)؟ وهل هبطت في حفرتين؟[13] أم أنه أُسيئت معاملتك مثل موسى النبي منذ طفولته حتى شيخوخته (عب 11: 25)؟ ما الذي تحمّلته أيها الكسلان؟ أو مثل داود الذي كان شاول يتتبّعه ويحسده، بل وحتى ابنه ذاته تتبعه إلى الموت، ومع ذلك فقد ناح عليهما عندما ماتا (2 صم 1: 11-27؛ 18: 33)؟! أو هل أُلقيتَ في البحر مثل يونان (يون 1: 15)؟
القديس برصنوفيوس
فِي الضِّيقِ دَعَوْتَ فَنَجَّيْتُكَ.
اسْتَجَبْتُكَ فِي سِتْرِ الرَّعْدِ.
جَرَّبْتُكَ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ. سِلاَهْ [7].
في وسط الضيق صرخ الشعب إلى الرب، وكما قيل: "إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر، وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم. إني علمت أوجاعهم. فنزلت لأنقذهم" (خر 3: 7-8).
يقول: "استجبتك في ستر الرعد" [7]. ما هو ستر الرعد؟ يرى البعض أنه يشير هنا إلى ظهور الله خلال السحاب، ليعلن رحمته لشعبه، ويُرعد أعداءهم. وقد اعتاد موسى أن يسمع الصوت الإلهي خلال السحاب. يرى آخرون أنه يشير هنا إلى طريقة تعامل الله مع شعبه ومؤمنيه، حيث يتحدث معهم كما بطريقة سرية تحمل نوعًا من المخافة الربانية.
لكن للأسف مع حنو الله الفائق، وتدخله للخلاص، أظهر الشعب جحوده عند مياه مريبة (خر17: 7؛ عد 20: 7: 13).
* حينما تكون في ضيقة لا تضطرب. ادعني وأنا برحمتي أسمع لك في حنوٍ. "استجبتك بطريقة غير منظورة في الرعد". كنت في وسط العاصفة؛ العاصفة التي كانت تحطمك وتقذف بكم الأمواج هنا وهناك.
"جربتك على ماء مريبة (التمرد)". هذه العبارة تتحدث بدقة عن موسى وهرون اللذين عصيا الله عند مياه مريبة (عد 20: 7-13)، هذا هو السبب الذي لأجله لم يدخلا أرض الموعد. هذا أيضًا يُقال عنا، إذ يقول الله: "جربتك على ماء مريبة". جُرب سيمون (الساحر) في وسط مياه التمرد... لأنه قبل العماد بالرياء. لذلك كل واحدٍ غير مخلصٍ في قبوله المعمودية يحقق هذا على مياه النزاع والخلافات[14].
القديس جيروم
* لما دعوتني يا إسرائيل وقت شدتك استجبت لك ونجيتك، ولم أظهر لك عيانًا، بل بريحٍ عاصفٍ يبست البحر وأجزتك، وخلصتك من الضيقة كما من زوبعة عاصفة وأنا مخفي ولم تَرَني. وأما أنت فأظهرت عدم شكرك على إحساني حينما تقمقمت عند مياه مارة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. إله مُشبع

اسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأُحَذِّرَكَ.
يَا إِسْرَائِيلُ إِنْ سَمِعْتَ لِي [8].
* "اسمع يا شعبي فأحذرك" [8]. إنه يتحدث ليس إلى شعبٍ غريبٍ، بل شعب ينتمي إليه، يقول: "احكموا بيني وبين كرمي" (إش5: 3)[15].
القديس أغسطينوس
لاَ يَكُنْ فِيكَ إِلَهٌ غَرِيبٌ،
وَلاَ تَسْجُدْ لإِلَهٍ أَجْنَبِيٍّ [9].
إذ يميل الإنسان إلى الجحود، لذلك يحذر الله شعبه ألا يقبلوا عبادة وثنية بجانب عبادتهم له أو كبديلٍ عنه، ولا يتعبدون له.
* الإنسان الذي معدته إله له، يكون له إله غريب. لنا آلهة كثيرة غريبة، إذ لنا رذائل وخطايا. أنا أعطي مكانًا للغضب، بهذا يكون الغضب هو إلهي. الشيء الذي يشتهيه الإنسان ويتعبد له هو إلهه. البخيل إلهه هو الذهب[16].
القديس جيروم
* لقد رأى البشرية تعمل بطريقة شريرة ما هو مضاد للطبيعة، ممارسة رجاسات وأعمالٍ مميتة، حتى لا يليق بأحدٍ أن يشير إليها أو ينصت إليها... فإن لم يدرك الشخص ما قيمته، لا يُحصى فقط مع الحيوانات، بل تُحسب الحيوانات أفضل منه، إذ قيل: "الثور يعرف قانيه، والحمار معلف صاحبه" (إش 1: 3)[17].
الأنبا شنودة رئيس المتوحدين

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَصْعَدَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ.
أَفْغِرْ فَاكَ فَأَمْلأَهُ [10].
الله القادر أن يحرر من عبودية فرعون، لا يترك شعبه جائعًا أو محتاجًا، إنما يعطي كلما فتح المؤمن فمه بإيمان ويقين في الله مخلصه، وذلك كما تفتح صغار الطيور أفواهها أمام أمهاتها.
* افتح فاك بالشكر على إحساني، وأنا أزيدك منحًا ومواهب.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* أتريد أن تقبل طعامًا من الرب؟ أتريد أن تقتات بالرب نفسه، ربك ومخلصك؟ اسمع ما يقوله: "وسِّع فمك، وأنا أملأه". افتحوا أفواهكم بتوسع، إنه هو الرب والخبز أيضًا. إنه يحثنا أن نأكل، هو طعامنا. كلما اتسع فمك تنال أكثر، فإن هذا في سلطانك لا فيّ. إنها رغبتك، أن تنال كل ما تريده مني، فإن لم تنل الكل، فعلى الأقل تنال جزءًا[18].
القديس جيروم
* بك أبدأ، وبك أثق بأني بك أنتهي!
أنا أفتح فمي، وأنت تملأه (مز 10:81).
أنا لك أرض، وأنت هو الفلاح،
لتغرس فيَّ صوتك، يا غارس ذاته في رحم أمه![19]
القديس مار أفرام السرياني
* لم يقل الله: "افتح فمك وأنا أعلمك"، إنما وعد بالاثنين "أنا أفتح، وأنا أعلم" (راجع خر 4: 12). في موضع آخر يقول في مزمور: "أفغر فاك، وأنا أملأه" (مز 81: 10). هنا يعني أن الإرادة في الإنسان أن يتقبل ما يقدمه الله لمن يريد؛ بهذا فإن: "أفغر فاك" تعني إعلان الإرادة، "أنا أملأه" تشير إلى نعمة الله[20].
القديس أغسطينوس
* طوبى للذين يفتح الله أفواههم ليتكلموا! إنه يفتح أفواه الأنبياء ويملأها من بلاغته (خر ٤: ٢٢)...
بنفس المعنى يقول القديس بولس الرسول: "إنه يعطي لي كلامًا عند افتتاح فمي" (أف ٦: ٩).
إذن الله هو الذي يفتح فم الذين ينطقون بالكلمات الإلهية[21].
العلامة أوريجينوس

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. سحق الذات

فَلَمْ يَسْمَعْ شَعْبِي لِصَوْتِي،
وَإِسْرَائِيلُ لَمْ يَرْضَ بِي [11].
الله من جانبه يريد أن يشبع كل احتياجات شعبه، لكن المشكلة هي في انحراف قلب الشعب، وعدم رغبته في الله نفسه.
يرى القديس أغسطينوس في هذا الشعب الذي لم يسمع لصوت إلهه الرواسب التي طُرحت من المعصرة بينما يُحفظ الزيت مقدسًا للرب.
* هذا القول ورد في إشعياء النبي أيضًا، وهو قوله: ثقلوا آذانهم لئلا يسمعوا، وغمضوا عيونهم لئلا يبصروا، لأنهم سمعوا تعاليم ربنا، ولم يذعنوا لها. ونظروا عجائبه، ولم يؤمنوا بها.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
فَسَلَّمْتُهُمْ إِلَى قَسَاوَةِ قُلُوبِهِمْ،
لِيَسْلُكُوا فِي مُؤَامَرَاتِ أَنْفُسِهِمْ [12].
يهب الله كل إنسان شهوة قلبه، فمن يطلبه يجده، ومن لا يريده يتركه لقسوة قلبه، وكأنه ينال ما يشتهيه. قيل: "يأكلون من ثمر طريقهم، ويشبعون من مؤامراتهم" (أم 1: 31). فإذ رفض اليهود السيد المسيح، وقالوا ليس لنا ملك إلا قيصر، قدم لهم السيد شهوة قلوبهم. فجاء تيطس الروماني من قبل قيصر واستولى على أورشليم، وهدم الهيكل.
* يليق بنا أن نقول بإيمان مستقيم إنه لا يحدث شيء في هذا العالم بدون سماح الله. وعلينا أن نعرف أن كل شيءِ يحدث إما بإرادته أو بسماح منه، فكل ما هو خيّر يحدث بإرادة الله وعنايته، وكل ما هو ضدّ ذلك يحدث بسماح منه، متى نزعت حماية الله عنا بسبب خطايانا أو قسوة قلوبنا، أو سماحنا للشيطان أو الأهواء الجسدية المخجلة أن تتسلط علينا. يعلمنا الرسول بذلك مؤكدًا: "لذلك أسلمهم الله إلى أهواءِ الهوان" (رو 26:1). وأيضًا: "كما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم، أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض ليفعلوا ما لا يليق" (رو 28:1). ويقول الله بالنبي: "فلم يسمع شعبي لصوتي، وإسرائيل لم يرضَ بي. فسلمتهم إلى قساوة قلوبهم. ليسلكوا في مؤَامرات أنفسهم" (مز 11:81-12)[22].
الأب بفنوتيوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
5. الله واهب النصرة

لَوْ سَمِعَ لِي شَعْبِي،
وَسَلَكَ إِسْرَائِيلُ فِي طُرُقِي [13].
إن كان الإنسان يطلب شهوات جسده الشريرة ويرفض الخضوع لله، ففي معصرة التجارب لا يصير خمرًا روحيًا مفرحًا ولا زيتا مقدسًا، بل رواسب ليس لها موضع سوى المزبلة. ومع هذا إن رجع إلى الرب مخلصه، فهو قادر أن يقيمه من المزبلة، ويجعله مقدسًا، ومملوءًا بفرح الروح! يحمل رائحة المسيح الزكية عوض رائحة الموت والفساد!
سَرِيعًا كُنْتُ أُخْضِعُ أَعْدَاءَهُمْ،
وَعَلَى مُضَايِقِيهِمْ كُنْتُ أَرُدُّ يَدِي [14].
يقدس الله حرية الإرادة فيترك الأمر في يد الإنسان، يختار لنفسه طريق هلاكه أو يخضع لله، فيهلك أعداءه، كما سبق فأهلك فرعون وجنوده.
* سلمتكم لإرادتكم الحرة، ووضعت أمامكم طريق السباق، فإنني أهب الإكليل فقط لمن يغلب. إنني أترك النصرة لمجهودكم (بنعمة الله)[23].
القديس جيروم
مُبْغِضُو الرَّبِّ يَتَذَلَّلُونَ لَهُ،
وَيَكُونُ وَقْتُهُمْ إِلَى الدَّهْرِ [15].
يظن مبغضو الرب أنهم قادرون على إبادة شعبه، لكن يسقط هؤلاء الأشرار في ذلٍ أبديٍ، ويبقى أولاد الله في المجد أبديًا.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
6. الله واهب الشبع

وَكَانَ أَطْعَمَهُ مِنْ شَحْمِ الْحِنْطَةِ،
وَمِنَ الصَّخْرَةِ كُنْتُ أُشْبِعُكَ عَسَلًا [16].
يختم المرتل المزمور بهذه العبارة، حيث يهب الله شعبه شبعًا ودسمًا وعذوبة. إنه يخرج من الصخرة ماءً، لكنه يصير في فم المؤمنين عسلًا شهيًا.
تكلم القديس يوحنا الذهبي الفم بإطالة مقارنًا بين طعام الغني وطعام الفقير، مظهرًا، الأمراض الفسيولوچية التي يخضع لها كثير من الأغنياء بسبب الشرّه في الأكل، كما تحدث عن الاستعباد لشهوة الأكل والشرب. وأخيرًا قارن بين السعادة التي يشعر بها الغني والفقير أثناء الأكل، مؤكدًا أن اللذة لا تتوقف على نوع الطعام، بل على اشتياق الإنسان واحتياجه للطعام. وقد علق على قول الرب بلسان النبي: "من الصخرة كنت أشبعك عسلًا" (مز 81: 16). قائلًا بأن الله لم يخرج لهم عسلًا بل ماء، لكن في إرهاقهم وتعبهم وجهادهم في السير صار الماء عسلًا في أفواههم. هذا بالنسبة لمائدة الفقير. أما مائدة الغني فلا يشعر الآكلون منها بالسعادة، حتى ما هو حلو فيها يصير بالنسبة لهم مرًا (راجع أم 27: 7)[24].
* شحم الحنطة هو ربنا يسوع المسيح، لأنه غذاء عقلي تقتات به النفوس. وهو أيضًا الصخرة، أما المياه المتفجرة منه فهي تعاليمه الإلهية.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* أراد النبي أن يظهر فيض النعمة الإلهية وغناها، لهذا دعاها شحمًا... إنه الحنطة، وهو أيضًا الصخرة (1 كو 10: 4) الذي روى عطش الإسرائيليين في البرية. إنه أشبع عطشهم الروحي بالعسل لا بالماء، حتى أن الذين آمنوا وقبلوا الطعام ذاقوا عسلًا في أفواههم. "ما أحلى وعودك لحنكي، أحلى من العسل لفمي" (راجع مز 119: 103). أخيرًا هذا هو السبب أن ربنا أكل شهدًا بعد القيامة، وشبع بالعسل من الصخرة. أريد أن أخبرك عن أمرٍ جديد. الصخرة نفسه أكل عسلًا، لكي يعطينا عسلًا وحلاوة، حتى أن الذين شربوا المرّ في الناموس أو المرارة يأكلون بعد ذلك عسل الإنجيل[25].
القديس جيروم
* في البرية جلب لهم ماءً من الصخرة (خر 17: 6)، وليس عسلًا. "العسل" هو الحكمة، تقدم أول موضع للحلاوة بين أطعمة القلب. كم من أعداء للرب، إذ رجعوا إليه لم يأكلوا فقط من شحم الحنطة، بل ومن عسل الصخرة، من حكمة المسيح؟ كم تمتعوا ببهجة كلمته ومعرفة أسراره، والتعرف على فهم أمثاله، فابتهجوا وصفقوا بصرخات (مفرحة)! لا يصدر هذا العسل من أي شخص، إنما من الصخرة، "وكانت الصخرة المسيح" (1 كو 10: 4). كم من كثيرين إذن قد شبعوا بهذا العسل وصرخوا، قائلين: إنه حلو! لا يمكن التفكير في شيء يمكن أن يكون أحلى منه، ولا النطق بذلك![26]
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 81

أنت عيدي الذي لا ينقطع!

* أتيت إلى أرضنا بحبك،
لتحول وادي البكاء إلى شبه فردوس مفرح.
تحول رحلتي في الحياة إلى عيدٍ لا ينقطع.
وسط الآلام أتغنى بحبك،
وأهتف مع كل مؤمنيك بروح البهجة والتهليل.
* كياني كله قد تحول إلى آلات موسيقية،
جسدي يموت عن الشهوات الرديئة،
فيصير دفًا، يدوي ببهجة برّك.
ونفسي تصير عودًا حلوًا، أوتاره لا تنحل.
كل عواطفي وحواسي تصير ربابًا.
الكل يعمل معًا مع البوق الإنجيلي المفرح.
اقبل سيمفونية حبي ذبيحة تسبيح لك!
* احسبني ابنا ليعقوب، أصارع وأغلب بنعمتك.
تقودني بنفسك من عبودية إبليس.
تهب كتفي راحة من ثقل أحمال خطيتي.
وتغسل يدي، فلا تمسكان بالطين والدنس.
أدعوك في ضيقي، فتنقذني.
تتراءى لي وسط السحاب، فأتمتع بلقائك!
* من يشغل فكري سواك.
أنت سرَّ حياتي وقيامتي.
أنت الخبز السماوي المُشبع لنفسي.
ليتسع فمي الداخلي، فتملأه بنعمتك!
* أنت شهوة قلبي،
أجد لذة في الخضوع لك.
أجد نصرة على إبليس عدو البشرية.
تهبني مجدًا أبديًا لا يقدر العدو أن يفسده!
* تقدم لي جسدك طعامًا دسمًا،
فلا أحتاج إلى طعام العالم.
تفيض لي مياهًا حية، يا أيها الصخرة!
أتذوقها فأجدها أشهى من العسل!
أنت شبعي، تقدم لي كل حلاوة وعذوبة!
  رد مع اقتباس
قديم 18 - 02 - 2014, 03:44 PM   رقم المشاركة : ( 84 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 82 - تفسير سفر المزامير
ديان الأرض وملكها

يسجل لنا هذا المزمور في عبارات مختصرة خطة الخلاص وغايتها، ويكشف عن حب الله الفائق للبشرية. فهو يفتح المشهد بصورة المخلص كديانٍ يجد مسرته في المؤمنين المقدسين به وله، فيقيم منهم مجمعًا مقدسًا يدعوه "مجمع الآلهة". فإن كان هو الله الخالق، فقد وهب مؤمنيه البنوة لله، بل ويقف في وسطهم كمن يعتز بهم.
أما خطة خلاصه للبشرية، فيلخصها في العبارات 2-4، حيث وهو الخالق والديان والقاضي لكل المسكونة، ينزل إلينا كفقيرٍ ومسكينٍ، ويسمح لنفسه أن يُحاكم، فتسلمه خاصته للأمم الذين يصلبونه. يقبل الظلم ولا يفتح فاه، لكي يرفع ثقل الخطية وأحكامها عنا.
وهو حكمة الله، يُسلم نفسه للجهال؛ وهو النور يحاكمه أبناء الظلمة. بهذا يزعزع أسس الأرض، ليصير هو الأساس الذي تُبنى عليه كنيسته ويُعلن ملكوته. يدين الأرض على فسادها، ليحطم الفساد ويهب الأمم برَّه. بهذا يملك على كل الأمم بعد أن يقيم من الأرضيين شبه سمائيين.
1. الديان ومجمع الآلهة
1.
2. تسليم نفسه للقضاء
2-4.
3. الظلمة تهاجم النور
5.
4. يقيم من الأموات شبه سمائيين
6-8.
من وحي مز 82
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. الديان ومجمع الآلهة

كثيرًا ما يعلن كلمة الله عن نفسه أنه الديان، لا ليرعب البشر، وإنما بالحق لأنه ينتظر أن يلتقي بهم، ليحملهم إلى الأمجاد الأبدية. إنه يود أن يعلن أنه قائم في مجمع الآلهة، في وسطهم يقضي.
اَللهُ قَائِمٌ فِي مَجْمَعِ اللهِ.
فِي وَسَطِ الآلِهَةِ يَقْضِي [1].
يرى البعض أن المزمور يتحدث عن الله بكونه قاضي القضاة وأيضًا الملوك والرؤساء. فإن كان قد سمح بقيام تنظيمات بشرية، وطلب الخضوع لها. فإنه من جانب هؤلاء القادة يلزمهم أن يدركوا أنهم خدام الله، وُضعوا لمساندة الضعفاء، والدفاع عن المظلومين، وتدبير أمور الشعب. يليق بهم أن يكونوا ممثِّلين له "في شفتيّ الملك وحي، في القضاء فمه لا يخون" (أم 16: 10).
إن كان الله يسمح بقيام قادة أشرار، فإنه إذ يقدس الإرادة الحرة، يسمح لهم أن يمارسوا عملهم بقسوة قلوبهم، لكنه هو ديان الجميع. قيل لهم: "اُنظروا ما أنتم فاعلون، لأنكم لا تقضون للإنسان بل للرب، وهو معكم في أمر القضاء، والآن لتكن هيبة الرب عليكم. احذروا وافعلوا، لأنه ليس عند الرب إلهنا ظلم ولا محاباة ولا ارتشاء" (2 أي 19: 6-7).
في عظة للقديس جيروم على هذا المزمور يستلفت نظره أن الكتاب المقدس يتحدث عن الله بعبارات بشرية، حتى ندرك معاملاته معنا. تارة يتحدث عنه واقفًا مع القديسين، إذ نسمع هنا: "الله قائم في مجمع الآلهة" (مز 82: 1). كما نسمعه يقول لموسى النبي: "وأما أنت فتقف هنا معي" (تث 5: 31). وحين كان آدم مقدسًا كان يقف كما مع الله.
وحينما نخطئ نراه ماشيًا، كما نظره آدم وحواء عندما سقطا في العصيان. إذ قيل: "وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا في الجنة... فاختبأ آدم وحواء من وجه الرب" (تك 3: 8). لقد تحرك ليقول له: "آدم، أين أنت؟" (تك3: 9).
أما عن جلوس الرب، فيظهر إما كديان أو ملك. يقول إشعياء: "رأيت السيد جالسًا على كرسي عالٍ ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل" (إش 6: 1). كما يقول دانيال النبي: "وكنت أرى أنه وُضعت عروش وجلس القديم الأيام... فجلس الدين وفُتحت الأسفار" (دا 7: 9-10). لقد رأى الديان الجالس على العرش. هكذا يراه البعض واقفًا، وآخرون ماشيًا، وآخرون جالسًا، بل وحين يسمح لنا بتجربة نراه كأنه نائم (مت 8: 24). "استيقظ، لماذا تتغافى يا رب؟" (مز 44: 23).
يرى القديس كيرلس الكبير[1]أن مجمع الآلهة هنا يشير إلى جماعة الفريسيين (لو ١١: ٤٢)، إذ هم طامعون شغوفون بالربح القبيح وفي نفس الوقت مدققين في ملاحظة شريعة العشور في حرفية، بالرغم من تجاهلهم للحق والعدالة ومحبة الله.
* يقف العلي في مجمع أبناء العلي الذين عنهم قال العلي نفسه بفم إشعياء: "ربيت بنين ونشَّأتهم؛ أما هم فعصوا عليّ" (إش1: 2). نفهم بالمجمع شعب إسرائيل، لأن كلمة "مجمع" كانت الكلمة المناسبة عنهم، وإن كانوا أيضًا دُعوا كنيسة.
لم يدع الرسل (الكنيسة) قط مجمعًا بل دائمًا كنيسة، إما لأجل التمييز، أو لأنه يوجد بعض الاختلاف بين كلمة المجمع التي منها أخِذ الاسم Synagogue والاجتماع الذي فيه دعيت الكنيسة "إكليسيا". فان المجمع هو اجتماع القطيع، وتسمى قطعان flocks، وأما الاجتماع فهو أكثر مناسبة للمخلوقات العاقلة مثل البشر... اعتقد أنه من الواضح أي مجمع للآلهة يقف فيه العلي[2].
القديس أغسطينوس
* يقول البعض لنرسم صورة للمسيح مع والدته الثيؤتوكس وهذا يكفي...
كلماتكم عديمة التقوى تثبت أنّكم تحتقرون القدّيسين تمامًا. من الواضح إنّكم لا تحرمون الصور، ولكنكم ترفضون تكريم القدّيسين.
تصنعون صور للمسيح لأنّه هو الممجّد، ومع ذلك تحرمون القدّيسين من المجد المستحق لهم، وتدعون الحقيقة نفاقًا. يقول الرب: "أمجّد الذين يمجّدونني". يوحي الله للرسول بالكتابة: "إذًا ليس بعد عبدًا بل ابنًا، وإن كنت ابنًا فوارث لله بالمسيح" (غل 4: 7) وأيضًا: "فإن كنّا أولادًا، فإنّنا ورثة أيضًا، ورثة الله، ووارثون مع المسيح. إن كنّا نتألّم معه، لكي نتمجّد أيضًا معه". إنّكم لا تشنّون الحرب ضد الصور، ولكن ضد القدّيسين أنفسهم.
القدّيس يوحنا اللاهوتي، الذي اتكأ على صدر يسوع، قال: "لأنّه إذا أُظهر نكون مثله" (1 يو 3: 2). كما أن أيّ شيء متصل بالنار يصبح نارًا، ليس من طبيعته ولكن بالاتّحاد، والحرق، والاختلاط مع النار، كذلك أيضًا بالجسد الذي أخذه ابن الله. بالاتّحاد مع أقنومه، اشترك الجسد في الطبيعة الإلهيّة (دون أن يفقد الناسوت سماته) وبهذا الاتصال أصبح الله غير متغير، ليس فقط بعمل النعمة الإلهيّة، كما هو الحال في حالة الأنبياء، ولكن أيضًا بمجيء النعمة نفسه. الكتاب المقدّس يسمي القدّيسين آلهة، عندما يقول: "الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي" (مز 82: 1).
يفسّر القدّيس غريغوريوس هذه الكلمات على أنّها: الله قائم في مجمع القدّيسين يحدّد المجد المستحق لكليهما. كان القدّيسون خلال حياتهم الأرضيّة مملوءين من الروح القدس، وعندما تم مسارهم، لم يترك الروح القدس أنفسهم ولا أجسادهم في القبر[3].
* أول شيء، الأماكن التي أرتاح فيها الله القدوّس وحده في أماكن مقدّسة: وهي الثيؤتوكس والقدّيسون. هؤلاء الذين أصبحوا مثل الله بقدر المستطاع، حيث اختاروا أن يتعاونوا مع الاختيار الإلهي. لذلك سكن الله فيهم. فإنّه حقًا يدعوهم آلهة، ليس بالطبيعة ولكن بالتبنّي، مثلما ندعو قضيب الحديد الساخن مشتعلًا، ليس بطبيعته، ولكن لأنّه اشترك في العمل مع النار.
إنه يقول: "تكونون قدّيسين، لأنّي قدّوس الرب إلهكم" (لا 19: 2) هذا أولًا، وبعد ذلك اختيار الخير، فبمجرّد أن نختار الخير، يساعد الله الذين اختاروا الخير أن يزيدوا في الخير، لأنّه يقول: "وأسير بينكم" (لا 26: 12). نحن هياكل الله، وروح الله ساكن فينا (1 كو 3: 16) "وأعطاهم سلطانًا على أرواح نجسة حتى يخرجوها، وشفوا كل مرض وكل ضعف" (مت10: 1). وأيضًا: "من يؤمن بي، فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضًا، ويعمل أعظم منها" (يو 14: 12). "يقول الرب حاشا لي؛ فإني أكرم الذين يكرّمونني" (1 صم 2: 30) و"إن كنّا نتألّم معه، لكي نتمجّد أيضًا معه" (رو 8: 17) "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي" (مز 82: 1).
لذلك حيث أنّهم آلهة، ليس بالطبيعة، ولكن لأنّهم شاركوا الطبيعة الإلهيّة، فيجب أن يبجّلوا، ليس لأنّهم يستحقّونه، ولكن لأنّهم يحملون في داخلهم ذاك الذي هو معبود بالطبيعة.
نحن لا نبتعد عن الحديد المشتعل ونرفض أن نلمسه بسبب طبيعته، لكن لأنّه اشترك مع ما هو ساخن بالطبيعة. والقدّيسون يبجّلون لأن الله مجدهم. ومن خلاله أصبحوا مخيفين للأعداء، ومفيدين للإيمان. هم ليسوا آلهة بطبيعتهم، ولكن لأنّهم كانوا خدّامًا محبّين لله، لذلك نبجّلهم، لأن الملك يتكرم من خلال العبادة المقدمّة لخدّامه المحبوبين. هم خدّام طائعون، وأصدقاء مقربون، ولكنّهم ليسوا الملك نفسه.
عندما يصلّي المرء بإيمان مقدّمًا دعواه باسم صديق مفضّل، فإن الملك يقبل الدعوة من خلال الخادم الأمين، لأنّه يقبل التكريم الذي أعطي لخادمه. لذلك هؤلاء الذين يتقدّمون إلى الله من خلال الرسول يستمتّعون بالشفاء، لأن ظل الرسل أو مناديلهم ومناشفهم التي تلمسهم مملوءة من الدواء. هؤلاء الذين يرغبون في عبادتهم مثل الله ممقوتون ويستحقّون النار الأبديّة. أما الذين بسبب عجرفتهم يرفضون أن يكرّموا خدّام الله، فسوف يحكم عليهم على عجرفتهم وإظهارهم عدم التكريم لله. الأطفال الذين أساءوا إلى أليشع هم مثل لذلك، لأن الدببة افترستهم (2 مل 2: 23)[4].
القدّيس يوحنا الدمشقي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. تسليم نفسه للقضاء

حَتَّى مَتَى تَقْضُونَ جَوْرًا،
وَتَرْفَعُونَ وُجُوهَ الأَشْرَارِ؟ سِلاَهْ [2].
إن كان السلوك بالظلم شرًا، فإن من يقضي بالظلم أشر. لم يستطع الحكيم أن يرى قضاة يحكمون بالظلم، إذ يقول: "وأيضًا رأيت تحت الشمس، موضع الحق، هناك الظلم، وموضع العدل هناك الجور" (أم 3: 16).
"وترفعون وجوه الأشرار". إن كان القضاة والقادة يحكمون بالظلم، فإن من يمتدحهم على شرهم، يشاركهم شرورهم.
ليس من حب أعظم من أن يسلم الخالق نفسه لخليقته، ويقبل الديان أن يُحاكم بأيدٍ بشريةٍ. دعا نفسه وهو الذي يُغطي الشاروبيم وجوههم بأجنحتهم من بهاء عظمته، ذليلًا ومسكينا وفقيرًا، بل وكأنه يتيم! سلَّم نفسه لحكم الصلب والموت، لكي يرفع عنا خطايانا، وننعم ببِّره، ونتأهل للتمتع بالميراث الأبدي.
* العبارات التالية موجهة على وجه الخصوص إلى القضاة. إن كانوا قضاة علمانيين، فالمعنى بالنسبة لهم واضح. أما إن كانوا قضاة في الكنيسة، فيلزمنا أن نفهم أنهم الأساقفة والكهنة. "حتى متى تقضون ظلمًا؟" [2] من يفسد القضاء هو قاضي ظلم، ذاك الذي يقول عنه الإنجيل لا يخاف الله ولا يهاب إنسانًا (لو 18: 2). "حتى متى تقضون جورًا؟" لقد أعطيتكم سلطانًا على قطيعي وعلى شعب الله، يلزمكم أن تكونوا قضاة لا ذئاب[5].
القديس جيروم
* "حتى متى تقضون جورًا، وترفعون وجوه الأشرار؟" [2]. وفي موضع آخر: "حتى متى تثقل قلوبكم" (مز 4: 2 الفولجاتا) هل إلى أن يأتي ذاك الذي هو نور القلب؟ إني أقدم ناموسًا، وأنتم تقاومونه بعنادٍ. أرسلت أنبياء، وأنتم تعاملتم معهم بالظلم أو قتلتموهم أو تواطأتم مع الذين فعلوا هكذا معهم... جاء الوارث الآن، فهل لكي يُقتل؟ أليس من أجلكم أراد أن يكون كابن تحت أوصياء؟ أليس من أجلكم جاع وعطش كمن هو في احتياج؟ ألم يصرخ إليكم: "تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب" (مت11: 29)؟ ألم يصر فقيرًا وهو الغني لكي بفقره يغنيكم (2 كو 8: 9)؟[6]
القديس أغسطينوس
اِقْضُوا لِلذَّلِيلِ وَلِلْيَتِيمِ.
أَنْصِفُوا الْمِسْكِينَ وَالْبَائِسَ [3].
يوبخ الرب قضاة إسرائيل: "لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم" (إش 23: 1). "تجاوزوا في أمور الشر، لم يقضوا في الدعوى دعوى اليتيم، وبحق المساكين لم يقضوا" (إر 5: 28).
يرى القديس أغسطينوس أن الحديث موجه إلى اليهود الذين رفضوا السيد المسيح الذي جاء إليهم كذليلٍ ويتيمٍ ومسكينٍ وبائسٍ، وأرادوا قتله، قائلين: "هذا هو الوارث، هلم نقتله، ويصير لنا الميراث".
* لم يقل اقضوا للصدِّيق أو للنبي أو للكاهن، لأن هؤلاء سبيلهم أن يحتملوا الظلم، بل قال: "لليتيم والفقير والبائس"، لأن هؤلاء يستثقلون الظلم لضعفهم من الفقر أو من صغر السن أو من ضعف الرأي.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
نَجُّوا الْمِسْكِينَ وَالْفَقِيرَ.
مِنْ يَدِ الأَشْرَارِ أَنْقِذُوا [4].
* لقد جعل الظالم في منزلة السبع المارد، والفقير بمنزلة الخروف، فيقول خلصوه من يده، أي من عنفه وظلمه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. الظلمة تهاجم النور

ليس أمَّر من أن يقضي الجهال على كل الحكمة بالموت، ويمشوا في النور لكي يطفئوا النور الإلهي.
يا للعجب لقد تركهم يمارسون شهوة قلوبهم، لكي بصليبه تهتز أساسات الأرض، وتتشقق الصخور، وتعلن الخليقة استياءها، فلا تعطي الشمس ولا القمر نورهما. بهذا إذ تتزعزع أسس الأرض، يصير هو أساس المبنى السماوي فينا، وإذ تحل الظلمة الخارجية، نطلب نوره الإلهي في أعماقنا، يشرق علينا نحن الجالسين في الظلمة بكونه شمس البرّ والشفاء في أجنحتها.
يقيم منا نحن الذين متنا بالخطايا مثل أبينا آدم، أبناء للعلي؛ وعوض السقوط نقوم لنتحدى الموت. ليس للجحيم سلطان علينا، ولا لأبواب الجحيم أن تحبسنا، بل وتنفتح أمامنا الأبواب الدهرية لندخل مختفين في البكر القائم من الأموات.
لاَ يَعْلَمُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ.
فِي الظُّلْمَةِ يَتَمَشُّونَ.
تَتَزَعْزَعُ كُلُّ أُسُسِ الأَرْضِ [5].
لم يكن جهلهم بالأمر العارض يمكن أن يلتمس لهم العذر فيه، لكنه جهل إرادي. إنه لأمر مؤسف أن لا يعرف رجال العدالة العدل، وأين يعوِّج القضاة القضاء، وأن لا يعلم الإنسان واجبه.
"في الظلمة يتمشُّون". لقد أظلمت بصيرتهم الداخلية، فأحبوا الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة (يو 3: 19). تركوا سبيل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة (أم 2: 13).

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
* "لا يعلمون ولا يفهمون، في الظلمة يتمشون" [5]. "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8). وهؤلاء أيضًا لو عرفوا لما قبلوا أن يطلبوا أن يُطلق باراباس ويُصلب المسيح. لكن لأن العمى السابق الحديث عنه قد حدث جزئيًا في إسرائيل إلى أن يكمل دخول الأمم، هذا العمى الذي لذاك الشعب أدى إلى صلب المسيح.
"تتزعزع كل أسس الأرض". إنها تتزعزع وستتزعزع، حتى يتحقق دخول ملء الأمم. فإنه عندما حدث بالفعل عند موت الرب إذ تزعزعت الأرض، وتشققت الصخور (مت 27: 51). وإن فهمنا "أسس الأرض" أولئك الذين هم أغنياء في فيض الأرضيات، فبالحقيقة سبق فأخبر أنهم سيتزعزعون سواء بقبولهم الانحطاط والفقر والموت فيكونون موضوع حب وتكريم في المسيح[7].
القديس أغسطينوس
* أولئك الذين كنت أدعوهم آلهة، يدعون قضاة أشرارًا، بسبب رذائلهم. إنهم لا يعلمونني، ولا يفهمون أحكامي [5]. "في الظلمة يتمشون". إنهم يتلمسون الطريق في الظلمة، لأنهم نسوا النور. أقول: "أنتم نور العالم" (مت 5: 14)، لكنكم تركتم النور، وصرتم ظلمة[8].
* "تتزعزع كل أسس الأرض" [5]. ها أنتم ترون نوع العقوبة التي تحل بالحكام الأشرار، فبسبب القضاة الأشرار تتزعزع أسس الأرض... لقد رفضوا المسيح الذي كان يجب أن يكون أساسهم، والذي عليه قام المهندس بالبناء (1 كو 3: 10)، ووضعوا أساساتهم هم على الأرض[9].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. يقيم من الأموات شبه سمائيين

لم يكن ممكنًا للجحيم أن يغلق أبوابه عليه، ولا للقبر أن يحبسه، إنما يقيم ليدين فينا كل شهوة أرضية، ويحطم كل سلطان للموت علينا. يملك علينا نحن الذين كنا أرضًا، وبه نصير شبه سمائيين.
أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ،
وَبَنُو الْعَلِيِّ كُلُّكُمْ [6].
إذ هاجم اليهود السيد المسيح لأنه قال عن نفسه أنه ابن الله، مساويًا نفسه بالآب، قال لهم: "أليس مكتوبًا في ناموسكم أنا قلت إنكم آلهة؟ إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن أن ينقض المكتوب، فالذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف، لأني قلت إني ابن الله؟" (يو 10: 35-36).
إذ صم القضاة الأشرار والحكام آذانهم، ولم يقبلوا كلمة النصح، وصمموا على السلوك في الظلمة، يرفع المرتل نظره الله، سائلًا إياه أن يدين الأرض بنفسه لينصف المظلومين. هذا ومن جانب آخر، يطلب المؤمن الله أن يدين الأرض، وينزع عنه وعن إخوته الشهوات الزمنية ومحبة الأرضيات، ليحمل الكل الفكر السماوي.
يقدم لنا العلامة أوريجينوس: تعليقًا روحيًا على لا 17:16. "ولا يكن إنسانُ في خيمة الاجتماع من دخوله للتكفير قي القدس إلى خروجه، فيكفر عن نفسه وعن بيته وعن كل جماعة إسرائيل"، بقوله: [أظن أن الذي يتبع المسيح يخترق معه إلى داخل الخيمة، ويصعد معه إلى أعلى السماوات، لا يكون بعد إنسانًا، وإنما يكون كالقول "كملاك الله" (مت 30)، وتكمل فيه كلمات الرب: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العليّ كلكم" (مز 6:82). إذن لنكن مع الرب روح واحد، وفي مجد قيامته نعبر إلى طقس الملائكة، وبهذا لا يكون هناك إنسان[10].] بمعنى آخر إذ انطلق ربنا يسوع المسيح إلى الأقداس يكفر عنا، لا يقدر إنسان أن يكون معه ما لم يتحد فيه كعضو في جسده المقدس، فنحسب كسمائيين، نحمل حياته السماوية فينا!
* يوجد أبناء كثيرون لله، كقول الكتاب: "أنتم آلهة، بنو العلي كلكم" (مز 82: 6)... لكن واحد فقط هو الابن بالطبيعة، ابن الآب الوحيد، خلاله يُدعى كل البقية أبناء. وهكذا توجد أرواح كثيرة، لكنه يوجد فقط روح واحد بالحق ينبثق من الله نفسه، ويهب نعمة اسمه وتقديسه [11].
العلامة أوريجينوس
* نحن آلهة لا بالطبيعة بل بالنعمة. "والذين قبلوه أعطاهم سلطانًا أن يصيروا أبناء الله" (يو 1: 12). لقد خلقت الإنسان لهذا الهدف، أن يصير من البشرية آلهة. "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي تدعون كلكم" (يو10: 34)... جعلتكم آلهة كما جعلت موسى إلهًا لفرعون (خر 7: 1)... لقد وُلدنا جميعًا متساوين، أباطرة وعامة الشعب، وسنموت متساوين، بشريتنا من نوعٍ واحدٍ![12]
القديس جيروم
* أعني كما قلت لموسى: ها أنا أقمتك هذا اليوم إلهًا على فرعون، وأخوك هارون يكون لك نبيًا، كذلك أقمتكم آلهة لكي تقضوا على الناس كما يقضي الله. وبنو العلي تدعون، إذ ضارعتموه في حكمه بالعدل. وقال القديس كيرلس إن المسيحيين لقبولهم ابن الله واعترافهم بلاهوته، صاروا آلهة بالنعمة، وأبناء العلي بالوضع لا بالطبيعة. لأن الله (الآب) وابنه بالطبيعة هما واحد ونعني ربنا يسوع المسيح.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* أي أسماء أخذها الله مني وأي أسماء أعطاني إياها؟
هو نفسه "الله"، وقد دعاني بذلك. فبالنسبة له هو الله من حيث طبيعة جوهره... أما أنا فآخذ مجرد شرف الاسم فحسب "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز ٨٢: ٦)... لقد دعاني إلهًا لمجرد نوال شرف.
وهو نفسه دُعيَ إنسانًا وابن الإنسان والطريق والباب والصخرة... هذه الكلمات استعارها مني[13].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* قيل في موضع آخر: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز 82: 6). هؤلاء عندما يقول لهم الله هكذا إنما يتقبلون بنوّة لم تكن لهم من قبل. أما هو فلم يولد ليصير على حال لم يكن عليه من قبل، بل هو مولود من البدء ابن الآب. هو فوق كل بداية وكل العصور، ابن الآب مشابهًا[14] للآب الذي ولده في كل شيء. أبدي من أبٍ أبديٍ، حياة من حياةٍ، نور من نورٍ، حق من حقٍ، حكمة من الحكيم، ملك من ملكٍ، الله من الله، قوة من قوةٍ[15].
القديس كيرلس الأورشليمي

* يلزمنا أن نسأل من أجل الذين لا يزالون أرضًا، ولم يبدأوا بعد ليكونوا سماءً، لكي تتم مشيئة الله حتى في هؤلاء...
كما تتم مشيئة الله في السماء، أي فينا نحن، إذ بإيماننا قد صرنا سماءً، هكذا تتم على الأرض، أي في الذين لم يؤمنوا بعد، هؤلاء الذين لا يزالون أرضًا بسبب ميلادهم الأول منها، فيولدون من الماء والروح، ويبدأون أن يكونوا سماءً[16].
* إن كنا أبناء الله، إن كنا بالفعل بدأنا نصير هيكله، إن كنا (بقبول الروح القدس) نعيش مقدسين وروحيين، إن كنا نرفع عيوننا من الأرض إلى السماء، إن كنا نرفع قلوبنا مملوءة بالله والمسيح إلى العلويات والإلهيات، وليتنا لا نفعل شيئًا لا يليق بالله والمسيح، كما يحثنا الرسول[17].
الشهيد كبريانوس
يقول القديس إكليمنضس السكندري [صار كلمة الله إنسانًا (يو 14:1)، لتتعلم من الإنسان (السيد المسيح) كيف يصير الإنسان إلهًا.] ويضيف أيضًا [من الممكن أن يصير الغنوسي إلهًا "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز 6:82).]
* لقد اغتنينا بروح الله، لأن روحه جاء ليسكن في قلوبنا، وأخذنا وضعنا بين أبناء الله، لكننا لم نفقد ما نحن عليه. إننا بشر حسب الطبيعة، وإن كنا نصرخ: "أبا الآب"[18].
القديس كيرلس السكندري
* العمل الداخلي مع عناء الحب القلبي يجلب الطهارة، والطهارة تجلب هدوء القلب الحقيقي، وهذا الهدوء يجلب التواضع، والتواضع يجعل الإنسان مسكنًا لله! والأرواح الشريرة مع الشيطان قائدها تُطرَد بعيدًا عن هذا المسكن مع أوجاعها المخجلة، وبذلك يصير الإنسان هيكلًا لله، مقدّسًا، مستنيرًا، مطهَّرًا، مُغتنيًا بالنعمة، مملوءًا بكل رائحةٍ زكية وحنوّ وابتهاج، ويصير الإنسان حاملًا لله (ثيؤفوروس)، بل بالحري يصير إلهًا حسب القول: "أنا قلتُ إنكم آلهة، وبنو العليّ كلّكم" (مز 82: 6).
القديس برصنوفيوس
* ارفع نظر قلبك الداخلي إلى الله، واستوثق من رؤيته مليًا، ثم اسأل منه ما تشاء باسم يسوع المسيح، فسيعطي لك، وفي لحظة يتم طلبك، لأنه في دقائق رفعة إيمانك الصادق به يصير اتحادك معه، وحينئذ ما تطلبه يكون لك حسب مشيئته، سواء كان من أجل خلاصك أنت أو لقريبك. لأنك في هذه اللحظة تكون شريك الألوهية باتحاد الروحي مع الله أنا قلت إنكم آلهة (مز 6:82) في ذلك الوقت لا يكون بينك وبين الله شيء لا مسافة زمنية ولا مكانية، وحالما تنطق بكلماتك يكون سماعها فاستجابتها وتحقيقها، لأنه قال فكان. هو أمر فصار (مز 9:33)، ألم يكن هذا هو الحال بالضبط في تحويل الأسرار المقدسة!
الأب غريغوريوس الكبير
في عبارات قويّة يتحدّث القديس إكليمنضس السكندري عن فاعلية المعموديّة في حياة المؤمنين قائلًا: [هذا الأمر عينه يحدث لنا نحن أيضًا الذين قد صار لنا المسيح مثالًا. فإنّنا إذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نصير أبناء، وكأبناء نصير كاملين، وككاملين نضحي غير مائتين، كما قيل: "أنا قلت أنكم آلهة، وبنو العليّ كلّكم" (مز 82 (81): 6)].
[يُدعى هذا العمل بأسماء كثيرة: أعني نعمة واستنارة وكمالًا وحميمًا.
فهو حميم، به نغتسل من خطايانا،
ونعمة، إذ تنزع عنّا عقوبات تعديّاتنا،
واستنارة به نرى نور الخلاص المقدّس، أعني إنّنا نشخص به إلى الله بوضوح، وندعوه كمالًا، إذ لا ينقصه شيء، لأنه ماذا ينقص من يعرف الله؟![19]]
* ستلاحظون أيضًا كيف أن حكمة الله تعطي لقب الآلهة، ليس فقط للكائنات السماوية التي هي أسمى منا، بل وللناس المقدسين بيننا الذين يتميزون بحب الله (مز 82: 1؛ 95: 3)[20].
الأب ديونيسيوس الأريوباغي
* إن كانوا يظنون أن (المسيح) يُدعى إلهًا، لأن اللاهوت يسكن فيه، كما كان حال الكثيرين من القديسين، لأن الكتاب يدعوهم آلهة هؤلاء الذين جاءتهم كلمة الله" (يو 10: 35). فإنهم بهذا يضعونه بين الناس، بل يقارنوه بهم. يحسبون بنفس الطريقة التي عليها الآخرون، كما قيل لموسى: "أنا جعلتك إلهًا لفرعون" (خر 7: 1). بنفس الطريقة قيل أيضًا في المزامير: "أنا قلت إنكم آلهة" (مز 82: 6)[21].
القديس أمبروسيوس
* "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز 82: 6)... إننا آلهة ليس بالطبيعة، وإنما بالنعمة.
"وأما كل الذين قبلوه، فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله" (يو 1: 12). لقد خلقت الإنسان بهذا الهدف، أن أجعل من البشر آلهة...
تخيلوا عظمة كرامتنا؛ نحن نُدعى آلهة وأبناء!
إنني أجعلكم آلهة، كما جعلت موسى إلهًا لفرعون، حتى إذ تصيرون آلهة، تتأهلون أن تكونوا أبناء لله[22].
القديس جيروم
* إنه الله الحقيقي، الواحد مع الآب الحقيقي، أما بقية الكائنات الأخرى التي قال لها: "أنا قلت إنكم آلهة" (مز 82: 6)، فلهم هذه النعمة من الآب فقط بشركتهم في الكلمة بالروح. فهو ذات ختم الآب، بكونه النور من النور، وقوة جوهر الآب وصورته[23].
البابا أثناسيوس الرسولي
لَكِنْ مِثْلَ النَّاسِ تَمُوتُونَ،
وَكَأَحَدِ الرُّؤَسَاءِ تَسْقُطُونَ [7].
إذ يتشامخ البعض بسبب مراكزهم أو السلطان المُعطى لهم، لذلك يؤكد المرتل أنهم لا يزالون مثل باقي البشر، يليق بهم أن يدركوا أن الموت سيلحق بهم يومًا ما، فيُجردهم من مراكزهم وسلطانهم، وينزل بهم من كراسيهم، ليقفوا كسائر البشر أمام الديان العادل.
وقد قيل لنا: "لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 7:82). على من ينطبق هذا القول بأن كثيرين من الرؤساء قد سقطوا؟ يرى الأب سيرينوس أن الرؤساء هم الملائكة، سقطوا عن رتبهم المتنوعة من مواضعهم السمائية ثمرة شرهم، وأنهم أيضًا حملوا رتبًا حسب درجة شرهم. وكأنهم كما حملوا رتبًا متنوعة في حياتهم الملائكية، نالوا في سقوطهم رتبًا مضادة حسب درجة شرهم.
* لكن مثل الناس تموتون" [7]. ها أنتم ترون الإنسان يموت. أما الله فلا يموت. آدم أيضًا طالما أطاع الوصية لم يمت، كان إلهًا ولم يمت. بعد أن ذاق الشجرة الممنوعة مات للحال. في الواقع يقول له الله: "يوم تأكل منها تموت" (تك 2: 17)[24].
القديس جيروم
* إن كان أحد ليس بعد كذابًا، ويثبت في الحق، مثل هذا ليس بإنسانٍ، بل يقول له الله ولمن هم مثله: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (مز ٨2: ٦)، ولا تُضاف العبارة: "بالحقيقة تموتون كبشرٍ" (مز ٨2: ٧).
إن لم يثبت أحد في الحق، فمن الواضح أن إبليس القتال من البدء لا يثبت في الحق... وقد جاء السبب مُعبرًا عنه بعد ذلك: "لأنه ليس فيه حق". أما السبب أن الحق ليس فيه فهو أنه خُدع ويقبل الكذب، وأنه خدع نفسه بنفسه. على هذا الأساس حُسب أشر من كل بقية المخدوعين، إذ خُدعوا بواسطته، أما هو فخلق الخداع لنفسه[25].
* لست مثلكم، ولا أحاكي خستكم التي تمرستم عليها جيدًا. فأنا لم آتٍ من نفسي، ولا أنا بمرسل نفسي مثلكم، بل أنا آتٍ من السماء، والذي أرسلني هو حق، وليس مثل الشيطان مرسلكم، شيطان الكذب، الذي تقبلون روحه، فتتجرأون على التنبؤ بالكذب، الذي هيجكم لتخترعوا كلمات من الله، فهو ليس حقًا، لأنه كذاب وأبو الكذاب (يو ٨: ٤٤).
القديس كيرلس الكبير
* إنه بنوعٍ من القوة (العنف) يخطئ الإنسان، لهذا يتطلب الأمر الإصلاح بالضعف (التواضع). إنه بالكبرياء يخطئ، ويلزم التواضع لكي يتأدب. كل الأشخاص المتكبرين يدعون أنفسهم شعبًا قويًا. لهذا فإن كثيرين (آخرين) يأتون من المشارق والمغارب، ويجلسون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات (مت 8: 11)... انظروا فإنكم مائتون، وتحملون جسمًا جسديًا يفسد. "كأحد الرؤساء تسقطون، مثل الناس يموتون" (راجع مز 82: 7)، وتسقطون كالشيطان...
الشيطان متكبر، إذ ليس له جسم مائت، إنه ملاك. أما أنتم فقد قبلتم جسمًا مائتًا... لكي ما تتواضعوا بضعفكم العظيم، فإنكم تسقطون كأحد الرؤساء. إذن هذه هي أول نعمة كعطية من الله تجلبنا أن نعترف بضعفنا. فكل ما نفعله من صلاح، وكل ما لدينا من قدرات، فإننا ننال هذا فيه، حتى من يفتخر فليفتخر في الرب (1 كو 1: 31). يقول: "لأني حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 10)[26].
القديس أغسطينوس
* بما أنكم تفسدون الحق، وتغشون حكمتكم بالظلم، لذلك تموتون موت ذوي الآراء البشرية، وهو الموت الحاصل من الخطية. وتسقطون بإرادتكم من الشرف المعطى لكم، كما يسقط رؤساء الوثنيين وحكامهم، وكما سقط الشيطان أحد رؤساء الملائكة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* تجرب بعض الشياطين النجسة الإنسان كإنسانٍ، وبعضها كحيوانٍ أبكم.
النوع الأول (من التجارب) يبث فينا أفكار المجد الباطل أو الكبرياء أو الحسد أو الدينونة، هذه التي لا تصيب أي حيوان أبكم.
أما النوع الثاني فيثير فينا الغضب والشهوة، وهذه الأمور نشترك فيها مع الحيوانات غير الناطقة، وهي مخيفة، تحط من الطبيعة العاقلة.
من أجل هذا يقول الروح القدس بالنسبة للأفكار التي تأتى للإنسان كإنسانٍ: "أنا قلت لكم إنكم آلهة وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 6:82-7).
أما بالنسبة للأفكار التي تتحرك في الإنسان كحيوانٍ أبكم، فيقول: "لا تكونوا كفرسٍ أو بغلٍ بلا فهم، بلجامٍ وزمامٍ زينته يُكَمُّ لئلا يدنو إليك" (مز 9:32)[27].
الأب أوغريس الراهب
* لأننا لم ننل نعمة تؤخذ منا أو تتغير كما كان الحال مع اليهود. وما قيل لهم لا ينطبق علينا عندما قيل: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم، لكن مثل الناس تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز 82: 6-7). والسبب أنهم نالوا نعمة العبودية لله، بينما نلنا نحن نعمة البنوة التي لا تتغير، كما يعلمنا بولس الرسول: "إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ: أبّا أيها الآب" (رو 8: 15). فترى الحقيقة أننا ننادي الله كأبانا الذي في السماوات وقت التقدم من الأسرار الإلهية، بسبب النعمة المعطاة لنا بالروح... لأن الروح هو الذي يؤهلنا أن ندعوه الله "أبانا". في تلك اللحظة هؤلاء الذين يدعون الله أبانا، وينتظرون نوال الأسرار وهم كلهم خطاة. بسبب الخطايا التي ارتكبناها منذ المعمودية ننال الأسرار بمواظبة[28].
القديس مار فيلوكسينوس
* تحدث عن سقوط الشيطان وملائكته وقد رثاهم النبيان حزقيال وإشعياء:
"يا ابن آدم ارفع مرثاة على ملك صور وقل له:
هكذا قال السيد الرب: أنت خاتم الكمال ملآن حكمة وكامل الجمال. كنت في عدن جنة الله.
كل حجر كريم، ستارتك عقيق أحمر وياقوت أصفر وعقيق أبيض وزبرجد وجزع ويشب وياقوت أزرق وبهرمان وزمرد وذهب.
أنشأوا فيك صنعة صيغة الفصوص وترصيعها يوم خلقت.
أنت الكروب المنبسط المظلل وأقمتك. على جبل الله المقدس كنت. بين حجارة النار تمشيت.
أنت كامل في طرقك من يوم خُلقت حتى وُجد فيك إثم.

بكثرة تجارتك ملأوا جوفك ظلمًا فأخطأت.

فأطرحك من جبل الله، وأبيدك أيها الكروب المظلل من بين حجارة النار.
قد ارتفع قلبك لبهجتك. أفسدت حكمتك لأجل بهائك.

سأطرحك إلى الأرض، وأجعلك أمام الملوك لينظروا إليك.
قد نجست مقادسك بكثرة أثامك بظلم تجارتك" (حز 11:28-18).
ويقول إشعياء عن شيطان آخر:
"كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟!
كيف قُطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم؟!
وأنت قلت في قلبك: أصعد إلى السماوات، أرفع كرسيَّ فوق كواكب الله، وأجلس على جبل الاجتماع في أقاصي الشمال.
أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي" (إشعياء 12:14-14).
يخبر الكتاب المقدس أن الشيطان لم يسقط وحده من حالته المباركة، بل يسقط التنين ومعه ثلث الكواكب (رؤ 4:12).
في أكثر وضوح يقول أحد الرسل: "والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم، بل تركوا مسكنهم حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام" (يهوذا 6).
هذا أيضًا وقد قيل لنا: "لكن مثل الناس تموتون وكأحد الرؤساء تسقطون" (مز7:80). على من ينطبق هذا القول بأن كثيرين من الرؤساء قد سقطوا؟[29]
الأنبا سيرينوس
قُمْ يَا اللهُ.
دِنِ الأَرْضَ،
لأَنَّكَ أَنْتَ تَمْتَلِكُ كُلَّ الأُمَمِ [8].
لم يقل: "دِن الأرض والسماء"، لأن السماء بلا خطية. فمن كان أرضًا سيُدان، أما من صار بالمسيح يسوع سماءً فيتمجد ويكلل ولا يُدان.
* قم يا الله. دِن الأرض. قم، فإن سفينتنا تلطمها الأمواج. قم يا الله، دن الأرض، لأن القضاة الأشرار يموتون مثل آدم، ويسقطون كأحد الرؤساء. قم، دِن، فإنك تخلص خليقتك... قم، فإنك تألمت لأجلنا، ومت لأجلنا، وتقوم وتخلصنا.
لنقل هذا بطريقة أخرى: يا من أتيت في تواضعٍ ومذلةٍ، تعال كَديانٍ وحررنا[30].
القديس جيروم
* الآن يجلس يهب المغفرة، لكن حين تأتي النهاية يقوم للدينونة، إذ يُقال: "قم يا الله، دن الأرض" (مز82: 8)[31].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لقد انفتحت الأرض، الذي به يفَّلحها بأوامره ورحمته المملوءة حنوًا، محطما الشهوات الأرضية[32].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 82

عجيب أنت أيها الديان الأعظم

* عجيب أنت أيها الديان في تدبيرك وفي محبتك.
وأنت ديان الجميع تسألنا أن نخضع لكل ترتيب بشري.
نقدم الكرامة لمن لهم الكرامة،
ونخضع لأصحاب السلاطين.
ولكن تبقى ديان القضاة والرؤساء والعظماء.
فوق العالي من هو أعلى منه،
لا تترك البشرية تفترس بعضها البعض.
* في تواضع وأنت ديان المسكونة كلها تجلس مع مؤمنيك وتكرّمهم.
أقمت منهم أبناء لك، لا بالطبيعة بل بالتبني.
تكرم خدامك فتدعوهم آلهة،
من أجل السلطان الذي تهبه لهم.
* في تواضعك أقمت من خدامك قضاة.
قبلت من أجلنا أن تحمل جور خليقتك في طول أناةٍ عجيبة.
صرت مع المذلين والأيتام والمساكين والبائسين،
واحدّا معهم كأنك فقير.
اطمأنت نفوس المنسيين والمتألمين،
إذ وجدوا المخلص نفسه واحدًا منهم.
* يليق بالقضاة أن يقضوا بالعدالة للذليل واليتيم،
وينصفوا البائس والمسكين.
فإن هذا العمل هو لحساب المخلص نفسه.
* التحف البشر بالظلمة،
وهاجموا النور الحقيقي.
خجلت الشمس وأيضًا القمر، بل وكل الطبيعة من فساد البشر.
تزعزعت الأرض، وتشققت الصخور
تعلن احتجاجها على بني البشر.
ويبقى الديان في حبه يحتمل الآلام والعار، حتى موت الصليب.
بموته أمات الموت،
وبقيامته وهبنا الحياة المقامة.
* بصعوده حوَّل أرضنا إلى سماء،
لا نعود نخشى يوم الدينونة،
لأننا صرنا سماءً.
ليقم ويدين الأرض،
وأما السماء فتمتلئ مجدًا!
  رد مع اقتباس
قديم 18 - 02 - 2014, 03:48 PM   رقم المشاركة : ( 85 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 83 - تفسير سفر المزامير
أعداء من كل جانب


يبدأ المزمور في شكل مرثاة جماعية، لكن تنتهي المرثاة عادة بتسبحة تمجد الله وتشكره على عمله مع شعبه وسط ضيقتهم. وقد اختلف الدارسون على المناسبة التي فيها وُضع هذا المزمور. كثيرون يرون أنه يناسب ما ورد في 2 أي 20 بخصوص تحالف كثير من الأمم ضد يهوشفاط. التجأ الملك إلى الله، حيث نادى بصومٍ في كل يهوذا، واجتمع يهوذا ليسألوا الرب. ووقف يهوشفاط في جماعة يهوذا وأورشليم في بيت الرب أمام الدار الجديدة، وصلى إلى الرب طالبًا تدخله، وبالفعل أنقذهم الرب بيدٍ قويةٍ وذراعٍ رفيعةٍ.
إنها قصة الكنيسة في كل العصور، بل وقصة كل مؤمنٍ حقيقيٍ حيث يثور عدو الخير عليه، ويُثير قوات الظلمة ضده، لكن الله يهبه النصرة.
يرى آدم كلارك أن هذا المزمور يتناسب مع التحالف الذي تم ضد يهوشفاط ملك يهوذا للأسباب التالية:
1. أن أولاد عمون يمثلون العنصر الرئيسي في الحرب.
2. مجيء أدوم لمساندتهم (2 أي 20: 1، 22؛ مز 83: 8).
3. تحالف كثير من الغرباء من سوريا وما وراء البحر الميت الإسماعيليين وأبناء هاجر (مز 83: 7-8).
4. ظهور يحزيئيل من بني آساف يعلن أن الحرب لله وليس للملك والشعب (1 أي 20: 14-15). ربما يكون هو نفسه واضع هذا المزمور.

1. صرخة لله
1.
2. تحالف شرير
2-5.
3. أسماء المتحالفين
6-8.
4. توسل للخلاص
9-17.
5. النصرة لمجد الله
18.
من وحي مز 83
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لآسَافَ
هذا هو المزمور الأخير من مزامير آساف. يوجد تشابه كثير بين ما ورد في هذا المزمور المنسوب لآساف، وبين ما ورد في أخبار الأيام الثاني (ص20)، مما دعا بعض الدارسين أن يعتقدوا بأن آساف المذكور هنا هو يحزيئيل الوارد في أخبار الأيام الثاني.
مع أن هذا المزمور يحمل طابع مرثاة جماعية، لكنه دُعي "تسبحة".
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. صرخة لله

اَللهُمَّ لاَ تَصْمُتْ لاَ تَسْكُتْ،
وَلاَ تَهْدَأْ يَا اللهُ [1].
جاء عن الترجمة السبعينية: "اللّهم من الذي يشبهك يا الله. لا تسكت ولا تهدأ يا الله" [1].
* إذ لا يوجد من هو مثلك، فإننا لا نتطلع إلى خالقٍ غيرك. "لا تسكت يا الله، ولا تهدأ". نحن صامتون، فلتشفع لحسابنا. هذا هو صوت الإنسان البار، إذ يقول: "لا تسكت يا الله" وهو في سلامٍ مع ضميره[1].
القديس جيروم
إذ يرى المرتل الأعداء وقد تحالفوا معًا ضد الله يقاومون شعبه في هياج ومرج، فإن الأمر يحتاج إلى مجرد كلمة من فم الله. لهذا يصرخ المرتل: "اللّهم لا تصمت لا تسكت ولا تهدأ يا الله" [1]. كثيرًا ما يبدو الله كأنه صامت لا يبالي بكل هياج الأعداء. فيقف المؤمن في حيرة. إن كان الله يبدو كمن هو في صمت إنما لكي لا نصمت نحن، بل نلح على الله أن يتكلم، حتى يقوم وينتهر الرياح، فيصير هدوء عظيم (مت 8: 24 الخ).
* من يشبهك يا الله. ليس أحد مثلك. "اللهم لا تصمت، لا تسكت". إنه رجل الكنيسة الذي يتكلم، إنسان من داخله تفيض أنهار مياه حيَّة (يو 7: 38). إنه يرى حصادًا عظيمًا وفعلة قليلين. حشود من المؤمنين، ولكن قلة من المعلمين يقومون بتعليمهم؛ كثير من الهراطقة، وكثير من المقاومين، وقلة من الجنود المحاربين لحساب المسيح. "اللهم لا تصمت، لا تسكت"[2].
القديس جيروم
* اللهم من الذي يشبهك (يماثلك)... إن المماثلة تكون في الجوهر وفي الكيفية... الله ليس له شبيه في الجوهر، أعني الآب والابن والروح القدس الثلاثة أقانيم حيث لا يوجد خلاف في الجوهر، إذ هم لاهوت واحد ذات ثلاثة أقانيم... أما المماثلة بحسب الكيفية فيمكن أن يُدعى الصديقون مماثلين لله، ولكن مماثلتهم له ليست طبيعية فيهم، بل بتناول نعمة منه. أعني أن الله قدوس وعادل وديان ومهما يُقَال فيه من هذه الصفات فهي موجودة فيه طبيعية لا بالاكتساب. ويُدعى الإنسان بهذه الصفات لكنها ليست فيه طبيعية بل هي اكتسابية جزئية.
إذن يقول النبي: من يماثلك يا الله جوهريًا. وأما قوله: "لا تسكت"، فمعناه لا تعد تتمهل وتطيل أناتك على الأشرار بل أسرع للانتقام منهم.
الأب أنثيموس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. تحالف شرير

فَهُوَذَا أَعْدَاؤُكَ يَعِجُّونَ،
وَمُبْغِضُوكَ قَدْ رَفَعُوا الرَّأْسَ [2].
لا يهدأ الأعداء، بل يعجُّون، أي يجتمعون معًا في حالة اضطرابٍ وهياجٍ. إنهم كذئاب جائعة تود أن تلتهم شعب الله كقطيع غنمٍ. يرفع العدو رأسه في تشامخ ضد الله نفسه، كمن قد انتصر عليه.
يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن ما ورد هنا هو نبوة لما سيحدث بعد ذلك عندما يسمح كورش ملك فارس ببناء الهيكل والمدينة، حيث تهيج الأمم عليهم، لكن الله أعطى نعمة لزرُبابل للتغلب عليهم.
يتسم المقاومون لكنيسة الله بالآتي:
أولًا: يصرخون في ضجيج عال،ٍ لكن كما بلغة غير مفهومة، لأنهم غير متعقلين. إنهم يحملون العداوة بلا سببٍ حقيقيٍ.
ثانيًا: متشامخون، يرفعون رؤوسهم على الرب نفسه، كما على مؤمنيه، بينما يقول الرب: "تعلموا منّي لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). أما الإنسان المتشامخ فيتبع ذاك القائل: "أصعد إلى السماوات، أرفع كرسي فوق كواكب الله، وأجلس على جبل الاجتماع في الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العليّ" (إش 14: 13-14).
ثالثًا: يدبرون مؤامرات بخبثٍ ومكرٍ، ضد أولئك الذين هم تحت حماية الله. يريدون استئصال كنيسة الله تمامًا ومحو اسمها.
يلاحظ القديس أغسطينوس أن المرتل لم يقل: "رفعوا الرؤوس"، إنما "رفعوا الرأس"، كأن الأعداء قد بلغوا إلى هذه النقطة حيث يتجمع الكل حول رأسٍ واحدٍ. هذا الرأس الذي قيل عنه: "المقاوم والمرتفع على كل ما يُدعى إلهًا أو معبودًا" (2 تس 2: 4). فإن كان هذا المزمور هو صرخة تخرج من قلب الكنيسة كلها، فإنها تصرخ عند مجيء ضد المسيح الذي في تشامخه "يجلس في هيكل الله كإله، مظهرًا نفسه أنه إله" (2 تس 2: 4). يجتمع كل الأشرار تحت لواء ضد المسيح لمقاومة الكنيسة في كل الأرض. تطلب الكنيسة من إلهها ألاّ يصمت، فقد بلغت الضيقة أشدها، وظن ضد المسيح أنه ليس من إله يقدر أن يقف أمامه.
* هوذا أعداؤك يعجون (في شغبٍ). الآن يتكلم الهراطقة، بينما يحتفظ الكنسيون بسلامهم. هم يصنعون هياجًا، ونحن نسكت. هم يجدفون، ونحن لا نغضب... حسنًا يقول: "يعجون"، ولكن ما يقدمونه هو مجرد ضوضاء وارتباك وتمزيق.
"ومبغضوك قد رفعوا الرأس". جموع الهراطقة عدد ضخم، وأما عدد الذين يؤمنون بك فقليلون[3].
* ينطقون بكلمات، بتأكيد كمن يشجبونني. لكن ما أسمعه ليس بصوت نهائيًا إنما هو ضجيج[4].
القديس جيروم
عَلَى شَعْبِكَ مَكَرُوا مُؤَامَرَةً،
وَتَشَاوَرُوا عَلَى أَحْمِيَائِكَ [3].
يُجمع أعداء الرب على محاربة المؤمنين، ويلجأون إلى الخداع والخبث لتدبير مؤامرات ضدهم. لهذا يطلب المؤمنون من الله أن يحفظهم ويحميهم.
يعلق القديس أغسطينوسعلى كلمة "يعجُّون" [2] أو "تَشَاوَرُوا" [3] أييعطون صوتًا، أي ضجيجًا أكثر منه حديثًا أو حوارًا. فالأعداء يقاومون الكنيسة بروح العنف والضجيج ووضع مؤامرات دون تعقلٍ أو فهمٍ أو حوارٍ.
* على شعبك فكروا مؤامرة". يقولون إنهم يودون أن يفتنوا كنيستك. "تشاوروا على قديسيك"، يومًا فيومًا لا يفكرون في شيءٍ سوى كيف يعثرون رجال الكنيسة الذين لك ويسقطونهم في شرك[5]ٍ.
القديس جيروم
قَالُوا: هَلُمَّ نُبِدْهُمْ مِنْ بَيْنِ الشُّعُوبِ،
وَلاَ يُذْكَرُ اسْمُ إِسْرَائِيلَ بَعْدُ [4].
إن كان إسرائيل هنا يشير إلى الكنيسة بكونها إسرائيل الجديد، فإن العدو وهو عاجز عن إبادتها من العالم يعلن عما في قلبه "لا يُذكر اسم إسرائيل بعد" (مز 83: 4). هذا ما سيحدث عندما يستشهد النبيان في آخر الأيام، إذ قيل: "ويشمت بهما الساكنون على الأرض، ويتهللون ويرسلون هدايا بعضهم لبعض" (رؤ 11: 10).
لن يطلب العدو أقل من أن يبيدوا شعب الله تمامًا ولا يعود لهم ذكر بعد.
* "يقولون: هلم نحطم أمتهم"... كما أن هيرودس وبيلاطس - كمثالٍ - اللذين كانا عدوين صارا في سلامٍ معًا لاضطهاد المسيح، وصارا أكثر رعبًا في صداقتهما عما كانا عليه في عداوتهما، هكذا الهراطقة مختلفون فيما بينهم في شرورهم، يتحالفون معًا لممارسة شرٍ أعظم[6].
القديس جيروم
لأَنَّهُمْ تَآمَرُوا بِالْقَلْبِ مَعًا.
عَلَيْكَ تَعَاهَدُوا عَهْدًا [5].
يتحالف الأعداء معًا حتى يصيروا كمن لهم قلب واحد، وغاية واحدة، هي إبادة شعب الله. كما فعلت كل القيادات ضد السيد المسيح.
يرى القديس أغسطينوس أن الأشرار المقاومين لكنيسة الله يقيمون فيما بينهم عهدًا ليكونوا أكثر قوة، يحملون روح الوحدة في الشر.
* "تآمروا بذهنٍ واحدٍ معًا". يا لنا من خلائق تعيسة، شعب الله غير السعيد، إذ لا يمكننا أن نتحد معًا حسنًا كما يتحالف صانعو الشر في الشر[7].
* "عليك تعاهدوا عهدًا". لقد تكلمت معنا خلال الأنبياء؛ وهؤلاء خلال ماني ومرقيون وآريوس وفالنتينوس[8].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. أسماء المتحالفين

خِيَامُ أَدُومَ وَالإِسْمَاعيلِيِّينَ.
مُوآبُ وَالْهَاجَرِيُّونَ [6].
يذكر المرتل هنا أسماء الأمم المقاومة للكنيسة. ويرى القديس جيروم أن عدد الأمم المقاومة لله هو 11، إذ لا يقدرون البلوغ إلى رقم 12 رقم الكمال. وكما سبق أن أشرنا في مواضع كثيرة أن رقم 12 يشير إلى مملكة الله على الأرض، حيث يؤمن البشر في أربعة جهات المسكونة (رقم 4) بالثالوث القدوس (رقم 3)، فالمحصلة لضرب رقمي 4,3 هي 12.
يرى كل من القديس أغسطينوس والقديس جيروم أن اسم كل أمة منها يشير إلى طبيعة المقاومين وقد جاء التفسير يكاد يكون متقاربًا، لهذا فضلت تقديم تفسير يضم ما ورد في الاثنين منعًا من التكرار:
أ‌. الأدوميون، وتفسيرهم "رجال الدماء" أو "رجال الأرض". قيل: "خيام أدوم" إذ لا يعيش الأدوميون في بيوت ثابتة لها أساسات، إنما في خيامٍ تتحرك بسهولة من موضع إلى موضعٍ.
ب‌. "الإسماعيليون" ومعناها "الذين يسمعون لأنفسهم، ويتظاهرون أنهم يسمعون لله. يمثلون من هم ناموس لأنفسهم، يخضعون لشهواتهم الشريرة. وكما جاء في حزقيال: "يا ابن آدم، تنبأ على أنبياء إسرائيل... هم أنبياء من تلقاء ذواتهم... ويل للأنبياء الحمقى الذاهبين وراء روحهم ولم يروا شيئًا" (حز 13: 2-3).
ج. "موآب" أي من الآب، هذا الذي ولد كثمرة علاقة بين لوط (الأب) وابنته، أي علاقة غير شرعية، وغير مقدسة.
* "خيام أدوم والإسماعيليين". ما أن نترك المفهوم التاريخي العادي ونلتزم بأسلوب التفسير السامي، التفسير الرمزي، ففي الحقيقة ببساطة يتحدث اليهود عن أمم أخرى يناضلون ضدهم، ليكن هذا، لكن هذا يحدث معنا خلال الرمز. إسرائيل هوجمت، ونصرتها هي نفع لنا. لنتأمل من هم الأعداء الذين يحاربون ضد الكنيسة.
"خيام أدوم"، ترجمة كلمة "أدوم" هي "الأرضي".وكلمة"خيام"تعبَّر حسنًا، لأن الأدوميين ليس لهم أساسات ثابتة، وليس لهم بيوت، وإنما لهم خيام فقط، مساكنهم ليست ثابتة، وإنما دائمًا مؤقتة.
"خيام أدوم والإسماعيليين". معنى الإسماعيليين "لهم مظهر المستمعين"... فهم لا يبالون بالله، بل يعبرون عنه...
اسم "موآب" معناه "من الأب". إنهم ليسوا في الأب بل من الأب، لأنهم هجروا أباهم الأول.
"الهاجريون" هؤلاء الذين كانوا قبلًا مواطنين وصاروا بعد ذلك غرباء. لم يعودوا بعد أهل البيت بل غرباء. الغرباء في الحقيقة يهاجمون بيت أبيهم[9].
القديس جيروم
جِبَالُ وَعَمُّونُ وَعَمَالِيقُ.
فَلَسْطِينُ مَعَ سُكَّانِ صُورٍ [7].
هـ. "جِبال": وهي جزء من أدوم شرق البحر الميت. معناها وادي عقيم بلا ثمر أو فارغ. فإن "جي" معناها وادي، و"بال" معناها فارغ. فإن أعداء شعب الله ليسوا من الجبال، وإنما من الوادي العقيم.
و."عمون" أي "شعب غير هادئ" ، أو "شعب الحزن".: تشير إلى شعب مرتبك يضعون ثقتهم في الغوغاء وليس في الإيمان الأبناء الحقيقي.
ز. "عماليق" أي "شعب يلحس" الأرض، فإن أعداء شعب الله لا يأكلون الخبز السماوي، بل يلحسون الأرض كالحية.
ح. "فلسطين"، معناها يموتون من الجفاف السام، الذين يشربون من كأس الشيطان المُسكر. وفي اللاتينية تعني "جنس غريب"، ويرى القديس أغسطينوس أنها تعني من يسكر بسبب الترف في الأمور العالمية.
ط. "صور" يرى القديس أغسطينوس أنها تعني "ضيق" أو "ضيقة". وكما يقول الرسول: "شدة وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر" (رو 2: 9).
* "جبال" معناها وادي قفر. أعداء الكنيسة ليسوا من الجبال، وإنما من الوادي. حكمتهم ليست من فوق بل من أسفل. إنهم ليسوا من السماء بل بكاملهم من الأرض.
يخصص الكتاب المقدس واديًا فارغًا، إذ يوجد وادي غير فارغِ. الإنسان المتواضع الذي يضحي بكل ما لديه من أجل المسيح، هو وادي وحقل، ليس بمقفرٍ بل مثمر.
"عمون" تنطبق بالتأكيد على الشعب المخادع، يشير إلى الهراطقة، إذ هم ليسوا أتباع القائل: "أنا هو الحق" (يو 14: 6)، بل ذاك الذي هو رئيس الكذب.
"عماليق" تُفسر: "يلحس". إنهم لا يتركون شيئًا للكنيسة، بل يلحسون كل أساسها. إنهم لا يقتاتون بكلام الكتاب المقدس، إنما يلحسون الأرض مثل الحية[10].
* "غرباء (فلسطين) مع سكان صور". إنما نجد كلمة غرباء alienigenae، فإن النص العبري هو Phelistim، ويترجم "كوب من السم"، لأن الهراطقة جميعًا يشربون من كأس بابل، التي يقول عنها إرميا: "بابل كأس ذهب تسكر كل الأرض" (إر 51: 7). لاحظوا "بابل كأس ذهب". بابل تشير إلى الارتباك (بلبلة)، "كأس ذهب حقيقي"، تعاليم الفلاسفة وبلاغة الخطباء. من بالحقيقة لم يضله الفلاسفة؟ من لم يخدعه خطباء هذا العالم؟ لهم كأس ذهبي، سمو البلاغة من الخارج، ومن الداخل مملوء سمًا، الذي لا يقدرون أن يخفوه إلا ببريق الذهب. إنكم تذوقتم عذوبة بلاغتهم، لتتأكدوا ولا تتشككوا في السم القاتل.
"غرباء مع سكان صور". "صور" تقف في مكان "الضيق narrowness". بالحقيقة لا يوجد هناك مكان، لا يوجد القلب المتسع للمسيح، كما يقول الرسول لأهل كورنثوس: "لستم متضيقين فينا، بل متضيقين في أحشائكم" (2 كو 6: 12)[11].
القديس جيروم
أَشُّورُ أَيْضًا اتَّفَقَ مَعَهُمْ.
صَارُوا ذِرَاعًا لِبَنِي لُوطٍ. سِلاَهْ [8].
مساندة أشور لموآب وعمون يؤكد أن المزمور كُتب قبل أن يصير أشور إمبراطورية عظيمة.
الأشوري هو نبوخذنصر عدو الله الذي قاد شعبه إلى الأسر، وهو يشير إلى الشيطان الذي يطلب أن يأسر أولاد الله.
* الآن أشور غالبًا ما تُستخدم رمزيًا عن الشيطان الذي يعمل في أبناء المعصية (أف 2: 2)، كما في آنيته، لكي يقاوموا شعب الله[12].
القديس أغسطينوس
* "أشور أيضًا اتفق معهم". الآخرون سبقوهم، وهؤلاء تبعوهم. لننظر من هم هؤلاء التابعين!
يرمز "أشور" للشيطان، فإنه ليس من شك في مكره وانتقامه، كما هو مكتوب في المزمور 8: "لتحطيم عدوٍ ومنتقمٍ" (راجع مز 8: 2). إنه هو الذي يجعلنا نخطئ، وهو الذي يتهمنا لكي نُعاقب. "أشور أيضًا اتفق معهم". الشيطان هو رئيسهم، وقائدهم؛ وليس يسوع الملك البار هو حاكمهم، وإنما أشور.
"صاروا ذراعًا (القوة العسكرية) لبني لوط".
"لوط" معناها "يتحول عن" الله. وذلك كما فعل اليهود، إذ يشترك الهراطقة مع اليهود في التجاديف[13].
القديس جيروم
يرى القديس أغسطينوس أن بني لوط تعني "أبناء الانحطاط" أو "أبناء الانحدار".
* الملائكة المرتدون يُفسرون بالحق أنهم ملائكة منحدرون، لأن بانحدارهم عن الحق مالوا ليصيروا أتباع الشيطان. هؤلاء قال عنهم الرسول: "فإن مصارعتكم ليست مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (راجع أف 6: 12). هؤلاء الأعداء غير المنظورين (الروحيين) يعملون بواسطة غير المؤمنين، يعملون فيهم لمقاومة شعب الله[14].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. توسل للخلاص

اِفْعَلْ بِهِمْ كَمَا بِمِدْيَانَ كَمَا بِسِيسَرَا،
كَمَا بِيَابِينَ فِي وَادِي قِيشُونَ [9].
مديان وسيسرا ويابين، هؤلاء الثلاثة فسدوا على الأرض وصاروا مثل الروث.
"مديان" ، يعني من هو متهاون بالحكم. محاربو شعب الله لا يبالون بالدينونة أو الحكم القادم.
سيسرا تُفهم بمعنى "رؤية حصان". أعداء شعب الله ليسوا من قطيع الله بل هم اتباع عدو الخير الثائرين بجنون.
يابين معناها تمييز الذين يتكلون على حكمتهم وليس على مجد الله يفسدون على الأرض مثل الروث.
يبدأ هنا بصلاة نبوية، كما يقول القديس أغسطينوس فهو يسبق فيخبر بما سيحل بهم أكثر منه يلعنهم. هذا ويرى في الأسماء الواردة هنا معانٍ رمزية بجانب أنها حقائق تاريخية، فيقول: ["مديان" تفسيرها "حكم فاسد". "سيسرا" معناها "توقف عن الفرح". "يابين" معناها "حكيم". ولكن يفهم بهؤلاء الأعداء الذين هزمهم شعب الله الإنسان الحكيم الذي يقول عنه الرسول: "أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر" (1 كو 1: 20)[15].]
بَادُوا فِي عَيْنِ دُورٍ.
صَارُوا دِمْنًا لِلأَرْضِ [10].
* الذين يتشامخون بجيشهم، ملكهم هو الأشوري، الذي اعتاد أن يفتخر، قائلًا: "أصعد إلى السماوات" (إش 14: 13)، ليس فقط يقطعون على الأرض إنما على الأرض يصيرون روثًا[16].
القديس جيروم

اجْعَلْ شُرَفَاءَهُمْ مِثْلَ غُرَابٍ، وَمِثْلَ ذِئْبٍ.
وَمِثْلَ زَبَحَ وَمِثْلَ صَلْمُنَّاعَ كُلَّ أُمَرَائِهِمُ [11].
أهلك الرب جيش المديانيين، وقد سقط غراب قتيلًا على صخرة غراب، وسقط ذئب قتيلًا على معصرة ذئب. لقد تباهوا أن يشبّهوا أنفسهم بالغربان والذئاب، فبات مصيرهم كمصير الجوارح والوحوش المفترسة. تحصّن زبح وصلمناع وتبعهما جدعون وأمسكهما ثم قتلهما. فإذ قام الرب تبدد كل أعدائه "يبيد المناص عن السريع، والقويٍ لا يشدد قوته، والبطل لا يُنجي نفسه" (عا 2: 14).
* غراب Oreb هو الجفاف، وذئب Zeb أي الذئب wolf، وزبح Zebee أي ضحية للذئب... وصلمناع أي ظل الهياج. كل هؤلاء يتناسبون مع الشرور التي يغلبها شعب الله بالصلاح. علاوة على هذا فإن "قيشون"، أي السيل الجار الذي فيه غُلبوا، يعني قسوتهم. "عين دور" التي فيها بادوا تعني "ينبوع التجديد" حيث يُزال الميلاد الجسدي ويُباد، إذ لم يهتموا بالميلاد الذي يقود إلى الحياة، هناك لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون، ولا يموتون بعد.
بحق قيل عن هؤلاء: "اجعلهم مثل روث الأرض (الجل)، فلا ينتجون شيئًا بل ثمر الأرض".
إذ هذه جميعها رموز يهزمها شعب الله، لذلك يصلي (المرتل) أن هؤلاء الأعداء الآخرين يُهزمون في الحق[17].
القديس أغسطينوس
الَّذِينَ قَالُوا: لِنَمْتَلِكْ لأَنْفُسِنَا مَسَاكِنَ اللهِ [12].
غاية أمراء أو رؤساء هؤلاء الأعداء أن يقتحموا هيكل الله ومسكنه فينا. فالعدو الشرير لن يكف عن المقاومة حتى يقيم نفسه إلهًا في قلوب البشر.
* "الذين قالوا لنمتلك لأنفسنا مساكن الله". لقد تخيلوا في أنفسهم أنهم رجال الكنيسة، مدعين هذا من أنفسهم[18].
القديس جيروم
يَا إِلَهِي اجْعَلْهُمْ مِثْلَ الْجُلِّ،
مِثْلَ الْقَشِّ أَمَامَ الرِّيحِ [13].
يصير المقاومون لله كالتبن الخفيف الذي يظل طائرًا مع الريح ولا يستقر له قرار.أما الذين يلتصقون بكلمة الرب فيثبتون إلى الأبد. الذين يعادونه يكونون كالعصافة التي تذريها الريح (مز 1: 4).
الجل: التبن الناعم الخفيف، أو رؤوس نبات الخرشوف البري الخفيف كالريش، والذي ينفصل عن السيقان في فصل الخريف ويتطاير أمام الريح.
* "يا إلهي أجعلهم مثل العَجَلَة wheel". ليته لا يكون لهم استقرار في ذواتهم، ليكونوا دومًا غير مستقرين، فلا يكون لهم مركز ثابت، إنما يكونون دائمي الحركة، يتدحرجون إلى خلف فصاعدًا. كما أن العَجَلَة ليست ثابتة في ذاتها، ولا راسخة، هكذا لا يثبت الهراطقة في تعاليهم وآرائهم، وإنما دائمًا يغيرونها.
"مثل القش أمام الريح": طلبات المرتل هي إحدى عشر عقوبة ضدهم، إذ أنكروا قانون الإيمان الذي للأحد عشر رسولًا[19].
* "يا الله اجعلهم مثل عجلة" [13]. لاحظ مراحم النبي، فإنه لا يصلي ضدهم بل لأجلهم. انظروا ماذا يقول: "إلهي الذي هو إله الجميع، أنت هو إلهي الخاص، اجعلهم يا إلهي مثل عجلة. هؤلاء الذين وضعوا أساساتهم في الخبث، اجعلهم بلا أساسات نهائيًا، فيتدحرجون هنا وهناك ولن يثبتوا قط في خبثهم[20].
القديس جيروم
كَنَارٍ تُحْرِقُ الْوَعْرَ،
كَلَهِيبٍ يُشْعِلُ الْجِبَالَ [14].
كثيرا ما تعاني الجبال المكسوّة بالغابات باشتعال حرائق هائلة، كما يحث في بعض غابات الولايات المتحدة الأمريكية التي تكتسح آلاف الأفدنة، وتستمر أحيانًا لأيام كثيرة.
نار الروح القدس تلهب القلب بالحب، أما نار الشر فعلامة اللعنة (عب 6: 8). "تصير الشعوب وقود كلس أشواكًا مقطوعة تحرق بالنار" (إش 33: 12).
يرى القديس أغسطينوس أن النار واللهيب هنا يشيران إلى حكم الله بمعاقبة الأشرار.
* كلهيبٍ يشعل الجبال"، ليحترق الكبرياء الذي فيهم[21].
القديس جيروم
* لقد أشعلوا لأنفسهم نار الغضب والشهوات الجسدية، فلتشتعل فيهم وتضرمهم النار. هذا ما قد تحرر في الأصحاح الخمسين من نبوة إشعياء النبي حيث يقول الله: "يا هؤلاء جميعكم القادحين نارًا، المتنطقين بشرارٍ، اسلكوا بنور ناركم، وبالشرار الذي أوقدتموه" (إش 50: 11).
الأب أنثيموس الأورشليمي
هَكَذَا اطْرُدْهُمْ بِعَاصِفَتِكَ،
وَبِزَوْبَعَتِكَ رَوِّعْهُمُِ [15].
يقول أيوب البار عن نصيب الشرير: "الأهوال تدركه كالمياه، ليلًا تختطفه الزوبعة، تحمله الشرقية فيذهب، وتجرفه من مكانه" (أي 27: 20- 21).
"وبزوبعتك روعهم": عذاب الشياطين أنهم يرتعدون دائمًا. هذا ما أصاب الجيوش التي هاجت على يهوشفاط. أُصيبت بالرعب، وطردهم الرب أمامه. هكذا يدافع الرب عن شعبه ويحميهم.
* "هكذا اطردهم بعاصفتك"... لم يقل المرتل "اقتلهم"، بل "اطردهم" حتى يرجعوا إليك[22].
القديس جيروم
امْلأْ وُجُوهَهُمْ خِزْيًا،
فَيَطْلُبُوا اسْمَكَ يَا رَبُّ [16].
إذ يحل بهم الرعب يسقطون في الخزي من عداوتهم لله ولشعبه (إش 26: 11). يخزون من حماقتهم أنهم وقفوا أمام القدير ضابط الكل. أما غاية هذا كله فهو خلاصهم لا هلاكهم، إذ يقول: "دعهم يخافون اسمك لكي يطلبوا اسمك".
يقولالقديس أغسطينوس: [إنني أتجاسر فأقول إنه خير للمتكبرين أن يسقطوا في عصيان واضح مشهور حتى يحزنوا في نفوسهم، لأن سقوطهم هو بسبب فرحهم بذواتهم. فبطرس كان في حالٍ أفضلٍ حين بكى وهو غير مكتفٍ بذاته عما كان عليه حين كان متجاسرًا معتدًا بذاته. هذا ما أكده المرتل الطوباوي بقوله: "املأ وجوههم خزيًا، فيطلبوا اسمك يا رب" (مز 83: 16)[23].]
كما يقول القديس أغسطينوس إن هذه النبوة وإن أعلنت مقدمًا ما يحل بهؤلاء الأعداء من خزي إلا أن بعضًا منهم سيرجعون إلى الرب ويطلبون اسمه قبل مجيء اليوم الأخير للدينونة.
* "املأ وجوههم خزيًا"، وليس بالعقوبات. لماذا لا تهلكهم؟ تقدم كلمات الوحي الإجابة: "فيطلبوا اسمك يا رب". فإنهم إذ يطلبون يجدون، هؤلاء الذين ضللهم الهراطقة يرجعون إلى الرب[24].
القديس جيروم
لِيَخْزُوا وَيَرْتَاعُوا إِلَى الأَبَدِ،
وَلْيَخْجَلُوا وَيَبِيدُوا [17].
إن لم يرجعوا إلى الله بالتوبة، ويطلبوا اسمه يبادون. لا يبقى أمامهم سوى العار والخزي مع الرعب الأبدي (دا 12: 2).
ليس أمام الأشرار الخيار سوى الرجوع إلى الله أو الهلاك الأبدي. ليس من طريق وسط بين الاثنين: مملكة الله أو مملكة الظلمة.
بعض الأعداء يُصرون على عداوتهم فيخزون إلى الأبد، وآخرون يرجعون إلى الرب.
* "ليخجلوا ويبيدوا". فإن من يخجل من خطاياه يقترب من عدم الخطأ... ليتهم يبيدون كهراطقة - يقول المرتل - فيخلصون كرجال الكنيسة. وذلك تمامًا كأن تقول: ليهلك الزاني، ليس لأنك تتمنى للشخص غير الطاهر الهلاك، بل أن يتحطم الزنا فيه، فيخلص الزاني. يخلص لا كزانٍ، بل كبارٍ وطاهرٍ[25].
* لاحظوا أن هذا الدمار لا يعني الفناء بل الخلاص ماذا بعد ذلك: "ليعلموا أنك اسمك يهوه، وحدك العلي على كل الأرض" [18]. ليت ذاك الذي يريد أن يتشامخ ينتفخ، أما نحن فنقول: "أنت وحدك العلي على كل الأرض". لا يشغلنا إلى أي مدى يتشامخ الشخص، فإن لدينا الله الذي هو رب الكل[26].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
5. النصرة لمجد الله
وَيَعْلَمُوا أَنَّكَ اسْمُكَ يَهْوَهُ،
وَحْدَك الْعَلِيُّ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ [18].
كما حدث مع يهوشفاط، فبقدر ما تحالفت الأمم والشعوب ضد شعب الله، تجلّى الله وظهر أنه هو يهوه الحاضر وسط شعبه، العليّ وحده على كل الأرض.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه يليق بنا أن نسبح الله ونشكره من أجل أعماله العجيبة، ليس عندما يخلصنا من الشرور بل وحينما يسمح لنا بالمتاعب والضيقات التي نحسبها شرورًا: [لنشكر الله على كل شيءٍ، ليس فقط عندما يخلصنا من الشرور، بل وأيضًا عندما نعاني من تلك الشرور[27].]
* لكي تعرفوا أن تفسيرنا صادق يتحدث الروح القدس: "ليخجلوا ويبيدوا". بأية طريقة يبيدوا؟ "لكي يطلبوا اسمك يا رب" (83: 16). ليبيدوا في الخطأ ويخلصوا في الحق. فإنك "وحدك العلي على كل الأرض". ليس تجمعات الهراطقة، ليس الأرواح الشريرة، وأيام فلانتينوس التي لا تُعد، ولا باسيليدس الذي ادعى وجود 365 إلهًا ولا جموع الآلهة الباطلة التي بلا عدد، وإنما "وحدك العلي على كل الأرض"، الذي لك المجد إلى أبد الأبد[28].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 83

من يسندنا سواك؟!


* إذ أرى قوات الظلم تتكاتف ضد كنيستك،
تصرخ أعماقي إليك:
إلى متى تصمت؟ إلى متى تهدأ؟
هوذا الأعداء يتآمرون، ويعجون ضدك!
وضعوا في قلوبهم أن يحطموا كنيستك،
وينزعوا اسمك القدوس.
تآمروا معًا، وتعهدوا ألا يهدأوا
حتى يحققوا ما في قلوبهم.
* ليرجعوا إلى التاريخ،
ففي عبر الأجيال لم تهدأ حرب الأشرار.
تشامخوا عليك،
فصاروا كالقش أمام لهيب النار.
* نعترف لك، أننا نحبهم كما تحبهم أنت!
لتملأ وجوههم خزيًا، فيرجعوا إليك.
عوض مقاومتك، يلتصقون بك.
عوض العداوة يتمتعون بالمصالحة!
فيتمجد اسمك في كل الأمم!
وتسبحك الأرض كلها!
  رد مع اقتباس
قديم 18 - 02 - 2014, 03:53 PM   رقم المشاركة : ( 86 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 84 (83 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
السكنى في بيت الرب



واضع هذا المزمور غالبًا داود النبي، وهو تسبحة رائعة بخصوص الاشتياق نحو السكنى في بيت الرب، أو حتى الوقوف على عتبة بيت الرب كبوّابين له.
كان بنو قورح يتغنون بهذا المزمور المفرح. حقًا لقد حلّ غضب الرب على أبيهم قورح ومعه داثان وأبيرام وجماعتهم، لتمردهم وتعدِّيهم على العمل الكهنوتي، فانشقت الأرض وابتلعتهم (عد 16: 9-11). لكن نسل قورح كانوا كبوَّابين على خيمة الاجتماع (1 أي 9: 19؛ 26: 1-19).
وقد جاء اسمهم كبني قورح على عشرة مزامير 44-48؛ 84-88، وكلها مزامير تتسم بالفرح، دون أية إشارة إلى حزن. فقد اختبروا عذوبة خدمة بيت الرب، ولو وقفوا كبوابين على الأبواب. تذوقوا حلاوة الشركة مع الله.
هذه المزامير تفتح أبواب الرجاء أمام الجميع، فإن كان لنا أب أو جد أو آباء أو أمهات تمردوا على الرب، فإن الله لن يحاسبنا على أخطائهم، بل يقدم لنا تعزيات سماوية إن سلكنا في طريقه.
يرى البعض أن هذا المزمور وضعه المرتل ليتغنى به العاجزون عن الذهاب إلى بيت الرب بسبب قهري كالمرض. فقد طُلب من اليهود أن يصعدوا إلى أورشليم ثلاث مرات سنويًا في أعياد الفصح والبنطقستي والمظال. فمن يعجز عن الصعود لسبب قهري، يعلن بهذا المزمور شوقه للذهاب إلى بيت الرب، والوقوف على عتبته.
يرى المرتل في السكنى في بيت أو الاشتياق إلى السكنى فيه انطلاق النفس بالحنين نحو أورشليم العليا، مدينة الله.
يعلن المرتل ثلاثة أنواع من التطويبات:

1. بركة السكنى في بيت الله
1-4.
2. بركة الشوق للسكنى
5-7.
3. بركة الاتكال على الله
8-12.
من وحي مز 84
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

يعلق القديس جيرومعلى العنوان "لبني قورح" موضحًا أنهم رمز لأبناء القيامة الذين يختبرون عربون الحياة الأبدية في المسيح يسوع القائم من الأموات.
* سأقدم لكم قاعدة بها تعرفون كيف تتطلعون إلى الكتاب المقدس. أي مزمور نجد في عنوانه "لبني قورح" يكون دائمًا مفرحًا دون أية إشارة إلى الحزن. فبينما عوقب قورح وداثان وأبيرام بواسطة الرب بسبب تذمرهم على موسى (عد 16)، نجد أبناء قورح الذين لم يشاركوا أباهم تمرده، كانوا مطوَّبين بفرحٍ أبديٍ. علاوة على هذا فإن اسم قورح يعني الجلجثة [الجمجمة]، وواضح أنه يرمز إلى موضع القيامة. فمن هو ابن لقورح يكون ابنًا للقيامة. ابن القيامة لن يمكن أن يكون حزينًا[1].
القديس جيروم
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى الْجَتِّيَّةِ. لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورٌ
"الجتية" يُقصد بها آلة موسيقية تشبه القيثارة، وربما تعني لحنًا موسيقيًا كان يستخدم في مدينة جت الفلسطينية.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. بركة السكنى في بيت الله

مَا أَحْلَى مَسَاكِنَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ [1].
كان المؤمنون في العهد القديم يشتهون ديار الرب، فكل كيانهم الداخلي والخارجي، أي قلوبهم كما أعضاء أجسادهم تتهلل ببيت الرب، حيث يشتهي المؤمن أن يسكن مع الرب أبديًا. وفي العهد الجديد، وهبنا الآب أن يقيم منّا هيكلًا لروحه القدوس مبنيًا على الصخرة (مت 7: 21-29)، أي مسيحنا صخر الدهور، فتصير أعماقنا مقدسات فائقة!
يميز القديس جيروم بين ثلاثة مساكن: خيام (مساكن) الرب [1]، وديار الرب (الساحات) [2]، وأخيرًا بيت الرب [3]، فالمؤمن يجد عذوبة أو حلاوة في خيام الرب وإن كانت مؤقتة متحركة وبلا أساسات، ثم ينتقل إلى ديار الرب التي لها أيضًا أساسات، وأخيرًا يدخل بيت الرب.
* ما أحلى مساكنك (خيامك) يا رب الجنود [1]. الطموح الوحيد لبعض الناس هو أن يقتنوا ممتلكات، وآخرون أن يغتنوا بثروة العالم، بينما آخرون يرغبون في نوال مراكز سامية في الاجتماعات، ويكونون مرموقين بين البشر. أما بالنسبة لي فلي اشتياق واحد فقط، وهو أن أرى مساكنك الأبدية. بالنسبة لي هذه هي المساكن المحبوبة حيث يحتشد فيها الطاهرون لا الفاسدون. "تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب" [2]. هذه هي شهوتي الوحيدة، هذا هو حبي الوحيد، أن أرى ديارك. لاحظوا الترتيب، أولًا يشتاق إلى الخيام (المساكن) التي بلا أساس ويمكن نقلها بسهولة. فالخيمة دومًا تتحرك، ويمكن طيّها وحملها هنا وهناك. أما الديار (الساحات) فمن الجانب الآخر، مع أنها بالتأكيد ليست بيوتًا، لكن لها نوع من الأساس، من الدار (الساحة) ندخل في البيت. مرتلنا إذن يشتاق أولًا إلى الخيمة، وبعد ذلك يشتاق جدًا مع الحب أن يرى ديارك، وإذ يكون في ديارك، يصرخ: "طوبى للساكنين في بيتك" [4][2].
* "ما أحلى مساكنك يا رب الجنود!" هذه إذن هي المخازن التي فيها تكتنز الحنطة الروحية. "اصنعوا لكم أصدقاء من مال الظلم حتى يقبلوكم في المساكن الأبدية" (راجع لو 16: 9). "ما أحلى مساكنك يا رب الجنود!"... خلالها يحول الإنسان إقامته من الأرض إلى السماء![3]
القديس جيروم
* هذا القول من قبل الأسرى الذين كانوا في بابل، إذ كانوا مشتاقين إلى الرجوع إلى أورشليم حيث كان هيكلهم. وأما الأصح فهو كأنه صادر من قبل الذين آمنوا بالمسيح وهم يشتاقون إلى الكنائس والهياكل الموجودة في بلاد المسكونة قاطبة التي هي ديار الرب ومذابحه، يشتاقون إليها بالقلب والجسم مبتهجين.
الأب أنثيموس الأورشليمي
تَشْتَاقُ بَلْ تَتُوقُ نَفْسِي إِلَى دِيَارِ الرَّبِّ.
قَلْبِي وَلَحْمِي يَهْتِفَانِ بِالإِلَهِ الْحَيِّ [2].
أينما وجد الإنسان غالبًا ما يعاني من الصراع بين اشتياقات الجسد واشتياقات الروح؛ يشعر كأن معركة قد ثارت في أعماقه بين شهوات الاثنين. أما إذا دخل الإنسان إلى بيت الرب تحت مظلة روحه القدوس، فتتحول المعركة إلى انسجام رائع. ترتوي النفس من ينابيع حب الله، ويتهلل الجسد بكل كيانه.
* مثمران وسعيدان هما العقل والقلب اللذان يمتلئان نهارًا وليلًا بالشوق نحو مسكن الرب! عندما يحل الموت بالخاطي لا يكون فكره مشغولًا بهذا المسكن، بل بالعقوبات. إنه لا يتأمل في ملكوت السماوات، وإنما في رعب لهيب جهنم...
انظروا مدى الحب والشوق اللذين ينخسان نفس القديس بالشوق نحو ديار الرب.
ممتاز هو قول المرتل: إني أتأمل في المدخل، أما ما هو في الداخل فلست أعرفه.
"قلبي ولحمي يهتفان بالله الحي..." ها أنتم تلاحظون أن النفس والجسم يشتركان معًا في الشوق نحو ملكوت السماوات. لو كان بالحق الجسم ينحل وينتهي في أهواء ولا يقوم ثانية كما يظن الهراطقة، فكيف يمكن لجسم النبي أن يشتاق إلى ملكوت السماوات؟
"قلبي ولحمي" إذ يتألمان ويتعبان بالتساوي، فإنهما على قدم المساواة ينتظران المكافأة.
إن كان جهادهما مشتركًا، فلماذا لا تكون مكافأتهما مشتركة؟ أتوسل إليكم أن تنصتوا باجتهاد لما سأقوله. الجسم في العالم الحاضر يتعب أكثر من النفس، فإن النفس تأمر والجسم يخدم. تعب الخادم شيء ومباهج الآمر شيء آخر. النفس تتوق إلى الرب!
الجسد يصوم، إنه الجسم هو الذي يرقد على الأرض في البرد، وهو السجين، وهو الذي يُجلد عند الاستشهاد، ويُذبح، ويُشتم، ويُعامل بعنفٍ. والنفس أيضًا تتألم، لكن الألم لا يصل إليها إلا من خلال الجسم[4].
* "قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحيّ" [2] يصعب على جسم إنسان ونفسه أن يكونا في انسجام كامل. إنه بالحقيقة كما يقول الرسول أن الروح تقاوم الجسد، والجسد يقاوم الروح (غل 5: 17)، فماذا تعني الكلمات: "قلبي وجسدي يهتفان"؟ هذه الصلاة تصدر فقط من ذاك الذي نفسه ثابتة بالكامل في حب الله... إنه ذات الفكر الذي يعبِّر عنه مزمور آخر: "عطشت إليك نفسي، يشتاق إليك جسدي" (مز 63: 3). هذا هو الجسد الذي يشتاق إلى الرب، الذي كتب عنه في موضع آخر: "كل البشر يرون خلاص الله" (انظر لو 3: 6). أما الجسد الذي يقول عنه الكتاب: "كل بشر هو عشب" (إش 40: 6) فإنه لا يشتهي الرب[5].
القديس جيروم
* لأني سأدخل موضعَ الخيمة العجيبة، إلى بيت الله، بصوت الفرح والحمد، بصوت جمعٍ معيَّد واحد" (مز 42 :4). بكى (داود) بحق لأنه كان يسكن الأرض، بينما المظال السماوية تنتظره، حيث يدخل في الوقت المناسب إلى قدس القدير (قابل مز 84 :2، 3، 10)، وفي الحقيقة، فقد فضل وآثر ذلك الموضوع على كل ثروةِ مملكته، كما شهد هو قائلًا في نصٍ آخر: "واحدةً سألتُ من الرب، وإياها التمس أن أسكن في بيت الرب كلَ أيام حياتي، لكي أنظر إلى فرحِ الرب" (مز 27 : 4) وفرحُ الربِ في الكنيسة.
الكنيسة أيقونة السماويات وبعد أن يزول الظل حقًا، تظهر الأيقونة جلَّيةً (قابل عب 10 :1؛ كو 2 :17). والظل هو المجمع اليهودي. وفي الظل الناموس، لكن في الإنجيل الحق. لهذا فإن أيقونةَ الحق تسطع في نور الإنجيل، لهذا بكى المرتل بسبب تأجيل الخيرات التي امتلأت حتى الحافة كاملةً بالنعمة والفرح[6].
القديس أمبروسيوس
اَلْعُصْفُورُ أَيْضًا وَجَدَ بَيْتًا،
وَالسُّنُونَةُ عُشًّا لِنَفْسِهَا حَيْثُ تَضَعُ أَفْرَاخَهَا،
مَذَابِحَكَ يَا رَبَّ الْجُنُودِ مَلِكِي وَإِلَهِي [3].
لتطر نفسنا إلى بيت الرب، وتستقر أعماقنا في الأحضان الإلهية، وتلتهب قلوبنا بالحنين إلى البيت السماوي.
* يتحدث المرتل هنا مجازيًا: الطيور حرة، تطير في الجو كيفا تريد، ومع هذا تتذكر أعشاشها، وترجع إليها. لذلك إن كانت العصافير تطلب أعشاشها، فلماذا لا تطلب النفس البشرية مسكنها الذي أُعد لها بالرب؟
"مذابحك يا رب الجنود"... في الرؤيا شاهد يوحنا مذبح الرب الذي تحته نفوس الصديقين (رؤ 6: 9)... إنها تحت مذبح الله، لأنها قُدمت قربانًا في الاستشهاد من أجل المسيح، ذبيحة الرب المخلص استحقت أن تكون في السماء تحت المذبح[7].
* "العصفور أيضًا وجد بيتًا، والسنونة عشًا لنفسها حيث تضع أفراخها" [3]... أشتاق إلى موضعٍ للسكنى، إلى عشٍ لنفسي وجسمي. الطيور التي تطير هنا وهناك دون عائق، بعد طيرانها تجد موضعًا وعشًا لتستريح فيه، فكم بالأكثر لجسمي ونفسي أن يدبرا لهما موضع راحة![8]
* كما أن الطيور الطاهرة - كالعصفور والحمامة - تبني عششها في الأماكن العالية، هكذا فإن الخيام والساحات والبيوت (التي للرب) لا توجد على أرضٍ سفلية، وإنما في العلا في ملكوت السماوات[9].
القديس جيروم
* إننا نحن الذين من الأمم قبل تجسدك يا رب فكنا ضالين مثل عصفور لا عش له، كذلك كان معلمونا ذوو الألباب الحسنة. لكن الآن قد وجدنا مساكنك المحبوبة والجميلة، واتخذناها عشًا لنضع فيها أفراخنا، أي تلاميذنا الذين يفتحون أفواههم لكي يقتاتون من لذيذ خطاب أقوالك، يتناولون ذلك من المعلمين الذين هم نسور تقدمه إلى أفراخها، أي إلى تلاميذهم.
الأب أنثيموس الأورشليمي
طُوبَى لِلسَّاكِنِينَ فِي بَيْتِكَ،
أَبَدًا يُسَبِّحُونَكَ. سِلاَهْ [4].
ليس لنا من عمل في كنيسة الله مثل مشاركة السمائيين تسابيحهم الأبدية.
* "طوبى للساكنين في بيتك"، أي في الكنيسة، سواء الكنيسة الحاضرة، أو كنيسة الأبكار (عب 12: 23). "أبدًا يسبحونك". لاحظوا عمل الشهداء في السماء وعمل الملائكة. ما يفعلونه في السماء نقتدي به نحن على الأرض. عندما نُدعى للتسبيح بالمزامير ونتراخي في خدمتنا نستخف بتمجيدات الله[10].
* لاحظوا ماذا يقول المزمور بعد ذلك: "طوبى للساكنين في بيتك". إننا لا نقيم في خيام بل نرحل. وفي الساحات مهما طالت مدة بقائنا فيها، فإننا لا نبقى ساكنين فيها، وإنما نكون رُحَّل، نرحل من الساحة إلى البيت. عندما نأتي إلى البيت، ماذا يقول المرتل: "طوبى للساكنين في بيتك". البيت الذي له أساس، فإننا لا نرحل من ذاك البيت، وإن كنا نرحل من الساحة[11].
القديس جيروم
* لكي عندما تنتهي هذه الحياة لا نبحث لا عن الخبز الذي نجوع إليه، ولا نأخذ الأسرار المقدسة من على المذبح، لأننا سنكون هناك مع المسيح الذي نأخذ جسده الآن. ولا تحتاجون إلى الحديث إليكم بالكلمات التي أحدثكم بها الآن، ولا يُقرأ الكتاب المقدس عندما نرى ذاك الذي هو نفسه كلمة الله، الذي به صُنعت كل الأشياء، وبه تتغذى الملائكة، وبه تستضيء الملائكة، وبه تصير الملائكة حكماء دون حاجة للمناقشات المستمرة، بل يشربون من الكلمة الوحيد، ممتلئين من ذلك الذي به ينفجرون غير منقطعين عن التسبيح. لأنه يقول المزمور: "طوبى للساكنين في بيتك، أبدًا يسبحونك" (مز 84: 4)[12].
القديس أغسطينوس
* يقول النبي طوبى لا للذين يتمسكون بشرائع موسى، أعني بهم الذين اختتنوا، والذين يحفظون السبوت، والذين يقربون الذبائح والمحرقات، بل الذين يواظبون على مساكن الله التي هي الكنائس المسيحية المقدسة، لأن فيها يتكلم الروح القدس بواسطة الرسل والمبشرين والكارزين والأنبياء وفيها أيضًا يوجد كل نوعٍ من الأدوية للأمراض الروحية.
الأب أنثيموس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. بركة الشوق للسكنى

طُوبَى لأُنَاسٍ عِزُّهُمْ بِكَ.
طُرُقُ بَيْتِكَ فِي قُلُوبِهِمْ [5].
جاء في الترجمة السبعينية: "طوبى للرجل الذي نصرته من عندك. رتب مصاعد في قلبه".
* "طوبى للرجل الذي قوته هو أنت". بالحقيقة نحن نشتاق إلى خيامك، وساحاتك وبيتك، إنما لكي ننال شهوة قلوبنا التي ليست في طاقتنا. إنها لا تعتمد على قوتنا بل على عونك... الطوباويون الذين يجدون قوتهم في الرب، هم أولئك الذين يُرتبون أن يصعدوا درجة فدرجة. يبلغ القديسون إلى الأمور الصالحة أمامك يومًا فيومًا، غير مفكرين في الماضي...
الإنسان القديس يضع في قلبه الصعود، أما الخاطئ فيضع الانحدار. كما أن الإنسان المقدس يتقدم يومًا فيومًا، هكذا الخاطئ ينحدر يومًا فيومًا. طوبى للرجل الذي بكل قلبه يصعد الطرق الصاعدة[13].
القديس جيروم
* مغبوط هو الرجل الكامل الفطنة والذي يصون الرجولية، والذي لا يحدر هواه إلى الأرضيات العالميات. إنما يصعد بقلبه إلى فوق نحو السماء، ويفكر في الآخرة، فهذا تأتي نصرته من قبلك.
الأب أنثيموس الأورشليمي
يرى القديس مار أفرام السرياني[14] أن الكاروبين اللذين فوق التابوت يشيران إلى القس والشماس اللذين يخدمان جسد الرب ودمه... ينبغي عليهما أن يكونا في الطهارة وملازمة التقديس والخدمة بغير فتور، مثل الكاروبين اللذين قال عنهما النبي إنهما يسبحان ويقدسان بغير فتور (مز 83: 5).
* "طوبى لأناسٍ عزهم بك".إنها مسئوليتنا أن نقوم بالعمل، ودور الله أن يساعدنا. "يضع في قلبه أن يصعد على درجات". يتأمل كيف يصعد كل يوم ولا يزل. أما الخاطي فيضع في قلبه لا أن يصعد بل أن ينزل.
"يضع في قلبه أن يصعد على درجات"، إنه يخطط من أجل أعماله الصالحة، لكنه يترك النتيجة بالكامل لله. إنها مسئوليتنا أن نأخذ القرار، وهو الذي يحققه[15].
القديس جيروم
عَابِرِينَ فِي وَادِي الْبُكَاءِ،
يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعًا.
أَيْضًا بِبَرَكَاتٍ يُغَطُّونَ مُورَةَ [6].
يتساءل القديس جيروم لماذا يضعنا الله في ساحة صراع، ويجيب إنما لكي يهبنا بركات النصرة والإكليل، فننطلق من قوةٍ إلى قوةٍ.
* ليتنا نتأمل إلى لحظة في أننا في هذا الوادي. إننا لسنا على الجبل، لسنا في جنة عدن، لسنا في أعالي الفردوس، وإنما في أسافل الأرض، في الأرض التي حلت بها اللعنة والتي تُخرج شوكًا وحسكًا، طعام الحيات، والتي قيل عنها لآدم: "أنت تراب وإلى تراب تعود" (تك 3: 19). مادمنا نحن في وادي الدموع يلزمنا لا أن نضحك بل نبكي، إذ يقول الرب: "طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون" (لو 6: 21). فإننا حاليًا في وادي الدموع، وهذا العالم هو موضع البكاء، لا الفرح... العالم القادم هو عالم الفرح... هذا الموضع هو وادي الدموع، ليس فيه حال السلام أو الأمان بل هو ساحة صراع واحتمال[16].
* لنأخذ في اعتبارنا أين عيّن صعوده: "في وادي الدموع، في الموضع الذي يعينه" (مز 84: 6 LXX). نقرأ في سفر القضاة أنه عندما جاء الملاك وبشر بالتوبة للشعب، قائلًا: "أنتم تتركون الرب، فسيترككم الرب" (راجع قض 2: 4-5). بكى الإسرائيليون بصوتٍ عالٍ عند سماعهم التهديد، ودُعي ذلك الموضع "وادي البكاء" (بوكيم)... لنفهم وادي البكاء رمزيًا أنه هذا العالم، فإننا لسنا على الجبل، أي في ملكوت السماوات، وإنما في الوادي، في ظلمة هذا العالم. خلال الخطأ طُردنا من الفردوس مع آدم في وادي الدموع المنخفض حيث توجد التوبة والبكاء. "في وادي الدموع، في الموضع الذي يعينه".
ماذا يعني النبي؟ خلق الله هذا العالم كساحةٍ، فها نحن نجاهد ضد الشيطان، ضد الخطية، حتى ننال الإكليل في السماء.
لماذا أقام هذا الصراع؟
أما كان يمكن أن يخلصنا بدون الصراع؟
إنه كما لو كان قد أعطانا أن نكون سادة في النزاع، أعطانا مدرج (إستاد) فيه نصارع ضد الرذائل حتى نُكلل بعد ذلك باستحقاق، وليس كنائمين، وإنما كمجاهدين[17].
* بواسطة (الأسفار المقدسة) تفهمين لماذا في إطاعة الإنسان الأول لبطنه لا لله طُرد من الفردوس إلى وادي الدموع، ولماذا استخدم الشيطان الجموع ليحارب الرب نفسه في البرية (مت 4: 2-3(، ولماذا يصرخ الرسول: "الأطعمة للجوف، والجوف للأطعمة، والله سيبيد هذا وتلك" (1 كو 6: 13)[18].
القديس جيروم
"أَيْضًا بِبَرَكَاتٍ يُغَطُّونَ مُورَةَ": "مورة" أو "بلوطات مورة" موقع قريب من شكيم، غالبًا ما كان يتميز ببرك تقوم على مياه الأمطار. جاءت في بعض النسخ: " ببركات يكسبه المطر المبكر" أو "وباكورة الأمطار تغمرهم بالبركات".
يَذْهَبُونَ مِنْ قُوَّةٍ إِلَى قُوَّةٍ.
يُرَوْنَ قُدَّامَ اللهِ فِي صِهْيَوْنَ [7].
يرى القديس جيروم أننا في صراعنا هنا ننال قوة، لكي نتأهل إلى قوةٍ أعظم هناك. فمن لا يختبر حياة القوة هنا لا ينعم بها هناك.
* ما لم نكن هنا أقوياء لا نقدر أن نصير في قوة أعظم هناك. لا يقول المرتل: "من ضعفٍ إلى قوةٍ، وإنما من قوةٍ إلى قوةٍ. أتريد أن تكون رجل ثباتٍ هناك؟ إذن كن هنا أولًا هكذا. أتريد أن تتكلل هناك؟ حارب هنا...! من له قوة هنا، سيقتني القوة نفسه هناك (1 كو 1: 24)...
* ماذا يربح أولئك الذين يذهبون من قوةٍ إلى قوةٍ؟ ماذا تكون مكافأتهم؟ أنهم يرون إله الآلهة في صهيون (مز 84: 7 LXX). "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). المكافأة كافية للمنتصرين وهي وجه المسيح. المكافأة كافية للذين يحاربون! أن ترى الله هو الإكليل اللانهائي. "يرون إله الآلهة في صهيون". أي فرح، أي تطويب أن تنطلق من قوةٍ إلى قوةٍ وتنال رؤية المسيح كمكافأة لائقة![19]
* "يذهبون من قوة إلى قوة"؛ يحاربون هنا فيتقبلون بعد ذلك الإكليل. إنهم يتقدمون من قوةٍ إلى قوةٍ. لم يقل: "يذهبون من ضعفٍ إلى قوةٍ"، فإنهم إن لم يصيروا أقوياء هنا لن يكونوا أكثر قوة فيما بعد[20].
القديس جيروم
* إن إله الآلهة هو الله الحقيقي الذي يظهر متجسدًا ومنظورًا بأعين بشرية في صهيون، وهو يضع عهدًا وشريعة. فالذين يحفظونها يعوضهم واضعها ببركاتٍ، وينجحون نامين ومرتفعين من فضيلة إلى فضيلة، ومن قداسة إلى قداسة. وأما قوله من قوة إلى قوة، فمعناه من هذا العمر الزمني إلى الحياة الأبدية.
الأب أنثيموس الأورشليمي
* يُمتحن الإيمان بالتجارب، وحين ينتصر إنسان على التجربة ويثبت إيمانه، يأتي إلى تجربة أخرى، وهكذا ينتقل من تجربة إلى أخرى، وإذ يجتاز التجارب واحدة فأخرى، يُقال عنه إنه ينمو في الفضائل التي يمارسها واحدة تلو الأخرى. وبهذه الطريقة يتحقق ما كُتب: "يذهبون من فضيلة (قوة) إلى فضيلة (قوة)" (مز 84: 7 الترجمة السبعينية) حتى تبلغ النفس غايتها، أعنى تبلغ قمة الفضائل، و تعبر أنهار الله، وتنال الميراث الذي وعد الله به[21].
* إن لم تُملح النفس بالتجارب الدائمة، تصير في الحال ضعيفة وهشٌة. لذلك تأسس القول بأن كل ذبيحة تُلمح بملح (لا 2: 13)[22].
* التجربة في اعتقادي تعطي نوعًا من القوة والدفاع عن النفس، لأن التجارب تختلط مع الفضائل، حتى إنه ما من فضيلة تظهر لائقة أو كاملة دون التجارب[23].
العلامة أوريجينوس
* إنه من حق النفس أن تفرح لأنها وصلت إلى مركزٍ عالٍ أثناء صعودها إلى قمة رغباتها. ما هو أعظم من سعادة من يصل إلى رؤية الله؟ ولكن ما حققته هو بداءة لما تأمَّل فيه بعد ذلك. ومرة ثانية تسمع عريسها يشجع الصيادين لكي ينقذوا الكروم الروحية ويتعقبوا الحيوانات - هذه الثعالب الصغيرة - التي تُخرب الفاكهة. ومتى تحقق هذا يتحد العروسان: الله في النفس، والنفس مرة أخرى تسكن في الله. تقول العروس: "حبيبي لي، وأنا له، الراعي بين السوْسن"، هو نفسه الذي غيَّر الحياة الإنسانية من خيال الظلال إلى قمة الحق. لاحظ الارتفاع الذي صعدت إليه العروس، متقدمة من قوة إلى قوة كما يقول النبي (مز 84: 7)، وتظهر كأنها حصلت على قمة أمانيها. ما هو أعلى من أن تكون في المحبوب، ويكون هو في نفسك؟ تشعر العروس باضطراب وحزن، لأنها لم تحقق رغباتها وتظهر انزعاج نفسها عندما تصف كيف وجدت ما تبحث عنه[24].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص

* سأل إخوةٌ شيخًا: "قال أنبا أرساني: ’إن طلبنا الله نجده، وإن أمسكناه يثبت عندنا‘، فما معنى ذلك؟" فقال الشيخ: "يعني أن نحب الهدوء، ونثبت في الأعمال والجهاد والصلاة والتواضع، فتتنقّى قلوبنا، ونعاين المسيح كما هو مكتوبٌ: "يذهبون من قوةٍ إلى قوة" (مز 84: 7)، أي من عملٍ إلى عملٍ، ومن درجةٍ إلى درجة، حتى يظهر إله الآلهة في صهيون، وكما قال الطوباوي بولس إننا ننتقل "من مجدٍ إلى مجد" (2 كو 3: 18)، هذا إن كنا نتمسّك به".
فردوس الآباء
* بمجرد أن يبلغ الأطفال في رحم أمهاتهم إلى الطور الكامل على أساس إنقاص الغذاء إلى حدٍّ بعيد، يكونون قد بلغوا إلى هذه الحالة الصحية المتقدِّمة. هكذا أيضًا الأبرار، فإنهم يعتزلون من الحياة الدنيوية إلى رحلة الصعود حسب المكتوب: "يذهبون من قوةٍ إلى قوة" (مز 84: 7). ومن الناحية الأخرى، فإنّ الخطاة يُسلَّمون "من ظلمةٍ إلى ظلمة" مثل الجنين الذي مات في رحم الأمّ. إنهم أموات على الأرض من الناحية الفعلية، مخنوقون من خطاياهم المتعدِّدة، وبمجرد أن يؤخَذوا من هذه الحياة يُقادون إلى أماكن الظلمة والجحيم.
إننا قد وُلِدنا للحياة ثلاث مرات: أولها هو العبور من رحم أمّهاتنا حيث جيء بنا من ترابٍ إلى تراب. والولادتان الباقيتان تقوداننا من التراب إلى السماء: فالأولى منهما هي بالنعمة التي تأتينا في المعمودية المقدسة، ونحن نسمي هذه الولادة بالصواب "ولادة ثانية”. أمّا الولادة الثالثة فهي تُمنَح لنا كنتيجة لتغييرنا وأعمالنا الصالحة. ونحن حاليًا في هذه المرحلة الثالثة.
القديسة الأم سنكليتيكي
* في الماضي (خلال الناموس) ينغرس الرعب في أذهان غير المؤمنين. فيما بعد (خلال الإنجيل) عطية البركات تنسكب على المؤمنين[25].
الأب خروماتيوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. بركة الاتكال على الله

يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ اسْمَعْ صَلاَتِي،
وَاصْغَ يَا إِلَهَ يَعْقُوبَ. سِلاَهْ [8].
لئلا يحصر اليهود أفكارهم في هيكل سليمان بطريقة حرفية، فإن غاية الحديث أو الصلاة مع رب الجنود في بيته هي اللقاء مع إله يعقوب.
لم ينعم يعقوب بالدخول إلى هيكل سليمان لكنه تمتع بالسلم السماوي، وشاهد باب السماء! الإله الذي أعلن مجده في الهيكل يوم تدشينه ليس بإله جديد بل هو السرمدي.
* يقول النبي: "يا إله يعقوب" لكي ما يخبر بأن المسيحيين لا يعبدون إلهًا جديدًا، لكنهم يعبدون إله الآباء الذي نظره الصديقون والأنبياء برؤية العقل عندما استناروا بالروح القدس.
الأب أنثيموس الأورشليمي
يَا مِجَنَّنَا، انْظُرْ يَا اللهُ،
وَالْتَفِتْ إِلَى وَجْهِ مَسِيحِكَ [9].
بدالة قوية نتحدث مع الآب بكونه حصننا وملجأنا وسلاحنا الروحي ومجننا، فإنه يُسر بنا إذ يرى وجه مسيحه المخلص في أعماقنا.
* ما يقوله المرتل هو: انظر إلينا، فإنك ترى فينا مسيحك الساكن فينا[26].
القديس جيروم
* وجه المسيح الإله يُقال عن حضوره وتجسده، الذي به افتقد العالم وصنع خلاصه. وأيضًا نحن المؤمنون به نُدعى وجهه وأعضاؤه.
الأب أنثيموس الأورشليمي
لأَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ.
اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلَهِي،
عَلَى السَّكَنى فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ [10].
ما هو هذا اليوم الواحد الذي في ديار الرب سوى يوم الرب العظيم، حيث يدخل بنا إلى دياره الأبدية، كيومٍ واحدٍ بلا ليلٍ.
* هذا هو معنى "يوم واحد": ملكوت السموات هو يوم واحد، هناك لا يكون ليل، ولا ظلمة بل نور دائم. من يكون في ملكوت السموات ليومٍ واحدٍ إنما يكون هناك إلى الأبد[27].
* ما يقصده النبي بكلماته: "اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي"، هو: "اخترت أن أكون الأقل في السماء عن أن أكون الأول في هذا العالم[28].
القديس جيروم
* إذا كان أحد يعيش في إثم بابل ولا يقدم توبة يكون "هلاكه" أمرًا طبيعيًا. لاحظ كيف أن العهد القديم رغم أنه مترجم من العبرية إلى اليونانية، إلا أنه قد نجح جيدًا في التعبير عن الكلمات وتوضيح الفروق بينها إلى حد كبير. فلقد قال على سبيل المثال: "اخترت أن أصير مرفرضًا (مطروحًا) في بيت إلهي الخ" (مز 84: 10). فهو لم يقل: "اخترت أن أصير مطرودًا". ونفس الشيء بالنسبة للآية التي نفسرها، فهي لم تقل: "لا تصيروا مرفوضين بإثمها" بل: "لا تصيروا مطرودين (لا تطردوا) بإثمها"[29].
العلامة أوريجينوس
* يشتاق البشر إلى آلاف الأيام، ويريدون أن يعيشوا هنا عمرًا طويلًا. ليتهم يستخفون بهذه الآلاف من الأيام، ويشتاقون إلى يومٍ واحدٍ، الذي لا يشرق ولا يغيب، يوم واحد، يوم أبدي، ليس له أمس، ولا يضغط عليه غد. ليتنا جميعًا نتوق إلى هذا اليوم. ماذا نفعل بهذه الأيام الألف؟ لنذهب من الألف يوم إلى اليوم الواحد. لنسرع إلى ذاك اليوم الواحد، إذ نذهب من قوةٍ إلى قوةٍ[30].
* "اخترت لنفسي أن أُطرح في بيت الله ، أفضل من أن أسكن في مظال الأشرار" (مز 84: 10 LXX) لقد وجد وادي البكاء. وجد التواضع الذي به يقوم. أنه يعرف أنه إن أقام نفسه سيسقط، وإن تواضع يرتفع. لقد اختار أن يُطرح لكي ما يرتفع.. لقد اختار ألا يكون إلا في بيت الرب، في أي موضع فيه، فلا يكون خارج العتبة[31].
القديس أغسطينوس
* (بخصوص الثلاثة فتية القديسين) لا تكلموني عن الكرامة التي كانوا يحوزونها في البلاط الملكي، لأنهم إذ كانوا أبرارًا وصدّيقين كانوا يختارون ألوفًا من المرات ثروتهم الضئيلة في بيتهم الأبوي والتمتع بخيرات الهيكل. وكان كل منهم يقول مع النبي: "إن يومًا في ديارك خير من ألف، فاخترت الوقوف على عتبة بيت إلهي على السكنى في خيام المنافقين". فكانوا يختارون ألف مرِة أن يعيشوا في بيوتهم على أن يملكوا في بابل[32].
* أسألكم أن تتأملوا كيف كان إبراهيم محبًا للسلام والهدوء، تجتذبه العبادة الإلهية على الدوام. يقول النص (تك 13: 3) إنه نزل إلى ذلك الموضع الذي بنى فيه قبلًا المذبح (بيت إيل). بدعوته اسم الله بحق حقق مسبقًا قول داود: "اخترت الوقوف على العتبة في بيت إلهي على السكنى في مساكن الأشرار" (مز 84: 10 LXX). بمعنى آخر كان يفضل العزلة التي تتحول إلى استدعاء اسم الله عن المدن. فوق الكل، عرف تمامًا أن عظمة المدن لا في جموع السكان بل في فضيلة القاطنين بها. لهذا فإن البرية أيضًا صارت مفضلة جدًا عن المدن، مزينة كما بفضيلة البار، وهكذا صارت أعظم تألقًا من العالم كله[33].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* قال القديس أثناسيوس الجليلإن العبادة الموسوية الناموسية قد امتد زمانها ألف سنة منذ زمان سليمان وبناء الهيكل إلى حضور المسيح. فإذا قال النبي إن يوم الأحد الذي فيه كانت قيامة ربنا يسوع المسيح من الأموات هو أفضل من آلاف الشريعة العتيقة. لأن ذلك اليوم يُقال أنه يوم ديار الرب، به تبتهج كنائس الله.
الأب أنثيموس الأورشليمي
لأَنَّ الرَّبَّ اللهَ شَمْسٌ وَمِجَنٌّ.
الرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْدًا.
لاَ يَمْنَعُ خَيْرًا عَنِ السَّالِكِينَ بِالْكَمَالِ [11].
في بيت الرب يشتهي المؤمن إلى يوم انطلاقه إلى المجد الأبدي، هذا الذي يتمتع به خلال مراحم الله نحو المخلصين في توبتهم ونموهم الروحي بالنعمة الإلهية.
* "الرب يعطي رحمة ومجدًا" [11]. أولًا يهب غفرانًا للخاطئ، وبعد ذلك يمنحه إكليلًا[34].
* محبة الله تحتضن كلًا من الرحمة والإخلاص. لو أنه فقط رحوم فإنه بهذا يدعونا جميعًا أن نخطئ (فيرحمنا). وإن كان فقط أمينًا (عادلًا) لما كان لأحدٍ رجاء في التوبة. لهذا فإن الله له كلاهما (الرحمة والعدل)، الواحدة تكمل الأخرى. فإن كنت خاطئًا الجأ إلى رحمة الله ولا تيأس، بل تب. ومن الجانب الآخر لا تكن متهاونًا، فإن الله بار ويحب المخلصين[35].
القديس جيروم
* "الله يحب الرحمة والحق" [11 LXX]. يحب الرب الرحمة، التي بها يأتي أولًا لمساعدتي. إنه يحب الحق، لكي ما يعطي من يؤمن بما يعد به (رو 11: 20). لتسمع في حالة بولس الذي كان أولًا شاول المضطهد. لقد احتاج إلى الرحمة، وقد قال بأنها أظهرت له.
"أنا الذي كنت قبلًا مجدِّفًا ومضطهدًا ومفتريًا ولكنني رُحمت... ليُظهِر يسوع المسيح فيَّ أنا أولًا كل أناة، مثالًا للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية" (1 تي 1: 13، 16). حتى متى تقبل بولس الغفران عن مثل هذه الجرائم الخطيرة لا ييأس أحد من أن تُغفر له أية خطايا... إننا نرى بولس يقتنيه مدينا، إذ ينال رحمة، طالبًا الحق... لقد جعل الرب نفسه مدينًا لا بنوال شيء وإنما بتقديمه وعود. لا يُقال له رد ما قد تقبلته، وإنما رد ما قد وعدت به...
"إنه يحب الرحمة والحق". إنه يعطي نعمة ومجدًا. أية نعمة إلا تلك التي قال عنها نفس الشخص: "بنعمة الله أنا ما أنا" (1 كو 15: 10)؟ وأي مجد إلا ما قال عنه: "قد وُضع لي إكليل المجد" (راجع 2 تي 4: 8)؟[36]
القديس أغسطينوس
* أعني أن الله لا تسره الذبائح الناموسية، بل عمل الرحمة والمحبة للحق الذي هو ربنا يسوع المسيح القائل: "أنا هو الحق". فمن يصنع الرحمة ويحب الحق يغنيه الله بنعمته في هذا الدهر الحاضر، وبالمجد في الدهر الآتي، ولا يعد الخيرات في الدهرين، لأنه اتكل عليه (أي على الله).
الأب أنثيموس الأورشليمي
يَا رَبَّ الْجُنُودِ،
طُوبَى لِلإِنْسَانِ الْمُتَّكِلِ عَلَيْكَ! [12]
في بيت الرب تطمئن النفس، إذ تتكئ عليه، وتنعم بقوته الغافرة للخطايا، والواهب الأمجاد الأبدية.
* "طوبى للإنسان المتكل عليك" [12]. الإنسان الذي يتكل على الرب هو ذاك الذي ضميره متحرر من الخطية، الذي يرفع عينيه إلى السماء بثقة. الإنسان المفعم بالثقة هو ذاك الذي يعرف أنه يستسلم لمعصية ضد ربه[37].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 84

لأدخل بيتك وأنعم بسماواتك


* ما أحلى مساكنك يا رب الجنود،
فيها يلتهب قلبي بتحول إقامتي من الأرض إلى السماء.
لأرى بيتك هنا، فأشتهي الإقامة فيه،
وأقدم لك قلبي مسكنًا،
وأشتهي أن تقيم أنت فيه.
أدخل بيتك المقدس فأتقدس،
وتدخل قلبي فتقدسه لك.
* بيتك عجيب، يعمل في أعماقي.
أدخل فيه فتتحول معركة شهوات الجسد مع شهوات الروح إلى سيمفونية رائعة.
روحي مع جسدي يهتفان لك.
روحك القدوس يعزف عليهما أغنية حب لا تنقطع.
* بيتك أيقونة السماء.
أدخل فيه فيلتهب قلب حنينًا نحو مسكني السماوي.
نفسي تئن، يمتزج فيها الحزن مع الفرح.
ترى متى أنطلق وأكون معك،
متى أستقر في حضنك،
وأعيش في السماء؟
العصفور ينطلق إلى عشه،
ونفسي تنطلق إلى حضنك.
بيتك يسحب كل كياني إليك.
* لأنطلق إلى بيتك.
هناك أشارك السمائيين تسابيحهم الدائمة!
أنطلق كما من وادي الدموع إلى الحياة السماوية المطوّبة.
* لأصعد إلى بيتك.
فإن من ينطلق بقلبه إليه لا يعرف الانحدار بل الصعود
يصعد لا على درجات حجرية أو رخامية،
بل ينطلق كما على سلم سماوي،
يصعد من قوةٍ إلى قوةٍ.
* تشتهي نفسي البقاء في بيتك.
هناك تمطر عليّ بفيض نعمتك.
أتشدد بقوتك، وأتأهل لقوةٍ سماوية أعظم.
أنعم بجمال وجهك هنا،
وهناك أنعم باللقاء الأبدي وجهًا لوجه.
* لألتقِ بك يا إلهي في بيتك،
كما التقي بك يعقوب في الطريق إلى خاله لابان،
والتقي بك سليمان يوم تدشين الهيكل.
إنك تتراءى للمؤمنين في كل الأجيال.
* لأقف أمامك أيها الآب في بيتك.
تُسر بي، لأنك ترى ابنك الوحيد المسيا فيّ!
* تنطلق نفسي إليك فأشتهي أن أنعم بالأبدية.
أتمتع باليوم الأبدي الذي بلا ليل ولا ظلام.
  رد مع اقتباس
قديم 18 - 02 - 2014, 03:59 PM   رقم المشاركة : ( 87 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 86 (85 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
استجب لي يا رب



يتغنى الشعب اليهودي بهذا المزمور في "اليوم الكبير" بكونه يوم الكفارة العظيم عن الشعب كله، كما عن كل مؤمنٍ. إنه أشبه بمرثاة شخصية، تصدر عن قلب كل مؤمنٍ صادقٍ في علاقته بالله، كما يضم تسبحة شكر لله، مع صرخة من القلب صادرة عن نفس مُرة بسبب الاضطهاد والضيق. إنه يناسب كل مؤمن حين تئن نفسه من الألم، أو يشعر بمرارة الاضطهاد.
ورد اسم الرب "أدوناي" سبع مرات في هذا المزمور. كما يدعو المرتل نفسه عبد الرب [2، 16].

1. صرخة مؤمنٍ متألمٍ
1-7.
2. تسبيح للرب المخلص
8-13.
3. استغاثة من الأعداء
14-17.
من وحي المزمور 86
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

صَلاَةٌ لِدَاوُدَ
جاء عنوان هذا المزمور "صلاة لداود"، وهو يناسب حياة داود وشخصيته، فمع ما بلغه من قمة التقوى والنجاح غير أن سقوطه في الخطية كان رهيبًا، حوَّل حياته إلى صلوات توبة لا تنقطع، كما شعر بضعفه الشديد، وحاجته المستمرة لمساندة الله له.
يوجد اتفاق بين الكثير من الكتَّاب اليهود والمسيحيين، أنه من وضع داود النبي، يرى البعض أنه سجله حين كانت نفسه مُرة بسبب اضطهاد شاول الملك له، أو تمرد ابنه أبشالوم عليه.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. صرخة مؤمنٍ متألمٍ

أَمِلْ يَا رَبُّ أُذْنَكَ.
اسْتَجِبْ لِي،
لأَنِّي مَسْكِينٌ وَبَائِسٌ أَنَا [1].
كثرًا ما تكررت الطلبة "أمل يا رب أذنك"، ففي مرارة نفس صرخ حزقيا الملك إلى الرب الجالس فوق الكاروبيم: "أمل يا رب أذنك واسمع. افتح يا رب عينيك وأنظر" (2 مل 19: 16). كثيرًا ما كرر المرتل هذه العبارة (مز 17: 6؛ 31: 2؛ 45: 10) وهو تعبير يصدر من شخصٍ يشعر أنه أشبه بطفلٍ على صدر أبيه يود أن يهمس في أذنيه. إنه يصدر عن شخصٍ وديعٍ متواضعٍ، يُسر به الرب القائل: "تعلموا مني، فإني وديع ومتواضع القلب".
بقوله: "أمل يا رب أذنك"، يود المرتل أن يقول له، إنني عاجز عن أن أعبر عما في داخلي بفمي ولساني، وليس من أحدٍ يقدر أن يسمع تنهدات قلبي، ويدرك ما في أعماقي، ويشاركني مشاعري سواك.
لعل المرتل شعر بأنه قد حُرم في كثير من الأوقات من الشركة الجماعية في العبادة بسبب اضطهاده وهروبه. لكن الله وحده يقَّدر ما في أعماقه!
يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا ربنا يسوع المسيح الذي من أجلنا صار مسكينًا وبائسًا، لكي يغنينا به. يقول [يصلي لأجلنا، بكونه كاهنًا، ويصلي فينا بكونه رأسنا، ويُصلى إليه منا بكونه إلهنا. ليتنا نعرف كلماتنا فيه، وكلماته فينا... إننا نصلي إليه، وبه وفيه؛ ونتحدث معه وبه وفيه[1]].
* إنه يميل بأذنه إن كنت لا ترفع رقبتك، فإنه قريب من المتواضعين، وبعيد عن المرتفعين...
إنه هو في الأعالي، ونحن أسفل، لكننا لسنا متروكين. "نحن خطاة مات المسيح لأجلنا، فإنه بالجهد يموت أحد لأجل بارٍ. ربما لأجل الصالح يجسر أحد أيضًا أن يموت" (رو 5: 7، 8). لكن ربنا مات لأجل الأشرار. إذ لم يتقدمنا أي استحقاق لنا من أجله مات ابن الله، بل بالحري إذ لا توجد استحقاقات ظهرت رحمته عظيمة... "لأني مسكين وبائس أنا". لا يميل أذنه للغني، بل للمسكين والبائس، أي للمتواضع الذي يعترف إليه أنه محتاج إلى رحمته، وليس إلى المكتفي الذي يرفع نفسه ويفتخر، كمن لا يحتاج إلى شيءٍ. هذا الذي يقول: "أشكرك أني لست مثل هذا العشار". فقد افتخر الفريسي باستحقاقاته، واعترف العشار بخطاياه (لو 18: 11-13)...
لا يأخذ أحد يا إخوتي ما قلته كما لو كان الله لا يسمع للذين لديهم ذهب وفضة وأسرة وحقول. فإبراهيم في غناه كان مسكينًا ومتواضعًا، يحترم كل الوصايا ويطيعها. بالحق كان يحسب كل غناه كلا شيءٍ، وبحسب وصية الله كان مستعدًا أن يقدم ابنه ذبيحة (تك 22: 10)، الذي لأجله كان يحفظ كل ثرواته. لتتعلموا أن تكونوا مساكين ومحتاجين سواء كان لديكم شيء في هذا العالم أو لم يكن لديكم[2].
القديس أغسطينوس
* أضعفت خطاياي نفسي، وأخفض الحياء صوتي، لذا أرجوك أيها الطبيب الرحوم أن تتنازل إلى تواضعي، وتميل سمعك، لأني متعدي على أعمال الصلاح وخالي من العون البشري. لكنني لست استعين بالناس بل بك وحدك،... وأنا استغفر ذاتي لكي ما استحق الطوبى التي تقولها للمساكين بالروح[3].
الأب أنسيمُس أسقف أورشليم
احْفَظْ نَفْسِي لأَنِّي تَقِيٌّ.
يَا إِلَهِي خَلِّصْ أَنْتَ عَبْدَكَ الْمُتَّكِلَ عَلَيْكَ [2].
الكلمة المترجمة هنا "احفظ" تستخدم أحيانًا كتعبير حربي عن الحراسة والدفاع والحماية. فالمرتل يشعر دومًا بالحاجة إلى حماية الله له: "احفظني يا الله، لأني عليك توكلت" (مز 16: 1). إنه في حاجة إلى حماية إلهية لحياته المهددة بالدمار، ولنفسه الخالدة حتى لا تفقد مجدها الأبدي.
بقوله "لأني تقي" أو لأني مقدس، لا يعني أنه يبرر نفسه أمام الله، لكنه يدافع عن نفسه، حيث يتهمه من هم حوله بالشر بسبب ما يلحق به من متاعبٍ وتجاربٍ وضيقاتٍ. هذا ما حدث مع داود النبي كما مع غيره مثل أيوب البار القديسين بطرس وبولس ويوحنا وغيرهم: "عزيز في عيني الرب موت أتقيائه" (مز 116: 15).
"تمسكت ببرَّي ولا أرخيه، قلبي لا يعير يومًا من أيامي" (أي 27: 6).
"نعم يا رب أنت تعلم إني أحبك" (يو 21: 16).
"ألست أنا رسولًا؟! ألست أنا حرًا؟! أما رأيت يسوع المسيح ربنا؟! ألستم أنتم عملي في الرب؟!" (1 كو 9: 1).
يحلو للمرتل أن يدعو نفسه عبدًا لله، مكررًا هذه التسمية في نفس المزمور، فإن من ذاق التحرر من عبودية الخطية يشعر بعذوبة العبودية لله، التي تهب النفس نوعًا من الحرية وفرحًا وسلامًا.
مع دعوة نفسه أنه تقي لا يعتد بتقواه، بل يتكل على نعمة الله، إذ يصرخ: "يا إلهي خلص أنت عبدك المتكل عليك".
يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا السيد المسيح الذي وحده قدوس (تقي) بلا خطية. وإذ نلبس المسيح (غل 3: 27)، يحق لنا ككنيسة جامعة وكأعضاء فيها أن نقول إننا به قديسون وأتقياء، لكن ليس من عندنا، إنما كعطية من عنده.
ارْحَمْنِي يَا رَبُّ،
لأَنِّي إِلَيْكَ أَصْرُخُ الْيَوْمَ كُلَّهُ [3].
في دالة مع ثقة في عمل الله يصرخ اليوم كله مرة فأخرى بغير يأس. ومع دعوة نفسه أنه تقي يطلب مراحم الله طول النهار. وهذا اعتراف ضمني أنه خاطي ومحتاج كل النهار إلى غفران خطاياه.
جاء الفعل "أصرخ" في صيغة المستقبل، وكأنه يعلن أنه يبقى يصرخ كل يوم بلا توقف لأنه محتاج دومَا إلى مراحمه.
يرى القديس أغسطينوس أن الكنيسة جسد المسيح كأنها إنسان واحد، يصرخ إلى نهاية العالم، ويسمع الرب صوته، ويشفع رأسنا الواحد فينا لدى الآب.
* ليس ليومٍ واحدٍ، إنما لنفهم "كل يوم" بمعنى الاستمرارية، فإن الوقت الذي فيه يئن جسد المسيح في آلام إلى نهاية العالم. فإلى أن تعبر الضيقات تنهد الإنسان ويدعو الله. كل واحدٍ منا يساهم في تلك الصرخة التي للجسد كله حسب قياسه[4].
القديس أغسطينوس
فَرِّحْ نَفْسَ عَبْدِكَ،
لأَنَّنِي إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي [4].
لا يطلب أن ينزع الله منه الحزن والمرارة فحسب، بل يطلب أن يملأ نفسه بفرح الروح. إنه يرفع نفسه أو يقدم نفسه لله مصدر الفرح الحقيقي. إنه يرفع نفسه إلى الرب، كمن لا يأتمن قضيته في يدٍ أخرى سوى يد إلهه.
لقد طلب من الرب أن يفرِّح نفسه، كما يرفع نفسه إليه، فما يشغله لا الخلاص من متاعب جسدية، إنما تمتع أعماقه بفرح الرب، وارتفاع نفسه كمن تطير إلى مصدر خلاصها.
* ساهموا معي في تعبي، لأنكم ترون ما قد تعهدت به، ومن أكون أنا الذي قد تعهدت به. إنكم ترون ما أرغب الحديث عنه، وأين، وما هو حالي سوى أني في "الجسد البالي يُثقل النفس، والمسكن الأرضي يُثقل العقل الكثير الاهتمام" (حك 9: 15). لهذا أجرد فكري من الأشياء العديدة، وأجمعه في الإله الواحد، الثالوث غير القابل للانقسام، حتى أستطيع أن أرى شيئًا أتحدث عنه. فليعرفوا أنني في ذلك الجسم (الذي) يثقل النفس أستطيع أن أقول: "إليك يا رب أرفع نفسي" (مز 86: 4)، ذلك لكي ما أستطيع أن أحدثكم عن أمور جديرة في الموضوع. فليساعدني الرب وليرفع نفسي معي. لأنني ضعيف جدًا بالنسبة له، وهو قدير جدًا بالنسبة لي[5].
* أنت وحدك هو البهجة، والعالم كله مملوء بالمرارة. بسبب حسن ينصح بالتأكيد أعضاءه أن ترفع قلوبها... فالقلب الذي يرتفع إلى الله لا يفسد... لا يرتفع القلب مثل الجسد، فالجسد يرتفع بتغيير الموضع، أما القلب فيرتفع بتغيير الإرادة[6].
القديس أغسطينوس
لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ صَالِحٌ وَغَفُورٌ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ،
لِكُلِّ الدَّاعِينَ إِلَيْكَ [5].
رجاؤنا في الرب وثقتنا فيه واعتمادنا عليه إنما يقوم على إدراكنا لسماته، كما تعلنها لنا كلمة الله، ويشهد لها التاريخ وخبرتنا الماضية في التعامل معه.
* لم يُوجد قط أي ملك عادل وفي نفس الوقت مخَّلص ووديع وجاء إلى أورشليم راكبًا على أتان إلا ذاك وحده الذي هو ملك الملوك، الله المخلَّص، يسوع. إنه لطيف وغني في الرحمة لكل الذين يدعونه (مز 86: 5)[7].
القديس ساويرس الأنطاكي
* "لأني إليك يا رب أرفع نفسي" [4]. كيف أرفع نفسي؟ قدر ما استطعت، إذا أعطيتني قوة؛ قدر ما أمسكت بها عندما هربت... بالضعف أنا أغرق، لتشفني فأقف. قوّني فأتقوى. إلى أن تفعل هذا احتملني. "لأنك أنت يا رب صالح ورءوف وكثير الرحمة" [5]. فكلما كثرت آثامنا هكذا تزداد رحمتك "لكل الداعين إليك" [5][8].
القديس أغسطينوس
أِصْغَ يَا رَبُّ إِلَى صَلاَتِي،
وَأَنْصِتْ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي [6].
يتوسل المرتل إلى الله كي يتعهد قضيته بنفسه، فليس له معين سواه.
* يا لعظم غيرة ذاك الذي يصلي! بمعنى لا تسمح لصلاتي أن تذهب بعيدًا عن أذنيك؛ ثبتها في أذنيك... ليُجب الله ويقول لنا: "أتريد أن أثبت صلاتك في أذني؟ ثبت أنت ناموسي في قلبك![9]
القديس أغسطينوس
فِي يَوْمِ ضِيقِي أَدْعُوكَ،
لأَنَّكَ تَسْتَجِيبُ لِي [7].
هذه هي خبرته في تجاربه الماضية، ليس من إنسانٍ بلا يوم ضيقٍ، مهما بلغ مركزه أو كانت إمكانياته.
* ليته لا يقول إنسان مسيحي إنه يوجد يوم لم يتضايق فيه. فبالقول: "اليوم كله" [3] يُفهم كل الزمن... لأننا "ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الرب" (2 كو 5: 6). مع كل ما سنذخر به هنا إلا أننا لسنا في المدينة التي نسرع إليها. فمن يجد عذوبة في أرض الغربة لا يحب مدينته، لو أن مدينته حلوة فالسفر مُر، وإن كان السفر مرًا فإنه في ضيق اليوم كله[10].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. تسبيح للرب المخلص

لاَ مِثْلَ لَكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ،
وَلاَ مِثْلَ أَعْمَالِكَ [8].
أعمال الله في الطبيعة وفي رعايته الفائقة للبشرية تشهد لوجوده وحبه، أما من لا يلمس ذلك فمهما حدثت من معجزات لا يؤمن بالله كما ينبغي. ليس من وجه للمقارنة بين الله، وأي كائن آخر، فهو وحده قادر أن يخلص إلى التمام، بإرادته وحكمته وحبه.
يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يوبخ الوثنيين الذين يعبدون الأصنام كما يعبدون الملائكة أو أية طغمة سماوية.
* لسنا نعرف الملائكة كما هم تمامًا. يتعبد الملائكة لله الواحد، ولا يؤيدون الناس الذين يرغبون في عبادة الملائكة لا الله. إذ نجد ملائكة من طغمة عالية يمنعون البشر من التعبد لهم، ويوصوهم أن يعبدوا الله الحقيقي (رؤ 19: 10)[11].
القديس أغسطينوس
* كمثال، لا يقارن أحد الله بالإنسان، وأيضًا الإنسان بالحيوان، ولا الخشب بالحجارة، لأن طبائعهم مختلفة، ولكن الله فوق كل مقارنة، أما الإنسان فيقارن بإنسانٍ، والخشب بخشبٍ، والحجر بحجرٍ[12].
القديس أثناسيوس الرسولي
* لما جاء ربشاقي مع عساكر الأشوريين، كان يجدف على الله قائلًا إن آلهة البلاد لم تستطع على خلاص بلادها فكيف يخلص إلهكم أورشليم من صولة الأشوريين. فلما بلغت هذه التجاديف مسامع حزقيا الملك جُرح قلبه وتنهد إلى الله، وهتف قائلًا: ليس لك شبيه في الآلهة يا رب...
قال القديس أثناسيوس إن المزمور يدعو الأنبياء آلهة، هؤلاء الذين صار فيهم كلام الله. فيقول النبي إنه ليس في الأنبياء من يقدر أن يصنع خلاص البشرية كما تقدر أنت أيها الإله الحقيقي، ولا مثل أعمالك، وذلك كما جاء الأنبياء. إنه ليس شفيع ولا ملك إلا رب خلاصهم. فالقديسون صنعوا أيضًا آيات، لكنهم لم يصنعوها بقدرتهم الذاتية، وإنما بالتماسهم قدرة الله. أما المسيح فيصنعها بقدرة لاهوته.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
كُلُّ الأُمَمِ الَّذِينَ صَنَعْتَهُمْ يَأْتُون،َ
وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ،
وَيُمَجِّدُونَ اسْمَكَ [9].
بين الحين والآخر تكشف كلمة الله عن دعوة كل الأمم لقبول الإيمان: "تذكر وترجع إلى الرب كل أقاصي الأرض، وتسجد قدامك كل قبائل الأمم. لأن للرب الملك، وهو المتسلط على الأمم (مز 22: 27-28).
يرى البعض في هذه العبارة نبوة عما سيحدث حين تقبل كل الأمم الإيمان، ويحل السلام على كل المسكونة، ويتمجد اسم الله كما جاء في العبارات التالية:
"وشعب سوف يُخلق يسبح الرب" (مز 102: 18).
"اجتمعوا يا كل الأمم معًا، ولتلتئم القبائل" (إش 43: 9).
"سبحوا الرب يا جميع الأمم، وامدحوه يا جميع الشعوب" (رو 15: 11).
"من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك، لأنك وحدك قدوس، لأن جميع الأمم سيأتون ويسجدون أمامك، لأن أحكامك قد ُأظهرت" (رؤ 15: 4).
* قبل أن يصير الكلمة جسدًا كان العالم كله يحكمه الشيطان، الشرِّير، الحيَّة، المرتدّ. وكان المخلوق يُعبد دون الخالق الصانع. ولكن إذ صار كلمة الله الابن الوحيد الجنس إنسانًا، امتلأت الأرض كلها من مجده. إذ تخضع كل ركبة له، وكل قبيلة ولسان يعترف له ويخدمه، كما يقول الكتاب (في 2: 10-11). تنبَّأ أيضًا داود عن هذا بالروح، إذ قال: "كل الأمم الذين صنعتهم يأتون، ويسجدون لك يا رب" (مز 86: 9). هذا قد تحقق عندما دُعيت جموع الأمم، وانحنى الكل لذاك الذي لأجلنا صار مثلنا، والذي لأجله بقي في سموُّه فوق كل الأشياء[13].
* أبصر كل إنسان خلاص الله الآب، لأنه أرسل ابنه فاديًا ومخلصًا من غير أن يقتصر الأمر على قوم دون آخرين... لأن رحمة المخلص غير محدودة، لم تخلص أمة دون أخرى، بل افتدى المسيح جميع الأمم وأضاء بنوره على كل الذين في الظلمة[14].
القديس كيرلس الكبير
* المعلم الصالح، الحكمة، كلمة الآب الذي خلق الإنسان، يهتم بكل طبيعة خليقته، طبيب كل الجنس البشري بما فيه الكفاية، المخلص، شافي الجسد والنفس[15].
القديس إكليمنضس السكندري
* إنه يُعلن عن الكنيسة: "كل الأمم!"[16]
القديس أغسطينوس
* هذا القول هو نبوة عن دخول الأمم إلى الإيمان بالله حين ظهوره على الأرض... وهذا ما قد حُرر أن الذي يقوم من أصل يسى يرأس الأمم. وفي نبوة إرميا يقول يأتي الأمم إليك من أقاصي الأرض. مجيئهم ليس بانتقالهم من مكان إلى مكانٍ، لأن الله موجود في كل مكان، بل باقتراب إرادتهم وقلبهم بالإيمان.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّكَ عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ.
أَنْتَ اللهُ وَحْدَكَ [10].
الله غير محدود، أبدي كلي القدرة، لا يخضع لقياسٍ ما. ليس في الله ما هو محدود، أو مُدرك بالفكر البشري أو الملائكي المجرد دون إعلان الله نفسه لخليقته.
* ليته لا يدعو أحد نفسه عظيمًا. يدعو البعض أنفسهم عظماء وقد قيل هذا ضدهم: "أنت وحدك الله العظيم"[17].
القديس أغسطينوس
* كلمة "وحدك" هناك لا تحصر اللاهوت في أقنومٍ واحدٍ، لكنها تميز الطبيعة الخالقة عن المخلوق.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ،
أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ.
وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ اسْمِكَ [11].
جاءت عبارة "وحِّد قلبي لخوف اسمك" في الترجمة السبعينية بما معناه: "فليفرح قلبي عند خوفه من اسمك" [11].
هنا يعترف المرتل أنه بدون الله لا يعرف الطريق. يعترف بجهله وحاجته إلى قيادة الله نفسه ليعرف طريق الرب ويسلك فيه. يشعر أنه أشبه بأعمى لا يقدر إنسان ما ولا ملاك ولا خليقة سماوية أن تهبه الاستنارة وتوضح له الرؤية. كما يرى أن الله أقرب إليه من أي كائن آخر، قادر أن يهبه الحكمة، ويقوده في طريق الخلاص. إنه يضع كل رجائه فيه، يهبه المخافة الربانية وروح التقوى، وينزع عنه الانقسام الداخلي والتذبذب.
* إذن يوجد خوف في البهجة. كيف يمكن أن توجد بهجة إن كان هناك خوف؟ أليس الخوف ينزع إلى الألم؟ إنه يوجد بعد ذلك بهجة بدون خوف، الآن توجد بهجة مع خوف، فإنه لا يوجد ضمان كامل ولا بهجة كاملة. إن لم توجد بهجة نخور، وإن وجد ضمان كامل نفرح بطريقة خاطئة. لذلك فإنه يسكب علينا البهجة، ويضربنا بالخوف. فبعذوبة البهجة يقودنا إلى التمتع بالضمان. وإذ يهبنا الخوف يجعلنا لا نفرح بطريقة خاطئة وننسحب من الطريق...
طريقك، وحقك، وحياتك هي المسيح... تعلم الطريق شيء، والسلوك فيه شيء آخر. لاحظوا أن الإنسان في كل موضع مسكين، في موضع يحتاج إلى عونٍ.
الذين بجوار الطريق ليسوا مسيحيين. وإذ يُجلبون إلى الطريق، ويصيرون منتمين للكنيسة الجامعة في المسيح يلزمهم أن يسلكوا بواسطته في الطريق ذاته لئلا يسقطوا[18].
القديس أغسطينوس
* طريق الله هو اجتناب المعاصي وملازمة الفضائل هذا الطريق يؤدي إلى الحق، ولن يسلكه إنسان إلا بهداية الله وقوته. لكن الهداية لا تُكتسب إلا بخوفه. لأن رأس الحكمة مخافة الرب، وكل من يكتسب هذا الخوف الذي هو مقدمة الفضائل يفرح قلبه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ إِلَهِي مِنْ كُلِّ قَلْبِي،
وَأُمَجِّدُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْرِ [12].
إذ يختبر المؤمن مع الرسول بولس الجلوس مع المسيح في السماويات، يملأ الفرح السماوي القلب، ويشارك السمائيين التسبيح الدائم وتمجيد اسم الله القدوس إلى الأبد!
لأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي،
وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ الْهَاوِيَةِ السُّفْلَى [13].
لن يتوقف المؤمن عن التهليل، فقد رفعته المراحم الإلهية كما من الهاوية إلى السماء، وقدمت له الحياة الجديدة المُقامة عوض الموت والفساد. هذا الخلاص العجيب يدفع المؤمن للانطلاق من يومٍ إلى يومٍ للتمتع بمراحمٍ جديدةٍ لا تنقطع، مقتربًا إلى الله في علاقة فريدة.
يقدم لنا القديس أغسطينوس رأيين بخصوص الهاوية السفلى، الأول أنه توجد هاوية سفلى وأخرى عليا نسبيًا، لكنْ كلاهما سفليان. وكأن السيد المسيح نزل إلى الهاوية السفلى لكي لا نبقى في الجحيم أيا كان حالنا. والرأي الثاني وهو مطابق للرأي الأول إلى حدٍ ما، وهو أنه يُوجد في الجحيم درجات.
* تحدر الخطية الإنسان إلى أعماق الجحيم، كما جاء في الأصحاح الرابع عشر من سفر الأمثال: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت" (أم 14: 12).
أيضًا هذا القول نبوة عن قيامة المسيح من الأموات، وتخليصه نفوس الصديقين من الجحيم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. استغاثة من الأعداء

اَللهُمَّ الْمُتَكَبِّرُونَ قَدْ قَامُوا عَلَيَّ،
وَجَمَاعَةُ الْعُتَاةِ طَلَبُوا نَفْسِي،
وَلَمْ يَجْعَلُوكَ أَمَامَهُمْ [14].
كلما تهللت نفس المؤمن، والتصقت نفسه بمراحم الله، وانفتحت أمامه أبواب السماء، ثار عدو الخير وقوات الظلمة ضده. هؤلاء هم المتكبرون وجماعة العتاة الذين لن يطلبوا أقل من نفسه، وتدميرها تمامًا، غير واضعين في اعتبارهم أن نفسه محفوظة في يدي الله، وخلاصه قد دُفع ثمنه على الصليب.
لا نخشى هذه المعركة الشرسة، فإن العدو لم يتوقف قط عن إعلان الحرب ضد الآباء الأولين والأنبياء والرسل والتلاميذ وكل مؤمني العهدين القديم والجديد، بل وضد المسيح الخالق نفسه!
جاء في الترجمة السبعينية: "اللهم إن مخالفي الناموس قد قاموا عليّ". وكما يقول القديس أغسطينوس إن مخالفي الناموس ليسو الأمم، إذ كانوا بلا ناموس، بل هم اليهود.
* إنهم لم يحفظوا الناموس، واتهموا المسيح كما لو كان مخالفًا للناموس. ونحن نعرف ما احتمله الرب. أتظنون أن جسده لا يعاني من هذا الآن؟ كيف يمكن أن يكون هذا؟ "إن كانوا قد لقبوا رب البيت بعلزبول، فم بالأحرى أهل بيته. ليس التلميذ أفضل من المعلم، ولا العبد أفضل من سيده" (مت 10: 24، 25). الجسد يعاني أيضًا من مخالفي الناموس، ويقومون على جسد المسيح...
"ومجمع العتاة طلبوا نفسي". مجمع العتاة هم جماعة المستكبرين... قاموا على الرأس، أي على ربنا يسوع المسيح، صارخين وقائلين بفمٍ واحدٍ: اصلبه، اصلبه (يو 19: 6). هؤلاء الذين قيل عنهم: "بني آدم أسنانهم أسنة وسهام، ولسانهم سيف ماضٍ" (مز 57: 4).
القديس أغسطينوس
* لقد بلغنا الاحتفال بالخلاص الذي كنا نشتهيه. إنه يوم قيامة السيد المسيح، يوم السلام والمصالحة، اليوم الذي فيه بطل الموت وانهزم الشيطان. في هذا اليوم انضم البشر إلى الملائكة. اليوم يقدم البشر تسابيحهم مع القوات الروحية. اليوم أُبطلت أسلحة الشيطان، انفكت قيود الموت، وأُبيد جبروت الجحيم.
اليوم سحق ربنا يسوع المسيح الأبواب النحاسية، وأزال شوكة الموت. اليوم نستطيع أن نقول مع النبي: "أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟" (1 كو 55:15)
لقد غير حتى اسم الموت، فلا يدعى بعد موتًا، بل نومًا ورقادًا. كان اسم الموت مخيفًا قبل ميلاد المسيح وصلبه، لأن الإنسان الأول عندما خُلق سمع: "يوم تأكل من هذه الشجرة موتًا تموت" (تك 17:2). وداود النبي يقول: "الشر يميت الإنسان" (مز 21:34). كما كان انفصال النفس عن الجسد يُدعى موتًا وهاوية، ويقول يعقوب أب الآباء: "تنزلوا شيبتي بحزنٍ إلى الهاوية" (تك 38:42). وإشعياء يقول: "وسعت الهاوية نفسها، وفغرت فاها بلا حدود" (إش 14:5). وأيضًا: "لأن رحمتك عظيمة نحوي، وقد نجيت نفسي من الهاوية السفلى" (مز 13:86). هذا المفهوم عن الموت نجده في مواضع أخرى كثيرة من العهد القديم، غير أنه منذ أن قدم المسيح ذاته ذبيحة من أجل كل البشرية، وقام من الأموات ألغى كل هذه الأسماء، وقدم للبشرية حياة جديدة لم تعرفها من قبل، فلا يُسمى بعد الخروج من هذا العالم موتًا بل نومًا أو انتقالًا[19].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يقول النبي "المنافقون" عن القوات الشيطانية الشريرة. وأما "جماعة الأعزاء" فعن رؤساء الشعب الذين طلبوا قتل المسيح الإله، لأنهم لم يجعلوا الله أمامهم، أي لم يخافوه ولا هابوه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَإِلَهٌ رَحِيمٌ ورءوف،
طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَالْحَقِّ [15].
قدر ما يثور العدو علينا ويهيج لتحطيمنا معه أبديًا في عنفٍ شديدٍ وقوةٍ، نمتلئ بالأكثر رجاء في الله الرءوف الرحيم الطويل الروح وكثير الرحمة والحق. فالمعركة في حقيقتها هي بين الله القدوس وإبليس المحتال.
* لماذا هو طويل الروح وكثير الرحمة والحق؟
لأنه عندما عُلق على الصليب قال: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34)... الابن يصلي للآب وهو مصلوب من أجل الأشرار، في وسط إهاناتهم له ذاتها، لا بالكلمات بل بالموت، مُعلقًا على الصليب. وكأنه قد بسط يديه أجل هذا، أن يطلب عنهم، وأن صلاته تتوجه كالبخور نحو الآب، يديه مثل ذبيحة مسائية (مز 141: 2)[20].
القديس أغسطينوس
الْتَفِتْ إِلَيَّ وَارْحَمْنِي.
أَعْطِ عَبْدَكَ قُوَّتَكَ،
وَخَلِّصِ ابْنَ أَمَتِكَ [16].
مادامت المعركة في جوهرها هي بين طرفين أحدهما الله نفسه والثاني إبليس، فما على المؤمن إلا أن يطلب من الله أن يلتفت إليه ويسنده برحمته، بل ويهبه أن يلتحف بقوته، لأنه ابن أمته.
هنا يميز الآباء بين السيد المسيح ابن الله الوحيد، قوة الله، وبين المؤمنين أبناء الله بالتبني يتمتعون بقوة الله بالنعمة الإلهية المجانية! ما نناله من قوة هو هبة مجانية ننالها لا عن استحقاقنا الشخصي، بل خلال سؤالنا له! من جانبنا نحن أبناء أمته، نلتزم بالطاعة لأننا نحبه، ومن جانبه سبق فأحبنا وقدم لنا نفسه ملجأ وحصنًا حصينًا!
* في صلاة داود، يظهر الروح القدس التمييز ذاته، قائلًا في المزامير: "أعطِ قوتك لابنك، وعونًا لابن أمتك. فإن الابن الطبيعي الحقيقي لله غير أبناء الأمة أي طبيعة الأشياء الناشئة. الأول هو الابن له قدرة الآب، أما الباقون هم في حاجة إلى خلاص[21].
القديس أثناسيوس السكندري
اصْنَعْ مَعِي آيَةً لِلْخَيْرِ،
فَيَرَى ذَلِكَ مُبْغِضِيَّ فَيَخْزُوا،
لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ أَعَنْتَنِي وَعَزَّيْتَنِي [17].
مع ما حمله المزمور من صراخٍ من كل القلب، لكنه قي الخاتمة يعلن المرتل ثقته بالتمتع بالخلاص والعون والتعزيات السماوية، وما يصيب عدو الخير من خزيٍ وعارٍ! هذه هي مشاعر المؤمن الصادق حتى قبل تحقيق الخلاص من الشدة والضيقة؛ إنه يشكر الله مقدمًا على ما سيقدمه من عون أكيد!
يرى القديس أغسطينوس في هذا المزمور أن المتحدث هو السيد المسيح، وقد ختم بأن يصنع معه الآب آية للخير، ألا وهي قيامته من الأموات فيخزى الصالبون الذين يرفضون الإيمان.
* أَتريد، يا حبيبي، أن تكون مكرَّمًا في أعين الناس والله؟ افعل الخير خفيةً (مت 6: 4)، وسيرى الله، ويصنع معك آيةً صالحةً (مز 86: 17 حسب الترجمة القبطية في الأجبية)، وسيمجِّدك كما تمجِّده أنت (اُنظر 1 صم 2: 30)[22].
أنبا ثيؤفيلس البطريرك
* جعل الله قديمًا علامة (آية) لقايين لكي لا يقتله كل من يصافه، تلك العلامة كانت علامة سوء... لذلك يقول النبي في طلبته: اصنع معي علامة صالحة (آية للخير)، يراها مبغضوك فيخزون، مثل علامة الإسرائيليين في مصر، التي كان يراها المهلك على عتبة أبوابهم فيهرب.
أيضًا طلبته هي علامة صالحة، أعني آية تثبت له ما قد نظره بعين النبوة. وهي أن العذراء تلد وتبقى بتولًا، كقول إشعياء النبي، هذا الذي أعان الجنس البشري عزاه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 86

تعهدني أيها الصالح برحمتك


* أمل يا رب أذنك وأنصت إليَّ،
فإني كطفلٍ صغيرٍ عاجز حتى عن رفع رأسي.
إني مسكين، محتاج إلى رحمتك.
ليس لي ما أبرر به نفسي،
لكني التجأ إلى حبك ورأفتك الكثيرة.
* طول النهار أصرخ إليك،
ليس لي ملجأ سواك.
وليس من يدرك أعماقي غيرك.
ليس لك شبيه في أبوتك وحكمتك وقدرتك.
* تعدني أيها الصالح، أيها العجيب في أعمالك.
فإليك ترجع كل الأمم التي خلقتها.
بالفرح والتهليل يسجدون أمامك.
* املأ حياتي بالبهجة السماوية،
فلا يتسرب اليأس إلى قلبي.
سمَّر خوفك في قلبي،
فلا أنحرف يمينًا ولا يسارًا!
نجني من هاوية الإحباط المُرْ.
* أعدائي لا يطلبون أقل من نفسي.
فإن إبليس وكل قواته لن يكفوا عن مقاومتي.
التفت إليّ وخلصني من موت الخطية.
أقمني، فأنت هو القيامة والحياة!
  رد مع اقتباس
قديم 18 - 02 - 2014, 04:01 PM   رقم المشاركة : ( 88 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 87 (86 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
مدينة الله أم كل الشعوب


إذ يتطلع المرتل إلى مجيء المسيا مخلص العالم، وقد بسط يديه على الصليب ليحتضن العالم، يموت عنهم ويقوم، فيقيمهم معه، تنفتح أبواب أورشليم مدينة الله على كل الشعوب. تتهلل نفس المرتل إذ يرى المدينة التي كانت مغلقة على شعب معين، صار مواطنوها من كل الشعوب، تحمل أمومة روحية للجميع، وتهبهم الحياة المطوبة المتهللة، عربون السماء. وكأن الكنيسة، مملكة المسيح الروحية، تسمو فوق كل ممالك العالم والدخول في السياسات الزمنية، لا تدخل مع العالم في منافسة على سلطان أو مجد زمني.
ارتفع فكر المرتل في نظرته إلى أورشليم إلى ما بعد الحدود المكانية لأورشليم الأرضية التي كان يفتخر بها اليهود كمركز للعالم، وأقدس موضع لوجود الهيكل المقدس الوحيد.

1. اختيار أورشليم
1-3.
2. مواطنو أورشليم
4-6.
3. المدينة المتهللة
7.
من وحي المزمور 87
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

لِبَنِي قُورَحَ. مَزْمُورُ تَسْبِيحَةٍ
يرى البعض أن واضع المزمور هو داود النبي، وقام بنو قورح بتلحينه.
"لبني قورح": سبق أن رأينا أن قورح تعني "جلجثة" وكما يقول القديس جيروم إن بني قورح هم "أبناء القيامة"[1].
وكأن الذين يتمتعون بمدينة الله السماوية، هم الذين يقومون مع السيد المسيح، ويختبرون هنا الحياة المُقامة، كعربون للأبدية.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. اختيار أورشليم

أَسَاسُهُ فِي الْجِبَالِ الْمُقَدَّسَةِ [1].
إذ يقارن المرتل بين خيمة الاجتماع وهيكل سليمان، فالأولى بلا أساسات، إنما خيمة متحركة، أما الهيكل فوضعت أساساته على الجبال المقدسة. أما كنيسة العهد الجديد فأساساتها هي الأنبياء والرسل، وحجر الزاوية هو ربنا يسوع المسيح.
* يعلن بولس: "كبناءٍ حكيم قد وضعت أساسًا" (1 كو 3: 10)، أي الإيمان بالثالوث. عندئذ يقول في موضع آخر: "لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله" (عب 11: 10)... يَّعين المرتل الجبال المقدسة، لأنه توجد جبال أخرى غير مقدسة. بجانب هذا يقول إشعياء: "أقيموا راية على جبال مظلمة" (راجع إش 13: 2). نجد في الكتاب المقدس عبارة أخرى: "من أنت أيها الجبل العنيد" (راجع زك 4: 7). وفي إرميا: "أعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة" (إر 13: 16)... من هم الذين ندعوهم أساسات؟ الرسل. عليهم قام إيمان الكنيسة وتأسس[2].
القديس جيروم
* أساسات أورشليم أسسها الله، والجبال المؤسسة عليها جبال مقدسة، لأن الله القدوس قد أظهر سكناه فيها...
* مدينة الله تُقال عن سيرة العبادة المستقيمة التي أساساتها هي التعاليم الإلهية المقدسة. وأما جبالها المقدسة التي عليها قائم بناؤها فهي الرسل والأنبياء، وقبلهم ربنا له المجد كما كتب بولس الرسول في الفصل الثاني للرسالة إلى أهل أفسس: "مبنين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (أف: 20)[3].
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* أعتقد أنه لهذا السبب يسوع نفسه عندما تجلى لم يحدث هذا في السهل، إنما صعد على جبل، وهناك تجلى. لتفهموا من هذا أنه دائمًا يظهر على الجبال أو التلال، ليعلمكم أنتم أيضًا، فلا تجثوا عنه في أي موضع وإنما على جبال الشريعة والأنبياء[4].
العلامة أوريجينوس
الرَّبُّ أَحَبَّ أَبْوَابَ صِهْيَوْنَ،
أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَسَاكِنِ يَعْقُوبَ [2].
لا يكف الكتاب المقدس بعهديه عن الكشف بكل وسيلة عن حب الله للإنسان والبشرية، فاختياره لصهيون ومحبته لأبوابها لا يعني حاجته إليها، ولا اهتمامه بأمور مادية، فهو خالق السماء والأرض، لكنه يحب الإنسان، ويريد أن يضم البشرية إلى أحضانه، ويسكب بهاءه عليها.
* يبدو لي أن أبواب صهيون هي الفضائل.
كما أن الرذيلة والخطية هما بابا الموت، أظن أن أبواب صهيون هي الفضائل[5].
القديس جيروم
* لا يقصد الأبواب التي نراها اليوم في التراب والرماد، وإنما يقصد الأبواب التي لا يقوى عليها الجحيم (مت 16: 18)، والتي تدخل منها جموع الذين يؤمنون بالمسيح[6].
القديس جيروم
* صهيون هي أورشليم التي كانت عاصمة أمة اليهود، إذ كان الهيكل مبنيًا فيها. ومن أبوابها كانت تدخل الفرائض المؤدية إلى عبادتهم الموسوية. لهذا كانت أفضل من سائر مساكن الإسرائيليين...
يقول بولس الرسول في الأصحاح 12 من رسالته إلى العبرانيين عن صهيون وأورشليم أنهما كنيسة المسيح: "قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية، وإلى ربوات هم محفل ملائكة، وكنيسة أبكار مكتوبين في السماوات" (عب 12: 22-23).
وأيضًا في الأصحاح الرابع من رسالته إلى أهل غلاطية: "وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا فهي حرة" (غل 4: 26). هذه الكنيسة أبوابها هي فواتح تعليمها، يحبها الرب أفضل من جميع مساكن يعقوب، أي من سنن الشريعة الموسوية (في حرفيتها) التي كان إسرائيل ساكنًا فيها؛ يدعوها مساكن لأجل سرعة زوالها.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
قَدْ قِيلَ بِكِ أَمْجَادٌ يَا مَدِينَةَ اللهِ. سِلاَهْ [3].
يتطلع المرتل إلى كنيسة المسيح، فيراها وقد امتلأت مجدًا، لأن مسيحها في وسطها هو سرّ مجدها الأبدي. بمجيئه تلألأ تاريخ العهد القديم وأحداثه، وتجلت معانيه المبهجة، كما فُهمت النبوات، وتمتعت البشرية بتسابيح متهللة وتعاليم مبهجة، وانكشفت أسرار سماوية، وصارت لها امتيازات فائقة ووعود إلهية.
هذا ما لمسه أنبياء العهد القديم، وكما رأى إشعياء النبي: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب؛ فيعلمنا من طرفه، ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب" (إش 2: 2-3).
* أين نجد هذه الأقوال المجيدة؟ كل الأنبياء تحدثوا عن هذه المدينة. يقول إشعياء: "استيقظي، استيقظي، البسي عزك يا صهيون" (إش 52: 1). وأيضًا: "أنا مدينة قوية، المدينة التي انهارت" (راجع إش 27: 10؛ 26: 1، 5؛ 25: 2، 12). يقول داود في مزمور: "نهر سواقيه تفرح مدينة الله" (مز 46: 4)... وأيضًا يتكلم المخلص نفسه عن هذه المدينة بطريقة مجيدة: "لا يُمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبلٍ" (مت 5: 14).
القديس جيروم
* هذا القول غير لائق بأورشليم العتيقة بل بالجديدة، وهي كنيسة المسيح التي ما قيل عنها مجيد، ليس فيها مقولات بشرية حقيرة؛ إنما أقوال إلهية مجيدة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* يوجد عشرات الألوف من الملائكة هناك، اجتماع القديسين، وكنيسة الأبكار المُسجلة في السماء. "أعمال مجيدة قيلت عنكِ يا مدينة الله" (مز 87: 3 LXX). يعد الله هذا المدينة بإشعياء: "أجعلك فخرًا (ملوكيتكِ) أبديًا، فرح دور فدورٍ... لا خراب أو سحق في تخومك، بل تسمين أسوارك خلاصًا" (إش 60: 15، 18). لذلك إذ ترفع عيني نفسك أطلب كما يليق الأمور العلوية، ما يخص مدينة الله. أي شيء يمكن أن يعتبره أحد ما مستحقًا للسعادة في هذه المدينة التي يفرَّحها نهر الله، والتي الله هو صانعها وخالقها؟[7]
* يُعَّرف البعض المدينة بأنها اجتماع لكائنات في جسم واحد منظم، يحكمه القانون... وهذا التعريف الذي أطلق على المدينة يتناسب مع أورشليم العليا... المدينة السماوية، لأن هناك كنيسة أبكار المكتوبة أسماؤهم في السماويات (عب12: 23)، لأنها منظمة أيضًا حيث انسياب حياة القديسين لا يتوقف، ويحكمها القانون السماوي، لا يمكن للطبيعة البشرية إدراك مدى استعداد هذه المدينة ونظامها لأنه "ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعده الله للذين يحبونه" (1 كو2 : 9). أيضًا يوجد في هذه المدينة ربوات من الملائكة... وكنيسة أبكار مكتوبين في السماوات (عب12 :3،2)... يذكر داود هذه المدينة فيقول: "قد قيل بك أمجاد يا مدينة الله (مز 87 :3) ما وعد الله لهذه المدينة ينقله لنا إشعياء: "أجعلك فخرًا أبديًا... فرح... دور فدور" لا يسمع بعد سحق في تخومك، بل تسمين أسوارك خلاصًا (إش60 :15،18). فلنرفع عيون نفوسنا، ولنبحث عن الخيرات العليا اللائقة بمدينة الله.
القديس باسيليوس الكبير
ما هذه المدينة التي دعيت مدينة الله، وقد قيل عنها أقوال مجيدة سوى القديسة مريم التي تجسد كلمة الله في أحشائها، وصارت سماء ثانية؟!
* في الشهر السادس أرسل جبرائيل إلى عذراء، إذ تقبل مثل هذه التعليمات.
تعال هنا الآن يا رئيس الملائكة، ولتكن خادمًا لسرٍّ خطيرٍ مخفيٍ...
لقد دفعني حنوّي أن أنزل إلى الأرض حتى أنقذ آدم المفقود، لأن الخطية أهلكت المخلوق على صورتي، وأفسدت عمل يدي، وشوّهت جمال ما أوجدته.
هوذا الذئب يفترس غنمي، وبيت الفردوس مخرب، وشجرة الحياة محروسة بسيفٍ من نارٍ، ومواضع السرور قد أغلقت... وأنا أرغب في أن أمسك بالعدو.
ومع ذلك فإنني أريدك أن تحفظ هذا السرّ الذي ائتمنك عليه وحدك، إذ لا يزال مخفيًا عن بقيّة القوّات السمائيّة. لذلك اذهب إلى العذراء مريم. أعبر إلى هذه المدينة الحيّة التي تكلّم عنها النبي، قائلًا: "أعمال مجيدة قد قيلت عنك يا مدينة الله" (مز 87: 2).
تقدّم إذن إلى فردوس عاقل، تقدّم إلى باب المشرق... إلى مكان حلولي حيث يستحق كلمتي... إلى السماء الثانية التي على الأرض، إلى السحابة المنيرة، وأخبرها عن مجيئي. تقدّم إلى المعبد المهيّأ لي، إلى ردهة تجسّدي، إلى الحجال النقي الذي لميلادي بالجسد. تحدّث في أذني تابوتي العاقل...[8]
القديس غريغوريوس صانع العجائب

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. مواطنو أورشليم

أَذْكُرُ رَهَبَ وَبَابِلَ عَارِفَتَيَّ.
هُوَذَا فَلَسْطِينُ وَصُورُ مَعَ كُوشَ.
هَذَا وُلِدَ هُنَاكَ [4].
ذُكرت رهب في المزمور 89: 10؛ إش 51: 9. وهي تشير إلى مصر حيث كانت مرهبة ولها عظمتها، وتعني الكبرياء أو القوة وأحيانًا العنف[9].
بابل: كانت إمبراطورية عظيمة لها سلطانها، غالبًا ما كانت في موقف التنافس مع مصر، وكانت إسرائيل في موقف لا تُحسد عليه بين الدولتين.
كوش: كانت تشير إلى أثيوبيا، أو إلى كل المناطق جنوب مصر، وبصفة عامة يُنظر إليها أنها الدول التي في الجنوب.
من هو هذا الذي وُلد في هذه الدول؟ يرى البعض أن المرتل يشير إلى كنيسة العهد الجديد التي ضمت الكثيرين من الأمم الوثنية، حيث يُقدم الإيمان كطفلٍ حديث الولادة.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن رهب هنا تشير إلى الاتساع (رحب) كما إلى الكبرياء، وبابل تشير إلى البلبلة والارتباك، وكورش إلى النفوس المظلمة، وصور إلى عبادة الأوثان. وكأن الأمم التي كانت تعبد الأوثان متسعة في الخطية ومرتبكة في التعاليم ومتعجرفة ومظلمة، صارت عارفة لله بدخولها في الإيمان الحقيقي، أي صارت أورشليم العقلية الروحية، بل الله عرفهم وحسبهم خاصته.
* تعال معي الآن إلى فئة أخرى خلصت بالتوبة.
قد تقول امرأة ما: لقد ارتكبت الزنا والدعارة ودنست جسدي بكل أنواع الترف والإفراط، فهل لي خلاص؟ حولي عينيك إلى راحاب، وتطلعي أيضًا إلى الخلاص. إن كانت زانية عامة تزني علنًا خلصت بالتوبة، أفما تخلص بالتوبة والصوم من سقطت في الزنا قبل قبولها النعمة؟!
اسألي كيف خلصت؟ إنها فقط قالت: "الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت" (يش 2: 1). إنها تقول: "إلهكم" دون أن تجسر لتنسبه لنفسها بسبب حياتها المملوءة ضلالًا. وإن أردت التأكد من خلاصها بشهادة من الكتاب المقدس، فإنك تجد في سفر المزامير: "أذكر راحاب وبابل بين الذين يعرفونني"[10] (مز 87: 4).
يا لعظمة حنو الله المترفق، فإن الكتاب المقدس يشير حتى إلى الزانيات. إنه لا يقول: "اذكر راحاب وبابل" فقط بل يكمل "بين الذين يعرفونني"، فالخلاص نبلغه بالتوبة سواء كنا رجالًا أو نساء على قدم المساواة[11].
القديس كيرلس الأورشليمي

أفاض القديس جيروم في الحديث عن رهب، التي قي ذهنه تعني راحاب الزانية، الأممية التي خبأت جاسوسي يشوع، وكأنها قد قبلت الإيمان بيسوع (المخلص). وقد أبرز القديس النقاط التالية:
أ. أنها أممية إشارة إلى قبول الأمم للإيمان.
ب. خبأتهما على السطح، فإيمانها كان ساميًا ومرتفعًا.
ج. خبأتهما تحت عيدان الكتان، والكتان الأبيض يشير إلى النقاوة، مع أنها كانت قبلًا زانية.
د. ينمو الكتان من التربة السوداء، وبلا جمال، لكن إذ يُسحب من التربة ويُعالج يصير باهرًا ببياضه الناصع.
هـ. أوصتهما أن يبقيا ثلاثة أيام ثم ينطلقا، ويرى القديس أن هذه الأيام تشير إلى التمتع بالاستنارة.
ز. طلبت منهما ألا يسيرا في السهول بل يصعدا على الجبل (يش 2: 16)، هكذا لا يوضع إيمان الكنيسة في السهول بل يرتفع.
ح. اسم "رهب" معناه "متسع" أو "كبرياء"، فقد كانت قبلًا تسلك في الطريق الواسع بكبرياء، المؤدي إلى الهلاك (مت 7: 13).
* الآن يتحدث المزمور عن دعوة الأمم "أذكر رهب وبابل بين الذين يعرفونني". ليكن الخاطي في سلام، فإن الرب كان يذكر رهب. أقصد يكون في سلام إن رجع إلى الرب... "أذكر رهب"، أي راحاب الزانية التي خبأت جاسوسي يشوع، هذه التي عاشت في أريحا (يش 2)... راحاب الزانية وحدها استقبلتهما، وخبأتهما لا في الدور الأرضي، بل في مخزن علوي على السطح، أي في سمو إيمانها[12].
* هذه التي كانت قبلًا في الطريق الواسع المؤدي إلى الهلاك صارت بعد ذلك تصعد إلى ذاكرة الله[13].
* أولئك الذين كانوا قبلًا غرباء، الذين كانوا في ضيق، يسكنون في وسط البحر (إذ يُقال أن صور تقع في قلب البحر)، هؤلاء الذين كانوا أولًا في البحر تضربهم الأمواج وُجدوا أخيرًا في الكنيسة[14].
القديس جيروم
* معنى "بابل" ارتباك". لا أذكر فقط رهب وإنما أيضًا بابل، أي كل نفس حتى إن كانت مرتبكة بالأخطاء والخطايا.
العلامة أوريجينوس
وَلِصِهْيَوْنَ يُقَالُ: هَذَا الإِنْسَانُ،
وَهَذَا الإِنْسَانُ وُلِدَ فِيهَا،
وَهِيَ الْعَلِيُّ يُثَبِّتُهَا [5].
جاء في الترجمة السبعينية: "وهو العلي الذي أسسها إلى الأبد". وكأن الإنسان المولود فيها بالحقيقة هو العلي الأبدي، الذي يؤسس كنيسته.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن كلمة الله الذي يهب المؤمن التبني أو الولادة الروحية قد وُلد فيها وتأنس لأجلنا؛ بهذا كل من يعترف بلاهوته يقبل صهيون أمًا روحية لنا، كقول الرسول إنها أمنا جميعًا (غل 4: 26).
يرى البعض أن القول "إن إنسانًا، وإنسانًا صار فيها" يشير إلى أن كثيرين يتمتعون بالولادة الجديدة، يأتون من كل الأمم، ويصيرون سكان صهيون الجديدة أو أعضاء في كنيسة العهد الجديد.
* إن كانت هذه رغبتنا، فإن المسيح يُولد يوميًا، خلال كل فضيلة يُولد المسيح[15].
القديس جيروم
* نظر داود إلى العلا وبدهشة شاهد منظر المدينة المدهش (مز 87: 5) بابل مدينة الله التي قيل عنها أمور مجيدة؛ ذكرت راحاب الزانية والقبائل الأممية وصور وأثيوبيا أيضًا في أورشليم السمائية. لن يقترب أحد بعد من أهل هذه المدينة المهجورين البؤساء، قائلًا: "ولصهيون يقال هذا الإنسان وهذا الإنسان وُلد فيها" (مز 87: 5). صار البابليون من أهل أورشليم، والزانية صارت عذراء، الأثيوبيون صار لونهم أبيض عوض السواد، وصارت صور المدينة العليا. وهكذا فإن العروس تشجع بنات أورشليم بحماسٍ، إذ تصف لهم صلاح العريس الذي يستلم النفس السوداء ويردها إلى صورة الجمال الأول بالشركة معه. إذن من كان "كخيام قيدار" يصير مسكنًا مضيئًا لسليمان الحقيقي، أي يسكن فيه ملك السلام. لذلك يقول النص: "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم". وجميعكم الذين تنظرونني تصيرون كشقق سليمان حتى وإن كنتم قبلًا "كخيام قيدار"[16].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص

* بمعنى: لا يقدر إنسان مجرد أن يكون له القدرة أن يعلن لصهيون أنها ستخلص بالإنسان الذي يُولد فيها... يُقال عنه إنه الرب العلي، فكم بالأكثر يُقال عنه إنه كلمة الله؟[17]
القديس جيروم
الرَّبُّ يَعُدُّ فِي كِتَابَةِ الشُّعُوبِ،
أَنَّ هَذَا وُلِدَ هُنَاكَ. سِلاَهْ [6].
يرى المرتل كأن الرب المشغول بخلاص البشر قد أمسك بكتاب يسجل فيه حسابات أو تعداد كل الشعوب القادمة للإيمان. كما يهتم بكل واحدٍ منهم باسمه، ليمجده.
يرى القديس جيروم أن الرب يعد تلاميذه ليسجلوا للشعوب عن مجيء هذا الابن العلي المولود في صهيون، يسجلوا هذا في الأسفار المقدسة.
* كتب أفلاطون كتبًا، لكنه كتب لقلة وليس لكل الشعوب... أما رؤساء الكنيسة (التلاميذ والرسل) فلم يكتبوا فقط لقلة، إنما لكل أحدٍ دون استثناء[18].
القديس جيروم
* صهيون العقلية كما ذكرنا هي كنيسة الأبكار المكتوبين في السماوات، كما قال ربنا له المجد: "افرحوا لأن أسماءكم كتبت في السماوات. فالشعوب وأراخنتهم، أعني بهم الرسل ومعلمي الشعوب الذين ولدوا فيها ولادة روحية. وهم عدد كبير لا يقدر إنسان أن يحصيهم؛ ولا ينطق بكميتهم سوى الرب المولود بالجسد. لهذا قال لتلاميذه: إن شعور رؤوسكم محصاة... وقد جاء في ترجمة سيماخوس: وأما عن الأمم فسيُقال لكل أحدٍ: "إنسان ولد هناك، وهو العلي الذي أسسها. الرب الذي معه كتاب الشعوب هو وُلد هناك".
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. المدينة المتهللة

وَمُغَنُّونَ كَعَازِفِينَ كُلُّ السُّكَّانِ فِيكِ [7].
يصور لنا سفر الرؤيا أورشليم العليا وقد دخلها كل المفديين يحملون قيثارات. إنها فرقة موسيقية متهللة تضم البلايين من آدم إلى آخر الدهور، لا تتوقف عن التسبيح بروح الفرح والتهليل بلا انقطاع.
يرى البابا ثاؤفيلس أنه عند انتقال (روح) إنسانٍ من هذا العالم يقف فريقان، فريق من قوات الظلمة يترقبون ضمها إليهم، لتشاركهم مصيرهم، وفريق من الملائكة يترقبون استقبالها بروح الفرح لتنعم بالفردوس السماوي.
* يتحدث النبي مع الكنيسة ويخبرها أن كل الذين يسكنون فيها كما لو كانوا مملوءين بالفرح والبهجة[19].
القديس جيروم
يعلق كل من القديسين أغسطينوس وجيروم على حرف "ك" في كلمة "كعازفين"، فالفرح في مدينة يختلف عن ذاك الذي يطلبه البعض هنا. يجد البعض فرحهم هنا في الخمر والموائد والطمع الخ. أما سكان مدينة الله فيتعرضون لمتاعب هنا وضيقات لكنهم ينعمون بالفرح السماوي الأبدي.
* تكون الأمم كلها صفوفًا، مرتلين ومسبحين لله بفرحٍ وسرورٍ، ساكنين في المدينة السابق تفسيرها التي أساساتها مبنية على الجبال المقدسة، وهي غير مختفية. وكما قال ربنا له المجد لأنها مبنية على جبلٍ. أما أبوابها ومداخلها فهي عندنا. وأما في وسطها فساكن فيها كافة المؤمنين مصطفين بنظامٍ إلهيٍ ومملوءين من كل فرحٍ روحي. وهي التي بناها المسيح الإله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* إنني أفزع وأنا خائف، فأي رعب وأيّة شدّة تعاين النفس عند خروجها من الجسد، إذ يأتي ضدّها الجنود والقوات المضادّة وأرواح الشر والذين يتحكمون في ظلمة هذا العالم الخبيث، فيأخذون النفس، ويُظهِرون لها كل ما فعلت من الخطايا بمعرفةٍ أو بغير معرفةٍ أو بجهالة منذ شبابها، ويحاججونها على كل ما فعلت. فأيّة شدّة ورعب تلاقيهما النفس في تلك الساعة، حتى يُحكَم في قضيتها وتُعتَق. هذه هي ساعة شدّتها حتى ترى نهاية أمرها. ومن ناحية أخرى تقف القوات السماوية من الناحية المقابلة، وتُظهر أعمال النفس الصالحة. فتفكّر في خوف النفس ورعبها، وهي تقف بين الفريقين حتى يُحكم عليها في الدينونة من القاضي العادل. فإن كانت مستحقة للنعيم تأخذها الملائكة بكرامة وتحفظها من الأشرار، فتصير من ذلك اليوم بغير همٍّ كما هو مكتوب: "لأن جميع الساكنين فيكِ هم من الفرحين" (مز 87: 7 السبعينية). وحينئذ يتم المكتوب: "يهرب الحزن والتنهُّد" (إش 35: 10)، وحينئذ تفلت النفس من ضابطي الظلمة وتذهب إلى ذلك المجد المبهج الذي لا يُنطَق به.
أنبا ثيؤفيلس البطريرك
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 87

بك أدخل إلى مدينتك المحبوبة!


* نزلت إلى أرضنا، لكي تعلن حبك العجيب لنا.
حملتنا فيك، لندخل إلى كنيستك السماوية.
أنت هو الطريق الذي يحملنا إليه،
وأنت هو الباب الذي يدخل بنا إلى أمجادها.
وأنت هو سرّ مجدها وبهائها!
* أمجاد عجيبة قيلت عن مدينتك.
فيها تحققت نبوات الأنبياء.
وفيها كُشفت أسرار سماوية.
يُسمع فيها صوت تهليل لا ينقطع.
ويتجلى فيها الحق الإلهي والتعاليم المبهجة.
* تُرى متى تأتي على السحاب،
فأحمل قيثارة الروح الرائعة،
وأنضم إلى كل الذين عن يمينك.
كل كياني يعزف سيمفونية حب خالدة.
تفرح بنا الطغمات السماوية،
وتعزف معنا، أو نعزف نحن معهم.
يا لها من كنيسة سماوية مجيدة!
  رد مع اقتباس
قديم 18 - 02 - 2014, 04:04 PM   رقم المشاركة : ( 89 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 88 - تفسير سفر المزامير
ليلة عصيبة

يحسب البعض هذا المزمور بأنه أكثر المزامير حزنًا، فقد بحث المرتل عن أمَّر الألفاظ والتعبيرات، ليصف ما بلغ إليه من مرارة في مأزقٍ، يبدو كأن لا رجاء للخلاص منه[1].
ويرى البعض أنه يعبر عما احتمله السيد المسيح حين قبل بإرادته أن يحمل خطايانا، فثارت القوى المحيطة به عليه، وتعبت نفسه من المصائب، ونزل إلى الهاوية كمن بلا قوة. وحسبه الصالبون أن رجسة موضع غضب الله الخ.
المزمور الوحيد الذي لم ينته بالفرح والتسبيح أو الشكر لله. وإن كان القديس جيروم يرى في المزمور تسبحة تقدم من أبناء القيامة بعد أن تلمسوا ما صنعه السيد المسيح حين نزلت نفسه إلى الجحيم، وحملت المسبيين لتدخل بهم إلى الفردوس.
1. استغاثة وطلب عون إلهي
1-2.
2. مرثاة لبارٍ متألم
3-9.
3. تساؤلات تصدر ممن على حافة القبر
10-12.
4. تساؤلات عن سبب الضيق
13-17.
من وحي المزمور 88
وضعت كنيسة إنجلترا هذا المزمور ليتلى بين مزامير الجمعة العظيمة.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِبَنِي قُورَحَ.
لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ عَلَى الْعُودِ لِلْغِنَاءِ.
قَصِيدَةٌ لِهَيْمَانَ الأَزْرَاحِيِّ
يرى القديس جيروم أنه جاء في عنوان هذا المزمور الآتي:
"تسبحة، مزمور لبني قورح، للنهاية. لـ Mahalath في تجاوب معًا لفهم هيمان الأزراحي".
يلاحظ هنا:
1. "بنو قورح" كما رأينا في المزمور 85 تشير إلى أبناء القيامة حيث أن قورح تعني جلجثة Calvary.
2. للنهاية: فإن هذا المزمور يُسبح به ليس في البداية حيث الآباء البطاركة، ولا في المنتصف حيث الأنبياء، وإنما في النهاية حيث الرسل، وإلينا نحن الذين وُعد لنا فرح التسبحة.
3. كلمة mahalath العبريةمعناها "خورس"، وهي تستخدم حيث يُوجد كثيرون يسبحون معًا في انسجام كما بصوتٍ واحد.
4. أما التجاوب معًا in antiphonal response فيشير إلى كل الجموع التي تتجاوب معًا في التسبيح لله. إنه سرّ الكنيسة التي تجتمع معًا من أمم كثيرة وأماكن متفرقة وأقاليم مختلفة وعادات متباينة، جميعها تكون خورسَ واحدًا يمجد الله.
التجاوب بترديد مرد المزمور لا يكون بالكلام والتسبيح بالفم فقط، وإنما بالاقتداء بالمسيح يسوع في آلامه من أجل الغير. وكأن غاية هذا المزمور أن نتشبه بمحبة السيد المسيح العملية والباذلة من أجل إخوتنا.
5. هيمان فهو أحد رؤساء الفرق الموسيقية مثل آساف وغيره. أما كلمة "الأزراحي" فهي مشتقة من "عزرا" والتي تعني معين. فأزراحي معناها "عون الله"، فإن هذا الخورس الكنسي من كل الأمم يتحقق خلال عون الله.
في اختصار يرى القديس جيروم أن العنوان يشير إلى أن هذا المزمور خاص بأبناء القيامة الذين بنعمة الله وعونه، يكونون خورسَ متناغمًا معًا من كل العالم، يسبحون الله في ملء الزمان حيث الكرازة بالإنجيل، الكل يتجاوبون معًا بروحٍ واحدةٍ بفرح الروح الموعود به.
* هنا نبوة عن آلام ربنا. يقول الرسول بطرس: فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا، تاركًا لنا مثالًا لكي تتبعوا خطواته" (1 بط 2: 21). هذا هو معنى "التجاوب بالمرد". أيضًا يقول الرسول يوحنا: "ذاك وضع نفسه لأجلنا، فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة" (1 يو 3: 16). هذا أيضًا معنى "التجاوب بالمرد"... من يسلم جسده ليحترق وليس فيه محبة، لا يكون قد تجاوب مع الخورس بالمرد، فلا ينتفع شيئًا (1 كو 13: 3)...
تقدم المسيح أولًا وتبعه خورس الشهداء حتى النهاية لينالوا أكليل في السماء[2].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. استغاثة وطلب عون إلهي

يَا رَبُّ إِلَهَ خَلاَصِي،
بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ صَرَخْتُ أَمَامَكَ [1].
هذه البداية هي الشعاع الوحيد المبهج وسط الظلمة القاتمة التي سادت على المرتل في هذا المزمور، أو النجم الوحيد الذي اخترق ليلة داكنة الظلام. بعدها قدم المرتل وصفًا محزنًا للغاية، وصرخات نحو الرب، وكأنه ليس من راحة.
قبل أن يبدأ شكواه إلى الرب إله خلاصه، معلنًا أنه وإن بلغت الضيقة إلى درجة خطيرة، كان يترجى الرب القادر وحده أن يخلصه.
"أمامك": تحت شدة الضيقة ومرارتها يصرخ الإنسان، لكن الحاجة هي أن يصرخ أمام الرب كإله خلاصه. اعتاد الكثيرون أن يملأوا أذان البشر بشكواهم مما حلّ بهم، وآخرون يملأون الهواء بالشكوى بلا جدوى، وآخرون يكبتون صرخاتهم في داخلهم، مما قد يسبب لهم الدخول في حالة إحباط! ليتنا ننسكب أمام الله، ونقدم له صرخات قلوبنا، فإنه وحده قادر أن يهبنا الخلاص.
* "يا رب إله خلاصي" يُنشد هذا المزمور بالحقيقة باسم المخلص الذي بتدبيره أخذ الناسوت. فما جاء فيه من تعبيرات متواضعة، إنما ينطق بها بناسوته من أجل خلاص البشرية. "بالنهار أصرخ، وبالليل أطالب أمامك" (راجع مز 88: 1). فإنني وإن كنت أصرخ بالليل، إلا أن الشعور بالثبات هو نور لي[3].
القديس جيروم
* لنسمع الآن صوت المسيح يسبح أمامنا في النبوة، حيث يتجاوب معه الخورس الخاص به بالإقتداء به أو بالشكر[4].
القديس أغسطينوس
فَلْتَأْتِ قُدَّامَكَ صَلاَتِي.
أَمِلْ أُذْنَكَ إِلَى صُرَاخِي [2].
إذ تمرر قلبه من الضيق، صار صوته خافتًا. لذلك يطلب من إله خلاصه أن يميل أذنه ليسمع صرخات القلب الخفية. يود المرتل في حزنه أن يشعر بأنه أمام وجه الرب، وفي حضرته. كأن الله قد ترك الكل ليصغي إليه. ربما شعر المرتل أن اللغة لم تعد تسعفه في التعبير عما حلّ به، لهذا لم يُعد حديثًا منمقًا للشكوى، إنما يود من الله أن يسمع لغة الحزن التي تسيطر على أعماقه.
* "فلتاتِ قدامك صلاتي". "يا أبتاه، في يديك، أستودع روحي" (لو 23: 46)، لتبلغ صلاتي أمامك. "أمل أذنك إلى صراخي للمعونة"... إنه صوت الابن يتحدث باسمنا للآب. "أمل أذنك". إنها علامة على الضعف الشديد، إن كانت عندما تريد أن تسمع يلزمك أن تميل أذنك لتصغي بأكثر قربٍ لما يُقال لك. فقط فكروا كيف أنه أمر غير لائق أن يقال بأن الآب لا يقدر أن يسمع الابن ما لم يمل برأسه. يتحدث الكتاب المقدس بعبارات خاصة بضعفنا البشري حتى يمكننا أن نفهم بأكثر سهولة[5].
القديس جيروم
* حتى ربنا صلى، لا في شكل الله، بل في شكل العبد، فإنه في هذا تألم. لقد صلى في وقت الفرج، أي بالنهار، وفي وقت الضيق أي بالليل.
دخول الصلاة إلى حضرة الله يعني قبولها. وميل أذنه هو حنوه وإصغاؤه إليها، لأن الله ليس له أعضاء جسدية مثلنا[6].
القديس أغسطينوس
* هكذا يسوع أيضًا في الحقيقة، حينما تعب من رحلته جلس إلى بئر (يو 6:4). تعب لأنه لم يجد شعب الله الذي كان يبحث عنه، لقد خرجوا من أمام وجه الرب (تك 16:4). الإنسان الذي يتبع الخطية يبتعد عن المسيح، فالخاطئ يخرج، أما البار فيدخل. لقد اختبأ آدم حقًا كخاطئ" (تك 16:4). لكن البار يقول: "فلتأتِ قدامك صلاتي" (مز 2:88)[7].
القديس أمبروسيوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. مرثاة لبارٍ متألم

لأَنَّهُ قَدْ شَبِعَتْ مِنَ الْمَصَائِبِ نَفْسِي،
وَحَيَاتِي إِلَى الْهَاوِيَةِ دَنَتْ [3].
يشكو المرتل من أن المصائب والمتاعب والأحزان قد تجمعت معًا عليه، فلم يعد قادرًا أن يقدم شكوى معينة. لقد امتلأ قلبه بالأحزان ولم يعد به مكان لضيقة أخرى. صارت حياته أشبه بمن دنى إلى الهاوية، يحسب نفسه وسط الأموات.
يرى القديس جيروم أن المرتل يصف ما قد حمله السيد المسيح على الصليب، إذ حمل خطايا العالم كله، ونزل إلى الهاوية ليحرر الأسرى. لقد دنا منها، لكن لم يكن ممكنًا للهاوية أن تحجزه فيها، لأنه بلا خطية.
* لماذا لا نقول بأن نفس المسيح امتلأت بمصائب البشرية، وإن كان ليس بسبب خطاياها؟ يقول عنه نبي آخر، إنه حمل أحزاننا (إش 53: 4). ويقول الإنجيلي: "ثم أخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب" (مت 26: 37). وقال ربنا لهم عن نفسه: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" (مت 26: 38). سبق فرأى النبي واضع هذا المزمور ما سيحدث، فتكلم عنه، قائلًا: "قد شبعت من المصائب نفسي، وحياتي إلى الهاوية دنت" [3]... والجسد (الكنيسة) مثل خورس يتبع قائده، يلزم أن يتعلم من رأسه أن تلك الأحزان ليست بسبب خطايا، إنما برهان على الضعف البشري.
نسمع عن الرسول بولس كعضوٍ رئيسي في هذا الجسد يعترف أن نفسه مملوءة بمثل هذه المصائب، إذ يقول إنه يشعر: "لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع... لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد، الذين هم إسرائيليون" (رو 9: 2-4)[8].
القديس أغسطينوس
* "لأنه قد شبعت نفسي من المصائب". إنني أحمل خطايا الكثيرين، إذ أتألم من أجل الكل. نفسي تفيض بالأحزان؛ إنني أحمل أثقالًا شريرة لألقي بها على الصليب. "وحياتي إلى الهاوية دنت" حسنًا قال: "دنت"، فإنه لم يُحتجز في الهاوية، وإنما دنا منها لأجلنا. بالحقيقة يقول باسم الرب في مزمور آخر: "لن تترك نفسي في الهاوية، لن تدع تقيك يرى فسادًا" (مز 16: 10)[9].
القديس جيروم
حُسِبْتُ مِثْلَ الْمُنْحَدِرِينَ إِلَى الْجُبِّ.
صِرْتُ كَرَجُلٍ لاَ قُوَّةَ لَهُ [4].
في وسط ضيقه عاد المرتل بذاكرته حين ألقى أولاد يعقوب يوسف أخيهم في الجب، وصار كإنسانٍ لا حول له ولا قوة.
بسببنا نزل السيد المسيح إلى جب الهاوية، وظن الصالبون أنه إنسان بلا قوة، ولم يدركوا أنه بنزوله حطم متاريس الهاوية، وخلص الذين ماتوا على الرجاء وحُبسوا في الجحيم زمانًا هذه مدته!
* أما عن البئر الجافة (تك 24:37)، فما العجيب في أن بئر اليهود لم يكن بها ماء؟ لأنهم تركوا ينبوعَ الماءِ الحي، وحفروا لأنفسهم آبارًا مشققة (لا تضبط ماءً) (إر 13:2). ولتعرفوا أن هذا السرّ حقيقي، يقول الرب ذاته عن نفسه: "وضعوني في الجب (البئر) إلي أسفل، في ظلماتٍ في ظلِ الموت" (مز6:87- سبعينية)[10].
القديس أمبروسيوس
* "أُحصيت مع المنحدرين إلى الجب". ظن قاتلي أنني انحدرت مع بقية البشرية في سجن العالم السفلي، لم يعرفوا أنني نزلت لكي أسحب معي الذين كانوا محتجزين هناك. "صرت كرجلٍ لا قوة له؛ إنني حُر بين الأموات". البشر الآخرون احتجزوا في الهاوية بقيود الخطية. فإنه ليس إنسان بلا خطية ولو كانت حياته يومًا واحدًا (راجع أي 14: 4-5 LXX).
نحن جميعًا مربوطون في الخطية، لذلك من ينحدر في العالم السفلي يُمسك هناك بناموس العالم السفلي. "بحبال خطيتك يُمسك" (أم 5: 22). بالطبيعة أنا حر، وإنما صرت مثل خاطي لحساب خطايا البشر[11].
القديس جيروم
بَيْنَ الأَمْوَاتِ فِرَاشِي،
مِثْلُ الْقَتْلَى الْمُضْطَجِعِينَ فِي الْقَبْرِ،
الَّذِينَ لاَ تَذْكُرُهُمْ بَعْدُ،
وَهُمْ مِنْ يَدِكَ انْقَطَعُوا [5].
جاء النص في KJ: "Free among the dead". وجاء في الترجمة السبعينية: "صرت حرًا بين الأموات، مثل قتلى مطروحين راقدين في القبور..." وقد أفاض الآباء في الحديث عن السيد المسيح الذي بكامل حريته قبل الموت من أجلنا، وصار كقتيلٍ مطروحٍ في القبر.
* "مثل القتلى المضطجعين في القبر". حسنًا قال: "مثل القتلى". ليس فيه جراحات، لكنه قبل الجراحات من أجل خلاص البشر، وكما يقول إشعياء: "أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها" (إش 53: 4)[12].
القديس جيروم
* دُعي "ميتًا"، لا كمن هو بين الأموات الذين في الجحيم جميعهم، بل وحده الحر بين الأموات (مز 88: 5)[13].
* لقد أظلمت الشمس (لو 23: 45) من أجل "شمس البرّ" (مل 4: 22). والصخور تشققت من أجل الصخرة الروحية (1 كو 10: 4). القبور تفتحت والموتى قاموا بسبب هذا الذي هو "حر بين الأموات" (مز 88: 5). إذ حرر أسراه من الحفرة التي بلا ماء (زك 9: 11)[14].
القديس كيرلس الأورشليمي

* من يحرر من الموت ومن العبودية إلاَّ ذاك الذي هو "حرّ من بين الأموات" (مز ٨٨: ٥)؟ من هو "الحرّ من بين الأموات" إلاَّ ذاك الذي بلا خطية وسط الخطاة؟ يقول مخلصنا نفسه، منقذنا: "رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيَّ شيء" (يو ١٤: ٣٠). (رئيس هذا العالم) يمسك بمن يخدعهم ومن يغويهم، ومن يحثهم على الخطية والموت، هذا "ليس له فيَّ شيء".
تعال أيها الرب، تعال أيها المخلص. ليتعرف عليك الأسير.
دع من اقتيد إلى السبي أن يهرب إليك. كن فاديًا له!
إذ كنت مفقودًا وجدني ذاك الذي لم يجد الشيطان له فيه شيئًا آتيا من الجسد. لقد وجد في رئيس هذا العالم جسدًا، لقد وجده، لكن أي نوع من الجسد؟
هل يمكن لجسدٍ مائتٍ أن يمسكه ويقدر أن يصلبه وأن يقتله!
لقد أخطأت يا أيها المخادع، فإن المخلص لا يُخدع... إنك ترى فيه جسدًا قابلًا للموت، لكنه ليس جسد الخطية، بل على شبه جسد الخطية. "الله أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد" (رو ٨: ٣). في جسد، لكن ليس في جسد الخطية بل "في شبه جسد الخطية". لأي هدف؟ "لكي بالخطية التي بالتأكيد لم يكن منها شيء فيه، يدين الخطية في الجسد، فيتحقق برّ الناموس فينا، نحن الذين لا نسلك حسب الجسد بل حسب الروح (رو ٨: ٤).
لا يدع أحد نفسه حرًا لئلا يبقى عبدًا. لا تبقى نفوسنا في عبودية، لأنه يُعفى عن ديوننا يومًا فيومًا[15].
* باستحقاق فعّال يخلص من عبودية الخطية هذه، هذا الذي يقول في المزامير: "صرت إنسانًا بلا سند، حرًا بين الأموات" (مز ٨٨: ٤-٥). فإنه وحده كان حرًا، إذ لم يكن فيه خطية. إذ هو نفسه يقول في الإنجيل: "رئيس هذا العالم يأتي" يقصد الشيطان الذي يأتي في أشخاص اليهود المضطهدين له، "وليس له فيَّ شيء" (يو ١٤: ٣٠ - ٣١). فلا يجد فيَّ نسبة ما من الخطية كما في أولئك الذين يُقتلون كأبرارٍ، لا يجد قط شيئًا ما فيّ... إنني لست أدفع عقوبة الموت كضرورة بسبب خطاياي، لكنني أموت متممًا إرادة أبي. في هذا أنا أفعل إذ أحتمل الموت، فلو كنت لا أريد الألم ما كنت أتألم. يقول بنفسه في موضع آخر: "لي سلطان أن أضع حياتي، ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو ١٠: ١٨). بالتأكيد هنا ذاك الذي هو حر بين الأموات[16].
* جزئيّا نحن في حرية، وجزئيًا في عبودية.
ليست الحرّية كاملة بعد، ولا نقيّة بالتمام، لأننا لم ندخل بعد الأبدية.
نحن لا نزال في الضعف جزئيًا، لكنّنا نلنا الحرّية جزئيًا. ما قد ارتكبناه من خطايا قد غُسل في المعموديّة سابقًا، لكن هل قد محيّ كل الشرّ وبقينا بلا ضعف؟[17]
القديس أغسطينوس
* لقد بذل حياته لأجلنا، وكان من بين الأموات كمن هو حرّ [٥]. فإن الموت لم يهاجمه بسبب الخطية مثلنا، إذ كان ولا يزال بلا خطية، غير قادر على صنع شرّ ما، إنما احتمل الآلام بإرادته لأجلنا من أجل محبته لنا غير المحدودة[18].
القديس كيرلس الكبير
وَضَعْتَنِي فِي الْجُبِّ الأَسْفَلِ،
فِي ظُلُمَاتٍ فِي أَعْمَاقٍ [6].
جاء النص عن الترجمة السبعينية: "جعلوني في جب سفلي، في مواضع مظلمة وظلال الموت". ظن الأشرار أنهم قادرون أن يدفنوا النور الحقيقي، ولم يدركوا أن النور الحقيقي يبدد الظلمة.
يئن المرتل من أن الذين يعرفونه وأصدقاءه اختفوا كما في مكان مظلم، كأنهم لا يرونه، وحتى لا يراهم ويطلب معونتهم.
هكذا يصور المرتل نفسه بالشخص الذي لا يرافقه إلا الضيق والألم والظلمة، ليس من رفيق يسنده أو يشاركه مشاعره.
* "أغرقتني في عمق الجب". لقد نزلت إلى ذات أعماق الهاوية لكي أحرر كل البشرية من قيود الهاوية. "في ظلمة الجب، في ظل الموت" (راجع مز 88: 7). لم يقل "الموت" وإنما "ظل الموت"، فإن الموت لم يُحكم بعد عليّ من اليهود، وإنما ظل الموت. فإن هذه هي إرادتي أن أنزل لأجل خلاص البشرية. أنا الذي هو النور، نزلت إلى الهاوية لأحرر النفوس من هاوية الظلمة.
القديس جيروم
* حقيقة تحقق هذا بالأكثر في المسيح، فقد صار في سلطانه ليس فقط أولئك الذين أُلقوا في السجن، بل استدعى ببسالة ونجاح حتى الذين في سجن الجحيم الذين قبض عليهم الشيطان. فقد صعد إلى العلاء وسبى سبيًا وأعطى حياة للذين دفع بهم الشيطان إلى الموت[19].
الأب قيصريوس أسقف آرل
* إذ لم يعرفوا ماذا يفعلون، وضعوه هناك... لم يعرفوا ذاك الذي لم يعرفه أحد من كل رؤساء هذا العالم. بالنسبة لظلال الموت لست أعرف إن كان يُفهم منها موت الجسد أو ذاك الذي كتب عنه: "الجالسون في ظلال الموت أشرق عليهم نور" (إش 9: 2). فإنهم بالإيمان اُخرجوا من الظلمة وموت الخطية إلى النور والحياة[20].
* لم يمت بسبب خطية ارتكبها، إنما شاركنا عقوبتنا لا خطايانا. الموت هو عقوبة الخطية. جاء المسيح ليموت لا ليخطئ، إذ شاركنا العقوبة دون الخطية أبطل العقوبة والخطية.
ما هي العقوبة التي أبطلها؟ نلك التي كانت مصيرنا بعد هذه الحياة[21].
القديس أغسطينوس
عَلَيَّ اسْتَقَرَّ غَضَبُكَ،
وَبِكُلِّ تَيَّارَاتِكَ ذَلَّلْتَنِي. سِلاَهْ [7].
الكلي الحب قبل بإرادته أن يحتل مركزنا، فيحمل خطايانا، ويصير كأن الغضب الذي ضدنا يحل عليه، فيصالحنا مع الآب، ويكسونا ببرِّه.
* "عليّ ثقل غضبك". سقط كل غضبك عليّ، حتى ينسحب من الآخرين. "وبكل تياراتك غمرتني". كل العاصفة ثارت عليّ، لكي يحل الهدوء في العالم.
القديس جيروم
* لقد ظنوا أن غضب الله ليس فقط ثار ضده، بل سقط بشدة عليه، هؤلاء الذين تجاسروا وحكموا عليه بالموت. ليس فقط بالموت، بل ذاك النوع من الموت الذي يحسبونه ألعن أنواعه، وهو موت الصليب. لذلك يقول الرسول: "المسيح افتدانا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا، لأنه مكتوب ملعون كل من عُلق على خشبة" (غل 3: 13). لهذا إذ أراد أن يمدح طاعته التي مارسها إلى أقصى درجات التواضع، يقول: "وضع نفسه، وأطاع حتى الموت" (في 2: 8)، إذ بدا هذا قليل أضاف: "موت الصليب". وبذات الفكرة -كما أظن- يقول في هذا المزمور: "وجميع أهوالك" ويترجمها البعض "وبكل أمواجك"، وآخرون "تياراتك" أذللتني. نجد في مزمور آخر: "كل تياراتك ولججك طمت عليّ" (مز 42: 7)[22].
القديس أغسطينوس
أَبْعَدْتَ عَنِّي مَعَارِفِي.
جَعَلْتَنِي رِجْسًا لَهُمْ.
أُغْلِقَ عَلَيَّ فَمَا أَخْرُجُ [8].
إذ عُلق على الصليب هرب تلاميذه وكل الذين أفاض عليهم بعطاياه. وإذ اقترب وقت الغروب، طلب اليهود رفعه عن الصليب حتى لا يتنجس يوم السبت، وكأن القدوس الذي بروحه يقدس الخطاة كأنه في أعينهم رجسًا لهم.
يتساءل القديس أغسطينوس عن ما يقصده بقوله معارفي، فإن السيد المسيح الخالق يعرف كل البشرية، لكنه يحسب من هم أبرار معارفه، أما الأشرار فلن يستحقوا أن يُحسبوا معارفه.
إذن يقصد بهم تلاميذه الذين هربوا ولم يقفوا حتى في لحظات محاكمته. ولعله يقصد أنهم وإن كانوا معارفه، إلا أنهم لم يكونوا بعد عرفوه في حقيقته أنه كلمة الله.
* "أبعدت عني معارفي" [8]. إن كنا نفهم بالمعارف أولئك الذين يعرفهم، فإنهم كل البشر، فمن منهم لا يعرفه؟ إنما يدعو هؤلاء المعارف أولئك الذين هم يعرفوه قدر ما كانوا يعرفونه في ذلك الوقت، على الأقل كانوا يعرفونه كبارٍ، وإن كانوا يحسبونه فقط كإنسان وليس كإله. ومع ذلك فهو يدعو الأبرار الذين يستحسنهم معارفه، أما الأشرار فيحسبهم غير معروفين. هؤلاء الذين سيقول لهم في النهاية: "لست أعرفكم" (مت 7: 23)... فهل قيل هذا لأن تلاميذه كانوا خارجًا حين كان يُحاكم في الداخل (مت 26: 56)؛ أو نعطي لهذه الكلمات معنى أعمق: "أبعدت" بمعنى "بقيت مخفيًا بالنسبة لمشيري الخفيين، لم أظهر لهم من أنا، لم أعلن لهم نفسي، لم يُكشف عني"؟[23]
القديس أغسطينوس
* "أبعدت عني معارفي". في ألم الصليب هرب حتى رسلي مني؛ نأى الكل عني تمامًا، حتى بطرس نفسه قال: "لست أعرف هذا الرجل" (مر 14: 71). "تطلعوا إليّ كرجسة"، لقد صرخ اليهود حتمًا: "أصلبه، ليس لنا ملك إلا قيصر" (راجع يو 19: 15). "سُجنت ولم أهرب". لقد خانني اليهود، ومع هذا ففي رحمتي المملوءة حنوًا لم أتركهم، بل أحببتهم. سلموني إلى بيلاطس ولم أهرب منهم، بل صليت على الصليب: "يا أبتاه اغفر لهم، إنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). لنعبِّر عن هذا بطريقة أخرى: "لقد سُجنت ولم أهرب".
عندما طلبوا أن يلقوه من على قمة التل عبر في وسطهم في أمانٍ (لو 4: 29-30). هذا إذن ما يقوله: أليس في إمكاني الآن وأنا مسجون أن أهرب من شِباك البشر ومخاطر الموت بقوة لاهوتي؟ إذ جئت لكي أتألم، فإن هذه هي إرادتي الكاملة أن أتألم. إرادتي هي أن أُسجن، وبإرادتي لا أهرب.
لنقدم تفسيرًا آخر. لقد سُجنت كإنسانٍ، ولم أفارق جلال لاهوتي.
يوجد أيضًا تفسير آخر: لقد سُجنت بواسطة البشر، ولم أترك حضن الآب.
وأيضًا: لقد سُجنت كإنسانٍ على الأرض، وبكوني الله لم انسحب عن السماء.
القديس جيروم
عَيْنِي ذَابَتْ مِنَ الذُّلِّ.
دَعَوْتُكَ يَا رَبُّ كُلَّ يَوْمٍ.
بَسَطْتُ إِلَيْكَ يَدَيَّ [9].
ذاك الذي عيناه على المسكونة كلها، لا ينعس، ولا ينام، ضابط الكل، أحنى رأسه على الصليب، وأسلم الروح كمن في مذلةٍ. لم يدرك الصالبون أن يديه مبسوطتان ليضم كل من يرجع إليه، ويفتح بصيرته ليدرك الحق الإلهي، ويتعرف على الأسرار الأبدية.
يرى القديس أغسطينوس أن عيني السيد المسيح الجسديتين لم تذبلا حتى في لحظات الصلب. فالعينان هنا هما تلاميذه، لأنه إن كانت الكنيسة هي جسد السيد المسيح، فإن عينيه يشيران إلى التلاميذ الذين نالوا نوعًا من الرؤية مثل القديس بطرس الذي أعلن له الآب عن المسيح أنه ابن الله الحي (مت 16: 16). بطرس هذا ضعُف في أثناء محاكمة السيد المسيح وآلامه وصلبه.
أما عن بسط يديه طول اليوم، فيشير إلى بسط يديه على الصليب، أما تعبير "اليوم كله"، فقد اعتاد اليهود أن ينسبوا ما هو بعض إلى الكل، كالقول بأنه دُفن ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. هذا ويرى القديس أغسطينوس بسط اليدين يشير إلى صنع الخير، إذ لم يتوقف قط عن عمل الخير، كصالحٍ.
* "عيني ذابت (أعتمت) من الذل". أنا السليم بقوة لاهوتي صرت ضعيفًا من أجل خطايا البشر.
* "دعوتك يا رب"، ليس فقط بصوتي، بل وأيضًا بقلبي. هذه هي بالتأكيد الطريقة التي بها يلزم أن ندعو الآب. نصرخ في قلوبنا: "يا أبّا، الآب" (غل 4: 6). "كل يومٍ بسطت إليك يديَّ". هذه شهادة من الكتاب المقدس استخدمها الرسول باسم المخلص في رسالته إلى أهل رومية (رو 10: 21). ها أنتم ترون أننا لسنا نفسر المزمور قهرًا (بتفسير من عندنا) وإنما نستخدم سلطان الرسول. إن كان استخدام شهادة عبارة واحدة باسم الرب، فلماذا لا نختار نحن أن نفسر كل المزمور هكذا في اسمه؟
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. تساؤلات تصدر ممن على حافة القبر

أَفَلَعَلَّكَ لِلأَمْوَاتِ تَصْنَعُ عَجَائِبَ،
أَمِ الأَخِيلَةُ تَقُومُ تُمَجِّدُكَ؟ سِلاَهْ [10].
جاءت الترجمة السبعينية: "أو الأطباء يقومون فيعترفون لله". ويعلق القديس أغسطينوس على ذلك بقوله إن الأطباء وإن كانوا لا يشفون المرضى بقوتهم الشخصية، فان الأطباء الروحيين لا يقدرون أن يجتذبوا أحدًا إلى الحياة بدون النعمة الإلهية، كقول السيد المسيح: "لا يقدر أحد أن يُقبل إليّ إن لم يجتذبه الآب" (يو 6: 44).
مادام الإنسان ميتًا بعدم إيمانه لا يتمتع بعجائب الله أي الدخول إلى البنوة لله وتجديد طبيعته خلال المعمودية، ولا يقدر أي طبيب روحي بدون نعمة الله أن يقيم ميتًا بالروح ليمجد الله معترفًا بخطاياه وبعمل الفداء.
هَلْ يُحَدَّثُ فِي الْقَبْرِ بِرَحْمَتِكَ،
أَوْ بِحَقِّكَ فِي الْهَلاَكِ؟ [11]
يشعر المرتل أن ظروفه قد صارت خطيرة للغاية، وقد صار على حافة الموت، فهل يصنع الله أعاجيب أو آيات لإنقاذه بعد موته، أو لعل الله يتمجد فيه بعد أن يصير أشبه بخيالٍ لا وجود له. هل من رجاء بعد أن يتم هلاكه تمامًا بموته؟!
أما عن السيد المسيح، فأسلم روحه بإرادته، وبإرادته أخذها. وقد سبق فأعلن عند إقامته للعازر: "أنا هو القيامة" (يو 11: 25).
لقد ظن الصالبون أن حياة السيد المسيح قد انتهت، وقد خلصوا من العجائب التي كان يصنعها، ولم يدركوا أن قيامته من الأموات هي أعظم أعجوبة، وهبت الحياة والقيامة للمؤمنين به.
إن كان في حياته على الأرض قد كشف عن حبه ومراحم للكثيرين، فبموته وقيامته قدم المراحم الإلهية للخطاة، وفتح أبواب السماء لكل الداعين إليه من كل الأمم.
كلمة "أبدون" مشتقة من الفعل العبري "أباد"، وهو يُطابق الفعل العربي، الذي يعني "أباد" أو "أهلك"، وكأن أبدون تعني "إبادة" أو "المبيد" أو "المهلك". يقابلها في اليونانية "أبوليون". وقد وردت مرة واحدة في العهد الجديد (رؤ 9: 11) كاسم لملاك الهاوية أو الشيطان المُهلك.
استخدم هذا الاسم في العهد القديم تارة لعالم الموتى في جانبه المرعب والمُدمر كما جاء في المزمور: "هل يُحدث في القبر برحمتك، أو بحقك في الهلاك (أبدون)؟" (مز 88: 11). وقد جاءت كلمة أبدون موازية للهاوية في أيوب 26: 6؛ أمثال 15: 11؛ 27: 20. كما جاءت موازية للموت، وأحيانًا مع للقبر[24].
هَلْ تُعْرَفُ فِي الظُّلْمَةِ عَجَائِبُكَ،
وَبِرُّكَ فِي أَرْضِ النِّسْيَانِ؟ [12]
باسم البشرية المتألمة يتحدث المرتل في لحظات ضعفها، تشعر أنه يلزم أن يتحرك الله سريعًا، فمن جهة ليس من عجائبٍ يتمتع بها الإنسان بعد موته، ومن جهة لا يتمجد الله، ولا تُعلن رحمته بعد دخول الإنسان إلى ظلمة القبر.
لم تدرك البشرية ما أعده الله ببِّره لها خلال موت السيد المسيح ودفنه في القبر، حيث تتحقق الكفارة لا للصارخين إليه في أيامه فحسب، وإنما يعبر إلى الجحيم ليبشرهم بالخلاص، ويمتد عمله عبر الأجيال إلى انقضاء الدهر.
يرى القديس أغسطينوس أن الظلمة هنا تعادل عدم الإيمان، كقول الرسول: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة" (أف 5: 8). أما أرض النسيان، فهي الإنسان الذي ينسى الله: "قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز 14: 1).
* معنى العبارة كلها [9-12] يمكن أن يكون: "يا رب دعوتك وسط آلامي كل النهار؛ أبسط يدي إليك. لم أتوقف قط عن بسطهما للعمل لأجل مجدك. فلماذا يثور الأشرار عليّ، إلا لأنك لا تُظهر عجائب بين الأموات؟ لأن تلك العجائب لا تحركهم نحو الإيمان، ولا يقدر الأطباء أن يصلحوهم إلى الحياة ليمجدوك. لأن نعمتك الخفية ليست فيهم لكي تجتذبهم إلى الإيمان.
فإنه لا يقدر أحد أن يأتي إليّ إلا الذي تجتذبه أنت. فهل يمكن لحنوك أن يظهر في القبر؟ أي في قبر النفس الميتة، التي ترقد تحت ثقل الجسد.
"أو بحقك في الهلاك؟" أي في مثل هذا الموت، حيث لا يقدر أن يؤمن أو يشعر بأي شيء من هذه الأمور. فكيف إذن في ظلمة هذا الموت، أي في الإنسان الذي ينساك والذي فقد نور هذه الحياة يمكن لعجائبك أن تعمل ولبرك أن يُعرف[25].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. تساؤلات عن سبب الضيق

أَمَّا أَنَا فَإِلَيْكَ يَا رَبُّ صَرَخْتُ،
وَفِي الْغَدَاةِ صَلاَتِي تَتَقَدَّمُكَ [13].
إن كانت البشرية في ضعفها تتعجل معونة الله لئلا يحل بالمتألمين الموت، ولا يتمجد الله فيهم، فإن المرتل يصرخ إلى الرب بالليل، وفي الصباح الباكر يجد الاستجابة.
لعل الحديث هنا باسم السيد المسيح، فبينما ظن الصالبون أن قصة يسوع بالنسبة لهم صارت في دور النسيان، فإنه إذ جاء فجر الأحد قام من الأموات، وتحقق الخلاص العجيب بموته!
* تتقدم، إذ قيل: "في الغداة (الصباح) صلاتي تتقدمك" (مز 13:88)...
هو يدعونا عندما يقول: "طول النهار بسطت يدَيَّ إلى شعبٍ معاندٍ ومقاوم" (رو21:10). ونحن ندعوه إلينا عندما نقول: "كلَّ يوم بسطت إليك يدَيَّ" (مز 9:88).
هو ينتظرنا كقول النبي: "ولذلك ينتظر الرب ليتراءَف عليكم" (إش 18:30). ونحن ننتظره عندما نقول له: "انتظارًا انتظرت الرب فمال إليَّ" (مز 1:40)، و"رجوت خلاصك يا رب ووصاياك عملت" (مز 166:119).
هو يقوينا عندما يقول: "وأنا أنذرتهم، وشدَّدت أذرعهم، وهم يفكرون عليَّ بالشر" (هو 15:7). ويحثنا أن نقوي أنفسنا بقوله: "شدّدوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبّتوها" (إش 3:35). ويصرخ الرب يسوع: "إن عطش أحد فليُقبِل إليَّ ويشرب" (يو 37:7). كما يصرخ النبي إليه: "تعبتُ من صراخي، يبس حلقي. كلَّت عينايَ من انتظار إلهي" (مز 3:69).
الرب يطلبنا عندما يقول: "طلبتهُ فما وجدتهُ دعوتهُ فما أجابني" (نش 6:5). والعروس أيضًا تطلبه، إذ تبكي بدموع قائلة: "في الليل على فراشي طلبت من تحبهُ نفسي، طلبتهُ" (نش 1:3)[26].
الأب شيريمون
لِمَاذَا يَا رَبُّ تَرْفُضُ نَفْسِي؟
لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي؟ [14]
جاء عن الترجمة السبعينية: "يا رب لماذا تقصي صلاتي؟"
في وقت الضيق كثيرًا ما يشعر المتألم كأن الله قد رفضه، وحجب وجهه عنه لكي لا يسمع صرخاته. وإذ حمل السيد المسيح خطايانا على الصليب، صرخ: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟".
* يمكن مقارنتها بمزمور آخر: "إلهي إلهي، انظر إليّ، لماذا تركتني؟" (راجع 22: 1). جاء في شكل سؤال ليس كما لو كانت حكمة الله مُلامة كما لو كانت تفعل شيئًا بدون سبب. هكذا أيضًا هنا: "يا رب لماذا تقصي صلاتي؟" لكن إن كنا ننتبه بدقةٍ إلى ذلك نجد أنه يُشار إليه: فإنه بالنسبة لصلوات القديسين تبدو كأنها مرفوضة بسبب التأخير لنوال بركة عظيمة هكذا، وبسبب المحنة التي تحل بهم في اضطرابات الحياة، لكي ما يُنفخ في الشعلة، فتنفجر في لهيب أكثر بهاءً[27].
القديس أغسطينوس
أَنَا مِسْكِينٌ وَمُسَلِّمُ الرُّوحِ مُنْذُ صِبَايَ.
احْتَمَلْتُ أَهْوَالَكَ. تَحَيَّرْتُ [15].
في شدة الضيق ينسى الإنسان إحسانات الله عليه، ويشكو كأن حياته كلها منذ صباه ليس فيها إلا الأهوال والمتاعب.
دخل المرتل في أهوال شديدة، وتحيرت نفسه، لكنه لم يسقط في اليأس، لأنه لازال يصرخ إلى الرب إله خلاصه.
* تحققت كل هذه الأهوال [15-18] وحدثت في أعضاء جسد المسيح، وصرف (الرب) وجهه عن صلواتهم، بعد الاستماع لها حسب مشيئاتهم، إذ لا يعرفون أن تحقيق رغبانتهم ليس لمنفعتهم.
فالكنيسة مسكينة، إذ تجوع وتعطش في تجوالها للطعام الذي ستشبع به في مدينتها.
إنها في الأتعاب منذ حداثتها [15]، كما يقول جسد المسيح نفسه في مزمور آخر: "كثيرًا ما ضايقوني منذ شبابي" (مز 129: 1). ولهذا السبب ارتفع بعض أعضائها حتى وهم بعد في هذا العالم، حتى ما يتعظم التواضع. خلال ذاك الجسد الذي يضم القديسين والمؤمنين، والذي رأسه هو المسيح، يأتي سخط الله لكن لا يستقر عليهم.
أما فقط بالنسبة لغير المؤمن كتب عنه: "يمكث عليه غضب الله" (يو 3: 36). مفزعات الله تربك ضعف المؤمن، فإن هذا هو ما يُمكن أن يحدث، وإن كان هذا لا يحدث بالفعل، إنما كُتب لأجل التحذير فيخاف. وأحيانًا تثير هذه المفزعات النفس للتفكير في المتاعب المحيطة بها والتي تبدو كأنها تفيض عليها من كل جانب مثل المياه وتكتنفها في المخاوف. وكما كانت الكنيسة في رحلتها لا تتحرر تمامًا من هذه المصائب، تحل تارة على أعضائها، تارة على عضوٍ ما، وأخرى على عضوٍ آخر، لذلك قيل "اليوم كله"، بمعنى أنها مستمرة في الزمن إلى نهاية العالم. أيضًا فإن الأصدقاء والمعارف في اهتماماتهم الزمنية يتركون القديسين في وقت الرعب. وكما قال الرسول: "الجميع تركوني، ولا يُحسب عليهم" (2 تي 4: 16)[28].
القديس أغسطينوس
عَلَيَّ عَبَرَ سَخَطُكَ.
أَهْوَالُكَ أَهْلَكَتْنِي [16].
عندما تشتد الضيقة، يتحير الإنسان، وغالبًا ما ينسب ما يحل به أنه من غضب الرب عليه وسخطه الشديد نحوه.
أَحَاطَتْ بِي كَالْمِيَاهِ الْيَوْمَ كُلَّهُ.
اكْتَنَفَتْنِي مَعًا [17].
في وسط الضيقة يشعر الإنسان، ليس فقط أنها تلاحقه من صباه [15]، وإنما تلازمه طول اليوم، بل ويوميًا، فيصير كغريق في مياه غامرة.
* "أحاطوا بي كالمياه اليوم كله": اليهود في أمواجٍ من الاضطهاد. "اكتنفتني معًا (من كل جانب): الفريسيون مع الكهنة، بيلاطس مع الحكام والشعب!
القديس جيروم
أَبْعَدْتَ عَنِّي مُحِبًّا وَصَاحِبًا.
مَعَارِفِي فِي الظُّلْمَةِ [18].
* "أبعدت عني محبًا وصاحبًا، أصدقائي بسبب بؤسي" (راجع مز 88: 18) في عار الآلام اعتزلني حتى الرسل.
القديس جيروم
تكررت كلمة "لأن" كثيرًا في هذا المزمور، فمع كل طلبة يقدم تبريرًا لها، وأيضًا مع كل عبادة.
الطلبة أو العبادة
السبب
1. ينصت الله إليه [1].
محتاج إلى معونة.
2. يحفظ الرب نفسه [2].
لأنه تقي.
3. طلب الرحمة [3].
لأنه يصرخ إليه اليوم كله.
4. أن يفَّرح نفسه [4].
لأنه كثير الرحمة.
5. في ضيقه يدعوه [7].
لأنه يستجيب إليه.
6. يمجد اسمه أبديًا [12].
لأن رحمته عظيمة.
7. يطلب آية للخير [17].
لأن الله يعينه ويعزيه.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 88

لأسكب صرخات قلبي قدامك!

* صوتك يخترق كل كياني:
إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟
من أجلي حملت عقاب خطاياي،
قبلت الموت لتبطل شوكة الموت والفساد،
وتحررني من سلطان إبليس والخطية
* إذ تنصب عليّ الأهوال،
أحسب كأني وُلدت لأتألم،
وكأن الأهوال ترافقني منذ صباي.
أظن كأن غضب الآب حلّ عليّ،
وتياراته تحوط بي،
وقد صرف وجهه عني،
ولم يعد ينصت إلى صلاتي.
* إليك يا رب أشتكي نفسي.
في ضيقي أحيانًا ألجأ إلى صديق أملأ أذانه بشكواي.
وفي مرارتي أحيانًا أصرخ في أعماقي،
وأحطم نفسي بنفسي.
علمني ودربني أن ألجأ دائمًا إليك.
أصرخ قدامك، فأنت وحدك إله خلاصي.
بأبوتك وحكمتك وقدرتك تسندني فأخلص.
* أصدقائي ومعارفي يهربون مني،
فليس من معين،
ولا من يشاركني آلامي.
لكنك وعدت أن الغضب يمكث على الأشرار.
وليس على من يؤمن بك، ويسلك في طريقك!
* إلهي في وسط ضيقي أشعر كأني وحيد.
لساني يعجز عن أن يعبر عما في داخلي.
لتمل بأذنك وتسمع تنهدات قلبي.
أود أن أرى وجهك، وأشعر بحضرتك وسط ضيقي.
* كثيرًا ما أشعر كأن الألم فوق قدرتي.
أحسب نفسي أشبه بالميت، لا حياة فيّ!
وإن مُت، فأنت قادر أن تقيمني.
تُخرج من الحبس نفسي، وتحررني!
* لماذا تئن نفسي، وأنت احتملت كل عارنا.
صرت على الصليب كقتيل وأنت واهب القيامة.
رقدت في القبر كالأموات،
وأنت الحرّ واهب الحرية.
نزلت إلى أسافل الجحيم لتحملني إلى فردوسك!
* سرت بيننا تشرق بمراحمك على الكثيرين.
لكن بموتك وقيامتك فتحت لنا أبواب سماواتك.
بسطت يديك لكل العالم،
وقمت من بين الأموات لتهب حتى الأموات الحياة الجديدة.
* قيامتك أنارت أعماقي،
فإني وإن سقطت في الأهوال،
وإن امتلأت نفسي بالحيرة،
أصرخ إليك يا إله خلاصي.
* حقًا كثيرًا ما أشعر كأن سخطك حلّ عليّ،
وأهوالك تكتنفني.
صرت كمن في ظلمة،
حتى أقربائي وأصدقائي يهربون مني!
* سرعان ما أدرك حكمتك، وأنعم بفيض نعمتك.
أية كرامة تحل بي أن أصلب معك.
تحررني من الموت، يا من أنت حُر بين الأموات.
وإن تأخرت في استجابة صلاتي،
تلهب فيَّ شعلة محبتك،
وتملأ أعماقي ببهاءٍ لا يُعبر عنه!
في وسط الضيق اكتشف صداقتك الفريدة.
التصق بك وينفتح لسان قلبي بالتسبيح لك.
لك المجد أيها العجيب في حبك!
  رد مع اقتباس
قديم 18 - 02 - 2014, 04:08 PM   رقم المشاركة : ( 90 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,273,258

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem غير متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 89 - تفسير سفر المزامير
ميثاق أبدي

يُعتبر هذا المزمور هو الأخير من الكتاب الثالث لسفر المزامير (مز 73-89). يُختم الكتاب بمزمور خاص بالميثاق الأبدي بين الله والملك داود، وهو ميثاق يمس حياة كل مسيحي حقيقي، حيث يملك الملك الحقيقي ابن داود على القلب أبديًا.
أساس هذا المزمور الميثاق الذي فيه أعلن الرب لداود خلال ناثان النبي: "مملكتك إلى الأبد أمامك، كرسيك يكون ثابتًا إلى الأبد" (2 صم 7: 16). هذا الوعد الإلهي يحمل نبوة صريحة عن السيد المسيح الذي من نسل داود، يملك في كنيسته إلى الأبد.
وُضع هذا المزمور غالبًا في وقت كان الشعب يعاني فيه من الضيق، حتى حسب كأن الله قد نسي وعده. وهو نبوة أيضًا عن الآم السيد المسيح والآم كنيسته التي تدفع تجديد العهد دائمًا مع تأكيد محبة الله الثابتة وأمانته في عهده[1].

1. تسبحة افتتاحية
1-4.
2. إله الميثاق
5-14.
3. الشعب والميثاق الإلهي
15-18.
4. بنود الميثاق
19-37.
5. الإنسان كاسر الميثاق
38-45.
6. استغاثة
46-51.
من وحي مز 89
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

قَصِيدَةٌ لأَيْثَانَ الأَزْرَاحِيِّ.
عنوان هذا المزمور كما ورد في عظات القديس جيروم عن المزامير: "عن الفهم لإيثان الأزراحي". هذا العنوان في فكره يكشف عن ما يدور في المزمور. فإن كانت كلمة "إيثان" معناها "القوي" أو "الشجاع"، والأزراحي" معناها "الذي ينال عونًا من الرب". فإن هذا المزمور الذي فيه وعد من قبل الله بقسمٍ "حلفت لداود عبدي: إلى الدهر أثبت نسلك، وابني إلى دورٍ فدورٍ كرسيك" (مز 89: 3-4)، إنما هو قسم لنا نحن المؤمنين، لنفهم ما هو القسم الإلهي الذي يقدم لمن هم أقوياء وشجعان، يتمتعون بالعون الإلهي. يقول القديس جيروم: [بالحق يُقدم ذاك الوعد عن المسيح لنا نحن، حيث يحمل معنى سرِّيًا[2].]
هذا الوعد الإلهي لن يخيب، فإنه وإن كان لا يتحقق حرفيًا بالنسبة لليهود، لكنه يتحقق سرِّيًا بالنسبة لنا، حيث يجلس السيد المسيح الذي من نسل داود على كرسي العرش في كنيسته، كما في قلب كل مؤمنٍ!
* ليس إنسان في ذاته قوي إلا بالرجاء في وعود الله، فإنه بحسب استحقاقاتنا نحن ضعفاء، وبرحمته نحن أقوياء. هو ضعيف في ذاته، قوي برحمة الله. لذلك يبدأ المرتل هكذا: "بمراحم الرب أغني إلى الدهر. لدورٍ فدورٍ أخبر عن حقك بفمي" [1][3].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. تسبحة افتتاحية

واضح أن المزمور وُضع في وقت بدا كأن الله قد نسي عهده أو الميثاق الذي أقامه مع داود عبده، لكن الكاتب يبدأ بالتسبيح والإعلان عن ثقته في مراحم الله الدهرية، وثبات حقه وأمانته في عهده مع مختاريه، وأن السماء تشهد لعجائبه التي يصنعها في جماعة القديسين. هذا الخط يكرره عدة مرات في المزمور.
بِمَرَاحِمِ الرَّبِّ أُغَنِّي إِلَى الدَّهْرِ.
لِدَوْرٍ فَدَوْرٍ أُخْبِرُ عَنْ حَقِّكَ بِفَمِي [1].
يعلن الكاتب بهجته وتهليله بمراحم الله تحت كل الظروف وفي كل الأوقات، ويخبر بحقه الإلهي، يبقى أمينًا في وعوده وعهوده. إنه أمين مع كل جيل، فلا يخاف أو يضطرب من جهة المستقبل.
* "بمراحم الرب أغني إلى الدهر". لم يقل المرتل: "برحمة"، بل "بمراحم". إن كانت الخطية هي واحدة، فإن الرأفة تكون واحدة. ولكن إذ الخطايا كثيرة، فكثيرة أيضًا هي مراحم الله. بمراحمك يا رب "أغني لك إلى الدهر"، فقد اقتنيت مراحم إلى الأبد. لذلك يليق بي أن أسبح إلى الأبد، لأن علة تسبيحي أبدية. من يغني يطرد الحزن، ويطرد الخوف، ويقيم الفرح، لأنه يقتني الرحمة. هذا إذن ما يقوله النبي: لأن خطاياي مغفورة خلال رأفة الله، لهذا أبقى أغني بمراحمه. ما يعنيه بقوله "إلى الأبد" هو: إذ تتعطف عليّ، لا لوقتٍ قصيرٍ بل إلى الأبد، فمن جانبي أسبحك إلى الأبد، ولن أتوقف، لأنك تخلصني أبديًا.
"لدورٍ فدورٍ أخبر عن حقك بفمي" (مز 89: 1) يا لعظمة تسلسل المزمور! لم يبدأ المرتل أولًا بالحق وبعد ذلك بلغ إلى الرحمة. إنما نال أولًا الرحمة وبعد ذلك بلغ إلى الحق عندما نال غفران الخطايا. بالحق عندما كنت خاطئًا لم أجرؤ أن اقترب من الحق. ولكن عندما نلت الرحمة عندئذ بقلب شجاع بلا خوف أعلنت عن الحق. عندما قال: "لجيلٍ (لدورٍ) فجيلٍ" تكلم حسنًا، إذ لم يقل من أجيالٍ إلى أجيالٍ، بل من جيلٍ إلى جيلٍ. لم يستدعٍ لذهنه أجيالًا كثيرة إنما فقط جيلين، واحد للمختونين والآخر للأمم. لجيلٍ أرسل بطرس ولآخر بولس... ذاك الذي تكلم أولًا بالآباء والأنبياء (الجيل الأول) تحدث بعد ذلك في شخصه (عب 1: 1-2)، وكما يقول نشيد الأناشيد: "ليقبلني بقبلات فمه" (نش 1: 1). إنه يقول: إنني أتكلم في شخصي عن ذاك الذي تكلمت عنه بالأنبياء، ذاك الذي لم يستطع العالم أن يسمعه في رعوده، يمكنه أن يسمعه على الأقل خلال صرخاته[4].
القديس جيروم
* إن كنت لا أطيعك لا أكون عبدك. إن كنت أتكلم مما هو عندي (لا مما لك) فأكون كذَّابًا. فالحديث إذن هو مما لك، والحديث أيضًا مما هو من شخصي. أمران، واحد لي، وواحد لك. الحق هو لك، واللغة هي من عندي [5].
القديس أغسطينوس
لأَنِّي قُلْتُ: إِنَّ الرَّحْمَةَ إِلَى الدَّهْرِ تُبْنَى.
السَّمَاوَاتُ تُثْبِتُ فِيهَا حَقَّكَ [2].
ماذا يعني أن رحمة الله إلى الدهر تُبنى؟ لن يستطيع إنسان ما أو جيل ما أن يحد أو يدرك رحمة الله كما هي، فلأنها مراحم لا نهائية، تبقى البشرية تختبر هذه المراحم إلى الدهر، تدهش لمحبته الفائقة. إنها لا تبدأ لتنتهي مع جيل من الأجيال، إنما تشبه حجارة تُبنى، ويبقى البناء شامخًا ومستمرًا حتى ننعم به في عظم مجده يوم لقائنا مع السيد المسيح والتمتع بشركة الأمجاد الأبدية. دخولنا إلى السماوات يؤكد هذه المراحم التي لن تتوقف.
* "لأنك تقول إن الرحمة إلى الأبد تُبني". أنا الذي تكلمت في العهد القديم بالآباء والأنبياء، أتكلم بنفسي، فإنني لم آتِ لكي أبطل وصايا الرحمة التي بناها الناموس، وإنما أن أبني على أساسها. يقول الرب نفسه في الإنجيل: "ما جئت لأنقض الناموس بل لأكمله" (راجع مت 5: 17)... إذن ما هي الرسالة عندما يقول النبي: "تُبنى"، كما لو كانت موضعًا أو مدينة لكي تُبنى؟ aedificabitur؟ لننظر أين يوجد مثل هذا في موضع آخر بالكتاب المقدس؟ لنبحث في التكوين عن الاتحاد الخلقي الذي لكلمة aedificatione.
"أخذ الله ضلعًا من جنب آدم، وجعل منه امرأة" (راجع تك 2: 22). هنا يستخدم الكتاب المقدس (بناء) aedificavit. مفهوم البناء كما سبق فقلنا قبلًا عادة يشير إلى إقامة بيت عظيم. وبالتالي فإن جنب آدم الذي شكّل امرأة يعني "السلطان الرسولي": المسيح والكنيسة. هذا هو السبب الذي لأجله يقول الكتاب المقدس إنه شكَّل aedificavit امرأة من الضلع. لقد سمعنا عن آدم الأول. لنأتِ الآن إلى آدم الثاني، ونرى كيف أن الكنيسة قد جُعلت (بناءً) aedificetur من جنبه. جنب الرب المخلص إذ عُلق على الصليب طُعن بحربة، ومنه خرج دم وماء. أتريدون أن تعرفوا كيف تُبنى الكنيسة من الماء والدم؟ أولًا بمعمودية الماء تُغفر الخطايا، وبعد ذلك بدم الشهداء يتوج البنيان. إذ من الواضح أن الكنيسة تُبنى بحنو الله، لذلك يتبع ذلك منطقيًا إنه: "السماوات تثبت فيها وحقك" (مز 89: 2)، يُطبق هذا بأنه على الأرض تثبت حنوك، وفي السماء حقك[6].
القديس جيروم
يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح هو حجر الزاوية الذي جمع الإسرائيليين الذين آمنوا به مع الأمم الذين قبلوه، جمع الحق خلال وعوده للإسرائيليين ومعهم الأمم خلال رحمته، ففيه تحقق الحق مع الرحمة.
* بالنسبة للبعض أنت تهدمهم، لكي يُعاد بناؤهم. وإلا ما كان قد كتب إرميا: "انظر. قد وكلتك هذا اليوم... لتنقض وتبني" (إر 1: 10). بالحق كل الذين كانوا قبلًا يعبدون الصور والحجارة ما كانوا يستطيعون أن يُبنوا في المسيح ما لم يُهدموا من خطأهم القديم...
كل طرق الرب هي رحمة وحق (مز 15: 10). فالحق في تحقيق الوعود ما كان يمكن أن يظهر ما لم يسبقه أن تتم الرحمة بغفران الخطايا[7].
القديس أغسطينوس
قَطَعْتُ عَهْدًا مَعَ مُخْتَارِي.
حَلَفْتُ لِدَاوُدَ عَبْدِي [3].
الآن يتحدث الله نفسه، الذي في محبته يعلن اعتزازه بالميثاق الذي قطعه مع مختاره داود المحبوب لديه.
* "قطعت عهدًا مع مختاري"، أتريدون أن تعرفوا كيف أنه حتى هذا اليوم يقطع الرب عهده؟ لنحيا حياة صالحة، فنتأهل للشركة مع المختارين في العهد مع الرب[8].
القديس جيروم
* قسم الله هو تأكيده للوعد. بحقٍ يُمنع الإنسان من القسم (مت 5: 34)؛ لئلا خلال عادة القسم وهو كإنسانٍ يُخدع، فيسقط في الحنث بالقسم. أما الله فوحده في أمان إذ هو وحده معصوم من الخطأ[9].
القديس أغسطينوس
إِلَى الدَّهْرِ أُثَبِّتُ نَسْلَكَ،
وَأَبْنِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ كُرْسِيَّكَ. سِلاَهْ [4].
لم يقل "أثبت أنسالك" بالجمع، إنما "نسلك" بالمفرد. وكما يقول الرسول بولس: "وأما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفي نسله. لا يقول في الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحدٍ، وفي نسلك الذي هو المسيح" (غل 3: 16). لقد تحقق حرفيًا مع داود وابنه سليمان. لكن غاية هذا الميثاق الكشف عن دور السيد المسيح، كلمة الله الذي أخذ شكل العبد، وصار إنسانًا ليدخل بالبشر في عهدٍ جديدٍ، يتمتعون بالمصالحة مع الآب، وينعمون بشركة المجد الأبدي. هذا ما أعلنه الملاك جبرائيل عند بشارته بالتجسد الإلهي: "وها أنتِ ستحبلين وتلدين ابنًا، وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيمًا، وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (لو 1: 31-33).
هذا العهد تثبت بقسمٍ (1 صم 20: 3؛ صم 19: 23؛ عب 6: 16)، وهو عصب النبوات، وموضوع تسبيح المرتلين عبر الأجيال، ويبقى سرّ فرح وبهجة الكنيسة إلى يوم مجيء ملك الملوك في اليوم الأخير، بل وموضوع تسبيح السمائيين أنفسهم (رؤ 5: 6-14).
* "وأبني إلى جيلٍ فجيلٍ كرسيك". يُبنى كرسي الله على جيلين كما قلنا، على المختونين بالطبع وعلى الأمم[10].
القديس جيروم
يرى القديس أغسطينوس أن عرش الله فينا، وأنه يحكم فينا، هذا هو الجيل الأول، لكنه سيأتي أيضًا في يوم قيامة الأموات ويجلس إلى الأبد، هذا هو الجيل الآخر.
* ما هو نسل داود إلا نسل إبراهيم، وما هو نسل إبراهيم، يقول: "وفي نسلك الذي هو المسيح" (غل 3: 16)... لنأخذ أيها الإخوة الكلمات: "أثبت نسلك إلى الأبد"، ليس فقط بخصوص جسد المسيح المولود من العذراء مريم، بل وأيضًا نحن كلنا الذين نؤمن بالمسيح، إذ نحن أعضاء هذا الرأس. هذا الجسد لا يُمكن عزله عن رأسه. إن كان الرأس في مجدٍ إلى الأبد، هكذا أيضًا الأعضاء، هكذا يبقى المسيح بكليته إلى الأبد...
"أبني إلى دورٍ (جيلٍ) فآخر كرسيك". الآن للمسيح كرسي فينا. كرسيه مُقام فينا. فلو لم يجلس فينا ما كان يحكم علينا، وإن لم يحكمنا لما كان يجلس فينا. إنه يجلس فينا ويحكم علينا. وسيجلس في جيلٍ آخر عندما يأتي في قيامة الأموات[11].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. إله الميثاق

وَالسَّمَاوَاتُ تَحْمَدُ عَجَائِبَكَ يَا رَبُّ،
وَحَقَّكَ أَيْضًا فِي جَمَاعَةِ الْقِدِّيسِينَ [5].
ربما يقصد بالسماوات الملائكة كما جاء في أيوب 15: 15؛ مز 97: 6، عب 1: 6. ويرى كثير من الآباء مثل القديسين جيروم وأغسطينوس وأيضًا العلامة أوريجينوس أنها تشير إلى الكنيسة أو جماعة المؤمنين الحقيقيين الذين صاروا سماءً جديدة تشهد لعجائب الله فيهم، حيث يتمتعون بما يظنه البعض فوق الطبيعة في العفة والطهارة ومحبة الأعداء ونقاوة القلب الخ.، أمور يحسبها غالبية البشر أنها خيالية فوق طاقة البشر.
* أنتم تسبحونه، لأن الأموات يقومون. بالأحرى سبحوه، لأن الضالين يخلصون. أي نعمة هذه وأية مراحم لله هذه! بالأمس كان الإنسان في دوامه سُكرٍ، والآن صار في زينة العقل. بالأمس كان الإنسان غارقًا في الترف، والآن في جمال الاعتدال. بالأمس كان الإنسان مجدفًا على الله والآن صار مسبحًا. بالأمس كان عبدًا للمخلوق، واليوم عابدًا للخالق... ليصيروا سماوات، ويسبحوا أعمال الله المجيدة التي بها صاروا سماوات[12].
القديس أغسطينوس
* "السماوات تحدث بعجائبك يا رب" (راجع مز 89: 5). هذا الفكر هو صدى للعبارة في المزمور الثامن عشر (19): "السماوات تحدث بمجد الله" (مز 19: 1). بمفهوم سرِّي يدعو النبي الرسل سماءً. فإن كان يُقال للخاطي: "أنت تراب وإلى تراب تعود" (تك 3: 19)، فلماذا لا يُقال للقديس أو البار: "سماء أنت وإلى السماء تعود؟" فإنه للقديسين كما للرسل مواطنتهم هي في السماء (في 3: 20). بهذا فإن "السماوات تحمد عجائبك" تشير إلى التوبة التي يكرز بها الرسل، والتي بها قبلنا معرفة ربنا يسوع المسيح. فإن كنا نطيع نصائحكم، ونتبع مثالهم نحن أيضًا نُدعى سماءً، إذ نقتدي بهؤلاء الذين مواطنتهم هناك. يقول النبي أيضًا في مزمور آخر: "أنا غريب على الأرض، ونزيل مثل جميع آبائي" (راجع مز 39: 13). هذا في اليهودية مدينته، فكيف يدعو نفسه نزيلًا؟ لأن القديسين في العالم الحاضر ليسوا إلا نزلاء على الأرض، ليس لهم شهوة نحو الممتلكات الأرضية: ممتلكاتهم جميعها هي في السماء حيث لهم مساكن في المدينة التي صانعها وبانيها هو الله (عب 11: 10). النبي، الذي هو ليس من هذا العالم، نزيل هنا، وهو يسرع بكل غيرة نفسه نحو بلده، الفردوس، ملكوت السماوات... يعلمنا الرسول أننا نحن وإن كنا قد سقطنا من الفردوس بخطية آدم الأول، الآن ببرّ آدم الثاني نعود إلى الفردوس[13].
القديس جيروم
لأَنَّهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يُعَادِلُ الرَّبَّ.
مَنْ يُشْبِهُ الرَّبَّ بَيْنَ أَبْنَاءِ اللهِ؟ [6]
جاءت الترجمة السبعينية: "لأن في السحاب من يساوي الرب؟ ومن يشبه الرب في أبناء الله؟"
إن كان الرب، كلمة الله، بتجسده أخذ شكل العبد، فصار بإرادته كما لو كان أقل من الملائكة يخضع للموت جسديًا، ويحتمل عارنا، لكنه ليس بين كل الطغمات السماوية من يُقارن به. وكما يقول الرسول بولس: "لأنه لمن من الملائكة قال قط أنت ابني أنا اليوم ولدتك، وأيضًا أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا. وأيضًا متى أُدخل البكر إلى العالم يقول: وتسجد له كل ملائكة الله. وعن الملائكة يقول الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار. وأما عن الابن كرسيك يا الله إلى دهر الدهور" (عب 1: 5-8).
ليس من فجوة -إن صح التعبير- أعظم من تلك التي بين الخالق والمخلوق، أيا كان مركزه، وبين غير المحدود والمحدود!
* "لأنه مَنْ في السحاب يعادل الرب؟" (مز 89: 6) السحاب هو الأنبياء والرسل، الذين يروون بالماء قلوب البشر القاحلة بأمطار تعاليمهم. "من يشبه الرب بين أبناء الله"؟ كل القديسين دعوا بلقب أبناء الله، لأنهم أبناء بالتبني، أما ابن الله، ربنا يسوع المسيح، فهو وحده الابن بالحقيقة بالطبيعة. عنه يسأل المرتل: من في السحاب أو بين أبناء الله مثل الرب؟ مَنْ مِنَ الملائكة أو القديسين يعادل الخالق في المجد أو السلطان، مادام هو نفسه يهب المجد للجميع، فمدحه أبدي، هذا الذي تخافه كل خليقة بمخافة قديرة، ويرتعب الكل أمامه، هذا الذي يصحبه الشاروبيم والسيرافيم والأربعة مخلوقات الحية (رؤ 5: 14)، معًا في خورس لا يتوقف، والذي يتعبد له السلاطين والرئاسات، وتسجد له كل الأرض؟ الذي له المجد والسلطان إلى الأبد الآبدين. آمين[14].
القديس جيروم
* دُعي عمانوئيل "البكر" حين أشير إليه بين إخوة كثيرين (رو 8: 29). لهذا السبب يلزمنا ألا ننسى أنه هو إله المسكونة، ونعبده كإله، ويملك كإله على الذين دُعوا إخوة له خلال النعمة. من في السماوات يُقارن بالرب، ومَنْ مِنْ بين أبناء الله يشبه الرب (مز 89: 6). لهذا فإن عمانوئيل يملك كإله على كل الذين قبلوه في أخوةٍ، وله "تجثو كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسانٍ أن يسوع المسيح هو رب المجد الله الآب" (في 2: 10-11)[15].
* شاء المسيح ومنحنا نعمة البنوة نحن الذين تحت نير العالم وبطبيعتنا عبيد، أما المسيح فهو الابن الحقيقي، هو بطبيعته ابن الله الآب حتى بعد تجسده. فقد ظل كما قلت لكم كما كان قبلًا بالرغم من أخذه جسدًا لم يكن له قبلًا[16].
القديس كيرلس الكبير
* نحن نُفهم يا إخوتي بتلك السحب كما فهمنا السماوات أنها الكارزون للحق: الأنبياء والرسل والمعلنون لكلمة الحق... إن كانت السحب هي الكارزون بالحق، فلنسأل أولًا لماذا هم سحب. لأن البشر أنفسهم هم السماوات والسحب، سماوات لبهاء الحق، وسحب من أجل الأمور المخفية للجسد، فإن كل السحب غامضة وذلك بسبب قابليتها للدمار، ترتفع ثم تذهب. لهذا السبب، أي لذلك الغموض الذي للجسد، أي للسحب، يقول الرسول: "إذًا لا تحكموا في شيء قبل الوقت حتى يأتي الرب سينير خفايا الظلام" (1 كو 4: 5). في تلك اللحظة سترون ما يقوله الإنسان، بل ما هو في قلبه، الذي لا تقدرون أن تروه الآن... نحن نُدعى سحبًا من أجل الجسد، ونحن كارزون بالحق في الجسد. لكن جسدنا يأتي بطريق ما، وجسده بطريق آخر. ونحن أيضًا نُدعى أولاد الله، أما هو فيُدعى ابن الله بطريق آخر. هو سحابة جاء من بتول، فهو ابن من الأزل، واحد مع الآب في الأزلية. "لأن من في السحاب يساوي الرب؟"[17]
القديس أغسطينوس
إِلَهٌ مَهُوبٌ جِدًّا فِي مُؤَامَرَةِ (مجمع) الْقِدِّيسِينَ،
وَمَخُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ الَّذِينَ حَوْلَهُ [7].
يبسط الله يديه بالحب لمؤمنيه، خاصة المقدسين له، وهم من جانبهم كأبناء له يكنون له الحب مع الالتزام بالمخافة والمهابة اللتين تليقان به. جاءت الكلمتان "مهوب" و"مخوف" في الأصل العبري يحملان مع الوقار العظيم معنى صالحًا.
من هم "جميع الذين حوله" إلا الطغمات السمائية وكل قديسي العهدين القديم والجديد.
* "الله الممجد في مجمع القديسين" (راجع مز 89: 7)... إنه عظيم ومهوب من كل الذين هم حوله، هؤلاء الذين بحياة الطهارة يتأهلون للاقتراب منه[18].
القديس جيروم
* إذ بُشر به بهذه الكيفية، حيث يُرسل كارزون باسمه في كل الأمم في كل العالم، بصنع عجائبٍ بين خدامه صار عظيمًا ومهوبًا منهم جميعًا الذين هم حوله[19].
القديس أغسطينوس
يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ مَنْ مِثْلُكَ،
قَوِيٌّ يا رَبٌّ وَحَقُّكَ مِنْ حَوْلِكَ؟ [8]
جاء في الترجمة السبعينية: "أيها الرب إله القوات من مثلك؟ قوي أنت يا رب، وعدلك محيط بك".
إن كان إبليس وقوات الظلمة قد دخلوا معه في معركة، فإنهم باطلًا يقاومون إله الجنود، هذا الذي تخضع له كل جنود السماء، وتشتهي كل الخليقة حتى الجامدة أن تطيع كل أوامره. إنه رب الجنود القدير، الكلي الحكمة، ليس فيه خطأ قط، إن تجاسرنا وقلنا هذا. هو الحق عينه، ويهب الذين حوله روح الحق والحكمة. الذين حوله يسلكون بروح الإخلاص والأمانة على مثاله وبروحه.
* "يا رب، إله الجنود، من مثلك" في السلطان والقوة. "قوي أنت يا رب، وحقك من حولك". الحق نفسه يقول: "أيها الآب، أريد أن يكونوا معي حيث أكون أنا" (راجع يو 17: 24)[20].
القديس جيروم
* عظيم هو سلطانك، فأنت خلقت السماء والأرض، وكل الأشياء التي فيها، وأعظم منها هو حنوك، الذي يظهر حقك لكل المحيطين بك[21].
القديس أغسطينوس
أَنْتَ مُتَسَلِّطٌ عَلَى كِبْرِيَاءِ الْبَحْرِ.
عِنْدَ ارْتِفَاعِ لُجَجِهِ أَنْتَ تُسَكِّنُهَا [9].
جاء في الترجمة السبعينية: "أنت تسود على عزة البحر". يرى القديس أغسطينوس أن عزة البحر هنا تشير إلى ثورة الأمم التي لم تقبل الإيمان فيقتلون بعض المؤمنين. إن كان الله يسمح بهذا فإن كل الأمور تتم تحت سلطانه بسماح منه. هذا الهياج يحدث إلى حين، عندئذ تهدأ أمواجه. لذلك يكمل المرتل: "وحركة أمواجه أنت تسكنها" (حسب الترجمة السبعينية).
الرياح والأمواج ودوامات البحار والمحيطات في قبضة يده. وكما يقول المرتل: المهدئ عجيج البحار، عجيج أمواجها وضجيج الأمم" (مز 65: 7). عندما اضطرب التلاميذ حين غطت الأمواج السفينة، قال لهم: "ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟ ثم قام وانتهر البحر، فصار هدوء عظيم. فتعجب الناس قائلين: أي إنسان هذا؟ فإن الرياح والبحر جميعًا تطيعه" (مت 8: 26-27).
كثيرًا ما تشير المياه إلى الشعوب، والأمواج إلى اضطرابهم، كما إلى التجارب التي تلحق بهم، لكن السيد المسيح له سلطان أن يهبهم سلامًا فائقًا، وينقذهم من التجارب.
* "أنت متسلط على كبرياء (اندفاع) البحر، عند ارتفاع لججه أنت تسكنها"، التجارب التي تهاجم عبيدك الأمناء[22].
القديس جيروم
أَنْتَ سَحَقْتَ رَهَبَ مِثْلَ الْقَتِيلِ.
بِذِرَاعِ قُوَّتِكَ بَدَّدْتَ أَعْدَاءَكَ [10].
سبق أن رأينا أن رهب تشير إلى مصر (مز 87: 4)، حين كان بعض الفراعنة يمثلون العنف، خاصة حين استعبد فرعون اليهود، وقتل أطفالهم الذكور. في تشامخه دخل فرعون في معركة مع الله نفسه، وإذ أراد إبادة شعبه صار كل الأبكار قتلى في ليلة واحدة، وغرق فرعون وجيشه في بحر سوف.
جاء في الترجمة السبعينية: "أنت أذللت المتكبر مثل القتيل" توجد حيَّة متكبرة معينة في البحر، تقول عنها عبارة أخرى في الكتاب المقدس: "من هناك (قاع البحر) آمر الحية فتلدغهم" (عا 9: 3). وأيضًا: "لوياثان هذا خلقته ليلعب فيه" (مز 104: 27).
يقارن أيضًا القديس أغسطينوس بين مذلة الشيطان المتكبر وتواضع السيد المسيح العظيم، كما يقارن بين قتل أو جرح كبرياء قلب الشيطان بالمسيح المجروح، والذي يُقال عنه "بذراع قوتك بددت أعداءك" [10].
* يقول: أنت أذللت المتكبر مثل القتيل (الجريح)" [10].
لقد تواضعت، فصار المتكبر في مذلة.
لقد أمسك المتكبر المتكبرين خلال الكبرياء. أما العظيم فبتواضعه وبالإيمان به صار صغيرًا.
بينما يتقوى الإنسان الصغير بمثال ذاك الذي نزل من العظمة إلى التواضع، إذا بالشيطان يفقد من أمسك بهم. فإن المتكبر لا يقبض إلا على المتكبرين.
إذ حدث هذا المثال أمام البشر تعلموا أن يدينوا كبرياءهم، ويتشبهوا بتواضع الله. بهذا يفقد الشيطان الذين كانوا تحت سلطانه، ويصير في ذلٍ دون أن يتأدب وإنما ينطرح...
لقد تواضعت، وتهب التواضع للآخرين. صرت مجروحًا، وتجرح الآخرين (يُصلبون معك)، لأن دمك المسفوك يمحو صك الخطايا (كو 2: 14)، ويستطيع أن يجرح (الشيطان)...
يلزمنا أن نفهم أن الشيطان جُرح لا بطعن الجسد الذي ليس له، وإنما بطعن كبرياء قلبه[23].
القديس أغسطينوس
* "أنت سحقت المتكبر بنفخة قاتلة" (راجع مز 89: 10). إنه الشيطان الذي جُرح بجرح مميت بمسامير صليب[24].
القديس جيروم
لَكَ السَّمَاوَاتُ.
لَكَ أَيْضًا الأَرْضُ.
الْمَسْكُونَةُ وَمِلْؤُهَا أَنْتَ أَسَّسْتَهُمَا [11].
إنه خالق السماء والأرض، يسندهم برعايته الفائقة، فليس شيء غير مستطاع لديه.
"ملؤها" تعني كل سكان المسكونة عبر الأجيال.
ما هي السماوات التي للرب إلا الكارزين بالحق الإلهي في العهدين القديم والجديد، وما هي الأرض التي له إلا تلك التي تتقبل هذا الحق كالمطر النازل من السماء.
"لك السماوات. لك أيضًا الأرض" [11]. إنها تمطر من عندك على أرضك. لك السماوات التي بواسطتها يُكرز بحقك في دائرتك. "لك الأرض" التي تتقبل حقك في دائرتك. وما هي نتيجة هذا المطر؟ "أنت تؤسس العالم المحيط وكل السكان فيه"[25].
القديس أغسطينوس
الشِّمَالُ وَالْجَنُوبُ أَنْتَ خَلَقْتَهُمَا.
تَابُورُ وَحَرْمُونُ بِاسْمِكَ يَهْتِفَانِ [12].
جاء في الترجمة السبعينية: "أنت خلقت الشمال والبحر".
جبل تابور يُقصد به هنا الغرب، حيث يقع غرب نهر الأردن. تبلغ قمته 1750 قدمًا فوق مستوى البحر، يُمكن رؤية البحر الأبيض المتوسط من قمته. بينما جبل حرمون يشير إلى الشرق، يبعد حوالي 50 ميلًا من جبل تابور، قمته تبلغ أكثر من عشرة آلالف قدمًا، يقع شرق نهر الأردن. فكل الاتجاهات الشمال والجنوب والشرق والغرب تهتف وتمجد الله خالق المسكونة. خاصة وأن الجبلين لهما شهرتهما ويتسمان بجمالٍ خاص.
* "الشمال والبحر أنت خلقتهما" (راجع مز 89: 12). يفهم من الشمال ضد المسيح الذي يقول عنه الرب بإرميا: "من الشمال ينتشر الشر على كل سكان الأرض" (راجع إر 1: 14)[26].
القديس جيروم
يرى القديس أغسطينوسأن "تابور" تعني "النور المقترب". و"حرمون" تعني "حرمانًا" أو "لعنة". فإذ هو النور الذي لا يشعله مصدر خارجي، عندما يقترب يحرم الشيطان ويلعنه، أي يحطم المتكبر ويهلكه. هذا ما يحققه الرب نفسه بقوة ذراعه.
* ليس شيء له سلطان ضدك، ضد خالقه. حقًا قد يهيج العالم (البحر) خلال خبثه، وعناد إرادته، لكنه هل يتعدى الحدود التي وضعها الخالق، الذي صنع كل الأشياء؟ فلماذا إذن أخاف من ريح الشمال؟ لماذا أخاف البحار. في الشمال بالحق الشيطان الذي قال: "أجلس على جوانب الشمال، أصير مثل العلي" (راجع إش 14: 13-14). لكنك أذللت المتكبر مثل الجريح (القتيل)[27].
القديس أغسطينوس
لَكَ ذِرَاعُ الْقُدْرَةِ.
قَوِيَّةٌ يَدُكَ.
مُرْتَفِعَةٌ يَمِينُكَ [13].
تشير الذراع إلى القدرة، واليمين إلى المجد. فالله قدير وممجد، يعمل في مؤمنيه ليتمتعوا بروح القوة والمجد. وكما يقول الرسول بولس: "ما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته" (أف 1: 19).
* لا ينتحل إنسان شيئًا لنفسه. "لك ذراع القدرة" [13]. بك خُلقنا، وبك نحتمي[28].
القديس أغسطينوس
الْعَدْلُ وَالْحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّكَ.
الرَّحْمَةُ وَالأَمَانَةُ تَتَقَدَّمَانِ أَمَامَ وَجْهِكَ [14].
إن كان عرش الله هو العدل والحق أو البرّ، فإن الرحمة وأمانته في تحقيق وعوده يتقدمانه. ففي كل أعماله هو كلي العدل وكلي الرحمة.
* "العدل والحق قاعدة كرسيك" [14]. سيظهر عدلك وحقك في النهاية، أما الآن فمختفيان... سيجلس البعض عن يمينك، وآخرون عن يسارك (مت 25: 33). سيرتعب غير المؤمنين عندما يرون من يسخرون به الآن، ولا يؤمنون به. أما الأبرار فسيفرحون عندما يرون من لا يرونه الآن، وإنما يؤمنون به[29].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. الشعب والميثاق الإلهي

طُوبَى لِلشَّعْبِ الْعَارِفِينَ الْهُتَافَ.
يَا رَبُّ بِنُورِ وَجْهِكَ يَسْلُكُونَ [15].
يرى المرتل وقد تحدث عن الله الذي يقيم عهده مع شعبه، أنه يود أن يصير كمن في عيدٍ لا ينقطع. يُسمع دومًا صوت أبواق العيد. إنه يقيم العهد ليتعرفوا على خبرة الحياة السماوية المطوَّبة. إن أعظم ما يتمتعون به ليس نوال بركات زمنية وخيرات أرضية ومكاسب مادية، إنما يتمتعون بنور وجه الله، فيسلكون رحلة حياتهم في فرحٍ مجيدٍ لا يُعبر عنه. لا يشعرون بالحاجة إلى شيءٍ، إذ هم في شركة مع الله خالق الكل ومدبر كل الأمور، والمعتني بكل كبيرة وصغيرة.
يتحدثالعلامة أوريجينوس عن الحياة الكنسية كحياة فرحٍ دائمٍ وهتافٍ للرب، فيعلق على قول المرتل: "طوبى للشعب العارف الهتاف" (مز 15:89)، قائلًا: [لم يقل طوبى للشعب الذي يمارس البرّ، ولا للشعب العارف الأسرار، ولا لمن له معرفة بالسماء والأرض والكواكب، وإنما "طوبى للشعب العارفين الهتاف"... يقدم التطويب هنا بفيض، لماذا؟ لأن كل الشعب يشترك فيه، الكل يعرف صحبة التهليل. لهذا يبدو لي أن هتاف الفرح يعني وحدة القلب وترابط الروح معًا...عندما يرفع الشعب صوته باتفاق واحد، يتحقق فيه ما جاء في سفر الأعمال من حدوث زلزلة (أع١: ١٣)... فينهدم كل شيء ويبطل هذا العالم... إن أردت فلتصر أنت إسحق (تعنى الضحك) وتكون فرحًا للكنيسة أمك[30].]
عمل الكنيسة بث روح الفرح وسط الجميع. صار الكلمة منظورًا بالتجسد، فنقول مع الرسول يوحنا: "الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة... نكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملًا" (1 يو 1، 4). يليق بنا أن نحمل كل علامات الفرح للتجسد، ليس فقط في الداخل، بل فرح الخارج، لأن مسيحنا قدَّس التجسد وصار ظاهرًا. عمل الكنيسة في اليوبيل كما في حياتها أن تبذل كل الجهد لتدخل بكل إنسانٍ إلى الحياة المفرحة، فيدرك الكل أن إنجيلنا هو أخبار مفرحة، ويتلمس العالم قوة الخلاص في فرح الكنيسة كما في بعثها روح الفرح الحقيقي ما استطاعت.
* ليتنا لا نغرق في ضيقاتنا بل نقدم التشكرات في كل شيءٍ، فنقتني نفعًا عظيمًا، إذ نرضي الله الذي يسمح بالضيقات[31].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "طوبي للشعب العارفين الهتاف" يا لكم من شعب مطوّب...! ماذا أعني بالهتاف؟ أن تعرفوا الفرح الذي يتعدى التعبير عنه بكلمات. هذا الفرح ليس من عنكم مادام "من افتخر فليفتخر بالرب" (1 كو 1: 31). إذن لا تفرحوا بافتخاركم، بل بنعمة الله. إذ ترون إن تلك النعمة هي هكذا، إن اللسان يعجز عن أن يعبر عن عظمتها عندئذ تفهمون الهتاف[32].
القديس أغسطينوس
بِاسْمِكَ يَبْتَهِجُونَ الْيَوْمَ كُلَّهُ،
وَبِعَدْلِكَ يَرْتَفِعُونَ [16].
اسم الله أو حضوره هو سرّ بهجتنا اليوم كله، أي كل أيام حياتنا، حتى في وسط الضيق.
"بعدلك يبتهجون": أي ببِّره يتمتعون بالبرّ الحقيقي، فترتفع قلوبهم ونفوسهم لتلحق كما في السماء عينها. كأنما خلال أمانته في تحقيق وعوده يرفعنا لنعيش عن يمينه، ننعم بالمجد الداخلي، حسب وعده "أنا أكون مجدًا في وسطها".
* لهذا لا ينكسر حتى يؤسس القضاء على الأرض. لا تفسِّروا هذا بأنَّه عيَّن وقتًا فيه سينكسر، أي بعد تأسيس القضاء على الأرض. ما يقوله هنا بالحري أنَّه سينتصر على أعدائه، ويسيطر حتى يؤسس قضاءه في العالم كله. فقد كُرز بالإنجيل في العالم كما لو تأسَّست قوانينه. مكتوب: "برَّك إلى الأبد، وناموسك هو حق" (مز 119: 142 LXX). يقول: "يضع الأمم رجاءهم في اسمه. فإنَّهم إذ يأتون إلى معرفته أنَّه بالحقيقة هو الله، بالرغم من ظهوره في الجسد، جعلوه رجاءهم، وكما يقول المرتِّل: "يفرحون في اسمه كل النهار" (مز 89: 16 LXX). فإنَّنا نُدعى مسيحيِّين ونضع رجاءنا كله فيه[33].
القديس كيرلس الكبير

* إن كانوا يفرحون بإثمهم، فإنهم لا يبتهجون اليوم كله. إذ لا يستمرون في فرحهم، عندما يبتهجون بأنفسهم ويسقطون بالكبرياء[34].
القديس أغسطينوس
لأَنَّكَ أَنْتَ فَخْرُ قُوَّتِهِمْ،
وَبِرِضَاكَ يَنْتَصِبُ قَرْنُنَا [17].
إذ يتحدث عما يتسم به المؤمنون من روح الهتاف والبهجة كل أيام حياتهم، والتمسك ببّر الله وأمانته، فإنهم يمارسون هذه الحياة لا خلال انفعالٍ عاطفي مؤقت، وإنما بالتمتع بقوة الله عاملة فيهم. وكما يقول المرتل: "لأنك أنت تبارك الصديق يا رب، كأنه بترسٍ تحيطه بالرضا" (مز 5: 12).
إن كان الله يكسر قرون الأشرار، فانه يرفع قرن أبنائه. "قلت للمفتخرين لا تفتخروا، وللأشرار لا يرتفعوا قرنًا. لا ترفعوا لإلى العلي قرنكم. لا تتكلموا بعنقٍ متصلب" (مز 75: 4-5).
لأَنَّ الرَّبَّ مِجَنُّنَا،
وَقُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ مَلِكُنَا [18].
الله لا يعطينا فقط القوة لمواجهة المعركة ضد إبليس وأعماله الشريرة وحيله الخبيثة؛ ولا يقف عند إرسال من ينقذنا ويخلصنا من شدتنا، لكنه هو بنفسه مجننا، وهو ملكنا مخلصنا من كل خطايانا وضعفاتنا.
يدعوه "قدوس إسرائيل"، فهو القدوس الذي ينسب نفسه لكنيسته، فيقدسها ويطهرها من كل خطيةٍ وضعفٍ.
* كنت أتحرك مثل كومة رملٍ، أسقط! ما لم ترفعني أيها الرب لابد أن أسقط...
إنه هو رافعكم، هو استنارتكم، بنوره أنتم في أمان، بنوره تسيرون، ببرَّه تتمجدون. إنه يرفعكم إلى فوق، إنه يحرس ضعفكم، يهبكم قوته، لا قوتكم.
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. بنود الميثاق

حِينَئِذٍ كَلَّمْتَ بِرُؤْيَا تَقِيَّكَ،
وَقُلْتَ جَعَلْتُ: عَوْنًا عَلَى قَوِيّ.
رَفَعْتُ مُخْتَارًا مِنْ بَيْنِ الشَّعْبِ [19].
جاء عن الترجمة السبعينية: "حينئذ بالوحي (بالإعلان) تكلمت مع بنيك".
في كثير من الترجمات جاءت كلمة تقيك بصيغة الجمع. كثيرًا ما تحدث الله مع أتقيائه خلال الرؤى والإعلانات الإلهية مثل موسى النبي (خر 3) وصموئيل النبي (1 صم 18) وناثان النبي (2 صم 7). كما كان النبي قديمًا يُدعى بالرائي.
أما عن المختار هنا، فيعني السيد المسيح الذي جاء ليخلص العالم.
* "رفعت مختارًا من بين الشعب"، أي المسيح الرب، الذي يُدعى مختارًا من بين الشعب، لأنه أخذ جسدًا بشريًا[35].
القديس جيروم
وَجَدْتُ دَاوُدَ عَبْدِي.
بِدُهْنِ قُدْسِي مَسَحْتُهُ [20].
يتحدث هنا عن اختيار داود ملكًا، حيث وجد قلبه نقيًا، فأمر صموئيل بمسحه ملكًا عوضًا عن شاول (1 صم 16: 1-13). هكذا استقر روح الله، هذا وقد جاء مسح داود رمزًا لابن داود المسيح الحقيقي الممسوح بروح البهجة لخلاص العالم كله.
* يجد الله النفس الضالة كما يعثر الراعي الصالح على الخروف الضائع، فتتحرك جموع الملائكة لتحتفل بهذه المناسبة كما يقول السيد المسيح. ويشبه ذلك الدرهم الضائع الذي وجد بعد أن أوقدت صاحبته سراجًا، ففرح الأصدقاء والجيران (لو 9:15). وأيضًا وُجد خادم الله داود كما قال المزمور: "وجدت داود عبدي، بدهن قدسي مسحته" (مز 20:89). فأصبح داود ملكا لمن وجده كما يتضح من الآتي: "الذي تثبت يدي معه. أيضًا ذراعي تشدده. لا يرغمه عدو وابن الإثم لا يذله. وأسحق أعداءه أمام وجهه، وأضرب مبغضيه" (مز 21:89-23). توجد عناصر أخرى تُضمن في هذه الفقرة من التمجيد[36].
القديس غريغوريوس النيسي

الَّذِي تَثْبُتُ يَدِي مَعَهُ.
أَيْضًا ذِرَاعِي تُشَدِّدُهُ [21].
يكشف تاريخ الملك داود كيف كانت يد الرب وذراعه يسندانه بالرغم من الضيقات التي حلت به.
لاَ يُرْغِمُهُ عَدُوّ،
وَابْنُ الإِثْمِ لاَ يُذَلِّلُهُ [22].
إنه لا ينزع الأعداء، ولا يمنعهم من نصب شباكهم وإثارة معارك ضد المؤمنين، لكنه يهب مؤمنيه روح الغلبة والنصرة، فيكللون.
لقد سمح السيد المسيح أن يُجرب من إبليس، وأصعد روحه للمعارك في البرية، لكنها انتهت بالعبارة: "وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه" (مت 4: 11). وقبل عنه: فيما هو مجرب يقدر أن يعين المجربين".
"يرى القديس جيروم[37] أن العدو هنا هو الشيطان وابن الإثم هو يهوذا الخائن.
* يثور العدو بالحقيقة، لكنه لا يقدر أن يسبب له أذية. يريد أن يضره، لكنه لا يصبه ضرر...
يوجد نفع من ثورته، لأن أولئك الذين يثور ضدهم يكللون بنصرتهم. إذ كيف يُغلب إن لم يثر علينا؟ أو أين يكون الله معيننا إن لم نُجرب؟ يفعل العدو ما في مقدرته، لكن لا يقدر أن يؤذيه، لا يقترب ابن الهلاك ليؤذيه[38].
القديس أغسطينوس
وَأَسْحَقُ أَعْدَاءَهُ أَمَامَ وَجْهِهِ،
وَأَضْرِبُ مُبْغِضِيهِ [23].
إذ رفض داود النبي أن يمس شاول الملك بأذية بالرغم من محاولات الأخير قتله، عندما أنقذه الرب من يد كل أعدائه ومن يد شاول نطق بنشيد جاء فيه: "تنطقني قوة للقتال، وتصرع القائمين عليّ تحتي، وتعطيني أقفية أعدائي ومبغضي فأفنيهم. يتطلعون فليس مخلص..." (2 صم 22: 40 الخ).
"وأضرب مبغضيه": كما ضرب فرعون ومن معه بالضربات العشرة، هكذا كل آلة تصوب ضد كنيسته تخرب.
أَمَّا أَمَانَتِي وَرَحْمَتِي فَمَعَهُ،
وَبِاسْمِي يَنْتَصِبُ قَرْنُهُ [24].
كثيرًا ما يربط هذا المزمور بين مراحم الله وأمانته، كما يكرر أن سرّ قوة المؤمن اسم الله، أو التمتع بحضرته الإلهية.
إن كان كلمة الله بتجسده وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب، "لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم المسيح كل ركبةٍ ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسانٍ أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (في 2: 9-11).
* كل طرق الرب رحمة وحق. تذكروا قدر ما تستطيعون كيف أن هاتين السمتين تُقدمان لنا بإلحاح، فنردهما لله. فإنه إذ أظهر لنا الرحمة لكي يمحو خطايانا، والحق لتحقيق مواعيده، هكذا نحن إذ نسلك في طريقه أن نرد له الرحمة والحق. الرحمة بأن نحنو على البائسين، والحق بأن لا نحكم بالظلم. ليت الحق لا ينزع عنكم الرحمة، ولا الرحمة تعوق الحق. فإنكم إن كنتم خلال صرامة الحق تنسون الرحمة، فأنتم لا تسلكون في طريق الله حيث الرحمة والحق يتلاقيان (مز 85: 10).
"وباسمي ينتصب قرنه" [24]. لماذا أقول أكثر من هذا؟ أنتم مسيحيون، تعرفوا على المسيح[39].
القديس أغسطينوس
وَأَجْعَلُ عَلَى الْبَحْرِ يَدَهُ،
وَعَلَى الأَنْهَارِ يَمِينَهُ [25].
إذ يهب الله مسيحه، أي داود النبي، سلطانًا على البحر والأنهار، إنما يعني أنه يهبه مهابة قدام الأعداء أينما وجُدوا.
غالبًا ما تشير البحار إلى الأمم والشعوب الوثنية، بينما الأنهار بمياهها العذبة إلى المؤمنين. ينتشر الإيمان بالسيد المسيح بين الأمم، فيقبلونه ملكًا عليهم، أو ينضمون إلى مملكته الروحية.
إن كان السيد المسيح يملك على قلوب المؤمنين، فهو أيضًا سيُخضع الأشرار في يوم الرب العظيم.
* تجري الأنهار في البحر، هكذا يتدفق الناس الجشعون في مرارة هذا العالم، لكن كل هذه الأنواع من الناس سوف تخضع للمسيح[40].
القديس أغسطينوس
هُوَ يَدْعُونِي: أَبِي أَنْتَ.
إِلَهِي وَصَخْرَةُ خَلاَصِي [26].
لا نجد حالة واحدة، فيها دعا داود الله أباه، لكننا نجد السيد المسيح يدعو الله الآب أباه أكثر من 60 مرة في إنجيل يوحنا وحده[41]. وإذ صار كلمة إنسانًا دعا أباه أيضًا إلهه.
أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ [27].
لم تتحقق هذه النبوة قط في شخص داود، إذ لم يُدعَ قط بكرًا، لكن السيد المسيح صار بكرًا، قام بإرادته من بين الأموات ليهبنا الحياة المقامة، صار بكرًا بين إخوة كثيرين. إنه أقامنا ملوكًا وكهنة لله أبيه، وهو رأس الكنيسة البكر.
"الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه، ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين" (رو 8: 29).
"الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كو 1: 15).
"وهو رأس الجسد الكنيسة، الذي هو البداءة، بكر من الأموات، لكي يكون هو متقدمًا في كل شيء" (كو 1: 18).
"وأيضًا متى أدخل البكر إلى العالم يقول: "ولتسجد له كل ملائكة الله" (عب 1: 6).
سيأتي يوم حين يترك كل ملوك الأرض كراسيهم، ويأتي ملك الملوك ورب الأرباب، ملك السلام الحقيقي، ابن الآب المحبوب، مخلص العالم.
* الرب يسوع "البكر بين الأموات" (كو 1: 18) كما يقول الرسول صار مرتفعًا، يصعد إلى السماء، وتخضع له كل ممالك العالم[42].
القديس جيروم
* مع أنه ابن الله الوحيد، إلاَّ أنه بكر لنا، لأننا جميعًا إخوة له، وبذلك أصبحنا أبناء الله...
المسيح بكر لنا، لأنه شاء فنزل إلى مستوى المخلوقات الطبيعية، لذلك تجدون الأسفار الإلهية تشير إلى المسيح ابن الله بالقول: "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب" (يو ١: ١٨). أما إذا استعمل الكتاب المقدس كلمة البكر، فإن الوحي يفسرها بما يبين مضمونها، فورد "ليكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين" (رو ٨: ٢٩)؛ وورد أيضًا: "بكر من الأموات" (كو ١: ١٨). المسيح بكر من الأموات، لأنه شاركنا في كل شيءٍ ما عدا الخطية، ولأنه أقام جسده من الموت[43].
القديس كيرلس الكبير
إِلَى الدَّهْرِ أَحْفَظُ لَهُ رَحْمَتِي.
وَعَهْدِي يُثَبَّتُ لَهُ [28].
إذ أعلن الآب عن مسرته بابنه الوحيد أثناء عماده كما أثناء تجليه، إنما يُسر بكنيسته التي هي جسده، ويحفظ لها رحمته إلى الأبد. ويبقى الله الأمين في مواعيده حافظًا عهده مع الكنيسة، فتنعم بشركة المجد الأبدي.
* يحفظ رحمته في الكنيسة التي يخلصها بعهد وصاياه[44].
القديس جيروم
* من أجله قد وُفي العهد، وفيه تحققت وساطة العهد، إنه خاتم العهد، ووسيط العهد، وضامن العهد، والشاهد للعهد، وميراث العهد، والشريك في ميراث العهد[45].
القديس أغسطينوس
وَأَجْعَلُ إِلَى الأَبَدِ نَسْلَهُ،
وَكُرْسِيَّهُ مِثْلَ أَيَّامِ السَّمَاوَاتِ [29].
من هو نسله إلا أولاد الله الذين يولدون من الماء والروح، فإنهم إذ يسلكون كما يليق بهم يتمتعون بالحياة الأبدية، وما هو كرسي الله أو عرشه إلا المؤمنين الذين يحملون الله في قلوبهم، ويتمتعون بالوعد الإلهي: "ملكوت الله داخلكم".
* هذا يشير إلى اجتماع المؤمنين، الكنيسة التي يجلس فيها الله كما على عرشه[46].
القديس جيروم
* "وأجعل إلى الأبد نسله"، ليس فقط في هذا العالم، بل وفي العالم الذي بلا نهاية...
"وكرْسيّه مثْل أيّام السّماوات"... كراسي ملوك الأرض مثل أيام الأرض، وهي تختلف عن أيام السماوات... أيام السماوات هي تلك السنوات التي قيل عنها: "وأنت هو وسنوك لن تنتهي" (مز 102: 27). أيام الأرض حالًا تباغتها الأيام التي تلحقها. فالسابقة تزول بالنسبة لنا، وحتى اللاحقة لن تدوم، فكما تأتي هكذا تذهب، بل وتذهب حتى قبل أن تأتي. هكذا عي أيام الأرض، أما أيام السماوات والتي هي أيضًا "اليوم الواحد" للسماوات، فإنها سنوات لا تزول، بلا بداية ولا نهاية، وليس من يوم فيها له مساءً وله غد: ليس أحد يتوقع فيها المستقبل، كما لا يفقد الماضي. أيام السماوات دائمًا حاضرة حيث يكون كرسي (المسيح) إلى أبد الأبد[47].
القديس أغسطينوس
إِنْ تَرَكَ بَنُوهُ شَرِيعَتِي،
وَلَمْ يَسْلُكُوا بِأَحْكَامِي [30].
* هذا هو أقوى عربون لوعد الله. أبناء داود هم أبناء العريس. كل المسيحيين يدعون أبناءه[48].
القديس أغسطينوس
إِنْ نَقَضُوا فَرَائِضِي،
وَلَمْ يَحْفَظُوا وَصَايَايَ [31].
أَفْتَقِدُ بِعَصًا مَعْصِيَتَهُم،ْ
وَبِضَرَبَاتٍ إِثْمَهُمْ [32].
ليس عند الله محاباة، فإن كانت رحمته فائقة، فإنه بعدله وبرَّه لا يقبل الشركة مع الإثم. أن يفتقد أولاده الذين انحرفوا عن الحق الإلهي بالعصا، وما ينالونه من تأديبات، إنما "ضربات إثمهم"، أي ثمر ما احتضنوه من الإثم.
هذه العصا وتلك الضربات ليس لهلاكهم وإنما لإصلاحهم. هذا ما اختبره داود النبي نفسه حين تهاون مع الإثم، فحلت به ضربات لا لتدميره بل لخلاصه.
* سعيد هو الإنسان الذي يؤدَب في هذه الحياة لأن الله لا يؤدب على أمر واحد مرتين (نا ١: ٩ LXX). يا لعظم سخط الرب عندما لا يغضب علينا هنا، فإنه بهذا يحفظنا كثورٍ للذبح. في الحقيقة يقول لأورشليم إن خطاياها كثيرة وشرورها عظيمة لذا تنصرف غيرته عنها ولا يغضب بعد عليها (حز ١٦: ٤٢)[49].
القديس چيروم
* "افتقد بالسياط خطاياهم" لماذا؟ لكي "لا أنزع رحمتي عنهم". فإنه عندما يترك أحدًا ما لا يعود يعاقبه أو يضربه بالسوط، فهو لا يضرب إلا كل ابن يقبله الرب[50].
العلامة أوريجينوس
* الإصلاح الذي يقوم به الأب، والذي لا يترك العصا، هو مفيد، حتى يرد نفس الابن للطاعة لوصايا الخلاص. إنه يؤدب بعصا، كما نقرأ: "أفتقد بعصا معصيتهم" (مز 89: 32).
القديس أمبروسيوس
* دعه يؤدبه مادام لا ينزع منه رحمته. ليضربه مادام عنيدًا مادام لا يريد أن يحرمه من الميراث. إن كنتم تفهمون حسنًا وعود أبيكم لا تخشون من أن تُجلدوا بل أن تُحرموا من الميراث. "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه، ويجلد كل ابن يقبله" (عب 12: 6). هل يستخف الابن الخاطي بالتأديب إن كان يرى الابن الوحيد الذي بلا خطية قد جُلد...؟ ليت الأبناء الأتقياء لا يقولون: إن كنت تأتي بعصا لا تأتي نهائيًا. فمن الأفضل أن يتعلموا بعصا الآب عن أن تهلكوا بقبلات اللص[51].
القديس أغسطينوس
أَمَّا رَحْمَتِي فَلاَ أَنْزِعُهَا عَنْهم،
وَلاَ أَكْذِبُ مِنْ جِهَةِ أَمَانَتِي [33].
مع ما فعله داود إذ تجاوب مع تأديبات الرب له، لم ينزع رحمته عنه، ولا كسر عهده معه، فجاء السيد المسيح من نسله.
يرى القديس أغسطينوس أنه وإن كان الحديث هنا عن السيد المسيح، لا ينزع رحمته عنه، وأنه لا يكذب من جهة أمانته، فإنه خاص بجسد المسيح، أي كنيسته. فعندما اضطهد شاول الطرسوسي الكنيسة، لم يقل له السيد المسيح: شاول، شاول، لماذا تضطهد عبيدي، أو المؤمنين بي، أو القديسين الذين لي، وإنما لماذا تضطهدني، فينسب ما يحدث مع الكنيسة إليه شخصيًا.
* لأن الله رحوم، ويريد أن الكل يخلصون، يقول: "أفتقد جرائمهم بالحديد والعصا، وخطاياهم بالسياط، أما رحمته فلا أنزعها منهم" (راجع مز 32:89-33)... لأن الله غيور، ولا يريد أن النفس التي خطبها لنفسه بالإيمان أن تبقى في دنس الخطية، بل يريدها أن تتطهر فورًا، يريدها أن تنزع نجاستها بسرعة، إن حدث أنها قد أمسكت بها شيء من النجاسات[52].
العلامة أوريجينوس
* "الذي يؤمن بالابن له حياة أبديَّة. والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله" (يو ٣: ٣٦). هذا الغضب يمكث على من يعصى، أي من لا يؤمن. لكنَّه متى آمن - أي إنسان كان - فسيرحل عنه الغضب، وتحل به الحياة.
إن كان الله لا يدينه، فهل أنت تدينه؟!
لقد قال بأن من يؤمن به لا يبقى في الظلمة، بمعنى أنه قبْل الإيمان كان في الظلمة، لكنَّه بعد الإيمان لا يعود بعد فيها. بل تُصلح أخطاؤه، ويحفظ وصايا الرب الذي قال: "إنِّي لا أُسر بموت الشرِّير، بل بأن يرجع الشرِّير عن طريقه ويحيا" (حز ٣٣: ١١). وكأن الرب يقول: "لقد سبق أن قلت إن من يؤمن بي لا يدان. وأنا أحفظ له هذا، لأنِّي لم آت لأدين العالم بل لأخلصه" (يو ١٢: ٤٧). إنَّني عن طيب خاطر أغفر له، وبسرعة أسامحه. "إنِّي أريد رحمة لا ذبيحة" (هو ٦: ٦)... "لأنِّي لم آتِ لادعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة" (مت ٩: ١٣).
مرَّة أخرى يقول الرب: "من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه" (يو ١٢: ٤٨). فالذي رجع عن طريقه يكون قد قبل كلامه، لأن هذا هو كلامه أن يعود الكل عن الخطيَّة. بذلك بإدانته تكونون قد ازدريتم بكلام المسيح هذا، وإلاَّ فاقبلوا الخطاة.
حقًا أنه يلزمهم أن ينتفضوا من الخطيَّة، ويحفظوا وصاياه مزدرين بالإثم، لكن يا لها من قسوة أن تزدري بتوبة إنسان لم يحفظ بعد وصايا الرب، لكنَّه سيحفظها، لنترك الرب نفسه يعلِّمنا بشأن أولئك الذين لم يحفظوا بعد وصاياه "إن نقضوا فرائضي، ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معاصيهم وبضربات إثمهم... أمَّا رحمتي فلا أنزعها عنهم" (مز ٨٩: ٣١-٣٣). هكذا وعد الجميع بالرحمة[53].
القديس أمبروسيوس
* لأن الرب رحوم و"يريد أن جميع الناس يخلصون" (1 تي 2: 4)، يقول: "أفتقد بعصا معصيتهم، وبضربات إثمهم. أما رحمتي فلا أنزعها عنهم" (مز 89: 32-33). فالله إذًا، يفتقد ويسعى وراء الأنفس التي أنجبها أكثر الآباء شرًا، بتحريضها على الخطية، ويقول لكل واحدة منها: "اسمعي يا ابنتي وانظري، وأميلي أذنك. وانسي شعبك وبيت أبيك" (مز 45: 11). هو إذًا، يفتقدك بعد اقترافك للخطية ويقلقك. يفتقدك بسوط وعصا من أجل الخطية التي سلّمها لك إبليس أبوك، لكي ما يثأر من تلك الخطية في "حضنك".
* "لأن هذا زمان انتقام الرب". يوضح الكتاب المقدس أن العقوبات توقع على الإنسان الذي يحتملها ويصبر في احتمالها. فعندما لا يُعاقب الإنسان على الأرض يظل هكذا بدون عقاب حيث يتم عقابه في يوم الدينونة. ويقول الرب على لسان هوشع النبي: "لا أعاقب بناتكم، لأنهن يزنين ولا كناتكم لأنهن يفسقن" (هو 4: 14). الله لا يعاقب الخطاة بسبب غضبه عليهم، كما يظن البعض، أو بمعني آخر إن الله عندما يوقع عقابًا بإنسان خاطئ، فإنه لا يوقعه بدافع الغضب من هذا الإنسان، بل على العكس، فإن علامة غضب الله على الإنسان تتمثل في عدم توقيع العقاب عليه. لأن الإنسان المُعاقب حتى ولو تألم تحت تأثير هذا العقاب، إلا أنه القصد هو إصلاحه وتقويمه. يقول داود: "يا رب لا توبخني بغضبك، ولا تؤدبني بسخطك" (مز 6: 1). لو أردت أن تؤدبني، فكما يقول إرميا: "أدبني يا رب، ولكن بالحق لا بغضبك، لئلا تفنيني" (إر 10: 24). كثيرون أُصلحوا بسبب عقوبات الرب وتأديباته لهم. كما يقول الكتاب، إن أبناء السيد المسيح حينما يخطئون يتم عقابهم لكي تكون أمامهم فرصة للرحمة من قبل الرب: "إن ترك بنوه شريعتي، ولم يسلكوا بأحكامي، إن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معصيتهم، وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنهم" (مز 89: 30-33). من ذلك نفهم أنه إذا ارتكب أحد الخطايا ولم يعاقب حتى الآن يكون علامة عن عدم استحقاقه للعقاب بعد[54].
العلامة أوريجينوس
لاَ أَنْقُضُ عَهْدِي،
وَلاَ أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ [34].
يليق بالمؤمن ألا ييأس بسبب ضعفاته، إنما يرجع إلى الرب بروح الرجاء، فإنه غافر الخطايا، ينتظر رجوع كل مؤمن إليه بالتوبة.
* وحيث إنني قلتُ إنك تبلغ خطوةً خطوة، فانظر في الأناجيل كيف أنّ المسيح أعطى مواهب النعمة مرارًا لتلاميذه بخصوص الأشفية وإخراج الشياطين، وتكلّم معهم عن غفران الخطايا لأجل التكميل النهائي قائلًا: "مَنْ غفرتم خطاياه تُغفَر له" (يو20: 23). إذن، فإن كان بسبب تعبك لأجل الله سيغفر لك خطاياك، فها هي الغاية التي أريدك أن تبلغها. أما إذا قرأت في الخطاب كلمات صعبة الفهم، فاسأل توأم نفسك ابني المحبوب سيريدوس وهو سيشرح لك بنعمة الله ما صعُب عليك فهمه، لأنني صلّيت إلى الله من أجله بخصوص ذلك أيضًا. إذن، فاركض أنت يا رجل الله في الطريق التي أُعِدّت لك حتى تصل بفرحٍ إلى ميناء المسيح الذي وصلنا إليه، وتسمع الصوت المملوء فرحًا ونورًا وحياةً وتهليلًا قائلًا لك: "نعمّا أيها العبد الصالح والأمين، كنتَ أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير، اُدخل إلى فرح سيدك" (مت 25: 21). ليتك تفرح في الرب، ليتك تفرح في الرب، ليتك تفرح في الرب. والرب سيحفظ نفسك وجسمك وروحك من كل شرٍّ، ومن كل معاندةٍ شيطانية، ومن كل تصوراتٍ مزعجة. ليكن الرب نورك وحماك وطريقك وقوتك وإكليل فرحك ومعونتك الأبدية. انتبه لنفسك، لأنه مكتوبٌ: "لا أغيِّر ما خرج من شفتيَّ" (مز 89: 34).
القديس برصنوفيوس
مَرَّةً حَلَفْتُ بِقُدْسِي،
أَنِّي لاَ أَكْذِبُ لِدَاوُدَ [35].
يتطلع كثير من الدارسين إلى لقب الله "القدوس"، كلقبٍ فريد، لا تشاركه فيه خليقة ما، إنما بالالتصاق به والشركة معه تصير الخليقة مقدسة.
في أكثر من موضع يدعونا الله لنكون له قديسين كما هو قدوس.
نَسْلُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَكُونُ،
وَكُرْسِيُّهُ كَالشَّمْسِ أَمَامِي [36].
يليق بنا أن نقف أمام كرسي شمس البرّ، فيشرق علينا ببهاء قداسته ومجده، فنصير كالقمر.
مِثْلَ الْقَمَرِ يُثَبَّتُ إِلَى الدَّهْرِ.
وَالشَّاهِدُ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ. سِلاَهْ [37].
* "كرسيه كالشمس أمامي" يعني أن الكنيسة ستقطن في بهاء المجد العتيد "مثل القمر يثبت إلى الدهر" في كمال النور. "والشاهد في السماء أمين" (مز 89: 37). المسيح الرب نفسه الذي حمل شهادة أمينة لله الآب في العالم، رُفع إلى السماء[55].
القديس جيروم
* يمكنكم بوضوح أن تفهموا القول: "لماذا تركتني؟" (مت 27: 49) عندما تقارن مجد المسيح الذي كان له في حضرة الآب مع الاستخفاف به الذي حدث وهو على الصليب، فإن عرشه كان "مثل الشمس في حضرة الله (الآب)، ومثل القمر ثابت إلى الأبد" (مز 89: 36-37)[56].
العلامة أوريجينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
5. الإنسان كاسر الميثاق

<SPAN lang=ar-sa> لَكِنَّكَ رَفَضْتَ وَرَذَلْتَ.
غَضِبْتَ عَلَى مَسِيحِكَ [38].
بعد أن تحدث الله عن رحمته وأمانته في وعده أن يقيم نسل داود على كرسيه إلى الأبد، إذ لم يدرك اليهود ما يقصده الآب، فحسبوا هذا الميثاق يمس المملكة الزمنية لإسرائيل القديم بطريقة حرفية، لهذا نسمع صوتًا غريبًا يتجاسر ويحاجج الله كمن يحاكمه، ابتداء من هذه العبارة [38]، متسائلًا: أين هو الوعد الإلهي؟ إنه يلقي باللوم على الله.
لعل الموقف هنا يشبه ما ورد في سفر الخروج 32، حيث ألقى الشعب باللوم على الله عندما تأخر موسى على الجبل لاستلام الشريعة. عبد الشعب عجلًا مسبوكًا، وقالوا: "هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر" (خر 32: 4). لقد بنى هرون مذبحًا أمام العجل، بكروا في الغد، وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة، وجلس الشعب للأكل والشرب، ثم قاموا للَّعب، أي لممارسة رجاساتٍ وأمورٍ دنسة.

يرى البعض من هنا نجد صوت الرسل موجهًا إلى الآب، وكما يقول القديس جيروم[57]<FONT size=6> إن الرسل يقولون هذا عندما نظروا المسيح قد أُسلم إلى أعدائه، وحيث ظنوا أن الآب قد نقض عهده معه، وسلمه للعار عند أقربائه، أي عند اليهود و
  رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي رو26:8
تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب سفر نحميا
قصة الكتاب المقدس للأطفال - القمص تادرس يعقوب ملطي
مزمور 1 - تفسير سفر المزامير -القمص تادرس يعقوب
تفسير سفر نشيد الأنشاد القمص تادرس يعقوب مركزه عند اليهود:


الساعة الآن 11:40 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024