دور الكنيسة في الوقاية من الإدمان
للكنيسة دور فعَّال في الوقاية من الإدمان، ويمكن إدراك أهمية وعظم دور الكنيسة من خلال الآتي:
1- تزرع الكنيسة في أبنائها الإيمان، والإيمان يمثل قوة جبارة تحفظ الإنسان، وتجعله يجابه متاعب ومشاكل وصدمات الحياة ولا ينوء تحتها إنما يسمو فوقها.
2- تزرع الكنيسة في أبنائها الفضيلة والقيم السامية التي تجعل الإنسان ينأى بنفسه بعيدًا عن أصدقاء السوء الذين يمثلون الخيط الأول للسقوط في الإدمان.
3- تقدم الكنيسة لأبنائها الجو الروحي المشبع، مع دفء العلاقة الحميمة بين الآباء الكهنة والخدام والمخدومين، وأيضًا تقدم الكنيسة لأبنائها الأنشطة الروحية والثقافية والرياضية والفنية.. إلخ. مما يشغل أوقات فراغ الشباب. كما إن الاندماج في الدراسات الروحية والخلوات والحفلات والمؤتمرات والألحان الكنسية.. إلخ. يقضي على الفراغ الخارجي والداخلي، وأيضًا ما تقدمه الكنيسة من خدمات طبية وتعليمية وتربوية وبيوت للمسنين والمغتربين يستوعب طاقات الشباب في أعمال مفيدة.
4- تقدم الكنيسة لأبنائها سرَّ الاعتراف، وما أعظمه من سرّ!!.. يحاسب الإنسان نفسه ويقدم توبة عن خطاياه، ويعترف بها أمام الله في حضور الأب الكاهن، والأب الكاهن هو الرجل المختبر المحب الذي يقدم النصح والإرشاد الروحي، ويحكم على الأمور بدون مجاملة، ويوجه النظر للمخاطر المتوقعة، ويفضح خداع الشياطين، ويكون معينًا لابنه في الاعتراف، فإثنان خير من واحد، ويحفظ كل ما يقال له في سرية كاملة.. حقًا إن سرّ الاعتراف أنقذ نفوسًا كثيرة من الضياع، فالخطية في بدايتها تشبه الفسيلة الصغيرة التي يمكن نزعها بسهولة، ولكن متى تركت في غياب أب الاعتراف الذي يمثل العين الساهرة اليقظة فإنها تنمو وتتوحش ويصعب نزعها إلاَّ بعد مجهود كبير، ومثال على هذا خطية الإدمان، فالاكتشاف المبكر لها يجعل العلاج سهلًا ومضمونًا، وأيضًا أب الاعتراف بخبرته واتصالاته يُسهّل لابنه طريق العلاج عن طريق المراكز المتخصصة في العلاج.
5- تحتضن الكنيسة بالأكثر الذين يعانون من المشاكل والمتاعب، والذين يعيشون في بيئات وأوساط معثرة مثل الحرفيين الذين يعملون في أوساط صعبة تنتشر فيها المخدرات، ومثل الذين يسكنون في الأماكن العشوائية، ومثل الشباب الذين يعيشون في أسر تغيب عنها الرعاية.. إلخ. فعمل الخادم أن يطمئن على كل أولاده، ويكون قريبًا جدًا لمن يجوز في ظروف خاصة صعبة، فالعمل الرعوي ولا سيما الافتقاد يحفظ للكنيسة أولادها من مخاطر الإدمان وغيره.
6- لا تنتظر الكنيسة حتى يتقاطر عليها الكثير من أولادها مدمن وراء آخر، ولكنها تسبق بتقديم الوقاية لأبنائها، فالأولاد في بيئات معينة يبدأون التدخين منذ الثامنة من عمرهم،كما إن مشكلة الإدمان في ازدياد مضطرد، ويقول د. نبيل صبحي " لا يجب أن نبدأ جهدنا الدائب لعلاج مشكلة المدمنين عندما يلجأ الناس إلينا ليسألونا حلًا، ويشكون لنا من مدمن في بيتهم أو عندما يفتتضح أمامنا أمر سكير لم نكن نظنه أنه سجين الخمر، بل علينا أن نخرج إليهم ونبحث عنهم، ونقوم بالتوعية والوقاية بالنسبة للمستهدفين منهم. يجب أن نزورهم زيارة السامرية بعد أن نكون قد تركنا التسعة والتسعين لنبحث عن الخروف الضال" (1). وفي طريق الوقاية نحتاج لإعادة النظر في مناهج التربية الكنسية التي لم تتغير منذ عشرات السنين بينما استجدت على الساحة كثير من المتغيرات مثل الاستخدام الشائع للدش والكمبيوتر وشبكة المعلومات. كما استجدت كثير من المشاكل مثل الإدمان وغيره، وهذه الأمور تحتاج إلى توعية.
7- استخدام الترانيم والأشعار في معالجة الإدمان بألحان سهلة وسلسلة، ففي مؤتمر الإدمان الذي أقيم في الفيوم 26، 27/11/2001 ضرب نيافة الأنبا باخوميوس مطران البحيرة مثلًا على هذا:
" أوعى السيجارة تضحك عليك.. وبعد كده تولع فيك "
أيضًا إصدار النبذات وكتب التوعية، واستخدام مجلات الحائط والكاركاتير.. إلخ. له تأثيره في الوقاية من الإدمان. كما إن عرض الأعمال المسرحية والأفلام ثبت فاعليتها في مكافحة الإدمان، ففي إحدى المرات تم عرض فيلم يحكي قصة طيار ناجح في حياته الأسرية وفي العمل، ولكن بسبب التدخين أُصيب بسرطان الرئة فتحولت حياته إلى مأساة، وبعد عرض الفيلم تأثر الذين شاهدوه وبعضهم تخلص من علبة السجائر التي كان يحتفظ بها في جيبه، وصمم بنية صادقة على عدم العودة إليها.
8- دراسة مشكلة الإدمان بأبعادها المختلفة، والاستفادة بما نشر وما ينشر من مراكز البحوث التربوية والجنائية والمنظمات العالمية وما ينشر في الصحف والمجلات، وما يصدر من الكتب وتكوين فرع خاص بالمكتبات الاستعارية يختص بمشكلة الإدمان، ويقول د. نبيل صبحي " يجب أن.. تعقد ندوات للكهنة والخدام ومكاتب الخدمة الاجتماعية ولجان الأسر لتعريفهم بالمبادئ السيكولوجية للسلوك الإدماني وتدريبهم على كيفية التعامل مع هذه الحالات" (2).
9- إقامة الندوات وإصدار النبذات التي تمد الأسرة بالمعلومات التي تساعد في اكتشاف المتعاطي في وقت مبكر، وكيفية التعامل مع المدمن، ومما هو جدير بالتقدير أن كنيستنا القبطية قد تنبهت لهذا الخطر منذ أكثر من عشرين عامًا، وكانت أسبق من الدولة في الاهتمام بقضية الإدمان.
10-أنشأت أسقفية الخدمات بالتعاون مع أسقفية الشباب "مركز الحياة الأفضل لعلاج الإدمان" بمدينة نصر، ويقوم المتخصصون في هذا المركز بزيارات مختلفة للإيبارشيات حيث يعقدون الندوات ويعرضون الأفلام ويوزعون النبذات التي تنشر الوعي حول قضية الإدمان، ويمكن للإيبارشيات إنشاء مراكز متخصصة على نمط هذا المركز المتميز.
11- يمكن للكنائس المحلية المختلفة تبادل الخبرات، ولاسيما في المؤتمرات التي تُعقد على مستوى الكرازة المرقسية داخل الأراضي المصرية.
12- تخصيص خدام لفناء الكنيسة للقيام بالخدمة وسط الشلل التي كل ما يربطها بالكنيسة هو الفناء الخارجي، وتنتشر بينهم العادات السيئة مثل التدخين والبانجو ومعاكسة الفتيات وأحيانًا السرقات وغيرها.
13-إعداد خدام متخصصين لتقديم الوقاية ضد الإدمان، ومكافحة وعلاج الإدمان، وخادم حالات الإدمان يجب أن يتحلى بصفات معينة نذكر منها الآتي:
أ- التأهيل العلمي لكيما يعرف الخادم سيكولوجية المدمن وكيفية التعامل معه، فالإنسان المدمن هو إنسان قد تقسى قلبه ولاسيما خلال فترات تأثير المخدر، وقد يكون فقد الأمل في الحياة الطبيعية والروحية، قريب من الفشل واليأس، وقد يصل إلى حد النقمة على كل من حوله حتى على الله ذاته، وهو يلقي بالمسئولية على من حوله، ويتهم الآباء والأمهات بالجحود، ويتهم الكنيسة والخدام بالتقصير.. إلخ..
ب- الهدوء والصبر وطول الأناة والاحتمال، ولاسيما أنه بعد بذل جهد جهيد مع الحالة قد تعود ثانية وثالثة إلى الانتكاسة وتحتاج إلى مجهود جديد.
ج- الإيمان والثقة في عمل الله مع النفوس التي تحطمت وفقدت إرادتها فمازال صوت الله ينادي جميع المدمنين " تعالوا إلى يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28) ومازال صوت المخلص يرن عبر التاريخ " أنا أشفي ارتدادهم" (هو 14: 4) " من يقبل إلىَّ لا أخرجه خارجًا" (يو 6: 37) ونحن نثق إن " الله لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح" (2 تي 1: 7).
د- التعاطف مع المدمن، وقبوله كما هو، واحترامه، وتقدير مشاعره وأحاسيسه، إلى الدرجة التي يعتبر فيها الخادم مشكلة الإدمان كأنها مشكلته هو، فيهتم بكل جوانبها، لأنه يعلم تمامًا قيمة نفس المؤمن لدى الله.
ه- لا يكفي الاهتمام بالمدمن ومحاولة تخليصه من إدمانه، ولكن يجب على الخادم أن يبحث عن الأسباب التي قادت هذا الإنسان إلى حالة الإدمان هذه.
و- يحتاج خادم حالات الإدمان إلى فتح خطوط اتصال جيدة بينه وبين المدمن وأسرة المدمن، فيدرك الخادم ما يريد أن يقوله المدمن وذويه، ويستطيع أن يصل إلى قلب المدمن وذويه، فتصل رسائله إليهم في أقصر وقت، وبنفس التأثير الذي يريده.
ز- يجيد خادم حالات الإدمان اختيار الأوقات المناسبة التي يوجه فيها الرسائل للمدمن، لأن هناك أوقاتًا يكاد يكون المدمن متغيب عن وعيه، وخطوط الاتصال لديه معطلة، فمهما أجهد الخادم نفسه في محاولة توصيل رسالة معينة للمدمن فإن هذا الجهد يضيع أدراج الرياح.
ح- يُصغي الخادم جيدًا للمدمن مهما كانت كلماته غير مترابطة وأفكاره بعيدة عن الحقيقة والعقل والمنطق، ويحافظ خادم حالات الإدمان على أسرار المدمن، ولا يحل لهذا الخادم أن يجعل أسرار هذا المدمن مضغة بين الأفواه بينما هو يتفاخر بخدمته.
ط- الالتزام الكامل واحترام المواعيد، حتى لا يشعر المدمن أنه كمٌ مُهمَل بالنسبة للخادم، فلابد أن يشعر المدمن بقيمته وقدره لدى الخادم، وأن يشعر بمحبة الخادم له حتى يستجيب للعلاج ويكون صادقًا مع الخادم.
ى- التمتع بالقدوة الروحية حتى يرى المدمن في الخادم صورة الله المحب الذي يبحث عن الخروف الضال.
ك- النظرة الصحيحة للمدمن على أنه إنسان مريض وليس إنسانًا مجرمًا كما يجمع على هذا علماء النفس والأطباء المتخصصون في علاج الإدمان(3) فالإدمان حالة مرضية وليس حالة إجرامية، لأن الظروف التي تعرض لها المدمن هي التي قادته للتعاطي فالإدمان، ويحتاج لمد يد المساعدة.. يحتاج للدواء والعلاج وليس للعصا والتأديب.
ل- يتفهم خادم حالات الإدمان النظرة المسيحية الصحيحة للمواد المخدرة، فالمسيحية لا تحارب المادة ولكنها تحارب الاستخدام السيء للمادة، فالعيب ليس في النار ولا السكين، ولكن العيب في سوء استخدامهما، وهذا من الأمور البديهية، ولا يوجد نص صريح في أي دين يحرم الشم أو الحقن بالمخدر ولكن من المعروف خطورة هذا الأمر الذي يقضي على الثروة والصحة والحرية والإرادة، ويحكي الدكتور فيكتور سامي في مؤتمر الإدمان الذي عُقد في الفيوم 26، 27/11/2001 عن فتاة في الصف الأول الإعدادي جاءت إليه وهي تسحب رجل في سن الخمسين من عمره وهو في حالة يرثى لها، وقالت الفتاة وهو في غاية التأثر " هذا أبي.. كان غنيًا يمتلك مصنعين وعمارة كبيرة، ولكن أصدقاء السوء من أصحاب المصانع الأخرى علموه المزاج فباع كل شيء حتى الذهب الذي تمتلكه أمي، وأثاث البيت.. لقد ملَّت أمي الحياة، فذهبت إلى بلد عربي لتعمل هناك خادمة، وقد تركتنا لنعيش مع جدتي.. هل هناك أمل في شفائه؟!! "
ونختتم دور الكنيسة في الوقاية من الإدمان بهذه القصة التي حكاها لي أحد أباء الإسكندرية عن شاب يعمل في مخبز، وكان أجره اليومي ثلاثين جنيهًا، وسقط في بالوعة إدمان البانجو، وبرشام أبو صليبة، وشم الكُلَّة الألماني، وشرب الخمور. كان هذا الشاب يتيم الأبوين، وليس له إلاَّ شقيقًا واحدًا يسكن معه في حجرة بالقرب من الكنيسة، وقد ضج هذا الشقيق من شقيقه المدمن، ولكيما يتخلص من الحياة معه أتفق الشقيقان على ترك الحجرة التي يسكنان فيها مقابل خمسة آلاف جنيهًا، وحصل هذا الشاب المدمن على ما يخصه ألفان وخمسمائة جنيهًا وسريعًا ما تبخر المبلغ من بين أصابعه في الصرف على الإدمان، وصار بلا مأوى فكان يقضي ليله في مدخل أحد البيوت، وغالبًا كان كل ليلة يمشي مترنحًا ويسقط على الأرض فيصاب وتسيل دماءه، وينقلونه إلى المستشفي، وعندما يعود إلى وعيه كان يبكي بمرارة عما صدر منه، وكثيرًا ما قُبض عليه وتعرض للضرب المبرح داخل القسم دون جدوى، وعندما وصل هذا الشاب التعيس إلى القاع وافق الأب الكاهن على بدء رحلة العلاج، فاستضافته الكنيسة في شقة بعيدة عن البيئة التي تعود أن يمارس فيها الإدمان، وتناوب الخدام على خدمته وحراسته، وبمساعدة أحد الأطباء المتخصصين جاز هذا الشاب فترة الانسحاب بسلام، وقضى أيضًا فترة التأهيل في التزام وصدق مع نفسه لأنه كان جادًا في العلاج، وتحسنت حالته، وكان يشعر بالدين الذي عليه تجاه أمه الكنيسة الأمينة، فكان يتردد عليها وإذ لم يجد ما يقدمه كان يشارك بكل مشاعره في خدمة النظافة في فرح وسرور.. التقى بواسطة لجنة البر مع قداسة البابا شنودة الثالث، فشجعه قداسة البابا قائلًا له " خلي بالك من نفسك، وعيش كويس "فبكى هذا الشاب وقال لقداسة البابا " أنا جايلك علشان تصلي لي " وأخفض رأسه، وصلى له قداسة البابا ومنحه مبلغًا للمساهمة في إيجاد سكن له، فأحضر له الأب الكاهن حجرة للسكن، وأوصى جيرانه المسيحيين عليه.. لقد تم انتشال هذا الشاب من الضياع بل من الموت، وصار مواظبًا على الاعتراف والتناول والسيرة الحسنة والسلوك المستقيم والأخلاق الدمثة.. إنه مثال مشرف على دور الكنيسة في خدمة أولادها.