23 - 01 - 2014, 04:15 PM | رقم المشاركة : ( 41 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 39 - تفسير سفر المزامير الأحداث والزمنمرثاة شخصية ينشدها إنسان متألم في مستهل حياته، يشعر بثقل الخطية إنه يقف في صمت يتأمل بطلان الحياة الزمنية، مشتاقًا أن يثب قافزًا فوق الزمنيات ليتهيأ للخروج من أرض غربته ليحيا مع الله مخلصه ومقدسه. يعتقد ثيؤدورت وآخرون أن كُتب بمناسبة تمرد أبشالوم، حيث أدرك داود الملك زوال المجد الزمني وتعرض الإنسان لنكبات لم تكن في مخيلته. ألزم داود نفسه ألا يتذمر ولا يشتكي أمام أعدائه، بل يفضي بكل هواجسه عن زوال الحياة البشرية وبطلانها أمام الله وحده، إنه غريب على الأرض، أشبه بضيف ينتظر الاستقرار في الأمجاد الأبدية. السؤال المتقد في هذا المزمور هو: لماذا يؤدب الله مخلوقًا ضعيفًا وزائلًا كالإنسان؟ تستخدم الكنيسة الإنجليزية الآيات [4-13] في خدمة دفن الموتى[760]. العنوان: "لإمام المغنين ليدوثون، مزمور لداود"؛ وجاء في النسخة السبعينية: "لداود في الانتهاء وعلى يديثون وتسبحة". سبق التعليق في مزامير سابقة عن مثل هذا العنوان عدا كلمة "يدوثون Iduthun أو Jedithun". يرى البعض أنه ليس من دليل كافٍ إنه إيثان المعروف بحكمته (1 مل 4: 31). أقام داود النبي يدثون وآساف وهيمان قادة لخدمة التسبيح (1 أي 16: 41-42؛ 25: 1-6؛ 2 أي 5: 12؛ 35: 15). وقد خلفه أبناؤه في هذه الخدمة حتى وقت متأخر في أيام نحميا، وهذه بركة خاصة أن يتلمذ القائد أبناءًا له - سواء لهم قرابة جسدية أم لا - يمارسون ذات العمل لحساب ملكوت الله. سلم النبي داود هذه المرثاة الشخصية ليدوثون ليقوم بتلحينها، كما لحَّن مرثاة أخرى لآساف (مز 77). يرى القديس أغسطينوس أن اسم "يدثون" يناسب المزمور؛ ففي رأيه يعني "التخطي overleaping"، ويرى بعض الدارسين أنه يعني "يلقي (بحجر...)[761]". * من هو هذا الشخص الذي يتخطاهم؟ أو من هم هؤلاء الذين يتخطاهم...؟ إذ يوجد أشخاص ملتصقين بالأرض، ينحنون نحو التراب، ويضعون قلوبهم في الأمور الدنيا، ويكمن رجاؤهم في أشياء زائلة، هؤلاء هم الذين يتجاوزهم (أو يتخطاهم المرتل واثبًا فوقهم)... * ليت يدوثون هذا يأتي إلينا؛ ليته يثب فوق الذين يجدون بهجتهم في الأمور الدنيا، وليتهلل بكلمة الرب ويبتهج بناموس العلي. القديس أغسطينوس الإطار العام: 1. ضعف الإنسان وزواله كأن المزمور ينقسم إلى قسمين رئيسيين هما: اكتشاف الإنسان بطلان الحياة الزمنية خارج الله، وأنه لا ملجأ للإنسان الضعيف في غربته إلا الله نفسه.[1-6]. أولًا: الصمت الحكيم [1-3]. ثانيًا: زوال الحياة البشرية [4-6]. 2. الصلاة ومحاسبة النفس [7-13]. أولًا: صلاة من أجل النجاة [7-11]. ثانيًا: توسل لأجل استجابة الصلاة [12-13]. دربني كيف أتخطى الأحداث 1. ضعف الإنسان وزواله: أولًا: الصمت الحكيم: "قلت: إني احفظ طريقي لئلا أخطئ بلساني. وضعت على فمي حافظًا، إذ وقف الخاطئ تجاهي" [1]. يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل قال في نفسه أي تحدث مع نفسه حينما صمت مع الأشرار؛ وكأن الصمت الداخلي في حضرة الأشرار يلزم أن يصحبه حديث سرّي مع النفس في حضرة الله، أو حوار مع الله نفسه. *يعلمنا داود النبي أنه ينبغي علينا أن نتجول كثيرًا في قلوبنا في بيت فسيح، وأن نتجاذب الحديث معها كما مع صديق موثوق فيه. لقد تحدث (المرتل) مع نفسه كما توضح الكلمات: "قلت: إني احفظ طريقي" [1]. أما سليمان ابنه فقال: "اشرب مياهًا من جنبك، ومياهًا جارية من بئرك" (أم 5: 15)، أي اتبع مشورتك الشخصية (النابعة عن تفكير داخلي)، لأن: "المشورة في قلب الرجل مياه عميقة وذو الفطنة يسقيها" (أم 20: 5)[762]. القديس أمبروسيوس لقد وضع داود النبي ألا يتهم أعداءه أما الأشرار، ولا حتى أن يبرئ نفسه، أو ينطق بارآئه التقوية. إنه يصمت أمامهم ليتكلم مع الله القادر أن يكشف له عن زوال الحياة الزمنية، وعن تدخله لتحقيق عدله الإلهي في الوقت المناسب. كثيرًا ما يتحدث المرتل عن اللسان وخطورته. فإنه إذ انزلق اللسان ينزلق معه الجسد كله وتنحرف قدماه عن الطريق الملوكي. لهذا يقول المرتل: "قلت إني أحفظ طريقي لئلا أخطئ بلساني". يقول القديس بطرس: "لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أيامًا صالحة فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلما بالمكر" (1 بط 3: 10). * ليس بدون سبب اللسان موضوع في مكان رطب، وإنما لأنه عرضة للانزلاق. القديس أغسطينوس الأب قيصريوس أسقف آرل وسكتُّ عن الخير، فتجدد وجعي، وحمى قلبي في باطني. وفي هذيذي تتقد النار" [2-3]. * استمر داود كأبكم متضع؛ استمر صامتًا؛ فلم ينزعج حين دعوه رجل دماء (2 صم 16: 6 الخ)، إذ كان عالمًا برقته. لم تزعجه الاهانات إذ كان عارفًا بالتمام أعماله الصالحة. * مادم الإنسان يتمتع بضمير صالح يلزمه ألا ينزعج بالكلمات الزائفة، ولا أن يتأثر باساءات الغير بل بالحري بشهادة قلبه له[764]. القديس أمبروسيوس توقف المرتل عن الحديث مع العدو المقاوم له، لكنه صار يهَّذ في داخله فاتقد قلبه في صراع بين صمته كي لا يخطئ ولا يزداد الشرير شرًا، وبين حنين داخلي للشهادة لعمل الله الخلاصي وحبه لخلاص كل بشر. * لأن هذا الشخص الذي "يتخطى overleaping" يُعاني من صعوبة في مرحلة ما قد بلغها ويريد أن يتخطاها، لهذا يقول: صمت، التزمت بالصمت لأني خشيت أن أرتكب إثمًا، امتنعت عن أن أنطق بخير، وأدنت تصميمي على أن أصمت صمتًا وأسكت عن الخير... بقدر ما وجدت في الصمت راحة من حزنٍ ما، كان قد تحرك في داخلي من نحو أُولئك الذين قاموا بتفاهة كلماتي ونسبوا إليها خطأ، فتوقف هذا الحزن تمامًا، إلا أنني إذ سكتُّ عن الخير تحرك فيَّ وجعي من جديد، فبدأت أحزن بالأكثر لأنني أحجمت عن النطق بما كان يجدر بي قوله؛ حزنت أكثر من الحزن الذي كان لي قبلًا. القديس أغسطينوس ليس كل صمت يدخل بنا إلى اللقاء مع القائم من الأموات والتمتع بحديثه الناري، إنما الصمت الحكيم الحامل في الداخل حبًا حتى للمقاومين، وشوقًا صادقًا لخلاصهم، ولو كان ثمنه حياتنا الزمنية كلها. من يشارك السيد المسيح صمته العامل بالحب، صمت الصليب، يختبر قوة قيامته. ثانيًا: زوال الحياة البشرية: إذ صمت لسان المرتل عن أن ينطق بكلمة مع الشرير المقاوم له تكلم قلبه مع إلهه، ودخل في حوار حتى مع نفسه، فاكتشف وسط آلامه حقيقة الحياة البشرية، من جهة ضعفها وقصرها... هذه الحقيقة يعرفها كل بشر، لكن شتان بين المعرفة العقلانية البحتة وبين قبوله كإعلان إلهي فعّال في أعماقه الداخلية، لذا يصرخ المرتل، قائلًا: "عرفني يا رب نهايتي، وعدد أيامي كم هي، لكيما أعلم ماذا يعوزني" [4]. إن قدرًا كبيرًا من الحكمة يقوم على تذكر أن حياتنا على الأرض أشبه بالخيال، وأن أعظم الأعمال إن لم تهيئنا للعالم الأفضل الأبدي هي أدنى بكثير من اشتياقات الإنسان التقي. لذا كثيرًا ما يكرر الكتاب المقدس قصر الحياة الزمنية، فيقول الرسول بولس: "الوقت مقصر" (1 كو 7: 29) كحقيقة هامة تمس إيماننا الحيّ وكياننا الأبدي. هنا لا يطلب المرتل داود أن يعلن له الله عن زمان انتقاله بل أن يمنحه تذكرًا دائمًا ومعرفة وتقديرًا حسنًا لقصر أيام غربته ليصير إنسانًا أفضل وأكثر حكمة[765]. يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل هنا يتعجل نهاية حياته الزمنية طالبًا نهاية الوعد الإلهي ليرى وضعه الأبدي، حين يقوم كل واحد في رتبته؛ المسيح باكورة، ثم الذين للمسيح في مجيئه (1 كو 15: 3) [766]. * "عرفني يا رب نهايتي"؛ فإننا لا نبقى هنا حيث التجارب والضيقات، إذ يلزمنا أن نحتمل أناسًا ينصتون إلينا ويقاوموننا لأتفه الأسباب. "عرفني نهايتي"، تلك التي لم أدركها بعد (الموت)، لا حقبة الحياة (الزمنية) التي هي بالفعل قدامي. * النهاية التي يتحدث عنها هي تلك التي ثبّت الرسول عينيه عليها في حقبة حياته، معترفًا بضعفه، مدركًا في نفسه التغيّر في الأمور التي رآها قبلًا (ربما يعني أنه مع كل نمو جديد في الروحيات يدرك النهاية بمنظار أعمق وأكثر جلاءً). يقول: "ليس لأني قد نلت أو صرت كاملًا، لكن أيها الأخوة أنا لست أحسب نفسي إني قد أدركت" (راجع في 3: 12-13). القديس أغسطينوس * ربما كانت المعرفة التي يُصلي لأجلها المرتل، قائلًا: "عرفني عدد أيامي كم هي؟" ضرورية جدًا، مع هذا فإنني أود أن تُستعلن لي أيضًا بدايتي[767]. القديس جيروم يرى القديس أغسطينوس أن المؤمن يُريد أن يعرف أيام حياته التي يعيشها في الرب، هذه التي تدخل به إلى اليوم الأبدي، حيث "نثبت فيه وهو فينا"، أما الأيام التي بلا شركة معه فقد ضاعت من عمرنا ولا تُحصى كحياة. الأيام التي نتحد فيها مع الله القائل عن نفسه إنه "أهيه الذي أهيه" (خر 3: 14) أي الكائن الذي هو كائن، هي أيام لها كيانها ومحسوبة في عينيه، ننمو فيها وننضج؛ أما الأيام التي نسقط فيها في الخطية فتحسب باطلة حيث نتحد مع فساد الخطية وبطلانها، تمر علينا وكأنها غير كائنة، بل وتفقدنا الأيام الحقيقة. * إنه يسأل بخصوص عدد أيامه كم هي؛ ولا يسأل عن أيام غيره موجودة... إذ هي موجودة وغير موجودة في نفس الوقت. لا نقدر أن نقول عنها إنها موجودة وهي غير مستمرة؛ ولا أن نقول إنها غير موجود إذ جاءت وعبرت. القديس أغسطينوس * لأنني بينما أنا أُجاهد هنا، فإن هذا هو ما يعوزني (الجهاد المستمر لأجل بلوغ النهاية).وطالما أنا في عوزٍ لا أدعو نفسي كاملًا. وما دامت لم أنله بعد فإنني أقول: "ليس إني قد نلت أو صرت كاملًا، ولكني... أسعى نحو الغرض لأجل جعالة الله العليا" (في 3: 12-14). هب لي أن أنالها كمكافأة لبلوغي نهاية السباق. هناك ثمة موضع للراحة، وفي موضع الراحة هذا ستوجد مدينة، حيث لا تغَرّب ولا نزاع ولا تجارب. عرفني إذًا "عدد أيامي ما هي لكيما أعلم ماذا يعوزني" فإنني مازالت أنا هنا، لئلا أفتخر بما أنا عليه فعلًا، حتى أوجد دائمًا فيه (في المسيح) ولا يكون لي بري الذاتي... القديس أغسطينوس يرى العلامة أوريجانوس أن أوضاعًا كثيرة عجيبة نشهدها في يوم الرب العظيم؛ بعض الشيوخ يظهرون كأطفال صغار، عدد أيام حياتهم الحقيقية قليلة إذ فقدوا الكثير بحرمانهم العملي من الشركة الحية مع المسيح، بينما نرى أطفالًا يظهرون كمتقدمي الأيام لتمتعهم بالشركة مع الرب. القديس يوحنا المعمدان كان متقدمًا في الأيام وهو بعد جنين في أحشاء أمه أليصابات إذ أشرق الرب عليه فنشهد له مرتكضًا بابتهاج في بطن القديسة أليصابات، بينما شيوخ اليهود فقدوا أيامهم إذ وهم حافظوا النبوات وعارفون بها حكموا على البار وأسلموه للموت! إذ صرخ المرتل داود إلى الله لكي يخبره ماذا يعوزه، صار يشكو له مرضه، ألا وهو أن أيامه صارت بالية، ودبَّت به الشيخوخة والبلاء. "هوذا قد جعلت أيامي بالية وقوامي كلا شيء أمامك" [5]. * لأن تلك الأيام هي أيام "قِدَم"، أما أنا فأتوق إلى أيام جديدة لا تشيخ أبدًا، لكي أقول: "الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 5: 17)، صار جديدًا بالفعل في الرجاء ثم في الواقع. اعلموا أن آدم قد "شاخ" فينا، وأن المسيح قد "تجدّد" في داخلنا. إنساننا الخارجي يفني والداخل يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). لذلك إذ نُثبّت أفكارنا على الخطية، وعلى الموت، وعلى الزمن الذي يباى سريعًا، وعلى الحزن والتعب والعمل، وعلى مراحل العمر المتعاقبة التي تعبر وتمضي تدريجيًا من الطفولة حتى الشيخوخة، أقول إذ نُثبّت أنظارنا على تملّك الأشياء نرى هنا "الإنسان العتيق"، اليوم الذي يشيخ، الأغنية التي عبر موعدها، العهد القديم. لكن إذ نلتفت نحو الإنسان الداخلي، إلى تلك الأمور التي تتجدد عوض التي تتغير، ونجد "الإنسان الجديد" و "اليوم الجديد" و "الأغنية الجديدة" و"العهد الجديد" وهذه "الجِدَّة" (في الحياة). لنحب مثل هذه (الجِدَّة) فلا نخاف الشيخوخة... مثل هذا الإنسان الذي يسعى نحو الأشياء الجديدة متخطيًا الأمور التي مضت يقول: "عرّفني يا رب نهايتي، وعدد أيامي كم هي، ليكما أعلم ماذا يعوزني" [4]. تأملوا كيف وهو ما يزال يسحب معه آدم يُسرع الخطى نحو المسيح. القديس أغسطينوس هكذا يكتشف المرتل أن أيامه بالية، وقوامه (جوهره) كلا شيء أمام الله [5]؛ كخيال يتمشى في العالم إلى حين، ليخرج منه ولا يعلم لمن يترك ما قد جمعه أو خزنه. "بل أن كل الأشياء باطلة، ولكل إنسان حيّ؛ لأنه بالشبه (كخيال) يسلك الإنسان. بل باطلًا يضطرب، يُخزن ولا يدري لمن يجمعه" [5-6]. * حقًا ماذا كان يقول قبلًا؟ أنظر فقد تخطيت أو وثبت على كل الأشياء المائتة الزائلة، واحتقرت الأمور الدنيا، ووطأت بقدمي كل الأرضيات، وحلّقت فوق حيث مباهج ناموس الرب. لقد طفت في تدبير الرب واشتقت إلى تلك "النهاية" التي هي ذاتها بلا نهاية. اشتقت إلى تلك الأيام التي لها كيان حقيقي ووجود صادق، إذ توجد أيام أخرى لا وجود حقيقي لها. هأنذا قد صرت واحدًا يثب فعلًا بقوة، مشتاقًا إلى الباقيات... لكن حقًا مادمت أنا في هذا العالم، إذ أحمل جسدًا مائتًا، وطالما أن حياة الإنسان على الأرض هي تعب ومشقة، مادُمت أتأوه وأئن من منغصات هذا الوجود، مادمت أنا هكذا فإنني كلما كنت قائمًا أخشى لئلا أسقط، وطالما خيري وشري في عدم يقين، فإنه إنما "كل إنسان حيّ كله باطل (خيال)". القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم * الثروات باطلة إذا ما اُنفقت على الرفاهية، لكنها تكف عن أن تكون باطلة إذا ما وُزعت على المعوزين[769]. القديس يوحنا الذهبي الفم 2. الصلاة ومحاسبة النفس: أولًا: صلاة من أجل النجاة: تعتبر الصلاة الواردة هنا من أروع وأعمق الصلوات. فإنه إذ يكتشف الإنسان بطلان الحياة الزمنية مشتاقًا أن يتخطاها ليبلغ اليوم الذي بلا ليل، والواقع الذي لا خيال فيه، يضع كل رجائه في الرب القادر وحده أن يخلصه من العدو الداخلي أي الخطية أو فساد طبيعته ومن الأعداء الخارجيين كحربه مع إبليس والشر الخارجي بروح التقوى، معلنًا استعداده التام للخضوع لله الخالق والمخلص والطبيب، كي يُعالجه بكل الأدوية مهما بلغت مرارتها. "والآن من هو انتظاري؟ أليس الرب؟ وقوامي من قبله هو" [7]. الآن يضع يديثون - أي الذي يتخطى الزمن - رجاءه كله في الرب، فلا يحطمه الزمن وبطلان الحياة الأرضية، منتظرًا مجيء الرب الذي وضع فيه كل ثقته وكل حبه، يخدمه لا طمعًا في خيرات زمنية بل في واهب العطايا نفسه. * "والآن"، يقول يديثون هذا "من هو انتظاري؟ أليس الرب؟". هو انتظاري، ذاك الذي يهبتني كل شيء فأستخف به. يهبني ذاته، هذا الذي هو فوق الكل، الذي "به كل الأشياء قد خُلقت"، به أنا أيضًا قد خُلقت بين هذه الأشياء، والرب نفسه في انتظاري! هل رأيتم يديثون هذا أيها الإخوة؟ هل رأيتهم كيف ينتظر الرب؟ إذن لا يدعو أحد نفسه كاملًا هنا، وإلا يكون قد خدع نفسه وغشها وضللها ومادام لا يمكن أن يكون كاملًا ههنا، فماذا ينتفع الإنسان إن خسر اتضاعه؟ القديس أغسطينوس "طهرني من جميع آثامي، جعلتني عارًا للجاهل" [8]. يعترف المرتل أن خطيته جعلته موضع سخرية الجاهل وتوبيخه، لقد بكى متضرعًا لا أن يرد له كرامته أمام الجهلاء والأشرار إنما أن يُطهره من جميع آثامه حتى يعبر هذه الحياة الزمنية إلى القدوس في حياة طاهرة مقدسة في الرب. حقًا، لقد شعر المرتل في ضعفه البشري بمرارة التأديبات الإلهية فطلب أن ينزع عنه هذه السياط، لقد ثقلت يدّ الله عليه حتى شعر كأنه قد فنى. لقد صمت ولم يتكلم مع الجاهل المقاوم له، ليتحدث مع خالقه: "صممتُّ ولم أفتح فمي لأنك أنت صنعتني. انزع عني سياطك، لأني قد فنيت من قوة يدك". * لأحتمي من الجاهل صرت أبكمًا لم أفتح فمي، لأنه لمن أُخبر عما يجري في داخلي؟ فإنني أنصتُّ إلى قول الله الرب لي في داخلي، "فإنه يتحدث بالسلام مع شعبه" (مز 85: 8). القديس أغسطينوس تضرع القديس بولس ثلاث مرات لكي يرفع الله عنه شوكة المرض، فكانت الإجابة: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل" (2 كو 12: 9). وإذ اختبر الرسول نعمة الله وبركة الضيقات قال: "فبكل سرور أفتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحلّ عليّ قوة المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 9-10). "أدبت الإنسان بالتوبيخات من أجل الإثم، وأذبلت مثل العنكبوت نفسه. بل باطلًا اضطرب كل إنسان" [11]. ليُجددني ذاك الذي خلقني. ليُعد خلقتي من جديد... هذه هي أول هبة لنعمة الله، أن يجعلنا نعترف بتقصيرنا، حتى أننا مهماصنعنا من خير، ومهما توفرت لنا من قدرة، إنما يتحقق ذلك فينا: "من افتخر فليفتخر بالرب" (1 كو 1: 31)، و"حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 10). القديس أغسطينوس *حقًا "باطلًا اضطرب كل حيّ". لأن القلق من أجل هذه الأمور هو بحق أمور مزعج ومتعب للغاية. لكن ليس الأمر هكذا في المواضع السماوية. هنا إنسان يتعب وآخر يتمتع، أما هناك فينال كل واحد حصاد تعبه، ينال مكافأةً مضاعفة[770]. القديس يوحنا الذهبي الفم يختتم المرتل المزمور بتوسل إلى الله كي يستجيب صلاته السابقة، مقدمًا هذا التوسل مشفوعًا بدموعه التي لا تجف، وباعترافه بتغربه واشتياقه إلى اجتياز العالم كأرض غربة متمتعًا بغفران خطاياه. "استمع صلاتي وتضرعي، وانصت إلى دموعي ولا تسكت عني" [12]. بدأ الصلاة، وإذ تشتدت الضيقة امتلأ قلبه تنهدات فصرخات، وأخيرًا صارت دموعه تتحدث بلغة يعجز اللسان أن ينطق بها. "لأني أنا غريب على الأرض ومجتاز مثل جميع آبائي اغفر لي لكيما أستريح قبل أن أذهب فلا أُوجد أيضًا" [13]. * كان القديسون غرباء ونزلاء في هذا العالم... عاش إبراهيم في كل أموره ينتمي للمدينة الباقية. لقد أظهر كرمًا ومحبة أخوية ورحمة وطول أناة، وزهدًا في الثروة وفي المجد الزمني وفي كل شيء. * لنكن غرباء كي لا يخجل الله من أن يُدعى إلهنا، لأنه من الخزي لإلهنا أن يُدعى إله الأشرار! إنه يخجل من الأشرار، ويتمجد إذا ما دُعي إله الأبرار والرحماء والنامين في الفضيلة[771]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أمبروسيوس * حررني من خطاياي قبل أن أرحل حتى لا أذهب بآثامي. إنه يشير إلى مجال البركة، إلى المدينة السعيدة، إلى البيت السعيد، حيث القديسون شركاء الحياة الأبدية، شركاء الحق الذي لا يتغير.القديس أغسطينوس دربني كيف أتخطى الأحداث * علمني يا رب كيف أصمت أمام الجهال، فأتحدث معك في أعماقي! * أنت بحبك سيّجت حولي بالأشواك، وأقمت حائطًا في طريقي (هو 2: 6)، أغلقت الأبواب أمامي بالأشرار الذين يتهموني ظلمًا. لأرجع إليك وأعترف لك بآثامي! لأنسى الجهال الأشرار وأذكُر أنك بهم تؤدبني. * دربني كيف أتخطى الأحداث والزمن، أتخطى مضايقات الأشرار واتهاماتهم الباطلة، فلا أحاورهم ولا أبرئ نفسي أمامهم! أتخطى طبيعة الفساد فأحيا الحياة الجديدة المقامة، أغلب كل شهوة وأثب حتى على احتياجات الجسد. أتخطى الزمن والزمنيات فأُعاين السماء وربها! روحك القدوس هو وحده يحملني كما بجناحي حمامة، يرفعني فأطير ولا أتمرغ في حماة الخطية! نعمتك هي سندي! |
||||
23 - 01 - 2014, 04:23 PM | رقم المشاركة : ( 42 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 40 - تفسير سفر المزامير جئت لأتمم مشيئتكفي المزامير 37-38 يتحدث المرتل عن انتظار الرب، فقد عانى داود النبي الكثير من شاول وأبشالوم وخيانة أخيتوفل الخ... والآن إذ تمتع بالخلاص بعد معاناة قاسية، خاصة على يدّيْ ابنه المتمرد أبشالوم، تحولت مراثيه إلى تسابيح شكر يُقدمها بوحي الروح القدس. تعتبر تسبحة الشكر هذه مزمورًا مسيَّانيًا حيث تركز على شخص السيد المسيح وعمله. وتشهد الرسالة إلى العبرانيين (10: 5-10) أن السيد المسيح هو المتحدث هنا حيث يقدم خبراته؛ يقدم نفسه بكونه ذاك الذي جاء ليتمم إرادة الآب، والذي نزل إلى الجحيم، إلى عمق طين الحمأة، يحمل خطايا شعبه. كما يقدم الشكر بقيامته، مقدمًا التسبحة الجديدة التي يترنم بها شعبه الذي خلصه ونجاه. يعتبر هذا المزمور من أروع المزامير، يجب ربطه بمزمور الآلام المجيدة (مز 22) الذي يرتبط بتسبحة القيامة. كتب داود النبي هذا المزمور بعد عصيان ابنه أبشالوم الذي أخفى بشاعة تمرده بمظاهر التدين وتقديم الذبائح (2 صم 7: 12)؛ ثم اُستخدم بعد ذلك تدريجيًا في الخدمة الليتورجية (العبادة العامة). الإطار العام: 1. تسبحة نصرة المسيح [1-5]. 2. العبد المطيع وذبيحته [6-13]. 3. أعداؤه وقديسوه [14-17]. لتكن إرادتك لا إرادتي 1. تسبحة نصرة المسيح: يقدم لنا هذا المزمور خبرة داود النبي في تقديم تسبيحًا جديدًا لله الذي خلصه من جب الشقاء أو من الهاوية. والجدة هنا لا في الكلمات، وإنما في القلب الذي أدرك أن الموت كاد أن يأسره لولا تدخل الله مخلصه. وإننا لا نعرف ماذا يعني داود النبي بجب الشقاء وطين الحمأة، هل كان يُعاني من مرض خطير كاد أن يفتك بحياته أم من خطية معينة حطمت أعماقه أم يُعني ذلك تمرد ابنه وخيانة بعض رجاله؟ بنفس الطريقة لا نعرف شيئًا عن "شوكة الجسد" التي أصبت الرسول بولس. إنما ما نعرفه أن آلامًا مُرّة تسبق بهجة الخلاص والترنم بالتسبحة الجديدة. "انتظارًا انتظرت الرب، فأصغي إليّ، وسمع تضرعي" [1-2]. تكرار الكلمة "انتظارًا انتظرت" يكشف عن الجدية والمثابرة، وقد استخدم الرب ذات الأسلوب حينما أعلن "شهوةً اشتهيتُ أن آكل الفصح" (لو 22: 15). لعل المرتل أراد أن يقول إنه سقط تحت عبء آلام وضيقات لا قدرة لإنسان أن يخلصه منها، ولا رغبة له في تدخل ذراع بشري لخلاصه، لبث ينتظر مترقبًا بإيمان يدّ الله التي تجرح وتعصب (أي 5: 18)، تسحق وتشفي. إنه ينتظر مهما طال الأمد، فهو يثق في حكمة الله المخلص وقدرته، يعرف كيف ومتى يستجيب للصلاة. الله يُخلصه، وفي خلاصه يتمتع المتألم بما هو أعظم من الخلاص من الألم ألا وهو اصغاء الله إليه، فإن اهتمام الله به، وحلوله في حياته، لهو أعظم هبة ينالها المؤمن، إذ يتمتع لا بالخلاص فحسب بل وبالمخلص، ولا بالعطايا فحسب بل بواهب العطايا. يقدم لنا السيد المسيح نفسه مثلًا في انتظاره للآب، مسلّمًا إرادته بين يدي الآب، سواء في بستان جثسيماني أو أثناء المحاكمة وهو الإله المعبود يُصلي كما نصلي نحن، ويصرخ كما نصرخ، ويطلب أن تتم إرادة الآب فيه، مع أنها واحدة مع إرادته... ينتظر كمن يحتاج إلى عون، وهو حامل الكل بقدرته، وذلك كنائب عنا يعمل لحسابنا وباسمنا وكمثال لنا، إذ يقول الرسول: "الذي في أيام جسده، إذ قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسُمع له من أجل تقواه" (عب 5: 7). إنه يعلمنا كيف نغلب وسط آلامنا وفي صراعنا الروحي لننال الانتصارات المجيدة. انتظر الآب انتظارًا، ففي محاكمته لم يحمل نظرة غضب، ولا نطق بكلمة تهديد أو تذمر، وإنما كحمل صامت احتمل منتظرًا إعلان مجد قيامته! * انتظرت بصبر الوعد الذي لا يقدمه مائت يمكن أن يخدع ويُخدع. انتظرت التعزية لا من مائت يمكن أن تحطمه أحزانه قبلما يهبني عزاءً. لننح معًا ولنبكِ معًا، ولننتظر معًا بصبر، ولنصلِّ معًا أيضًا. هوذا، ليتنا نفكر هكذا: إنه وعدنا بكل شيء، لكنه لم يهبنا بعد أن نمتلك شيئًا ما. إنه مقدم الوعود المسئول، الواهب الأمين، إنما يلزمكم أن تُظهروا الجدية فيما وُعدتم به، وإن كنتم ضعفاء، أو كنتم أحد الصغار اطلبوا وعد رحمته. القديس أغسطينوس "وأصعدني من جب الشقاء،ومن الطين الحمأة" [2]. في وسط الآلام شعر المرتل أنه كما في جب الشقاء ملطخ بالوحل، كلما حاول رفع قدميه يغوص بالأكثر، وليس من منقذ أو معين. إنه يذكرنا بإرميا النبي (إر 38) الذي طُرح في الجب بسبب شهادته للحق. الجب عميق للغاية لا تطوله يد مخلوق لتبلغ قراره فتجتذبنا، إنما الحاجة إلى ذراع الله، كلمة الرب المتجسد، الذي وحده يقدر أن ينزل إلينا ويخلصنا من هوة الخطية وسلطان الموت ومتاريس الجحيم بقوة صليبه. كلما ازداد عمق الجب، تتجلى بالحري قوة عمل الخلاص، وكثرة فرحنا وتسبيحنا بالنصرة. * ما هذا الجب الرهيب؟! إنه عمق الإثم، من شهوات الجسد، لأن هذا هو ما تعنيه عبارة: "طين الحمأة". فمن أين إذن أخرجك؟ من عمق معين، الذي منه صرخت في مزمور آخر، قائلًا: "من الأعماق صرخت إليك يا رب". والذين يصرخون بالفعل "من الأعماق" لا يكونوا بعد في أدنى عمق، لأن عمل الصراخ ذاته يرفعهم إلى العلو. حينما يبلغ الخاطئ عمق الشر يُحتقر، فيغوص إلى أعماق جديدة، لأنه لا يكتفي بكونه خاطئًا إنما عوض الاعتراف بخطاياه يقدم تبريرًا عنها. القديس أغسطينوس إن كانت الخطية تنحدر بنا إلى أعماق مُرَّة، فإن يدّ الله مخلصنا تنشلنا بقوة لكي يحملنا فيه "صخرة الدهور".وسهَل خطوتي" [2]. الصخرة هي ربنا يسوع (1 كو 10: 4) الذي نزل إلى الجحيم، لا عن خطية ارتكبها وإنما لأنه "وُضع عليه إثم جميعنا"، وحملنا فيه من الجحيم بكونه الصخرة والطريق، نتكئ عليه ونختفي فيه فلا نغوص في طين الحمأة، بل تتشدد أرجلنا، ولا تزلّ خطواتنا. في نور الإيمان الحيّ نسلُك ونجاهد في خطوات ثابتة. * "وأقام على الصخرة رجليّ، وسهّل خطواتي". والآن هذه الصخرة كانت المسيح، ونحن "على الصخرة"، و"خطواتنا" بتدبير ونظام؛ لكي يبقى من الضروري الاستمرار في السير لكي ننمو أكثر فأكثر. * صار له الإيمان (الصخرة) الذي لم يكن له من قبل، وله الرجاء الذي لم يكن متوفرًا قبلًا. الآن يسلك في المسيح، هذا الذي كان قبلًا قد اعتاد أن يضل في الشيطان. على هذا الأساس يقول: "وأقام على الصخرة رجليّ وسهّل خطواتي"... القديس أغسطينوس * الأمور الزمنية تشبه الماء، كالسيل الذي ينجرف سريعًا؛ يقول: "المياه قد دخلت حتى إلى نفسي" (مز 69: 1)؛ وأما الأمور الروحية فكالصخرة، إذ يقول: "وأقام على الصخرة رجليَّ". فيُبعد طين الحمأة عنا[774]...القديس يوحنا الذهبي الفم * إننا نفهم هذه الصخرة بكونها الرب، الذي هو النور والحق وعدم الفساد والبر الذي يمهد الطريق الروحي. فالإنسان الذي لا يحيد من جانبي الطريق يحفظ خطواته دائمًا بلا دنس من حمأة الملذات[775].القديس غريغوريوس أسقف نيصص "وجعل في فمي تسبيحًا وسبحًا لإلهنا.فيرى كثيرون ويخافون ويتوكلون على الرب" [3]. إذ يتمتع المؤمن بالسيد المسيح الصخرة كأساس إيمانه وحياته الجديدة يختبر الحياة المقامة الغالبة للخطية والموت، ينفتح لسانه ليترنم بالتسبحة الجديدة، تسبحة النصرة، اللائقة بإنساننا الجديد؛ يختبر مراحم الله جديدة في كل يوم. * ليتشكل الإنسان الجديد، وليترنم بالتسبحة الجديدة، إذ صار هو نفسه جديدًا. ليحب الأمور الجديدة التي بها يُضَحي هو ذاته جديدًا. * من هو "قديم" مثل الله (الأزلي)، الكائن قبل كل الأشياء، الذي بلا نهاية ولا بداية؟ مع هذا يصير لكم "جديدًا" عندما ترجعون إليه، لأنكم إذ تغربتم عنه صرتم قدامي، إذ قيل: "عتقت في سائر أعدائي" (مز 6: 7). القديس أغسطينوس إذ يُرفع الإنسان من وطأة الحمأة إلى الصخرة، يمتلئ لسانه تهليلًا فيجتذب الكثيرين إلى الحياة الإيمانية، حياة مخافة الرب والاتكال عليه."فيرى كثيرون ويخافون ويتوكلون على الرب" [3]. ينطبق هذا على السيد المسيح الذي نزل إلى الجحيم وقام من الأموات معلنًا تسبحة النصرة والغلبة على الموت، فيجتذب الكثيرين في خوف ورعدة. يدركون سرّ الصليب بمهابة، متكلين على نعمة الله الواهبة الخلاص. * أي شخص هو الذي يتكلم في المزمور؟ بإيجاز هو المسيح... إنه يتحدث باسم أعضائه: "وجعل في فمي تسبيحًا جديدًا... فيرى كثيرون ويخافون"... إنهم يتبعون المسيح نفسه... يرون من جانب طريقًا ضيقًا، ومن جانب آخر طريقًا متسعًا رحبًا. القديس أغسطينوس "طوبي للرجل الذي اسم الرب رجاؤه،ولم ينظر إلى الأباطيل ولا إلى الوساوس الكاذبة" [4]. إذ نقبل السيد لمسيح طريقًا لنا نسلك طريق الصليب الضيق، نتمتع بالحياة المطوّبة لأننا لا نضع رجاءنا في الأباطيل الزمنية وخداعات العالم الكاذبة بل في اسم الرب المصلوب. * ها هوذا الطريق الذي تُسرون به ! ها هي الجموع تملأ السبيل الرحب... إنه مؤدي إلى الموت... فإن كثيرين يترجون أن ينالوا خيرات من يديْ الله، ويحصلون على كرامات زائلة مؤقتة، وثروات فانية، وفي اختصار يترجون نوال كل شيء من يديْ الله عدا (التمتع بنوال) الله نفسه! انسوا كل هذه الأشياء، وتذكروا الله نفسه! اطرحوا كل الأمور الأخرى خلف ظهوركم، وتقدموا إلى ما هو قدام (في 3: 14)... ليكن الله هو رجاءكم الذي يقودكم حتى النهاية... ليكن الله رجاءنا، فإن ذاك الذي خلق كل شيء هو أفضل من الكل! الذي خلق كل ما هو جميل أبرع جمالًا من كل جمال! الذي خلق كل ما هو قوي أقوى من الكل! الذي أوجد كل ما هو عظيم، هو نفسه الأعظم! إنه سيكون لكم كل شيء تحبون! تعلموا كيف تحبون الخالق من خلال خليقته التي هي عمله. لا تسمحوا للمخلوقات أن تحجز مشاعركم، فتفقدون ذاك الذي خلقكم أيضًا! طوبي للذي يجعل اسم الرب متكله، ولا يثق في الأباطيل والجنون الكاذب. القديس أغسطينوس * إذ اختبر داود الومضات البراقة الخطيرة على الإنسان قال إن الإنسان الذي يضع كل رجائه في اسم الله هو مُطوّب. فإن مثل هذا الإنسان لا يبالي بالأباطيل والغباوات مادام يُجاهد على الدوام لأجل المسيح، متطلعًا باستمرار نحو المسيح بعينيه الداخليتين. لهذا السبب رجع داود إلى الله وقال: "لا أنظر إلى الأباطيل".السيرك باطل، لأنه بلا نفع! سباق الخيل باطل لأنه يضاد الاهتمام بالخلاص! المسرح باطل... وكما يقول الجامعة: كل شيء باطل! كل ما في العالم! لهذا يليق بالإنسان الذي يرغب في الخلاص أن يرتفع فوق العالم، ليطلب العالم الذي مع الله؛ ليهرب من هذا العالم، ويرحل من الأرض. فإنه لا يقدر إنسان أن يفهم ما هو موجود دائمًا ما لم يهرب من هنا أولًا. لهذا السبب أيضًا إذ أراد الرب الاقتراب من الآب قال لتلاميذه: "قوموا ننطلق من ها هنا"[776]. القديس أمبروسيوس لقد وضع المرتل رجاءه في اسم الرب؛ هذا ويُلاحظ أن الكتاب لا يفصل بين الرب واسمه. فعندما سأل منوح الرب عن اسمه، أجابه: "لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب؟!" (قض 13: 18)، كما قيل في إشعياء: "ويدعى اسمه عجيبًا، إلهًا قديرًا..." (إش 9: 6). فالله نفسه عجيب صانع العجائب (مز 72: 18، 77: 11)، هكذا هو اسمه!يحدثنا الكتاب المقدس عن فاعلية اسمه[777]: 1. إذ نجتمع باسمه يحل في وسطنا (مت 18: 20). 2. باسمه ننال العماد (أع 2: 38)، فنتمتع بالبنوة لله. 3. "اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمنع" (أم 18: 10). وقد أدرك المرتل قوة هذا الاسم في مقاومته لجليات الجبار، إذ يقول له: "أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود" (1 صم 17: 40)، كما يقول: "عوننا باسم الرب الذي صنع السماء والأرض" (مز 124: 8). 4. باسم ربنا يسوع المسيح تُصنع العجائب والمعجزات (أع 4: 29، 30؛ أع 3: 12-16؛ 3: 6). 5. باسم الرب تخرج الشياطين (مر 16: 17). أخيرًا فإن اسم الرب هو "الحق"، لهذا من يترجاه لا "ينظر إلى الأباطيل ولا إلى الوساوس الكاذبة" [4]، أي لا يترجى أغنياء هذا العالم ولا عظماءه ولا أصحاب السلاطين، فإنهم لا يحملون إلا الأباطيل والوساوس الكاذبة. إذ يثق المؤمن في اسم الرب في أسماء البشر الرنانة يتمتع بعمل الله العجيب في حياته، فيقول: "وأنت أيها الرب إلهي جعلت عجائبك كثيرة؛ وفي أفكارك ليس من يشبهك" [5]. حتى إن قدم لنا بنو البشر عونًا عن صدق واخلاص إنما يقدمون ما لديهم من أمور زمنية باطلة، أما الرب فيقدم عجائب كثيرة خلال حكمته الفائقة المعلنة في الصليب: يقدم خلاصًا من الخطية، وتحررًا من إبليس، وتبريرًا، وتقديسًا، وبنوة لله، ومجدًا أبديًا! يقدم سلسلة طويلة من عجائب محبته الفائقة التي تكشف لنا عن أفكارة الإلهية من نحونا. يقول: "في أفكارك ليس من يشبهك"، لأنه قدم فكر الصليب العجيب الذي عند اليهود عثرة وعند اليونانيين جهالة! * هذه هي أعمال الله العجيبة، هذه هي أفكار الله التي ليس ما يشبهها بين أفكار البشر. ليتوقف الفضوليون عن فضولهم وليبحثوا معنا عما هو أسمى وأرفع، يبحثوا عن الأمور الأكثر نفعًا، التي إذا ما أدركوها يتهللون فرحًا! القديس أغسطينوس إذ يتحدث المرتل عن عجائب الله في حياة البشرية يضيف: "أخبرت وتكلمت وكثروا أكثر من العدد" [5]. عجائب الله لا يمكن أن تُستقصى من جهة الفكر ومن جهة النطق والعمل، فهي أعظم من أن ندرك كل أسرارها بفكرنا أو نشهد لها بلساننا أو نَحصيها في الواقع العملي.يعلق القديس أغسطينوس على تعبير "أكثر من العددد"، موضحًا أن عمل الصليب العجيب قد ضم الكثيرين إلى أورشليم العليا ليتمتعوا بالأمجاد الإلهية... هؤلاء معروفون لدى الله ومحصيون، غير أن الكنيسة في العالم تضم معهم كثيرين يحملون شكليات الإيمان، أو الإيمان غير العملي هؤلاء "أكثر من العدد". * لاحظوا أعمال الله العجيبة. "أخبرت وتكلمت وكثروا أكثر من العدد" [5]. يوجد "عدد" ويوجد ما هو "أكثر من العدد". هناك عدد ثابت يخص أورشليم السماوية؛ لأن الرب "يعرف خاصته" (2 تي 2: 19)؛ يعرف المسيحيين الذين يخافونه، الذين يؤمنون به، الذين يحفظون الوصايا، السائرين في طريق الله، الحافظين أنفسهم من الآثام، إذا ما سقطوا يعترفون بخطاياهم؛ هؤلاء ينتسبون إلى "العدد".. ما أعظم عدد المؤمنين المجتمعين معًا؟! وما أكثر الجموع التي تتلاحم سويًا! كثيرون قد آمنوا؛ وكثيرون لهم مظهر الإيمان فقط. الذين تغيّروا بالإيمان حقًا هم قلة، أما الذين لهم مظهر التقوى فهم الأغلبية، لأنهم "كثيرون أكثر من العدد". القديس أغسطينوس * "العدد" يخص القديسين المعينين أن يملكوا مع المسيح. الآن يمكن لأناس أن يدخلوا الكنيسة زيادة عن العدد، إنهم لا يقدرون أن يدخلوا ملكوت السموات[778].* لا تتعجب لكثرة عدد المسيحيين الأردياء الذين يملأون الكنيسة، والذين يشتركون في المذبح، والذين في ضجيج يمتدحون الأسقف أو الكاهن عندما يعظ عن السلوك الصالح. قد سبق التنبوء عن أمثال هؤلاء... وتحقق ما جاء في المزمور: "أخبرت وتكلمت وكثروا أكثر من العدد" [5]. يمكنهم أن يعيشوا معنا في الكنيسة الحاضرة، لكنهم لا يقدرون أن يبقوا معنا في مجمع القديسين الذي بعد القيامة[779]. القديس أغسطينوس 2. العبد المطيع وذبيحته: إذ تحدث المرتل عن عجائب الله الكثيرة والمتجلية في عمل الفداء، انطلق إلى الصليب يتكشف أسراره، رآه الذبيحة الفريدة التي تفوق كل ذبائح العهد القديم كله. "ذبيحة وقربانًا لم تشأ، بل جسدًا هيأت لي. والمحرقات التي من أجل الخطيئة لم تُسر بها. فحينئذ قلت: ها أنا قادم. في أرض الكتاب مكتوب: من أجلي هويت أن أعمل مشيئتك يا الله. وناموسك في وسط بطني" [6-8]. ماذا رأى المرتل في ذبيحة السيد المسيح المصلوب؟ 1. الله لا يحتاج إلى ذبائح وقربان ومحرقات، فقيمتها تكمن في أمر واحد، وهو التهيئة للصليب، بكونها رمزًا له، خارج هذا الرمز لا يُسر الله بها، لذلك يقول "جسدًا هيأت لي"، فبالتجسد دخل طريق الصليب. * عُرفت الذبيحة الحقيقية بواسطة المؤمنين من رجال العهد القديم، إذ سبق فأُظهرت في رموز، هؤلاء كانوا يمارسون طقوسًا تحمل رمزًا للحقيقة التي تأتي فيما بعد. كثيرون فهموا معناها لكن عددًا أكبر كانوا يجهلونه... كانوا يذبحون الحمل، ويأكلون الفطير. "فصحنا أيضًا المسيح قد ذُبح لأجلنا" (1 كو 5: 8). هانذا أتعرف في ذبيحة المسيح على الحمل المذبوح! القديس أغسطينوس * إذ يعرف (الله) أنهم يُهملون البر ويمتنعون عن حب الله، أعلن الله أنه لا يُسر بمحرقات وذبائح بالكلية، كما باستماع صوت الرب. فالطاعة أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش (1 صم 15: 22). ويقول داود أيضًا: "ذبيحة وقربانًا لم تشأ، جعلت أذنيّ كاملتين، والمحرقات التي من أجل الخطية لم تطلب" [6]. بهذا يعلمهم أن الله يتوق إلى الطاعة التي تجعلهم في أمان أفضل من الذبائح والمحرقات التي لا تنفعهم شيئًا من جهة البر. بهذا يتنبأ عن العهد الجديد في نفس الوقت.بوضوح أكثر يتحدث عن هذه الأمور في المزمور الخمسين (51) "لأنك لو آثرت الذبيحة لكنت أُعطي، ولكنك ما تُسر بالمحرقات؛ فالذبيحة لله روح منسحق. القلب المتخشع والمتواضع ما يرذله الله" (مز 51: 17). إذ لا يحتاج الله شيئًا يقول: "لست أقبل من بيتك عجولًا ولا من قطعانك جداءً، لأن لي كل وحوش البر، البهائم التي في الجبال والبقر؛ قد غرفت سائر طيور السماء؛ وبهائم الحقل معي. إن جعت فلا أقول لك لأن لي المسكونة وكل ما فيها. هل آكل لحم الثيران أو أشرب دم التيوس؟" (مز 50: 9) الخ. ولئلا يظن أن الله يرفض مثل هذه الأشياء في غضبٍ يضيف واهبًا الإنسان عزاءً: "اذبح لله ذبيحة تسبيح؛ أوفِ للعلي نذورك؛ وادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني" (مز 50: 14-15)[780]. * الخدمة التي تألفت من ظلال ورموز لم تكن مقبولة، أنها كانت تُقدم بدون ثمر إذ ما قورنت برائحة الروحيات الزكية[781]. القديس إيريناؤس * لم تكن تقدمات الدم مرضية، أما رائحة العبادة الروحية الزكية فهي مقبولة للغاية لدى الله. هذه لا يقوى إنسان ما على تقديمها ما لم يكن له أولًا الإيمان بالمسيح، كما يشهد المغبوط بولس إذ كُتب: "بدون إيمان لا يمكن إرضاءه" (عب 11: 6)[782].القديس كيرلس الكبير * قدم ذاته للموت: موت اللعنة ليمحو لعنة الناموس.* قدم ذاته لله الآب طواعية، لكي - بذبيحة نفسه التي قدمها بإرادته - تزول اللعنة التي كانت بسبب عدم استمرارية الذبيحة المطلوبة (عجز الذبيحة الحيوانية عن الاستمرار إذ تُستهلك بموتها). أُشير إلى هذه الذبيحة في المزمور (6)... أعني تقديمها لله الآب الذي رفض ذبائح الناموس، مقدمًا ذبيحة الجسد المقبولة لديه. ويذكر الرسول الطوباوي هذه الذبيحة: "لأنه فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه" (عب 7: 27)، ومن ثم افتدى كل الجنس البشري بخلاصه، بذبيحة هذا الجسد المبذول المقدس والكامل[783]. القديس هيلاري أسقف بوتييه 2. جاء في النص العبري: "أذنيّ فتحت" [6]. جاء في (خر 21: 1-6) عن العبد الذي يرغب بإرادته أن يخدم سيده كل أيام حياته ويخدم عائلته، تُثقب أذنه، إشارة إلى قبوله الطاعة الكاملة لهم بروح الحب لا العبودية، وشوقه إلى خدمتهم المستمرة. كان ذلك رمزًا للسيد المسيح الذي جاء ليَخدِم لا ليُخدم، وقد صار لأجلنا عبدًا، أطاع الآب طاعة كاملة وبذل ذاته لأجل الكنيسة التي يحبها. ونحن أيضًا إذ نتحد فيه كأعضاء جسده، نحمل روح البذل والطاعة، فتكون لنا الآذان المختونة المثقوبة عوض العصيان (إر 6: 10).يُبرز السيد المسيح كمال طاعته بقوله: "ها أنا قادم" [7]، معلنًا خضوعه الاختياري، فقد جاء قادمًا إلى العالم ليحقق ما سبق أن رُمز إليه بالذبائح الحيوانية، قادم ليتمم خلاص الإنسان. بقوله: "في أرض (درج) الكتاب مكتوب من أجلي هويت أن أعمل مشيئتك يا الله، وناموسك في وسط بطني" [7-8] يعلن أن ما يتممه هو تحقيقًا للخطة الأزلية الإلهية، والتي أُعلنت في كتاب العهد القديم. جاء في طاعة للآب ببهجة ومسرة. * انظروا ها هو يتمم مشيئة الآب بنفسه... مكتوب في بداية سفر المزامير: "في ناموس الرب إرادته" (مز 1: 2). القديس أغسطينوس 3. ما تممه إنما بمسرة، إذ يقول: "هويت أن أعمل مشيئتك يا الله" [8]. وكما قال لتلاميذه: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني" (يو 4: 34)، وفي البستان أعلن "لتكن إرادتك لا إرادتي"، ويقول الرسول بولس: "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي".سرّ سروره أنه كلمة الله الذي يعلن إرادة الآب، فإرادته وإرادة الآب واحدة. ولعل قوله: "ناموسك في وسط بطني" يعني أنه كلمة الله المتجسد، حيث لا ينفصل الكلمة عن الناسوت فقط! نحن أيضًا إذ نقبل الكلمة المتجسدة في حياتنا تصير الوصية (ناموس الله) فينا، نعيشها ونسر بها، متممين إرادة الله باختيارنا بمسرة حقيقية. 4. بشارة المصلوب الذبيح: "بشرت بعدلك (ببرك)" [9]. بالصليب كرز السيد المسيح، مبشرًا كل بني البشر بحب الله الفائق، لا بألفاظ بشرية مجردة، وإنما بدمه المبذول. لقد سبق فبشر الأنبياء بمجيء المسيا المخلص، والآن جاء ليحدثنا بكلمة البشارة بنفسه. وكما يقول الرسول: "بعدما كلم الله الآباء بالأنبياء قديمًا كلمنا بأنواع وطرق كثيرة في هذه الأيام الأخيرة بابنه" (عب 1: 1-2). بشرنا بصليبه معلنًا تحقيق العدل الإلهي، أو وفاء العدل لحسابنا، وتقديمه بره برًا لنا. بالصليب صار السيد المسيح الذبيح المبشر الوحيد، يتكلم خلال كنيسته وخدامه ليجتذب بروحه القدوس كل نفس إلى بشارة الإنجيل المفرحة. جاءت الكلمة العبرية "باسار basar" لتعني "أخبارًا مفرحة"، تحمل ذات الأساس لكلمة "إنجيل". 5. بكرازاته العملية اجتذب أعضاء كنيسته من الأمم كجماعة عظيمة تتمتع بكلمات حبه التي لا يمنعها عن أحد، إذ يقول: "في جماعة عظيمة هوذا لا أمنع شفتّي" [9]. ما هما شفتا السيد المسيح اللتان لا يمنعهما عن النطق إلا عدله ورحمته، فبكلمة الصليب التي نطق بها عمليًا التقي العدل الإلهي مع الرحمة في تناغم عجيب! لم يمنع شفتيه، إذ تكلم علانية بصلبه جهارًا خارج المحلة، وشهد ذلك القادمون من كل بقاع العالم يحتفلون بعيد الفصح، كما شاهده الجند الرومان... لا يستطيع أحد أن يعتذر بجهله للصليب! * لقد بشّر وسط الجماعة العظيمة... الآن يُخاطب أعضاءه. إنه يحثهم أن يعملوا ما قد عمله هو فعلًا. لقد بشَّر، فعلينا نحن أيضًا أن نبشر. تألم، فلنتألم نحن أيضًا معه. لقد تمجد فسنتمجد نحن أيضًا معه (رو 8: 17)... لقد بشَّر وسط الأمم كلها، لماذا؟ لأنه هو نسل إبراهيم الذي فيه تتبارك جميع الأمم (تك 22: 8). ولماذا وسط الأمم كلها؟ لأن "منطقهم خرج إلى أقاصي المسكونة" (مز 19: 4). "هوذا لا أمنع شفتي. أنت يا رب علمت (برّي)" [9]. شفتاي تنطقان، وأنا لا أمنعهما عن الكلام. حقًا إن شفتي مسموعتان في آذان البشر، لكنك أنت الذي تعلم قلبي... فالبشارة لا تقصر على الشفتين وحدهما، حتى لا يُقال عنا: "مهما قالوا لكم فافعلوه، لكن بحسب أعمالهم لا تفعلوا" (مت 23: 3). ولئلا يُقال عن الشعب: "يسبحون الله بشفاههم لا بقلبهم". "هذا الشعب يكرمني بشفتيه لكن قلبه عني ببعيد" (إش 29: 31). أتقدمون اعترافًا مسموعًا بشفاهكم؟ اقتربوا إليه بقلوبكم أيضًا. "لم أكتم برّك (عدلك) في قلبي" [10]. ماذا يعني "برِّي"؟ إيماني، لأن "البار بالإيمان يحيا" (عب 2: 4؛ رو 1: 17). (ففي أثناء الاضطهاد) لا يقول المسيحي في قلبه: "إنني بالحق أؤمن بالمسيح، لكنني لا أعلن ما أؤمن به لمضطهدي الثائر ضدي الذي يُهددني. الله يعلم أنني أؤمن بالحق في داخلي، في أعماق قلبي؛ وهو يعرف إنني لا أنكره". "بخلاصك وحقك نطقت" [10]. لقد أعلنت أمام الكل عن مسيحك! كيف يكون المسيح هو "حقك"؟ إنه يقول: "أنا هو الحق" (يو 14: 9). كيف يكون المسيح "خلاصك؟ عندما تعرَّف سمعان على الطفل بين يديْ أمه في الهيكل قال: "لأن عيني قد أبصرتا خلاصك" (لو 2: 30). "ورحمتك وحقك لم أخفهما عن محفل عظيم" [10]. ليتنا لا نحجز رحمة الرب وحقه. أتريدون أن تسمعوا ما هي رحمة الرب؟ اتركوا خطاياكم، فيغفرها لكم. أتريدون أن تسمعوا ما هو حق الرب؟ تمسكوا بالبر؛ فينال بِرَّك إكليلًا. الآن تعلن الرحمة لكم، وأما الحق فسيُعلن لكم فيما بعد؛ فإن الله ليس رحيمًا دون أن يكون عادلًا، ولا هو بعادل دون أن يكون رحيمًا... "وأنت أيها الرب إلهي لا تُعبد رأفاتك عني" [11]. إنه يلتفت إلى الأعضاء المجروحة... أنظر خلال وحدة الكنيسة الجامعة إلى أعضائك المتألمة، تطلع إلى أولئك المثقلين بخطايا الإهمال، ولا تُبعد رأفاتك عنهم. القديس أغسطينوس هكذا إذ يتحدث عن كلمة الله المتجسد الذي جاء يعلن الخلاص بصليبه، جاذبًا الأمم إلى التمتع ببركات الفداء العجيبة، أراد أن يحمل المؤمنون سماته، خاصة الحب العملي. هكذا يليق بنا كأعضاء جسده أن نبشر به ومعه بالفم كما بالقلب. نشهد بلساننا كما بسلوكنا ونياتنا الداخلية. لا نخاف من الشهادة للسيد المسيح المخلص علانية بشفاهنا، ولا تقف الشهادة عند الفم بل يلزم أن يروه متجليًا في حياتنا.لقد جاء مسيحنا ليعلن الرحمة الإلهية والحق الإلهي. بالصليب تمتعنا بكمال حب الله ومراحمه، كما تحقق عدله في كماله. هنا بالتوبة ننعم بالرأفات في استحقاقات الدم الذي وفَّيّ الحق أو العدل، وفي يوم مجيئه يتحقق العدل الإلهي حيث ينال كل جزاءه حسب عمله، فننعم بشركة أمجاده إذ نستتر فيه، ونختفي في صليبه واهب الحياة. ليت رحمته وحقه لا يفارقان عيوننا الداخلية، فيشعلا فينا نيران حبه داخلنا، ويسمرا مخافته فينا. نحبه كأولاد لهم ملء الدالة دون استخفاف بأبوَّته، ونخشاه كديّان فاحص القلوب والكلى دون تجاهل لعمل نعمته فينا. كما شهد مسيحنا للآب عن رحمته وحقه، لنشاركه ذات السمتين، فنحمل روح الحب الحقيقي بلا تهاون، وروح الحق بلا عنف. حبنا يحمل جدية، وحزمنا يحمل ترفقًا! إن كان مسيحنا قدّم نفسه ذبيحة طاعة للآب وحب لبني البشر، حاملًا شرورنا وآثامنا في جسده ليحقق الرحمة والعدل، فإنه من جانبنا ينبغي أن نعترف بخطايانا التي بلا عدد، وقد أحاطت بنا من كل جانب، وأفقدتنا بصيرتنا الداخلية، حتى قلبنا قد تركنا، أي صرنا كالأموات. بمعنى آخر كلما أدركنا بشاعة الخطية ومرارتها نختبر بالإيمان عذوبة الصليب وإمكانيته. "لأن الشرور التي لا عدد لها قد أحاطت بي. أدركتني آثام، ولم أستطيع أن أبصر. كثرت أكثر من شعر رأسي. وقلبي تركني" [12]. أدرك المرتل أن الشرور تكتنف حياته، أينما اتجه تُحيط به، وبسبها فقد قلبه، أي بصيرته الداخلية، فلم يعد قادرًا على التمتع برؤية الله وشركة السمائين وخبرة الحياة السماوية. * "لأن الشرور التي لا عدد لها قد أحاطت بي". من يقدر أن يُحصي خطاياه، وخطايا الآخرين؟ إنه حمل ثقيل يئن منه القائل: "طهرني يا رب من خفياتي، ومن الغرباء (خطايا الآخرين) اشفق على عبدك" (مز 19: 12)... فإن خطايا الآخرين قد أُضيفت إلى الحمل الذي ينوء منه كاهله. "أدركتني آثام، ولم أستطع أن أُبصر". ما الذي يحرمني الرؤية، أليس الإثم؟ بسبب الدخان والتراب أو أي شيء آخر يُلقى تُحرم عيناك من معاينة ذاك النور، فلا تقوى على رفع قلبك الجريح إلى الله. يلزم أن يبرأ قلبك أولًا حتى تقدر أن ترى...! السبب هو أن العين انطمست بآثام كثيرة فلم تعد تبصر! القديس أغسطينوس 3. أعداؤه وقديسوه: يحوي هذا القسم مقابلة بين مقاومي أولاد الله وبين المشتاقين إلى الخلاص، أي بين أعداء الله وقديسيه. لقد رأى المرتل أن خطاياه وخطايا الآخرين (الغرباء) قد اكتنفته، حتى فقد بصيرته الداخلية، وفارقه قلبه، لذا صار يصرخ إلى الله مخلصه، قائلًا: "يا رب ارضَ بخلاصي. يا رب التفت إلى معونتي" [13]. هنا أول إشارة إلى أن الضيقة كانت لا تزال قائمة، لذا يصرخ المرتل في إيمان ورجاء. ويعلّق القديس أغسطينوس على هذه الصرخة قائلًا: [كأنه يقول: "إن أردتَ (ارتضيت) تقدر أن تطهرني" (مت 8: 2). يا رب ارتضِ بخلاصي. يا رب التفت إلى معونتي". تطلع إلى الأعضاء التائبة المتألمة، هذه التي تخضع لمشرط الجراح، وهي لا تزال في رجاء]. إنه يسأل من أجل الذين يريدون تدمير خلاصه، كي يبدد الله مشورتهم الشريرة ومقاصدهم الآثمة. "ليخزَ ويُعير طالبوا نفسي جميعًا ليبيدوها" [12]. إنه لا يئن من أجل الذين يريدون اغتصاب مملكته أو حتى كرسي ملكه، ولا الذين يشوّهون سمعته، أو يريدون قتله، إنما يئن من أجل الذين يريدون ابادة نفسه، أي تحطيم خلاصه. يمكن أيضًا القول بإن هذه هي كلمات السيد المسيح المتألم حيث طلب في البستان إن أمكن أن تعبر عنه الكأس لا يمنع الألم وإنما بعبوره. أما بالنسبة لصالبيه، الذين استخدمهم عدو الخير كأداته الخاصة، حاسبًا أنه قادر أن يُحطم السيد المسيح، فقد قيل عنهم: "يرتد إلى خلف ويفتضح الذين يريدون لي السوء" [14]. هذا ما قد حدث بالفعل حين جاءوا ليقبضوا على السيد المسيح في البستان، إذ رجعوا إلى الوراء، وسقطوا على الأرض. كان صالبوه يسخرون به ويستهزئون، ولم يدركوا أنه بالصليب قد جرَّد الريايات والسلاطين وأشهرهم جهارًا ظافرًا بهم (كو 2: 15). بهذا تتحقق النبوة: "ليُقبل خزيهم بغتة القائلون لي: نعمًا نعمًا" [15]. ترتد السخرية على الأشرار الذين يسخرون بخلاص الرب، أما الذين يطلبون الرب وخلاصه فيمتلئون فرحًا وبهجة، يمجدون الرب المهتم بالمساكين والضعفاء... "ليتهلل ويُسر بك جميع الذين يلتمسونك يا رب. وليقل في كل حين الذين يحبون خلاصك. فليعظم الرب في كل حين. أما أنا فمسكين وضعيف والرب يهتم بي. معيني وناصري أنت هو. يا إلهي لا تبطئ" [16-17]. يعتبر المرتل أنه قد بلغ حالة يُرثى لها. إنه في ضيقه أدرك أنه مسكين وضعيف، لكنه وجد في الله معين المساكين والضعفاء. وقد اختبر المرتل في ضيقته هنا البركات التالية: 1. التمتع بالتهليل الداخلي أو السرور الحقيقي، لا يتمتع بهذا وحده بل ويشترك معه الذين يلتمسون الرب، أي الذين اشتركوا معه بالصلاة لكي ينقذه الرب. فإن كان الأشرار قد سخروا به قائلين: "نعمًا نعمًا"، إذ ينطقون بروح الشماته، قائلين: "حسنًا حسنًا" إنه يستحق ما حلَّ به، إذ بالأتقياء يُصلّون معه وعنه هؤلاء يرون الله قد تمجد فيه فيفرحون. الأولون يطلبون نفس المرتل ليبيدوها [14]، أما هؤلاء فيطلبون الله لخلاص نفس المرتل [16]. 2. قدمت الضيقة فرصة ذهبية ليتعلم المرتل وأصدقاؤه الأتقياء الالتجاء إلى الله وحده، يلتمسونه بروح الانسحاق. 3. التهاب القلب بحب الخلاص. 4. انفتاح لسانه وألسنة محبيه بالتسبيح يعظمون الرب بلا انقطاع. * "وليقل في كل حين الذين يحبون خلاصك: فليعظم الرب في كل حين"... إذ يرونني "ممجدًا فيك"؛ فإن من يفتخر فليفتخر بالرب (1 كو 1: 31). * حتى إن صار الخاطئ بارًا، أعطوا المجد لذاك الذي يبرر الفاجر (رو 4: 5). إن كان ثمة إنسان خاطئ فليعطِ مجدًا لذاك الذي يدعو إلى المغفرة. وإن كان ثمة إنسان يسلك في طريق البر فليسبح ويمجد ذاك الذي دعاه لنوال الإكليل. ليتعظم الرب في كل حين من الذين يحبون خلاصه. القديس أغسطينوس 5. الشعور بالمسكنة والاحتياج إلى المخلص. "أما أنا فمسكين وضعيف والرب يهتم بي" [17].* كل ما عندك هو ملك للمسيح، وأيضًا كل ما ستملكه مستقبلًا هو ملك له، فماذا أنت في ذاتك؟ أنا مسكين وضعيف. أنا لست غنيًا، لأنني لست مغرورًا. القديس أغسطينوس * من يصير في شدة الاحتياج، في عوز من هذا النوع، يتحقق فيه قول النبي: "المسكين والبائس يمجد اسم الرب".حقًا أية مسكنة أعظم وأقدس من أن يعرف الإنسان نفسه أنه بلا قوة ولا قدرة للدفاع عن نفسه، طالبًا العون اليومي من صلاح غيره، وإذ يعلم أن كل لحظة من لحظات حياته إنما تقوم على العناية الإلهية، يعترف دومًا باحتياجه إلى الرب، ويصرخ إليه كل يوم: "أما أنا فمسكين وضعيف والرب يهتم بي" [17][784]. الأب اسحق هكذا شتان ما بين أشرار يطلبون هلاك النفوس فيسقطون في الخزي، وقديسين يسندون كل نفس لتخلص فيمتلئون بالبركات الإلهية، ويتلمسون تجلي الله في وسط شعبه، فيصرخ كل واحد منهم بروح الرجاء: "يا إلهي لا تبطئ". لتكن إرادتك لا إرادتي * ما أعذبك أيها المخلص، وما أعذب أعمالك معي. انتشلتني من هاوية الخطية، وحملتني فيك يا صخر الدهور، حولت حزني فرحًا، ومراثيّ تسبيحًا جديدًا! * أنت الأزلي قديم الأيام، أتيت إليّ في ملء الزمان، وهبتني الإنسان الجديد على صورتك، وأعطيتني الحياة الجديدة فيك، وفتحت فمي لأترنم بالتسبحة الجديدة. وتبقى مراحمك جديدة كل صباح حتى أعبر إليك! * عجيبة هي أعمالك، وبلا حصر! بالصليب قدمت لي كل شبع وغنى وجمال روحي. حوّلت قلبي إلى سمواتك. واستخدمتني شهادة لأعمالك محبتك. * ما أعجب أعمالك أيها الكلمة الإلهي! في طاعةٍ سلمت إرادتك بين يديْ الآب! احملني فيك لأُحسب مطيعًا. قدمت جسدك ذبيحة طاعة وحب، أقبل جسدي ذبيحة حيَّة مقبولة! * صليبك اجتذب الكثيرين بلغة الحب والطاعة! علمني كيف أشاركك صليبك لأنعم بقوة قيامتك! |
||||
23 - 01 - 2014, 04:29 PM | رقم المشاركة : ( 43 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 41 (40 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير الإنسان المطوَّببين المزمورين الأول والحادي والأربعين: القسم الأول من سفر المزامير عند اليهود يضم المزامير (1-41). ويشترك المزموران الأول والأخير من هذا القسم في الآتي: 1. كلاهما يبدأن بكلمة "طوبى" asher، الأول يعلن عن تطويب الرجل الذي يلهج في ناموس الله نهارًا وليلًا، ليمارس الوصية في حياته اليومية العملية، والأخير يطوّب الإنسان الذي ينظر إلى المسكين؛ الأول يعلن حب المؤمن الحيّ للوصية بكونها وصية الله، والأخير يعلن حبه الحيّ للمسكين بكونه أخًا للسيد المسيح، موضوع اهتمام الله وحبه. 2. المزموران نبويان، يتحدثان عن مقاومة الأشرار للسيد المسيح، وآلامه، ونصرته. أشار السيد المسيح إلى هذا المزمور (41) بكونه نبوة عن خيانة يهوذا له (يو 13: 18)، كما أشار إليه القديس بطرس (أع 1: 16). العنوان: "لإمام المغنين، مزمور لداود". وفي الترجمة السريانية: "مزمور لداود عندما أقام مراقبين يهتمون بالفقراء"، وفي العربية: "نبوة عن التجسد وأيضًا عن تحية (قبلة) يهوذا"[785]. ربما وُضع هذا المزمور أثناء تمرد أبشالوم. الإطار العام: 1. بخصوص المسكين [1-3]. 2. المسكين المرفوض [4-9]. 3. نصرة قيامته [10-13]. صلاة 1. بخصوص المسكين: إن كانت افتتاحية المزمور didactic بشكل كبير، إلا أنها تناسب أيضًا الجانب التعليمي لليتورجية الهيكل، خاصة وأن الخاتمة [11-13] تمثل شكرًا لله مُقدمًا في الهيكل. لهذا فالمزمور تعليمي ليتروجي كما هو مرثاة شخصية. "طوبى للذي يتفهم في أمر المسكين والفقير، في يوم السوء ينجيه الرب. الرب يحفظه ويحييه، ويجعله في الأرض مغبوطًا، ولا يسلمه بأيدي أعدائه" [1-2]. من هو هذا المسكين أو الفقير الذي يلزمنا الاهتمام بأموره؟ 1. واضح أن كلمة "المسكين" تعني "الضعيف" أو الذي "بلا معين". فالله في غناه يشتاق أن يفيض بالعطاء على بني البشر، ليس فقط العطاء المادي، وإنما عطاء نفسه His self-giving ليتمتعوا به كأولاد له ينعمون بأحضانه الإلهية. هذا العطاء المجاني هو نعمة إلهية تُوهب بروح الله القدوس مشروطة برغبتنا نحن أيضًا في العطاء، حتى يتحقق الحب المتبادل بين الله وأولاده. عطاؤنا له يتم عمليًا في اخوته المساكين، إذ يقول: "الحق أقول لكم بما أنكم فعلتموه بأحد اخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم" (مت 25: 40). يا لعظم مرتبة الفقراء، لكونهم نظير خدر الله، والباري يختفي فيه. فالفقير يمد يده متوسلًا، لكن الله هو الذي يقبل صدقتك. لقد بلغك عني إني متسربل بالنور كالرداء، لكنك متى كسوت عريانًا أشعر أنا بدفءٍ وأنني تستَّرت. تعتقد إني جالس عن يمين أبي في السموات، ولكنك متى ذهبت إلى السجن تفتقد المسجونين تراني جالسًا هناك. إن رأيت إنسانًا بائسًا... أذكر أنه وإن كان في الظاهر ليس هو المسيح، لكنه هو الذي يسألك ويأخذ منك في زي ذاك... إن كان السيد المسيح خالقك لا يستحي أن يمد يده ويتناول الصدقة المعطاة للمساكين... فالأولى بنا ألا نأنف من خدمة المساكين وإراحتهم، لأنه بخدمتهم تتقدس أيدينا، فإذا رفعناها في الصلاة ينظرها الله مباركة، فيتحنن علينا ويعطينا سؤالنا تمامًا[786]. القديس يوحنا الذهبي الفم 2. المساكين هنا أيضًا هو الفقير في الإيمان وفي معرفة الله ومحبته، والمحتاج لكلمة الله[787]، كما يقول الرسول بولس: كفقراء ونحن نغني كثيرين"، بمعنى أننا نحن فقراء في المال لكننا أغنياء بالسيد المسيح، به نُغني كثيرين. بالحب الحق مع العمل والصلاة الدائمة ننتشل الكثيرين من فقر الإيمان، فقر المعرفة، فقر الحب، فقر الطاعة للوصية الإلهية... طوبى لمن يتفهم في أمر هؤلاء المساكين!3. المسكين الذي يلزمنا أن نتفهم أمره هو السيد المسيح، الذي لأجلنا وهو الغني افتقر. صار كمن هو بلا معين وهو خالق الكل؛ يطلب من السامرة أن تعطيه ليشرب (يو 4: 7)... مشتاق إلى قلوب أولاده التي يغمرها بينابيع حبه ويشرب هو منها! لننظر إلى مسيحنا الذي صار عبدًا مسكينًا، لننظره في آلامه وفي صلبه وهو يصرخ: "أنا عطشان"! لقد قدم له التلاميذ طعامًا، أما هو فقال لهم: "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو 4: 31). أما هو هذا الطعام إلا اتحادنا به، وقبولنا آلامه وصلبه فننعم بقوة قيامته وأمجادها! "تفهموا في أمر المسكين والضعيف، أي في أمر المسيح. افهموا فيه الثروات الخفية؛ ذاك الفقير الذي ترونه "المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم" (كو 2: 3)... تفهموا أيضًا أمر المساكين والمعوزين والجائعين والعطاش والعرايا والمرضى والمسجونين. تفهموا أيضًا أمر هؤلاء المساكين؛ فإن تفهمتم أمر هؤلاء تفهمون ذاك القائل: "كنت جوعانًا وعطشانًا وغريبًا وعريانًا ومريضًا ومسجونًا" (راجع مت 25: 35-36)... القديس أغسطينوس باهتمامنا بالمسكين، سواء المعتاز إلى أمور مادية أو روحية أو معنوية نهتم بالمسكين الذي افتقر لأجلنا، ونتحد بذاك الذي نزل إلينا، فإن ثمر هذا الاهتمام أو هذا الفهم العملي هو الآتي:1. "في يوم السوء ينجيه الرب" [1]: ارتفاع نظرنا إلى السيد المسيح بعمل روحه القدوس يرفعنا إلى فوق لنجتاز يوم السوء ونعبره في أمان. ما هو يوم السوء إلا سقوطنا في تجربة أو محاصرة الخطية لنا، فإنه لا خلاص لنا من التجارب الشريرة إلا بالتطلع إلى المخلص المسكين بسبب خطايانا. نراه على الصليب كله جراحات حب لأجلنا، فتحطم النعمة عمل الخطية في أعضائنا، ويخلص الجسد مع النفس، وينعم المؤمن بحياة الشركة المجيدة. أيضًا اهتمامنا بالفقراء والمحتجين والمذلولين والمسجونين بروح الحب الحقيقي وفي حكمة الروح، يهيئ النفس لعمل النعمة المجانية في داخلنا. فإننا إذ نحب الله في اخوتنا المتألمين، ينصت إلى تنهدات قلوبنا الخفية ويدافع عنا ضد كل خطية. حبنا للغير وترفقنا بهم إنما هو حب لأنفسنا وتمتع بحب الله وحنانه في أعماقنا. "اعطوا ما عنكم صدقة، فهوذا كل شيء يكون نقيًا لكم" (لو 11: 41). "فارق خطاياك بالبر، وآثامك بلرحمة للمساكين" (دا 4: 27). "بالرحمة والحق يُستر الإثم" (أم 16: 6). "لأن الحكم هو بلا رحمة لمن لا يعمل رحمة، والرحمة تفتخر على الحكم" (يع 2: 13). "الماء يطفئ النار الملتهبة، والصدقة تكفر عن الخطايا" (حكمة يشوع 3: 33). "اغلق على الصدقة في أخاديرك فهي تنقذك من كل شر" (كمة يشوع 29: 15). "طوبى للرحماء لأنهم يرحمون" (مت 5: 7). إن رحمت الأرملة تُغفر خطاياك، لأنه مكتوب: "انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة؛ هلم نتحاجج يقول الرب: "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودى تصير كالصوف" (إش 1: 17-18)[788]. القديس يوحنا الذهبي الفم في المعمودية توهب مغفرة الخطايا مرة واحدة للجميع، لكن العمل المستمر بلا انقطاع -تابعًا مثال المعمودية- يهب مراحم الله مرة أخرى... يعلمنا المعلم الحنون ويحثنا على العطف (لو 11: 40-41). وإذ هو يبحث عن خلاص أولئك الذين قدم عنهم تضحية عظيمة هكذا، أشارة أيضًا عن هؤلاء الذين بعدما نالوا المعمودية صنعوا الخطية يمكنهم أن يتطهروا من جديد...أيها الأحباء الأعزاء، إن النصائح الإلهية في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجيد لا تكف ولا تهدأ عن حث شعب الله دائمًا وفي كل موضع على فعل أعمال الرحمة... لأن من لا يرحم لا يستحق مراحم الله، ولا يحصل على أي نصيب من العطف الإلهي بصلواته[789]. لن يستحق مراحم الرب من لا يرحم نفسه، ولن ينال نصيبه من الرأفة الإلهية في صلواته إن لم يترآف هو على المساكين في طلباتهم[790]. الشهيد كبريانوس يمكننا أيضًا أن نفهم يوم السوء بكونه فترات الضيق أو الآلام التي يسمح الله بها لأولاده لتزكيتهم أو لتأديبهم... فإنه وإن كان يسمح بها لكن تبقى عيناه تتطلعان إلينا برفق كما ننظر نحن إلى المساكين في حنو.محب الفقراء يكون كمن له شفيع في بيت الحاكم. من يفتح بابه للمعوزين يمسك في يده مفتاح باب الله. من يقرض الذين يسألونه يكافئه سيد الكل[791]. القديس يوحنا التبايسي 2. "الرب يحفظه ويحييه" [2].إذ يعد الرب شعبه أنه بالكيل الذي يكيلون يُكال لهم ويُزاد (مت 7: 2) لذلك فهو يعد من يحفظ المسكين في أمور زمنية بسيطة، مقدمًا له ضروريات الحياة، يهبه حفظًا من كل شر حتى يدخل به إلى حياة الدهر الآتي. يقدم الإنسان الزمنيات ليتمتع بالسماويات ومعها البركات الأرضية أيضًا. vإن رحمنا الآخرين ننال أجزل مكافأة، فقد وعدنا السيد المسيح بالكيل الملبَّد المهزوز[792]. القديس كيرلس الكبير إن كان لأجل كأس ماء بارد تمنحه لضيف تنال ملكوت السموات، فكم من الخيرات تنال لو دعوته للتمتع بغناك، وجعلته شريكًا معك على مائدتك؟! الأعمى متى رحمناه، يجعل مَن رحمه مبصرًا، ويقوده إلى ملكوت السموات؛ فذاك الذي يتعثر هنا في الحُفَر يصير لك مرشدًا يصعد بك إلى السماء[793]. القديس يوحنا الذهبي الفم 3. ويجعله في الأرض مغبوطًا" [2]، إذ يحول له الأرض سماءً. المحب للفقراء ينعم بالأرض الجديدة، أرض الأحياء، الحياة الكنسية، حيث يمتلئ قلبه فرحًا وغبطة... ينعم بعمل السيد المسيح الساكن فيه، الذي يقيم داخله ملكوته كملكوت تسبيح وتهليل وشكر على غنى نعمة الله المجانية! في الواقع العملي كثيرون إذ بدأوا في المسيح يسوع يمارسون العطاء بحب حقيقي، شعروا بفرح داخلي عجيب لا يعرفون له سببًا خارجيًا. إنه عطية الروح لهم! 4. "ولا يسلمه بأيدي أعدائه" [2]. العدو هو الشيطان. لا يفكر أحد أن إنسانًا ما عدوه عند سماعه هذه الكلمات... القديس أغسطينوس 5. "الرب يعينه على سرير وجعه؛ صرفت مضجعه كله في مرضه" [3].الصدقة تعين المؤمن الحيّ على التمتع بالشفاء الروحي والجسدي، ليس ثمنًا لعمله، وإنما الله الرحوم يهب مجانًا نعمته لمن يعلن عن قبولها بتقديم الحب والرحمة للغير (مت 5: 7). يرىالقديس أغسطينوس أن السرير هنا هو ضعف الجسد الروحي، فالنفس المُتعبة بالخطية تجد لذتها في ملذات الجسد كما على سرير مريح... لكنه سرير ألم ومرض. والرب في حنانه يطلب منه أن يقوم ليحمل سريره ويمشي إلى بيته (مر 2: 11). بمعنى آخر يهب النفس قوة القيامة، فلا يحملها الجسد في ملذات باطلة، بل بالروح تحمل الجسد في قدسية ونقاوة. لتنطلق إلى البيت السماوي، وتجد راحتها في حضن الآب. وكأن العطاء يهبنا فرصة التمتع بعمل الله المجاني، فيه نقوم من فراش جسدنا وننطلق بكمال الحرية كما بجناحي الحمامة نحو السمويات. هذه هي بركات العطاء أو قل الحب العملي: ينقذنا الله من يوم السوء أي يوم الدينونة، مُحولًا إيّاه إلى يوم الرب المفرح، أو يوم العرس الأبدي؛ يحفظنا الرب من الضيقات ويهبنا الحياة الجديدة فيه، يحول أرضنا إلى سماء مفرحة، ويقيمنا من سرير الشهوات الزمنية لننطلق بروحه القدوس إلى الراحة الحقة في السمويات. بهذا أيضًا نكون قد تحررنا من العدو الشرير إبليس وكل أعماله لننعم بأبوة الله العاملة فينا، ويكون لنا موضع في أحضانه الإلهية. <FONT face="Times New Roman"><FONT face="Times New Roman"><FONT face="Times New Roman"> 2. المسكين المرفوض: <SPAN lang=ar-sa> "أنا قلت يا رب ارحمني. اشفِ نفسي لأني قد أخطأت إليك" [4]. هذه صلاة، في منتهى البلاغة في اللغة العبرية؛ فإنه ماذا يمكن لإنسان أن يفعل أكثر من الاعتراف بإخلاص وأمانة بخطاياه. ما هو ارتباط هذه الصلاة بحديثه السابق عن الإهتمام بأمر المسكين؟ يبدو أن المرتل قد سقط تحت تأديب إلهي، إذ يربط ضيقته بإثمه، متوقعًا أنه إذ ينظر إلى أمر المسكين، يتطلع الله إليه كمسكين لكن ليس دون اعتراف بخطاياه. هنا يُبرز المرتل أن ما يناله الإنسان من هبات كثمرة العطاء المملوء حبًا لا يتم عن برّ ذاتي، وإنما عن مراحم الله المجانية، إذ يعترف المرتل بخطيته طالبًا الرحمة والشفاء. كأن المرتل يقول: إن كنت قد تفهمت في أمر إخوتي المساكين فذلك ليس فضلًا منى، فإنك تتطلع إليّ وتتفهم أمري أنا المسكين المجروح بالخطايا والمحتاج إليك كطبيب للنفس والجسد. يشفيك الله فقط إن أقررت بجرحك. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). عندما ترقد تحت يديْ الطبيب، وتطلب عونه بلجاجة. فإن غَسل أو كوي أو بَتر، احتمل هذا بهدوء، لا ترتبك بذه الأمور فُتشفى. <FONT face="Times New Roman"> إنك تشفى إن قدمت ذاتك للطبيب؛ ليس لأنه لا يراك إن اخفيت نفسك، وإنما الاعتراف هو بداية استعداتك صحتك[794]. الأب قيصريوس أسقف آرل اعتاد المرتل أن يبدأ اعترافه باتهام نفسه أولًا، بعد ذلك يشتكي العدو الشرير المقاوم له؛ فهو لا يبرر نفسه ولا يلقي بالوم على غيره، إنما يطلب عونًا من الطبيب ليشفيه أولًا ثم يقيه مما قد يصيبه من الخارج، إذ يقول: "أعدئي تقولوا عليّ شرًا: متى يموت ويُباد اسمه؟!" [5]. يود العدو الشرير أن يطيح بأولاد الله الأبرار، ويظن أن هذا يتحقق فعلًا، متجاهلًا أن الصديق يسقط سبع مرات ويقوم. ويرى البعض أن هذا هو صوت السيد المسيح الذي اتهمه الأعداء كذبًا، وتآمروا على قتله وإبادة اسمه. ويبقى صوته هذا ينطق به في كنيسته التي تتألم لأجله والتي يُريد العالم يمحوها لينزع اسم مسيحها تمامًا. وكما يقول سفر الأعمال عن القديسين بطرس ويوحنا: "فدعوهما وأوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يُعلّما باسم يسوع" (أع 4: 18). هذا هو شخص ربنا يسوع المسيح؛ ولكن انظروا أما يُفهم ذلك أيضًا عن أعضائه. قيل هذا عندما سار ربنا بالجسد على الأرض... عندما رأوا الشعب قد ذهب وراءه، إذ قالوا: "متى يموت ويُباد اسمه"، بمعنى "إذ نقتله يُباد اسمه تمامًا من على الأرض، فلا يخدع بعد أحدًا إذ يموت. بهذا القتل نفسه سيفهم البشر أنه كان مجرد إنسان وقد تبعوه، ولا رجاء في الخلاص من جهته، فيهجرون اسمه ولا يكون بعد. لقد مات ولم يبد اسمه بل بُذر كبذرة كحنطة بموتها تنبت حنطة. <FONT face="Times New Roman"> مات المسيح ولم يبد اسمه؛ ومات الشهداء ونمت الكنيسة، ونمى اسم المسيح بين الأمم. باطلًا إذن اعتقادهم ضده؛ وكان الأفضل لهم أن يؤمنوا به حتى "يتفهموا أمر المسكين والفقير"، هذا الذي وهو غنى افتقر لأجلكم حتى تغتنوا بفقره... القديس أغسطينوس لقد دبر أخيتوفل المؤامرة لقتل داود الملك واباده اسمه فكان رمزًا لعدو الخير إبليس الذي هّيج الكثيرين ضد ابن داود للخلاص منه بالصليب، فجاءت كلمات داود النبي تنطبق بصورة أكمل في شخص السيد المسيح، إذ يقول: "كان يدخل لينظر فكان يتكلم باطلًا، وقلبه جمع له إثما. كان يخرج خارجًا ويتكلم عليّ معًا. عليّ تدمدم جميع أعدئي. وتشاوروا عليّ بالسوء وكلامًا مخالفًا للناموس رتبوا عليّ. هل النائم لا يعود أن يقوم؟!" [6-8]. تحققت هذه النبوة في شخص السيد المسيح حيث اجتمع |
||||
23 - 01 - 2014, 04:33 PM | رقم المشاركة : ( 44 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 42 - تفسير سفر المزامير الكنيسة والخلاص[مز 42 - مز 72] المزمور الثاني والأربعون عطشي إلى المسيح المزموران 42، 43 ظروف المزمور العنوان الإطار العام [مز 42 - مز 72] القسم الأول (مز 1 - مز 41) هو تجميع لمزامير تتحدث عن حالة الإنسان: حياته المطوّبة وسقوطه ثم تجديده بعمل الله مخلصه الذي يرد إليه الحياة الفردوسية المتهللة المفقودة. وهو في هذا يماثل سفر التكوين[795]. أما القسم الثاني (مز 42- مز 50) فيماثل سفر الخروج حيث ظهر شعب الله الذي يدخل في ميثاق معه خلال دم الحمل (خر 12)، لهذا جاءت مزامير هذا القسم تتحدث عن "الكنيسة والخلاص". في الأصحاح الأول من سفر الخروج نرى الشعب مُستعبدًا في أرض غريبة، بعيدًا عن أرض الموعد. كان شعبًا متألمًا، يئن وينوح كلما هوى عليه سوط مُسخِره ومضطهِده. وكانت الضيقة تتزايد مع الزمن وتقسوا جدًا، وصارت الأبواب كأنها قد أُغلقت تمامًا، ولا يوجد منفذ للخلاص. لكن في الوقت المناسب سمع الله أنينهم وصراخهم، وقام يدافع عنهم بيده القوية، مخلصًا إياهم من بيت العبودية، بينما هلك أعداؤهم في البحر الأحمر. يبدأ هذا القسم بصرخة مُرّة تصدر عن أعماق الضغطة (مز 42 - 49)، لينتهي بإعلان مُلك الله على شعبه المتعبد له حيث يُقال: "ويسود من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي المسكونة... ويسجد له جميع ملوك الأرض، وكل الأمم تتعبد له" (مز 72). يملك ملك الملوك على شعبه الذين صاروا ملوك الأرض، أي أصحاب سلطان على أجسادهم التي تتقدس فتُحسب أرض الرب. أما طريق المجد الملوكي فهو التوبة، لهذا يُقدم لنا هذا القسم الكثير من المزامير التي تتحدث عن التوبة والاعتراف، أبرزها مزمور التوبة الأمثل 51 (50 LXX) الذي نترنم به في مقدمة كل صلاة أو تسبحة من صلوات السواعي (الأجبية)؛ كما يصلي به الكاهن مع الشعب في أغلب الصلوات الليتورجية (الجماعية). يكشف هذا القسم عن جمال الكنيسة المتمتعة بالخلاص كعروس مزينة لعريسها الأبرع جمالًا من بني البشر (مز 45 "44"). وقد تجمعت مزامير هذا القسم من مصادر متنوعة: 1. أبناء قورح (مز 42، 44-49)، وهم عائلة من حارسي الأبواب الرسميين ومن الموسيقيين (1 أي 9: 17-19، 26: 19)، ربما كانوا تلاميذ قورح وليس بالضرورة من عائلته[796]. يرى البعض أن كلمة "قورح Core" ربما تعني "أقرع" أو "أصلع"[797]. ويرى القديسان أغسطينوس وجيروم إنها تعادل كلمة "Calvaria"[798] أي "الجمجمة" أو الموضع الذي صُلب فيه السيد المسيح. فأبناء قورح هم أبناء العريس المصلوب، القادرون أن يسحقوا رأس الحية القديمة بالصليب. ويحطمون الموت، وينعموا ببهجة القيامة. بمعنى آخر المسيحيون كأبناء قورح الحقيقي يمارسون الحياة المُقامة التي لا تعرف إلا الشكر والتسبيح لله مخلصهم. 2. آساف (مز 50) الذي أسس فرقة موسيقية أخرى للهيكل. ربما كان لقبًا لقادة الموسيقيين أو لمنظمي الخورس في أيام داود وسليمان (1 أي 16: 4، 5؛ 2 أي 5: 21)[799]. وكلمة "آساف" تعني "محصَّل" أو "يهوه يجمع"، ويرى القديس أغسطينوس أنها تعني "المجمع". فإن كان المجمع اليهودي هو المسئول عن صلب السيد المسيح، لكنه حفظ لنا النبوات التي تشهد للسيد المسيح الذي هو تسبيحنا وفرحنا. 3. داود النبي والملك (مز 51-65، 68-10)، رجل الصلاة والتسبيح؛ يمثل الكنيسة الملكة التي تجد كل لذتها في عريسها الملك، تلتصق به، وتسبحه بلا انقطاع. 4. سليمان (مز 72) يشير إلى الكنيسة الحاملة سلام الله الفائق. 5. توجد ثلاثة مزامير بدون أسماء (مز 66، 67، 71)، تمثل دعوة موجهة نحو كل نفس للتمتع بالعضوية الكنيسة المتهللة، حتى وإن لم يعرفها أحد من البشر بالاسم. المزمور الثاني والأربعون عطشي إلى المسيح المزموران 42، 43: يعتقد البعض أن المزمورين 42، 43 يمثلان وحدة واحدة. يقول Kidner[800]: [إنه وإن كان يمكن الترنم بكل مزمور منهما على حدة إلا إنهما في الواقع هما جزءان من قصيدة واحدة متماسكة، تعتبر من أروع القصائد الحزينة في سفر المزامير. وللمزمورين عنوان واحد يناسب كليهما؛ كما يضمان ذات المناجاة للنفس: "لماذا أقصيتني؟ ولماذا أسلك كئيبًا إذ يحزنني عدوي؟!" (مز 42: 9؛ مز 43: 2). هذا والقرار الذي يختم جزئيي المزمور (42: 5، 11) يتكرر مرة ثالثة في (مز 43: 5): "لماذا أنتِ حزينة يا نفسي؟ ولماذا تقلقيني؟" فيُعطي للمزمورين وحدة. يمكننا القول بأن المزمورين هما مرثاة تكشف عن مرارة النفس بسبب الآلام الماضية والحاضرة والمستقبلة، لكنها تُبتلع بعذوبة الرجاء في الله والتمتع بحضرته وكأن الآلام لا تحكم نفسية المرتل بل بالأكثر تزيده شوقًا نحو الله مخلصه. (42: 1-5) آلام في الماضي -في البرية- شوق نحو الله. (42: 6-11) آلام في الحاضر -على الجبال- شعور بترك الله. (43: 1-5) آلام في المستقبل -في هيكل قدسه- رجاء مفرح. يوضح هذا المزمور أن الأتقياء في القديم كما في عصرنا الحاضر يعانون من الآم لا يُنطق بها. ظروف المزمور: 1. يرى البعض أن هذا المزمور هو مرثاة لأحد مرنمي الهيكل، نُفى في الشمال بالقرب من مصعد نهر الأردن، ويتوق إلى العودة إلى بيت الله للتمتع بالحضرة الإلهية خلال العبادة الجماعية المقدسة. 2. يقول أنثيموس الأورشليمي: [إن داود النبي وضع هذا المزمور وسلّمه لأحد رؤساء المرتلين من بني قورح لكي يُسبح به بالآت العزف]. 3. وُضع كنبوة عن الذين يُسبون ويحرمون من التمتع بخدمة الهيكل وخبرة الحضرة الإلهية، معلنًا اشتياقهم نحو الرجوع إلى وطنهم بعبورهم جداول المياه (نهر الأردن). إنهم بهذا يمثلون البشرية التي سقطت تحت سبي الخطية، وسلمت نفسها للعبودية، فإنها لن تنعم بالحياة الجديدة في الرب ما لم تجتز مياه المعمودية، لتعبر إلى أورشليم العليا، الوطن السماوي. 4. يرى بعض الآباء الأولين أن هذا المزمور هو صوت رجال العهد القديم، الذين كانوا في عطش شديد إلى التلاقي مع المخلص. وكانوا في جهادهم الروحي أشبه بالإيل، يجرون نحو جداول المياه أو نحو ينابيع النبوات، قائلين: "لماذا أنتِ حزينة يا نفسي؟ ترجيّ مجيء الرب، فهو قادم حتمًا، يُحقق لكِ خلاصك ويملأكِ فرحًا وسلامًا". جرت نفس الأنبياء في عطش إلى هذا الينبوع، وكما يقول داود: "عطشت نفسي إلى الله الحيّ" [2]؛ وبهذا يستطيع أن يروي ظمأه بغنى معرفة الله، ويمكنه أن يغسل من دماء الحماقة بريها بالجداول الروحية[801]. القديس أمبروسيوس العنوان: "لإمام المعنين، قصيدةMaschil لبني قورح"، وحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام (النهاية) فهمًا لبني قورح". 1. سبق لنا التعليق على كلمة Maschil في عنوان المزمور 32. 2. يرى بعض الدارسين أن واضع السفر هو "داود"، ومما يؤكد هذا أن المزمور قد وُضع بصيغة المفرد: "نفسي"؛ فلو أن بني قورح هم واضعوه لقالوا: "نفوسنا"... داود النبي هو واضعه وهم لحَّنوه. هذا المزمور يناسب حالة داود في منفاه الطويل خارج أورشليم أيام شاول، خاصة وأن الموضع الذي اُستبعد فيه داود النبي يُطابق من الناحية الجغرافية ما ورد في الآية [6]، أي أرض الأردن وحرمون. يرى البعض أن بعضًا من بني قورح قد نُفوا (عد 26: 11)، وأن جميعهم قد اُستبعدوا عن القيام بدور بارز في العبادة الجماعية الليتورجية في الهيكل. فالمزامير المنسوبة إليهم تعكس آلام حنينهم للوطن وشعورهم بالخسارة؛ وفي نفس الوقت يتألمون باسم الشعب كله المأسور في بلد غريب. يقدم لنا القديسان أغسطينوس وجيروم تفسيرًا رمزيًا لكلمة "قورح": إذ تعادل كلمة "قورح Karah" "جلجثة Calvaria"، لذا فإن أبناء العريس، أبناء آلامه، الأبناء المفديين بدمه، أبناء صليبه، الذين يحملون على جباههم ما قد رفعه أعداؤه على الجلجثة، يُدعون "أبنا قورح". القديس أغسطينوس الإطار العام: 1. صرخة واشتياق إلى الله [1-5]. 2. ضيقة وحيرة [6-11]. دموعي صارت لي خبزًا! 1. صرخة واشتياق إلى الله: تصدر عن المرتل صرخة صادقة وعميقة خلال شعوره بالحرمان من أورشليم العليا وهيكل قدسه السماوي، حاسبًا نفسه محرومًا من الله القادر وحده أن يروي نفسه، إذ يقول: "كما يشتاق الإيل إلى ينابيع المياه، كذلك تاقت نفسي أن تأتي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله الحيّ، متى أجيء وأظهر أمام وجه الله؟!" [1-2]. في فلسطين حيث توقف المطر قرابة تسعة أشهر في السنة تُغطي الينابيع والآبار والقنوات المائية كي لا تجف من شدة الحرارة، وإذ تشعر الإيل بالظمأ القاتل تجري نحو ينابيع المياه وتقف أمامها صارخة، وقد خارت قواها من أجل تمتعها بالكنز المخفي، المياه واهبة الحياة. هكذا يجري المؤمن في برية هذا العالم الجافة يبحث عن ينابيع مياه الحياة، أي عن الحياة الكنيسة الإنجيلية، يأتي إلى كلمة الله أو الكتاب المقدس المختوم لكي يكشف له الروح أسراره، وإلى عطايا الروح القدس في العبادة الكنسية كالأسرار المقدسة، وهو في هذا يعلن عن حنينه الشديد نحو الله الصادر عن أعماق قلبه. المؤمن كالأيل التي لا تتوقف عن الجري السريع لعلها تجد ينبوع المياه، وليس كالجمل الذي يحمل اكتفاءً ذاتيًا فيه أثناء سيره البطيء في الصحراء. يعبر المرتل عن شوقه نحو الله بالعطش، لأن آلامه أكثر مرارة من آلام الجوع. قال السيد المسيح كممثل لنا "أنا عطشان" (يو 19: 28) ليعبر عن عطش المؤمنين إلى الله! ويقدم لنا الآباء تفاسير مختلفة للإيل الظمآن إلى مجاري المياه، نقتبس الآتي: لقد تصفحت سفر المزامير بأكمله بدقة شديدة فلم أجد بني قورح قد تغنوا بأي شيء في أي موضع، إنما تجد دائمًا نغمة الفرح والسعادة في أغانيهم، تجد ازدراءً بالعالميات والزائلات، وشوقًا حارًا إلى السمويات والأبديات، لأن ربنا قد صُلب ودُفن في موضع يُقال له "الجمجمة". إذن الذين يؤمنون بصليبه وقيامته هم بنو قورح، أبناء الجمجمة. إنها طبيعة الإيل ألا ترهب الحيَّات... إنها تجتذب الحيَّات للخروج من جحرها عن طريق أنفاسها الخارجة من منخارها، وذلك كي تقتلها وتمزقها إربًا. ومع ذلك فإذا ما سرى السم الخارج من الحيَّات وألهب جوفها، فإنه وإن لم يقتلها لكنه يجعلها في حالة ظمأ مُحرِّق، فتشتاق إلى جداول مياه صافية رطبة تطفئ نيران السم الذي سبب لها عطشًا هكذا. الآن نحن أيضًا مثا الإيل نشتاق إلى المياه الجارية. لقد انسحب إيلنا الصغير من مصر ومن العالم، وأهلك فرعون في المياه، وسحق جيشه كله في المعمودية. إذ يُقتل الشيطان (بالصليب في مياه المعمودية) تلتهب قلوبهم المملؤة غيرة نحو مياه الكنيسة الجارية، ويشتاقون إلى الآب والابن والروح القدس. جاء في سفر إرميا شهادة للآب كينبوع: "تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشققة لا تضبط ماء" (إر 2: 13). وفي موضع آخر نقرأ عن الابن أنهم قد تركوا ينبوع الحكمة، وأيضًا عن الروح القدس: "من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا... يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو 4: 14)[802]. القديس جيروم اركضوا إلى الجداول، توقوا إلى جداول المياه، إلى الله ينبوع الحياة، الينبوع الذي لا يجف أبدًا، الينبوع الذي من يشرب منه يروى الظمأ الداخلي.اركضوا إلى الينبوع، اشتاقوا إليه، لكن لا تفعلوا هذا كيفما اتفق، لا تكتفوا بالجري كأي حيوان عادي، بل اركضوا كالإيل... ماذا يعني "كالإيل"؟ أي لا تتكاسلوا في رُكوضكم. اركضوا بكل قواكم؛ اشتاقوا إلى الينبوع بكل قدرتكم، فإننا نجد في الإيل رمزًا للسرعة... اسمعوا أيضًا ما تتميز به الإيل، إنها تقتل الحيَّات، وبعد قتلها تتقد عطشًا بصورة أشد. وإذ تنتهي من قتل الحيَّات تركض إلى جداول المياه حيث تشتد وطأة عطشها أكثر من ذي قبل والحيات هي رذائلكم؛ دمروا حيَّات الشر فتشتاقون بالأكثر إلى ينبوع الحق... ومن ثم أمر آخر جدير بالملاحظة بالنسبة للإيل... فإنها إذ تجول كقطيع أو تسبح (في الماء) لكي تبلغ منطقة أخرى من الأرض، تسند ثقل رؤوسها على بعضها البعض بحيث يقودها واحد ويتبعه الآخر، وقد ألقى الكل رؤوسهم عليه بالتتابع حتى آخر القطيع. لكن إذا ما تعب القائد الذي يحمل أثقال الرؤوس يعود إلى المؤخرة ويستريح من تعبه إذ يسند رأسه على الآخير... أليست الإيل بهذا تشبه أولئك الذين قال عنهم الرسول: "احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمموا ناموس المسيح" (غلا 6: 2)؟! القديس أغسطينوس الله بالحق هو الينبوع؛ ليت ذاك الذي يتوق إلى هذا الينبوع يسكب نفسه عليه، فلا يترك شيئًا فيه لملكية الجسد، بل تفيض نفسه (بالحب) في كل موضع[803].القديس أمبروسيوس * لتعطش نفوسنا إليه، قائلة: "متى يجيئ؟!"... إنك تشتاق إلى قدومه، ألعله يجدك مستعدًا[804]؟!القديس أغسطينوس كثيرون من الناس عطشى: الأبرار والخطاة أيضًا. الأولون عطشى إلى الحق، والآخرون إلى الملذات. يعطش الأبرار إلى الله، والخطاة إلى الذهب[805].قيصريوس أسقف آرل الإنسان الذي يشرب بعمقه من هذا الخمر ويُحرم منه بعد ذلك، هو وحده يُدرك قيمة ما حُرم منه بسبب تراخيه[806].مار إسحق السرياني إن كنا نُعاني من الحيَّات الداخلية ليتنا لا نستسلم لسمومها، بل بالأكثر نُجاهد ضدها بروح الله الساكن فينا، فيلتهب قلبنا حبًا نحو مخلصنا، مشتاقين أن نتراءى أمامه. عمل الخطية هو عزلنا عن الالتقاء بالله الحيّ والتمتع بوجهه لنشبع بحبه، لذا نقول:"عطشت نفسي إلى الله الحيّ، متى أجيء وأظهر أمام وجه الله؟!" [2]. مادام المرتل يتحدث عن اشتياقات وحب بين الله والإنسان، يدعو الله بالحيّ، فإننا لسنا نتعبد له كما لقوم عادة أو خشية غضبه، وإنما تجاوبًا معه بكونه الحيّ، الذي يدخل معنا في علاقات حب وعهود، يُريد أن يتراءى في داخلنا، ويعلن ملكوته فينا، ونظهر نحن أمام وجهه ننعم ببهاء مجده وجمال هيكل قدسه السماوي. إن كان المزمور قد كُتب عن المسبيين المحرومين من هيكل الرب، هؤلاء الذين كان البابليون يُعيرونهم، قائلين لكل واحد منهم: "أين هو إلهك؟!" يُجيبهم المؤمن: إنني لا انشغل بتعييراتكم، إنما يلتهب قلبي بإلهي الحيّ القادر وحده أن يروي ظمأ نفسي الداخلي... إني مشتاق أن ألتقي به وجهًا لوجه. ربما يقصد بقوله: "متى أجيء وأتراءى قدام الله؟!" أنه ليس من ظروف تحرمني من التقائي به أو سكناه في داخلي... لكن حنيني الداخلي ينصبُّ على اللقاء معه وجهًا لوجه! هذه هي صرخات الشعب المسْبى المشتاق إلى مدينة الله أورشليم وهيكله المقدس، حيث يلتقي بالله في بيته وهيكله! ربما هي صرخات داود النبي أو أحد المرتلين المحرومين من الهيكل! وهي بالأكثر صرخات رجال العهد القديم الذين عطشت نفوسهم إلى مجيء المخلص... ليأت إليهم أو يذهبون إليه! إنها صرخات الكنيسة التي تعبَّر عن حنينها إلى مجيئه الأخير، إذ تقول "آمين تعال أيها الرب يسوع!" (رؤ 22: 21). "متى أجيء وأتراءى قدام الله" انظروا، فقد اُستجيبت تضرعاتهم، لقد جاءوا ووقفوا في حضرة الله. قد مثلوا أمام المذبح، وشاهدوا سِرّ المخلص. ما من أحد يتأهل للتطلع إلى هذا المنظر إلا الذي من عمق قلبه وضميره يصرخ نائحًا في ندم: "دموعي صارت لي خبزًا النهار والليل" [3][807]. القديس جيروم هذا الجمال (الإلهي) مُخفى عن العيون الجسديةَ، مُدرك بالعقل والنفس فقط. عندما يُلقى بضوئه على أحد القديسين يتركه ملتهبًا بشعور لا يحتمل بألم الاشتياق، وإذ يدرك ماهية الحياة الدنيا يقول: "ويل لي فإن غربتي قد طالت عليّ" (مز 120: 5)؛ "متى أجيء وأتراءى قدام الله؟!" [2]؛ وأيضًا: "لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح، ذاك أفضل جدًا" (في 1: 23)؛ "عطشت نفسي إلى الله الحيّ"... حقًا إنه بسبب لهفتهم التي لا تشبع للتمتع برؤية الجمال الإلهي، يُصلّون كي يستمر تأملهم في التمتع بالرب مدى الحياة الأبدية[808].القديس باسيليوس الكبير "عطشت نفسي إلى الله الحيّ"...إني عطشان في غربتي، في ركوضي، وسأرتوي عند وصولي. القديس أغسطينوس "متى أجيء وأظهر أمام وجه الله؟!"في هذا المزمور يرسم (المرتل) بوضوح المتاعب التي تظهر بسبب الضعف البشري، والتعزيات التي تصدر عن الله[809]. القديس أمبروسيوس "لأن دموعي صارت لي خبزًا النهار والليل،إذ قيل لي كل يوم: أين هو إلهك؟" [3]. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل لم يقل: "لأن دموعي صارت لي شرابًا" بل "خبزًا"، لأن الظمآن إن أكل حبزًا يزداد ظمأ... فدموع الاشتياق نحو اللقاء مع الله لا تروينا بل تلهب بالأكثر عطشنا إليه.كما يقول: [لم تكن دموعي مرارة لي بل "خبزي". هذه الدموع عينها كانت حلوة بالنسبة لي، وذلك لعطشي إلى الينبوع. وبقدر عجزي عن الشرب منه، في لهفة جعلت دموعي طعامًا]. دموعه لم تجف نهارًا ولا ليلًا، إذ لا تستطيع الانشغالات اليومية مهما كانت أهميتها أن تشغله عن طلب إلهه بدموعه، ولا راحة الليل تهدئ من هذا الحنين. إنه لا يخجل من أن يبكي بدموع في النهار علانيةً، معلنًا ارتباطه بإلهه كما يرتبط الرضيع بأمه، ولا يقدر على الاستغناء عنها، كما يلذ له أن يبكي في الليل خفيةً ليعلن أعماق محبته لله. يشير النهار أيضًا لحالة الفرج أو الفرح، والليل إلى حالة الضيق والألم؛ وكأن المرتل يعلن أن دموعه لا تجف وسط أفراحه أو أحزانه، إذ تحت كل الظروف ليس ما يشغله إلا حنينه نحو الله! في كبرياء وتشامخ وبسخرية يقول لي الأعداء: أين هو إلهك؟ حسبوا طول أناة الله ضعفًا! أرادوا أن يحطِّموا رجائي في الله، كأنه قد تركني، ولم يدركوا إنه سيد التاريخ وضابطه، إنه يتمهل ويطيل الأناة منتظرًا توبتهم ورجوعهم، أو ينتظر حتى يمتلئ كأس شرهم. "هذه تذكرتها فأفضت نفسي عليّ" [4]. يتذكر المرتل تعييرات العدو له، وعوض الانشغال بها أو بالرّد عليها تنسكب نفسه فيه أو عليه عوض انسكابها على الغير، فهي لا ترتمي على ذراع بشر، وإنما تدخل إلى أعماقها، تنتظر تجلي السيد المسيح فيها وتترقب تعزياته الخفية. ولئلا يفهم أحد أن انسكابه على نفسه هو نوع من اليأس أو تحطيم نفسيته أو تقوقعه حول نفسه، يكمل الحديث معلنًا ملء شركته مع اخوته في الحياة التعبدية وفرح قلبه، إذ يقول: "لأني أجوز في مكان مظلة معجبة إلى بيت الله، بصوت تهليل واعتراف بصوت المُعَّيد" [4]. دموعه الغزيرة تسكبه على نفسه في مخدعه، وتبعث فيه حنينًا أن ينطلق مع الشعب إلى بيت الله كمن هو "مُعيّد"، أي في حالة عيد مفرح لا ينقطع. يرى المرتل نفسه في بيت الرب كما في مظلة عجيبة، تحت ظل جناحي الله، وفي حمايته إلهية. ويرى البعض أن قوله: "هذه تذكرتها" تعني تذكار الأيام المفرحة التي عبرت، فتئن بالأكثر نفوسنا في داخلنا، مشتاقين أن نبقى في حالة فرح دائم وتسبيح غير منقطع. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن تذكار معاملات الله معنا هم سند لنا في الحاضر، إذ يقول: [تظهر كل الأمور صعبة بالنسبة لنا لأننا لا نتذكر الله كما ينبغي، ولا نحمله في أفكارنا دائمًا... لأنه يقينًا سيقول لنا بحق: "أنتم نسيتموني فسأنساكم"، إذ عظيم هو تذكر الله لنا، وأيضًا تذكرنا نحن له[810]]. يرى البعض أن المرتل يذكر الأيام الأولى حين كان يجتمع مع الشعب في مواكب العبادة المفرحة والتهليل التي كانت بالنسبة له أشبه بمظلة إلهية يحتمي فيها... خلال هذا التذكر يسكب نفسه في داخله. على أي الأحوال لتنسكب نفوسنا في داخلنا على ذواتنا، لا لننشغل بالأنا فتنحجب عنا رؤية الله، وإنما لننطلق إلى ما وراء الأنا، فنرى الله المعتني بنا، وبهذا ندخل إلى خيمته العجيبة ويكون لنا موضع في بيته المقدس. بمعنى آخر إن ما يحجبنا عن رؤية الله ليس الأعداء الذي يُعيّروننا: "أين هو إلهك؟"، وإنما عدم التقائنا مع نفوسنا واجتيازنا للأنا المفسدة لرؤيتنا لله وشركتنا مع شعبه بروح العبادة المفرحة ودخولنا الخيمة الإلهية. يُعلّق القديس أغسطينوس على هذه العبارة قائلًا: [إذ استراحت (استكانت) النفس في ذاتها لن ترى شيئًا آخر سوى ذاتها، وهي بهذا لن ترى الله... إن سكناه هو فوق نفسي، فمن هناك يراني... ويرشدني ويعتني بي، ومن هناك يُصغي إليّ ويدعوني ويوجّهني ويقودني في الطريق إلى نهاية سبلي... يقول إنني سأذهب إلى موضع الخيمة العجيبة، إلى بيت الله! هناك أجد أمورًا عجيبة تحوز إعجابي داخل الخيمة...! خيمة الله على الأرض هم المؤمنون، يعجبني فيهم ضبطهم لأعضائهم الجسدية، وفيهم يُقال: "لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواتها، ولا تقدوا أعضاءكم آلات إثم للخطية بل قدموا... أعضاءكم آلات بِرّ لله" (رو 6: 12، 13)... هناك في مقدس الله، في بيت الله نجد نبع الفهم... في بيت الله عيدٌ لا ينتهي، لأنه هناك نجد مناسبة لا يُحتفل بها مرة واحدة ثم تمضي. هناك الخورس الملائكي يصنع عيدًا مقدسًا في حضرة وجه الله، هناك الفرح الذي لن يسقط!] يرى العلامة أوريجانوس أن نفس المرتل هنا هي العروس التي تَّسبح مزامير المصاعد (مز 120-134) وتتغنى بنشيد الأناشيد، عندما تدخل بيت الله، حجال العريس، إذ يقول: [إنها تأتي كما قلنا إلى حجال العريس لكي تسمع وتتحدث بكل الأمور التي يحويها نشيد الأناشيد[811].] يختم المرتل هذا الاستيخون بقوله: "لماذا أنتِ حزينة يا نفسي؟ ولماذا تقلقيني؟ توكلي على الله، فإني أعترف له. خلاص وجهي هو إلهي" [5]. يدرك المرتل أن سرّ مرارة نفسه وانحنائها ليست تعييرات الأعداء ولا مقاومتهم وإنما ضعفه الداخلي، لهذا فإن فرحها هو في الله مخلصها الذي يقيم وجهها الساقط كما في التراب، يرفعه عن عبودية الزمنيات والارتباك بالأرضيات ليستنير بروح الله القدوس وينعم بالشركة مع السمائيين، أن كانت هي التي تحطم النفس، فالله المخلص وحده هو القادر أن يرد لها بهاءها وخلاصها. هوذا نحن ننعم الآن بمباهج داخلية معينة، ننعم بعين العقل القادرة أن تنظر ولو في لمحة عابرة أمرًا لا يقبل التغيير... "لماذا تئنين فيّ؟ ولماذا أنتِ منحنية؟ إنكِ تشكّين في إلهكِ... "ترجيّ الله"! وكأن نفسه تجيبه سرًا: لماذا أئن فيك، إلا لأنني لم أركض بعد إلى حيث هذا الفرح الذي أُستغرقت فيه كما إلى لحظة؟! القديس أغسطينوس 2. ضيقة وحيرة: "في ذاتي قلقت نفسي، لذلك أذكرك يا رب في أرض الأردن وحرمون من الجبل الصغيرة" [6]. يرى القديس جيروم[812] أن المرتل يذكر الله وهو في الأرض المنخفضة في أرض الأردن أو من الجبل الصغير في حرمون (تعني مُحرّقة)... فإن أي قديس مهما بلغت قداسته يرى نفسه في مذلة كما في أرض الأردن المنخفضة، إذ هو مشتاق أن يرتفع ليبلغ قمم الجبال الشاهقة، بل يبلغ الحياة السماوية. إن كانت هموم العالم التي تتسلل إلى القلب تحدره إلى أرض الأردن فإننا هناك أيضًا نترجى مراحم الله حيث نلتقي بالسيد المسيح الذي أخلى ذاته ونزل إلى مياه الأردن ليهبنا السماء المفتوحة، ويُسمعنا صوت الآب المفرح، ويهبنا عطية روحه القدوس. هذه هي بركات المعمودية، حيث نذكر الله، أو بمعنى آخر نذكر نعمة الثالوث القدوس فينا. من أين أذكرك؟ من الجبل الصغير ومن أرض الأردن. ربما من المعمودية حيث تُوهب مغفرة الخطايا؛ لأنه لا يركض أحد إلى غفران الخطايا إلا الذي يستاء من نفسه (يشعر بعدم ارتواء)، ولا ينال غفران الخطايا إلا الذي يعترف أنه خاطي، ولا يعترف أحد أنه خاطي ما لم يتضع أمام الله. لهذا من أرض الأردن ومن الجبل الصغير تذكرتك. لاحظوا أنه ليس من الجبل العظيم بل الصغير... وإن سألتم عن معاني الكلمات، فإن لفظة "أردن" تعني "نزولهم". انزلوا فترتفعوا، ولا تتشامخوا لئلا تُطردوا... و"حرمون" معناها "محَّرم"، احرموا أنفسكم باستيائكم منها، لأنكم إن كنتم راضين عنها يستاء الله منكم... القديس أغسطينوس يليق بنا أن نذكر الله من أرض الأردن، أي بروح الاتضاع، وخلال بركات المعمودية؛ وأيضًا من الجبل الصغير بحرمون حيث نشعر أن حياتنا كلها بكل إمكانياتها مقدسة لحساب الرب، وفي ملكيته، ليس للعالم أن يجد له موضعًا فيها. أنا صغير ولكنني مقدَّس بالرب وفيه، وذلك بعمل روحه فيّ!ربما يقصد بأرض الأردن وحرمون الراجعين من السبي حيث يبلغون إلى مشارف أرضهم، هناك يقفون يتأملون عمل الله معهم، بعد سبعين عامًا حيث انقطع كل رجاء في العودة وها هو يردهم لبناء الهيكل! إنها صورة كل مؤمن راجع إلى الله بعد سقوطه، يشعر كمن قد تحرر من عبودية السبي وانطلق إلى أرض موطنه السماوي، يقف على المشارف بفرح، ذاكرًا معاملات الله معه، هذا الذي لم يترك نفسه تنحني تحت نير العبودية، بل يهبها حرية مجد أولاد الله عند نهر الأردن! يذكر الإنسان كم من المتاعب قد عانى، ولكن كم من خبرات مراحم الله قد ذاق، لذا يقول مع المرتل: "العمق نادى العمق بصوت ميازيبك، كل تيارتك وأمواجك أتت عليّ. بالنهار يأمر الرب برحمته، وبالليل يظهرها" [7-8]. هذه هي حال الشعب القديم عندما سلط عليهم الآشوريين ثم الكلدانيين لتأديبهم، وهذا هو حال يونان النبي الهارب من وجه الله، إذ صلى وهو في جوف الحوت، قائلًا: "لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار، فأحاط بي نهر؛ جازت فوقي جميع تيارتك ولججك" (يون 2: 3). إنه يسَّبح الله الذي سمح له بضيق وراء ضيق، ليدخل به كما إلى أعماق البحر، لكن الله حوّل له البحر المالح إلى نهر عذب يحيط به، محوّلًا بريته القاحلة إلى جنة مثمرة. هكذا حلت عليه تيارات تأديب الله التي هي في الحقيقة تظهر أبوة الله ورحمته. يرى القديس أغسطينوس أن الأعماق التي تُنادي أعماقًا إنما هي "الحكمة" أو "الفهم"، فكلما حلت ضيقة بالمؤمن دخل في علاقته مع الله إلى خبرة جديدة، وتمتع بفهمٍ لأسرار الله في معاملاته مع محبوبه. يقول الأب أنثيموس أسقف أورشليم: [إن العمق الذي يُنادي عمقًا إنما يشير إلى الكتاب المقدس بعهديه، فمن ينعم بأسرار العهد القديم ويتمتع بأعماقها إنما ينسحب قلبه إلى العهد الجديد ويتعرف على أسراره]. وكما يقول القديس كيرلس: [إن نبوات العهد القديم تُنادي ما يقابلها من تحقيق في العهد الجديد]. يرى القديس كيرلس نقلًا عن أنثموس أسقف أورشليم أن ما ورد في العبارة [8] يشير إلى ما حدث في أيام حزقيال عندما حاصره الآشوريون، فبالنهار أمر الرب بالرحمة، وبالليل أرسل ملاكه وقتل 185.000 من رجالهم (2 مل 19: 32-35). ويُعلّق العلامة أوريجانوسعلى القول: "بالنهار يأمر الرب برحمته، وبالليل تسبحته"، أن النهار يُشير إلى الحياة الأبدية التي بلا ليل حيث ندرك مراحم الله في أعماقها العجيبة، أما حياتنا الزمنية هنا فهي كليل لكنه مفرح، فيه نسبح الله ونظهر مجده لأنه وعدنا بمراحم أبدية أكيدة. على أي الأحوال فإن مراحم الله غير منقطعة، يأمر بها في النهار ويكشف عنها في الليل حيث الضيق والألم والتجارب. نمجده في النهار حيث نسمع وعده، ونسبحه في الليل حيث يتجلى وسط المتاعب. تأتي تسبحتنا وسط الآلام هكذا: "أقول لله: إنك أنت هو ناصري. لماذا تركتني عنك؟! ثم لماذا نسيتني؟ ولماذ أجوز كئيبًا إذ يحزنني عدوي عن ترضيض عظامي؟!" [9-10]. عندما يدخل الإنسان تحت التأديب يظن كأن الله قد نسيه أو تخلى عنه مع أنه سند أولاده وناصرهم حتى وسط التأديب. يرى القديس أغسطينوس إن هذه الكلمات هي صرخات السيد المسيح على الصليب، القائل: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟"... [هكذا صرخ رأسنا كمن يتكلم باسمنا (مت 27: 46؛ مز 22: 1]. يختم المرتل المزمور معلنًا إنه وإن كانت عظامه قد ترضضت أو انسحقت بسبب فرط ضيقة وشدة مرارته، ونفسه قد انحنت في أنين، لكنه بفرح يترجىّ الله مخلصه. دموعي صارت لي خبزًا! إليك تشتاق نفسي أيها الينبوع الحيّ، فإني كالإيل التي تسرع نحو جداول المياه، وفي طريقها تُصارع مع الحيَّات فيزداد عطشهاّ هب لي هذا الشوق الحقيقي فأجري إليك، في غربتي، أحطم بصليبك الحية القديمة، وآتي وأتراءى قدامك، واستريح في أحضانك! حنيني يزداد لهيبًا... من يقدر أن يطفئه؟! دموعي صارت لي خبزًا، فأزداد عطشًا إليك! دموعي لن تجف نهارًا، ولا تتوقف ليلًا! أسكبها وسط أفراحي، كما في ضيقاتي، لا أخجل منها وسط كل المحيطين بي، ولا أُحرم منها في خلوتي الخفية معك! إنني أهوى هذه الدموع العذبة! بسيل دموعي غير المنقطع أعلن ذكراك الدائم في داخلي، أذكرك فتذكرني يا من نقشت اسمي على كفك! هب لي ألا أنساك قط حتى لا أسمع: لماذا تنساني، وإن نسيتني أنا لا أنساك! إني أذكرك، وأذكر أعمالك معي، فأنعم برؤياك وأشترك مع شعبك في حياة التسبيح! أذكرك في داخلي، فأراك ساكنًا فوق نفسي كما على مركبتك النارية، أنعم بك، تتطلع إليّ وتقودني وتحملني إليك! أدخل إلى خيمتك المقدسة، إلى بيتك، إذ تقيم نفسي خيمة ومقدسًا لك! هناك أفرح، ولن يقدر أحد أن ينزع فرحك مني! دموعي لن تجف من أجل غنى كلمتك التي تهبني إياها؛ إذ أشاهد أعماقًا تُناي أعماقًا، أرى نبوات العهد القديم وقد اكتشفت أسرارها، تتحقق في العهد الجديد! مع كل صباح أنصت إلى وعودك، وإذ يحل المساء أدخل في ضيق فأكتشف مراحمك. تبقى أنت ناصري ومخلصي، تشدد عظامي التي رضضها العدو، وترفع نفسي التي انحنت في أنين مُرّ. لك المجد يا مخلصي، فأنت وحدك تقدر أن تمسح دموع نفسي الخفيّة! |
||||
23 - 01 - 2014, 04:44 PM | رقم المشاركة : ( 45 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 43 (42 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير أحكم لي يا ربقلنا إن المزمورين 42 و43 يمثلان صرخة واحدة سجلها داود النبي وقدمها لبني قورح لتلحينها؛ في المزمور 42 يتحدث عن الماضي والحاضر أما المزمور 43 فيُعبر عن المستقبل. إنه مرثاة لها وجهان: وجه مُرّ وآخر مبهج، إذ يرى المرتل الآلام تنتظره لكن ليس بدون أمجاد، لهذا يُعبر المزمور عن شركة الآلام مع المسيح وخبرة مجد قيامته وبهجتها. يُقدم لنا الآباء ثلاثة تفاسير للمزمور: 1. يمثل المزمور لسان حال الراجعين من السبي البابلي[813]، وهو يتحدث بصيغة المفرد، إما لأن الراجعين يمثلون الشعب الواحد، أو لأن الراجعين كانوا قلة قليلة... وقد تهللت نفس الراجعين بنور الله وحقّه عندما انطلقوا بفرح إلى جبل الله، مشتاقين للتمتع بالمذبح المقدس، والتَّرنم بقيثارة الروح. 2. يرى العلامة أوريجانوس[814]والقديس أثناسيوس أنه مزمور السيد المسيح المتألم، الذي يُعاني من ظلم اليهود، الأمة غير البارة، ومن خيانة يهوذا، الإنسان الظالم الغاش... إذ حمل خطايانا صار كمن هو متروك من الآب، يُعاني في البستان من الحزن الشديد، إذ قبل كأسنا المُرّ! بالصليب دخل بنا إلى المذبح الإلهي الفريد، ووهبنا روح الفرح والتسبيح عوض الأنين والحزن! 3. يرى القديس أغسطينوسأن هذا المزمور هو حديث صادر عن النفس البشرية التي تشتكي من أمرين: الخطية كعدو داخلي، والأشرار كأعداء خارجيين. لكنها وجدت الله مخلصها الذي يرفعها إلى كنيسته، جبل المقدس ومسكنه، لتجد في ذبيحته الكفارية وفي سرّ الأفخارستيا ما يرد لها شبابها، فتفرح وتتهلل، لتقدم بكل حياتها سيمفونية حب عوض الحزن الشديد والمرارة. العنوان: في النسخة العبرية ليس لهذا المزمور عنوان، ربما لكونه تكملة للمزمور السابق. وجاء عنوانه في الترجمة السبعينية: "مزمور لداود"؛ أما في السريانية: "مزمور لداود عندما أبلغه يوناثان أن شاول يود قتله، وصلاة للنبي، وهو أيضًا يستخف باليهود". الإطار العام: 1. أحكم لي يا رب [1-2]. 2. التمتع ببيت الخلاص [3-4]. 3. الله مخلص وجهي [5]. في بيت الخلاص! 1. أحكم لي يا رب: "أحكم لي يا رب وانتقم لمظلمتي من أمة غير بارة؛ ومن إنسان ظالم غاش نجني" [1]. إنها تعزية فائقة لا يمكن التعبير عنها أن نكون قادرين أن نسأل الله كي يقضي لنا، فإن قضاءه حق، بغير محاباة، يتم ليس حسب المظاهر بل حسب القلب. من يقدر أن يُسلم طريقه لله بضمير صالح لا يخشى شيئًا. فإنه إذ لا يستطيع الأبرار أن يستخدموا الغش والظلم، الأسلحة التي يوجهها الأشرار ضدهم، لهذا فإن ملجأهم الوحيد هو الله؛ عندما يكون في صفهم لن يصيبهم ضرر حقيقي. إنني لا أخشى قضاءك، لأنني أعرف رحمتك. إنه يصرخ: "أحكم لي يا الله". الآن، إذ أنا في حالة تغرُّب لم تفصل (يا الله) مكاني (عن مكان الأشرار)، إذ يجب عليّ أن أعيش مع الزوان إلى وقت "الحصاد". إنك لا تفصل بين المطر الذي ينزل عليّ ومطرهم، لكنك تفصل في قضيتي. لتُميز بين من يؤمن بك ومن لا يؤمن. فضعفنا مساوٍ، لكن ضمائرنا ليست واحدة. آلامنا واحدة، لكن اشتياقاتنا ليست هكذا. اشتياق الشرير يُباد، أما اشتياق البار فكان يمكن الشك فيه لو أن الذي وعد غير مضمون، لكن موضوع اشتياقنا هو الله نفسه الذي يَعِد. القديس أغسطينوس يرى الأب أنثيموس أسقف أورشليم أن الحديث هنا يمثل صرخة إنسان بار مثل دانيال وهو في مرارة السبي، فإنه ليس من ينقذه وينقذ شعبه إلا الله وحده. يرى نفسه محوطًا بالأشرار سواء على مستوى الجماعة أو الأفراد، فهو في وسط أمة وثنية لا تعرف برّ الله؛ كل واحد منهم هو "إنسان ظالم غاش". أما أوريجانوس فيقول: [إن هذا القول هو من قبل ربنا يسوع المسيح الذي يلتمس المحاكمة بينه وبين اليهود، فيدعوهم أمة غير بارة، وعن الإنسان الظالم الغاش فهو يتكلم عن يهوذا مسلمه]. على أي الأحوال هذا القول ينطبق على الكنيسة جسد المسيح المتألم، كما هاجمته خاصته التي أحبها، وخانه تلميذه الذي أكل خبزه، هكذا كل عضو في جسده يتعرض للهجوم، فيتحقق فيه القول: "أعداء الإنسان أهل بيته". لنصرخ إلى الله حين يهيج قوم علينا أو أفراد، أحباء أو أعداء، متأكدين أننا أبناء الله موضع اهتمامه، نُنسب إليه وينسب نفسه إلينا بكونه إلهنا. "لأنك أنت هو إلهي وقوتي. لماذا أقصيتني؟ ولماذا أسلك كئيبًا إذ يحزنني عدويّ؟" [2]. يصرخ المرتل إلى الله بكونه إلهه الشخصي وقوته، فإن كان الكل قد فارقه أو صار مقاومًا له لكن يبقى الله وحده الملاصق له بكونه إلهه بل وقوته... فبدالة يصرخ: "لماذا أقصيتني؟" أو "لماذا تركتني؟". من حقي أن ألتجئ إليك وأعاتبك... فلا تتركني في حزني. إني أذهب حزينًا: فالعدو يزعجني بتجارب يومية، إما بحب دنس أو خوف بلا سبب. والنفس التي تقاومهما تتعرض لخطرهما حتى وإن كانت ليست تحت أسرهما، لذا تنقبض من الحزن وتقول لله: "لماذا؟". لماذا تسأل: "لماذا أقصيتني؟ لماذا أسلك حزينًا؟" فقد سمعت: "إنه بسبب الإثم". الإثم هو علة الحزن، فليكن البرِّ علة ابتهاجك! إنك تشتكي من العدو؛ هذا حقيقي فإنه يُضايقك، لكنك أنت الذي أعطيته الفرصة. الآن يوجد سباق مفتوح أمامك: اختر سباق الحكمة، انضم إلى ملكك، وأوصد الباب في وجه الطاغية. القديس أغسطينوس هذا ويلاحظ أن المرتل حتى في شكواه لله ضد العدو يقول: "لماذا أسلك (أسير) كئيبًا؟" لم يقل: "لماذا أنا محاصر في الحزن؟" بل "لماذا أمشي حزينًا؟" فإن أولاد الله لا يعرفون التوقف حتى إن حاصرتهم ضيقات من كل جانب بل هم دائمًا سائرون في الطريق الملوكي، الضيق بالنسبة للمؤمن الحقيقي يدفعه بالأكثر للعمل بل وللركض حتى يبلغ جعالة الله العليا. حين وقف العالم كله ضد القديس أثناسيوس لم يتراخ عن الجهاد بل قال في يقين واتكال على مخلصه: [وأنا ضد العالم]. ولم تتوقف القديسة مونيكا عن حركة العمل بالرغم من مقاومة زوجها وحماتها وأولادها حتى الخدم لها... وقدمت لنا بجهادها الروحي المستمر القديس أغسطينوس ثمرة دموعها. 2. التمتع ببيت الخلاص: إذ صرخ المرتل إلى الله إلهه ومخلصه وقوته معلنًا أنه يبقى سائرًا في الطريق الملوكي بالرغم من محاصرة الأحزان له ومضايقات الأعداء المستمرة له... الآن يطلب الله نورًا له يهديه إلى كنيسته بكونها بيته المقدس، بيت الخلاص. "ارسل نورك وحقك فإنهما أهديانني وأصعداني إلى جبلك المقدس وإلى مسكنك (خيامك)؛ فأدخل إلى مذبح الله تجاه وجه الله، الذي يفرح شبابي" [3-4]. أ. ما هو النور والحق اللذان يهديانني ويرتفعان بي للبلوغ إلى القمة جبل الله إلا السيد المسيح الذي هو "نور العالم" وهو "الحق". كثير من الآباء يرون أن النور هو الحب، والظلمة هي البغضة أو الكراهية؛ وكأن السيد المسيح وهو النور والحق يهبنا روح الحب الحقيقي لينتشلنا من ظلمة هذا العالم، ويحملنا إلى نور سمواته. لن نستطيع أن ندخل إلى العضوية الكنسية، كأعضاء في جسد المسيح ما لم نقبل الاتحاد مع المسيح الرأس، فيكون لنا نورًا وحقًا وحبًا. فإن هذا "النور" وذاك "الحق" هما في الحقيقة اثنان يُعبران عن حقيقة واحدة. لأنه ما هو نور الله إلا حقه؟ أو ما هو حق الله إلا نوره؟ شخص المسيح الواحد هو كلاهما. "أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة" (يو 12: 46)؛ "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). هو نفسه "النور"، وهو نفسه "الحق". ليأتِ ويُخلصنا ويفصل في قضيتنا مع أمة غير بارة، وينقذنا من إنسان غاش وظالم. ليفصل الحنطة من الزوان، فإنه في وقت الحصاد سيرسل بنفسه ملائكته لكي يجمعوا من ملكوته كل أثيم ويطرحونه في لهيب نار، بينما يجمعون الحنطة معًا في الهري. القديس أغسطينوس يقول الأب أنثيموس أسقف أورشليم: [يقول النبي: "نور" ويعني "الفرح"، لأن الضيق والحزن هما قتام يظلم القلب؛ ومعناه ارسل فرحك الحقيقي وعونك ليبلغا بي إلى جبل صهيون وإلى مساكنك، أي إلى هيكل قدسك. وهذه هي طلبة المسبيين في بابل، الذين يلتمسون الاطلاق من أسرهم]. وأما القديس أثناسيوس الجليل فيقول: [إن هذه هي طلبة الأنبياء إلى الله الآب لكي يرسل ابنه الوحيد ربنا يسوع المسيح القائل: "أنا هو نور العالم، الذي يهدينا إلى أعلى السماء وإلى المساكن السماوية]. ويقل أوريجانوس: [إن جبل قدس الله هو ملكوته. وأما المساكن فهي مساكن القديسين، لأن ربنا له المجد يقول إن في بيت أبي منازل كثيرة]. ب. إن كان قبلًا في أنينه يقول: لماذا أسلك كئيبًا؟ فإنه لا يكتفي بالسلوك أو مداومة السير في الطريق الملوكي، إنما يطلب عونًا إلهيًا وتدخلًا إلهيًا لكي "يصعد"... هذا هو عمل السيد المسيح "المربي"، يهبنا روحه القدوس الذي يصعد بنا إلى جبله المقدس وإلى مسكنه، أي إلى الحضرة الإلهية (الجبل المقدس)، وإلى شركة القديسين بكونها سكنى الله وسط شعبه. يرى البعض أن ذكر "جبل الله" و "مسكن (خيام) الله" يُشير إلى أن الكاتب لا يمكن أن يكون قبل داود النبي ولا بعد سليمان، فقبل داود لم يكن يُعرف جبل مقدس لله، وبعد سليمان لم تُعرف الخيمة حيث بُني الهيكل. أما ذكر "خيام" بالجمع فلأنه في أيام داود النبي وُجدت خيمتان للعبادة الإلهية، واحدة في صهيون كما تكرر في الكتاب المقدس وأخرى في جبعون (1 أي 16: 37-39). على أي الأحوال لم يفصل الآباء حبنا لله عن تقديرنا لبيته، حتى في الغرب يحذر بعض الدارسين من تجاهل الارتباط ببيت الرب. يقول أحدهم إن من ليس فيه حب بيت الله هو بلا تقوى[815]، ويقول آخر[816]. إن الذين يقتادهم الله إنما يقتادهم إلى جبله المقدس وإلى خيامه، أما الذين يتظاهرون أن الروح يقتادهم (تاركين الكنيسة بيت الله) ينتكصون على أعقابهم، مخالفين الوصايا المكتوبة، هؤلاء بكل تأكيد يخدعون أنفسهم. جبله المقدس هو كنيسته المقدسة، ذلك الجبل الذي بحسب رؤيا دانيال كان حجرًا صغيرًا جدًا حطّم ممالك الأرض، نمى حتى غطى وجه الأرض. من كان خارج هذا الجبل لا يترجى الحياة الأبدية، فإن كثيرين يجتهدون في صلواتهم لأسباب كثيرة، لكن يلزمهم ألا يفرحوا بهذا الاجتهاد، لأن الشياطين أيضًا كانت نشيطة في صلواتها حين طلبت إرسالها لتدخل في الخنازير. لنشتهِ الجهاد لأجل بلوغ الحياة الأبدية، وبهذا الاشتياق نقول: "إرسل نورك وحقك". الخيمة هي للرُّحل وأما المسكن فهو للذين هم في شركة واحدة. الخيمة هي لأهل البيت ولمن هم في حالة حرب، لهذا عندما تسمع عن أخبار خيمة وتدرك وجود حرب احترس من العدو! القديس أغسطينوس ج. يُدعى بيت الله بيتًا للخلاص لأنه يقوم على ذبيحة الصليب بكونها سرّ المصالحة مع الله وتمتع بالاتحاد معه. لهذا كانت أنظار المرتل متجهة إلى المذبح، إذ يقول: "فأدخل إلى مذبح الله تجاه وجه الله". عندما نتحدث عن المذبح الذي يظهر في الهيكل فإننا نشير أيضًا إلى مذبح آخر يُقام داخل نفوسنا، ليس هو آخر بل هو واحد معه. (صلسس) لم يدرك أن نفس كل إنسان صالح منا إنما هي مذبح يرتفع منه بخور، بالحق والروح ذو رائحة ذكية، أي الصلوات بضمير نقي... في اختصار نقول إن جميع المسيحيين يُجاهدون في إقامة مذابح وتماثيل (مثل الكاروبين) من هذا النوع، ليست بلا حياة أو بلا مشاعر، بل هي قادرة على تقبل روح الله[817]. العلامة أوريجانوس نحن نفهم روحيًا أن الإيمان هو مذبح هيكل الله الداخلي، وإليه يرمز الهيكل المنظور. فكل عطية نقدمها لله، سواء نبوة أو تعليم أو صلاة أو تسبحة أو ترنم بالمزامير أو أي عطايا أخرى روحية نابعة عن الذهن، لن يقبلها الله إن لم تقدم بإيمان صادق، فتوثق تمامًا وتُثبَّت على هذا المذبح بغير حراك، عندئذ تخرج كلماتنا نقية بلا دنس[818]. القديس أغسطينوس المذبح السماوي الذي يقوم بيننا هنا هو اجتماع الذين كرسوا حياتهم للصلاة، فيكون لهم صوت واحد وفكر واحد[819]. القديس أكليمندس الإسكندري يدعو القديس أغناطيوس الأنطاكي[820] الكنيسة "مكان الذبيحة Thysiasterion" في أكثر من موضع، وذلك حين كتب رسائله وهو في طريقه إلى الاستشهاد. لقد عرف الكنيسة بكونها حياة مع السيد المسيح الذبيح، تتمتع بالأفخارستيا، جسد الرب ودمه، هبة المذبح للمؤمنين، وها هو ينطق ليُقدم حياته ذبيحة حب على مذبح الله خلال الاستشهاد.وكأن الكنيسة في حقيقتها هي الجلجثة التي تعلن الحب المتبادل بين الله والإنسان، فيها تُعلن ذبيحة المسيح الكفارية الفريدة على المذبح المقدس، وفيها أيضًا يشتهي المؤمن أن يموت كل النهار من أجل محبوبه الذبيح. هذا ما عبَّر عنه القديس أغسطينوس قائلًا[821]: [إنها الذبيحة الجامعة، يُقدمها الكاهن الأعظم لله، هذا الذي قدم نفسه بالآلام من أجلنا لكي يجعل منا جسدًا لرأس عظيم كهذا. هذه هي ذبيحة المسيحيين، حيث يصير الكل في المسيح يسوع جسدًا واحدًا فريدًا. هذا ما تُقدسه الكنيسة خلال سرّ المذبح! فإنها وهي ترفع القرابين لله تُقدم نفسها قربانًا له...!]. كما يقول: [لأنه يوجد في السماء مذبح معين غير منظور، لن يدنو منه الإنسان الشرير... ما هو نوع الذبيحة هناك؟ الذي يدخل هناك هو نفسه يُقدم ذبيحة محرقة]. د. إذ يدخل المرتل بيت الخلاص يترنم، قائلًا: "الذي يفرِّح شبابي" [4]. تحوَّل إلى شاب متهلل للروح لا يقدر الزمن أن يدخل به إلى الشيخوخة العاجزة، ولا الأحداث المُرّة أن تفقده فرحة الشباب. يرى القديس أغسطينوس أننا في هذا العالم كمن في حالة شيخوخة محزنة، لكن الله يعمل فينا ليدخل بنا إلى تجديد أبدي مفرح حيث نسمع قول السيد: "ها أنا أصنع كل شيء جديدًا" (رؤ 21: 5). نحن نختبر فرح الشباب خلال تجديد الطبيعة الذي نلناه في مياه المعمودية بالروح القدس الذي يجدد مثل النسر شبابنا، ويبقى الروح عاملًا فينا واهبًا إيانا تجديدًا مستمرًا خلال التوبة الدائمة وشركة الحياة مع الله، حيث نخلع أعمال الإنسان العتيق ونلبس أعمال الإنسان الجديد. يقول الرسول: "إذًا إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة؛ الأشياء العتيقة قد مضت؛ هوذا الكل قد صار جديدًا" (2 كو 5: 17). 3. الله مخلص وجهي: إذ ينعم المرتل بالخلاص خلال كنيسة المسيح، موضع الذبيحة، وبيت الخلاص، يترنم بفرح قائلًا: "أعترف لك بالقيثار يا الله إلهي. لماذا أنتِ حزينة يا نفسي؟ ولماذا تزعجينني؟ توكّلي على الله فإني أعترف له. خلاص وجهي هو إلهي" [5-6]. أ. إذ يدخل المرتل إلى الكنيسة يجد ما هو عام خاص به، فالله إله الكنيسة كلها هو إلهه الشخصي... لذا يُكرر تعبير "الله إلهي". وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بدافع من حبه الشديد يمسك بالأمور العامة ويعتبرها خاصة به، كما اعتاد الأنبياء أن ينطقوا من وقت إلى آخر[822]]. ب. رفض اليهود المسبيين أن يعزفزا للرب التسابيح بآلات موسيقية علامة حزنهم وانتظارهم العودة إلى أورشليم مدينة الله المفرحة، وقد قيل في المزامير: "على أنهار بابل هناك جلسنا، فبكينا عندما تذكرنا صهيون. على الصفصاف في وسطها علقنا أداة ألحاننا (قيثارتنا)، لأنه هناك سألنا الذي سبونا أقوال التسبيح. والذين استاقونا إلى هناك قالوا: سبحو لنا تسبحة من تسابيح صهيون. كيف نسبح تسبحة الرب في أرض غريبة؟!" (مز 136 "137"). إذن العزف للرب بالقيثارة إنما يعني العودة إلى أورشليم حيث يمارس المؤمنون تسابيحهم ببهجة قلب. القيثارة كما سبق فرأينا تُشير إلى جسد المؤمن متى سلمه في يدي الروح القدس ليعزف على أوتاره تسبحة الحب والقداسة، فتشهد أعضاؤه وأحاسيسه ومشاعره وكل طاقاته لعمل الله وبره! يرى القديس أغسطينوس أنه يليق بنا أن نضرب على القيثارة والعود بطاعتنا للوصايا واحتمالنا الآلام... بهذا نسبح الله! أخيرًا إذ ينعم المرتل بعطايا الله ومخلصه، يطلب من نفسه ألا تبقى بعد منحنية ولا في أنين بل ترتفع وجهها لترى وجه الرب... تلتقي مع عريسها المخلص لتبقى معه في سمواته كما في بيت العريس الأبدي! في بيت الخلاص! حينما يقف الكل ضدي، أراك أيها المخلص تفتح لي جنبك المطعون، وتدخل بي إلى أسرار حبك، وتحسبني أهلًا للسكنى معك في مقدسك! ليعمل عدو الخير كل ما في وسعه، فإنني وإن امتلأت كآبة، لكنني فيك أسير متهللًا، ترفعني إلى بيتك، وتدخل بي إلى مذبحك، فأحسب نفسي لست أهلًا أن أتألم من أجلك! قدمت حياتك ذبيحة حب كفارة عن خطاياي، إقبل حياتي ذبيحة محرقة لأجلك! في بيتك أتمتع بمذبحك الإلهي، أتناول جسدك ودمك المبذولين عني! أقم مذبحك في أعماقي، ولتشتم عبادتي بخورًا طيبًا يصعد إلى سمواتك! لماذا تئن نفسي في داخلي، وها أنت تشتاق أن تراني، تحملني بروحك القدوس إلى سمواتك؟! لك المجد أيها الحبيب والمحبوب، فإنني أترقب يوم لقاك؛ أراك وجهًا لوجه وأنعم بشركة أمجادك! |
||||
23 - 01 - 2014, 04:48 PM | رقم المشاركة : ( 46 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 44 - تفسير سفر المزامير حُسبنا مثل غنم للذبحالمناسبة: زمان ضيقة حلّت بالشعب كله [9-14]، ليس بسبب ارتداد أو سقوط في العبادة الوثنية [17-21]، وإنما كانت اختبارًا للإيمان. فالمزمور يمثل صرخة شعبٍ متألم لأجل البِرّ، وهي صرخة تبقى تدوي عبر العصور منذ أباك آدم حيث قتل قايين هابيل بلا ذنب، لها صداها حتى في الفردوس حيث يصرخ الشهداء الذين قُتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة إلى كانت عندهم، قائلين: "حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض؟!"... وقيل لهم أن يستريحوا زمانًا يسيرًا أيضًا حتى يكمل العبيد رفقاؤهم وأخوتهم أيضًا العتيدون أن يُقتلوا مثلهم" (رؤ 6: 9-11). إنه موكب الأجيال كلها. يُعتبر هذا المزمور نموذجًا للدخول في الآلام على مستوى الشعب لا للتأديب بل للمشاركة في الحب الإلهي، إذ نقول: "لأننا من أجلك نُمات كل يوم، وقد حُسبنا مثل الغنم للذبح" [22]. ويعتبر هذا المزمور مثلًا حيًا لحياة الشركة الجماعية مع ممارسة العلاقات الشخصية مع الله... فكثيرًا ما يتحدث المرتل باسم الجماعة دون تجاهل لحديثه الشخصي مع الله ملكه وإلهه... إذ يقول: "أنت هو ملكي وإلهي الذي أمرت بخلاص يعقوب" [4]؛ فهو يصرخ إلى إلهه من أجل الكنيسة (يعقوب) كلها! الإطار العام: 1. معاملات الله في الماضي [1-3]. ليس بسيفهم ورثوا الأرض ولا ذراعهم خلصهم سرّ نصرتنا هو كلمة الله المتجسد 2. قرن خلاص دائم [4-8]. 3. امتحان الإيمان الحاضر [9-16]. الشعور بالهزيمة المرة لم يسمح الله بالضيقة لنفع خاص به 4. كلمة عتاب [17-22]. 5. صرخة من أجل الخلاص [23-26]. من أجلك نُمات كل النهار 1. معاملات الله في الماضي: يُستهل هذا المزمور بتسبحة جماعية يترنم بها الشعب وسط الضيق، حيث يتطلع الكل إلى معاملات الله في الماضي، فيقولون: "اللهم بآذاننا قد سمعنا؛ وآباؤنا أخبرونا بالعمل الذي عملته في أيامهم في الأيام الأولى" [1]. يعود الشعب كله بذاكرته إلى معاملات الله مع آبائهم في أيام موسى النبي ويشوع بن نون حين حررهم الله من عبودية فرعون وطرد أمامهم أممًا وقدم لهم أرض الموعد، لا بسيفهم ولا بقدرتهم، وإنما حسب غنى مواعيد الله. إنه عمل نعمة الله الغنية في بدايته كما في نهايته. الماضي بالنسبة لنا كأولاد لله ليس تاريخيًا عبر وانتهى، لكنه خبرة ممتدة عبر الزمن يعيشها الإنسان مع الله مخلصه المعتني به. الله بالنسبة لنا هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، عمل في الماضي ولا يزال حيًا يعمل في الحاضر مؤكدًا صدق مواعيده معنا حتى يدخل بنا إلى شركة أمجاده المقبلة. يقول "الهّم بآذاننا قد سمعنا" يعني أن ما بلغهم من آبائهم عن معاملات الله معهم هو أمر أكيد خالٍ من كل ريب. إنه من واجب الآباء أن يقدموا لأبنائهم خبرة حياتهم مع الله بكونها وديعة الإيمان الحيّ العامل عبر الأجيال، التقليد المُسلم مرة للقديسين، تعيشه الكنيسة عبر الأجيال لتختبر الحياة الإنجيلية الفعّالة. ويليق بالأبناء أيضًا أن يتلقنوا هذه الخبرة المعاشة، والإنجيل العملي ليعيشوه كما عاشته الأجيال الأولى. يقول موسى النبي: "سل أباك فيخبرك" (تث 32: 7). يُقدم لنا الأب بابياس أسقف هيرابوليس تلميذ القديس يوحنا الإنجيلي خبرته فيقول: [لا أتردد في أن أضيف ما تعلمته وما تذكرته جيدًا من تفاسير تسلمتها من الشيوخ، لأني واثق من صحته تمامًا... فإنني ما ظننت أن ما يُستقى من الكتب يفيدني بقدر ما ينقله الصوت الحيّ الباقي[823]]. ما هي الخبرة التي ذاقها المرتل مع الشعب؟ "يدك استأصلت أممًا وغرستهم، أضررت بالشعوب وأخرجتهم. لأنه ليس بسيفهم ورثوا الأرض، ولا ذراعهم خلصهم. لكن يمينك وذراعك وضوء وجهك، لأنك سررت بهم" [2-3]. 1. أول هذه الخبرات هي أن يد الله استأصلت أممًا وثنية ليغرس شعبه. هذه هي خطة الله في حياة الإنسان، يريد أن يستأصل كل مملكة فاسدة في القلب ليقيم ملكوته داخله (لو 17: 21). ما هي يد الله التي تستأصل لتغرس إلا الكلمة الإلهي، الذي به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان (يو 1: 3). الكلمة الخالق والعامل تجسد لأجلنا ليطرد عنا الطبيعية الفاسدة ويغرسنا فيه أعضاء جسده المقدس. لقد عرفت الشياطين رسالة السيد المسيح، الكلمة المتجسدة، لذلك أثناء خدمته كانت تصرخ: "أتيت لتطردنا!". حقًا لقد جاء لكي يُحطم مملكتهم ويطردهم من قلب الإنسان كما من السماء ليعلن مجده السماوي فينا. لهذا قال للتلاميذ: "رأيت الشيطان ساقطًا من السماء كالبرق". 2. "ليس بسيفهم ورثوا الأرض ولا ذراعهم خلصهم". هذه هي خبرة أولاد الله عبر العصور، فإن شعبه لم يتحرر من عبودية فرعون بذراع بشري ولا بسيف مادي، وإنما بدم الحمل واهب الخلاص. قال موسى للشعب: "لا تخافوا؛ قفوا وانظروا خلاص الرب الذي يصنعه لكم اليوم... الرب يُقاتل عنكم وأنتم تصمتون" (خر 14: 13، 14). وقد رنم الكل قائلين: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر؛ الرب قوّتي ونشيدي؛ وقد صار خلاصي... الرب رجل حرب" (خر 15: 1-3). لم يغلب موسى عماليق بالسيف وإنما ببسط يديه كما على مثال الصليب. وعند دخول يشوع أرض الموعد حطم أسوار أريحا لا بالسيف بل بأبواق الهتاف وتابوت العهد (يش 6: 4). وقال داود الصبي لجليات الجبار: "أنت تأتي إليّ بسيف وبرُمح وبترس؛ وأنا آتي إليك باسم رب الجنود" (1 صم 17: 45). لسنا نرث أرض الموعد، أورشليم العليا، بسيفنا وإنما بسيف الرب الخارج من فمه (رؤ 1: 16؛ 19: 15) القادر أن يفصل الحق عن الباطل، يبتر فينا ما هو دنس. 3. سرّ النصرة هو يمين الرب وذراعه وبهاء وجهه [3]. "يمينك" هو قوتك، ذراعك هو ابنك ذاته، ونور وجهك. ماذا يعني هذا إلا أنك كنت حاضرًا معهم؛ بمعجزات مثل هذه أُدرك حضورك. فإنه عندما يظهر حضور الله بأية معجزة هل نرى وجهه بعيوننا؟ لا، وإنما بفاعلية المعجزة يقترب بحضرته إلى الإنسان. القديس أغسطينوس سرّ نصرتنا هو كلمة الله المتجسد فهو: أ. يمين الآب، أي قوته؛ بكونه كلمة الله العاقلة أو عقل الله الناطق. يقول العلامة أوريجانوس[824]: [إنه دُعي هكذا لأن به صنع كل الكائنات مُظهرًا قوة الله]. ب. ذراع الرب، لأن كل عطية إلهية هي من عند الآب بالابن في الروح القدس. هي عطية واحدة يُقدمها الآب بتدبيره، ويحققها الابن الكلمة العاقلة، لذا دُعي ذراع الآب أو يده. عندما يقول الكتاب إن الرب بسط يده أو شمر عن ذراعه، إنما يقصد بذلك التجسد الإلهي، حيث نزل إلينا مخبرًا إيانا عن خطة الآب وحبه وعمله[825]. ج. بهاء وجه الآب، وكما يدعوه الرسول: بهاء مجده" (عب 1: 2). فهو بهاء النور، وواحد معه؛ إذ لا يمكن أن يكون النور نورًا بغير بهاء، ولا وجود للبهاء بدون النور... لهذا قيل أيضًا عنه: "نور من نور"، لأنه هو البهاء الصادر عنه أزليًا غير منفصل عنه في ذات الجوهر[826]. 4. لعل من أروع الخبرات التي يتسلمها أولاد الله من خلال معاملاته مع مؤمنيه عبر التاريخ أنهم موضع سرور الله. هذا ما عبر عنه المرتل بقوله: "لأنك سررت بهم" [3]. الله ليس في عوز إلينا، إنما هو الحب المعطاء، الذي يود أن يعطينا شركة الحياة معه، لا لسبب آخر سوى أننا موضع سروره. إذ أخطأنا إليه جاء كلمة الله المتجسد ليقدم نفسه ذبيحة حب وطاعة فيشتمَّها الآب رائحة سرور ورضا حتى إذ نصير أعضاء جسده نُحسب موضوع سروره ورضاه، نازعًا لعنة الخطية عنا! 2. قرن خلاص دائم: إذ يعتز المرتل بمعاملات الله مع شعبه في الماضي يحوّل هذه الخبرة إلى واقع حاضر حيّ، باختبار خلاص الله كحياة حاضرة مُعاشة. 1. خلاص جماعي شخصي، يرى في الله العامل في التاريخ كله أنه ملكه الشخصي وإلهه، وفي نفس الوقت خلال حياة الشركة الشخصية يطلب المرتل باسم الجماعة (يعقوب)، إذ يقول: "أنت هو ملكي وإلهي، الذي أمرت بخلاص يعقوب" [4]. خلال العلاقة الشخصية التي تربط المرتل بالله إله كل البشرية، حاسبًا إياه ملكه وإلهه صارت له ملء الدالة أن يطلب الله بوعوده... فقد وعد بخلاص شعبه، إذ يقول له: "أنت أمرت بخلاص يعقوب". ما أجمل أن يستغل المؤمن دالته لدى الله لا لنفعه الخاص بل لبنيان الجماعة كلها، وخلاص الغير؛ فحينما ننسى أنفسنا نحبها، وحينما نطلب من أجل الغير ننال لحسابنا أكثر مما نسأل وفوق ما نطلب. 2. إذ نتمسك بدالة بوعود الله مع شعبه نحمله "قوة لنا"، به ننال الغلبة على عدو الخير الذي لا يكف عن أن يشتكي ضدنا. "بك نذبح أعداءنا، وباسمك نرذل كل الذين يقولون علينا" [5]. لا يميز المرتل بين "الله" و"اسم الله"، فبالله نذبح أو ننطح أعداءنا، وباسمه نرذِل المشتكين علينا أو ندوس على مقاومينا. لأن اسم الله إنما يعني الحضرة الإلهية! من هم أعداؤنا الذين نذبحهم إلا أعمال الإنسان القديم؟! ومن هم الذين نرذلهم إلا الخطايا والأرواح الشريرة؟! فالمؤمن الحقيقي إذ يقبل الله ملكًا يُسلم حياته الداخلية وجسده وسلوكه وممتلكاته لحساب الملك، فيعيش في ملكوت الله الذي لا يعرف الفشل أو الهزيمة. 3. نفتخر بالله مخلصنا، ونعترف باسمه، ونمجده من أجل أعماله معنا. "لأني لست بمتكل على قوسي، وسيفي لن يخلصني. لأنك أنت الذي نجيتنا من الذين يحزنوننا. وأخزيت الذين يبغضوننا. بإلهنا نفتخر اليوم كله. وباسمك نعترف إلى الدهر" [6-8]. إذ أنت ملكنا يخلص شعبك لا بقوتهم ولا بأسلحتهم بل بك، فتصير موضوع فخرهم وتسبيحهم الذي لا ينقطع. هكذا كان الماضي، فماذا عن المستقبل؟ بك نذرّي أعداءنا. فسيأتي وقت فيه يُذرَّى أعداء المسيحيين كالقش، يُنفخون كالتراب، ويُطردون من الأرض (الجديدة أي الأبدية)... هذا بخصوص المستقبل. إنني لا أثق في قوسي، كما لم يثق آباؤنا في سيفهم؛ وسيفي لن يخلصني [6]... ماذا يعني "سنفتخر"؟ ماذا يعني "سنعترف" [8]؟ إنك تخلصنا من أعدائنا، إذ تعطينا ملكوتًا أبديًا، وفينا تتحقق الكلمات: "طوبى للذين يسكنون في بيتك، أبدًا يسبحونك". القديس أغسطينوس حينما يريد الشيطان اصطيادنا في شباكه، ولا يجد شيئًا فينا يخصه، يرحل مرتبكًا، أما نحنن فنستطيع أن نسبح الله مع النبي، ونقول للرب: "الذي نجيتنا من الذين يحزنوننا وأخزيت الذين يبغضوننا"[827].الأب قيصريوس أسقف آرل 3. امتحان الإيمان الحاضر: يصف المرتل الضيقة الحاضرة في مرثاة جماعية مُرّة، جاء فيها: 1. يشعر المرتل كأن الله قد سحب نفسه من وسط جيش شعبه، فصار الكل ضعيفًا للغاية، وحلّ بهم الخزي والعار. "فالآن قد أقصيتنا عنك وأخزيتنا، ولم تخرج معنا في قواتنا" [9]. مل حلّ بالشعب ليس بسبب قوة العدو وإنما بسبب انسحاب الله إلى حين، وفي هذه المرة ليس بسبب خطية معينة للتأديب وإنما لامتحان إيمانهم. "قد أخزيتنا"، ليس أمام ضمائرنا بل في أعين الناس، حيث كان (المسيحيون) في كل موضع يُطردون. اعتادوا أن يقولوا في كل مكان: "إنه مسيحي" كما لو كانوا مقتنعين أن هذا سب وعار! أين إذن "إلهنا وملكنا" الذي "أمر بخلاص يعقوب"؟ أين ذاك الذي صنع كل هذه الأعمال التي أخبرنا بها آباؤنا؟ أين ذاك الذي صنع بعد ذلك كل الأمور التي أعلنها لنا بروحه؟ هل تغير؟! بلى، فإن هذه الأمور قد صُنعت "للفهم لبني قورح". إذ يليق بنا أن نفهم شيئًا وراء ذلك من أسباب، لماذا أراد لنا أن نُعاني كل هذه الأمور في وقت معين. ما هي هذه الأمور؟ لقد أقصيتنا وأخرجتنا ولم تخرج معنا يا الله في قواتنا! لقد خرجنا لنلتقي بأعدائنا، وأنت لم تخرج معنا. لقد رأيناهم أقوياء جدًا، ونحن بلا قوة. أين هي قدرتك؟ أين يمينك وقوتك؟ أين هو البحر الذي جفَّ والمصريون المقتفون الأثر غارقين في أمواجه؟ أين انهيار مقاومة عماليق بعلامة الصليب؟ "أنت يا الله لم تخرج معنا في قواتنا". القديس أغسطينوس يُشبه القديس يوحنا الذهبي الفم الله بمربية تسحب يديها من تحت يديْ الطفل الذي يتعلم المشي، حتى وإن سقط مرة ومرات، حتى وإن بكى، فإنه إذ يرفع عينيه يجد مربيته تتطلع إليه بعينها وبقلبها، لكنها تطلب نضوجه المستمر! إنها لن تتركه! يبدو كأن الله قد طردنا من وجهه أو تخلى هو عنا، وتركنا في عارٍ، ولم يخرج معنا في جهادنا الروحي... لكن، لنؤمن أنه حالّ فينا، لن يتخلى عنا! إننا أعضاء جسد المسيح، يعمل بروحه القدوس فينا لمجدنا في الوقت المناسب. 2. الشعور بالهزيمة المرة، الأمر الذي يفضح مدى ضعفنا وعجزنا وجفافنا. "رددتنا إلى الوراء أكثر من أعدائنا، ومبغضونا اختطفونا لأنفسهم. دفعتنا مثل الغنم للأكل. وشتتّنا في الأمم" [10-11]. كثيرًا ما يسقط المؤمن في الكبرياء بعد نواله سلسلة من النصرات، لهذا أحيانًا يرفع الله يده عنه إلى حين، ليكتشف ضعفاته. هنا إذ رفع الرب يده ولم يخرج مع شعبه ارتدوا إلى الوراء ليحلق بهم الأعداء ويمسكون بهم ويسبونهم عبيدًا لهم، يحملونهم إلى الأعداء، ويصيرون في الشتات. هنا يدرك الشعب مدى ضعفه، فإنه أشبه بغنم عاجز عن القتال ضد الذئاب، أو هم غنم لا يصلح حتى للولادة بل يُذبح للأكل! مسكين هو ذاك الذي يظن في نفسه شيئًا عندما يهبه الله نصرات متوالية أو مواهب ثمينة، فإنه إذ يسقط في الكبرياء تتخلى عنه النعمة الإلهية ليعرف ضعفه وخزيه وجفاف طبيعته حتى إنه لا يصلح إلا للذبح! لهذا يقول الرسول محذرًا من الكبرياء: "فهذا أيها الإخوة حولته تشبيهًا إلى نفسي وإلى أبولس من أجلكم لكي تتعلموا فينا أن لا تفتكروا فوق ما هو مكتوب كي لا ينتفخ أحد لأجل الواحد على الآخر؛ لأنه من يميزك؟ وأي شيء لك لم تأخذه؟ وإن كنت قد أخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟!" (1 كو 4: 6-7). كل ما بين أيدينا هو عطية الله أخذناها كهبة مجانية، فلماذا نفتخر على الآخرين؟ 3. لم يسمح الله بالضيقة لنفع خاص به: "بِعت شعبك بلا ثمن وما ربحت بثمنهم" [12]. يبدو كأن المرتل يُعاتب الله إنه يبيع شعبه ولا ينال ثمنًا، فصار الشعب في خزي ولم يتمجد الله في شعبه ولا في أعدائه الذين يهينون اسمه ويذلون شعبه. وكما يقول القديس أغسطينوس: [عندما كان المسيحيون يهربون من أمام الأعداء الوثنيين، هل كانوا يقيمون اجتماعات واحتفالات لمجد الله؟ هل كانت التسابيح تُرنم بانسجام جماعي في كنائس الله كما كانت العادة في وقت السلام حيث كانت تُنشد بعذوبة الاتفاق الأخوي في أذني الله؟]. إنه عتاب ودِّي مع الله لكي يرفع الضيقة، ويسند مؤمنيه، فيسبحون وينشدون معًا في جو من السلام والأمان. ولعله أيضًا يمثل هذا القول عتابًا موجهًا إلى الشعب، فإن الله لا يطلب نفعًا لنفسه من وراء ضيقتهم إذ لم يبعهم للعدو منتظرًا ثمنًا أو ربحًا، إنما يطلب بنيانهم وخلاصهم الأبدي ومجدهم. 4. في ضيقتنا نحتمل آلام المسيح، لنُحسب شركاءه في صلبه كما في قوة قيامته وبهجتها، لهذا جاء وصف الألم ينطبق على السيد المسيح في محاكمته وآلامه وصلبه، كما ينطبق على كنيسته التي تشاركه آلامه: "جعلتنا مثلًا في الأمم، وهز الرأس في الشعوب. طوال النهار خجلي أمامي هو، وخزي وجهي قد غطاني من صوت المعيّر لي والثالب ومن وجه عدوٍ مضطهد لي" [14-16]. يقول القديس أغسطينوس: [لقد تكلموا بشفاههم ونفّضوا برؤوسهم. هذا هو ما فعلوه بالرب وأيضًا بكل قديسيه... هؤلاء الذين كانوا قادرين أن يقتفوا آثارهم، ويمسكوا بهم، ويهزأون بهم، ويخونوهم، ويفعلوا بهم ما يريدون ويذبحونهم]. يرى البعض أن الحديث هنا ينطبق على الشعب القديم خاصة عند سبي أورشليم أو يهوذا حيث صارت الأمم المحيطة تهزأ بهم ويهزون رؤوسهم في سخرية، خاصة الأدوميون الذين كانوا يغلقون الطرق أمام الهاربين من يهوذا لكي يمسكونهم ويسلمونهم للكلدانيين كما حوَّلوا مدن يهوذا الخربة إلى مراعٍ لأغنامهم[828]. ويرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن نفض الرأس أو هزّها كنوع من السخرية يشير إلى عمل الهراطقة أعداء الكنيسة الذين يودون أن يهزوا إيماننا بالرأس المسيح، بهذا نصير في عارٍ وخزي. 4. كلمات عتاب: إذ يصف المرتل ما حلَّ بالشعب من ضيقة يدخل مع الله في كلمة عتاب، وهذا ما يريده الله منا وسط آلامنا، يودُّ أن نلتصق به ونحاوره، نعرف كيف نتحدث معه، فإننا في أوقات الفرج كثيرًا ما ننشغل بذواتنا ونتعرض للتشامخ والكبرياء، ولا يكون لله موضع في قلوبنا. لنعاتبه كأبناء فهو يصغي مشتاقًا أن يعطي بسخاء! يعطي ذاته وحبه وليس فقط خبراته وبركاته! في عتاب المحبة يندهش المرتل، متسائلًا: لماذا سمح الله للشعب بالضيقة: "هذه كلها جاءت علينا ولم ننسَك، ولا غدرنا بعهدك، ولم يمل قلبنا إلى خلف، ولا مالت خطواتنا عن طريقك" [16-17]. يشتاق أن يسمع الله مثل هذه العبارات التي لا تحمل برًا ذاتيًا ولا دفاعًا عن النفس أمام الله، وإنما إيمانا به وتمسكًا بطريقه وإعلانًا عن صدق حبنا له. إنها ككلمات الرسول بطرس بعد سقوطه: "يا رب أنت تعلم كل شيء؛ أنت تعرف أني أُحبك" (يو 21: 17)، وأيضًا كلمات الرسول بولس: "من سيفصلنا عن محبة المسيح؟! أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟! كما هو مكتوب إننا من أجلك نُمات كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح" (رو 8: 35-36). هكذا يعلن المرتل بأن الشعب لم ينس الله وسط الضيقة، ولا كسر العهد معه، ولا مال بقلبه إلى خلف، ولا انحرف بسلوكه عن الطريق الملكوي. إنهم لم يفعلوا مثل امرأة لوط التي نظرت إلى الوراء فصارت عمود ملح (تك 19: 26)، ولا مثل الإسرائيليين الذين تذمروا في البرية لأنهم اشتهوا الجلوس عند قدور اللحم يأكلون خبز العبودية (خر 16: 3)، ولم يضعوا أيديهم على المحراث وينظرون إلى الوراء (لو 9: 26)؛ وإنما يفعلون مثل الرسول بولس الذي ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام (في 3: 13). ما هو الطريق الذي لا نُحيد عنه إلا "السيد المسيح" القائل: "أنا هو الطريق والحق والحياة"؟ كانت أنظار رجال العهد القديم تتطلع إليه في رجاء بكونه مشتهى الأمم، وفيه تمتعنا بالحياة الجديدة المقامة... وها نحن ننتظره قادمًا على السحاب، مرنمين كل يوم: "آمين؛ تعال أيها الرب يسوع" (رؤ 22: 20). يرى القديس أغسطينوس أن المرتل هنا يُعلن أنهم لم ينحرفوا عن الطريق الضيق الذي رسمه الرب لبلوغنا الأبدية؛ هو طريق مُرّ لا يدخل بنا إلى الموت بل إلى ظلال الموت، إذ يقول المرتل: "غشيتنا بظلال الموت". فإن كانت التجار بكل شدتها تدفعنا إلى موت الجسد، إنما تدخل بنا إلى ظل الموت. [لأن موتنا هو ظل الموت، أما الموت الحقيقي فهو إدانة إبليس]. يكمل المرتل عتابه، قائلًا: "إن كنا نسينا اسم إلهنا، وإن كنا بسطنا أيدينا إلى إله غريب، أفليس الله المطالب بهذه؟! لأنه هو يعرف خفايا القلب" [20-21]. في عتابه هذا يعلن الآتي: 1. ليس لي أن أتكلم، فأنت تعلم يا الله خفايا القلب، أنت تعرف أننا لم نرتبط بإله آخر باسمك القدوس، ليس فقط في الظاهر، وإنما في أعماق القلب. 2.نحن نعرفك ولا ننساك، لذا أنت تعرفنا معرفة المحب لمحبوبيه. معرفة الله هنا لا تعني الإدراك العقلي وإنما معرفة العلاقة القوية، معرفة الحب (مت 7: 23). الله القدوس لا يقبل في معرفته إلا القديسين. 3. إن كانت الضيقة قد اشتدت جدًا، وثار الأعداء علينا، وكدنا ندخل إلى الموت، لكننا في هذا كله لم ننسك. وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي: [كلما تحرش بنا الأعداء يزداد بالأكثر تحررنا؛ وإن كانوا يقاوموننا فإننا نجتمع معًا، وإذ أرادوا طرحنا عن الصلاح لنكرر بالأكثر قائلين: "هذه كلها جاءت علينا ولم ننسَك"[829]]. أخيرًا يختم عتابه، قائلًا: لأننا من أجلك نُمات كل يوم، وقد حُسبنا مثل غنم للذبح" [22]. إذ يتحدث الرسول بولس عن حب الكنيسة لمسيحها يقول: "كما هو مكتوب: إننا من أجلك نُمت كل النهار؛ قد حُسبنا مثل غنم للذبح" (رو 8: 36). هذا هو صوت الكنيسة الجامعة منذ آدم إلى آخر الدهور التي تقبل الدخول في الطريق الشهادة لله حتى الموت، تقبل شركة آلام المسيح بسرور، فنشتهي أن تُحسب كالغنم المقدم لأجله للذبح كما سيق هو كشاة للذبح (إش 53: 7)... تمارس الموت الاختياري كل يوم، إن لم يكن بسفك الدم فبالجهاد الروحي والبذل والعطاء لكل أحد حتى لغير المؤمنين لأجل الله محب البشر! أنا كاهن سيدي يسوع المسيح، وله أقدم الذبيحة كل يوم، وأرغب أن أقدم حياتي ذبيحة كما قدم حياته ذبيحة حبًا فيّ[830]. لتأتِ عليّ كل هذه: النار والصليب، ومجابهة الحيوانات المفترسة، التمزيق والكسر... لتنصبَّ عليّ كل عذابات الشيطان، على أنني أبلغ يسوع المسيح[831]. لماذا أُسلم نفسي إلى الموت؟! إلى النار، إلى السيف، إلى الوحوش الضارية...؟! القريب من السيف هو قريب من الله، والذي مع الوحوش هو مع الله، على أن يتم ذلك كله باسم يسوع المسيح، وأنني أحتمل كل شيء لأشترك في آلامه[832]. القديس أغناطيوس الأنطاكي هو يجعلهم ذبيحة وتقدمة (يومية) دون موت[833].من الممكن أن نُمات عدة مرات في يومٍ واحدٍ؛ لأنه من كان مستعدًا على الدوام أن يموت يحفظ مكافأته ليستلمها كاملة. القديس يوحنا الذهبي الفم القديسون الذين يقدمون أنفسهم (ذبيحة) لله إنما يقدمون أنفسهم أحياء كل يوم.لنقدم أنفسنا (ذبائح)، ولنمت عن ذواتنا لأجل المسيح إلهنا. كيف وضعوا أنفسهم للموت؟ بأن كفَّوا عن محبة العالم وما فيه (1 يو 2: 15)... عن هذا يقول الرسول: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24). هكذا وضع القديسون أنفسهم للموت[834]. الأب دوروثيؤس من غزة 5. صرخة من أجل الخلاص: إن كانت محبتنا لله تدفعنا أن نموت لأجله كل يوم بل طول النهار، بالجهاد المستمر ضد الخطية، وتسليم الإرادة مبذولة لتعمل نعمة الله المجانية في حياتنا، وأن نشهد للحياة الإنجيلية حتى المنتهى... هذا يتحقق لا من منطلق ليأس أو الشعور بالهزيمة وإنما بيقين التمتع بقوة قيامة الرب وبهجتها. يقول المرتل: "استيقظ يا رب، لماذا تنام؟! قم، ولا تُقصِنا عنك إلى الانقضاء. لماذا تصرف وجهك عنا؟ ونسيت مسكننا وضيقتنا؟! فإن نفوسنا قد اتضعت حتى التراب، ولصقت بالأرض بطننا. قم يا رب أعنا وأنقذنا من أجل اسمك القدوس" [23-26]. هذا هو إيمان الكنيسة كلها في القيامة مع السيد المسيح. هذه هي صرخات الشهداء أثناء عذاباتهم، والمجاهدين أثناء أتعابهم. ففي اتضاع يسجدون حتى الأرض وتلتصق بطونهم بالتراب طالبين قوة قيامته، قائلين مع الرسول: "فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضًا معه" (رو 6: 8)، "وأقامنا معه وأجلسنا معه في السمويات في المسيح يسوع" (أف 2: 6). ماذا يعني المرتل بالألفاظ: "استيقظ... تنام... قم"؟ يُظهر المزمور بالكلمات "تنام" صبر الله وطول أناته علينا[835]. القديس يوحنا الذهبي الفم يُطالبنا القديس جيروم أن نُيقظ السيد المسيح النائم في داخلنا، أي نيقظ إيماننا به بالتوبة، قائلًا: [إن كان بسبب خطايانا ينام، فلنقل: "استيقظ، لماذا تتغافى يا رب؟!" [44]. وإذ تلطم الأمواج سفينتنا فلنُيقظه، قائلين: "يا سيد نجنا فإننا نهلك" (مت 8: 25؛ لو 8: 24) [836]]. ويرى القديس كيرلس الكبير أن إيقاظ السيد المسيح إنما يعني الصراخ إليه وسط الضيقات والآلام مع الاتكال عليه؛ إذ يقول: [المسيح حال وسط مختاريه، وإذ يسمح لهم بحكمته المقدسة أن يعانوا من الاضطهاد يبدو نائمًا. ولكن إذ تبلغ العاصفة أوجها والذين في صحن السفينة لا يقدرون أن يحتملوا يلزمهم أن يصرخوا: "قم لماذا تتغافى يا رب؟!" [23]. فإنه يقوم وينزع كل خوف بلا تأخير[837]]. في ذات المعنى يقول العلامة أوريجانوس: [إنه نائم في هدوء مقدس يرقب صبركم واحتمالكم، متطلعًا إلى توبة الخطاة ورجوعهم إليه[838]]. من أجلك نُمات كل النهار أشرقت يا شمس البر على حياتنا، فلم يعد فيها ليل، بل صارت كلها نهارًا! أشرقت علينا بصليبك أيها الكاهن والذبيح! أهّلنا أن نرتفع معك على صليبك، ونحمل آلامك، ونُسر بمعيتك أيها الحب الحقيقي! أنت سيد التاريخ وضابطه، صنعت عجائب مع آبائنا! وتبقى يدك تعمل في حياتنا، تستأصل من قلوبنا ممالك الشر، وتغرس مملكتك فينا! أنت العامل فينا، لأننا موضع سرورك وحبك. تملك في قلوبنا بسيف كلمتك، بجراحات حبك! في ضيقتنا حسبناك قد تركتنا، بعتنا للغير بلا ثمن! صار العدو يسخر بنا ويعيِّرنا، ونحن في انسحاق نسجد لك، تلتصق بطوننا بالتراب، لتخرجنا كما من القبر، وتهبنا قيامتك عاملة فينا! لك المجد أيها القائم من الأموات، أقمنا معك، وأجلسنا معك في سمواتك |
||||
23 - 01 - 2014, 04:54 PM | رقم المشاركة : ( 47 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 45 (44 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير تسبحة العُرس للمسيا الملك المحارب مزمور مَلكي مَسياني: أحد المزامير الملوكية يتناول مراحل عدة في الحياة الملوكية. وهو يصف احتفالًا لعرس ملوكي، لا يمكن تطبيقه على أي زواج بشري، إنما ينطبق على العرس الروحي بين السيد المسيح الملك وكنيسته. المزامير الثلاثة السابقة (42-43-44) مزامير الألم الذي يُعاني منه الأفراد كما الجماعة، تليها مزمور المجد هذا الملوكي، وله غاية نبوية، إذ يكشف عن المسيح الملك وعروسه الكنيسة. جاء بعد مزامير الألم ليعلن الروح القدس أن الألم هو طريق العرس والمجد الأبدي. في المزمور السابق نسمع مرثاة جماعية حيث يشعر الشعب كأن الله قد رفضه، ودخل به إلى العار، ولم يخرج معهم في الحرب، وسلمهم للأعداء في مذلة، وفي هذا المزمور الملوكي المسياني، نرى الشعب وقد اتحد بالمسيا الملك المحارب يدخل إلى مجد داخلي، كعروس سماوية مزينة، يشتهي الملك جمالها الروحي، تدخل إلى قصره وتنعم به. في المزمور السابق كان الشعب مثلًا بين الشعوب، يهزأون به، وينغصون الرأس سخرية به، وهنا يُقدم الشعب كملكة، تأتي إلى الملك وفي إثرها عذارى صاحباتها. في المزمور السابق يشعر الشعب كأن الله قد باعه بلا ثمن، وهنا يشعر كأن الله باع كل شيء، وحارب جبابرة ليقتني هذا الشعب ويغنيه بفيض بركاته. في المزمور السابق يقدم الشعب نفسه ذبائح حب كغنم للذبح، وهنا يتمتع الشعب ببهجة القيامة وقوتها وأمجادها الأبدية. في المزمور السابق نجد دعوة لله: "قم"، وهنا نجد الدعوة موجهة للشعب: "انسي شعبك وبيت أبيكِ فيشتهي الملك حسنك". المسيا الملك: في الترجوم -التفسير اليهودي القديم- أُضيفت كلمة "المسيا" إلى لفظة "الملك"، فقيل: "أيها الملك المسيا أبرع جمالًا من بني البشر". جاءت الكتابات المسيحية الأولى والليتروجيات تفسر هذا المزمور بكونه تسبحة العرس القائم بين السيد المسيح وكنيسته. إنه أنشودة حب مشترك ومتبادل بين المسيا المخلص وعروسه الملكة؛ فيه تُناجي الكنيسة عريسها الأبرع جمالًا من بني البشر، القادر وحده أن يدخل إلى المعركة لحسابها فيغلب عدو الخير، ويحرر عروسه من أسرها، ويسكب بهاءه عليها، ويهبها بره وشركة أمجاده. وفيه يُناجيها العريس معلنًا اشتياقه إليها، ويهبها فرحه وبهجته وقوته وسلطانه، فتعيش ملكه متهللة بالروح. يظن البعض أن المزمور يصف عُرس سليمان الملك، لكن كما قلنا إنه يحمل عبارات لا يمكن أن تنطق على إنسان بشري؛ ويرى آخرون أنه وإن وصف سليمان إنما بكونه رمزًا للسيد المسيح ملك السلام؛ وكما قال السيد المسيح عن نفسه: هنا من هو أعظم من سليمان! * إنه أغنية حفل العُرس المقدس، للعريس والعروس، للملك وشعبه للمخلص وللذين يخلصون. * الاتحاد الزوجي هو اتحاد "الكلمة" والجسد؛ خدر هذا الاتحاد هو رحم العذراء، لأن الجسد ذاته قد أتحد بالكلمة، حيث يُقال: "يكونان الاثنان جسدًا واحدًا" (مت 19: 5). القديس أغسطينوس المزمور 45 في الطقس القبطي: يُتلى هذا المزمور أو يُسبح به في صلاة الساعة الثالثة حيث نذكر عطية الروح القدس. فإن الروح الذي وهب الأنبياء أن يتنبأوا عن هذا الملك المسيا المحارب لحساب البشرية، والذي هيأ القديسة مريم للتجسد به... هو الذي حلَّ على الكنيسة في يوم البنطقستي (العنصرة) ليعطي التلاميذ قوة الكرازة والشهادة له كعريس محب للبشر. الروح القدس هو الذي يشكّل النفس ويقدسها لتصير على صورة عريسها فتتأهل للعرس الأبدي. إنه روح العريس الذي يأخذ مما له ليعطي العروس! طوال شهر كيهك حيث تستعد الكنيسة لعيد الميلاد المجيد بالتسابيح، تبدأ التسبحة بالهوس الكيهكي الذي يضم فقرات كثيرة من هذا المزمور، فإن غاية التسبحة الكيهكية هي حث كل نفس لاستقبال طفل المزود كعريس للنفس قادر وحده أن يدخل بها إلى المعركة ليهبها نصرته ويعطيها إكليله ويحسبها عروسًا وملكة غالبة ومنتصرة. وفي أعياد القديسة مريم حيث نرى فيها العضو الأول في الكنيسة، ومثالًا حيًا لكل نفس تنعم بالعضوية الكنيسة تقتطف الكنيسة بعض فقرات من هذا المزمور لتسبح بها حيث تبعث في أولادها الشوق الحقيقي للعرس الأبدي. وتستخدم فقرات منه في ليتروجية الزواج بكون سرّ الزواج هو ظلًا للعرس الأبدي بين الله الكلمة والكنيسة، يستمد العروسان حبِهما ووحدتهما من الحب المشترك بين المسيح وكنيسته. الإطار العام: 1. فاض قلبي... [1]. 2. قلم كاتب ماهر [1]. 3. مجد الملك [2]. 4. ملك محارب [3-5]. 5. إعلان ملكوته [6-8]. 6. الملكة العروس [9-12]. 7. مجد العروس [13-17]. أ. مجد داخلي ب. مجد سماوي ج. مجدها في تنوع مواهبها د. مجدها في كرازتها وشهادتها لعريسها و. كنيسة متهللة ز. كنيسة مكرمة ح. كنيسة مسبحة تُمجد اسم الله لتُسبحك نفسي أيها العريس الأبدي! العنوان[839]: "لإمام المغنين على السوسن Shoshannim eduth، لبنى قورح، قصيدة؛ ترنيمة محبة". وبحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام، وعلى الذين يتغيرون. فهم لبني قورح وتسبحة من أجل المحبوب". 1. "على السوسن": حرف الجر "على" يُشير إما إلى "بحث عن السوسن"، أو أنه مزمور "يضرب على آلة موسيقية معينة تُدعى "السوسن" أو أنه يُعزف على نغمة نشيد يبدأ بكلمة "السوسن". استخدمت الكلمة بالمفرد "على السوسنة" في عنوان المزمور 60، وبالجمع في المزمور 80، ولم تستخدم في عناوين مزامير أخرى. قديمًا كان يفهم كلمة "Shoshannim" على أنها آلة موسيقية ذات ستة أوتار، أما الآن فيوجد إجماع على أنها تعني "السوسن (أزهار معينة)"، وتُفهم كلمة Eduth بمعنى شهادة، أي "سوسن الشهادة" أو زنابق الشهادة. ماذا تعني زنابق أو سوسن الشهادة إلا أن هذه التسبحة تمجد عمل الله الخلاصي، الذي أقام من بني البشر زنابق جميلة أو سوسن يحمل رائحة المسيح الذكية، يشهد لنعمة الله الغنية. إنه مزمور عرس الكنيسة التي قيل عنها "كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنين" (نش 2: 2)، وقيل عن عريسها: "الراعي بين السوسن" (نش 2: 16). 2. "على الذين يتغيرون": إنها تسبحة العروس التي جاءت من الأمم، تغيرت طبيعتها، وتغير فكرها وقلبها، حيث تركت بيت أبيها إبليس لتسكن في بيت العرس متحدة مع عريسها السماوي. * بالفعل في هذا الوقت قد تغيّر حال الوثنين؛ أما الذين لم يتغيروا (يقبلوا الإيمان) فيرون الكنائس مملوءة، بينما معابد (الوثنية) مهجورة. يرون زحامًا هنا، وعزلة هناك! فيتعجبون للتغيير الذي طرأ... ليقرءوا ما سبق أن أُخبروا به. ليصغوا بآذانهم لذاك الذي وعد بهذا. ليؤمنوا بذاك الذي يتمم الوعد. وليتغير كل واحد منا أيها الإخوة، من "الإنسان العتيق" إلى الإنسان الجديد"، من ضالٍ إلى مؤمن، ومن لص إلى مقدم صدقات، ومن زانٍ إلى عفيف، من فاعل شرٍ إلى فاعل خيرٍ! القديس أغسطينوس لقد تم التغيير على مستوى جماعات كما على مستوى أفراد. يستمر هذا التغير بالتجديد المستمر، فينحل إنساننا العتيق بكل أعماله ويتجدد إنساننا الداخلي يومًا فيومًا! أنشودة عرس الكنيسة هي أنشودة التغيُّر المستمر والتجديد، لعلنا نبلغ "إلى إنسان كامل؛ إلى قياس قامة ملء المسيح"[840] (أف 4: 13). 3. "ترنيمة محبة" أو "تسبحة من أجل المحبوب": * المحبوب هو "اليد" التي تغيرت؛ الذي يتحدث عنه الصوت الإلهي، قائلًا: "هذا هو ابني المحبوب" [ربما يقصد بالتغير هنا الإخلاء أو التجسد الإلهي[841]]. * من هو هذا المحبوب إلا الابن الوحيد[842]؟! البابا أثناسيوس الرسولي 4. "لبني قورح Core": سبق لنا الحديث عنهم كرمز لبني الجلجثة[843]، أو أبناء المصلوب، فإنهم وحدهم يتغنون بتسبحة عرس الحمل... فمن لا يتمتع بالصليب كقوة الله كيف يقدر أن يُنشد تسبحة العرس السماوي؟! 1. فاض قلبي... 1. "فاض قلبي بكلام صالح" [1]. يرى بعض الآباء في عبارة "فاض قلبي كلمتي الأسمى" (الترجمة السبعينية) شهادة عن ولادة الابن من الآب، بكونه المولود من القلب، من ذات الجوهر ومساوٍ له؛ نذكر هنا بعض مقتطفات من كلماتهم في هذا الشأن: * إنه الكلمة الذي يفيض به قلب الآب[844]. القديس أمبروسيوس * وُلد (الابن الوحيد) من الله بطريقة خاصة به وحده، من رحم قلبه الذاتي، هذا الذي يشهد له الآب نفسه: "فاضى قلبي كلمتي الأسمى"[845]. * يشهد الآب نفسه قائلًا: "فاض قلبي كلمتي الأسمى"، سُرَّ الآب بالأكثر به، الذي تهلل بسرور فائق ومتساوٍ (لمسرته) بحضور الآب[846]. * يكشف الكتاب المقدس أن الآب والابن واحد، تمامًا كما نعرف من جانبنا أن الآب والابن متمايزان، أقول متمايزان وليسا منفصلين، لأنه من جهتي أنطق بكلمات الله ذاته: "فاض قلبي بكلمتي الأسمى"[847]! العلامة ترتليان * يفهم البعض أنه (حديث) شخص الآب القائل: "نطق قلبي بكلمة صالح"، إذ يُفصح لنا عن ميلاد معين لا يُنطق به. * لأنه ما معنى: "أتكلم"؟ "ألفظ كلمة". أين؟ من قلبه؟! من أعماقه ذاتها ينطق الله "كلمة"؟! أنتم أنفسكم لا تنطقون شيئًا إلا ما تخرجونه من قلبكم، كلمة خاصة بكم تنطقون بها مرة وتختفي، هذه التي لا تأتون بها من موضع آخر. فهل تتعجبون إن كان الله ينطق هكذا، لكن نطق الله "سرمدي"؟! القديس أغسطينوس * رأينا قبلًا، وهكذا يجب الإيمان بالحق أن الكلمة هو من الآب، وهو الابن الوحيد الذي يليق به ومولد طبيعيًا. لأنه بماذا يفهم الإنسان "الابن" الذي هو "الحكمة" و"الكلمة"، الذي به كان كل شيء كما تعلمنا أيضًا الكتب المقدسة، إذ يقول الآب بلسان داود: "فاض قلبي بكلمة صالح" "من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك"؟![848]... القديس أثناسيوس الرسولي 2. قلم كاتب ماهر: "فاض قلبي بكلام صالح، إني أخبر الملك بأفعالي، لساني قلم كاتب ماهر" [1]. يشعر المرتل وقد رأى بعيني النبوة عرس السيد المسيح المصلوب بفيض في داخله؛ كأن لهيب نارٍ من الحب قد اتقد في أعماقه، فصار لسانه يشترك مع كل كيانه في التعبير عن هذا العرس الفريد. عندما أراد القديس بولس أن يتحدث عن خطية معينة لم يقدر، إذ يقول إن ذكرها قبيح ومن العار، أما عندما يتحدث عن الملك العريس السماوي فكان لسانه يفيض بكلام صالح يُعبر به عما في قلبه وعن أفعاله. وقف المرتل أمام المسيح العريس فأخبر بحياته وسلوكه عن هذا العرس، وصار لسانه قلم كاتب ماهر. أقول إن لساننا عندما يتحدث، غالبًا ما يُعبِّر عما في أعماقنا، فإن كان لنا نصيب في العرس الروحي بالحياة العملية أو بالحب لله والناس يفيض الروح على لساننا بكلمات النعمة العاملة لحساب ملكوته، أما إذا لم يكن لنا شركة يصير لساننا كبقية أعضائنا آلات إثم للموت (رو 6: 13) تجرح وتقتل عوض أن ترطب النفوس وتشفيها. * اللسان هو القلم الذي به نكتب عهودنا مع الله... إننا نعترف بملكوته علينا ونرفض هيمنة إبليس. هذا هو التوقيع (على العهد)، هذا هو الاتفاق والعهد[849]. القديس يوحنا الذهبي الفم لسان المرتل قلم كاتب ماهر، يتحرك بإرشاد روح الله القدوس، معبّرًا عن فكر الروح بعمق وكمال. التهب قلبه وانشغل عقله بالعُرس السماوي فصار لسانه ينطق بالصلاح، أي تقدس لينطق بكلمات إلهية. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن اللسان كبقية الأعضاء يمكن أن يكون أداة للبر كما للشر. * فلنهئ كل أعضاء جسدنا لتكون أسلحة للبر لا للإثم. لندرب أولًا لساننا ليكون خادمًا لنعمة الروح القدس، بنزع كل السموم وكل شر من أفواهنا، وعدم النطق بكلمات الحماقة. يمكننا أن نجعل كل عضو من أعضائنا أداة شرٍ أو برّ. أصغوا، كيف صيَّر البعض اللسان سلاحًا للإثم، وآخرون سلاحًا للعدل: "لساني سيف ماضٍ" (مز 57: 5)، بينما يقول آخر عن لسانه: "لساني قلم كاتب ماهر". الأول يسبب موتًا، والثاني يسجل الناموس الإلهي، من ثَم فالأول سيف ماضٍ والثاني قلم، لا بحسب طبيعته كلسانٍ، وإنما باختيار من يستخدمه؛ فإن طبيعة اللسانين واحدة، لكن الاستخدام مختلف[850]. القديس يوحنا الذهبي الفم يمكن للإنسان أن يسلم لسانه أداة في يدّيْ السيد المسيح لينطق بكلماته ويشهد عن محبته الإلهية وحنوّه، كما يمكنه أن يُسلمه أداة في يديْ عدو الخير ليخدع وينافق ويقتل الآخرين بكلماته، كما بسيف مهلك. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لتكلم بطريقة يتضح بها أن ما نقوله هي كلمات المسيح[851]]. لنتشبه بالمرتل الذي التهب قلبه بحب العريس فنظم أشعاره عنه، وصار قلبه ولسانه يلهجان بشخصه وسماته وأعماله... رأى أمورًا جديدة فصارت حياته كما لسانه يفيضان تسبيحًا، وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يشير إلى عمل النفس العقلاني بسبب كل الأفكار التي تفيض دومًا وتموج، فإن من يثبت نظره على جمال الله اللامتناهٍ، يكتشف على الدوام ما هو جديد؛ وإذ يبقى الله يعلن عن نفسه يستمر الإنسان في دهشٍ[852]]. ماذا رأى المرتل في العريس السماوي؟ * إنه كلمة الآب المولود منه أزليًا! * أبرع جمالًا من بني البشر! * شفتيه تفيضان نعمة ورحمة وحنانًا! * إنه ملك محارب محب، يدخل المعركة لحساب عروسه! * يرتبط سيفه بجماله، به يبتر كل ما هو قبيح فينا! * عجيب في عدله وفي حبه! * كرسيه أبدي! * مسحته مبهجة! * ثيابه رائحتها ذكية! *عروسه سماوية محبوبة جدًا لديه ومكَّرمة! * يتعبد له الأمم! * يدخل بشعبه إلى هيكله! * يقيم ملوكًا ورؤساء! * موضوع تسبيح الشعوب! 3. مجد الملك: تطلَّع المرتل إلى العرس فرأى عريسًا فريدًا ليس من وجه للمقارنة بينه وبين بني البشر، فقال: "إنك أبرع جمالًا من بني البشر" [2]. كتب القديس أغسطينوس يتغنى بربنا يسوع المسيح بكونه أبرع جمالًا من بني البشر: [إنه جميل في السموات بكونه الكلمة مع الله (الآب)؛ جميل على الأرض وهو متسربل بالطبيعة البشرية؛ جميل في الرحم، وجميل بين ذراعيْ والديه؛ جميل في المعجزات، جميل في جلده بالسياط؛ جميل في منحه الحياة، وجميل في عدم رفضه الموت؛ جميل في بذله ذاته، وجميل في أخذها ثانية؛ جميل على الصليب، وجميل في القبر، وجميل في عودته إلى السماء]. هكذا نراه أبرع جمالًا في طبيعته بكونه كلمة الله الواحد مع أبيه والمساوي له في الجوهر، وأبرع جمالًا في عمله الخلاصي وبذله آخر قطرة من دمه لأجل خلاص محبوبه الإنسان... تبقى أعماله الخلاصية موضوع تسبيح الأرضيين والسمائيين. * أي جمال؟ إنه جمال القيامة، بكونه أبرع جمالًا من بني البشر[853]. * فاق كل بني البشر جمالًا، ابن القديسة مريم وعريس الكنيسة المقدسة، الذي جعل الكنيسة تشبه أمه، فقد صيّرها أمًا لنا وحفظها عذراء لنفسه[854]. القديس أغسطينوس * أتساءل: لماذا (لم يقل): أبرع جمالًا من الملائكة أيضًا؟ لماذا يقول "أبرع جمالًا من بني البشر"، إلا لأنه صار إنسانًا...؟! حتى وهو إنسان هو أبرع جمالًا من بني البشر. ومع كونه حالًا بين بني البشر وقد صار منهم... إلا أنه أبرع جمالًا من بني البشر! القديس أغسطينوس لا يُفهم الجمال هنا بمعنى مادي أو جسداني بل بمفهوم روحي. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لئلا تفهموا إنه يتحدث عن الجمال الجسدي يقول المرتل إنه يقوم على الطاعة، وهذه ليست جمالًا للجسد بل للنفس، إذ يقول إذا فعلتم هذا تصيرون في جمال ومحبوبين في أعين عريسكم[855]]. رأى بعض الآباء مثل الشهيد يوستين وترتليان والقديس أكليمندس الإسكندري في التجسد الإلهي إخلاء الرب وتنازله حتى عن الجمال الجسدي، غير أن الغالبية العظمى للآباء رأوا فيه جمالًا جسديًا مع الجمال الروحي كانعكاس لعمل اللاهوت فيه، فيقول القديس جيروم: [اختفى لاهوته ببهائه وعظمته تحت حجاب الجسد، وبعث بأشعته على ملامحه الجسدية، فسبى كل الذين كان لهم غبطة التطلع إليه[856]]. إن ما يشغل قلبنا هو جمال عمله الخلاصي العجيب وبهاء شخصه، إذ هو وحده بلا عيب. لهذا يليق بعروسه أن تحمل سمة جماله بانعكاس بهائه عليها. * حقًا يليق بعريسنا الأبرع جمالًا من بني البشر ألا يجد فينا شيئًا من الخطايا السابق ذكرها لئلا تسيء إلى عيني عزته[857]. الأب قيصريوس أسقف آرل يرى المرتل أن سرّ جمال السيد هي كلمات النعمة التي تفيض من شفتيه: "انسكبت النعمة من شفتيك، لذلك باركك الله إلى الدهر" [2]. يقول القديس باسيليوس الكبير[858]: [إن النبيإذ تفرس في بهاء مجد لاهوت الابن نطق بهذا القول مشتاقًا إلى جمال لاهوته، وقد فاضت النعمة على شفتي الابن، كما جاء في الإنجيل المقدس أن الجموع كانت تتعجب من كلمات النعمة الخارجة من شفتيه (لو 4: 22)؛ فقد كان يجتذب سامعيه بفرح ويقنعهم ويقودهم إلى التلمذة له، حتى أنه في مدة يسيرة انتشر كلامه بكرازة الإنجيل في كل المسكونة. لقد أدرك معلمنا بطرس الرسول قوة كلماته وفاعليتها، فقال: "إلى من نذهب؟! كلام الحياة الأبدية عندك" (يو 6: 68). وتتحدث الكنيسة في سفر النشيد عن جاذبية كلمة المخلص، قائلة: "اجذبني وراءك فنجري" (نش 1: 2). * نعومتها (عذوبتها الشديدة) تدل على فيض نعمة تعليمه[859]. العلامة أوريجانوس * تعني "النعمة" هنا ما حلّ بالجسد... لأنه قد انسكبت كل نعمة في ذاك الهيكل. فلم يعطِ الروح القدس ذاك الهيكل مكيالًا معينًا، "لأنه من ملئه نحن أخذنا" (يو 1: 16). نال هذا الهيكل النعمة في كل ملئها وفيضها... فكانت النعمة بالحق كاملة، أما في البشر فقليلة، ولا تزال كقطرة من تلك النعمة[860]. القديس يوحنا الذهبي الفم هكذا يُحسب القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما نناله من نعم أشبع بقطرة نتقبلها من السيد المسيح الذي باتحاد لاهوته بناسوته قدم ملء النعمة للناسوت غير المنفصل عنه ليكن مصدر نعم لنا. وهكذا كثيرًا ما يكرر القديس كيرلس الكبير بأن الكلمة الإلهي أخذ إنسانيتنا ليجدد طبيعتنا الفاسدة، فنرى فيه مصدر كل تجديد ونعم سماوية. يمكننا الكشف عن زوايا من النعم التي تفيض من شفتيه، مثل: 1. تمتعنا بالكلمة ذاته المتجسد، نتناول جسده ودمه المبذولين سرّ نعمة لاتحادنا معه، وثبوتنا فيه، إذ يقول: "من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو 6: 54). 2. قدم بشفتيه كلمته التي تُنير البصيرة الداخلية وتجتذب النفوس إلى خلاصه، فقد قيل: "فلما جلس تقدم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلمهم... فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بُهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مت 5: 1-2؛ 7: 28-29). 3. بكلماته يهب الغفران من عندياته: "مغفورة لك خطاياك" (لو 7: 48). 4. بكلمات نعمته الواهبة الحياة كان يشفي الأمراض، ويعزي الحزانى، ويُبكم المقاومين، ويخرج الشياطين، ويقيم من الموت. 5. بكلماته فتح أمامنا أبواب الفردوس، إذ يقول: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43). تبقى كلمات السيد المسيح التي تفيض نعمة ينطق بها حتى بعد صعوده، وذلك خلال رسله وتلاميذه والكارزين بإنجيله... إذ يمثل هؤلاء شفتيه اللتين تفيضان بنعمته. ماذا يعني المرتل بقوله: "لذلك باركك الله إلى الدهر" [2]؟ يُجيب الأب أنثيموس الذي اعتمد على كتابات الآباء، إنه يتحدث هنا من جهة ناسوته، فمع كونه كلمة الله المتجسد، الواحد والمساوي للآب في ذات الجوهر، لكنه من جهة الناسوت وكممثل للبشرية يدعو أباه السماوي إلهًا، وبحسب الناسوت كان يتقدم في الحكمة والقامة (لو 2: 52)، ليس متدرجًا فيهما بل معلنًا إياهما تدريجيًا... فالحكمة ليست أمرًا غريبًا عنه، إذ هو "حكمة الله"، لكنه كان يظهر تدريجيًا، ويمارسها بكونه إنسانًا حقيقيًا. يقول أيضًا إن بقوله "باركك الله" إنما يعلن ما تناله الكنيسة من بركات إلهية خلال الرأس وباسمه... حينما تتبارك الكنيسة كجسد المسيح يُقال عن المسيح الرأس إنه تبارك مع أنه هو واهب البركة. 4. ملك محارب! "تقلد سيفك على فخذك أيها القوي؛ بُحسنك وجمالك استله وانجح وأملك" [3]. هنا نلاحظ الآتي: 1. لا يمكن أن يكون الحديث هنا خاصًا بالملك سليمان الذي كان رجل سلام لا قائد حرب. 2. يربط المرتل بين جمال الملك المحارب واستلاله السيف لينجح ويملك، الأمر الذي لا ينطبق على أي إنسان محارب، لأنه أي ارتباط بين جمال الإنسان وقدرته على الحرب؟! واضح هنا أن الحديث خاص بمعركة الصليب، فإن ربنا يسوع المسيح قائد حربنا الروحية ضد عدو الخير إبليس، والذي وحده بلا عيب، كليّ الجمال، يستل سيفه كعريس سماوي جميل ليقتل فينا ما هو قبيح، أي فسادنا، وبهذا يقيم مملكته في قلوبنا، معلنًا ذاته أنه الحق والوداعة والبر. هذا ما دفع القديس أغسطينوس[861] وأمبروسيوس[862] وغيرهما إلى الحديث عن الجمال هنا بكونه جمال القيامة، إذ يقول الأخير: [حقًا إن جمال المسيح مقدس، إذ كُتب عنه بكونه المُقام: "أبرع جمالًا من بني البشر". فإنه بكر الراقدين وقرناه كقرن وحيد القرن]. إن كان سيفه هنا هو صليبه الذي به سحق الشيطان وكسر شوكة الموت وغلب الجحيم، لذا يراه المخلصون "قوة الله" (1كو 1: 18)، وقيل عنه: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (في الصليب)" (كو 2: 15)، فإنه بقيامته قد بررنا، أي وهبنا بره فصار لنا جمال قيامته! بمعنى آخر نفسر كلمات المرتل: "بجمالك استله وانجح واملك" هكذا: "يا بكر الراقدين، استل سيف الصليب، واضرب به إنساننا العتيق الفاسد، فننعم بقوة قيامتك وبهجتها، أي نحمل جمالها فينا، بهذا تملك فينا وتنجح كلمة كرازتك!". 3. سيف المسيح هو صليبه واهب الحياة المُقامة، وهو أيضًا كلمته، إذ قيل: "لأن كلمة الله حيَّة وفعالة وأمضي من كل سيف ذي حدَّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونيَّاته" (عب 4: 12)، "سيف الروح الذي هو كلمة الله" (أف 6: 17). وقد استخدم السيد المسيح كلمات الكتاب المقدس في معركته مع إبليس في التجربة (مت 4: 4، 7، 10). وقيل عنه: "وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16). إن كانت كلمات السيد تفيض نعمة وعذوبة، تضمد جراحاتنا وتشفيها، إنما هي أيضًا سيف ذو حدين يفصل بين النور والظلمة، أو بين الحق والباطل، أو بين برَّ الله وفسادنا، جراحاته لا تهلك بل تلهب القلب حبًا شافيًا، لتتغنى النفس قائلة: "إنني مجروحة حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8). 4. يحمل السيد المسيح سيفه على "فخذه"؛ الذي هو كناية عن ناسوته. إن قلنا أن السف هو الصليب، فإنه بالجسد قد حمل الرب صليبه ليذل إبليس. بتأنس الرب تمتعنا بسيف الكلمة إذ رأينا الحب متجسدًا، وتلامسنا مع وعود الله الغنية التي تحققت في كمالها بالصليب. بتأنس الرب رأينا كلمة الله لا منقوشة بحروف على ورق، وإنما معلنة بالدم على صليب! 5. قيل: "تقلد سيفك على فخذك أيها القوي". إن كان الفخذ يُشير إلى التجسد الذي به أخلى الكلمة ذاته، وصار في الجسد كضعيف، لكنه كما نترنم في الجمعة العظيمة قائلين: "يا من أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة!" لهذا يدعوه المرتل: "أيها القوي"، أو "أيها الجبار". أي قوة أو جبروت أعظم من تحطيم قوى إبليس وهدم مملكته بصليب الرب؟! لقد أدرك الرسول بولس أن المصلوب قوي وجبار، يهبنا بصليبه الغلبة على شهوات الجسد ومحبة العالم، إذ يقول: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24)؛ "وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم" (غل 6: 14). 6. إن كان السيد المسيح قد جاء ليملك في القلب ويهبه سلامًا فائقًا، لكن بإقامة مملكته فيه، تثور قوات الظلمة ضده، وتستخدم حتى المقربين إليه، لذا قال الرب: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 36). يقول القديس أغسطينوس: [نقرأ في الإنجيل الكلمات: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا"، "يكون من الآن خمسة في بيت واحدٍ منقسمين ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة، ينقسم الأب على الابن... والحماة على كنتها" (لو 12: 52، 53). أي سيف هذا إلا الذي جاء به المسيح، وقد تحقق الانقسام؛ فإنه إذ يقدم شاب عاقل نفسه لخدمة الله يعارضه والده، فيحدث بينهما انقسام. الواحد يطلب الميراث الأرضي والآخر يحب السماوي]. 7. إذ يستل الرب سيف صليبه ليضرب بقوة عدو الخير، وينجح ويملك، إنما يقيم مملكة الحق والوداعة والعدل: "من أجل الحق والوداعة والعدل؛ فتهديك بالعجب يمينك" [4]. إن كانت مملكة إبليس تقوم على الباطل (الكذب) والكبرياء والظلم، فقد تجسد الكلمة وصُلب لكي يُحطم بالحق والوداعة والعدل مملكة الظلمة ويقيم مملكة البر الإلهي في داخلنا. أ. قاوم الرب الباطل بالحق، والكذب بالصدق، بكونه "الحق" نقبله فينا فلا يستطيع الباطل أن يجد له فينا موضعًا، نقبل النور فتهرب الظلمة. * أُعيد "الحق" فينا، "الحق من الأرض أشرق والعدل من السماء اطلع" (مز 84: 11). لقد جاء المسيح كتوقعات البشرية، إذ في نسل إبراهيم "تتبارك كل الأمم". القديس أغسطينوس إنه لم يعلمنا الحق فحسب، وإنما قدم نفسه لنقتنيه؛ وهكذا أيضًا بالنسبة للوداعة، فبتجسده اتضع لنقتنيه فنحمل الوداعة والاتضاع، وبه نحطم كبرياء إبليس. بمعنى آخر، السيد المسيح هو سلاحنا ضد العدو المتكبر. شهد إشعياء النبي عن وداعته العجيبة، قائلًا: "كشاة تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامته أمام جازيها فلم يفتح فاه" (إش 53: 7). كما قال السيد عن نفسه: "احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). وأخيرًا فأنه بعدله يهبنا ملكوت البر الذي لا يعرف الظلم. هناك ارتباط بين الحق والوداعة والعدل، إذ هم وجوه مختلفة لملكوت واحد؛ فإن كان المؤمن يقبل المسيح "الحق" ففي رفضه للباطل يلتزم بروح الوداعة؛ بمعنى آخر لا يسقط تحت الغضب بحجة الدفاع عن الحق؛ وفي وداعته يلتزم بالعدل والبر الإلهي... جميعها هبات إلهية، أو قل هي عطايا الروح القدس فينا الذي يأخذ مما للمسيح ويهب الكنيسة لتحمل شركة سماته وتتهيأ للعريس الأبدي. هذه هي أسلحة العريس السماوي: الحق والوداعة والعدل... وهي الأسلحة التي لأجلها قَبِلَ الصليب ليُحطم الباطل ويذل الكبرياء وينتزع سلطان إبليس الظلم. بهذا تعتز يمين الرب وتحقق عجبًا، أو كما يقول القديس أغسطينوس: [إنه بهذا تقودنا يمينه أي قدرته وتصنع فينا أعمالًا عجيبة! إنها أسلحة فعّالة اجتذبت الكثيرين من الوثنية بأساطيرها الباطلة وتشامخها وعنفها إلى الشركة مع الله بالروح القدس في المسيح يسوع ليمارسوا الحياة الجديدة الفائقة السمو. لهذا يترنم المرتل، قائلًا: "نُبلك مسنونة أيها القوي، الشعوب تحتك يسقطون في قلب أعداء الملك" [5]. ما هي نبل السيد المسيح إلا الكرازة بالصليب التي اخترقت القلوب وجرحتها بالحب، وألهبتها بروح القوة التي لا تعرف الفشل أو اليأس. لقد أصابت القلوب التي كانت في عداوة مع الملك العريس، فخضعت له بالإيمان وسجدت له في طاعة عجيبة، تتمتع بالحياة الجديدة. يرى البعض[863] أن نبل الملك المسنونة هم الرسل الأطهار الذين سنّهم الروح القدس وصقلهم فانغرسوا في قلوب الشعوب والأمم يشهدون لتعاليم الرب ولعمل نعمته العجيبة! ففي يوم العنصرة تمتع الجمهور الحاضر بهذه النُبل المسنونة، إذ قيل: "فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرحال الإخوة؟" (أع 2: 37). ويتحدث الرسول بولس عن عمل الروح خلال النبوة في الكنيسة: "هكذا يخر على وجهه، ويسجد لله مناديًا أن الله بالحقيقة فيكم" (1 كو 14: 25). * يقول: "سهامك مسنونة". إن وصايا (سهام) الله المنطلقة في كل مكان تنذر بكشف خبايا كل قلب، حاملة وخز الضمير وتغييره في كل أحد[864]. العلامة ترتليان 5. إعلان ملكوته: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك. لأنك أحببت البر، وأبغضت الإثم. من أجل هذا مسحك الله إلهك بزيت البهجة أفضل من رفقائك. المرّ والميعة والسليخة من ثيابك. من المنازل الشريفة العاج الني منها ابتهجت" [6-8]. يتطلع المرتل إلى المسيّا الملك الغالب بصليبه، الذي يُقدم دمه الثمين كفارة عن خطايا العالم، ومهرًا لعروسه الملكة السماوية، فيترنم قائلًا: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور". وقد وضعت الكنيسة القبطية لحنًا مشهورًا يُدعى "بيك اثرونوس" pek`;ronoc أي "كرسيك" يستغرق حوالي ثلث ساعة تنطلق فيه النفس لتتأمل في عرش الملك المصلوب. تترنم به الكنيسة في أسبوع الآلام (الثلاثاء) كما في الجمعة العظيمة قبل الدفن... إن أحداث الصلب والدفن في عيني المؤمن ليست إلا إعلانًا عن عرش الملك الأبدي. ما هي سمات هذا الملكوت المُعلن بالصليب؟ 1. ملكوت إلهي: اقتبس القديس بولس هذه الآية وما بعدها في (عب 1: 8، 9) لتأكيد لاهوت ربنا يسوع المسيح؛ فإنه لا يمكن مطلقًا أن نوجه حديثنا إلى سليمان الحكيم أو غيره من الملوك، قائلين: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور"؛ إنما هو حديث خاص بالكلمة المتجسد الذي يعلن ملكوته فينا ويحملنا إلى ملكوته السماوي إلى الأبد. * جليٌّ أنه حتى قبل أن يصير إنسانًا كان ملكًا وربًا منذ الأزل. إنه أيقونة الآب وكلمته؛... وقد تحدث بطرس عن ربوبيته علينا، التي تحققت حين صار إنسانًا (إذ ملك علينا)، مخلصًا الكل بالصليب وقد صار ربًا على الكل وملكًا (أع 2: 36) [865]. القديس أثناسيوس الرسولي 2. ملكوت أبدي: لكل مملكة بداية كما لها نهاية، أما المسيا الملك فقد جاء يعلن عن ملكوته فينا لنبقى معه إلى الأبد، حيث لا يقدر الموت أن يُحطم ملكوته! إنه يحملنا ونحن بعد في الجسد إلى ما فوق الزمن والمكان لنحيا بقلوبنا معه في ملكوته، مترنمين مع الرسول: "أجلسنا معه في السمويات" (أف 2: 6) متممين الوصية: "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله؛ اهتموا بما فوق لا بما على الأرض... متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 1-4). 3. قضيب ملكه قضيب الاستقامة: في حكمة تارة يترفق وأخرى يؤدب، وفي الحالتين يطلب استقامتنا وبرَّنا، فهو محب للبرِّ، لأنه قدوس ومبغض للإثم، لأنه لا يمكن أن تتفق الظلمة مع النور. 4. له مسحة الابتهاج: في العهد القديم كان الأنبياء والكهنة والملوك يُمسحون بالدهن المقدس علامة حلول الروح عليهم لتكريس حياتهم وطاقاتهم لحساب شعب الله. بهذا يُحسبون مُفرزين للعمل المقدس، في ملكية الله ولحسابه، ولا يجوز لهم الانحراف عن رسالتهم. ولم يكن ممكنًا في العهد القديم أن يُسمح إنسان ما ملكًا وكاهنًا في نفس الوقت، لأن الكهنة من سبط لاوي بينما الملوك من سبط يهوذا، أما كلمة الله فقد قبل إخلاء ذاته بإرادته خلال التجسد والصلب ليعمل لحساب البشرية ولتقديسها فيه بكونه الكاهن الفريد الذي وحده الكاهن والنبي (رب الأنبياء) والملك والذبيحة... هذا هو مفهوم مسحته. فريد في مسحته لأنه وهو رب الكهنة والأنبياء والملوك وخالق الذبائح قبِل بإرادته ومسرته أن يصير الكاهن والنبي والملك والذبيح! مُسح بزيت البهجة، لأنه قبِل هذه المسحة بسرور، كقول الرسول: "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). كما قبلها كمسرة أبيه الذي يشهد عن الابن قائلًا: "هذا هم ابني الحبيب الذي به سُررت" (مت 3: 7؛ 17: 5، مر 1: 11؛ لو 3: 22). بمسحته الفريدة يهبنا نحن أعضاء جسده، مسحة البهجة في سرّ الميرون، فنُحْسب ملوكًا وكهنة (رؤ 1: 6) وذبيحة أو تقدمة للرب! دُعي "المسيح" بكونه الممسوح لخلاصنا أزليًا، ونحن نُدعى مسيحيين لأننا به نُمسح لله وتُفرز قلوبنا لحساب ملكوته. لقد مُسح السيد المسيح كحجر مرفوض يصلح رأسًا للزاوية (مز 118: 22)، وكما يقول الرسول بطرس: "الذي إذ تأتون إليه حجرًا مرفوضًا من الناس، ولكنه مُختار من الله كريم، كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حية بيتًا روحيًا كهنوتيًا مقدسًا لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (1 بط 2: 4، 5). أُشير إلى السيد المسيح كحجر مرفوض من الناس مقدّس لله بالحجر الذي وضعه يعقوب تحت رأسه عندما نام (تك 28: 11-18)، فرأى السماء مفتوحة و"إذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء". وملائكة الله صاعدة ونازلة عليه، عندئذ قام يعقوب ومسح الحجر بالزيت ثم تركه ومضى... إنه رمز للسيد المسيح الذي مُسح ليصالح السماء مع الأرض، لكنه هو المسيح المتروك أو المرفوض من الناس! فيما يلي بعض تعليقات للآباء عن الكلمة المتجسد الممسوح، والذي فيه نحن مُسحنا: * هذا الختم (المسحة) هو بالحري على قلوبنا لا على أجسادنا[866]. القديس أمبروسيوس * لأنه بالحق نال كل الملوك والأشخاص الممسوحين منه نصيبهم في أسماء الملوك والمسحاء، كما تسلم هم نفسه من الآب الألقاب: "الملك والمسيح والكاهن والملاك" والألقاب الأخرى المماثلة التي يحملها أو قد حملها. عصا هرون التي أفرخت تعلن عنه أنه رئيس الكهنة، وقد تنبأ إشعياء أن قضيبًا يخرج من جذع يسىَّ، وكان هذا هو المسيح[867]. الشهيد يوستين * يستحيل الإيمان بالمسيح دون تعلم الاعتراف بالآب والابن والروح القدس، لأن المسيح هو ابن الله الحيّ، الذي مسحه الآب بالروح القدس (مت 16: 16؛ أع 10: 38). وكما يقول داود بإعلان إلهي: "لهذا مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من رفقائك"، وإذ يتحدث إشعياء باسم الرب يقول: "روح الرب عليّ، لأن الرب مسحني" (إش 61: 1) [868]. * حين أصبح إنسانًا أخذ اسم المسيح، لأن الألم والموت هما ثمرة هذا الاسم[869]. الأب يوحنا الدمشقي * بهذه الكلمة كشف عن اسمه، إذ كما سبق فشرحت إنه دُعي مسيحًا من المسح anointing[870]. الآب لاكثانتيوس * انظروا أيها الأريوسيون، واعلموا ما هو الحق... يسبحه المرتل بكونه الله السرمدي، قائلًا: "كرسيك يا الله منذ الأزل وإلى الأبد"، وقد أعلن عن الأمور الأخرى لكي تشاركه فيها... لقد مُسح هنا، لا لكي يصير إلهًا، إذ هو كذلك من قبل؛ ولا لكي يصير ملكًا، لأن ملكوته أزلي؛ إذ هو صورة الله، يُظهر الإعلان الإلهي المقدس. لكن لأجلنا كُتبت هذه الأمور مقدمًا. فإن ملوك إسرائيل صاروا ملوكًا عند مسحهم، وهم لم يكونوا هكذا قبلًا، وذلك مثل داود وحزقيال ويوشيا والبقية. أما بالنسبة للمخلص فعلى العكس هو الله، الحاكم أبدًا. قيل عنه كإنسان إنه مُسح بالروح، ليمنحنا نحن البشر، لا الرفعة والقيامة فحسب وإنما أيضًا سكنى وألفة الروح، ولتأكيد هذا الأمر يقول الرب نفسه بفمه في إنجيل يوحنا: "أرسلتهم أنا إلى العالم؛ ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق" (يو 17: 18، 19) بقوله هذا أوضح أنه ليس المقدَّس بل المقدِّس، لا يقدسه آخر بل يتقدس بذاته! يتقدس في الحق؛ من يقدس ذاته هو رب التقديس، فكيف يحدث هذا إذن؟ ما الذي يعنيه سوى هكذا: "إنني يكوني كلمة الآب، أبذل ذاتي، أصير إنسانًا، أتقدس فيه، حتى يتقدس الجميع فيَّ أنا الذي هو الحق"[871]. البابا أثناسيوس الرسولي * هذا هو زيت الابتهاج، الذي يقول عنه النبي: "مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" [7]. أخيرًا يقول بطرس: "أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية مبتدئًا من الجليل بعد المعمودية التي كرز بها يوحنا، يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس" (أع 10: 37، 38). الروح القدس إذن هو زيت الابتهاج. حقًا قال: "دهن الابتهاج" لئلا تحسبونه مخلوقًا، لأن طبيعة هذا النوع من الدهن لا يختلط برطوبة (ماء) من نوع آخر. هكذا أيضًا لا تمسح البهجة الجسد بل تنير القلب الداخلي، كما قال النبي: "جعلت سرورًا في قلبي" (مز 4: 7) [872]... القديس أمبروسيوس يرى القديس أمبروسيوس في هذه المسحة إنها "دهن بهجة" ترتبط بالأعماق الداخلية لا الجسد، فتنزع عن القلب روح الغم والتبرم، وتهبه الفرح والبهجة، كما يُفصل من الماء بسهولة، لأن الزيت يطفو عليه ولا يمتزج به. إذ يتحدث المرتل عن المسحة التي بها نكتشف سرّ الصليب، يقول "مُرّ وميعة وسليخة من ثيابك" [8]. كانت ثياب أمراء الشرق ثمينة للغاية (لو 7: 25)، أما ثوب السيد المسيح فهو كنيسته، وهو ذو أريج حلو يبهجه بعمل روحه القدوس. كنيسته طاهرة "بلا دنس ولا غضب" (أف 5: 27)، تحمل رائحة بره وقداسته، رائحة المسيح الذكية (2 كو 2: 15). ويرى بعض القديسين أن ثياب السيد المسيح قد نسجت من خيوط آلامه على الصليب ودفنه، لأن المرّ والميعة والسليخة تُشير إلى الأطياب التي طُيَّبَ بها جسد السيد المسيح. * يشير النبي بهذه العطور إلى آلام ربنا وموته، لأنه عند إنزال جسده المقدس عن الصليب طيَّبه يوسف ونيقوديموس بمر وميعة. الميعة هي عصير شجرة، والسليخة هي قشرة تُسلخ من شجرة. يقول القديس باسيليوس الكبير:[إن المُرّ رمز لدفنه لأنه مشدد (جاف) ويدل على وضع الجسد في القبر؛ وأما الميعه فلكونها سائل فهي تدل على نزوله إلى الجحيم ليخلص المسجونين هناك: وأما السليخة فتدل على شجرة الصليب، وهذه قد فاضت رائحة عطرها، وملأت رائحتها الذكية البرايا. وأما قوله "من ثيابك" فيدل على تجسد ربنا وأخذ جسدًا يحل فيه اللاهوت. الأب أنثيموس الأورشليمي المُرّ هو نوع من الأطياب يستخرج كصمغ من شجرة ضخمة قصيرة تُسمى Balsamodendron Myrrah. وهو على شكل حبوب بيضاء أو صفراء لها رائحة ذكية. أُستخدم المُرّ في صنع المسحة المقدسة (خر 30: 23)، وفي التحنيط (يو 19: 39)، وفي تعطير النساء (إس 2: 12، أم 7: 17)، وهو ذو قيمة ثمينة (مت 2: 11). وهو أحد الهدايا التي قدمها المجوس عند ميلاد السيد المسيح. الميعة[873] وهي زيت عطري يستخرج من شجرة من أصل هندي تنمو في جميع الأراضي المقدسة. ويظن البعض أن الميعة هي صمغ راتينجي يُستخرج من شجرة شبيهة بشجرة المُرّ، وهي نوع من Balsamodendron. كان هذا العطر مستخدمًا في فلسطين للملابس وفي المخدع وعند الدفن في التكفين (أم 7: 17؛ نش 4: 14؛ يو 19: 39). وتتكون السليخة (خر 30: 24؛ حز 27: 19) من عيدان من لحاء شجرة نوع من "القرفة" Cinnamomum Cassia، نبات ينمو في الصين وماليزيا. وبراعم السليخة هي زهور لم يكتمل نضوجها تحمل ذات طعم القرفة ورائحتها. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل يرى في الثوب تنوعًا، إشارة إلى أن خلاصنا لا يتحقق بالنعمة وحدها وإنما ثمة حاجة إلى الإيمان وما يلحقه من ممارسة الفضائل[874]. وكان المُرّ والميعة والسليخة تفوح رائحتها بكونها رائحة المسيح الذكية التي نتمتع بها بنعمة الله دون تكاسل أو تهاون من جانبنا! يرى العلامة أوريجانوس أن ثياب كلمة الله تُشير إلى تعليم الحكمة الإلهية التي يفوح منها رائحة ذكية: يرمز المرّ إلى الموت الذي قبله السيد المسيح لأجل البشرية، والميعة تشير إلى تنازله وإخلائه ذاته ليحمل صورة العبد، والسليخة التي تستخرج من نبات يتغذى وينمو حيث ينهمر المطر بغزارة، تشير إلى فداء البشرية الموهوب من خلال مياه المعمودية[875]. وكأن غاية تعليم المسيح أن تموت معه (المُرّ) بروح الاتضاع (الميعة) متمتعًا بالبنوة لله (السليخة). ويرى كل من القديسين أمبروسيوس[876] وأثناسيوس الرسولي[877]أن هذه العطور تُشير إلى الدفن إذ بها طُيّبَ جسد السيد المسيح. بمعنى آخر، إن كانت الكنيسة هي ثوب المسيح الملتصق به، فأنها لن تحمل رائحته الذكية ما لم تُدفن معه لتقوم أيضًا معه! بعد أن تحدث عن ثياب المسيح التي تفيح رائحتها الذكية، يتعرض لهيكله البهي الناصع البياض الذي تقيمه نفوس المؤمنين بروحه القدوس، كمقدس له، وموضع بهجة! "من المنازل الشريفة العاج التي منها ابتهجت. بنات الملوك في كرامتك" [8]. * الحصون (المنازل) التي يتحدث عنها تعني هياكل الله التي بُنيت بعد آلام المسيح وبعد أن فاح عطرها في العالم. قوله "من العاج"... لأنه كثير الثمن ومتلألئ في البهاء ويدون طويلًا. هكذا صارت الهياكل المقدسة لامعة بنور نعمة الله ودائمة. أما "بنات الملوك" فهن الملكة هيلانة والملكة أفدوكسيا وغيرهما اللواتي قمن ببناء هياكل مكرّمة وبهية في أورشليم كما في بلاد أخرى. ويُقال أيضًا عن نفوس المؤمنين إنها بنات ملك الملوك الذي هو ربنا يسوع المسيح. أنثيموس أسقف أورشليم 6. الملكة العروس: بدأت تسبحة العُرس بالكشف عن شخصية العريس وإمكانياته وأعماله وسمات مملكته وفاعليته، الآن تقدم لنا العروس الملكة، ومركزها في عيني عريسها، وسمائها، ودورها الإيجابي. "قامت الملكة عن يمينك" [9]. لم يقل "قانت العروس" بل "قامت الملكة عن يمينك" وذلك لتأكيد الحقائق التالية: 1. أنها وإن كانت في حالة عُرس دائم، وفرح بلا إقطاع، لكن يلزمها أن تدرك دورها الإيجابي بكونها "ملكة". دخولها إلى العُرس، هو دخول إلى حالة فرح، لا لتعيش مدللة تنتظر من يخدمها، بل تحمل المسئولية لتعمل لحساب الآخرين. جاء المسيح الملك لكي يخدم ويبذل نفسه عن كثيرين، وهكذا يليق بالكنيسة - كهنة وشعبًا - أن يشاركوا العريس هذه السمة: سمة الخدمة الباذلة والحب العملي بلا توقف! 2. جلوسها عن يمين الملك هو شرف عظيم، من يستحقه؟! لكنه "اليمين" يعني القوة، فجلوسها عن يمينه إنما يعني أنها تحمل قوته، فلا تنسب أي نجاح إلى ذاتها بل إلى عريسها العامل في حياتها... كل ما في حياتها هو ديْن لذاك الذي أقامها ملكة. لهذا إذ يشرح القديس يوحنا الذهبي الفمكيف رأى داود النبي الكنيسة ملكة يقول: [طرح نفسه علينا كثوب: "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غل 3: 27). وحينما رأى داود ذلك الثوب من بعيد بعينيه النبويتين صرخ عاليًا، وقال: "قامت الملكة عن يمينك". فجأة صارت المتسولة والمطرودة ملكة تقف عن يمين الملك؛ ويظهر النبي المسيح والكنيسة كعريس وعروس واقفين في عُرس[878]]. 3. إنه عرس فريد فيه ترتدي العروس عريسها كثوب تختفي فيه (غل 3: 27)، فتحمل شركة سماته: أي الحياة السماوية التي يرمز لها بالذهب. فقد قيل: "مشتملة بثوب موشى بالذهب متزينة بأنواع كثيرة" [9]. ثوب الكنيسة منسوب بالذهب، بمعنى آخر، في كل أفكارها وتصرفاتها تمارس الحياة السماوية، والفكر السماوي. أما زينتها المتنوعة فتشير إلى المواهب المتعددة لأعضائها. الكل يشترك في انسحاب قلوبهم إلى السماء لكن لكل واحد موهبته الخاصة التي لبناء الجميع. وكما يقول الرسول: "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد" (1 كو 12: 6)، "هكذا أنتم أيضًا إذ أنكم غيورون للمواهب الروحية اطلبوا لأجل بنيان الكنيسة أن تزدادوا" (1 كو 14: 12). 4. يطلب العريس السماوي من عروسه أن تحتل مكانتها في العائلة الملوكية السماوية بكونها عروس وملكة. فهو يحبها، مقدمًا آخر قطرة من دمه لاقتنائها، إذ ليس من شيء في نظره أثمن منها. لهذا يطالبها مشاركته في ذات الحب، فتعتبر كل شيء آخر غيره بلا قيمة مهما كان عزيزًا عليها. يطلب منها أن تخرج بقلبها من العالم وشره وخداعاته، كما يُطالبها أن تهجر أقرب الناس إليها لتلتصق به، كما أخلى ذاته لكي يلتصق بها. لقد قدس ذاته لأجلها (يو 17: 19)، طالبًا تقديس كل حياتها أو تكريس كل قلبه لخدمته، حاسبًا هذا هو جمالها الروحي الذي يشتهيه فيها، إذ يقول: "أسمعي يا ابنتي وانظري وميلي بسمعك. وانسي شعبك وبيت أبيكِ. فإن الملك اشتهي حسنك، لأنه هو ربك" [10-11]. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[879] أن الكنيسة قد صارت عروسًا للمسيح بعد أن كانت أختًا له، إذ جددها بالمعمودية قبل أن تصير عروسًا له. ولئلا تُفهم هذه الألقاب مثل "أخته" و "عروسه" بطريقة مادية أو بقرابة جسدانية أو دموية، نراه يدعوها هنا "ابنته". كيف تكون الأخت والعروس ابنة للعريس؟ إنه يود أن يكشف عن مدى شوقه للالتصاق بنا فيقدم لنا هذه الألقاب، فنقبله كل شيء بالنسبة لنا. ففي هذا المزمور يقدم نفسه هكذا: * الإله [6] الأبدي الذي يملك على القلب ويحملنا إلى عرشه السماوي. * المسيح [7] المسموح بدهن الابتهاج، مكرسًا كل إمكانياته ليهبنا فرحه الأبدي. * الملك [6] الذي يقيمنا ملكة تنعم بشركة مجده الملوكي. * عريسًا [11] نتحد به كعروس، فنحمل بهاء فينا. * سيدًا [11] نتعبد له بفرح. * أبًا روحيًا [10] ونحن ككل، ابنته المدللة في عينيه. ويلاحظ في دعوته إليها بأن تنسى شعبها وبيت أبيها لتلتصق به، الآتي: أ. يطالبها بتقديس حواسها، خاصة السمع والنظر؛ فإن كان هو سامع الصلوات والمتطلع إلى البائسين، يليق بنا نحن أن نسمع إليه بالطاعة، وأن نتطلع إليه بالحب. أول وصية هي "اسمع"... لأن الطاعة أفضل من ذبائح الجهال. والطاعة القلبية هي انعكاس للحب الداخلي الذي يسحب قلوبنا - العين الداخلية - التأمل في الله محبوبنا! ب. يُطالبها بالتشبه بإبراهيم أب الآباء الذي بالإيمان أمال أذنه إلى دعوة الله، فترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه، منطلقًا من أور الكلدانيين إلى حيث دعاه الله لينال المواعيد الإلهية المتلاحقة. كان يجب عليه أن يخرج من بين الوثنيين، وينسى كل خبراتهم لينعم بخبرات روحية جديدة بالتصاقه بالله ودخوله في عهد معه. * في هذا المزمور يتحدث الله عن النفس البشرية أنها إذ تقتدي بإبراهيم يلزمها أن تخرج من أرضها ومن عشيرتها، وأن تترك الكلدانيين أي الشياطين (العبادة الوثنية) وتسكن أرض الأحياء التي يقول النبي عنها في موضع آخر: "وأنا أومن أني أُعاين خيرات الرب في أرض الأحياء" (مز 27: 13). لكن لا يكفي الخروج من أرضكم ما لم تنسوا شعبكم وبيت أبيكم، أي إن لم تحتقروا (شهوات) الجسد، وتلتصقوا بالعريس في عناق وطيد وثيق[880]. القديس جيروم * قال القديس باسيليوس: [إن أب الخطاة هو الشيطان، إذ قيل إن من يصنع الخطية هو مولود من إبليس (8: 41، 44). إن قوله أن يخرجوا من بيت أبيهم يعني أن يكفوا عن فعل الخطية وأن يولدوا لله بالمعمودية ليصيروا أولاده. أنثيموس أسقف أورشليم إذ يدعوها أن تنسى بيت أبيها... يشتهي حسنها، لأنها إذ تتخلى عن إبليس وأعماله تقبل عمل الله فيها كسرّ جمالها. * لا يُعطى النسيان جمالًا... فما نوع النسيان هذا الذي يسكب جمالًا على النفس؟ إنه نسيان الخطية! لكن، متى يأتينا نسيان الشر؟ عندما نتذكر الأمور الصالحة، عندما نتذكر الله! إن كنا نتذكر الله على الدوام لا يمكننا أن نتذكر تلك الأمور أيضًا! * إن كان فينا أي شيء عتيق، فلنطرحه عنا؛ إن كان فينا أي غضن أي دنس أو عيب، فلنغسله فنصير أطهارًا (أف 5: 27)... يمكن حتى لمن تشوّه تمامًا أن يستعيد هذا الجمال الذي يقول عنه داود: "يشتهي الملك حسنك" [881]. القديس يوحنا الذهبي الفم * إننا مدعوون من الله الآب خلال مبادرة مباركة مغبوطة أن نهجر أبانا الشيطان. حقًا إننا نترك أبانا الشيطان شريطة الاستعانة بالله، والجهاد الدائم أن نتحاشى شره المخادع ونهرب منه[882]. الأب قيصريوس أسقف آرل * يعني إن تركتِ أعمال شعبكِ الشنيعة، وخرجت من بيت أبيك، يتجلى بهاؤك الأول، وتصيرين شهية المنظر. وأما بهاء النفس وجمالها فهو حسن العبادة والعفة والاتضاع وسائر الفضائل التي تُرضي الله. أنثيموس أسقف أورشليم * بالنسبة للشخص الذي يقول: "اسمعي يا ابنتي"، يكون لها بمثابة أب. إنه يشهد أن الذي يحثها على نسيان بيتها وشعبها هو أب لابنته، ويتم ذلك بموت الإنسان مع المسيح عن اهتمامات هذا العالم. يقول الرسول: "ونخن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى، لأن التي تُرى وقتية وأما التي لا تُرى فأبدية" (2 كو 4: 18). وإذ ننطق قلبيًا من هذا البيت المنظور الزمني نوجّه أعيننا وقلوبنا إلى ذاك الذي نبقى فيه إلى الأبد، ونحقق ذلك إذا ما كنا ونحن نتحدث في الجسد لا نعود بعد في حرب مع الرب حسب الجسد، معلنين بالقول والفعل حقيقة قول الرسول الطوباوي: "سيرتنا نحن هي في السموات" (في 3: 20) [883]. الأب بفنوتيوس * ترك الرسل والديهم (مت 9: 9؛ مر 11: 15-19)، تركوا الأقارب، تركوا كل ممتلكاتهم في لحظة. تركوا العالم وقنيته اللامحصورة... الله لا ينظر إلى حجم الممتلكات، بل إلى تدبير النفس التي نبذتها[884]. القديس جيروم * إذ يعتبر البعض (في هذا القول) استعارةً، يقولون إنه حينما جاء المسيح من اليهودية خرجت الكنيسة لاستقباله، خرجت من ديارها (أي من الوثنية)، إذ كُتب: "أنسي شعبك وبيت أبيكِ". لأن المسيح أيضًا خرج من تخومه (مت 15: 21-22)، لهذاصار ممكنًا أن يقع كل منهما في حب الآخر, ولهذا قيل: "وإذا امرأة كنعانية خارجة من تخومها" (أنظر مت 15: 22) [885]. * حتى راعوث، لو لم تكن قد تركت زوجها قبلًا ونبذت بيتها وجنسها وبلدتها وأقرباءها ما نالت هذه القربى. هكذا الكنيسة أيضًا إذ تخلت عن العادات التي اكتسبتها من آبائها، عندئذ وليس قبل ذلك، صارت جميلة في نظر عريسها[886]. القديس يوحنا الذهبي الفم يقول السيد المسيح: "خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم" (يو 16: 28)، وذلك بإخلائه ذاته، ونزوله إلينا دون أن ينفصل قط عن الآب لأنه واحد معه ومساوٍ له في الجوهر... هو خرج إلينا ليلتقي بنا، ونحن أيضًا نخرج إليه من "الذات" أو "الأنا" لنلتقي معه في دائرة الإخلاء كعروس مع عريسها. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[887]: [إنه إذ رأى البشرية وقد تركت الله وصارت زانية، نزل الكلمة الإلهي إليها لا في كمال بهائه بل ابنًا للإنسان، حتى لا تخاف منه ولا تهرب، بل تقبله وتتقبل الاتحاد معه والتمتع بعمله فيها فتصير بالحق عروسه الجميلة والملكة]. به نترك فسادنا ونحمل الطبيعة الجديدة الجميلة والتي لا يشيخ جمالها مع الزمن ولا ينحل. * اعلموا أنكم قد ارتبطم بالمسيح، فامتنعوا عن تلك الحماقات، إذ هو لا يُسر بمثل تلك الانحرافات، بل يطلب جمالًا آخر به يزداد حبه لنا بالأكثر جدًا، أعني ما في النفس (من جمال). هذا ما يُلزمكم النبي أن تطلبوه، إذ يقول: "فيشتهي الملك حسنك"[888]. القديس يوحنا الذهبي الفم * كيف تصير المدوسة والفقيرة ملكة؟! إلى أين ارتفعت؟ لقد صارت الملكة التي تقف عاليًا بجوار الملك! كيف؟ لأن الملك صار خادمًا، وهو ما لم يكن عليه بالطبيعة، إنما صار هكذا. أفهموا إذن ما يخص اللاهوت، واستوعبوا ما يخص الإخلاء! أفهموا من كان هو؟ وماذا أصبح لأجلكم؛ ولا تخلطوا بين الأمور المتمايزة، ولا تجعلوا من جدلكم حول تعطفاته الجزيلة مجالًا للتجديف[889]. القديس يوحنا الذهبي الفم هكذا صار الملك خادمًا لكي يُقيم من الخادمة ملكة، وأخلى الملك ذاته لكي يسكب جماله عليها أبديًا! * المرض يفسد الجمال الجسدي، وطول الأيام يُحطمه، والشيخوخة تجعله شاحبًا، ويأتي الموت ويقتنصه بكليته. أما جمال النفس فلا تهزه الأيام ولا الأمراض ولا الشيخوخة ولا الموت ولا شيء من هذا، بل يبقى دائم الازدهار. كم من مرة أسقط الجمال المتطلعين إليه في تصرفات شريرة؟! أما جمال النفس فيجتذب الله ذاته ليحبه، وذلك تمامًا كما قال النبي مخاطبًا الكنيسة: "اسمعي يا ابنتي وانظري وميلي سمعك... فإن الملك قد اشتهى حسنك"[890]. القديس يوحنا الذهبي الفم 5. كنيسة متعبدة لعريسها: "لأنه هو ربك فأسجدي له" [11]. إذ يعكس العريس جماله عليها تصير جميلة جدًا جدًا وتصلح لمملكة (حز 16: 13)، فإنها في اتحادها معه تكتشف بالأكثر مجده، فتتعبد له في عذوبة فائقة. ومع كل تعبد تتعرف عليه بالأكثر فيزداد حبها له وخضوعها، لتبقى على الدوام تسجد له بكل كيانها في تهليل عجيب! إنها كعروس متهللة بعريسها لا تعرف كيف ترد له إحساناته غير المحصاة، فتخضع له وتسجد علامة شكرها الدائم! ومع كل شكر تفيض نعم الله عليها بالأكثر فيزداد حنينها بالأكثر نحو تقديم الشكر والحمد له...! هذه هي سمة الحياة السماوية الفائقة! يقول القديس غريغوريوس: [إنه في الأبدية إذ نخضع قائلين الثلاثة تقدسيات نشعر كأننا ننعم بمجده جديدًا في حياتنا فنقوم لنسجد، نبقى هكذا في عذوبة فائقة! شتان بين خضوع إبليس وجنوده لله في يوم الرب العظيم حيث يطلبون أن تسقط الجبال لتغطيهم من وجه الجالس على العرش، وبين خضوع العروس المتهللة التي تنعم بشركة الأمجاد. العروس الجامعة: تتسم هذه العروس بالجامعة، فقد انفتح باب الإيمان أمام كل الأمم والشعوب بعد أن ظن اليهود زمانًا أن الإيمان بالله قاصر عليهم دون غيرهم. ويتمتع بهذا الإيمان كل الفئات حتى وجد أباطرة وملوك وأمراء لهم نصيبًا في كنيسة العهد الجديد. ففي دهشة يقول المرتل: "وله تسجد بنات صور بالهدايا، ويتلقون وجهه أغنياء شعب الأرض" [12]. كانت "صور" تمثل الغنى الفاحش خلال تجارتها العالمية مع الانحلال والفساد، بكونها بلدًا تجاريًا مفتوحًا للغرباء. وقد سبق لنا الحديث عنها في تفسيرنا لسفري حزقيال[891] وإشعياء[892]. ويرى القديس جيروم أن كلمة "صور" في العبرية تعني "محنة"[893]، لذا يرى أن سكانها يشيرون إلى الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه. سجود صور للعريس وتقديمها هدايا يشيران إلى انجذاب الأمم إليه وتقديم العبادة. وكما يقول الأب أنثيموس الأورشليمي: [ستخضع له كافة الأمم، لأنه للمسيح تنحني كل ركب. وقد ذكر صور المدينة التي كانت تُتاخم بلاد اليهود، وكانت فيها عبادة الأصنام زائدة. وأيضًا بذكره صور شمل كافة الأمم، وهذا تعريف للكل من الجزء. فيقول إن الأمم جميعها التي هي على مثال أهل صور ستخضع له، وتقدم له هدايا الإيمان المستقيم والأعمال الصالحة]. بقوله: "ويتلقون وجهه أغنياء شعب الأرض" [12] يرى المرتل أن المؤمنين بالسيد المسيح هم الأغنياء في الإيمان، الذين صاروا به ملوكًا وكهنة (رؤ 2: 1)، أغنياء في عيني الله الذي يتقبلهم أبناء له بروحه القدوس في مياه المعمودية. بمعنى آخر إذ تقدم إليه الأمم من كل العالم ينالون غنى وشبعًا ومجدًا داخليًا فلا يشعرون بعوزٍ أو احتياج. هذه هي إحساسات الرسول بولس الذي يجد في مسيحه كنوز الحكمة والعلم (كو 2: 3)؛ كما يقول: "إنكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة وكل علم" (1 كو 1: 5). 7. مجد العروس: نزل العريس السماوي إلى أرضنا لكي يبسط ذراعيه على الصليب فيضم المؤمنين من كل الأمم إلى أحضانه كعروس سماوية تحمل بهاء في داخلها، تطلب المجد الخفي لا المظاهر الخارجية. إنها كخيمة الاجتماع المغطاة من الخارج بجلود ماعز بلا جمال، أما الداخل ففيه أثمن أنواع الأقمشة من أرجوان وأسمانجوني مع تابوت العهد المبطن بالذهب والمنارة الذهبية بكل جمالها ومذبح البخور الذهبي الخ... من الخارج يراها العدو كما في فقر وخزي فيحتقرها، وفي الداخل يراها عريسها فيفرح بها. هكذا يرى الرسول أيضًا في خارجه الإنسان الذي يفنى بينما الداخل يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). من الخارج عار الصليب خارج المحلة، وفي الداخل قوة القيامة وبهجتها. يُحدثنا المرتل عن مجد العروس هكذا: 1. مجد داخلي: "كل مجد ابنة الملك من الداخل" [13]. إذ تدخل العروس إلى حجال عريسها الملك تصير له كل شيء: عروسًا وابنة وخادمة وصديقة الخ... تُمجده بحياتها حتى بأفكارها الخفية فيُمجدها هو أيضًا. * يجب أن نلاحظ أنه كما أن للملك حجالًا خاصًا إليه تُحضر عروسه أو ملكته، هكذا للعروس غرفتها حيث يُغلق الباب متى لحق بها كلمة الله (اللوغوس) ودخلت معه. لهذا فهي بكل ما لها من غنى في الداخل تغلق عليه في غرفتها هذه لتُصلي إلى الآب الذي يرى في الخفاء، وتدرك نفائس ما جمعته هناك، وإذ يبصر غناها يهبها ما تطلبه في صلواتها. العلامة أوريجانوس يُناجي العريس السماوي عروسه الممجدة في الداخل، قائلًا: "أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 4: 12). كأنه يقول لها: أذكري إمكانياتي فيك، فإنني أنا سرّ مجدك، جعلتكِ جنة وعينًا وينبوعًا؛ غرست فيكِ بروحي القدوس أشجارًا متنوعة، وفجّرت فيك ينبوع ماء حياة، وصرت لكِ سورًا من كل جانب حتى لا يتسلل إليك لص أو وحش مفترس. يُحدثنا الحكيم عن الإمكانيات الداخلية المجيدة، قائلًا: "اشرب مياهًا من جبك، ومياهًا جارية من بئرك. لا تفض ينابيعك في الخارج، في الشوارع، مع الغرباء"... كما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص[894]: [إنه حينما تنحرف أفكارنا الداخلية نحو الخطية الغريبة نكون قد أضعنا مياه ينابيعنا، وقدمناها للغرباء]. حين نركز أنظارنا على المجد الداخلي يُقيم الله نفسه حارسًا على أبواب قبلنا أو إنساننا الداخلي، إذ يؤكد: "وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها وأكون مجدًا في وسطها" (زك 2: 5). يرى القديس أمبروسيوس أن المجد الداخلي المختوم هو بتولية النفس التي تحمل ثمارًا كثيرة صالحة: [ينطق السيد بهذا القول (نش 4: 12) للكنيسة التي يُريدها بتولًا بلا دنس ولا عيب. الجنة المخصبة هي البتولية التي يمكن أن تحمل ثمارًا كثيرة لها رائحة صالحة... إنها جنة مغلقة، لأنها محاطة بسور الطهارة من كل جهة. وهي ينبوع مختوم، لأن البتولية هي ينبوع العفة وأصلها، تحفظ ختم النقاوة مصونًا بغير اضمحلال، فيه تنكس صورة الله، حيث تتفق نقاوة البساطة مع طهارة الجسد أيضًا[895]]. 2. مجد سماوي: "مشتملة بأطراف موشاة بالذهب" [13]. في العهد القديم كان بهدب رداء الكاهن رمانات من نسيج ذات ألوان بديعة يتخللها أجراس ذهبية، يرى العلامة أوريجانوس أن هذه الأجراس يُلزم أن تدق على الدوام رمزًا لعدم سكوت الكاهن عن التحدث عن الأزمنة الأخيرة ونهاية العالم[896]. هكذا تحمل الكنيسة في عبادتها وسلوكها وعقائدها الطابع الأخروي السماوي (الذهب)، حتى أطرف ثوبها سماوية. 3. مجدها في تنوع مواهبها: "متزينة بأشكال كثيرة" [13]. 4. مجدها في كرازتها وشهادتها لعريسها. "يدخلن إلى الملك عذراى في أثرها. جميع قريباتها إليه يقدُمْنَ" [14]. إذ تنجذب النفس إلى عريسها تسحب معها قلوب كثيرة بشهادتها له، تأتي بكثيرين كعذارى. 5. كنيسة متهللة: "يَبْلُغْنَ بفرح وابتهاج؛ يدخلن إلى هيكل الملك" [15]. تفرح كل نفس بعريسها وتتهلل من أجل غنى أعماله ومحبته الفائقة لها. أما سرّ فرحها فهو دخولها إلى هيكل الرب السماوي. يرى القديس باسيليوس الكبير أن الحديث هنا عن الكنيسة الواحدة التي تجتذب الكثيرين من فساد معتقداتهم لتهبهم روح الفرح الحقيقي وتدخل بهم إلى الممالك السماوية. 6. كنيسة مكرمة: "ويكون لك أبناء عوضًا من آبائك. تُقيمهم رؤساء على سائر الأرض" [16]. لقد مات الآباء البطاركة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأقام الله من أبنائها (الرسل) رؤساء وملوكًا روحيين في كل أقطار المسكونة[897]، لهم سلطان روحي أن يحلو ويربطوا حسب إنجيل المسيح. * يتحدث الطوباوي داود هنا عن اختيار الرسل القديسين[898]. القديس كيرلس الكبير 7. كنيسة مسبحة تُمجد اسم الله: "ويذكرون اسمك في كل جيل وجيل؛ من أجل ذلك تعترف لك الشعوب يا الله إلى الدهر وإلى دهر الدهور" [17]. إنها تجتذب المؤمنين من كل الشعوب ليُسبحوا لله ويعترفوا بعمله الخلاصي العجيب. لتُسبحك نفسي أيها العريس الأبدي! * هب لي يا رب أن يشترك لساني مع قلبي في تسبيحك، فإن فيض حبك في داخلي يلهب أعماقي! وقد بقى لساني عاجزًا عن التعبير عما في باطني! * لتكشف عن بهاء جمالك في أعماقي، يا من أنت أبرع جمالًا من بني البشر! لتسكب بهاءك عليّ، فأحمل شركة سِماتك! * جميل أنت يا رب في حبك، بنزولك إليّ رفعتني إلى حضن أبيك، وبدخولك إلى معركة التجارب وهبتني نصرتك، وبضعفك أعطيتني ما هو أعظم من القوة! جميل أنت على الصليب، فقد فتحت لي أحشاءك الملتهبة حبًا، فأدخل واستقر فيها! جميل أنت في قيامتك، حطمت أبواب الجحيم، وفتحت لي أبواب الفردوس! جميل أنت في صعودك، فأنني أترقب مجيئك لكي أدخل معك إلى سمواتك! * شفتاك تقطران دسمًا، كلامك يهب نعمة الحياة والقيامة! قل كلمة فانجذب إليك، وأبقى معك إلى الأبد! * ما أروعك أيها العريس الملك المحارب، اضرب بسيفك لتبتر كل شر في داخلي، ادخل إلى معركة قلبي لتقيم عَلَمْ ملكوت محبتك فيّ! أقم في داخلي ملكوت الحق والوداعة والعدل! * أيها المسيح إلهي، امسحني بدهن روحك القدوس واهب البهجة! افرزني لحساب ملكوتك! * هب لي موضعًا عن يمينك أيها الملك السماوي، فأُحسب ملكة سماوية، ارتدي ثوب برك، وأتزين بمواهب روحك القدوس! * ادعني بصوتك فأنسى العالم وكل ما فيه، أنجذب إليك بكل قلبي، ويأتي معي كل من يشتهي العذراوية الروحية! * اسكب مجدك في داخلي، فقد اشمأزت نفسي من المجد الباطل. فيفيض قلبي بالتسبيح لك إلى دهر الدهور! * لك المجد أيها العريس السماوي، اكشف لي عن أسرار عُرسك! |
||||
التعديل الأخير تم بواسطة Mary Naeem ; 23 - 01 - 2014 الساعة 05:01 PM |
|||||
23 - 01 - 2014, 05:03 PM | رقم المشاركة : ( 48 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 46 (45 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير رب القوات معنايعتبر البعض أن هذا المزمور هو أول مزامير صهيون أو الكنيسة؛ وهو قريب في روحه من المزمورين 48 و76. ويرتبط هذا المزمور مع المزمورين التاليين (47، 48) ليكوَّنا ثالوث تسبيح. وُضع هذا المزمور في مناسبة عمل خلاصي قدمه الله لشعبه بطريقة فائقة مثل خلاص أورشليم من حصار سنحاريب (2 مل 19: 8-9)؛ أو خلاص يهوشفاط وشعب يهوذا من آرام وبني عمون وذلك عندما ابتدأ المرتلين في التسبيح للرب (1 مل 20: 1-30)، إذ قيل: "لأن الحرب ليست لكم بل لله" (2 أي 20: 15). يعلن المزمور الحضرة الإلهية، أو سكنى الله وسط شعبه بكونه "رب القوات" [7-11]، يهب شعبه القوة على الطبيعة حتى إن تزعزت الأرض وانتقلت الجبال إلى البحار [1-3]، وعلى الأعداء إذ هو في وسط شعبه فلن يتزعزع [4-7]، بل وعلى المسكونة كلها [8-11]. هكذا يتجلى الله المخلص في وسط كنيسته، صهيون الجديدة، كما في وسط جيش بألوية (نش 6: 4)، يهبها نصرته. تستخدم بعض الكنائس هذا المزمور في الاحتفال بعيد الأبيفانيا (الظهور الإلهي) حيث يتجلى الله المخلص وسط شعبه معلنًا عمله فيه، وفي عيد عرس قانا الجليل حيث يحول السيد المسيح الماء إلى خمر يفرح قلب الكنيسة، كما يستخدم في الاحتفال بتكريس كنيسة ما[899]. الإطار العام: 1. رب القوات واهب القوة القرار:[1-3]. 2. رب القوات واهب البهجة [4-7]. ماذا يُقدم الروح القدس للمؤمن خلال كنيسة المسيح؟ أ. التقديس ب. سكنى الله في الإنسان أبديًا 3. رب القوات واهب النصرة [8-11]. رب الجنود ناصرنا! "رب القوات (الصباؤوت) معنا، وناصرنا إله يعقوب" [7-11]. يُنسب لقب "رب الصباؤوت" أو "رب الجنود" إلى الله الحالّ على التابوت، حيث يُعلن إنه الإله الحاضر في القصر الملكي السماوي الذي لطغماته السمائيين. كما يُنظر إلى كنيسته كجيش روحي تتمتع بالعهد مع الله، تُجاهد روحيًا لإقامة ملكوته فيها (خر 7: 14؛ 21: 41؛ عد 10: 36؛ 1 صم 17: 45). كان لقب "رب الجنود" يمس حياتنا من جانبين: 1. ظهور الله كملك محارب وكقائد، لا يدفعنا إلى المعركة مع إبليس وقواته بأوامره ووصاياه، إنما يدخل معنا المعركة، ويتقدم صفوفنا، ويهبنا قوته الغالبة، وكما يقول إشعياء النبي بعد أن شاهد معصرة الصليب: "من ذا الآتي من أدوم بثياب حُمر من بصرة، هذا البهي بملابسه، المتعظم بكثرة قوة... هكذا قُدمت شعبك لتصنع لنفسك اسم مجد" (إش 63: 1، 14). ويقول الرسول "يقودنا في موكب نصرته" (2 كو 2: 14). لقد قدم لنا كل الإمكانيات لنصرتنا، وبقى هو القائد الحقيقي الذي يمسك عجلة قيادة الكنيسة بنفسه. وكما نقول في القداس الإغريغوري إنه لم يرسل لنا ملاكًا ولا رئيس ملائكة ولا كاروبًا بل نزل بنفسه إلينا... وكما يقول الرسول: "الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا كل شيء معه؟!" (رو 8: 32). إنه لم يأتمن أحدًا غيره على خلاصنا، وقد قدم جنوده السمائيين لخدمتنا أو كما يقول الرسول بولس عن الملائكة إنهم خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 14). نصرتنا أكيدة مادمنا في شركة مع رب القوات، الذي يحل فينا بروحه القدوس. يأمر الكواكب فتحارب في المعركة؛ ويُرسل فرقًا من الملائكة أينما أراد، بينما أهلك ملاك واحد في ليلة واحدة 185.000 جنديًا (2 مل 20: 35) إنه رب القوات الذي تخضع له كل الطبيعة، يأمرها فتطيعه. غالبًا ما يُقال عن الشعب هكذا (قوات الرب)؛ كمثال قيل إن كل قوات الرب قد خرجت من أرض مصر؛ كما توجد أيضًا قوات أخرى هم السمائيين، فيقول الكتاب: "رب القوات معنا، إله يعقوب ملجأنا"[900]]. "إله يعقوب رافعنا". اجعل نفسك كطفل صغير يرفعه والده. لأن من لا يُرفع فهو (طفل) متروك، أما من يُرفع فمُعتنى به. القديس أغسطينوس ب. يُنسب نفسه إلى جنوده المجاهدين في طريق بره، لذا يدعو نفسه "رب الجنود"، كما يدعو نفسه "إله يعقوب"، لأن يعقوب صارع مع الله والناس وغلب... إنه إله المجاهدين لا الكسالى والمتراخين.العنوان: "لإمام المغنين، لبني قورح، ترنيمة على علاموث Alamoth" وبحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام لبني قورح، من أجل الخفايا". 1. كلمة "alam" تعني "سرًا" أو "خفية"[901]، ولهذا جاء العنوان في بعض النصوص كالترجمة السبعينية "من أجل السرار" أو "من أجل الخفايا"، فإن هذا المزمور يعلن عن سرّ الله الخاص بسكناه وسط كنيسته بكونه ملجأها وخلاصها وسلامها. يرى بعض أن تعبير "ترنيمة على علاموث Alamoth" تعني تسبحة الكنيسة الفتاة البتول، لأن كلمة alamoth مشتقة من آلما Alama، وهو التعبير الخاص بالقديسة مريم والدة الإله في (إش 7: 4) بكونها فتاه مخطوبة عذراء! كأن هذا المزمور هو نشيد المعركة الإلهية التي يُتقدمها رب القوات بغية تقديس كنيسته، وتقديمها عروسًا عذراء. بهذا الروح يعمل خدامه، قائلين مع الرسول بولس: "فإني أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة لمسيح" (2 كو 11: 2). يرى البعض أن الكلمة "alamoth" تشير إلى نغمة موسيقية لنشيد يبدأ بكلمة "عذارى". 2. سبق لنا الحديث عن "إلى التمام"[902]، بكونه تعبيرًا عن تحقيق الأمر في ملء الزمان حيث تجسد كلمة الله وتمم خلاصنا، وصار هو نفسه "نهاية اشتياقاتنا" أو غايتنا. وهو أيضًا غاية الناموس أو نهايته. يلزم فهم ما قيل "إلى التمام" إنه خاص بالمسيح. لأن "غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن" (رو 10: 4). وهو يُدعى "النهاية" ليس لأنه ينتهي وإنما يكمَّل. القديس أغسطينوس 3. "بنو قورح" Core، أي أبناء الجلجثة أو الصليب كما سبق فرأينا[903]، فإنه لا يقدر أحد أن يتمتع بتسبحة رب القوات كرب الكنيسة الغالب ما لم يرتبط بالصليب "قوة الله" للخلاص (1 كو 1: 24). كلما أنشد أبناء المصلوب تسبحة صهيون المنتصرة بصليب مخلصها يكتشفون أسرارًا إلهية خفية بأعماق جديدة، مشتاقين أن يبلغوا كمالها... وهذا يولد فيهم عطشًا أكثر نحو المعرفة الروحية والتمتع بالأسرار.السرّ إذن ليس إلا (المسيح) نفسه، هذا الذي بصلبه في موضع الجلجثة Calvery شق - كما تعلمون - الحجاب حتى تنكشف أسرار الهيكل. القديس أغسطينوس 1. رب القوات واهب القوة:"الله لنا ملجأ وقوة ومعين في الأحزان التي أصابتنا جدًا" [1]. حينما تشتد الأحزان سواء بسبب الأعداء الظاهرين كما حدث عندما حاصر جند سنحاريب ملك أشور أورشليم في أيام حزقيال، أو بسبب الأعداء الخفيين مثل الخطايا، فإننا نجد في الله ملجأ لنا وقوة ومعينًا إن كنا مقدسين له، ننعم بالشركة معه. هذه هي تسبحة الكنيسة المتحدة بالمسيح رأسها، فيه تختفي وبه تقاوم الشر! يقول القديس باسيليوس الكبير: [إن كثيرين ينطقون بهذا الكلام بأفواههم لا بقلوبهم، والدليل على ذلك إنهم إذ يسقطون في ضيقة يسرعون إلى وساطات بشرية لا إلى الله]. ماذا تجد الكنيسة في ملكها المحارب؟ أ. "ملجأ": إنها مُستهدفة لهجوم مستمر من عدو الخير، لذا تحتاج إلى ملجأ دائم، قادر أن يحصنها. ب. "قوة": لئلا يُفهم أنها تقف في سلبية بهروبها إلى الله ملجأها، يقدم ذاته قوة لتعمل به، فتقول مع الرسول: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 13). ج. "معينًا": إذ يهبها ذاته قوة، يقف بجوارها بل وفي داخلها كمعين لها، يعمل معها. يسمح لها بالتجارب، ويعينها وسط أحزانها حتى تبقى نامية ومتقدمة في نضوج. كثيرة هي الأحزان، وفي كل حزن يلزمنا أن نهرب إلى الله، سواء كان الحزن يمس عقارنا أو صحة جسدنا أو كارثة لمن هم أعزاء علينا جدًا أو تمس أمرًا آخر خاص بضروريات هذه الحياة، فإنه بالنسبة للمسيحي لا يليق مطلقًا الالتجاء إلى آخر غير مسيحه، غير إلهه، الذي إذا ما هرب إليه يتقّوى. ولكن أيها الأعزاء المحبوبين، من بين كل الأحزان التي تلحق بالنفس البشرية ليس حزن أخطر من الشعور بالخطية. القديس أغسطينوس "من أجل ذلك لا يخشى إذا تزعزعت الأرض،وانتقلت الجبال إلى قلب البحار. عجت مياهها واضطربت، تتزعزع الجبال بعزته" [2-3]. يتطلع الإنسان إلى الأرض بكونها الحاملة له، إن تزعزعت يفقد حياته وكيانه، كما يتطلع إلى الجبال بكونها راسخة من يقدر أن يحركها؟! إن اشتدت الضيقة جدًا حتى شعر المؤمن كأن الأرض تتزلزل تحت قدميه وما كان يظنه راسخًا قد انهار كالجبال الساقطة في المحيطات، لا يخف لأن إلهه هو خالق الطبيعة كلها! لعله قصد بالأرض العسكر المحاصرين لأورشليم، وبالجبال القادة العظماء الآشوريين، فإن الله يزعزع هؤلاء ويلقي بأولئك كما في قلب البحار! إن كانت الأرض تُشير إلى الجسد، والجبال إلى الشخصية القوية والمواهب العظيمة، فإن انهار جسدك وظننت أنك قد خسرت الكثير من مواهبك حتى شخصيتك، لا تخف فإن الله مخلصك يقدر أن يقدس جسدك ونفسك وقدراتك ويرد لك كمال شخصيتك بعزته! vلنطلب جبالًا محمولة، فإن استطعنا أن نجدها، فمن الواضح أن فيها آماننا. بالحقيقة قال الرب لتلاميذه: "لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انطرح في البحر فيكون" (مت 17: 20؛ 21: 21)... قال عن نفسه "هذا الجبل"، إذ يدْعى "الجبل"؛ "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون مُعلنًا" (إش 2: 2). لكن هذا الجبل يوضع فوق كل الجبال، لأن الرسل أيضًا هم جبال يعملون لحسب هذا "الجبل". لذلك قيل: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون مُعلنًا، ثابتًا في رأس الجبال" (إش 2: 2). إنه فوق قمم كل الجبال، وعليها يقوم، لأن الجبال تكرز "بالجبل". ويشير البحر إلى هذا العالم... بمعنى أن هذا الجبل الذي هو "أنا نفسي" يُكرز به بين الأمم، ويتمجد بينهم وتتحقق النبوة عني: "شعب لم أعرفه تعبد لي" (مز 18: 43). * "عجت المياه واضطربت" [3]. عندما كُرز بإنجيل، ماذا حدث؟ لقد ظهر عند الأثينيين أنه يُنادي بآلهة غريبة (أع 17: 18)؛ أما الأفسسيون فقاموا بشغب ليقتلوا الرسل (أع 19: 34)، وكانوا هائجين يصرخون: "عظيمة هي أرطاميس الأفسسيين!". القديس أغسطينوس جبال الله شيء، وجبال العالم شيء آخر،جبال العالم هم أولئك الذين رأسهم الشيطان، وجبال الله هم أولئك الذين رأسهم المسيح. أولئك (جبال العالم) يهزمهم هؤلاء، عندئذ يصوتون ضد المسيحيين. عندما تهتز الجبال تعج المياه... وتحدث زلزلة، ويضطرب البحر؛ ولكن ضد من؟ ضد الكنيسة المؤسسة على الصخر! القديس أغسطينوس 2. رب القوات واهب البهجة:"مجاري الأنهار تفرح مدينة الله" [4]. إن كانت كلمة الكرزاة تزعزع الأرض وتنقل الجبال وتهيج البحار، إنما لتُحطم الشر وتقيم أرضًا مقدسة، جبالًا ثابتة تحمل "الجبل" (السيد المسيح) على قممها، وتحول مياه البحار المالحة والمضطربة إلى أنهار عذبة تفرح مدينة الله. تقيم كنيسة المسيح: الأرض الجديدة التي يسكنها الله، والجبال المقدسة، ومياه الروح التي تفيض لتروي! يقول الإنجيلي: "وقف يسوع ونادى قائلًا إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب؛ من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ؛ قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطى بعد" (يو 7: 37-39). تحدث يوئيل النبي عن هذا النبع العذب، قائلًا: "ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيرًا، والتلال تفبض لبنًا، وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماءً، ومن بيت الرب يخرج ينبوع ويسقي وادي السنط" (يوئيل 3: 18). هذا الفيضٍ يُدمّر الشر ويهدم الإنسان العتيق بأعماله، ويبني الإنسان الجديد وينميه، واهبًا الكنيسة ككل والأعضاء حبًا سماويًا وفرحًا وسلامًا. وكما يقول الرسول: "لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون؛ لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15-16). يرى العلامة أوريجانوس[904] أن النهر هو الروح القدس الذي يحمل إلى المؤمنين (الأشجار المغروسة على ضفافه) الكتابات الإنجيلية والرسولية، وأيضًا المعونة التي يُقدمها السمائيون إليهم من قبل الله. ويحدثنا القديس أمبروسيوس عن هذا النهر الذي يُحيط بنا (يونان 2: 3) بكونه الروح القدس الذي يروي أورشليم السماوية، الذي يفيض على الكنيسة بالسيد المسيح المصلوب. الروح القدس هو النهر، النهر الوفير، النهر العظيم الذي يفيض دومًا وبلا انقطاع... فإن أورشليم السماوية لا ترتوي بنهر أرضي بل بالروح القدس[905]. لا تُروي تلك المدينة، أورشليم السماوية، بقناة أو بنهرٍ أرضي، بل بالروح القدس... والذي يكفي رافدٌ قصير منه لإروائنا بمياهه، هذا الذي يفيض بأكثر غزارة وسط تلك العروش السماوية والسلطات والقوات والملائكة ورؤساء الملائكة، إذ يتدفق في ملء جريان فضائل الروح القدس السبع. فإن كان نهر مرتفع يفيض على ضفافه ويتدفق، كم بالحري يكون الروح الذي يفيض على كل مخلوقٍ حينما يلمسه، وكأنه يمسُّ سهول أذهاننا المنخفضة فيبهج طبيعة الخلائق السماوية بفيض تقديسه[906]. العهد القديم بئر عميق تُسحب منه المياه بالجهد... أما العهد الجيد فليس بنهر فحسب وإنما "وتجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38)، أنهار تأمل، أنهار روحية[907]. القديس أمبروسيوس توقفت الأمطار النوية (نش 2: 11) لكن ليس لخسارة المؤمنين بل لمزيد من الفائدة للكنيسة، لأنه ما حاجتنا إلى الأمطار حينما تفرَّح مجاري الأنهار مدينة الله؟ حينما يفيض نبع مياه حياة أبدية وذلك في قلب كل مؤمن[908]؟!العلامة أوريجانوس مجاري المياه أيضًا هي المعمودية (وسرّ المسحة) التي خلالها ننعم بالنبوة لله ونتمتع بسكنى الروح القدس الذي يُقدسنا كأعضاء جسد المسيح، لذا قيل:"لقد قدّس العليّ مسكنه. والله في وسطها لا يزول. يعين الله وجهها" [4-5]. يقول القديس أغسطينوس: [مادام يشير إلى التقديس فواضح أن مجاري المياه هذه تُفهم عن الروح القدس، الذي به تتقدس كل نفس تقية مؤمنة بالمسيح، فتصير مواطنة في مدينة الله]. ماذا يُقدم الروح القدس للمؤمن خلال كنيسة المسيح؟ 1. التقديس: إذ يجعله مسكن العلي المقدّس. الروح القدس المنبثق من الله (الآب) هو مصدر القداسة، القوة الواهبة الحياة، النعمة التي تُعطي كمالًا، خلاله ينعم الإنسان بالتبني، يصير الفاسد في عدم فساد. إنه واحد مع الآب والابن في كل شيء في المجد والأبدية والقوة والملكوت واللاهوت. هذا ما يُختبر بتقليد معمودية الخلاص[909]. القديس باسيليوس الكبير 2. سكنى الله في الإنسان أبديًا: ينال (المعتمد) الروح القدس فيه ويحمل فعلًا لقب هيكل الله[910]. القديس كيرلس الكبير 3. يرد للإنسان كرامته ودالته لدى الله:"يعين الله وجهها" [5]: هذا هو سرّ بهجة المؤمن وفرحه كمدينة الله التي ترتوي بمجاري الأنهار، فتنعم بالحياة المقدسة في الرب، وسكنى الروح فيها، والتمتع بدالة البنوة أمام الله. هذا من الجانب الإيجابي، أما من الجانب السلبي فينزع الله عنا الشر، ويُحطم أعمال الإنسان العتيق فينا، لذا قيل: "اضطربت الأمم، وماجت الممالك. أعطى صوته فتزلزلت الأرض" [6]. 4. رب القوات واهب النصرة: "هلمَّ فانظروا أعمال الرب، التي جعلها آيات على الأرض الذي يرفع الحروب من أقاصي الأرض" [8-9]. يهب الرب كنيسته نصرة، إذ أقامها في كل المسكونة، واهبًا البشرية سلامًا داخليًا عوض الاضطراب والغم. لقد ملك الرب على الأمم، وأقام مملكة سلامه الروحي في قلوب الكثيرين! يرى البعض أن كلمة "انظروا" هنا جاءت لتعني التطلع الداخلي... حيث يرى القلب الملكوت الداخلي. ربما يعني بأقاصي الأرض جسد الإنسان ككل، فإنه إذ يملك الرب على القلب يقدس الجسد بكل أعضائه وأحاسيسه ومشاعره، فلا يعود يخاف عدو الخير ولا يرهب أدواته التي يُحطمها الرب بصليبه: "يسحق قسيّهم، ويرض سلاحهم وأتراسهم يحرق بالنار" [9]. ربما هنا إشارة إلى عادة قديمة كانت تتبع بعد نوال نصرة ساحقة وأكيدة، حيث تُجمع الأسلحة في كومة وتحرق بالنار (يش 11: 6، 2 صم 8: 4، حز 39: 8-10). قيل عن الإمبراطور فسبسيان الروماني عند احتفاله بنهاية الحروب في أيطاليا وفي كل العالم، إنه صنع ميدالية تمثل إلهة السلام وقد أمسكت بيدها غصن زيتون وبالأخر مشعلًا متقدًا ألقت به على كومة الأسلحة لتحرقها[911]. ربنا يسوع المسيح هو ملك السلام الذي يُلقي بمشعل روحه القدوس في داخل القلب فيحرق الأشواك الخانقة للنفس، ويُحطم كل أسلحة إبليس، واهبًا إيانا سلامه الفائق. يتساءل القديس أغسطينوس: [هل تحقق هذا الآن؟ لقد تحقق بالنسبة للبعض، تحقق بالنسبة للحنطة، ولم يتحقق بعد بالنسبة للزوان]. "ثابروا، واعلموا أني أنا هو الله. أرتفع في الأمم. وأتعالى على الأرض" [10]. كأنه يقول: أتريدون أن تختبروا سلامي؟ أتريدون أن تحترق كل أدوات الحرب المهلكة؟ كفّوا عن الاتكال على الأذرع البشرية! ارتبطوا بي فأرفعكم فوق الأمم (طلبات الجسد) وأتعالى بكم على الأرض، حيث أحملكم كما بجناحي حمامة إلى سمواتي؟ رب الجنود ناصرنا! عجيب أنت يا ربي في حبك، كقائد تتقدم بنفسك في ساحة المعركة، لتدخل بنا إلى النصرة الأكيدة، وكأب تحملنا نحن أطفالك الصغار إلى حضن أبيك! تُعلمنا كيف نُجاهد، مصارعين حتى الدم، وتتلطف بنا فتشبع عواطفنا! نحن جنودك وأطفالك الصغار! لتزعزع أرض قلبي القاسي، فتحوله إلى أرض جديدة مملوءة حبًا! ولتتحطم فيَّ الجبال الشامخة، لتُقيم فيَّ جبالك المقدسة. لتحول قلبي من بابل المتغطرسة إلى أورشليم المتضعة! لتحول حياتي من مدينة إبليس إلى مدينة الله! ليعمل روحك القدوس فيّ! ليفيض كنهر إلهي، يحول وادّي إلى جنات مثمرة! لتسكن في داخلي، وليحل سلامك فيّ! احرق يا رب كل أسلحة عدو الخير، ولتقم فيَّ أسلحة الروح! |
||||
23 - 01 - 2014, 05:09 PM | رقم المشاركة : ( 49 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 47 (46 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير مَلِكْ الجميعمزمور مسياني ملوكي: بحسب التلمود كان هذا المزمور في العصور المتأخرة لليهودية يُستخدم في الاحتفال ببداية السنة الجديدة. وهو يكشف عن الابتهاج بتتويج الله نفسه ملكًا على الأرض كلها. ويرى البعض أن هذا المزمور مع المزامير (93، 95-100) قد وضعت للاحتفال بعيد سنوي كذكرى لعمل إلهي فائق، فيه أعلن الله عن غلبته على أعدائه، وأظهر ملكوته على الخليقة[912]. يرتبط هذا المزمور ارتباطًا وثيقًا بالمزمور السابق، وربما وُضع في نفس المناسبة. ويرى البعض أنه مثل (المزمور 24) وُضع بمناسبة نقل تابوت العهد إلى جبل صهيون، ليحمل نبوةً عن صعود السيد المسيح إلى السماء، وحكمه الملوكي وعن جلوسه عن يمين الآب، وعن انتشار الكرازة بالإنجيل في المسكونة. ويرى كثير من المفسرين (الحاخامات) أنه مزمور مسياني. يحوي هذا المزمور الخيوط الثلاثة للنبوة في العهد القديم: 1. المسيا: بكونه ملك الأرض كلها لقد فتح السيد المسيح أبواب كنيسته أمام كل الأمم، وهو يملك عليها روحيًا، مشتاقًا أن يملك على حياتنا بكليتها: أعني أجسادنا وأرواحنا وأفكارنا وأعمالنا وكلماتنا (كو 1: 17، 18)، لا ليسيطر بل ليهب روح الفرح، ويردّ لنا كرامتنا ومجدنا المفقود! [7]. 2. الأمم: تخضع للملكوت المسياني [8، 9]. 3. اليهود: كوسطاء لتحقيق ذلك [4]. ويرتبط هذا المزمور في بعض الكنائس بعيديْ الأبيفانيا (الظهور الإلهي) والصعود حيث يُعلن فيها السيد المسيح كملك روحي على كل الأرض[913]. مناهج تفسير المزمور: اتبع الدارسون أحد المناهج التالية للتفسير أو بعضها: 1. التفسير التاريخي: يطلب البعض فهم المزمور على ضوء حدث أو أحداث تاريخية معينة، ربما نصرة في حرب معينة أو إصلاحٍ الهيكل بعد الرجوع من السبي. فمع كل نصرٍة في موقعٍة ما يتوقع المؤمنون نصرة شاملة وجامعة حيث يمتلك الله على الأرض، بقبول الأمم الإيمان. وعند إصلاح الهيكل كان البعض - إذ يرون في الهيكل القصر الإلهي الملوكي - يتوقون أن يسعدوا بمُلك الله على الشعوب كلها... وبهذا تتحقق غاية التاريخ في قبضة الله، خاضعًا له! 2. التفسير الانقضائي (الأخروي): يتطلع البعض إلى هذا المزمور كمزمور يمس يوم الرب العظيم حيث تبلغ الخليقة غايتها، حين تسقط مملكة إبليس تمامًا بلا رجعة، ويملك الرب إلى الأبد. 3. التفسير المسياني: قبله كثير من المفسرين اليهود؛ ونادى به أغلب آباء الكنيسة الأولى، حيث يرون في السيد المسيح ملك الملوك الذي حقق بالصليب ملكوته الروحي. 4. التفسير التعبدي: الذي يفترض أن المزمور يمثل جزءًا من ليتورجية الاحتفال بتجليس الله ملكًا على شعبه[914]. الإطار العام: 1. التنبوء بمُلك الله الجامع [1-4]. 2. العبادة العامة لله الملك [5-7]. 3. مجد الله الملك [8-9]. لتملك... ولتتمجد! العنوان: "لإمام المغنين، لبني قورح، مزمور"؛ وفي الترجمة السبعينية: "للتمام لبني قورح". 1. يليق بهذا المزمور أن يحمل عنوان "للتمام" أو "إلى النهاية"، لأنه يمثل غاية الناموس أن يملك السيد المسيح على الشعوب روحيًا؛ وربما لأن المزمور يحمل طابعًا أخرويًا أو انقضائيًا، فإن غاية وجودنا وتاريخنا البشري كله أن يأتي رب المجد ويحملنا إلى ملكوته الأبدي"للتمام" أو "التمام" أو "حتى النهاية" في مزامير 4، 5، 6، 8، 9، 12، 81). 2. سبق أن رأينا معنى "قورح"، وكيف تشير الكلمة إلى "الجلجثة"، فإنه لن يُدرك السيد المسيح كملك الملوك الذي يملك على حياة الإنسان إلا ذاك الذي صار ابنًا للمصلوب، يرتمي بروح البساطة على صدره كطفل فيقيمه المصلوب ملكًا (رؤ 1: 6)! * أبناء قورح Core، من هم...؟ إنهم أبناء العريس؛ لأن العريس قد صلب في موضع الكفارة Calvary... وُضعت الطفولة أمامنا لنقتدي بالاتضاع، كما وُضعت لكي نحذر الجهالة... يُسبح المزمور لبني قورح، أي للمسيحيين. لننصت إليه بكوننا أبناء العريس الذي صلبه الأطفال القساة في موضع الكفارة Calvary. القديس أغسطينوس 1. التنبوء بمُلك الله الجامع: "يا جميع الأمم صفقوا بأيديكم؛ هللوا لله بصوت الابتهاج" [1]. 1. لغة هذا المزمور مستعارة من نصرات الملك على أعدائه، ولكن بروح النبوة، حيث يرى المرتل المسيا الملك يدخل معركة حاسمة ليُحطم مملكة إبليس العدو الحقيق، ويقيم مملكته. لقد رأى بعينيه الداخلتين الملك الأعظم والمعركة الأخطر والنصرة الفائقة التي انتهت بقيامة السيد المسيح الذي حطم "الموت" كآخر عدو للبشرية، وانطلق إلى سمواته ليحمل مؤمنيه إلى حيث هو جالس، وبصعوده انتشرت الكرازة به، وملك البرّ على الأمم[915]، وتحولت حياة المؤمنين إلى ملكوت الفرح والبهجة. إذن هذا المزمور هو "نشيد عسكري"، فإلى يومنا هذا يستخدم التصفيق بالأيدي والهتاف في الجو العسكري والسياسي (عد 23: 21؛ يش 6: 16، 20؛ 1 صم 10: 24، عز 3: 12). 2. يُطالبنا المرتل أن نحتفل بمُلك المسيا بتصفيق الأيادي مع أصوات الابتهاج أو هتاف الفرح. ليرتبط عمل الأيادي بعمل الحنجرة والفم، فإن التصفيق بالأيادي إنما يُشير إلى إعلان ملكوت المسيا على جميع الأمم خلال كرازتنا للغير بالسلوك العملي... يرون المسيا ملكًا على قلوبنا وأعضاء جسدنا وكل إمكانياتنا، هذه جميعها التي تُفرَز لحساب ملكوته بحبنا إن أمكن لكل إنسان في العالم. أما عمل الحنجرة أو الفم واللسان فهو الشهادة لملكوته... حيث تلتحم شهادة العمل بشهادة الكلمة. بمعنى آخر لنسبح للملك الغالب، معلنين فرحنا بالحياة العملية كما بكلمتنا! 3. يردد هذا المزمور كلمة "هللويا"، وهي تعني "سبحو ليهوه"، وتحمل روح الفرح المرتبط بالغلبة أو النصرة، فالمؤمن يرى في إلهه الساكن في أعماقه الغالب الذي خرج غالبًا ولكي يغلب (رؤ 6: 2). * لا تبتهجوا بالفم بينما تكون الأيادي عاطلة؛ إن ابتهجتم "صفقوا بالأيادي". ما هي أيدي الأمم؟ إنها سلوكهم بالأعمال الصالحة. * (لتبتهجوا) بالصوت كما بالأيادي. إن كان بالصوت وحده، هذا ليس حسنًا، لأن الأيدي متراخية! إن كانت بالأيدي وحدها، هذا أيضًا ليس حسنًا، لأن اللسان أخرس! لتتفق الأيدي مع اللسان. ليكن هكذا الاعتراف مع العمل! "اصرخوا لله بصوت النصرة". القديس أغسطينوس * يُعلمنا الكتاب أن نرنم للرب، وأن نرقص بحكمة كقول الرب لحزقيال أن يضرب بيده ويخبط برجليه (حز 6: 11). لا يطالب الله بحركات مضحكة يقوم بها جسد ثائر، ولا يطلب تصفيق النساء... إنما يوجد رقص وقور، حيث ترقص الروح بسمو الجسد بالأعمال الصالح، عندما نعلق قيثارتنا على الصفصاف[916].القديس أمبروسيوس * حيث أن بشارة الإيمان بالمسيح قد انتشرت في العالم كله حتى آمن أناس من كافة الأمم، لهذا تدعو النبوة كافة الأمم جملةً وإجماعًا إلى التسبيح لله بفرح وسرور.يقول النبي صفقوا بأيديكم التي تنجست بذبائح الأصنام، والآن قد تطهرت بالمعمودية، أي اصنعوا أعمالًا مرضية لله تبهج الملائكة وتحزن الشياطين فتكون مثل تصفيق الغالبين الذي يُسر الأصدقاء ويحزن المغلوبين. أصواتكم التي كانت قبلًا مجدفة، صارت الآن صلوات وتسابيح مبهجة؛ هللوا بها لله، أي لربنا يسوع المسيح الذي هو عالٍ مع أنه اتضع بتجسده إنه مهوب ولو أنه قبِل الإهانة باختياره. أنثيموس أسقف أورشليم "لأن الرب عالٍ ومرهوب،ملكُ كبير على كافة الأرض" [2]. هذه اللغة لا تناسب إلا مُلك المسيح، الذي يُدعى ملكًا عاليًا ومهوبًا (عب 12: 28، 29؛ تث 4: 24؛ 9: 3؛ 10: 17-21؛ نح 1: 5؛ صف 2: 11). مسيحنا إله محب البشر، يبذل ذاته من أجل كل أحد، يترفق بالخطاة، ويهتم بخلاصهم دون أن يجرح مشاعرهم، وفي حبه هو أيضًا إله مهوب، قدوس لا يقبل الشركة مع الفساد؛ هو نور لا يطيق الظلمة، وهو الحق الذي لا يشترك مع الباطل، والطريق الملوكي الذي لا يعرف الاعوجاج. لنحبه ونخفه في نفس الوقت، فإن محبتنا له دون الخضوع لإرادته والطاعة لوصيته هو استهتار واستخفاف. لنعبده بالحب مع خوف ورعدة! لقد ملك الرب على خشبة الصليب، حيث سجل محبته لنا في كمالها بدمه المبذول، وأعلن مهابته وعدله، محطمًا بصليبه قوات الظلمة... بهذا يعلن الصليب أنه "ملك كبير على كافة الأرض"، وليس على أمة واحدة؛ وكما يقول القديس أغسطينوس: [لا يكفيه أن تخضع أمة واحدة له، ولهذا دفع ثمنًا عظيمًا، قدَّمه من جنبه، ليقتني العالم كله]. "أخضع الشعوب لنا، والأمم تحت أقدامنا" [3]. كلمة "أخضع" هنا تعني قبول كلمة الرسل ليدخلوا في قطيع المسيح الوديع، حيث يترك الأمم روح الغطرسة والكبرياء ومقاومة الكنيسة لينحنوا ويحملوا صليب مسيحها بفرح وابتهاج. لهذا يرى بعض الآباء أن العبارة تعني خضوع الشياطين والخطايا التي كانت تسيطر على الأمم الوثنية، وسقوطها تحت أقدام الصليب. فمع خضوع الأمم بالإيمان بروح الحب والطاعة انهار شرهم وانسحق تحت قدميْ الكنيسة. المتحدثون هنا هم الرسل الذين لا يتكلمون بروح التشامخ والكبرياء، وإنما في دهشة عجيبة لعمل صليب المسيح في حياة الوثنيين. فبينما هم يقاومونه إذا به يجتذبهم إلى روح الخضوع الكامل للكارزين ليصيروا كأنهم عند أقدامهم؛ ويفرح الرسل لأنهم يحملونهم معهم ليخضع الكل عند قدميْ المصلوب. * نجد القديسين، بصوت المرتل، يرتفعون مقدمين تسابيح الشكر صاعدة إلى المسيح الذي يكللهم، قائلين: "أخضعَ الأمم لنا والشعوب تحت أقدامنا"! إن مسعى القديسين وغايتهم الجادة أن يجعلوا الذين يتعلمون على أيديهم شركاء النعمة المعطاة لهم بواسطة المسيح. ويمكن لأي أحد أن يتعلم من الرسالة التي بعث بها الطوباوي بولس إلى البعض، قائلًا: "مشاق أن أراكم لكي أمنحكم هبةً روحية لثباتكم" (رو 1: 11)[917]. القديس كيرلس الإسكندري "اختارنا ميراثًا له،جمال يعقوب الذي أحبه" [4]. في النص العبري: "يختار لنا نصيبنا، فخر يعقوب الذي أحبه. سلاه"... إن كنا نفرح لأن الله قد اجتذب بصليبه الأمم ليصيروا أعضاء في كنيسته المقدسة، خاضعين للرسل... فإن سرّ فرحنا الحقيقي هو "عمل الله"، فقد خطط تدبير خلاصنا، وأعطانا ذاته نصيبًا له، وقبلنا نحن نصيبه وميراثه! في الترجمة السبعينية: "اختارنا ميراثًا له"... فإن كان الأمم يخضعون للكنيسة بالإيمان بعريسها، فإنه لا فضل للداخليل في الإيمان في شيء، لأن الروح القدس هو الذي يجتذبهم والرب يختارهم... هو اختارنا، وهو الذي أحبنا أولًا، وهو الذي عكس جماله علينا، وأعطانا بركةً أن نُحسب ميراثًا له! 2. العبادة العامة لله الملك: جاء مسيحنا ليفتح أبواب الإيمان أمام كل الأمم والشعوب، مقدمًا حياته مبذولة عن الجميع، وبصعوده إلى سموات فتح الأبواب أمام الكل... لهذا تبقى الكنيسة الجامعة تتعبد له متهللة بعمله معها مادامت على الأرض حتى تلتقي بمسيحها الصاعد إلى السماء في يوم مجيئه الأخير. "صعد الله بتهليل، والرب بصوت البوق" [5]. يقول المرتل إن الرب قد صعد بتهليل وبصوت البوق، لماذا؟ 1. بتهليل علامة العبادة بفرح شديد، إذ يقول الإنجيلي: "وأُصعد إلى السماء، فسجدوا له ورجعوا إلى أورشليم بفرح عظيم، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله" (لو 24: 51-53). صعوده لم يدخل بهم إلى حزن وحرمان، بل إلى فرح عظيم وسجود وتسبيح وشكر لله... لأنهم رأوا في صعوده صعودًا لهم. ما صنعه الرب إنما لحسابهم وباسمهم. صعوده حوّل الكنيسة إلى سماءً متهللة متعبدة، تُشارك السمائيين تسابيحهم وفرحهم! 2. أما عن صوت البوق فلم نسمع في العهد الجديد عن سماع التلاميذ لأصوات بوق، لكننا ندرك أنهم رأوه الملك الغالب المنتصر، انطلق إلى السماء لتبّوق السماء معلنة نصرة مليكها. بصعوده تهللت الأرض لأنها اتحد مع السماء، وأعلنت أبواق السماء نصرة مليكها. ولهذا فعند مجيئه الأخير سيضرب الملائكة صوت بوق (1كو 15: 52، 1 تس 4: 16). * التهليل هو صوت الغالبين الفرحين، والبوق هو علامة المُلك وإشهاره. إذن قوله: "صعد الله بتهليل" معناه أنه بعد قهر الموت، وصرع الخطية، وقمع الشياطين، ونزع الضلالة، وحوّل الأشياء إلى ما هو أفضل، صعد راجعًا إلى السماء، وهو لم يكن مفارقًا للسماء ولا للعالم عند تجسده (إذ يملأ لاهوته السماء والأرض). لم يكن صعوده بقوة غريبة عنه مثل ارتفاع إيليا النبي، وإنما كان ذلك بقدرته وحده... ويقال أيضًا: "بوق" عن تسابيح الملائكة الذين كانوا يشيرون إلى بعضهم البعض بفتح الأبواب السماوية واستقبال ملك المجد (مز 24: 7-10). كما يُقال أيضًا عن أفواه الرسل وكرازتهم في العالم بصعود بربنا، إذ كانت كما من بوقٍ... فقد بلغت شهرة صعود ربنا أن يُنادي بها علانية من جيل إلى جيل. لم يقل النبي "بصوت الأبواق"، بل "بصوت البوق"، ذلك لأجل اتفاق رأي الرسل والملائكة باتحاد واحد. الأب أثيموس أسقف أورشليم * ما هو التهليل إلا دهشة الفرح التي لا تُعبر عنها كلمات؟! فقد دُهش التلاميذ فرحين، إذ رأوا ذاك الذي حزنوا عليه لموته يدخل السماء. حقًا لم تكن الكلمات تكفي للتعبير عن الفرح، لذا بقى التهليل يعبر عما عجزت عنه الكلمات.وُجد أيضًا صوت بوق، أي صوت الملائكة... فقد بشر الملائكة بصعود الرب... "أيها الرجال الجليليون ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء، إن يسوع..." (أع 1: 11)... لقد اختفى الجسد من أمام أعينكم لكن الله لا يترك قلوبكم. تطلعوا إليه صاعدًا، آمنوا به غالبًا، ترجّوا مجيئه، ولكن خلال رحمته الخفية اشعروا بحضرته. فإن الذي صعد إلى السماء وانحجب عن أعينكم، وعدكم، قائلًا: "ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء العالم" (مت 28: 20). بعد يُخاطبنا الرسول، قائلًا: "الرب قريب، لا تهتموا بشيء". يجلس المسيح فوق السموات، والسموات بعيدة جدًا، أما الجالس هناك فهو قريب... القديس أغسطينوس إن كان السيد المسيح قد صعد إلى السموات ليجعلها قريبة جدًا منا، فإنه ليس من عمل تقوم به الكنيسة مثل التسبيح المستمر بكونه العرش الذي يتربع عليه عريسها الملك، لهذا ففي عدد واحد يُكرر المرتل كلمة "رتلوا" أربع مرات:"رتلوا لإلهنا رتلوا، رتلوا لمليكنا رتلوا" [6]. لم يقل "رتلوا لله" أو "رتلوا للملك" بل "لإلهنا" و"لمليكنا"، فإن الله هو إله العالم كله والملك على كافة الأرض، لكن لا يستطيع أحد أن يُرتل له بفرح ما لم يشعر بأنه قد خصه هو... فهو إلهنا وملكنا. لقد كرر الكلمة أربع مرات، لأن المرتل يدعو الكنيسة الممتدة في أربع جهات المسكونة: المشارق والمغارب والشمال والجنوب ألا تنشغل بشيء إلا بالتسبيح له، فتتهيأ كمركبة يجلس عليها الملك! إنه يطالبنا أن نمجده ونتعبد له بفهم كما بالروح أيضًا (1 كو 14: 15): "لأن الرب هو ملك الأرض كلها؛ رتلوا بفهم" [7]. * إنه يعلمنا وينصحنا أن نرتل بفهم، لا أن نطلب الصوت للأذن بل النور للقلب. القديس أغسطينوس * لنرفع أيضًا أصواتنا بالترنم الصلاة في الكنيسة حتى يرحل خصمنا الشيطان مرتبكًا عند سماعه الصوت المقدس. إن لم يكن (التسبيح) بالعمل فيلزم التأكد أن يكون بالفكر أو الكلام؛ فإن الشيطان عادة يزحف نحو الصامتين أو الناطقين بأمور دنيئة باطلة، ولا يخدع الذين يرتلوا أو يصلون، هؤلاء الذين يراهم منشغلين عقليًا أو بأصواتهم بتسابيح الله[918].الأب قيصريوس أسقف آرل 3. مجد الله الملك: بعد أن أعلن جامعية مُلك الله الذي يفتح باب الإيمان أمام كل الشعوب، والتزام الكنيسة الجامعة بالترنم له بفهم، يختم المزمور بالحديث عن مجد الله الملك المُعلن بقبول الأمم الإيمان وما يناله المؤمنون من بركات: "فإن الرب مَلكَ على جميع الأمم. الله جلس على كرسيه المقدس. رؤساء الشعوب اجتمعوا مع إله إبراهيم. لأن أعزاء الله قد ارتفعوا في الأرض جدًا. هللويا" [8-9]. يظهر مجد الله في الآتي: 1. يملك الله على جميع الأمم حيث تتحقق وعود الله لإبراهيم: "بنسلك تتبارك جميع الأمم"... ما نناله في العهد الجديد من بركات كانت في خطة الله التي كشفها لصديقه إبراهيم. لهذا يقول المرتل: "رؤساء الشعوب اجتمعوا مع إله إبراهيم" [9]. * ذكر النبي إبراهيم لأن الله قد وعده أن بنسله تتبارك جميع قبائل الأرض. فلما ترك الأمم آلهة آبائهم اجتمعوا مع إبراهيم، وصاروا جماعة واحدة. الأب أنثيموس أسقف أورشليم 2. تمجد الله بجلوسه على كرسيه [8]، الذي هو جماعة المؤمنين.* كرسي الله هم الصديقون الذين لأجل طهارتهم يستريح الله فيهم. الأب أنثيموس الأورشليم * تطيع النفس الله الجالس فيها، وتقوم النفس بإصدار أوامر لأعضاء الجسم... فتتحرك القدم واليد والعين والأذن. إنها تأمر الأعضاء كخدم لها، وهي تخدم ربها الجالس فيها.القديس أغسطينوس 3. إذ يملك الرب على إنسان، يهبه قوة ومجدًا، فيُحسب من أقوياء الرب أو من أعزائه. "لأن أعزاء (أقٌوياء) الله قد ارتفعوا في الأرض جدًا" [9].* من هم أقوياء الله؟ الرسل وكل المؤمنين. إنهم أقوياء لأنهم واجهوا العالم كله وغلبوه، ولم ينهزموا قط[919]. القديس يوحنا الذهبي الفم يتمجد الله في كنيسته التي يجعل منها جيشًا روحيًا بألوية، فيقيم من الضعفاء أقوياء، ويخرج من الآكل أكلًا! لتملك... ولتتمجد! * كوعدك الصادق مع أبينا إبراهيم، فتحت لنا أبواب بيتك، وباركتنا فيك! وملكت في قلوبنا! * لتملك يا رب على جميع الأمم، ولتضبط كل حياتي، ولتقدس كل إمكانياتي لحسابك! ولتجعل من نفسي كرسيًا لك! * أشكرك، لأنك قبلتني ميراثًا لك! هب لي أن تكون أنت هو ميراثي! * علمني كيف أسّبحك بفمي كما بيدَّي! أشهد لك بفرح قلبي وبممارسة الحب العملي! * ارفع قلبي إلى سمواتك، يا من صعدت إليها! هب لي ألا أبّوق هنا لأنال مجدًا زمنيًا، بل انتظر يوم مجيئك، أفرح حين أسمع صوت بوق ملائكتك! * أشكرك يا ملك الأرض كلها، فإنك ملكت في حياتي، لكي تجعلني من أقويائك، وتسكب مجدك عليّ! تَمجّد أيها القدوس فيّ! |
||||
23 - 01 - 2014, 05:32 PM | رقم المشاركة : ( 50 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 48 - تفسير سفر المزامير مدينة الملك العظيممزمور صهيون (الكنيسة): أحد مزامير صهيون أو مزامير الكنيسة، كان يُسبح به لتمجيد الله العظيم ومدينته المملوءة مجدًا في موكب جماعي. وهو لا يفصل بين الله وكنيسته بل يقدم لهما صرخة تسبيح واحدة... لهذا يُحسب هذا المزمور تسبحة الله الممجد في كنيسته! فلا نعجب إن بدأ المزمور بقوله: "عظيم هو الرب" [1] وينتهي هكذا: "هذا هو إلهنا إلى الأبد وإلى أبد الأبد، وهو يرعانا إلى الدهر" [14]، فإن الكنيسة في جوهرها هي "حياة مع الرب وفيه"، فيها يُعلن مجد الرب العظيم، وتتجلى رعايته الفائقة وتُختبر نعمته العجيبة المجانية. جمال الكنيسة وبهاؤها وقوتها ونموها إنما في اتحادها مع الله وارتباطها بالسيد المسيح بكونها جسده. يدعوها المرتل: "مدينة الملك العظيم" [2]، وقد أشار السيد المسيح إلى هذا اللقب في موعظته على الجبل (مت 5: 35). حضوره فيها هو سرّ مجدها [1-2]، وأمانها [3-8]، وفرحها وتسبيحها وبرها وشهادتها [9-14]. كلما تطاع المرتل إلى صهيون بروح الفرح والتهليل في الرب، فيقول: "تتسع كل الأرض بالتهليل" [2]، "في أقطار الأرض يمينك مملوءة عدلًا" [10]. وكا قيل في إشعياء النبي: "وتسير شعوب كثيرة ويقولون: هلمَّ نصعد إلى جبل الرب إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله، لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب، فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل الخ" (إش 2: 3-4). مناسبته: ربما كانت المناسبة هنا هي ذاتها التي كانت للمزمورين 46، 47. هناك خصائص مشتركة بينه وبين المزمور 46، على الأقل من جهة جوّه المفعم بالابتهاج الغامر بعد خلاص عظيم. المزامير الثلاثة (46-48) تركز على "الثقة في الله" بكونه ملجأ لنا (46) وملكنا (47، 48)[920]. يرى البعض أن المزمور قد أشار ربما إلى حصار سنحاريب عام 701 ق.م. [4-8]. ويرون آخرون[921] أنه يُقدم خبرة سائح جاء يحج إلى مدينة أورشليم، مبديًا إعجابه بعظمتها ومُنصتًا لتقرير موجز عن بقائها إثر حروب عديدة وحضارات متنوعة، متطلعًا إلى كل جزء منها كشاهد حيّ عن معاملات الله مع شعبه، ورعايته الفائقة للمؤمنين؛ وإذ يعود إلى بيته يخبرهم بما رأه وسمعه وأحسَّ به! الهيكل العام: 1. مدينة الملك العظيم [1-3]. 2. المدينة التي لا تُقهر [4-8]. 3. مدينة متعبدة متهللة [9-11]. 4. مدينة شاهدة لإلهها [12-14]. مدينة رب القوات العنوان: "تسبحة مزمور لبني قورح"، وبحسب الترجمة السبعينية: "تسبحة لبني قورح، في ثاني السبت" 1. يرى القديس غريغوريوس أن المزمور كله يتكلم على لسان الراجعين من السبي البابلي، أن "السبت" معناه "الراحة"، وهم قد عادوا ثانية إلى راحتهم، يسبّحون الله ويشكرونه. هذا هو معنى عنوان المزمور "لثاني السبت"[922]؛ ولعله يقصد بذلك "الرجوع الثاني". 2. يرى القديس أغسطينوس أن "ثاني السبت" تعني اليوم الثاني من الخلقة، حيث قال الله: "ليكن جلد"... ودعا الله الجلد سماءً (تك 1: 6-8). يقول إن السبت الأول أو "أول السبت" هو يوم الرب، أما السبت الثاني فهو يوم كنيسة المسيح؛ أبناء الكنيسة هم أبناء الجلد أو أبناء السماء الذين لا يخضعون للتجارب. [إنهم يستحقون اسم "الجلد". إذن فكنيسة المسيح التي في هؤلاء الأقوياء الذين يقول عنهم الرسول: "فيجب علينا نحن الأقوياء أي نحتمل ضعفات الضعفاء" تُدعى "الجلد"]. 1. مدينة الملك العظيم: "عظيم هو الرب؛ ومسبح جدًا في مدينة إلهنا على جبله المقدس" [1]. يرى البعض أن هذا المزمور هو منجم يحوي ألقابًا ثمينة للكنيسة، مدينة الله: (مدينة إلهنا، جبله المقدس، جبال صهيون، جوانب الشمال، مدينة الملك العظيم، مدينة رب القوات الخ...) كل لقب يكشف عن جانب من جوانبها الحية. * مدينة إلهنا... أي المدينة التي نلتقي فيها مع الله بكونه إلهنا المنتسب إلينا، نلتقي به خلال علاقات شخصية، بدخولنا معه في عهد وميثاق. فالكنيسة هي التقاء الله مع شعبه الخاص ليوقّع بآخر قطرة من دمه الثمين على ميثاق الحب الذي أُعلن بالصليب. * جبله المقدس... هي مدينة الله القدوس، لذا ترتفع كالجبل، تشهد أمام الكل بقداسته خلال ممارستها الحياة المقدسة وشركتها معه. إنها كالجبل الذي لن تهزه عواصف التجارب! * جبال صهيون... (صهيون تعني حصنًا)؛ إنها الجبال التي نجد فيها حصانة بالله حصننا وسورنا! * جوانب الشمال... يرى البعض أنها إشارة إلى السحاب القادم على أورشليم، فتعطيها خصوبة وثمارًا. ويرى آخرون أن الشمال يشير إلى الأعداء حيث كان الآشوريون على شمالهم، فهي مدينة مُحاربة من الأعداء على الدوام، لكنها غالبة ومنتصرة. * مدينة الملك العظيم... حيث يتربع فيها ملك الملوك، ليقيم من شعبه ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ 1: 6). * مدينة رب القوات... مرهب كجيش بأولية (نش 6: 4، 10) تحت قيادة الرب نفسه واهب النصرة. واضح أن جمال الكنيسة وقداستها ونصرتها يقوم على انتسابها لله الساكن فيها، والذي يتربع في داخلها كملك. لقد نزل السماوي إلى العالم ليقيم كنيسته مجيدة بلا عيب ويؤهلها للحياة السماوية، لهذا يُسبح المرتل لله قائلًا: "عظيم هو الرب؛ ومسبح جدًا في مدينة إلهنا على جبله المقدس" [1]. * عظيم هو الرب في الجوهر والقدرة والعمل، لذلك تسبحه خلائقه الناطقة. وأما مدينته ففيها صار جلاله معروفًا للكل... ولأنه تصرف فيها بنفسه، وصنع تدبير تجسده فقال إنها مدينته وجبل قدسه. أيضًا يُقال مدينته للساكنين بسيرة مرضية أمامه. وكنيسته المقدسة هي أيضًا مدينته لسكناه فيها. وهي جبل قدسه لما فيها من علو شرف المعتقدات الإلهية، كأنها قائمة للبناء على جبلٍ عالٍ، يراها كل ذي بصيرة فيتخذها منهجًا لخلاصه. الأب أنثيموس أسقف أورشليم دُعيت مدينة لأنها تضم جماعة المؤمنين، فهي لا تقوم على فرد معين أو أفراد بل هي مسكن الله مع جميع المؤمنين منذ آدم إلى أخر الدهور، كل يتمتع بلقاء شخصي ومعاملات شخصية مع الله دون اعتزاله الجماعة المقدسة. عُزله الإنسان لجماعة المؤمنين تحول قلبه من مدينة الله إلى قفر، فإن المدينة التي لا يوجد فيها إلا شخص واحد هي أقرب إلى الخراب مهما كانت إمكانياتها. يرى الأب مار اسحق السرياني أن الذي يلتقي مع الله خلال دائرة الحب، يقيم الله ملكوته فيه ويتجلى في داخله، كما يلتقي مع ملائكة الله وقديسيه. دُعيت أيضًا جبله المقدس لأجل رسوخها في الإيمان وثباتها، لا تقدر التجارب أن تزعزعها؛ كما تُشير إلى سمو عقائدها وحياتها. وقد رآها دانيال النبي جبلًا عظيمًا جدًا يملأ الأرض، انطلقت خلال الكرازة بالسيد المسيح حجر الزاوية المقطوع بغير أيدٍ وقد نما هذا الإيمان في كل المسكونة. * لقد وُجد حجر زاوية معين مرذول، بينما تعثَّر فيه اليهود، قُطع بغير أيدٍ من جبل معين، أي جاء من مملكة اليهود بغير أيدٍ، لأنه لم تكن ولادة المسيح من مريم بزرع بشر... ماذا تقول نبوة دانيال إلا ذاك الحجر الذي نما وصار جبلًا عظيمًا؟ أية عظمة؟ لقد ملأ وجه الأرض كلها. إذ نما وملأ وجه الأرض بلغ ذلك الجبل إلينا. فلماذا إذن نطلب نحن الجبل كأنه غائب وليس كحاضر نصعد إليه؟! ليصير الرب فينا "عظيمًا"، ومُسبح جدًا. القديس أغسطينوس "أحسن أصلها بهجة لكل الأرض، جبال صهيون، جوانب الشمال، مدينة الملك العظيم" [2]. إذ رأى في كنيسة العهد الجديد المدينة التي يجتمع فيها الله بشعبه والجبل الذي ملأ الأرض وقد حمل قداسته وبره يعلن عن بهائها وجماله، وعن دورها كبهجة كل الأرض. يرفضها العالم ويرذلها ويهينها ويضطهدها طالبًا الخلاص منها، أما هي فكعريسها بجماله الروحي تعلن حبها للعالم، تعمل كخامة باذلة، لكي تجتذب حتى المضايقين إلى فرح الرب وبهجته. إنها تكرز بالحياة الإنجيلية، بالأخبار السارة التي تحقق خلاصنا في استحقاقات الصليب، وتكشف عن الحب الإلهي المُسجل بالدم الثمين المبذول، لتدخل بالكل كأبناء لله الآب، وتهبهم عطية الروح القدس واهب الحياة والقداسة. إنها تدخل بالأمم إلى العرش السماوي، إلى الفرح الأبدي كعذارى حكيمات، لكنهن لسن مدللات ولا متراخيات، وإنما كجبال شامخة، لذا يدعوهن "جبال صهيون" * صهيون هي جبل واحد، فلماذا يقول: "جبالًا"؟ ذلك لأن صهيون تنتمي أيضًا إلى القادمين من كل جانب، ليلقوا معًا على حجر الزاوية، ويصيروا حائطين، كما لم كانا جبلين، واحد من الختان والآخر من الغرلة؛ واحد من اليهود والآخر من الأمم، ومع التنوع لا يوجد اختلاف، أنهم جاءوا من جهات متنوعة والآن هم في الزاوية (معًا)... القديس أغسطينوس تجتمع الكنيسة كلها معًا، مع ما فيها من تنوع في المواهب والقدرات والإمكانيات، باتحادها معًا في حجر الزاوية ربنا يسوع، ليبعث إليها روحه القدوس كسحاب ذهبي يفيض عليها بمياه الحياة لتحولها إلى جنات تحمل ثمر الروح. * تأتي سحب ذهبية اللون من الشمال؛ عظيم هو مجد القدير وكرامته! عظيم هو مجد الطبيب، الذي يشفي المريض اليائس. "من الشمال تأتي السحب"، ليست سحبًا داكنة ولا مظلمة ولا سفلية بل ذهبية اللون. أليس إلا أنها تستنير بالمسيح؟ أنظر فإنه من جوانب الشمال مدينة الملك العظيم. القديس أغسطينوس مادامت الكنيسة على الأرض تبقى مُحاربة كما من الشمال، كما فعل الآشوريون الذين جاءوا إلى أورشليم لمحاصرتها وسبيها... لكنها تبقى الكنيسة "مدينة الملك العظيم" التي لا تُحطمها هجمات العدو المتتالية. وللشمال أيضًا معانٍ أخرى كما سنرى: * يدعوها النبي "جوانب الشمال"، وذلك لأجل استتارها لصغرها كاختفاء جوانب الشمال، إذ تخفيها شوامخ الجبال... وأيضًا لأن الآشوريين الذين كانوا يمارسون السطوة بالقتال ضد اليهود، وكانت بلادهم من ناحية الشمال... فمع كونها محاربة من أهل الشمال لم تكف عن أن تكون مدينة الملك العظيم. وأيضًا يدعو الأنبياء الأمم "أهل الشمال"... بمعنى أن الأمم المدعوين أهل الشمال مزمعون أن يصيروا مدينة الملك العظيم ومسكنه لقبولهم الإيمان بالمسيح. وأيضًا لأن الشريعة القديمة قد أمرت بأن يُذبح حمل الذبيح في جانب المذبح من ناحية الشمال. فكان ذلك رمزًا لحمل الله ربنا يسوع المسيح الذي ذُبح لأجل مغفرة خطايا العالم، هذا الذي يشمل بنظره الأمم ويجعلهم خاصته، ومدينته الحصينة يحوطها بجبال ثابتة، أي بالرسل القديسين والملائكة الحارسين. الأب أنثيموس الأورشليمي تظهر الكنيسة كمدينة الله الملك العظيم وقصره، أما المؤمنون فيظهرون بكونه شرفاته التي من خلالها يظهر الملك بكل أعماله العجيبة، خاصة عهده مع كنيسته، بل ومع كل عضو فيها، يتهم بها كجماعة مقدسة وكأعضاء، كمدينة واحدة وكشرفات عديدة، يقصد الكل بكلمته ووعوده، وبعمله الخلاصي على الصليب، ويهتم بمن لا معين لهم... فهو أب الأيتام وقاضي الأرامل ومنصف المظلومين. "الله يُعرف في شرفاتها إذا ما هو نصرها" [3]. 2. المدينة التي لا تُقهر: بعد أن قدم لنا الكنيسة كحياة جماعية تمارس العلاقة الشخصية مع الله إلهها، ثابتة كالجبل لا تُزعزعها التجارب، مقدسة بسكنى القدوس فيها، ومتسعة لتضم الأمم والشعوب بروح الفرح والتهليل، تتمتع بسحب الشمال التي تمطر عليها مياه النعمة الإلهية المجانية، شاهدة لعريسها بواسطة أعضائها كشرفات أو قصور يسكنها الملك العظيم، يقدمها لنا ككنيسة مضطهدة. هذا الاضطهاد أو الضيق هو سمة أساسية لعروس الملك المصلوب. ما أن يُمارس الإنسان الحياة الكنيسة الصادقة الإنجيلية، ويمتلئ قلبه اتساعًا للبشر وحبًا لله والناس حتى يهيج العالم ضده. يُحارب من الخارج والداخل، يجاربه أحيانًا الأحباء بل وجسده، لهذا يقول المرتل: "هوذا قد اجتمع ملوكها وأتوا جميعًا. هم أبصروا وهكذا تعجبوا، اضطربوا وقلقوا. أخذتهم الرِعدة. هناك أخذهم المخاض كالتي تلد. بريح عاصفة تُحطم سفن ترشيش" [4-7]. * اجتمع ملوك الأرض والرؤساء وجاءوا إلى أورشليم، ولكنهم إذ رأوا قوة الله التي كانت ضدهم أخذهم العجب واضطربوا، وحلت بهم أوجاع مثل مخاض الوالدة. هذا أيضًا ما حدث مع من حاربوا كنيسة المسيح. يذكر النبي ترشيش أغنى سواحل البحر، فيقول إنه كما تكسر الريح العاصفة السفن في شاطئ البحر، كذلك أنت تحطم الأعداء وتسحقهم، وتطحن قوتهم. أنثيموس أسقف أورشليم اعتاد الأعداء أن يجتمعوا على مقربة من أورشليم للتشاور فيما بينهم كيف يهاجمونها، لكن مشاوراتهم لم تكن تكمل، وكانوا يتركون المدينة وهم في دهشة. كان منظرها المملوء عجبًا يربكهم فيهربون. يقدم المرتل تشبيهين للرعب الذي يحل بالملوك: 1. المرأة وهي تلد؛ يشير هذا التشبيه إلى حلول الرعب فجأة وبشدة. يرى القديس أغسطينوس أن هذه التشبيه يعني أن غاية الخوف هو أن تتم ولادة طفل جديد... [إذ يحبل الملوك بخوف المسيح، أي بالمخاض يلدون خلاصًا، إذ يؤمنون بذاك الذي يخافونه. "أخذهم المخاض كالتي تلد"، عندما تسمع عن مخاض توقع ولادة. الإنسان العتيق يتمخض والجديد يُولد]. 2. سفن ترشيش التي اشتهرت بعظمتها وكبر حجمها وقوتها. البعض يرى أن كلمة "ترشيش" هنا معناها "محيط" أو "بحر"، وكأنه يقصد سفن البحار أو المحيطات[923]. وكما أن الريح العاصفة (الشرقية) تُحطم سفن ترشيش، هكذا روح مسيحنا يُحطم مملكة الظلمة التي تأسست في قلوب الخطاه، وذلك متى قبلوا عمل نعمة الله فيهم. أما الذين يرفضون النعمة فإن الروح يُحطمهم بذات المتعب التي جلبوها على كنيسة المسيح. بهذين المثلين أوضح أن المقاومة للكنيسة حتمًا تنتهي بالفشل، أما المقاومون فإن قبلو خوف الله يؤمنون فيهلك شرهم، ويتمتعون بميلاد الإنسان الجديد فيهم، وإن رفضوه هلكت نفوسهم بشرهم. * بالحقيقة يتحدث (المرتل) عن كلًا من الحزن والفرح المقبلين، حزن بسبب الدينونة وفرح بالمغفرة[924]! القديس أمبروسيوس يرى القديس أمبروسيوسأن المرأة التي تلد هي النفس التي تحبل خلال عمل الكلمة، فإنها تُعاني من الآلام مادامت لم تنجب بعد، أما إذا ولدت طفلًا فتفرح. وسفن ترشيش هي سفن الروحية المحملة بذهب سليمان وفضته، أي أجسامنا التي تحمل كنزًا في أوانٍ خزفية كقول الرسول[925]. وكأن من يؤمن بالسيد المسيح بدلًا من مقاومة عمله يتمتع بميلاد الإنسان الجديد (في مياه المعمودية) ويحمل الكنز الحقيقي في داخله وهو في أمان! يختم المرتل حديثه عن الكنيسة التي لا تُقهر، قائلًا: "كمثل ما سمعنا كذلك رأينا، في مدينة رب القوات، في مدينة إلهنا، الله أسسها إلى الأبد" [8]. قد سمع المرتل عبر التاريخ عن أعمال الله العجيبة في مدينته المقدسة، وخلال خبرته عاين بنفسه ما قد سبق فسمعه. فإن التاريخ والخبرة هما معلمان عظيمان يقدمان درسًا واحدًا هو اهتمام الله الفائق بكنيسته. * ما قد سمعناه نراه في الواقع العملي، أعنى نصرات وغلبة وعناية الله، وعجائب مذهلة[926]. القديس يوحنا الذهبي الفم * يا لها من كنيسة مطوَّبة! في وقت ما تسمع، وفي وقت آخر ترى. لقد سمعت وعودًا، وترى تحقيقها. سمعت نبوات، وترى إنجيلًا، لأن كل ما ما يتحقق الآن سبق فتُنبا عنه... أين تسمعين، وأين ترين؟ "في مدينة رب القوات، في مدينة إلهنا؛ الله أسسها إلى الأبد". القديس أغسطينوس * أعني أن الأعمال التي صنعها قديمًا في مصر وفي برية سيناء وفي أرض كنعان قد سمعناها، وهي موجودة في الكتب ومنقولة بلسان الناس، ولكن الآن نراها صائرة عيانًا في أورشليم مدينتك التي ثبتها إلى الدهر. ولكن إن قلت يا هذا إن كانت أورشليم قد ثبتها إلى الدهر، فلماذا خربها عساكر الرومان؟ نجاوبك أن الدهر هنا لا يكون بمعنى الأزلي، إذ تقول النبوة عن حزقيال الملك: "حياة سألك فأعطيته طول الأيام إلى الأبد وإلى أبد الأبد" (مز 21: 4)... كذلك هنا أيضًا قول النبي إن أورشليم: "يُثبتها الله إلى الأبد" يعني إلى زمان ما. هذا القول أيضًا نبوة عن أورشليم العقلية التي هي كنيسة المسيح التي ثبتها الله على صخرة الإيمان ولن تقدر أبواب الجحيم أن تزعزها كما قال ربنا له المجد. أنثيموس أسقف أورشليم 3. مدينة متعبدة متهللة: إن كانت الكنيسة كمدينة الله المقدسة مُحَاربة على الدوام، لكنها تبقى المدينة التي لا تتزعزع ولا تُقهر، لذلك فهي تبقى في شكرها متعبدة له، تسبحه على الدوام بروح الفرح والتهليل وكأن الضيق لا يفقدها سلامها، بل بالعكس يدفعها لتمارس الحياة السماوية الشاكرة المتهللة. "ذكرنا يا الله رحمتك في وسط شعبك. نظير اسمك يا الله كذلك تسبحتك؛ في أقطار الأرض يمينك مملؤة عدلًا (برًا). فليفرح جبل صهيون ولتتهلل بنات اليهودية من أجل أحكامك يا رب" [9-11]. سبق فقال: "سمعنا... رأينا"، الآن يقول: "ذكرنا"... سمع عن معاملات الله مع كنيسته في الماضي، ورأى بنفسه أنها معاملات حيَّة ودائمة، لهذا يشهد أمام الشعب ليؤكد أن السيد المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. هو العامل في الماضي ويعمل في الحاضر وسيبقى عاملًا إلى الأبد. هذا مفهومنا للتقليد الحيّ الذي يتكئ على الماضي ليعلن عن حيويته في الحاضر ويسلمه للأجيال المقبلة وديعة إيمان حيّ وفعّال. هذا التقليد المتأصل في الماضي ويعمل في الحاضر ويبقى عاملًا في المستقبل يبعث في الكنيسة روح الفرح والتهليل من أجل أحكام الله، سواء كانت في وقت الفرج أو الضيق. * لقد اختبرنا يا الله إحساناتك التي صنعتها مع شعبك عيانًا، لكن ليس من أجل فضائل صارت منا وإنما من أجل وفرة رحمتك وتحننك... نظير اسمك كذلك هو فعلك، الذي من أجله يسبحك الناس في أقاصي الأرض كلها. صلاحك ليس أمرًا مكتسبًا وإنما هو من جوهرك، لأن الشمس بطبيعتها تنير وتحرق، كذلك من طبع لاهوتك تنير الأصفياء وتعاقب الأشرار... وأيضًا يمين الله أي ابنه الوحيد هو مملوء عدلًا، لأنه يحل المقيدين ويطلقهم، وينير المُظلمِّين ويقّوم المنسحقين... يدعو النبي رجالًا ونساءً إلى الفرح والسرور من أجل إنعام الله عليهم من منح وخيرات. جبل صهيون هو الكنيسة الراسخة الأساس... وبناتها هي نفوس المؤمنين وسائر هياكل الله التي في المسكونة، فإنها تفرح وتبتهج من أجل ما أنعم بها الله عليها من مواهب فاخرة. الأب أنثيموس أسقف أورشليم * يا جبل صهيون، ويا بنات اليهودية؛ أنتم الآن تتعبون وسط الزوان والقش، تتعبون وسط الأشواك، ولكن أفرحوا من أجل أحكام الله، فإن الله لن يخطئ في حكمه... لا تفكر في بنات اليهودية أنهن اليهود. فإن "اليهودية" تعني "الاعتراف"، فكل أبناء الاعتراف هم أبنا اليهودية؟ القديس أغسطينوس هكذا يرى المرتل الكنيسة كجماعة متعبدة متهللة بالله من أجل أعماله وأحكامه. فإبراهيم لن ينسى المُريّا، ويعقوب لن يسى بيت إيل... 4. مدينة شاهدة لإلهها: إذ يختبر جبل صهيون أو بنات اليهودية أعمال الله الخلاصية والتمتع بالنصرة، ينطلقون كما في موكب لفحص عمل الله معهم. وذلك كما حدث مع نحميا حينما انتهى من بناء السور إذ جعل فرقتين تدوران حول السور أثناء التدشين بروح الفرح والتهليل يفحصون عمل الله معهم (نح 12)، وقد قيل: "فرحوا لأن الله فرّحهم فرحًا عظيمًا وفرح الأولاد والنساء أيضًا، وسُمع فرح أورشليم عن بعد" (نح 12: 43). إنهما موكبا الشكر لله الصانع بشعبه عجائب! "طوفوا بصهيون ودوروا حولها؛ تحدثوا في أبراجها ضعوا قلوبكم في قوتها واقتسموا شرفاتها. لكيما تخبروا بهن في جيل آخر. إن هذا هو إلهنا إلى الأبد وإلى أبد الأبد. وهو يرعانا إلى الدهر" [9-14]. يليق بالذين تمتعوا ببركات الخلاص الذي يسمو بهم كصهيون المرتفعة أن يطوفوا حول الشعب ويدوروا في البلاد يحدثون عن هذا العمل الإلهي العجيب. أنهم يتحدثون عن الأبراج العالية التي يقيمها روح الله لكي يختفي فيها المؤمنون ويتحصنون من ضربات العدو، يضعون ثقتهم في قوة الكنيسة التي هي "الحياة في المسيح يسوع" ويتمتعون بشرفاتها، أي بعطايا الله خلال كنيسته. هذا هو الله محب كنيسته التي يرعاها مدى الدهور حتى يأتي على السحاب ليأخذها معه. هذا هو موضوع شهادتنا للجيل القادم. هذه هي وديعة الإيمان أي التسليم الحيّ أو التقليد المُختبر الذي نقدمه بحياتنا كما بكلماتنا. فإنه كيف نتحدث عن أبراج الكنيسة وشرفاتها، أي عن حصونها المنيعة وغناها ما لم نكن نحن أبراجًا وفي غنى روحي، لهذا يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [أعتقد أنه يلمّح هنا إلى أولئك الذين احتضنوا الكلمة (اللوغوس) بطريقة سامية ليصيروا أبراجًا عالية، وليرسخوا بثبات في الإيمان والمعرفة[927]]. مدينة رب القوات * عجيب أنت أيها الرب، فقد أقمت من شعبك مدينة خاصة بك، وجعلتهم جبلًا مقدسًا تعلن فيه قداستك. * نزلت إلينا كحجر الزاوية المرفوض، فجمعتنا من كل الأمم والشعوب لتقيم منا مدينتك المقدسة! وملأت الأرض كلها فرحًا، إذ أقمت ملكوتك في داخلنا! * ليجتمع العالم كله ضد كنيستك، فتبقى هي مدينة الملك العظيم. يرى الكل يدك العجيبة، لعلَّهم يقبلونك ويخافوك! * عجيب أنت يا رب القوات، تعلن رحمتك وسط شعبك، وتقيم منهم أبراجًا عالية، وتجعل منهم شرفات فخمة! * سمعنا من الأجيال السابقة عنك، وها نحن نرى بأعيننا عملك معنا، ليُقدسنا روحك القدوس فنخبر بحياتنا الجيل القادم. * اجتذبتنا من كل الأمم ككنيسة مقدسة لك، أقم هيكلك في كل نفس، واحملنا جميعًا إلى هيكلك السماوي، إلى مدينة أورشليم العليا، مسكن الله مع الناس! |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|