ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به
" ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به" (يو 17: 26)
حينما كتب القديس يوحنا الرسول الإنجيلي إن "الله محبة" (1يو4: 8، 16)، فإنه كان يقصد أن الله لا يمكن أن تخلو طبيعته من المحبة.
بل إن طبيعة الله هي محبة، تمامًا كما إنها حق، وصلاح، وقوة، وحكمة..
المحبة هي في صميم جوهر وطبيعة الله منذ الأزل.
ولهذا لا يمكن أن نتصور أن يوجد الآب بغير الابن والروح القدس.
فالمحبة تستدعى وجود أكثر من أقنوم لتتبادل هذه الأقانيم المحبة فيما بينها.
ولو كان الله الآب موجودًا في فردانية مطلقة منذ الأزل، لما أمكن أن نقول إن "الله محبة" (1يو4: 8، 16).
فمحبة الله للخليقة بدأت فقط بعد خلقها، ولهذا لا يمكن أن تكون المحبة في طبيعة الله هي قاصرة على محبته للخليقة.. لأنه في هذه الحالة تكون المحبة مستحدثة في الله مع بداية وجود الخليقة. وهذا أمر غير صحيح ومستبعد تمامًا.
ولأن المحبة تُمارَس بين الأقانيم الإلهية منذ الأزل، لهذا فوجود الابن والروح القدس مع الآب أزليًا هو شيء طبيعي، به تتحقق المحبة كصفة أساسية للجوهر الإلهي غير المنقسم.
لهذا قال السيد المسيح في مناجاته للآب: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يو17: 24).
هذا الحب الكائن في الله هو أحد أسرار الحياة الإلهية التي لا يُعبّر عنها، لأنه لا معنى للحياة بغير الحب.
عطية المحبة
وقد أراد السيد المسيح أن ينقل إلى تلاميذه سعادة الملكوت وذلك بأن يسكب محبة الله في قلوبنا كقول معلمنا بولس الرسول: "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" (رو5: 5).
والمقصود هنا هو عطية المحبة الممنوحة لنا من الثالوث القدوس بواسطة الروح القدس الذي يسكب فينا كل المواهب والعطايا الإلهية. فعطية الروح القدس هي عطية الآب وعطية الابن أيضًا.
لهذا قال معلمنا يعقوب الرسولإن "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازلة من عند أبى الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران. شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يع1: 17، 18).
فكل عطية صالحة هي من الآب بالابن في الروح القدس. ومن ضمن هذه العطايا الإلهية عطية المحبة التي هي من ثمار الروح القدس كقول الكتاب "وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفف" (غل5: 22، 23).
المحبة التي طلبها السيد المسيح لتلاميذه، ليست هي المحبة الطبيعية البشرية المجردة التي يستطيع سائر البشر أن يمارسوها،لأن "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله" (1كو2: 14).
المحبة البشرية الطبيعية هي محبة مرتبطة بالجسد، وإن تنوعت. ولكن هناك نوع آخر من المحبة الفائقة للطبيعة يمنحها الروح القدس للقديسين.
هي محبة سامية لا تتأثر بالعوامل البشرية الطبيعية المجردة. بل هي فوق كل حدود الزمان والمكان والأحداث. هي من النوع الذي لا يسقط أبدًا.
هي أقوى من الموت: كما قيل عن الشهداء "لم يحبوا حياتهم حتى الموت" (رؤ12: 11). وقيل عنها في سفر نشيد الأناشيد إن "المحبة قوية كالموت.. لهيبها لهيب نار لظى الرب. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة والسيول لا تغمرها" (نش8: 6، 7).
المحبة التي بحسب الجسد هي محبة زائلة. ولا يكون لها قيمة إن لم تتقدس بفعل الروح القدس لكي تأخذ بُعدًا أبديًا. وتبقى ذكراها المقدسة إلى الأبد.
الروح القدس لا يلغى المحبة البشرية ولكنه يسمو بها، ويقدسها، ويرتفع بها بقدرته الفائقة ويصبغها بصبغته السمائية.
ثمار الروح القدس هي التي تبقى وتدوم إلى الأبد. ومن ضمن هذه الثمار تلك المحبة الفائقة التي طلبها ثم وهبها السيد المسيح لتلاميذه.
محبة الله ومحبة القريب
المحبة التي يمنحها الروح القدس تتجه أساسًا نحو الله، ولكنها تتسع لتشمل الخليقة كلها. بمعنى أنها تشمل أيضًا الملائكة والبشر.
فالوصية الإلهية الأولى هي محبة الله، والثانية مثلها هي محبة القريب وبهذا يكمل الناموس والأنبياء "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء" (مت22: 36-40).
وقد أكّد القديس يوحنا الرسول أن المحبة لا تتجزأ، أي أن من يحب الله بالمحبة الفائقة الممنوحة من الروح القدس ويسعد بهذه المحبة، فإنه سوف يحب الإخوة بطريقة تلقائية لأن نفس العطية الإلهية تعمل في الحالتين، ولهذا قال: "نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة، ومن لا يحب أخاه يبقَ في الموت" (1يو3: 14). وقال أيضًا: "أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضًا لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله. ومن لا يُحب لم يعرف الله لأن الله محبة" (1يو4: 7، 8).