تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم
اشعياء 17 - تفسير سفر أشعياء
*وحيّ من وجه دمشق وآفرايم
ليس عند الله محاباة، فإن كان يؤدب الأمم الوثنية مثل موآب لجحدها الإيمان وعجرفتها وتجديفها عليه فإنه يؤدب إسرائيل (أو آفرايم- العشرة أسباط) لأنها تحالفت مع آرام أو سوريا (عاصمتها دمشق) ضد يهوذا متكئين على فرعون مصر ضد آشور. لهذا سمح الله لملك آشور أن يهجم على آرام وآفرايم ويغلبها سريعًا.
هذا وقد وجدت علاقات بين دمشق (آرام) وإسرائيل منذ القدم. لقد أوكل إبراهيم الذي في صلبه إسرائيل كل بيته في يدي عبده لعازر الدمشقي؛ وفي أيام أليشع النبي جاء نعمان السرياني لينعم بالشفاء من برصه في مياه الأردن، كما جاءت المرأة الكنعانية السورية إلى السيد المسيح تطلب منه شفاء ابنتها، وكرز التلاميذ في دمشق، وظهر السيد المسيح لشاول الطرسوسي بالقرب من دمشق.
1. تدمير دمشق [1-2].
2. هزيمة آفرايم [3-11].
3. هجوم الأعداء [12-13].
1. تدمير دمشق:
تعتبر من أعرق المدن، ورد ذكرها في أيام إبراهيم (تك 14: 15)؛ غزاها داود الملك وأقام فيها حامية (2 صم 8: 5-6؛ 1 أى 18: 5-6). قام رزون وتمكن من تأسيس المملكة السورية ودامت الحرب بينها وبين إسرائيل زمانًا طويلاً لكنهما تحالفا معًا فيما بعد ضد يهوذا وآشور. وقد تعرضت للهزيمة عدة مرات، ففي سنة 843 ق.م. هاجم شلمناصَّر دمشق وهزم ملكها حزائيل، كما هاجمها تغلث فلاسر سنة 732 ق.م.، وقتل ملكها رصين وقاد شعبها إلى السبي (2 مل 16: 5-9؛ إش 7: 1-8؛ عا 1: 3-5). انتقلت بعد ذلك من الآشوريين إلى الكلدانيين ثم إلى الفرس فاليونانيين المقدونيين فالرومان على يدي ميتللوس عام 64 ق.م. لتصير سوريا مقاطعة رومانية عام 63 ق.م.
إن كانت دمشق قد تحالفت مع آفرايم ضد يهوذا، فقد حلت العقوبة على دمشق وآفرايم معًا. وهما يمثلان قوى العالم الشريرة المقاومة للحق كما جاء في سفر الرؤيا: "ثم سكب الملاك الرابع جامه على الشمس فأُعطيت أن تحرق الناس بنار، فاحترق الناس احتراقًا عظيمًا وجدفوا على اسم الله الذي له سلطان على هذه الضربات ولم يتوبوا ليعطوه مجدًا" (رؤ 16: 19).
"هوذا دمشق تُزال من بين المدن وتكون رجمة ردم؛ مدن عروعير متروكة، تكون للقطعان فتربض وليس من يخيف" [1-2].
كانت دمشق مزدهرة جدًا حتى حاصرها تغلث فلاسر الآشوري وقتل ملكها وسبى شعبها فصارت أشبه برجمة خربة.
أما عروعير، فتوجد 3 مدن على الأقل تحمل ذات الاسم [عروعير اسم موآبي معناه "عارية" أو "عرى"]، وهي: مدينة في موآب تُسمى حاليًا عراعير، تبعد حوالي اثنى عشر ميلاً شرقي البحر الميت، جنوبي ديبان بقليل، وشمال نهر أرنون؛ وقرية في القسم الجنوبي من اليهودية (1 صم 30: 28) تسمى حاليًا عرعارة على بعد اثنى عشر ميلاً جنوب شرق بئر سبع، والثالثه وهي المقصودة هنا[221] مدينة في جلعاد بالقرب من ربة التي هي ربة عمون (يش 30: 25، قض 11: 33) عمان عاصمة الأردن.
دمشق وعروعير يمثلان النفس المتشامخة على الله والمتحالفة مع الغير ضد كنيسته، فإنه وإن كان الله يتركها زمانًا لتظهر قوية وناجحة ومزدهرة، لكنها تعود فتنهار من جانبين:
أ. تتحول من مدينة عظيمة إلى رجمة خربة، أي تفقد حياتها، لأنها تعتزل الله نفسه مصدر الحياة.
ب. تتحول كعروعير من مسكن للناس (مع الله) إلى مرعى للقطعان والحيوانات، وكأن مقاومتنا للحق تفقدنا كرامتنا وتحول حياتنا إلى ملهى لكل حيوان، فنحمل الطبيعة الحيوانية الجسدانية. لهذا يُسبّح القديس مار إفرآم السرياني طفل المزود قائلاً: [المجد لذاك الذي نظر إلينا كيف أننا قبلنا أن نُشابه الوحوش في هياجنا وجشعنا، فنزل إلينا وصار واحدًا منا حتى نصير نحن سمائيين[222]].
2. هزيمة آفرايم:
تزعمت دمشق فكرة التحالف ضد يهوذا لهذا استحقت أن تُعاقب أولاً، وإذ ضعفت إسرائيل وخضعت للمشورة استحقت هي أيضًا التأديب القاسي مع فتح باب الرجاء أمامها وإعلان وجود بقية أمينة ومخلصة تتمتع بخلاص الله.
تقدم النبوّة الثمرة الطبيعية للتحالف الشرير الذي فيه اتكاء على الذراع البشري والفكر الإنساني البحت مع تجاهل العمل الإلهي، هذه الثمرة هي عقوبة طبيعية يسقط تحتها الإنسان في شره:
أ. فقدان الحصانة: "يزول الحصن من آفرايم" [3]؛ "في ذلك اليوم تصير مدنه الحصينة كالردم في الغاب والشوامخ التي تركوها من وجه بني إسرائيل فصارت خرابًا" [9].
إن كان الله إله خلاصنا هو صخرة حصننا [10] فإن اعتزالنا إياه ورفضنا لعمله هو زوال للحصن الحقيقي... عندئذ لا تقدر الحصون أن تحمي مدينتنا الداخلية بل تصير كردم في وسط الغاب بلا قيمة وكشوامخ متروكة لها المظهر الخارجي دون قوة العمل!
الله هو حصننا الذي فيه نلتجىء فتستريح أعماقنا، عندئذ لا تقدر كل قوى الظلمة أن تتسلل إلينا.
ب. فقدان المجد الداخلي: "ويكون في ذلك اليوم أن مجد يعقوب يُذل" [4]. إن كان مجد ابنة الملك من الداخل (مز 45)، فإن سر مجدها هو مسيحها الساكن فيها، الذي يُقيم ملكوته داخلها. بالمسيح يسوع نتمجد ليس فقط أمام الناس وإنما أيضًا أمام الآب، إذ يقول القديس جيروم: [تطلع إلينا، فإنك ترى ابنك الساكن فينا[223]].
ج. فقدان القوة: "وسمان لحمه تهزل" [4]، لهذا يقول السيد المسيح: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5).
* لا نقدر أن نجري في طريق الله ما لم نكن محمولين على أجنحة الروح[224].
* ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي كما أنه ليس أضعف من الذي يُحرم منه[225].
* لا نخشى شيئًا، فإننا لكي نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف أن مهارتنا لن تُفيد شيئًا، وأن كل شيء هو من نعمة الله[226].
القديس يوحنا الذهبي الفم
د. فقدان الثمر، فقد عرف وادي رفايم بخصوبة أرضه ووفرة ثماره ومحصولاته، لكن بسبب الأعداء لا يتبقى لآفرايم إلاَّ أن يلتقط السنابل الساقطة وراء الحصادين ويجمع ما تبقى في رأس الفروع من شجر الزيتون حبتين أو ثلاث فقط [5-6] أي يصيروا كالفقراء الذين ليس لهم ما يحصدونه (تث 24: 20).
إنهم يُسيّجون الحقول ويزرعون ولكن في وقت الحصاد يأتي العدو ليغتصب تاركًا لهم ما يسقط منه على الأرض، فتتحول أعياد الحصاد إلى أزمنة للكآبة وعدم الرجاء [11]. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). بمعنى آخر يفقدون تعب جهادهم ويخسرون فرحهم وسلامهم.
الآن نتساءل: لماذا يسمح الله لآفرايم بهذا الذل؟
لكي يرجع إلى الله خالقه عوض مشاركة الأراميين مشوراتهم الشريرة وعبادتهم الوثنية ورجاساتهم الدنسة، إذ يقول:"في ذلك اليوم يلتفت الإنسان إلى صانعه وتنظر عيناه إلى قدوس إسرائيل، ولا يلتفت إلى المذابح صنعه يديه، ولا ينظر إلى ما صنعته أصابعه السواري Asherahs والشماسات hammanum " [7-8].
السواري هنا تعني التماثيل والصور الخاصة بإلهة الحب والجمال (عشتار) المقابلة لأفروديت[227]، إذ كانت توضع على سواري (أشبه بأعمدة من خشب). تُحسب هذه الإلهة زوجة ورفيقة للإله بعل، لذا يُحاط مذبحه بمجموعة من الأشجار أو السواري تحمل تماثيل الإلهة إشارة إلى خصوبتها[228].
كانت هذه السواري والأشجار تحمل معاني جنسية إباحية لذا اختلطت العبادة بالنجاسة كجزء لا يتجزأ منها (خر 34: 13؛ تث 16: 21؛ قض 6: 25؛ 2 أى 34: 4-7؛ مى 5: 14). سمح الله بتأديب شعبه لكي لا يُدنس نظرته للجنس بل يرتفع بقلبه وفكره نحو الله الذي فوق الجنس والذي يهبنا قدسية للحياة الزوجية والعلاقات الجسدية[229].
أما بالنسبة للشماسات[230] فقد ترجم البعض الكلمة العبرية بمعنى آلهة الشمس sun-gods والبعض ترجمها بعل هامان وهو إله الشمس السرياني، كما ترجمها آخرون "مذبح البخور" حيث كان يُقدم البخور لإله الشمس، لذا جاء هذا التعبير خاصًا بالعبادة الوثنية متمايزًا عن البخور المقدس الذي يُقدم في الهيكل.
3. هجوم الأعداء:
يشبه الأعداء بالبحر الذي لا يمكن مقاومته... فقد سمح الله للشعوب الكثيرة أن تنزل على آفرايم كمياه كثيرة تغرقه، ومع هذا فإن الله قد وضع للبحر حدًا. يسمح له أن يغرق إلى حدّ معين وإلى حين، إذ يحفظ القلة الأمينة من أولاده من ثورة البحر وهياجه.
في تصوير رائع يقول: "آه ضجيج شعوب كثيرة... قبائل تهدر كهدير مياه كثيرة، ولكنه ينتهرها فتهرب بعيدًا وتُطرد كعصافة الجبال أمام الريح وكالجل أمام الزوبعة، في وقت المساء إذا رعب، قبل الصبح ليسوا هم. هذا نصيب ناهبينا وحظ سالبينا" [12-14].
يسمح الله للأعداء أن يهجموا كمياه بحار غزيرة لا يقف أحد أمامها، لكنه إذ ينتهرها تصير كعاصفة في مهب الريح على الجبال ليس لها موضع استقرار ولا قدرة على المقاومة، أو كعجلة مدحرجة أمام زوبعة لا يمكن إيقافها. عدونا عنيف للغاية متى تركنا أنفسنا بين يديه سحبنا في دوامته لنغرق في أعماق بحره، لكننا متى اختفينا في الرب يصير العدو كلا شيء أمامنا، ينسحب كعصافة أمام ريح الروح القدس الناري، ويتدحرج أمام كلمة الله الفعّال.
لذلك يقول: "في وقت المساء رعب" [14]، بمعنى أنه متى غاب شمس البر عن حياتنا تحل الظلمة فينا ونصير كما في المساء ليجد العدو له فينا موضعًا فيرعبنا، أما قبل الصبح، أي في الفجر، حيث يشرق فينا مسيحنا يصير العدو كلا شيء ويُحسب غير موجود. هذا هو نصيبه فقد سبق أن نهبنا حياتنا وسلبنا مجدنا لكنه يعود فيتحطم أمام الساكن فينا.