أحمرّ وجه موشى وصاح بغضبٍ: لماذا تخاطب هؤلاء الملعونون؟ لماذا تنصت لترهاتهم؟
- لقد كان يستخدم النصّ المُقدّس، فرأيت أن أحاوره في..
- قاطعه موشى وقد بلغ منه الغضب مبلغه: لا تدخل في حوارٍ مع هؤلاء، فهم يُفسِّرون النصوص المُقدّسة حسب أهوائهم، ويؤوّلون كلّ شيءٍ ليُطبّقوه على يسوع الناصري.. إنّهم طائفةٌ انحرفت عن إيمان الآباء، وقد لقَى زعيمهم الجزاء الذي يستحقّه على يد قادتنا في أورشليم..
- أريد أن أفهم شرح مُعلّمينا لنبوّة إشعياء.
- إنّ من يتحدّث عنه إشعياء هو شعب بني إسرائيل وليس عن شخصٍ محدّدٍ..
- ولكن الكلام ينطبق تمامًا على يسوع الناصري وقد قرأت في ترجوم يوناثان بن عُزّيل عن مسيانيّة هذا النصّ إذ يبدأ في الترجوم بعبارة: عبدي المسيّا!! كما قرأت في المِدْرَاش أنّ كلمة رجل “رجل أوجاع” تعني مسيّا!!
زفر الرابي موشى بكلماته وكأنّها حممٌ بركانيّةٌ قائلاً: المسيّا سيأتي قويًّا وسيُحرِّر شعبنا من سيادة الأمم.
- يا مُعلِّم، إنّ المسيحيين يتزايدون وينمون ويكرزون في كلّ مكانٍ بيسوعَ أنّه المسيّا وأنّه الإله!!
- يا للتجديف.. لقد أُعدِمَ يسوع هذا على الصليب ومات ملعونًا بحسب الشريعة كغيره من المجرمين وانتهى الأمر، وعن قليل سوف يتفرّقون وتنتهي شيعتهم إلى لا شيءٍ..
- ولكنّهم يقولون أنّه قام من بين الأموات..
- أتصدّق هذا؟
- بالطبع لا. ولكنهم ينقلون شهادات كثيرة من أُناس كثيرين شاهدوه بعد الموت قائمًا في نورٍ..
- كذبٌ.. كذبٌ..
- إنّ لهم دلائل على هذا
- كلّه كذب..
- وماذا عن شاول الذي تربّى على يد غمالائيل العظيم، والذي رأى يسوع في طريقه إلى دمشق ودعاه ليصير له تابعًا، وبدأ يكرز بقيامة يسوع من الأموات..
- لقد أغواه المسيحيّون فترك ديانة آبائه، مع أنّ مستقبله كان باهرًا إذ كان سيُصبح مُعلّمًا كبيرًا.. ولكنها غواية المسيحيين كما قلت لك.. وقد لقي جزاؤه على يد الإمبراطور
- وهل بسهولة يتحوّل مُطارِدُ المسيحيّين الأوّل إلى تابعٍ مُخلصٍ لإلههم وهو الذي يشهد له الجميع بالغيرة على ديانة الآباء وبالحرص على عادات الناموس والسير على خُطَى الأقدمين؟؟
- لقد مارسوا معه السحر كما كان مُعلِّمهم يفعل المعجزات مُستخدمًا قوات الشياطين؟؟
- وهل يمكن للشياطين أن تعمل الخير؟؟
- أراك متأثّرًا بما سمعته منهم؟؟ ما بالك تُدافع عنهم؟؟
- إنّها أفكارٌ تدور برأسي، ويجب أن أقتنع لكيما أستطيع أن أجادل الآخرين.
- لا.. لا تدخل في حوارٍ معهم على الإطلاق..
- ولكن..
- لا مناقشة في هذا الأمر.. أنت لازلت صغيرًا على مثل تلك الحوارات.. لا حوار مع المسيحيين مهما كانت الأسباب. يكفي هذا الحوار اليوم..
قام الرابي موشى وهو مُضطّرب وبدأ يطنطن مُردّدًا الفقرة الأخيرة من البركات الثماني عشر، بينما كان مُتّجهًا إلى غرفته، قائلاً:
المرتدّين لا يكن لهم رجاء
ولتسقط وتنقرض مملكة المتعجرفين من أصولها في أيامنا
وليهلك أتباع يسوع الناصري والهراطقة في لمحة عينٍ
ولُيمحَ اسمهم من سفر الحياة
ولا يُحسبوا مع الصدّيقين
مباركٌ أنت يا ربُّ الذي تُذلّل المتكبرين
كانت كلماته تخرج وكأنّها تستنهض همم الأجيال السابقة الذين صلبوا الناصري ليُبعثوا من جديد لصلب كلّ ناصري..
خرج أبشالوم وهو مُمزّقٌ بين فضول الشباب الذي لا يقتنع إلاّ بالدلائل والبراهين والحوار والإقناع، وبين طاعة المُعلِّم التي هي أساسيّةٌ في التلمذة على يد الرابيين.. كان صدى نصّ المزمور يتردّد في أذنيه بينما رسم ذهنه صورة للمصلوب على وقع الكلمات.. كان يُحاول التفلُّت من شقي رحى الكلمات والخيالات إلاّ أنّ ذهنه كان مُمسَكًا بشدّة. ناله الإعياء وهو يصارع الفكر ويقارعه ويدفعه دفعًا خارج حجرة عقله الرحيبة والتي يجب عليه أنْ يُضيّقها ويسدّ منافذها كما أمره الرابي..
ذهب إلى البحر وجلس على شاطئه وكأنّه يستلهم منه قرارًا يأتي سابحًا على موجةٍ من المجهولِ ويدفع بموجاته ما وقر في قلبه من الشكّ والحيرة..