مصالحة السمائيين مع الأرضيين
نعود إلى الملاك الطاهر الذي ظهر لزكريا الكاهن...
كان ملاكًا يحمل بشارة مفرحة. لقد عاد الرب يفرح وجه الأرض التي حرمت كثيرًا من أفراحه في فترة القطعية والخصومة. وهل هناك فرح أعظم من تبشير زوج العاقر بأنها ستلد ابنًا: "لم يقم بين المولودين من النساء من هو أعظم منه" (مت11: 11)، ابنًا سيكون: "عظيمًا أمام الرب" (لو1: 15)!! عبارات: "الفرح" تدفقت من فم الملاك، فقال: "لا تخف يا زكريا، لأن طلبتك قد سمعت، وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنًا، وتسميه يوحنا، ويكون لك فرح، وابتهاج، وكثيرون سيفرحون بولادته".
وكانت إيحاءه جميلة من الرب في تباشير هذا الصلح، أن يسمي الطفل "يوحنا"... وكلمة يوحنا معناها: "الله حنان"!!
وكأن الله يقصد أنه وإن تركنا زمنًا، إلا أن محبته دائمة إلى الأبد، " مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئها" (نش8: 7). وأنه وإن حجب وجهه حينًا، فإنه لا يحجب قلبه الحنون. فعلي الرغم من فترة القطيعة بين السماء والأرض التي سبقت ميلاد السيد المسيح، وعلى الرغم من الخصومة القائمة، كان الله ما يزال كما هو، كله حنان وشفقة... " الله حنان " أو " الله حنون". لعل هذا يذكرنا بقول الرب من قبل:
" لأنه كامرأة مهجورة ومخزونة الروح دعاك الرب، وكزوجة الصبا... لحيظة تركتك، وبمراحم عظيمة سأجمعك. بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة وبإحسان أبدي أرحمك" (إش54: 6 8).
إنها نبوءة أشعياء عن مصالحة الرب لشعبه وكنيسته، قد بدأت تتحقق... تلك النبوءة العجيبة، الجميلة في موسيقاها، التي بدأها الرب بنشيده العذب: "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد..." (إش54: 1). تري أكانت أَلِيصَابَات: "العاقر التي لم تلد " رمزًا للكنيسة في افتقاد الرب لها؟ وهل كان اسم ابنها يوحنا: "الله حنان" رمزًا أيضًا لمصالحة الله لكنيسته؟ وهل ترنم أليصابات: "العاقر التي لم تلد" كان بشيرًا يتحقق باقي مواعيد الله إذ يقول لكنيسته في نفس النشيد:
"كما حلفت أن لا تعبر بعد مياة نوح على الأرض، هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك. فإن الجبال تزول، والآكام تتزعزع، أما إحساني فلا يزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمك الرب".
"أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية، هأنذا أبني بالأثمد حجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك. وأجعل شرفاتك ياقوتًا، وأبوابك حجارة بهرمانية، وكل تخومك حجارة كريمة. وأجعل كل بنيك تلاميذ للرب، وسلام بنيك كثيرًا" (إش54: 11-13).
هل كان هذا الإصحاح الرابع والخمسون من نبوءة أشعياء موضع تأمل القديسة أَلِيصَابَات في خلاص الرب القريب، طوال الستة أشهر التي مرت ما بين بشارة الملاك لزكريا وبشارة الملاك للعذراء؟! إن هذه الفكرة تملأ قلبي، وتضغط على عقلي بإلحاح شديد... ولا شك أن هذه القديسة الشيخة التي كانت تحمل ابنًا نذيرًا للرب في أحشائها، كانت تشعر أنه ليس بأمر عادي هذا الذي حدث لها. وإذ نتأمل في هذا الفصل من اشعياء الذي ينطبق عليها وعلى الكنيسة يهز كيانها كله هذا " النبي الإنجيلي " إذ يقول: "ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إش7: 14).
قلنا إنه من تباشير الصلح بين السماء والأرض كان ظهور الملائكة للبشر. وكان الملاك الأول هو الذي بشر زكريا الكاهن.
· أما الملاك الثاني، فكان جبرائيل، الذي بشر السيدة العذراء.
نلاحظ أن هذا الملاك كان له مع العذراء أسلوب معين. لقد بدأها بالتحية، بأسلوب كله توقير واحترام لها. في بشارة زكريا لم يبدأه الملاك بالتحية، وإنما قال له "لا تحف يا زكريا فإن طلبتك قد سمعت". أما في بشارة العذراء فقال لها الملاك:
"السلام لك أيتها الممتلئة نعمة. الرب معك". وعندئذ -بعد هذه المقدمة- بدأ الملاك في إعلان رسالته. وحتى هذه الرسالة أدمجها بعبارة مديح أخري فقال: "لا تخافي يا مريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله" ثم بعد ذلك بشرها بالخبر الذي جاء من أجله: "ها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع...".
إنه أسلوب احترام عجيب يليق بالتحدث مع والدة الإله الممجدة، المملكة الجالسة عن يمين الملك.
لم يستطع رئيس الملائكة جبرائيل أن ينسى أنه واقف أمام أقدس امرأة في الوجود، وإنه واقف أمام أم سيده، التي ستكون سماء ثانية لله الكلمة. فخاطبها بأسلوب غير الذي خوطب به الكاهن البار زكريا...
هنا نلاحظ أنه لم يبدأ فقط صلح بين السمائيين والأرضيين، بل بدأ تقدير وتوقير من سكان السماء لسكان الأرض في شخص أمنا وسيدتنا العذراء مريم... فمرحبًا بهذا الصلح.
· أما الظهور الثالث، فكان ظهور ملاك الرب للرعاة.
هنا نجد تقدمًا ملموسًا في العلاقات، إذ لم يقتصر الأمر على أن "ملاك الرب وقف بهم" بل يقول الكتاب أكثر من هذا: "ومجد الرب... أضاء حولهم". وبعد أن بشرهم الملاك" بفرح عظيم " يكون "لجميع الشعب"، وبولادة "مخلص"، " ظهر بغتة -مع الملاك- جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة".
· وهنا نسمع عبارات الفرح، والمسرة، والسلام، والخلاص... وبدلًا من ظهور ملاك واحد، نري جمهورًا من الجند السماوي يسبحون.
إنها تباشير الصلح العظيم، المزمع أن يتم على الصليب. ونلاحظ أن هذا الصلح قد بدأه الله لا الناس.