![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
|
|
رقم المشاركة : ( 219321 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
![]() كَذظ°لِكَ المُؤْمِنُونَ هُمْ أَيْضًا أَحْجَارٌ حَيَّةٌ، يُشَكِّلُونَ مَعَهُ بَيْتًا رُوحِيًّا لِلْكَهَنُوتِ المُقَدَّسِ، فِي سَبِيلِ تَقْدِيمِ ذَبَائِحَ رُوحِيَّةٍ (1 بُطْرُس 2: 4–5). هظ°ذَا هُوَ الهَيْكَلُ النِّهَائِيُّ الَّذِي لَمْ تَصْنَعْهُ يَدُ إِنْسَانٍ. وَهظ°كَذَا أَصْبَحَتِ الكَنِيسَةُ هَيْكَلَ الرَّبِّ، وَالمَسِيحُ هُوَ حَجَرُهَا الأَسَاسِيُّ (1 قُورِنْتُس 3: 10–17)، وَهِيَ مَجَالُ اللِّقَاءِ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ، وَعَلَامَةُ الحُضُورِ الإِلظ°هِيِّ عَلَى الأَرْضِ، وَهِيَ الحَقِيقَةُ الَّتِي كَانَ يَرْمُزُ إِلَيْهَا الهَيْكَلُ القَدِيمُ بِصُورَةٍ مُؤَقَّتَةٍ وَنَاقِصَةٍ (رُؤْيَا 11: 1–2). وَأَمَّا فِي نِهَايَةِ الأَزْمِنَةِ، فَلَنْ تَعُودَ الكَنِيسَةُ بِحَاجَةٍ إِلَى هَيْكَلٍ، حَيْثُ إِنَّ الهَيْكَلَ سَوْفَ يَكُونُ الرَّبَّ نَفْسُهُ وَالحَمَلَ، كَمَا جَاءَ فِي رُؤْيَا يُوحَنَّا الحَبِيبِ:"لَمْ أَرَ فِيهَا هَيْكَلًا، لِأَنَّ الرَّبَّ الإِلظ°هَ القَدِيرَ هُوَ هَيْكَلُهَا، وَكَذظ°لِكَ الحَمَلُ" (رُؤْيَا 21: 22). |
||||
|
|
|||||
|
|
رقم المشاركة : ( 219322 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
![]() صَعِدَ يَسوعُ مُباشَرَةً إلى هَيكلِ أورَشَليمَ مُعلِنًا أَنَّ «بَيتَ أَبيهِ» قد تَحَوَّلَ إلى بَيتِ تِجارَةٍ (يوحنا 2: 13-22). ويُقَدِّمُ لَنا إِنجيلُ يُوحَنَّا السَّيِّدَ المَسيحَ هَيكَلًا جَديدًا وَعِبادَةً جَديدَةً، كانَ النَّبيُّ زَكَرِيَّا قد تَنَبَّأَ عَنهُما بِقولِهِ:"هُوَذا الرَّجُلُ الَّذي ظ±سمُهُ: ظ±لنَّبْتُ. فَهُوَ سَيَنبُتُ مِن مَوضِعِهِ، وَيَبني هَيكَلَ الرَّبِّ"(زَكَرِيَّا 6: 12). فَالمَسيحُ هُوَ الهَيكَلُ الجَديدُ، وجَسَدُهُ هُوَ الكَنيسَةُ، حَيثُ يَسكُنُ اللهُ في وَسَطِ شَعبِهِ. وَهذِهِ الحَقيقَةُ تَدعُونا أَن نَفتِّشَ عَنِ اللهِ وَنَلقاهُ في هَيكَلِ كَنيسَتِنا، بِنَفسِ غَيرَةِ المَسيحِ عَلى بَيتِ اللهِ |
||||
|
|
رقم المشاركة : ( 219323 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
![]() كَمَا بَحَثَتِ مَرْيَمُ وَيُوسُفُ عَنْ يَسُوعَ وَوَجَدَاهُ فِي الهَيْكَلِ، هظ°كَذَا نُدْعَى نَحْنُ أَيْضًا لِنَبْحَثَ بِشَوْقٍ وَتَوْقٍ عَنِ الرَّبِّ يَسُوعَ فِي هَيْكَلِ اللهِ. لِنَبْحَثْ عَنْهُ فِي الكَنِيسَةِ، لَدَى العُلَمَاءِ وَالخَادِمِينَ الأَمَنَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ فِي هَيْكَلِ الرَّبِّ وَيُعَلِّمُونَ كَلِمَتَهُ. فَإِذَا بَحَثْنَا سَنَجِدْهُ، كَمَا وَجَدَتْهُ مَرْيَمُ وَيُوسُفُ: "جَالِسًا بَيْنَ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْتَمِعُ إِلَيْهِمْ وَيَسْأَلُهُمْ" (لُوقَا 2: 46). وَالآنَ أَيْضًا، المَسِيحُ حَاضِرٌ فِي بَيْنِنَا؛ يَسْمَعُ كَلِمَاتِنَا وَيُصْغِي لِصَلَوَاتِنَا، وَيُحَدِّثُ قُلُوبَنَا فِي صَمْتِ الإِيمَانِ. |
||||
|
|
رقم المشاركة : ( 219324 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
![]() لِنَحْتَرِصْ أَنْ نَبْحَثَ عَنِ الرَّبِّ فِي هَيْكَلِ لِقَاءَاتِنَا وَمَجْمَعِنَا، لِأَنَّهُ قَالَ:"حَيْثُ يَجْتَمِعُ ظ±ثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِظ±سْمِي، فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ" (مَتَّى 18: 20). إِذَا ظ±جْتَمَعْنَا بِظ±سْمِ الرَّبِّ، تَكُونُ قُلُوبُنَا هِيَ الهَيْكَلَ الَّذِي يُسَرُّ اللهُ أَنْ يَسْكُنَ فِيهِ. حَتَّى قَبْلَ أَنْ تُشَيِّدَ أَيْدِينَا هَيْكَلًا مِنْ حِجَارَةٍ، يَكُونُ الرَّبُّ قَدْ أَعَدَّ هَيْكَلَ القَلْبِ لِمَجْدِ اسْمِهِ. فَلْيَكُنِ الهَيْكَلُ الدَّاخِلِيُّ فِي أَعْمَاقِنَا جَمِيلًا كَالْهَيْكَلِ المَبْنِيِّ بِالحِجَارَةِ. لِيَسْكُنِ الرَّبُّ فِي كِلَيْهِمَا: فِي بَيْتٍ مُكَرَّسٍ لَهُ، وَفِي قَلْبٍ نَقَشَتْ عَلَيْهِ المَحَبَّةُ اسْمَهُ. إِنَّهُ يَسْكُنُ فِي وَسَطِنَا، وَيَجْذِبُنَا بِرِبَاطِ المَحَبَّةِ (هُوشَع 11: 4) |
||||
|
|
رقم المشاركة : ( 219325 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
![]() وَلْنُحَافِظْ أَنْ نَدْخُلَ إِلَى الكَنِيسَةِ بِقُلُوبٍ نَقِيَّةٍ؛ لَا لِنَسْعَى إِلَى شُؤُونٍ شَخْصِيَّةٍ أَوْ لِمَصَالِحٍ أَرْضِيَّةٍ، بَلْ لِنَلْتَقِيَ بِاللهِ، لِنَسْجُدَ لَهُ، وَلْنَشْكُرْهُ، وَلْنَطْلُبْ غُفْرَانَهُ وَنِعَمَهُ. وَكَمَا طَرَدَ يَسُوعُ البَاعَةَ مِنَ الهَيْكَلِ غَيْرَةً عَلَى بَيْتِ اللهِ، يَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنْ نُطَهِّرَ هَيَاكِلَ قُلُوبِنَا، فَنَحْنُ هَيْكَلُ الرُّوحِ القُدُسِ (1 قُورِنْتُس 6: 19). فَلْنَرْفَعْ مِنْ دَاخِلِنَا كُلَّ فِكْرٍ دَنِسٍ، وَشَهْوَةٍ رَدِيئَةٍ، وَنَظْرَةٍ مُعْوِجَّةٍ، سَوَاءٌ كُنَّا فِي بَيْتِ اللهِ أَوْ خَارِجَهُ. لِنُنَقِّ أَنْفُسَنَا مِنْ ضَجِيجِ العَالَمِ: ضَجِيجِ الإِعْلَانَاتِ، وَالأَغَانِي، وَالصَّخَبِ، وَالبَرَامِجِ الفَاسِدَةِ، وَضَجِيجِ الإِدْمَانِ وَالعُنفِ وَالإِبَاحِيَّةِ، لِكَيْ نَسْمَعَ هَمْسَةَ صَوْتِ اللهِ. فِي وَسَطِ صَخَبِ الحَيَاةِ، يَقِفُ المَسِيحُ عَلى بَابِ القَلْبِ وَيَقُولُ: "هَئاَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى البَابِ وَأَقْرَعُ" (رُؤْيَا 3: 20). فَمَنْ يَفْتَحْ لَهُ يَدْخُلِ الرَّبُّ وَيَتَعَشَّى مَعَهُ وَتَصِيرُ نُفُوسُنَا هَيْكَلًا حَيًّا لِمَجْدِهِ. لِنَقِفْ أَمَامَ القُدُّوسِ بِقُلُوبٍ مُسْتَعِدَّةٍ، لِنَسْمَعَ صَوْتَهُ، وَلْنَسِرْ فِي مَشِيئَتِهِ، وَلْنَحْمِلْ غَيْرَتَهُ عَلَى هَيْكَلِ اللهِ وَعَلَى هَيْكَلِ قُلُوبِنَا، لِنَكُونَ أَوْفِيَاءَ لِحُضُورِهِ فِي حَيَاتِنَا. |
||||
|
|
رقم المشاركة : ( 219326 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
![]() خِطابَ يَسوعَ "الإسْكاتولوجي" أي المتعلّق بنهاية الأزمنة النص الإنجيلي (لوقا 21: 5-19) 5 وقالَ بَعضُهم في الهيَكل إِنَّه مُزَيَّنٌ بِالحِجارةِ الحَسَنَةِ وتُحَفِ النُّذور، فقال: 6 ((هذا الَّذي تَنظُرونَ إِلَيه سَتأتي أَيَّامٌ لن يُترَكَ مِنه حَجَرٌ على حَجَر مِن غَيرِ أَن يُنقَض)). 7 فسأَلوه: ((يا مُعلّم، ومَتى تكونُ هذه، وما تكونُ العَلامَةُ أَنَّ هذه كُلَّها تُوشِكُ أَن تَحدُث؟)) 8 فقال: ((إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَد! فسَوفَ يأتي كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي فيَقولون: أَنا هُو! قد حانَ الوَقْت! فلا تَتبَعوهم. 9 وإِذا سَمِعتُم بِالحُروبِ والفِتَن فلا تَفزَعوا، فَإِنَّه لابُدَّ مِن حُدوثِها أَوَّلاً، ولكِن لا تَكونُ النِّهايةُ عِندَئِذٍ)). 10 ثُمَّ قالَ لَهم: ((ستَقومُ أُمَّةٌ على أُمَّة، ومَملَكَةٌ على مَملَكَة، 11 وتَحدُثُ زَلازِلُ شديدة ومَجاعاتٌ وأَوبِئَةٌ في أَماكِنَ كَثيرة، وستَحدُثُ أَيضاً مَخاوفُ تأتي مِنَ السَّماءِ وعَلاماتٌ عظيمة. 12 ((وقَبلَ هذا كُلِّه يَبسُطُ النَّاسُ أَيدِيَهُم إِلَيكمُ، ويَضطَهِدونَكم، ويُسلِمونَكم إلى المَجامِعِ والسُّجون، وتُساقونَ إلى المُلوكِ والحُكاَّمِ مِن أَجْلِ اسمي. 13 فيُتاحُ لكم أَن تُؤَدُّوا الشَّهادَة. 14 فاجعَلوا في قُلوِبكم أَن لَيسَ علَيكم أَن تُعِدُّوا الدِّفاعَ عن أَنفُسِكم. 15 فسَأُوتيكم أَنا مِنَ الكَلامِ والحِكمَةِ ما يَعجِزُ جَميعُ خُصومِكم عَن مُقاوَمَتِه أَوِ الرَّدِّ علَيه. 16 وسيُسلِمُكُمُ الوالِدونَ والإِخوَةُ والأَقارِبُ والأصَدقاءُ أَنفُسهم، ويُميتونَ أُناساً مِنكم، 17 ويُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجْلِ اسمي. 18 ولَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤُوسِكم. 19 إِنَّكم بِثَباتِكُم تكتَسِبونَ أَنفُسَكم. مُقدِّمة يَتَناوَلُ إِنْجيلُ هظ°ذا الأَحَدِ (لوقا 21: 5-19) خِطابَ يَسوعَ "الإسْكاتولوجي" أي المتعلّق بنهاية الأزمنة لِتَلاميذِهِ عِندَ خُروجِهِم مِنَ الهَيكَل. فَقَد أَبْدى بَعضُ التَّلاميذِ دَهشَتَهُم أَمامَ عَظَمَةِ حِجارَةِ الهَيكَلِ وَرَوعَةِ بُنْيانِهِ قائِلِينَ: "يا مُعَلِّمُ، اُنظُرْ! ما أَجمَلَ الحِجارَةَ وما أَرْوَعَ الأَبْنِيَة!". فَأَجابَهُم يَسوعُ بِقَوْلٍ نَبَوِيٍّ صادِم: "أَتَرَونَ هذِهِ الأَبْنِيَةَ العَظِيمَة؟ لَنْ يُترَكَ هاهُنا حَجَرٌ على حَجَرٍ إِلاّ ويُهَدَّم" (راجع مرقس 13: 1-3؛ متّى 24). يُعَلِّقُ القِدِّيس أُوغُسْطينُوس عَلى سُقوطِ الهَيكَلِ وَالأَحداثِ الَّتي سَبَقَت نِهايَةَ العَالَم قائلًا: "يَسقُطُ الهَيكَلُ المَبْنِيُّ بِالحِجارَةِ، لِكَيْ يَقِيمَ اللهُ فينا هَيكَلَهُ الرُّوحِيَّ، هَيكَلًا لا يَتَزَعْزَعُ. فَالعالَمُ يَنهارُ حَوْلَنا، لِيَتَأَسَّسَ اللهُ فِينَا أَبَدًا". وَيَجمَعُ خِطابُ يَسوعَ هظ°ذا، في نَفَسٍ واحِد، بَيْنَ نُبوءَةِ خَرابِ الهَيكَلِ وَسُقوطِ أُورَشَليمَ مِن جِهَة، وَبَيْنَ مَشاهِدِ نِهايَةِ الأَزمِنَةِ وَعَودَةِ "ابنِ الإِنسانِ" في المَجْدِ مِن جِهَةٍ أُخرى، مُتَضَمِّنًا تَحذيراتٍ وَدُعاءً إِلى السَّهَرِ وَالثَّبات. فالضِّيقَاتُ وَالاضْطِهاداتُ، الَّتي يَحتَلُّ ذِكْرُها مَكانَةً جَوْهَرِيَّةً في الكِتابِ المُقَدَّس، لَيْسَت نِهايَةً بِنَفْسِها، بَل هِيَ عُبورٌ يَسْبِقُ اكْتِمالَ التَّاريخ. وَهِيَ تُساعِدُ المُؤمِنَ عَلى قِراءَةِ "عَلاماتِ الأَزمِنَة" وَفَهْمِ مَعنى الزَّمَنِ الحاضِر، وَهُوَ يَتَقَدَّمُ نَحْوَ مُسْتَقبَلٍ يَتَحَقَّقُ وَفْقَ مَشيئَةِ الله. إِنَّ اللهَ يُمْهِلُ وَلا يُهْمِل؛ وَما يُطْلَبُ مِنَّا هُوَ الإِيمانُ وَالثَّباتُ وَالصَّبْرُ وَالثِّقَة، لأَنَّ الكَلِمَةَ الأَخيرةَ هِيَ لله، كما تَنَبَّأَ النَّبِيُّ مَلاخي قائِلًا: "هُوَذا يَأتي اليَومُ المُتَّقِدُ كَالتَّنُّور، فَيَكونُ جَميعُ المُسْتَكبِرينَ وَجَميعُ فاعِلي الشَّرِّ قَشًّا... أَمّا لَكُم أَيُّها الخائِفونَ لاسمي فَتُشرِقُ شَمسُ البِرّ" (ملاخي 3: 19-20). فَيُذَكِّرُنا القِدِّيس كِيرِلُّسُ الإِسكَندَرِيّ أَنَّ المَجْدَ الَّذي كانَ لِلهَيكَلِ المادّي لم يَعُد مُرتَبِطًا بِحِجارَةٍ تُرى، بَل بِحُضورِ المَسيحِ في كَنيسَتِهِ، قائِلًا: "الهَيكَلُ الَّذي يُسَرُّ اللهُ بِهِ الآنَ هُوَ نُفوسُ المُؤمِنينَ، الَّتي سَكَنَ فيها الرُّوحُ القُدُس، بَدَلَ الحِجارَةِ الَّتي تَتَحَطَّم". مِن هنا تَبرزُ أهميّة التَّعمّق في وَقائع هذا النَصّ الإنجيليّ، واستكشاف أبْعاده اللاهوتيّة والرَّعويّة وتطبيقاته في حياتنِا اليَّوم. أولا: وقائع النص الإنجيلي (لوقا 21: 5-19) 5 وقالَ بَعضُهم في الهيَكل إِنَّه مُزَيَّنٌ بِالحِجارةِ الحَسَنَةِ وتُحَفِ النُّذور، فقال: تُشيرُ عِبارَةُ "قالَ بَعضُهُم" إِلى مَجموعةٍ مِن تَلاميذِ يَسوعَ الَّذينَ تَوَجَّهوا إِلَيهِ بِالسُّؤالِ وهُم خارِجونَ مِنَ الهَيكَل، مُتَأَثِّرينَ بِعَظَمَةِ الأَبْنِيَةِ وَجَمالِها (راجع مرقس 13: 1-3). أَمّا لَفظةُ «الهَيكَل» هُنا، فَلا تَعودُ إِلى الهَيكَلِ الأَوَّلِ الَّذي بَناهُ سُلَيْمانُ المَلِك عامَ 968 ق.م (1 ملوك 6: 1)، والَّذي دَمَّرَهُ نَبُوخَذنَصَّرُ المَلِكُ البابِلِيُّ سَنةَ 586 ق.م (2 ملوك 25: 8-10)، بَل تَشيرُ إِلى الهَيكَلِ الثّاني الَّذي شُيِّدَ بَعدَ العَودَةِ مِنَ السَّبْيِ عَلى يَدِ زَرُبّابِل عامَ 536 ق.م (عَزر31)، ودَنَّسَهُ السِّلْوِقيّونَ في القَرنِ الثّاني ق.م، إِلى أَن أَعادَ المَكّابِيّونَ تَكريسَهُ وتَدشينَهُ (1 مكّابيين 4: 36-59). ثُمَّ خَضَعَ الهَيكَلُ لأعمَالِ تَوسِعَةٍ وتَرميمٍ ضَخمَةٍ في عَهدِ هِيرودُسَ الكَبير، استَمَرَّت سِتًّا وأَربَعينَ سَنةً (يوحنا 2: 20). بَلَغَ طولُ "رِواقِ سُلَيْمان" في الهَيكَلِ حَوالَي 469 مِترًا، بَينَما امتَدَّ "الرِّواقُ المَلَكِي" جَنوبًا بِطولِ 276 مِترًا، وكانَ مُزَيَّنًا بِنَحوِ مِائَةٍ وستّينَ عَمودًا ضَخمًا. وَقَد جَعَلَ هِيرودُسُ هظ°ذا الهَيكَلَ أَعظَمَ وأَفخَمَ بِنَاءٍ في أُورَشَليم، لا بِدافِعِ إِكرامِ الله، بَل لِأَغراضٍ سِياسيَّةٍ تَهْدِفُ إِلى كَسبِ وُدِّ اليَهودِ وإِرضائِهِم، إِذ كانَ الهَيكَلُ رَمزًا لِهُوِيَّةِ الأُمَّةِ اليَهودِيَّةِ وَمَحَلَّ فَخرِها الرُّوحِيِّ والْوَطَنِيّ. أَمّا عِبارَةُ "الحِجارَةِ الحَسَنَة" فَتُرَمْزُ إِلى ضَخامَةِ حِجارَةِ الهَيكَلِ وَجَودَتِها، إِذ بَلَغَ طولُ بَعضِ هظ°ذا الحِجارَةِ حَوالَي عَشَرَةِ أَمتار، كَما بَلَغَ ارْتِفاعُ الأَعمِدَةِ الرُّخامِيَّةِ الَّتي تُزَيِّنُ أَرْوِقَتَهُ نَحوَ أَحَدَ عَشَرَ مِترًا. وكانَ لِلهَيكَلِ ثَمانِيَةُ أَبوابٍ، بَعضُها مُطَعَّمٌ بِالذَّهَب، وَالبَعضُ الآخَرُ مُزَيَّنٌ بِالفِضَّة. وَعَلى الرَّغمِ مِن أَنَّ الهَيكَلَ نَفْسَهُ (القُدس وقُدسُ الأقداس) كانَ صَغيرَ المِساحَةِ نِسبيًّا، إِلّا أَنَّ الأَبْنِيَةَ المُلحَقَةَ بِهِ، مِن ساحاتٍ وأَروِقَةٍ وأَبراجٍ، جَعَلَتْهُ أَحَدَ أَعظَمِ المُنْشَآتِ الْمِعْماريَّةِ في العالَمِ القَديم. لَقَد شَكَّلَ هظ°ذا البِناءُ مَجدَ إِسْرائيل، وَرَمزَ حُضورِ اللهِ في وَسَطِ شَعبِهِ، حَيثُ يُعلِنُ مَجدَهُ، وَيَتَقَبَّلُ الذَّبائِحَ وَالتَّقْدِماتِ (تثنية 12: 5-11). كانَ اليَهودُ يَنظُرونَ إِلى الهَيكَلِ بِاعتِبارِهِ أُعجوبَةً مِعْماريَّة، حتّى قالَ التَّقليدُ اليَهودِيُّ: "مَنْ لَمْ يَرَ أُورَشَليمَ في مَجدِها، لَمْ يَرَ مَدينَةً جَميلَةً قَطّ؛ ومَنْ لَمْ يَرَ الهَيكَلَ، لَمْ يَرَ الفَرَحَ في حياتِه. يَقولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِ: "لَم يَكُنِ انبِهارُ اليَهودِ بِالهَيكَلِ خاطِئًا في ذاتِهِ، بَل خَطَؤُهُم أَنَّهُم أَحَبُّوا الحِجارَةَ أَكثَرَ مِنَ اللَّهِ السّاكِنِ فيها. فَحينَ يَغيبُ اللَّهُ، لا يَنفَعُ جَمالُ المَبنى شَيئًا". وفي زَمَنِ يَسوع، كانَ الهَيكَلُ في أَوْجِ مَجدِهِ وَقِمَّةِ جَمالِهِ، لذلك لَمْ يَكُنْ غَريبًا أَن يَندَهِشَ التَّلاميذُ عِندَما سَمِعوا مِنَ الْمُعَلِّمِ أَنَّ هظ°ذا الصَّرْحَ الشّامِخَ سَيُهَدَّمُ كُلّيًّا. أَمّا عِبارَةُ "تُحَفِ النُّذور" فَتَشيرُ إِلى الهِباتِ وَالنُّذورِ الَّتي قَدَّمَها الْمُؤمِنونَ لِلهَيكَل، سَواءٌ كانَتْ مَوادَّ بِنَاءٍ أَو زِينَاتٍ ثَمِينَة، وَكانَ اليَهودُ يَفتَخِرونَ بِهظ°ذِهِ التُّحَفِ الثَّمِينَةِ الَّتي تُزَيِّنُ الهَيكَل، مُرَكِّزينَ أَنظارَهُم عَلى البَهْرَجَةِ الخارِجِيَّةِ وَالعَظَمَةِ الْمادِّيَّة. أَمّا يَسوع، فَكانَ يَنظُرُ إِلى جَوْهَرِ العِبادَة لا إِلى مَظاهِرِها، إِذ سَبَقَ أَن أَعلَنَ أَنَّ العِبادَةَ الحَقيقيَّةَ هِيَ عِبادَةُ القَلْبِ وَالرُّوح: "تَأتي ساعَةٌ ـ وَقَد حَضَرَتِ الآن ـ فيها السّاجِدونَ الحَقيقيّونَ يَسجُدونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالحَقّ، فَمِثْلُ هظ°ؤُلاءِ يُريدُ الآب" (يوحنا 4: 23). ومِن هُنا، يُوَجِّهُ يَسوعُ تَلاميذَهُ إِلى عَدَمِ الِانخِداعِ بِالـمَظاهِرِ الخارِجِيَّةِ أَوِ الارتِكازِ عَلى ثِقَلِ الحَجَر، بَل عَلى حُضورِ اللهِ وَالعِبادَةِ الصّادِقَة. فَالعَظَمَةُ الْمِعْماريَّةُ، مَهما بَلَغَت، لا تُعَوِّضُ غِيابَ العِبادَةِ الحَقيقيَّة. 6 هذا الَّذي تَنظُرونَ إِلَيه سَتأتي أَيَّامٌ لن يُترَكَ مِنه حَجَرٌ على حَجَر مِن غَيرِ أَن يُنقَض. تُشِيرُ عِبَارَةُ "هظ°ذا الَّذِي تَنظُرُونَ إِلَيْهِ" إِلى كَلَامِ يَسُوعَ المُوَجَّهِ إِلى الشَّعْبِ وَتَلَامِيذِهِ بِشَأْنِ الهَيْكَلِ، مُبَيِّنًا الغَايَةَ الحَقِيقِيَّةَ مِنَ النُّبُوءَةِ الَّتِي يُعْلِنُهَا: فَكَمَا أَنَّ التَّلَامِيذَ ظ±نبَهَرُوا بِعَظَمَةِ البِنَاءِ وَجَمَالِهِ، أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يَكْشِفَ لَهُمْ هَشَاشَةَ ظ±لاتِّكَالِ عَلَى المَظَاهِرِ الخَارِجِيَّةِ لِلْعِبَادَةِ. فَإِعْلَانُهُ عَنْ دَمَارِ الهَيْكَلِ وَأُورَشَلِيمَ هُوَ بِمَثَابَةِ عَمَلٍ رَمْزِيٍّ وَنَبَوِيٍّ يُشْبِهُ "نَفْضَ غُبَارِ الرِّجْلَيْنِ" فِي وَجْهِ المَدِينَةِ الَّتِي رَفَضَت مَسِيحَهَا (رَاجِعْ مَتَّى 10: 14)، فَأَصْبَحَتْ عُرْضَةً لِلْخَرَابِ. فِي الحَقِيقَةِ، وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ قُدْسِيَّةِ الهَيْكَلِ وَمَكَانَتِهِ فِي قَلْبِ الحَيَاةِ الدِّينِيَّةِ اليَهُودِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ تَحَوَّلَ، بِسَبَبِ الرِّيَاءِ الدِّينِيِّ، إِلَى عَائِقٍ أَمَامَ العِبَادَةِ الرُّوحِيَّةِ الحَقِيقِيَّةِ، إِذِ ظ±نشَغَلَ الشَّعْبُ بِعَظَمَةِ البِنَاءِ وَتَغَافَلُوا عَنْ قُدْسِيَّةِ الحَيَاةِ أَمَامَ اللهِ، فَكَانَ ظ±هْتِمَامُهُمْ مُوَجَّهًا نَحْوَ إِصْلَاحِ الحِجَارَةِ لَا إِصْلَاحِ القُلُوبِ. وَقَدْ كَرَّسَ مُعْظَمُ الأَنْبِيَاءِ رِسَالَتَهُمْ لِتَصْحِيحِ هظ°ذَا ظ±لانْحِرَافِ، وَعَلَى رَأْسِهِمُ النَّبِيُّ إِرْمِيَا الَّذِي وَبَّخَ الشَّعْبَ قَائِلًا: "لَا تَتَّكِلُوا عَلَى كَلَامِ الكَذِبِ قَائِلِينَ: هظ°ذَا هَيْكَلُ الرَّبِّ، هَيْكَلُ الرَّبِّ، هَيْكَلُ الرَّبِّ!" (إِرْمِيَا 7: 4)، فِي إِشَارَةٍ إِلَى ظ±كْتِفَائِهِمْ بِالشَّكْلِ دُونَ الجَوْهَرِ. وَقَدْ تَبِعَهُ النَّبِيُّ حِزْقِيَالُ مُؤَكِّدًا أَنَّ ظ±نشِغَالَ الشَّعْبِ بِالمَبْنَى دُونَ القَدَاسَةِ الدَّاخِلِيَّةِ أَدَّى إِلَى خَرَابِ الهَيْكَلِ الأَوَّلِ سَنَةَ 586 ق.م عَلَى يَدِ نَبُوخَذْنَصَّر (حِزْقِيَالُ 10: 18-19).وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ عَلَى هظ°ذِهِ النُّقْطَةِ قَائِلًا: "لَمْ يُرِدِ الرَّبُّ أَنْ يَدِينَ الحِجَارَةَ وَلَا البِنَاءَ، بَلْ أَرَادَ أَنْ يُصْلِحَ النُّفُوسَ؛ فَهُوَ لَا يَطْلُبُ جَمَالًا مَحْسُوسًا، بَلْ قَلْبًا نَقِيًّا يَسْكُنُ فِيهِ"؛ مُشَدِّدًا عَلَى أَنَّ المَعْبَدَ الحَقِيقِيَّ هُوَ ظ±لتَّقْوَى وَالقَدَاسَةُ فِي القَلْبِ. أَمَّا عِبَارَةُ "سَتَأْتِي أَيَّامٌ لَنْ يُتْرَكَ مِنْهُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ"، فَتُعْلِنُ نُبُوءَةَ يَسُوعَ الوَاضِحَةَ عَنْ دَمَارِ هَيْكَلِ أُورَشَلِيمَ، الَّذِي كَانَ أَجْمَلَ وَأَفْخَمَ هَيْكَلٍ فِي زَمَانِهِ. لَقَدْ بَدَتْ هظ°ذِهِ النُّبُوءَةُ مُسْتَفِزَّةً وَصَادِمَةً لِآذَانِ اليَهُودِ، إِذْ كَانَ خَرَابُ الهَيْكَلِ – فِي نَظَرِهِمْ – يَعْنِي ظ±نْهِيَارَ العَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَ شَعْبِهِ؛ لِأَنَّ الهَيْكَلَ كَانَ قَلْبَ إِيمَانِ الشَّعْبِ، وَرَمْزًا لِأُمَّةٍ وَدِينٍ بِأَكْمَلِهِمَا. وَبِظ±نْهِيارِهِ، سَيَنْهَارُ عَالَمٌ بِأَسْرِهِ. ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الأُورُشَلِيمِيُّ عَلَى هظ°ذِهِ النُّبُوءَةِ قَائِلًا: "لَمْ يَتَنَبَّأِ الرَّبُّ عَنْ خَرَابِ الهَيْكَلِ عَبَثًا، بَلْ لِيُظْهِرَ أَنَّ المَجْدَ الحَقِيقِيَّ لَمْ يَعُدْ فِي حِجَارَةٍ تُبْنَى وَتَنْهَدِمُ، بَلْ فِي العَهْدِ الجَدِيدِ الَّذِي يَتَجَلَّى فِي شَخْصِ ظ±لابْنِ. فَبِظ±نْتِهَاءِ الهَيْكَلِ الأَرْضِيِّ، يَبْدَأُ هَيْكَلُ القُلُوبِ الَّذِي يَسْكُنُهُ الرُّوحُ القُدُسُ." وَلِذظ°لِكَ، فَإِنَّ كَلِمَاتِ يَسُوعَ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ إِعْلانٍ عَنْ حَدَثٍ تَارِيخِيٍّ قَادِمٍ، بَلْ إِعْلانًا لاهُوتِيًّا عَنِ ظ±نْتِقَالِ مَرْكَزِ الحُضُورِ الإِلَهِيِّ مِنْ هَيْكَلِ الحِجَارَةِ إِلَى هَيْكَلِ الجَسَدِ وَحَيَاةِ المُؤْمِنِ. كَمَا أَنَّ عِبَارَةَ "يُنْقَضْ" تُعَبِّرُ عَنْ إِنْذَارٍ نَبَوِيٍّ بِأُسْلُوبٍ يُذَكِّرُ بِتَقْلِيدِ الأَنْبِيَاءِ، وَلا سِيَّمَا مِيخَا وَإِرْمِيَا وَحِزْقِيَالَ، الَّذِينَ سَبَقُوا وَأَنْذَرُوا بِخَرَابِ الهَيْكَلِ بِسَبَبِ خَطَايَا الشَّعْبِ (مِيخَا 3: 12؛ إِرْمِيَا 7: 1-15؛ حِزْقِيَالُ 8–11). وَقَدْ وَجَدَ التَّلَامِيذُ صُعُوبَةً فِي تَصْدِيقِ كَلَامِ يَسُوعَ، خُصُوصًا وَهُمْ يَتَأَمَّلُونَ بِنَاءً مُهَيْبًا وَفَرِيدًا فِي عَظَمَتِهِ. غَيْرَ أَنَّ النُّبُوءَةَ تَحَقَّقَتْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ عَامًا فَقَطْ، عِنْدَمَا دَمَّرَ القَائِدُ الرُّومَانِيُّ طِيطُسُ الهَيْكَلَ سَنَةَ 70م، وَقَدْ عَايَشَ بَعْضُ التَّلَامِيذِ هظ°ذَا الحَدَثَ. وَهظ°كَذَا أَرَادَ يَسُوعُ أَنْ يُنِيرَ بَصِيرَتَهُمْ بِشَأْنِ المُسْتَقْبَلِ لِكَيْ يَعِيشُوا الحَاضِرَ بِتَمْيِيزٍ، دُونَ ظ±لتَّعَلُّقِ بِمَا هُوَ زَائِلٌ. لَقَدْ كَانَ خَرَابُ الهَيْكَلِ فِي العَهْدِ القَدِيمِ عَلامَةً عَلَى نَقْضِ العَهْدِ بِسَبَبِ خَطَايَا الشَّعْبِ، وَبِمَا أَنَّ إِسْرَائِيلَ رَفَضَ أَنْ يَرَى فِي يَسُوعَ المَسِيحِ مُرْسَلَ اللهِ، فَقَدْ صَارَ خَرَابُ الهَيْكَلِ عَلامَةً عَلَى ظ±نْتِقَالِ التَّدْبِيرِ القَدِيمِ وَظُهُورِ العَهْدِ الجَدِيدِ. وَهظ°ذَا مَا ظ±سْتُخْدِمَ ضِدَّ يَسُوعَ فِي مَحَاكَمَتِهِ، إِذِ ظ±تُّهِمَ قَائِلًا: "إِنِّي لَقَادِرٌ عَلَى نَقْضِ هَيْكَلِ اللهِ وَبِنَائِهِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ" (مَتَّى 26: 61)، رَغْمَ أَنَّهُ كَانَ يُشِيرُ إِلَى هَيْكَلِ جَسَدِهِ (يُوحَنَّا 2: 19-21). وَيُوَضِّحُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الإِسْكَنْدَرِيُّ بُعْدَ هظ°ذَا المَعْنَى قَائِلًا: "إِنَّ المَسِيحَ نَقَلَ مَحَلَّ العِبَادَةِ مِنْ حِجَارَةٍ مَصْنُوعَةٍ بِالأَيَادِي إِلَى جَسَدِهِ الَّذِي فِيهِ يَسْكُنُ كَمِلْءِ اللاهُوتِ، وَفِيهِ تَتِمُّ لِلْبَشَرِ مُصَالَحَةُ اللهِ"؛ مُرْتَبِطًا بِأَنَّ هَيْكَلَ الجَسَدِ هُوَ مَحَلُّ الحُضُورِ الإِلَهِيِّ الحَقِيقِيِّ. يَقُولُ البَابَا فَرَنْسِيس: "يَسُوعُ لَا يُرِيدُ الإِسَاءَةَ إِلَى الهَيْكَلِ، إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُفْهِمَهُمْ، وَيُفْهِمَنَا نَحْنُ اليَوْمَ، أَنَّ البُنَى البَشَرِيَّةَ، حَتَّى الأَكْثَرُ قُدْسِيَّةً، هِيَ فَانِيَةٌ وَلَا يَجِبُ أَنْ نَضَعَ فِيهَا ضَمَانَاتِنَا" (صَلَاةُ التَّبْشِيرِ المَلَائِكِيِّ – الأَحَد 13 تِشْرِين الثَّانِي 2016). فَالهَيْكَلُ الحَقِيقِيُّ هُوَ يَسُوعُ المَسِيحُ نَفْسُهُ، مَسْكِنُ اللهِ مَعَ البَشَرِ، وَحُضُورُ اللهِ فِي العَالَمِ. وَلِهظ°ذَا يَرْوِي الإِنْجِيلِيُّونَ أَنَّهُ عِنْدَ مَوْتِ يَسُوعَ ظ±نْشَقَّ حِجَابُ الهَيْكَلِ إِلَى شَطْرَيْنِ مِنَ الأَعْلَى إِلَى الأَسْفَلِ (مَتَّى 27: 51)، فِي عَلامَةٍ جَلِيَّةٍ لِزَوَالِ الحَوَاجِزِ بَيْنَ اللهِ وَالإِنْسَانِ، وَإِعْلَانِ وُلُوجِ العَهْدِ الجَدِيدِ فِي دَمِهِ. وَبِكَلِمَاتٍ مُوجَزَةٍ، يُلَخِّصُ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ وَاقِعًا مُهِمًّا: الهَيْكَلُ، رَغْمَ عَظَمَتِهِ وَحِجَارَتِهِ النَّفِيسَةِ وَتُحَفِهِ النَّذْرِيَّةِ، لَنْ يَدُومَ، وَبِالتَّالِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَكِّلَ ضَمَانَةً لِلْخَلَاصِ؛ فَالخَلَاصُ لَا يَقُومُ عَلَى حِجَارَةٍ، بَلْ عَلَى العَلَاقَةِ بِاللهِ. وَتُعَبِّرُ القِدِّيسَةُ تِيرِيزَا بِنْدِكْتَا لِلصَّلِيبِ (إِيدِيثْ شْتَايْن) عَنْ هظ°ذَا الوَاقِعِ بِعُمْقٍ لَاهُوتِيٍّ قَائِلَةً: "لَقَدْ بَنَى الرَّبُّ يَسُوعُ المَسِيحُ، مَكَانَ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ، هَيْكَلًا مِنَ الحِجَارَةِ الحَيَّةِ (1 بُطْرُس 2: 5)، أَيْ شَرِكَةَ القِدِّيسِينَ. وَهُوَ يَقِفُ فِي وَسَطِ الهَيْكَلِ كَرَئِيسِ الكَهَنَةِ الأَزَلِيِّ، وَعَلَى مَذْبَحِهِ القُرْبَانُ المُقَدَّمُ إِلَى الأَبَدِ" (صَلَاةُ الكَنِيسَةِ). 7 فسأَلوه: يا مُعلّم، ومَتى تكونُ هذه، وما تكونُ العَلامَةُ أَنَّ هذه كُلَّها تُوشِكُ أَن تَحدُث؟ تُشِيرُ عِبَارَةُ "فَسَأَلُوهُ" إِلى التَّلَامِيذِ الَّذِينَ طَرَحُوا السُّؤَالَ عَلَى يَسُوعَ، كَمَا وَرَدَ صَرَاحَةً فِي إِنْجِيلَي مَتَّى وَمَرْقُس (مَتَّى 24: 3؛ مَرْقُس 13: 3)، أَوْ إِلى الجَمَاعَةِ المُرَافِقَةِ لَهُ مِمَّنْ كَانُوا يُصْغُونَ إِلى تَعْلِيمِهِ. وَبِهظ°ذَا ظ±لِاعْتِبَارِ، يُنظَرُ إِلى هظ°ذَا الحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ الخِطْبَةُ العَلَنِيَّةُ الأَخِيرَةُ الَّتِي يُوَجِّهُهَا يَسُوعُ إِلى أُورَشَلِيمَ قَبْلَ آلاَمِهِ، خِطَابٌ يَحْمِلُ طَابِعًا نَبَوِيًّا وَدَيْنُونِيًّا وَوِدَاعِيًّا فِي آنٍ وَاحِدٍ. أَمَّا عِبَارَةُ "مَتَى تَكُونُ هظ°ذِهِ؟" فَتُعَبِّرُ عَنْ رَغْبَةِ التَّلَامِيذِ فِي مَعْرِفَةِ تَوْقِيتِ دَمَارِ الهَيْكَلِ الَّذِي تَكَلَّمَ عَنْهُ يَسُوعُ. كَانُوا مُهْتَمِّينَ بِتَحْدِيدِ الزَّمَنِ وَالمَوْعِدِ، بَيْنَمَا أَرَادَ يَسُوعُ رَفْعَ نَظَرِهِمْ مِنَ الفُضُولِ الزَّمَنِيِّ إِلى جَوْهَرِ الحَيَاةِ المَسِيحِيَّةِ: الِاسْتِعْدَادِ لِمَجِيئِهِ بِالسَّهَرِ وَالسُّلُوكِ بِحَسَبِ طَرِيقِ الرَّبِّ. فَالقَضِيَّةُ لَيْسَتْ فِي "مَتَى؟" بَلْ فِي "كَيفَ نَتَهَيَّأُ؟". فَحِينَ يَأْتِي الرَّبُّ ثَانِيَةً، لَا يَبْحَثُ عَنِ المَعْلُومَاتِ فِي عُقُولِهِمْ، بَلْ عَنِ الأَمَانَةِ فِي قُلُوبِهِمْ. أَمَّا سُؤَالُهُمْ الثَّانِي: "وَمَا تَكُونُ العَلامَةُ؟"، فَيَكْشِفُ ظ±نْشِغَالَهُمْ بِالعَلامَاتِ المُصَاحِبَةِ لِلأَحْدَاثِ. وَقَدْ شَغَلَ هظ°ذَا السُّؤَالُ العَالِمَيْنِ اليَهُودِيَّ وَالمَسِيحِيَّ عَبْرَ الأَجْيَالِ. وَلِهظ°ذا جَاءَ تَنْبِيهُ يَسُوعَ تِلْمِيذَهُ لِأَنْ يَنْتَقِلُوا مِنِ البَحْثِ عَنِ "العَلامَاتِ" إِلى البَحْثِ عَنِ "المَلَكُوتِ". وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الإِسْكَنْدَرِيُّ مُوَضِّحًا سَبَبَ الِالْتِبَاسِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّلَامِيذُ وَالشَّعْبُ، إِذْ يَقُولُ: "إِنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا كَلِمَاتِ المُخَلِّصِ فِي إِطَارِهَا الحَقِيقِيِّ، بَلْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَتَحَدَّثُ عَنْ نِهَايَةِ العَالَمِ، لِأَنَّهُمْ رَبَطُوا تِلْقَائِيًّا بَيْنَ هَدْمِ الهَيْكَلِ وَظُهُورِ المَسِيَّا فِي مَجْدِهِ. وَلظ°كِنَّ المَسِيحَ أَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنْ قُلُوبِهِمْ هظ°ذِهِ الفِكْرَةَ، لِيُظْهِرَ أَنَّ العَهْدَ يَتَجَدَّدُ فِي شَخْصِهِ، لَا فِي حِجَارَةٍ تُقَامُ مِنْ جَدِيدٍ". فَقَدْ كَانَ مِنْ غَيْرِ المُتَصَوَّرِ دِينِيًّا لَدَى اليَهُودِ أَنْ "يُدَمَّرَ هَيْكَلُ اللهِ"، بَلْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ أَنْ "يَزْدَادَ مَجْدًا" عِنْدَ مَجِيءِ المَسِيَّا المُنْتَظَرِ لِيَمْلِكَ مِنْهُ عَلَى الأُمَمِ. لِذَا، كَانَ إِعْلَانُ يَسُوعَ صَادِمًا، لِأَنَّهُ "فَكَّكَ" هظ°ذِهِ المُعَادَلَةَ اللَّاهُوتِيَّةَ الخَاطِئَةَ الَّتِي رَبَطَتْ بَيْنَ ظ±سْتِمْرَارِ الهَيْكَلِ وَبَقَاءِ العَهْدِ. وَمِنْ هُنَا، فَإِنَّ دَمَارَ الهَيْكَلِ وَأُورَشَلِيمَ يُشَكِّلَانِ "مِفْتَاحًا أَسَاسِيًّا" لِفَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ أَحْدَاثِ التَّارِيخِ الخَلَاصِيِّ، لَا بِوَصْفِهِمَا "نِهَايَةَ العَالَمِ"، بَلْ "عَلامَةَ ظ±نْتِقَالٍ" مِنْ "تَدْبِيرٍ قَدِيمٍ" إِلى "آخَرَ جَدِيدٍ" فِي المَسِيحِ. وَمَعَ ذظ°لِكَ، نَبَّهَ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ إِلى أَلَّا يَكُونَ طَلَبُهُمْ مُوَجَّهًا نَحْوَ "مُطَارَدَةِ العَلامَاتِ" أَوْ "قِرَاءَةِ الأَزْمِنَةِ" بِمَنْطِقِ الخَوْفِ، بَلْ نَحْوَ "طَلَبِ مَلَكُوتِ اللهِ أَوَّلًا"(مَتَّى 6: 33). فَالرَّجَاءُ المَسِيحِيُّ لَا يُبْنَى عَلَى المُؤَشِّرَاتِ وَالظَّوَاهِرِ، بَلْ عَلَى الأَمَانَةِ لِلرَّبِّ. أَمَّا عِبَارَةُ "تُوشِكُ أَنْ تَحْدُثَ؟" فَتُشِيرُ إِلى تَوَقُّعِ السَّامِعِينَ لِقُرْبِ وُقُوعِ أَحْدَاثِ خَرَابِ الهَيْكَلِ، وَتَكْشِفُ قَلَقَهُمْ بِشَأْنِ "العَلَامَةِ" الَّتِي سَتَدُلُّ عَلَى اقْتِرَابِ هظ°ذَا الدَّمَارِ. فَيُقَدِّمُ يَسُوعُ هُنَا تَعْلِيمًا ذَا بُعْدٍ نَبَوِيٍّ "مُزْدَوِجٍ": فَهُوَ يَتَحَدَّثُ عَنْ "ظ±نْهِيَارٍ نِهَائِيٍّ لِعَالَمٍ" (أَيْ لِلنِّظَامِ اليَهُودِيِّ القَائِمِ عَلَى الهَيْكَلِ وَالذَّبَائِحِ)، وَلَيْسَ عَنْ "نِهَايَةِ العَالَمِ الكَوْنِيَّةِ". وَبِذظ°لِكَ "يُمَيِّزُ" يَسُوعُ بَيْنَ "سُقُوطِ أُورَشَلِيمَ التَّارِيخِيِّ" وَ"نِهَايَةِ الأَزْمِنَةِ الإِسْكَاتُولُوجِيَّةِ"، مَعَ وُجُودِ "تَدَاخُلٍ لاهُوتِيٍّط بَيْنَهُمَا دُونَ "تَطَابُقٍ زَمَنِيٍّ". 8 فقال: إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَد! فسَوفَ يأتي كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي فيَقولون: أَنا هُو! قد حانَ الوَقْت! فلا تَتبَعوهم. تُشِيرُ عِبَارَةُ "قالَ" إِلى الخِطَابِ الأَخِيرِ الَّذِي وَجَّهَهُ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ، وَهُوَ خِطَابٌ وِدَاعِيٌّ، نَبَوِيٌّ وَإِسْكَاتُولُوجِيٌّ، أَعْلَنَ فِيهِ عَنْ خَرَابِ أُورَشَلِيمَ وَسُقُوطِ الهَيْكَلِ، مُوَجِّهًا أَنْظَارَهُمْ مِنَ الإِعْجَابِ بِالحِجَارَةِ إِلى التَبَصُّرِ بِمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنْ أَحْدَاثٍ تَمْتَحِنُ الإِيمَانَ. أَمَّا عِبَارَةُ "إِيَّاكُمْ أَنْ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ" فَتُعَبِّرُ عَنْ تَحْذِيرِ يَسُوعَ مِنْ خَطَرِ الضَّلَالِ الرُّوحِيِّ بِجَمِيعِ أَشْكَالِهِ، إِذْ سَيَتَعَرَّضُ المُؤْمِنُونَ لِخِدَاعٍ مِنْ مَصَادِرَ عِدَّةٍ: - ضَلَالٌ مَسِيَّانِيٌّ/عَقَائِدِيٌّ: ظُهُورُ مَسَحَاءَ كَذَبَةٍ يَنْتَحِلُونَ ظ±سْمَ المَسِيحِ وَسُلْطَانَهُ، كَمَا فِي قَوْلِ الرَّبِّ:"إِيَّاكُمْ أَنْ يُضِلَّكُمْ أَحَدٌ! فَسَوْفَ يَأْتِيَ كَثِيرُونَ مُنْتَحِلِينَ ظ±سْمِي يَقُولُونَ: أَنَا هُوَ المَسِيحُ، وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ" (مَتَّى 24: 4-5). - ضَلَالٌ شَيْطَانِيٌّ: مَصْدَرُهُ قُوَّاتُ الشَّرِّ الرُّوحِيِّ، كَمَا يَصِفُ سِفْرُ الرُّؤْيَا: "مُضِلَّلُ ظ±لْمَعْمُورِ كُلِّهِ" (رُؤْيَا 12: 9). - ضَلَالٌ أَخْلَاقِيٌّ – سِيَاسِيٌّ – نَبَوِيٌّ كَاذِبٌ: حَيْثُ تُسْتَغَلُّ النُّبُوءَةُ لِكَسْبِ النُّفُوذِ وَالسُّلْطَةِ بِظ±سْمِ الدِّينِ، كَمَا حَذَّرَ سِفْرُ الرُّؤْيَا مِنَ المُعَلِّمَةِ الكَاذِبَةِ "إِيزَابِل: "تُعَلِّمُ وَتُضِلُّ عَبِيدِي" (رُؤْيَا 2: 20)). - ضَلَالٌ تَعْلِيمِيٌّ وَلَاهُوتِيٌّ: حِينَ يَنْبَعُ ظ±لْخِدَاعُ مِنْ دَاخِلِ الجَمَاعَةِ المُؤْمِنَةِ، عَبْرَ تَعْلِيمٍ بَاطِلٍ أَوْ تَبْرِيرِ ظ±لْخَطِيئَةِ: "إِذَا قُلْنَا إِنَّنَا بِلَا خَطِيئَةٍ ضَلَّلْنَا أَنْفُسَنَا" (1 يُوحَنَّا 1: 8). وَمِنْ هُنَا، تَظْهَرُ الحَاجَةُ المُلِحَّةُ إِلى تَمْيِيزٍ رُوحِيٍّ عَمِيقٍ، كَيْ لَا يَنْخَدِعَ المُؤْمِنُونَ بِالمَظَاهِرِ، فَيَرَوْنَ اللهَ حَيْثُ لَا يَكُونُ، وَلَا يَتَعَرَّفُونَ عَلَى حُضُورِهِ حَيْثُ هُوَ حَاضِرٌ. أَمَّا عِبَارَةُ "مُنْتَحِلِينَ ظ±سْمِي" فَفِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: ل¼گد€ل½¶ د„ل؟· ل½€خ½ل½¹خ¼خ±د„ل½· خ¼خ؟د…، أَي "تَحْتَ ظ±سْمِي" أَوْ "بِظ±سْمِي"، وَتُشِيرُ إِلى أَشْخَاصٍ يَنْتَحِلُونَ "هُوِيَّةَ" المَسِيحِ "وَسُلْطَانَهُ"، مُدَّعِينَ أَنَّهُمْ يُقَدِّمُونَ ظ±لْخَلَاصَ. هظ°ؤُلَاءِ هُمُ الأَنْبِيَاءُ الكَذَبَةُ الَّذِينَ يُبَشِّرُونَ بِرَخَاءٍ مُزَيَّفٍ، وَيُرْضُونَ النَّاسَ بِمَا يُرِيدُونَ سَمَاعَهُ، فَيُوقِعُونَ ظ±لْبَلْبَلَةَ فِي الإِيمَانِ. وَقَدْ حَذَّرَ المَسِيحُ مِنْهُمْ سَابِقًا: "إِيَّاكُمْ وَالأَنْبِيَاءَ الكَذَّابِينَ، فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَكُمْ فِي لِبَاسِ ظ±لْخِرَافِ وَهُمْ فِي بَاطِنِهِمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ" (مَتَّى 7: 15).). لَقَدْ رَفَضَ اليَهُودُ المَسِيحَ الحَقِيقِيَّ، فَظ±نْتَظَرُوا مَسِيحًا آخَرَ بِصِفَاتٍ زَمَنِيَّةٍ وَسِيَاسِيَّةٍ، مِمَّا مَهَّدَ لِظُهُورِ مُدَّعِي "المَسِيَّا"، الَّذِينَ خَدَعُوا النَّاسَ بِعَجَائِبَ كَاذِبَةٍ وَبِوُعُودٍ أَرْضِيَّةٍ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "قَدْ حَانَ ظ±لْوَقْتُ" فَتُشِيرُ إِلى المُعَلِّمِينَ المُضِلِّينَ الَّذِينَ يُعْلِنُونَ اقْتِرَابَ ظ±لنِّهَايَةِ: "سَيُقَالُ لَكُمْ: هَا هُوَذَا هُنَا أَوْ هُنَاكَ، فَلَا تَذْهَبُوا وَلَا تَنْدَفِعُوا"(لُوقَا 17: 23). ). هُنَا يُجِيبُ يَسُوعُ عَلَى رَغْبَةِ البَشَرِ فِي مَعْرِفَةِ "عَلَامَاتِ ظ±لنِّهَايَةِ"، فَيُعِيدُ تَرْتِيبَ الأَوْلَوِيَّاتِ: المُهِمُّ لَيْسَ "تَحْدِيدَ الأَزْمِنَةِ" بَلْ "الِاسْتِعْدَادَ بِالإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ". َيُلَاحَظُ أَنَّ لُوقَا الإِنْجِيلِيَّ فَصَلَ بِوُضُوحٍ بَيْنَ "دَمَارِ الهَيْكَلِ" (لُوقَا 19: 41-44) وَ"نِهَايَةِ العَالَمِ"، كَيْ لَا يُفْهَمَ الحَدَثُ التَّارِيخِيُّ كَحَدَثٍ إِسْكَاتُولُوجِيٍّ نِهَائِيٍّ. وَمِنْ هظ°ذَا المُنْطَلَقِ، "تُبْطِلُ" هظ°ذِهِ الآيَةُ كُلَّ تَعْلِيمٍ "يَدَّعِي تَحْدِيدَ مَوْعِدِ" مَجِيءِ المَسِيحِ، كَمَا فَعَلَتْ جَمَاعَةُ الأَدْفَنْتِسْت الَّذِينَ حَدَّدُوا سَنَةَ 1843 ثُمَّ 1844، وَكَذظ°لِكَ شُهُودُ يَهْوَه الَّذِينَ حَوَّلُوا كَلِمَةَ اللهِ إِلى جِدَالَاتٍ زَمَنِيَّةٍ عَقِيمَةٍ تُخَالِفُ رُوحَ الإِنْجِيلِ، الَّذِي يَرْفُضُ كُلَّ مُحَاوَلَةٍ لِتَحْدِيدِ الأَزْمِنَةِ: "لَيْسَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا الأَزْمِنَةَ وَالأَوْقَاتَ الَّتِي جَعَلَهَا الآبُ فِي سُلْطَانِهِ" (أَعْمَالُ الرُّسُلِ 1: 7). ). يَطْلُبُ يَسُوعُ مِنْ تَلَامِيذِهِ أَلَّا "يَنْخَدِعُوا بِهظ°ؤُلَاءِ"، وَأَلَّا يَعِيشُوا فِي "خَوْفٍ" مِنْ نُبُوءَاتٍ كَاذِبَةٍ عَنْ نِهَايَةِ العَالَمِ، بَلْ "أَنْ يَثْبُتُوا فِي الرَّجَاءِ". وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ عَلَى هظ°ذَا قَائِلًا: "لَنْ يَكُونَ مَجِيءُ المَسِيحِ الثَّانِي كَمَا كَانَ الأَوَّلُ فِي بَيْتِ لَحْمٍ، فِي تَوَاضُعٍ وَخَفَاءٍ، بَلْ سَيَأْتِي بِكُلِّ مَجْدِهِ، وَلَنْ تَكُونَ هُنَاكَ حَاجَةٌ لِإِعْلَانِ أَحَدٍ عَنْهُ. لِذظ°لِكَ قَالَ: إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَذَا المَسِيحُ هُنَا أَوْ هُنَاكَ، فَلَا تُصَدِّقُوهُ. أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا أَنَّ مَجِيئَهُ الثَّانِي لَنْ يَكُونَ مُتَوَاضِعًا بَلْ "ظَاهِرًا فِي المَجْدِ" (العِظَةُ 76 عَلَى مَتَّى). أمَّا عِبارَةُ " فَلا تَتْبَعوهُم"، فَتُشيرُ إلى تَحذيرٍ صَريحٍ وَحاسِمٍ مِنَ الرَّبِّ يَسوعَ لِتَلاميذِهِ، بِأَلَّا يَنْقَادوا خَلْفَ الَّذينَ يَدَّعونَ اسمَهُ باطِلًا، أَو يَنْتَحِلونَ شَخْصَهُ وَسُلْطانَه محاولين تَشْويشَ الإيمانِ وَزَعْزَعَةَ الثَباتِ المُؤمِنينَ. فيُعَلِّقُ القدِّيس كِيرلُّس الأورشليمي قائلًا: "سَيَظْهَرُ كُذَّابُونَ كُثُرٌ، يَدَّعُونَ المَسِيحَ، فاحْذَرُوا لِئَلَّا تَضِلُّوا؛ فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَلْبَسُ جِلْبَابَ الحَمَلِ يَكونُ مِنْ قَطِيعِ الحَقِّ". ويُشيرُ التَّحذيرُ أَيضًا إلى أنَّ الإيمانَ الحَقِيقِيَّ لا يَقومُ على الظَّواهِرِ المُخادِعَة ولا على الأصواتِ المُرتَفِعَة، بَل على مَعرفةِ شَخصِ يَسوعَ وَالثَّباتِ في كَلِمَتِهِ. ومِن هُنا، تَتَّضِحُ العِبْرةُ الرَّعوِيَّة: عَيْنُ المُؤمِنِ ثابِتَةٌ على المَسِيحِ وَحْدَهُ، لا على الَّذينَ يَدَّعُونَ اسْمَهُ، فالمُعَلِّمُ واحِد، وَالرَّبُّ واحِد، وَالخَلاصُ في شَخصِهِ وَحْدَهُ. 9 وإِذا سَمِعتُم بِالحُروبِ والفِتَن فلا تَفزَعوا، فَإِنَّه لابُدَّ مِن حُدوثِها أَوَّلاً، ولكِن لا تَكونُ النِّهايةُ عِندَئِذٍ. تُشِيرُ عِبَارَةُ "بِالحُرُوبِ وَالفِتَنِ" إِلى أَحْدَاثٍ وَاضْطِرَابَاتٍ لَا تَتَعَلَّقُ بِنِهَايَةِ الأَزْمِنَةِ مُبَاشَرَةً، بَلْ تَرْتَبِطُ بِالتَّارِيخِ القَرِيبِ مِنْ زَمَنِ الكَنِيسَةِ الأُولَى، أَيْ بِالفَتْرَةِ الوَاقِعَةِ بَيْنَ صُعُودِ المَسِيحِ وَخَرَابِ الهَيْكَلِ سَنَةَ 70م. فَقَدْ شَهِدَتِ الإِمْبِرَاطُورِيَّةُ الرُّومَانِيَّةُ سِلْسِلَةً مِنَ الِاضْطِرَابَاتِ العِرْقِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالحُرُوبِ، مِنْهَا: النِّزَاعُ بَيْنَ المِصْرِيِّينَ وَاليَهُودِ فِي الإِسْكَنْدَرِيَّةِ نَحْوَ سَنَةِ 38م، المَجْزَرَةُ ضِدَّ اليَهُودِ فِي سِلُوقِيَّةَ عَلَى ضِفَافِ نَهْرِ دِجْلَةَ حَيْثُ قُتِلَ نَحْوَ خَمْسِينَ أَلْفًا مِنْهُمْ، التَّوَتُّرَاتُ بَيْنَ اليَهُودِ وَالسَّامِرِيِّينَ، الِاضْطِرَابَاتُ الَّتِي أَعْقَبَتْ مَوْتَ الإِمْبِرَاطُورِ نِيرُون سَنَةَ 68م. يُقَدِّمُ يَسُوعُ فِي هظ°ذَا السِّيَاقِ "لَوْحَةً وَاقِعِيَّةً" لِأَنْوَاعِ الشُّرُورِ البَشَرِيَّةِ: حُرُوبٌ، فِتَنٌ، كَوَارِثُ طَبِيعِيَّةٌ، أَمْرَاضٌ، مَجَاعَاتٌ وَاضْطِهَادَاتٌ. وَهُوَ لَا يُفَسِّرُ "سَبَبَ" هظ°ذِهِ الشُّرُورِ وَلَا يُقَدِّمُ "تَفْسِيرًا لَاهُوتِيًّا مُبَاشِرًا" لِأَصْلِهَا، فَلَا يَجُوزُ ظ±عْتِبَارُهَا "عِقَابًا إِلَهِيًّا مُبَاشِرًا" عَلَى خَطَايَا البَشَرِ، بِقَدْرِ مَا هِيَ "تَنْبِيهَاتٌ وَدَعَوَاتٌ" إِلى التَّوْبَةِ وَاليَقَظَةِ الرُّوحِيَّةِ. أَمَّا عِبَارَةُ "لَا بُدَّ مِنْ حُدُوثِهَا" فَلَا تُعَبِّرُ عَنْ "حَتْمِيَّةٍ قَدَرِيَّةٍ" أَوْ عَنْ "مَشَارِيعَ بَشَرِيَّةٍ"، بَلْ تُشِيرُ إِلى "إِطَارِ التَّدْبِيرِ الإِلَهِيِّ لِلتَّارِيخِ". فَهظ°ذِهِ الأَحْدَاثُ لَيْسَتِ "ظ±لنِّهَايَةَ"، بَلْ "بِدَايَةَ آلاَمِ المَخَاضِ" الَّتِي "تَسْبِقُ" التَّحَوُّلَ النِّهَائِيَّ، كَمَا لَمَّحَ النَّبِيُّ دَانِيَال (دَانِيَال 2: 28). وَأَمَّا لَفْظَةُ "ظ±لنِّهَايَةُ" فَتُشِيرُ إِلى "ظ±كْتِمَالِ التَّدْبِيرِ الإِلَهِيِّ الحَاضِرِ" وَ"دُخُولِ مَلَكُوتِ اللهِ" فِي "مِلْئِهِ الأَخِيرِ". وَفِي هظ°ذَا الإِطَارِ يُذَكِّرُ يَسُوعُ أَنَّ "مِعْيَارَ الخَلَاصِ" يَرْتَبِطُ بِالثَّبَاتِ وَسَطَ ظ±لضِّيقِ "ظ±لَّذِي يَثْبُتُ إِلى ظ±لنِّهَايَةِ فَذَاكَ يَخْلُصُ" (مَتَّى 10: 22). ). إِذًا، "التَّارِيخُ" فِي "يَدِ اللهِ"، وَلِذظ°لِكَ "يُدْعَى المُؤْمِنُ" إِلى "ظ±لْهُدُوءِ وَظ±لاتِّكَالِ"، لَا إِلى "ظ±لذُّعْرِ وَظ±لْهَلَعِ" أَمَامَ الكَوَارِثِ. فَمُنْذُ "قِيَامَةِ المَسِيحِ" وَحَتَّى اليَوْمِ، "ظ±دَّعَى كَثِيرُونَ" مَعْرِفَةَ "اللَّحْظَةِ الدَّقِيقَةِ" لِنِهَايَةِ العَالَمِ، "وَلَمْ يَصْدُقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ". لِأَنَّ "مَجِيءَ المَسِيحِ سَيَتِمُّ فِي مِلْءِ الزَّمَانِ الإِلَهِيِّ"، لَا "وِفْقَ تَوْقِيتِ البَشَرِ". وَ"العَلَامَةُ الوَحِيدَةُ الأَكِيدَةُ" لِمَجِيئِهِ الثَّانِي هِيَ "ظُهُورُهُ عَلَانِيَةً" لِلْعَالَمِ كُلِّهِ: "وَحِينَئِذٍ يَرَى النَّاسُ ظ±بْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي الغَمَامِ فِي تَمَامِ العِزَّةِ وَالجَلَالِ" (مَرْقُس 13: 26).). وَيُعَلِّقُ أُورِيجَانُس عَلَى هظ°ذَا الحَقِيقَةِ قَائِلًا: "حِينَ تَصِلُ الأُمُورُ إِلى حَدِّهَا لَدَى المُؤْمِنِينَ، وَحِينَ يَأْتِي زَمَنُ الجِيلِ الجَدِيدِ المُنْحَلِّ وَالفَاسِدِ حَيْثُ يَزْدَادُ الإِثْمُ، فَتَفْتُرُ المَحَبَّةُ فِي أَكْثَرِ النَّاسِ (مَتَّى 24: 12)، حِينَئِذٍ تُقَصَّرُ الأَيَّامُ" (مَتَّى 24: 22). نَعَمْ، ظ±لرَّبُّ يَعْرِفُ مَتَى يُطِيلُ زَمَنَ الأَيَّامِ عِنْدَمَا يَحِينُ وَقْتُ الخَلَاصِ، وَيَعْرِفُ أَيْضًا مَتَى يَخْتَصِرُ مُدَّةَ المِحَنِ وَالخَرَابِ. أَمَّا نَحْنُ، فَمَا دَامَ ظ±لنَّهَارُ قَائِمًا فَلْنَسْلُكْ بِلِيَاقَةٍ كَمَا فِي ظ±لنَّهَارِ (رُومَا 13: 13)، وَلْنَقُمْ بِأَعْمَالِ النُّورِ" (عِظَاتٌ عَنْ سِفْرِ يَشُوع، 11: 3-4). 10 ثُمَّ قالَ لَهم: ستَقومُ أُمَّةٌ على أُمَّة، ومَملَكَةٌ على مَملَكَة، تُشِيرُ عِبَارَةُ "ثُمَّ قالَ لَهُم" فِي الأَصْلِ اليُونَانِيِّ: ل½پ خ´ل½² خµل¼¶د€خµخ½ خ±ل½گد„خ؟ل؟–د‚ أَيْ "حِينَئِذٍ قالَ لَهُم"، إِلى الِانْتِقَالِ الزَّمَنِيِّ وَالْمَنْهَجِيِّ فِي خِطَابِ يَسُوعَ، إِذْ تُـمَثِّلُ هظ°ذِهِ العِبَارَةُ "مَدْخَلًا" ِلى قِسْمٍ جَدِيدٍ مِنَ التَّعَالِيمِ، يُمَيِّزُ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَحْدَاثِ القَرِيبَةِ المُرْتَبِطَةِ بِخَرَابِ أُورَشَلِيمَ (لوقا 21: 12-24) وَبَيْنَ "عَلامَاتِ النِّهَايَةِ الكَوْنِيَّةِ" وَ"مَجِيءِ ظ±بْنِ الإِنْسَانِ" (لوقا 21: 10-11، 25-27). فَهِيَ بِمَثَابَةِ "فَاصِلٍ" أَدَبِيٍّ وَلَاهُوتِيٍّ، "يُظْهِرُ» الِانْتِقَالَ مِنَ "لتَّارِيخِ المَحَلِّيِّ" إِلى "الأُفُقِ الإِسْكَاتُولُوجِيِّ" الأَوْسَعِ. أَمَّا عِبَارَةُ "أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ، وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ" فَتَتَّخِذُ "طَابِعًا رُؤْيَوِيًّا نَبَوِيًّا"، وَقَدْ وَرَدَ هظ°ذَا الأُسْلُوبُ فِي تَقْلِيدِ العَهْدِ القَدِيمِ عِنْدَ الأَنْبِيَاءِ. فَيُشِيرُ النَّصُّ إِلى صِرَاعَاتٍ دُوَلِيَّةٍ وَاضْطِرَابَاتٍ شَامِلَةٍ، عَلَى مِثَالِ مَا وَرَدَ فِي نُبُـوءَةِ أَشَعْيَا: "أُحَرِّضُ مِصْرَ عَلَى مِصْرَ، فَيُقَاتِلُ الإِنْسَانُ أَخَاهُ وَالرَّجُلُ صَدِيقَهُ، مَدِينَةٌ مَدِينَةً وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةً" (أشعيا 19: 2). يَتَعَامَلُ يَسُوعُ هُنَا مَعَ هظ°ذِهِ الأَحْدَاثِ ضِمْنَ "إِطَارِ قِرَاءَةٍ لَاهُوتِيَّةٍ لِلتَّارِيخِ"، حَيْثُ تُفْهَمُ الِاضْطِرَابَاتُ لَا كَـ"عَشْوَائِيَّةٍ سِيَاسِيَّةٍ أَوْ عَسْكَرِيَّةٍ"»، بَلْ كَـ"جُزْءٍ" مِنْ مَسِيرَةِ العَالَمِ نَحْوَ "ظ±كْتِمَالِ التَّدْبِيرِ الإِلَهِيِّ". وَهظ°ذَا الأُسْلُوبُ هُوَ ذَاتُهُ الَّذِي نَجِدُهُ عِنْدَ النَّبِيِّ دَانِيَال، الَّذِي قَرَأَ التَّارِيخَ عِنْدَ سُقُوطِ الإِمْبِرَاطُورِيَّتَيْنِ الفَارِسِيَّةِ وَاليُونَانِيَّةِ عَلَى ضَوْءِ سِيَادَةِ اللهِ عَلَى الزَّمَنِ وَالشُّعُوبِ" (دانيال 2 و7–8). كَمَا ظ±عْتَمَدَ الرَّسُولُ يُوحَنَّا المَنْهَجَ نَفْسَهُ فِي سِفْرِ الرُّؤْيَا، فَفَسَّرَ «اضْطِهَادَاتِ القَرْنِ الأَوَّلِ المَسِيحِيِّ» فِي إِطَارِ الصِّرَاعِ بَيْنَ «الكَنِيسَةِ» وَ"إِمْبِرَاطُورِيَّاتِ العَالَمِ الوَثَنِيِّ، مُبَيِّنًا أَنَّ اللهَ هُوَ سَيِّدُ التَّارِيخِ، وَأَنَّ الأَحْدَاثَ تُسَاقُ ضِمْنَ "مُخَطَّطِهِ الخَلَاصِيِّ". وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ كِيرِلُّسُ الإِسْكَنْدَرِيُّ عَلَى هظ°ذَا المَعْنَى قَائِلًا: "لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَرْتَبِكُوا عِنْدَمَا يَرَوْنَ الأُمَمَ تَتَزَلْزَلُ وَالمَمَالِكَ تَتَهَاوَى، فَإِنَّ "مَلَكُوتَ اللهِ" لَا يُقَاسُ بِظ±ضْطِرَابَاتِ الزَّمَنِ، بَلْ بِـثَبَاتِ الإِيمَانِ. وَيَنْبَغِي أَنْ نَتَذَكَّرَ أَنَّ ظ±لْمَسِيحَ هُوَ "حَجَرُ الزَّاوِيَةِ" الَّذِي لَنْ يَتَزَعْزَعَ، وَمَنْ ظ±تَّكَلَ عَلَيْهِ لَنْ يَخْجَلَ بَيْنَ َقَلُّبَاتِ الدُّوَلِ وَالأَزْمِنَةِ. يُرِيدُ يَسُوعُ، مِنْ خِلَالِ هظ°ذَا الإِعْلَانِ، أَنْ يُثَبِّتَ قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ فَلَا يَتَشَكَّكُوا عِنْدَ رُؤْيَةِ ظ±شْتِدَادِ الحُرُوبِ وَالصِّرَاعَاتِ. فَذِكْرُ هظ°ذِهِ النُّبُوءَاتِ مُسْبَقًا لَيْسَ لِإِثَارَةِ الخَوْفِ، بَلْ لِحِمَايَةِ الإِيمَانِ مِنَ الِاضْطِرَابِ حِينَ تَقَعُ الأَحْدَاثُ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ المُؤْمِنِ المُسْبَقَةَ بِمُخَطَّطِ اللهِ هِيَ عُنْصُرُ قُوَّةٍ وَثَبَاتٍ فِي زَمَنِ الفِتَنِ". 11 وتَحدُثُ زَلازِلُ شديدة ومَجاعاتٌ وأَوبِئَةٌ في أَماكِنَ كَثيرة، وستَحدُثُ أَيضاً مَخاوفُ تأتي مِنَ السَّماءِ وعَلاماتٌ عظيمة. تُشِيرُ عِبَارَةُ "تَحدُثُ زَلازِلُ شَدِيدَةٌ" إِلى سِلْسِلَةٍ مِنَ الهَزَّاتِ الأَرْضِيَّةِ الَّتِي عَرَفَهَا القَرْنُ الأَوَّلُ، وَيُورِدُ التَّقْلِيدُ عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ بَارِزَةٍ، مِنْهَا الزِّلْزَالُ الَّذِي حَدَثَ سَاعَةَ صَلْبِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَمَوْتِهِ عَلَى الصَّلِيبِ ( مَتَّى 27: 51)، إِضَافَةً إِلى زَلَازِلَ تَارِيخِيَّةٍ شَهِدَتْهَا أَمَاكِنُ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الإِمْبِرَاطُورِيَّةِ، كَزِلْزَالِ كِرِيت سَنَةَ 46م، وَرُومَا سَنَةَ 51م، وَأَفَامِيَا سَنَةَ 53م، ولَاذِقِيَةِ فِرِيجِيَّةَ سَنَةَ 60م، وأُورَشَلِيمَ سَنَةَ 67م وَغَيْرُهَا. هظ°ذِهِ الأَحْدَاثُ تُبْرِزُ أَنَّ الكَوَارِثَ الطَّبِيعِيَّةَ لَيْسَتْ ظَاهِرَةً جَدِيدَةً مُرْتَبِطَةً بِظ±لنِّهَايَةِ، بَلْ كَانَتْ حَاضِرَةً فِي تَارِيخِ الكَنِيسَةِ الأُولَى. أَمَّا عِبَارَةُ "مَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ" فَتُشِيرُ إِلى الكَوَارِثِ الصِّحِّيَّةِ وَالْمَعِيشِيَّةِ الَّتِي أَصَابَتِ الشُّعُوبَ، وَمِنْهَا ظ±لْمَجَاعَةُ» الَّتِي تَنَبَّأَ بِهَا أَغَابُس (أَعْمَال 11: 28)، وَحَدَثَتْ فِي أَيَّامِ كْلَوْدِيُوس سَنَةَ 49م. كَمَا تَفَشَّى وَبَاءٌ خَطِيرٌ فِي رُومَا سَنَةَ 65م، قَضَى عَلَى "نَحْوِ ثَلَاثِينَ أَلْفَ نَسَمَةٍ". وَيَصِفُ ظ±لْمُؤَرِّخُ اليَهُودِيُّ فِلَافْيُوس يُوسِيفُوس الوَضْعَ المَأْسَاوِيَّ فِي أُورَشَلِيمَ قَبْلَ دَمَارِهَا، حَيْثُ حَاصَرَهَا الرُّومَانُ سِتَّ سَنَوَاتٍ، فَـظ±سْتَنْفَدَ» الشَّعْبُ كُلَّ مَا لَدَيْهِمْ مِنْ طَعَامٍ، حَتَّى بَلَغَ الجُوعُ حَدًّا دَفَعَهُمْ إِلى ظ±لِالْتِهَامِ مَا تَبَقَّى مِنَ لبُذُورِ المُخْتَلِطَةِ بِفَضَلَاتِ الحَيَوَانَاتِ. وَمَعَ ظ±لْمَجَاعَةِ ظَهَرَتِ الأَمْرَاضُ وَالأَوْبِئَةُ نَتِيجَةَ ظ±لْجُثَثِ غَيْرِ ظ±لْمَدْفُونَةِ، فَمَاتَ عَدَدٌ هَائِلٌ مِنَ السُّكَّانِ. أَمَّا عِبَارَةُ "عَلامَاتٌ عَظِيمَةٌ" فَتَرْتَبِطُ بِإِعْلَانِ يَسُوعَ عَنْ َكَبَاتٍ وَكَوَارِثَ كَوْنِيَّةٍ تَمَسُّ العَالَمَ الطَّبِيعِيَّ فِي «الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ». وَيَأْتِي هظ°ذَا الأُسْلُوبُ فِي إِطَارِ الفِكْرِ ليَهُودِيِّ الرُّؤْيَوِيِّ المُعَاصِرِ لِيَسُوعَ، حَيْثُ تُفْهَمُ الظَّوَاهِرُ «الطَّبِيعِيَّةُ الكُبْرَى كَـ"عَلَامَاتٍ مُسْبَقَةٍ" عَلَى َدَخُّلِ اللهِ فِي التَّارِيخِ وَظ±فْتِقَادِ شَعْبِهِ. وَلَا يَعْنِي هظ°ذَا أَنَّ للهَ يُعَاقِبُ البَشَرَ بِالكَوَارِثِ، بَلْ يَسْمَحُ بِهَا أَحْيَانًا لِـتَذْكِيرِ الإِنْسَانِ بِأَنَّ غَيْرُ خَالِدٍ وَأَنَّ مَصِيرَهُ إِلى الزَّوَالِ، فَـتُصْبِحَ» هظ°ذِهِ الوَقَائِعُ دَعَوَاتٍ إِلى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلى اللهِ قَبْلَ ظ±كْتِمَالِ الزَّمَنِ. وَفِي هظ°ذَا السِّيَاقِ، يُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ مُوَضِّحًا ظ±نْتِقَالَ يَسُوعَ مِنَ الحَدِيثِ عَنْ خَرَابِ أُورَشَلِيم إِلى عَلامَاتِ مَجِيئِهِ الأَخِيرِ، قَائِلًا: "بَعْدَ أَنْ أَنْهَى يَسُوعُ المَسِيحُ تَنَبُّؤَاتِهِ بِشَأْنِ أُورَشَلِيمَ، ظ±نْتَقَلَ إِلى الجُزْءِ المُتَعَلِّقِ بِمَجِيئِهِ، وَأَخَذَ يُعَدِّدُ العَلَامَاتِ الَّتِي سَتَدُلُّ عَلَى ذظ°لِكَ؛ مَعْرِفَةٌ مُفِيدَةٌ، لَيْسَ لِلتَّلَامِيذِ فَقَطْ، بَلْ لَنَا أَيْضًا وَلِجَمِيعِ الَّذِينَ سَيَأْتُونَ مِنْ بَعْدِنَا. فَمِنْ خِلَالِ إِطْلَاعِ تَلَامِيذِهِ عَلَى عَلامَاتِ مَجِيئِهِ الثَّانِي، أَرادَ المُخَلِّصُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ عَلَى المَوْضِعِ وَعَلَى أَضَالِيلِ المَسَحَاءِ الدَّجَّالِينَ" (العِظَة 76). 12 وقَبلَ هذا كُلِّه يَبسُطُ النَّاسُ أَيدِيَهُم إِلَيكمُ، ويَضطَهِدونَكم، ويُسلِمونَكم إلى المَجامِعِ والسُّجون، وتُساقونَ إلى المُلوكِ والحُكاَّمِ مِن أَجْلِ اسمي. تُشِيرُ عِبَارَةُ "قَبْلَ هظ°ذَا كُلِّهِ" إِلى مَا يَجِبُ أَنْ يَحْدُثَ قَبْلَ العَلَامَاتِ السَّابِقَةِ المَذْكُورَةِ فِي النُّبُوءَةِ، كَمَا تُمَهِّدُ أَيْضًا لِمَدْخَلٍ جَدِيدٍ فِي خِطَابِ يَسُوعَ الذي يُرَكِّزُ عَلَى اضْطِهَادِ التَّلَامِيذِ وَالشَّهَادَةِ الَّتِي سَيُؤَدُّونَهَا. فَبَعْدَ ذِكْرِ الأَحْدَاثِ الكَوْنِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ، يَعُودُ لُوقَا الإِنْجِيلِيُّ بِالزَّمَنِ إِلى الْوَرَاءِ لِيَعْرِضَ وَاقِعَ الكَنِيسَةِ فِي بِدَايَاتِهَا، حَيْثُ سَتُوَاجِهُ اضْطِهَادَاتٍ قَبْلَ سُقُوطِ أُورَشَلِيمَ وَخَرَابِ الهَيْكَلِ. وَمِنْ أَبْرَزِ الَّذِينَ نَالُوا إِكْلِيلَ الشَّهَادَةِ فِي تِلْكَ الحِقْبَةِ القِدِّيسُ يَعْقُوبُ بْنُ زَبْدِي – أَخُو يُوحَنَّا وَأَحَدُ الِاثْنَيْ عَشَرَ – إِذْ قَبَضَ المَلِكُ هِيرُودُسُ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ (أَعْمَال 12: 2) حَوَالَي سَنَةِ 44م. كَمَا تَذْكُرُ» التَّقَالِيدُ الكَنَسِيَّةُ اسْتِشْهَادَ» مَتِّيَّاسَ الَّذِي ظ±خْتِيرَ بَدَلًا مِنْ يَهُوذَا (أَعْمَال 1: 25-26) وَالَّذِي رُجِمَ حَتَّى المَوْتِ، مُرَجِّحِينَ مَوْتَهُ حَوَالَي سَنَةِ 68م. أَمَّا عِبَارَةُ "يَضْطَهِدُونَكُمْ" فَتُشِيرُ إِلى وَاقِعِ كَنِيسَةٍ مُضْطَهَدَةٍ مِنَ الخَارِجِ. فَالِاضْطِهَادُ يَسْتَهْدِفُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ» مِنْ أَجْلِ «الحَقِّ وَالعَدْلِ وَالبِشَارَةِ»، وَهُوَ «عَلَامَةٌ مُرَافِقَةٌ لِهَوِيَّةِ الكَنِيسَةِ مُنْذُ نَشْأَتِهَا. وَقَدْ سَبَقَ الرَّبُّ يَسُوعُ أَنْ أَنْذَرَ تَلَامِيذَهُ قَائِلًا: "إِذَا اضْطَهَدُونِي، فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ أَيْضًا"(يُوحَنَّا 15: 20)، كَمَا بَرَّرَ «سَبَبَ قَائِلًا: "لِأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ العَالَمِ" (يُوحَنَّا 15: 19؛ 17: 14). وَكَمَا أَنَّ المَسِيحَ عَبَرَ فِي الأَلَمِ إِلى المَجْدِ (لوقا 24: 26)، كذلك أَيْضًا عَلَى الكَنِيسَةِ أَنْ تَرَى فِي الِاضْطِهَادِ عَلَامَةَ اقْتِرَابِ "مَلَكُوتِ اللهِ" (قَارِن مَتَّى 13: 21)، بَلْ أَكْثَرَ مِنْ ذظ°لِكَ، أَصْبَحَ الِاضْطِهَادُ خَتْمًا" لِـلانْتِمَاءِ الحَقِيقِيِّ لِلمَسِيحِ، إِذْ يُشَارِكُ التَّلَامِيذُ فِي مَصِيرِهِ. َ). وَهظ°ذا يَكشِفُ أَنَّ الِاضطِهَادَ لَيسَ عَلامَةً عَلى ضَعفِ الإِيمَانِ، بَل عَلامَةٌ عَلى صِدقِ الِانتماءِ إِلى المَسيحِ وَالمَسِيرَةِ فِي أَثرِهِ. الِاضْطِهَادُ يُنَقِّي الإِيمَانَ وَيُقَوِّيهِ، وَلَا يُضْعِفُ عَزَائِمَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ يُثَبِّتُهَا، كَمَا يَشْهَدُ بُطْرُسُ الرَّسُولُ: " طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ مِنْ أَجْلِ ظ±سْمِ المَسِيحِ، لِأَنَّ رُوحَ المَجْدِ، رُوحَ اللهِ، يَسْتَقِرُّ فِيكُمْ… وَإِنْ تَأَلَّمَ لِأَنَّهُ مَسِيحِيٌّ فَلَا يَخْجَلْ، بَلْ لِيُمَجِّدِ اللهَ عَلَى هظ°ذَا الِاسْمِ" (1 بُطْرُس 4: 14-16). وهُنَا تُلَائِمُ كَلِمَاتُ القِدِّيسِ أغْنَاطِيُوسَ الأَنْطَاكِيِّ هظ°ذَا السِّياقَ، إِذْ يُخَاطِبُ الْمُؤْمِنِينَ المَضْطَهَدِينَ قَائِلًا:"لَا شَيْءَ يُحْسَبُ لِي دُونَ المِسِيحِ، وَلا أَرْغَبُ فِي شَيْءٍ مِنْ يَسُوعَ مَا لَمْ أَبْلُغْ إِلَيْهِ مِنْ خِلَالِ الآلَامِ؛ فَـظ±تْرُكُونِي أَصِيرُ طَعَامًا لِلوُحُوشِ لِأَنِّي بِذظ°لِكَ أَبْلُغُ إِلى اللهِ" (من رِسَالَتِهِ إِلى رُومَا). فَهظ°ذَا الصَّوْتُ الآبَائِيُّ يُظْهِرُ أَنَّ الِاضْطِهَادَ مَمَرٌّ بَاسِلٌ لِـلاتِّحَادِ بِالمَسِيحِ، وَلَيْسَ دَلِيلًا عَلَى غِيَابِهِ". وهكذا يَتَجَذَّرُ لاهُوتُ الِاضطِهَادِ المَسِيحِيِّ فِي شَخصِ يَسُوعَ المَسِيحِ نَفسِهِ، الَّذي تَعَرَّضَ لِلمَرفَضِ وَالِاضطِهَادِ مُنذُ بَدءِ خِدمتِهِ العَلَنِيَّةِ، إِذ جاءَ "لِيُخَلِّصَ العالَمَ"، وَلظ°كِنَّ "العالَمَ أَبغَضَهُ" (يوحنّا 3: 17؛ 15: 18). فَالمَسِيحُ لَم يُواجِهْ رَفضًا بَشَرِيًّا فَحَسْب، بَل بَلَغَ الِاضطِهَادُ ذُروَتَهُ فِي آلامِهِ وَصَلبِهِ. وَبِناءً عَلَى ذظ°لِكَ، يُشكِّلُ اضطِهَادُ المَسِيحِ بُعدًا "تَدبِيرِيًّا خلاَصِيًّا"، لِأَنَّهُ مِن خِلالِ الآلامِ تَمَّ تَحقيقُ فِعلِ الفِداءِ وَتَجلَّت مَحَبَّةُ اللهِ الغَيرُ المُدرَكَةِ لِلبَشَرِ (رومية 5: 8). وَبِالتَّالي، فَشَرِكَةُ الآلامِ مَعَ المَسِيحِ تَصبَحُ مَوعِدًا بالمَجدِ لِلَّذينَ يَثبُتونَ فِيهِ (1 بُطرُس 4: 13). أَمَّا عِبَارَةُ "المَجَامِعِ" فَتُشِيرُ إِلى المَجَالِسِ الدِّينِيَّةِ اليَهُودِيَّةِ المَحَلِّيَّةِ، أَيْ المَحَاكِمِ الصُّغْرَى المُؤَلَّفَةِ مِنْ 23 عُضْوًا، الَّتِي كَانَتْ تَخْتَصُّ بِالقَضَايَا الدِّينِيَّةِ وَالأَخْلَاقِيَّةِ (قَارِن مَتَّى 5: 22. وَبَعْدَ سُقُوطِ أُورَشَلِيمَ سَنَةَ 70م، ظ±زْدَادَتْ َهَمِّيَّةُ» هظ°ذِهِ المَجَامِعِ فِي تَنْظِيمِ الحَيَاةِ اليَهُودِيَّةِ فِي ظ±لشَّتَاتِ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "المُلُوكِ وَالحُكَّامِ" فَتَرْتَبِطُ بِمَشْهَدِ مَثُولِ الرُّسُلِ أَمَامَ السُّلُطَاتِ المَدَنِيَّةِ، كَمَا يَرْوِي لُوقَا نَفْسُهُ فِي قِصَّةِ مُحَاكَمَةِ بُولُسَ الرَّسُولِ أَمَامَ المَلِكِ أَغْرِيبَاسَ الثَّانِي وَأُخْتِهِ بَرْنِيكَةَ فِي قَيْصَرِيَّةَ (أَعْمَال 25: 13–26: 32. َفقَدْ كَانَ اليَهُودُ يَسُوقُونَ الرُّسُلَ إِلى المَحَاكِمِ المَدَنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ بِسَبَبِ إِعْلَانِهِمِ اسْمَ يَسُوعَ، فَـيُوَاجِهُونَ» ظ±لشَّدَائِدَ وَيَشْهَدُونَ لِـلإِنْجِيلِ أَمَامَ ذَوِي النُّفُوذِ. إِنَّ "هَدَفَ ظ±لشَّرِيرِ مِنْ إِثَارَةِ الحُرُوبِ" وَالِاضْطِرَابَاتِ وَالخُصُومَاتِ وَالأَوْبِئَةِ وَالِاضْطِهَادِ هُوَ زَرْعُ الخَوْفِ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِينَ حَتَّى يَنْهَارَ إِيمَانُهُمْ، وَيَنْشَغِلُوا بِالحَيَاةِ الزَّمَنِيَّةِ عَلَى حِسَابِ ظ±لرَّجَاءِ الأَبَدِيِّ. فَمَنْ يَرْتَبِكْ يَفْقِدْ سَلَامَهُ وَيَتَشَتَّتْ عَنِ الفَرَحِ الحَقِيقِيِّ بِـمَجِيءِ المَسِيحِ. لِذظ°لِكَ يُشَجِّعُ يَسُوعُ تَلَامِيذَهُ عَلَى الثَّبَاتِ دُونَ خَوْفٍ. وَأَمَّا عِبَارَةُ "مِنْ أَجْلِ ظ±سْمِي" فَتُشِيرُ إِلى سَبَبِ الِاضْطِهَادِ: إِنَّهُ لَيْسَ نَتِيجَةَ أَخْطَاءٍ بَشَرِيَّةٍ أَوْ مَوَاقِفَ اِجْتِمَاعِيَّةٍ، بَلْ بِسَبَبِ الِانْتِمَاءِ لِشَخْصِ يَسُوعَ نَفْسِهِ وَحَمْلِ رِسَالَتِهِ فِي العَالَمِ. فَـالِاسْمُ فِي الفِكْرِ البِيبْلِيِّ يَدُلُّ عَلَى الشَّخْصِ «ذَاتِهِ» وَسُلْطَانِهِ وَحُضُورِهِ. وَهَكَذَا فَـالْمُؤْمِنُونَ يَعْبُرُونَ مَعَ المَسِيحِ فِي طَرِيقِ الضِّيقِ مُنْذُ فِصْحِهِ وَحَتَّى مَجِيئِهِ الثَّانِي، لِأَنَّهُمْ جَسَدُهُ الحَيُّ وَشُهُودُ مَلَكُوتِهِ فِي العَالَمِ". إِنَّ اضطِهَادَ المَسِيحِ لَيسَ حَدَثًا تاريخِيًّا مَعزولًا، بَل هُوَ مَرجِعٌ تَأسِيسِيٌّ لِكُلِّ اضطِهَادٍ يَتَعَرَّضُ لَهُ المُؤمِنُونَ مِن بَعدِهِ، فَهُم لا يُضطَهَدُونَ لِذَوَاتِهِم، بَل لِأَنَّهُم يَحمِلونَ اسْمَهُ وَيَشهَدُونَ لِلحَقِّ الَّذي جاءَ يُعلِنُهُ (يوحنّا 15: 20). وَمِن ثَمَّ، فَإِنَّ اضطِهَادَ المَسِيحِ يُمَثِّلُ "النَّموذَجَ الأَصلِيَّ" الَّذي عَلَيهِ يُقاسُ اضطِهَادُ الكَنِيسَةِ عَبرَ التَّاريخِ. وَيُوَضِّحُ القِدِّيسُ كِيرِلُّس الإِسكَندَرِيُّ هظ°ذِهِ الحَقِيقَةَ قائلًا: "إِنَّ الَّذي يَتبَعُ المَسِيحَ، يَحمِلُ مَعَهُ صَليبَهُ؛ فَالمَسِيرَةُ نَفسُها تَقتَضِي المُشارَكَةَ فِي آلامِهِ لِكَي يَكونَ المُؤمِنُ شَرِيكًا أَيضًا فِي مَجدِهِ" (كِيرِلُّس الإِسكَندَرِيّ، تَفسير يوحنّا). 13 فيُتاحُ لكم أَن تُؤَدُّوا الشَّهادَة. تُشِيرُ عِبارَةُ "فَيُتاحُ لَكُم" إِلى أَنَّ الِاضْطِهادَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَهُ التَّلامِيذُ لَنْ يَكُونَ نِهَايَةً أَوْ عَقَبَةً، بَلْ فُرْصَةً إِرْسالِيَّةً يُقَدِّمُهَا اللَّهُ لَهُمْ لِيَشْهَدُوا لِلْمَسِيحِ وَلِلْحَقِّ فِي ظُرُوفٍ تَبْدُو مُعَاكِسَةً. فَالضِّيقُ يَتَحَوَّلُ بِنِعْمَةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ إِلى مِنْبَرٍ لِلْكِرازَةِ، وَبابٍ لِلشَّهادَةِ الْحَيَّةِ لِلْإِنْجِيلِ. إِنَّ الصُّعُوبَاتِ، كَالِاضْطِهاداتِ وَالْعُنْفِ وَسائِرِ أَشْكالِ الِاضْطِرابِ، هِيَ بِعَيْنِهَا الْمَكانُ الْمُلائِمُ لِتَتَجَلَّى فِيهِ الشَّهادَةُ الصَّادِقَةُ، وَتُصْبِحُ الشَّهادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ ثَمَرَةً مُباشِرَةً لِلثَّباتِ وَالأَمانَةِ لِلْمَسِيحِ. أَمَّا عِبارَةُ "الشَّهادَةُ (" خ¼خ±دپد„دچدپخ¹خ؟خ½فِي الْيُونانِيَّةِ)، فَتُشِيرُ إِلى إِعْلانِ حَقِيقَةِ قِيامَةِ يَسُوعَ وَسِيادَتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ. فَالْمَقْصُودُ هُوَ الشَّهَادَةُ لِلْإِيمَانِ نَفْسِهِ: أَنْ يَشْهَدَ الْإِنْسانُ أَنَّهُ قَادِرٌ—رَغْمَ الخَوْفِ وَالضِّيقِ—عَلى أَلَّا يَسْتَسْلِمَ، وَعَلى أَنْ يَبْدَأَ مِنْ جَدِيدٍ. وَهظ°ذِهِ الشَّهَادَةُ هِيَ الدَّوْرُ الَّذِي اضْطَلَعَ بِهِ الرُّسُلُ مُنْذُ يَوْمِ العِنْصِرَةِ (أَعْمالُ 1). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ عَلَى مَعْنَى الشَّهَادَةِ قَائِلًا: "لَيْسَ الشَّهِيدُ هُوَ مَنْ يُسَفِكُ دَمَهُ فَقَطْ، بَلْ مَنْ يَحْفَظُ إِيمَانَهُ ثَابِتًا فِي وَجْهِ التَّجَارِبِ. فَكُلُّ مَنْ يَقْبَلُ الأَلَمَ بِسَبَبِ المَسِيحِ، فَهُوَ شَاهِدٌ لِلْحَقِّ، يُعْلِنُ بِحَيَاتِهِ قُوَّةَ القِيَامَةِ الَّتِي تَغْلِبُ الخَوْفَ وَالْمَوْتَ." وهذا الامر يَظْهَرُ فِي شَهادَةِ اسْتِفانُوسَ أَوَّلِ الشُّهَدَاءِ (أَعْمالُ 7 وَ22: 20)، وَشَهادَةِ بُولُسَ الرَّسُولِ أَمامَ الْمُلُوكِ وَالْحُكَّامِ (أَعْمالُ 9: 15؛ 22: 15). وَيَرَى بُولُسُ أَنَّ الْأَلَمَ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ لَيْسَ خُسْرَانًا بَلْ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةٍ أَعْمَقَ لِلرَّبِّ وَالشَّرِكَةِ فِي سِرِّهِ الْفِصْحِيِّ، كَمَا كَتَبَ وَهُوَ فِي السِّجْنِ: "فَأَعْرِفَهُ وَأَعْرِفَ قُوَّةَ قِيامَتِهِ وَالْمُشارَكَةَ فِي آلَامِهِ فَأَتَمَثَّلَ بِهِ فِي مَوْتِهِ" (فِيلِبِّي 3: 10). فَالْأَلَمُ هُنَا يُصْبِحُ وَسِيلَةً لِلتَّشَبُّهِ بِالْمَسِيحِ وَخِدْمَةِ جَسَدِهِ أَيْ الْكَنِيسَةِ. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى عَبَّرَ تِرْتُلْيانُوسُ (الْقَرْنُ الثَّانِي) عَنْ قُوَّةِ الشَّهادَةِ الْمَسِيحِيَّةِ قَائِلًا: "دَمُ الشُّهَدَاءِ هُوَ بُذَارُ الْكَنِيسَةِ، مُعْلِنًا أَنَّ سَفْكَ دَمِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُخْمِدِ الْإِيمَانَ، بَلْ أَنْبَتَ مُؤْمِنِينَ جُدُدًا. وَإِنَّ لَفْظَةَ "شَهادَةٌ" اكْتَسَبَتْ لاحِقًا مَعْنَى الِاسْتِشْهادِ، إِذْ إِنَّ الشَّهادَةَ لِلْحَقِّ قَدْ تَقُودُ أَحْيانًا إِلى بَذْلِ الْحَيَاةِ. وَهَكَذَا صَارَ "الشَّاهِدُ (martys) فِي الْكَنِيسَةِ الْأُولَى شاهِدًا وَشَهِيدًا فِي آنٍ مَعًا. فَجَاءَ اضْطِهادُ الرُّسُلِ بِمَثابَةِ مُناسَبَةٍ لِامْتِدادِ الْكِرازَةِ بِالْمَلَكُوتِ (مَتَّى 24: 14)، وَصَارَتِ الشَّدائِدُ الَّتِي حَلَّتْ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ الْإِنْجِيلِ شَهادَةً عَلَى صِدْقِ رِسالَتِهِمْ، كَمَا يَقُولُ بُولُسُ:"هُوَ الَّذِي يُعَزِّينَا فِي جَمِيعِ شَدائِدِنَا لِنَسْتَطِيعَ… أَنْ نُعَزِّيَ الَّذِينَ هُمْ فِي أَيَّةِ شِدَّةٍ كانَتْ" (2 قُورِنْتُس 1: 4). وَتَشْمَلُ هَذِهِ الشَّدائِدُ أَنْواعًا مُخْتَلِفَةً: • الِاضْطِهاداتُ الْمُباشِرَةُ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا الرُّسُلُ مِنْ أَجْلِ اسْمِ الْمَسِيحِ. • الْعَذابَاتُ وَالْآلامُ الَّتِي تُشَكِّلُ مُشارَكَةً فِي آلَامِ الرَّبِّ. • أَحْداثٌ كَوْنِيَّةٌ وَسِياسِيَّةٌ تَهُزُّ الْعالَمَ وَتَضَعُ الْمُؤْمِنِينَ أَمامَ امْتِحانِ الْإِيمَانِ وَالرَّجاءِ. وَيُقَدِّمُ سِفْرُ الرُّؤْيا صُورَةً سَمائِيَّةً مُبْهِرَةً لِثَمَرِ هَذِهِ الشَّهادَةِ الْأَمِينَةِ:"هؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا مِنَ الشِّدَّةِ الْكُبْرَى، وَقَدْ غَسَلُوا حُلَلَهُمْ وَبَيَّضُوها بِدَمِ الْحَمَلِ" (رُؤْيا 7: 14). وَإِنَّ الشَّهادَةَ الْمَسِيحِيَّةَ إِذًا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ كَلامٍ يُعْلَنُ، بَلْ حَياةٌ تُعاشُ، وَأَمانَةٌ تُحْفَظُ، وَاحْتِمالٌ لِأَجْلِ الْإِنْجِيلِ، فَيَتَحَوَّلُ الْأَلَمُ إِلى بُذُورِ قِيامَةٍ وَنُمُوٍّ لِلْكَنِيسَةِ فِي الْعالَمِ. 14 فاجعَلوا في قُلوِبكم أَن لَيسَ علَيكم أَن تُعِدُّوا الدِّفاعَ عن أَنفُسِكم. تُشِيرُ عِبارَةُ "لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُعِدُّوا الدِّفاعَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ" إِلى دَعْوَةِ يَسُوعَ تَلامِيذَهُ إِلى الِاتِّكَالِ الْكامِلِ عَلَى الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالثِّقَةِ الْعَمِيقَةِ فِي عَمَلِ الرُّوحِ الْقُدُسِ فِيهِمْ ساعَةَ الشَّهادَةِ. فَالْمَسِيحُ لَا يَطْلُبُ مِنْ تَلامِيذِهِ الِاسْتِعْدادَ بِخُطَطٍ بَشَرِيَّةٍ أَوْ خِطابٍ دِفاعِيٍّ مُسْبَقٍ، بَلْ يَدْعُوهُمْ إِلى الِاسْتِسْلامِ لِقِيادَةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي يُنْعِمُهُمْ بِالْكَلِمَةِ الْمُناسِبَةِ فِي حِينِهَا. وَيُعَلِّقُ الْبابا غِرِيغُورْيُوسُ الْكَبِيرُ مُفَسِّرًا هَذَا الْوَعْدَ قَائِلًا: "كَأَنَّ الرَّبَّ يَقُولُ لِتَلامِيذِهِ: لَا تَخافُوا، ادْخُلُوا الْمَعْرَكَةَ، فَأَنَا الَّذِي أُحارِبُ. أَنْتُمْ تَنْطِقُونَ، وَأَنَا الَّذِي أَتَكَلَّمُ. فَالْمُؤْمِنُونَ يَنالُونَ مِنَ الْمَسِيحِ فَمًا وَحِكْمَةً، وَيُرْبِكُ حُضُورُهُ مُضْطَهِدِيهِمْ وَيُضْعِفُهُمْ". وَيُبْرِزُ هَذَا التَّعْلِيقُ أَنَّ الْقُوَّةَ فِي الشَّهادَةِ لَيْسَتْ فِي الْبَلاغَةِ الْبَشَرِيَّةِ، بَلْ فِي حُضُورِ الْمَسِيحِ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِمْ. لِذَلِكَ لَا يَقْتَصِرُ تَعْلِيمُ يَسُوعَ هُنَا عَلَى الِاضْطِهادِ كَحَدَثٍ، بَلْ عَلَى الْمَوْقِفِ الْإِيمَانِيِّ الْمَطْلُوبِ تُجاهَهُ: لَا خَوْفَ، لَا ارْتِباكُ، لَا اعْتِمادَ عَلَى الذَّاتِ، بَلْ ثِقَةٌ بِكَلِمَةِ الْمَسِيحِ وَثَباتٌ فِي وَعْدِهِ. "السَّماءُ وَالْأَرْضُ تَزُولانِ، وَأَمَّا كَلامِي فَلَنْ يَزُولَ" (لُوقا 21: 33). وَيُعَزِّزُ الرَّبُّ هَذَا الرَّجاءَ فِي مُواجَهَةِ الضِّيقِ بِقَوْلِهِ: "تُعانُونَ الشِّدَّةَ فِي الْعالَمِ، وَلَكِنِ اثْقُوا: إِنِّي قَدْ غَلَبْتُ الْعالَمَ" (يُوحَنَّا 16: 33). وَإِنَّ الشَّاهِدَ الْمَسِيحِيَّ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى قُدُراتِهِ الْخِطابِيَّةِ، بَلْ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي يَنْطِقُ فِيهِ (رَاجِعْ مَتَّى 10: 19–20)، وَبِذَلِكَ تُصْبِحُ الْمِحْنَةُ فُرْصَةً لِإِعْلانِ انْتِصارِ الْمَسِيحِ فِي الْمُؤْمِنِ. إِنَّ الدَّعْوَةَ إِلى "الشَّهادَةِ" فِي أَيَّامِ الِاضْطِرابِ لَيْسَتْ دَعْوَةً إِلى مُجَرَّدِ الْكَلِمَةِ، بَلْ إِلى عَيْشِ الْإِنْجِيلِ فِي طَواعِيَةِ الرُّوحِ وَهُدُوءِ الثِّقَةِ. فَلْنَحْمِلْ ضِيقَاتِنا كَبُذُورِ رَجاءٍ، وَلْنَتَّكِلْ عَلَى فَمِ الْمَسِيحِ الَّذِي يَنْطِقُ فِينَا؛ وَهَكَذا يُحَوِّلُ الرَّبُّ آلَامَنَا إِلى مَجْدِ شَهادَةٍ، وَيَجْعَلُ حَيَاتَنَا مَنْبَرًا لِكَلِمَتِهِ الَّتِي "لَنْ تَزُولَ". 15 فسَأُوتيكم أَنا مِنَ الكَلامِ والحِكمَةِ ما يَعجِزُ جَميعُ خُصومِكم عَن مُقاوَمَتِه أَوِ الرَّدِّ علَيه. تَشِيرُ عِبَارَةُ "فَسَأُوتِيكُم" إِلَى وَعْدٍ إِلظ°هِيٍّ بِالْمَعُونَةِ وَالضَّمَانَةِ الَّتِي يُمْنِحُهَا الرَّبُّ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ كَيْ يَعْبُرُوا الضِّيقَاتِ وَالِاضْطِهَادَاتِ وَالشَّدَائِدَ بِثَبَاتٍ. فَالشَّهَادَةُ لَيْسَتِ ظ±عْتِمَادًا عَلَى الْقُدُرَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، بَلْ ثَمَرَةُ عَطِيَّةٍ إِلظ°هِيَّةٍ. فَالرَّبُّ، ظ±لْقَائِمُ وَظ±لْحَاضِرُ مَعَهُمْ، يَعِدُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ سَنَدَهُمْ فِي سَاعَةِ الْمُحَاكَمَةِ، فَيَهَبَهُمْ قُوَّةَ الْكَلَامِ وَالْحِكْمَةَ اللَّازِمَةَ لِلشَّهَادَةِ (يُوحَنَّا 14: 18-21). لِذظ°لِكَ لَيْسَ عَلَى التَّلَامِيذِ أَنْ يَقْلَقُوا بِشَأْنِ إِعْدَادِ دِفَاعٍ مُسْبَقٍ عَنْ أَنْفُسِهِمْ (قَارِنْ مَتَّى 10: 19-20)، لِأَنَّ النَّجَاحَ فِي الشَّهَادَةِ لَا يَأْتِي مِنْ قُوَاهُمْ وَلَا مِنْ مَهَارَاتِهِمْ، بَلْ مِنَ الرَّبِّ الْعَامِلِ فِيهِمْ. وَهُنَا يُظْهِرُ يَسُوعُ تَبَايُنًا لَاهُوتِيًّا بَيْنَ مَصِيرِ حِجَارَةِ الْهَيْكَلِ الزَّائِلَةِ، وَبَيْنَ نَجَاحِ الشَّهَادَةِ الَّذِي لَا يَزُولُ. أَمَّا عِبَارَةُ "أَنَا" فَتَأْتِي بِصِيغَةِ ضَمِيرِ التَّوْكِيدِ، لِتُؤَكِّدَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ – لَا مُجَرَّدُ قُوَّةٍ خَارِقَةٍ – هُوَ الَّذِي يَتَعَهَّدُ بِأَنْ يَمْنَحَ تَلَامِيذَهُ الْمَعُونَةَ الْإِلظ°هِيَّةَ، فَيَقُودَهُمْ فِي الدِّفَاعِ عَنِ الْإِيمَانِ، وَيُمَكِّنَهُمْ مِنْ أَدَاءِ شَهَادَتِهِمْ. أَلَمْ يَقُلِ الرَّبُّ يَسُوعُ: الرُّوحُ الْقُدُسُ يُعَلِّمُكُمْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ مَا يَجِبُ أَنْ تَقُولُوا (لُوقَا 12: 12). وَهَكَذَا، فَالرَّبُّ لَا يَعِدُ فَقَطْ بِالْعَوْنِ، بَلْ بِحُضُورِهِ الشَّخْصِيِّ فِي كَلِمَةِ الشَّاهِدِ. أَمَّا لَفْظَةُ "الْكَلَامِ"، فَتَرْجَمَهَا الْأَصْلُ الْيُونَانِيُّ دƒد„دŒخ¼خ± (أَيْ فَمٌ،) وَتَشِيرُ إِلَى الْكَلِمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِ الْمُؤْمِنِ بِوَحْيِ الرُّوحِ الْقُدُسِ (مَرْقُس 13: 11). بَيْنَمَا تَشِيرُ عِبَارَةُ "الْحِكْمَةِ" إِلَى نِعْمَةِ التَّمْيِيزِ وَقُوَّةِ الْحُجَّةِ الَّتِي يُمْنِحُهَا الرُّوحُ الْقُدُسُ، فَتُقْنِعُ السَّامِعِينَ وَتُرْبِكُ الْمُعَانِدِينَ. وَيُؤَكِّدُ الرَّبُّ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا عَمَلَ الرُّوحِ الْمُؤَيِّدِ قَائِلًا: مَتَى جَاءَ الْمُؤَيِّدُ الَّذِي أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ مِنْ لَدُنِ الْآبِ، رُوحُ الْحَقِّ… فَهُوَ يَشْهَدُ لِي، وَأَنْتُمْ أَيْضًا تَشْهَدُونَ (يُوحَنَّا 15: 26-27). فَالرُّوحُ يَشْهَدُ فِي الْمُؤْمِنِ، وَالْمُؤْمِنُ يَشْهَدُ بِالرُّوحِ. أَمَّا عِبَارَةُ" يَعْجِزُ جَمِيعُ خُصُومِكُمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِ أَوِ الرَّدِّ عَلَيْهِ" فَتَشِيرُ إِلَى قُوَّةِ تَأْثِيرِ كَلِمَةِ الْحَقِّ الَّتِي نَطَقَ بِهَا الرُّسُلُ فِي الْكَنِيسَةِ الْأُولَى، كَمَا فِي خُطْبَتَي بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا أَمَامَ الْمَجْلِسِ الْيَهُودِيِّ: أَمَّا نَحْنُ فَلَا نَسْتَطِيعُ السُّكُوتَ عَنْ ذِكْرِ مَا رَأَيْنَا وَمَا سَمِعْنَا (أَعْمَال 4: 19-20). وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ، أَمَامَ عَظِيمِ الْكَهَنَةِ وَحَاشِيَتِهِ، يُجَاهِرُ بُطْرُسُ وَالرُّسُلُ بِجُرْأَةٍ: اللّظ°هُ أَحَقُّ بِالطَّاعَةِ مِنَ النَّاسِ… وَنَحْنُ شُهُودٌ عَلَى هظ°ذِهِ الْأُمُورِ، وَكَذظ°لِكَ يَشْهَدُ الرُّوحُ الْقُدُسُ (أَعْمَال 5: 29-33). وَيَبْلُغُ هظ°ذَا الدِّفَاعُ الْمُلْهَمُ قِمَّتَهُ فِي خُطْبَةِ إِسْطِفَانُسَ الشَّهِيرَةِ أَمَامَ الْمَجْلِسِ (أَعْمَال 7: 1-53)، حَيْثُ وَقَفَ مَمْلُوءًا مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، فَنَطَقَ بِحِكْمَةٍ كَشَفَتِ الْحَقَّ وَأَرْبَكَتِ الْحَاضِرِينَ، فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ خَتْمًا لِإِيمَانِهِ. إِنَّ مَا يَعِدُ بِهِ الْمَسِيحُ هُنَا هُوَ سِرُّ الرِّسَالَةِ الْمَسِيحِيَّةِ: الرُّوحُ الْقُدُسُ يُعْطِي الْكَلِمَةَ، وَالْمَسِيحُ يُعْطِي الْحِكْمَةَ، فَيَعْجَزُ الْخُصُومُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْحَقِّ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْإِنْسَانِ بَلْ مِنَ اللّظ°هِ. تُبَيِّنُ هظ°ذِهِ الآيَةُ عَزاءَ اللهِ الَّذي لَنْ يَتْرُكَ التَّلامِيذَ فِي زَمَنِ المِحْنَةِ وَحْدَهُمْ، بَلْ سَيَكُونُ مَعَهُمْ وَفِيهِمْ، يَمْنَحُهُم قُوَّةً وَثَباتًا فَوْقَ الطَّبِيعَةِ. فَحُضُورُهُ لَيْسَ حِراسَةً خَارِجِيَّةً فَقَطْ، بَلْ سَنَدًا دَاخِلِيًّا يُوقِظُ الرَّجاءَ وَيُثَبِّتُ القَلْبَ فِي سَاعَةِ الضِّيقِ. وَيَقُولُ القِدِّيسُ أغناطيوس الأَنْطاكِيّ مُعزِّيًا الكنيسة فِي زَمَنِ الاضطِهاد: "إِنَّ الرَّبَّ لا يَفْتُرُ عَنْ مُسَانَدَةِ الَّذِينَ يُحِبُّونَهُ؛ فَهُوَ يُقِيمُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَمَعَهُ يَقْوَى الضُّعَفَاءُ وَيَثْبُتُ الْمُتَأَلِّمُونَ." 16وسيُسلِمُكُمُ الوالِدونَ والإِخوَةُ والأَقارِبُ والأصَدقاءُ أَنفُسهم، ويُميتونَ أُناساً مِنكم، تُشيرُ عِبارَةُ "سَيُسلِمُكُمُ الوالِدونَ وَالإِخوَةُ وَالأَقارِبُ وَالأَصدِقاءُ" إِلى أَنَّ الاضطِهادَ لَن يَأتي فَقَط مِنَ الخارِجِ (السُّلطاتِ أَوِ الغُرَباءِ)، بَل سَيَبلُغُ حَدًّا مُؤلِمًا حينَ يَصدُرُ مِن داخِلِ النَّسيجِ العائِليِّ وَالكَنَسيِّ ذاتِهِ. فَالمُجتَمَعُ المَسيحِيُّ سَيُصابُ بِتَمَزُّقٍ داخِليٍّ بِسَبَبِ الخِيانَةِ، حَيثُ يَتَخَلّى بَعضُ أَفرادِ العائِلَةِ عَن ذَوِيهِمُ المُؤمِنينَ، فَيَكونُ الانقِسامُ داخِلَ البَيتِ الواحِدِ (قارِن مَتّى 10: 34-36). وَيُشيرُ هَذا إِلى ضَعفِ الإيمانِ السَّطحيِّ الَّذي لا جُذورَ لَهُ، فَيَنهارُ عِندَ التَّجارِبِ كَالبِذارِ الَّتي سَقَطَت عَلى أَرضٍ حَجَرِيَّةٍ بلا عُمقٍ (مَتّى 13: 18-22). إِنَّ هؤُلاءِ الَّذينَ يَرتَدّونَ عَنِ الإيمانِ لا يَكتَفونَ بِالتَّراجُعِ، بَل قَد يُسَلِّمونَ إِخوَتَهُمُ المُؤمِنينَ بِداعي الخَوفِ مِنَ الاضطِهادِ، أَو بِسَبَبِ الغِيرَةِ وَالحَسَدِ، أَو نَتيجَةَ فُتورِ المَحَبَّةِ في تِلكَ الأَيّامِ، كَما نَبَّهَ الرَّسولُ يَعقوب:"لا يَتَذَمَّرَنَّ بَعضُكُم عَلى بَعضٍ"(يَعقوب 5: 9). فَالخِيانَةُ الدّاخِلِيَّةُ كانَت دائِمًا مِن أَقسَى أَنواعِ الاضطِهادِ، لأَنَّها تَصدُرُ مِمَّن يُفتَرَضُ أَن يَكونوا مَصدَرَ دَعمٍ وَحِمايَةٍ. أَمّا عِبارَةُ "يُميتونَ أُناسًا مِنكُم" فَتُشيرُ إِلى أَنَّ بَعضَ المُؤمِنينَ سَيُقتَلونَ بِسَبَبِ إيمانِهِم، أَي سَيَنالونَ إِكليلَ الاِستِشهادِ، لَكِنَّ هَذا لا يَنطَبِقُ عَلى الجَميعِ. يُنَوِّهُ لوقا هُنا إِلى تَنَوُّعِ مَصائِرِ المُؤمِنينَ في زَمَنِ الاضطِهادِ: فَالبَعضُ سَيَستَشهِدونَ، • وَالبَعضُ سَيُعانونَ الاضطِهادَ دونَ أَن يُقتَلوا، وَلَكِنَّ صَوتَ الشَّهادَةِ لَن يُطفَأَ وَلَن يُسكَتَ رَغمَ العُنفِ. وَيُلاحَظُ أَنَّ لوقا يُقَدِّمُ صِياغَةً أَلطَفَ مِن مَرقُسَ وَمَتّى، اللَّذينَ يُظهِرانِ اِحتِمالَ استِشهادٍ أَوسَعَ (قارِن مَتّى 10: 21)، مِمّا يُبرِزُ قَصدَ لوقا في إِظهارِ رَجاءٍ وَسَطَ الأَلَمِ. وَفي هَذا الإِطارِ يُشَدِّدُ يَسوعُ عَلى أَنَّ الخَلاصَ لا يَقومُ عَلى النَّجاةِ الجَسَدِيَّةِ، بَل عَلى الثَّباتِ الرُّوحِيِّ: إِنَّكُم بِثَباتِكُم تَكتَسِبونَ أَنفُسَكُم (لوقا 21: 19). فَالاضطِهادُ لا يَهدِفُ إِلى إِسقاطِ المُؤمِنينَ، بَل يُصبِحُ في التَّدبيرِ الإِلَهِيِّ طَريقًا لِلتَّزكِيَةِ وَاكتمالِ الإيمانِ، حَيثُ يَتَحَوَّلُ الأَلَمُ إِلى مَجالٍ لِظُهورِ نِعمَةِ الصَّبرِ، وَالوَلاءِ لِلمَسيحِ حَتّى النِّهايَةِ. يقول القديس اوريجانوس "الصَّبرُ لَيسَ بِالانتِظارِ الخالي مِن العَمَل، بَل بِالثَّباتِ في فِعلِ الخَيرِ وَمَنعِ النَّفسِ مِنِ الاستِسلامِ لِليَأسِ" (عظة على سفر الخروج 6). 17 ويُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجْلِ اسمي. تَشيرُ عِبارَةُ "يُبغِضُكُم جَميعُ النَّاسِ" إِلى شِدَّةِ الحِقدِ وَالكَراهِيَةِ الَّتي سَيَتَعَرَّضُ لَها المُؤمِنونَ مِن قِبَلِ غَيرِ المَسيحِيِّينَ، سَواءٌ كانوا مِنَ اليَهودِ أَو مِنَ الوَثَنِيِّينَ. فَالبُغضَةُ هُنا لَيسَت مُجرَّدَ رَفضٍ، بَل مَوقِفٌ عَدائِيٌّ عَنيفٌ يَنبَعُ مِن رَفضِ العالَمِ لِرِسالَةِ الإِنجيلِ وَلِشَخصِ المَسيحِ. وَقَدِ اختَبَرَ المُبَشِّرونَ عَبرَ العُصورِ هذِهِ العَداوَةَ بِسَبَبِ أَمانَتِهِم لِإِيمانِهِم، فَيُساءُ فَهمُهُم وَيُضطَهَدونَ وَيُرفَضونَ مِن أَجلِ الحَقِّ الَّذي يَحمِلونَهُ. وَأَمامَ هذَا الاضطِهادِ، قَد يَتَساءَلُ المُؤمِنونَ بِمَرارَةٍ: لِماذا يَتَأَخَّرُ تَدَخُّلُ اللهِ؟ كَما جاءَ في صَرخَةِ القِدِّيسينَ في سِفرِ الرُّؤيا: "إِلى مَتَى… لا تَقضي وَتَنتَقِم لِدَمِنا؟" (رُؤيا 6: 10). إِنَّها صَرخَةُ الأَلَمِ البَشَرِيِّ أَمامَ الشَّرِّ، وَصَرخَةُ الإِيمانِ المُتَأَلِّمِ الباحِثِ عَن عَدالَةِ اللهِ. وَيُعَلِّقُ الرَّاهِبُ الدُّومِينيكِيُّ جان تُولِير مُوَضِّحًا مَعنى السَّلامِ الحَقِيقِيِّ الَّذي وَعَدَ بِهِ المَسيحُ: "لَقَد وَعَدَ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيحُ تَلامِيذَهُ بِالسَّلامِ دائِمًا، لَكِنَّهُم كَسِبوا السَّلامَ بِالمُعاناةِ وَالكِفاحِ، وَالمَحَبَّةَ بِالأَلَمِ، وَبِالمَوتِ وَجَدوا الحَياةَ" (العِظَةُ ظ¢ظ، عَنِ الصُّعودِ). فَالسَّلامُ الَّذي يُعطِيهِ الرَّبُّ لَيسَ غِيابَ اضطِهادٍ، بَل حُضورُ المَسيحِ في قَلبِ الأَلَمِ، سَلامٌ يَفوقُ كُلَّ عَقلٍ (فيلِبِّي ظ¤: ظ§)، سَلامٌ يُولَدُ مِنَ الصَّليبِ. أَمّا عِبارَةُ "مِن أَجلِ اسمي" فَتَشيرُ إِلى شَخصِ يَسوعَ المَسيحِ ذاتِهِ، لا إِلى مُجرَّدِ لَقَبٍ أَوِ انتِماءٍ دِينِيٍّ. فَالاسْمُ في التَّقليدِ البِيبلِيِّ يَعني الهَوِيَّةَ وَالحُضورَ وَالسُّلْطانَ. لِذا، فَالبُغضَةُ لَيسَت مُوَجَّهَةً إِلى تَلامِيذِ يَسوعَ كَأَفرادٍ، بَل إِلى المَسيحِ الحاضِرِ فيهِم. إِنَّهُم يُبغَضونَ لِأَنَّهُم يَحمِلونَ نورَهُ، وَيُرفَضونَ لِأَنَّهُ يَسكُنُ فيهِم، وَيُضطَهَدونَ لِأَنَّهُم قَدِ اختاروا أَن يَعيشوا بِحَسَبِ إِنجيلِهِ. 18 ولَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤُوسِكم تَشيرُ عِبارَةُ "لَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤوسِكُم" إِلى وَعدٍ إِلَهِيٍّ بِالرِّعايَةِ وَالحِمايَةِ، يَهدِفُ إِلى طَمأَنَةِ التَّلامِيذِ وَسْطَ الضِّيقَاتِ وَالاضطِهاداتِ، مُؤَكِّدًا لَهُم أَنَّ حَياتَهُم بَينَ يَدَيِ الآبِ الَّذي يَعتَنِي حَتّى بِأَصغَرِ تَفاصيلِها. فَهِيَ لُغَةٌ رَمزيَّةٌ تُعَبِّرُ عَن ضَمانِ العِنايَةِ الإِلَهِيَّةِ الشّامِلَةِ، كَما حَدَثَ مَعَ بُولُسَ الرَّسولِ في العاصِفَةِ البَحريَّةِ: "فَلَن يَفقِدَ أَحَدٌ مِنكُم شَعرةً مِن رَأسِهِ" (أَعمالُ ظ¢ظ§: ظ£ظ¤). فَالعِبارَةُ لا تَعدُ بِعَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلأَذى الجَسَديِّ، بَل تُعَبِّرُ عَن أَنَّ مَصيرَ المُؤمِنِ في يَدِ اللهِ وَحدَهُ، وَأَنَّ أَعداءَهُم لا يَستَطيعونَ أَن يَمسّوهم إِلّا بِقَدرِ ما يَسمَحُ بِهِ اللهُ لِتَحقيقِ مَقاصِدِهِ الخَلاصِيَّةِ. كَمَا تَحمِلُ العِبارَةُ بُعدًا رُوحيًّا عَميقًا: فَمَهما اشتَدَّ الاضطِهادُ، لا سُلطانَ لِأَحَدٍ عَلى نُفوسِ المُؤمِنينَ (راجِعْ مَتّى 10: 28-31). فَقَد يُقتَلُ الجَسَدُ وَيُعَذَّبُ، لَكِنَّ النَّفسَ – إِن بَقِيَت أَمِينَةً – لا تُهزَمُ وَلا تَضيعُ. لِذَلِكَ، يُؤَكِّدُ النَّصُّ أَنَّ الخَطَرَ الجَسَديَّ لا يَعني ضَياعَ الحَياةِ الحَقيقيَّةِ، لِأَنَّ الحِفظَ الإِلَهِيَّ يَضمَنُ الخَلاصَ الأَبَدِيَّ لِمَن يَثبُتُ في الإِيمانِ. وَقَدِ استَوعَبَ شُهَداءُ العَهدِ القَديمِ هذَا الرَّجاءَ، كَما يَظهَرُ في شَهادَةِ أَحَدِ الإِخوَةِ المَكَابِيِّينَ السَّبعَةِ: "إِنَّكَ تَسلُبُنا الحَياةَ الدُّنيا، وَلَكِنَّ مَلِكَ العالَمِ سَيُقيمُنا لِحَياةٍ أَبَدِيَّةٍ إِن مِتنا في سَبيلِ شَرائِعِهِ" (2 مَكّابِيّينَ 7: 9). وَيَرى القِدِّيسُ أَوغُسطينوس في هذَا الوَعدِ تَأكيدًا لِرَجاءِ القِيامَةِ في مِلءِ الجَسَدِ، قائِلًا: "عِندما حَثَّ الرَّبُّ يَسوعُ شُهَدائَهُ عَلَى الصَّبرِ، وَعَدَهُم أَن يَنالَ الجَسَدُ نَفسُهُ كَمالًا تامًّا في المُستَقبَلِ بِلا فَقدانٍ، لا أَقُولُ عُضوًا مِنهُ، بَل دونَ فَقدانِ شَعرةٍ واحِدَةٍ". فَالوَعدُ لا يَقِفُ عِندَ حُدودِ الزَّمنِ، بَل يَمتَدُّ إِلى القِيامَةِ، حَيثُ يُكَمِّلُ اللهُ ما بَدَأَهُ في المُؤمِنِ. إِنَّ هذَا التَّعليمَ يَدعو المُؤمِنينَ إِلى الثَّباتِ في الرَّجاءِ وَالشَّجاعَةِ الرُّوحيَّةِ أَمامَ الواقِعِ المُؤلِمِ، لِأَنَّ الَّذي حَفِظَهُم في التَّجرِبَةِ سَيُكَمِّلُ خَلاصَهُم في القِيامَةِ. فَمَعَ المَسيحِ القائِمِ، كُلُّ ضَيقٍ هُوَ عُبورٌ، وَكُلُّ أَلَمٍ هُوَ مَخاضُ حَياةٍ جَديدةٍ، وَكُلُّ خَسارَةٍ زَمَنِيَّةٍ تَتَحَوَّلُ إِلى مَجدٍ أَبَدِيٍّ. وَيَقولُ القِدِّيسُ أُوغُسطِينوس: "لا يُمكِنُ لأَحَدٍ أَن يَبلُغَ مَجْدَ المَسِيحِ إِن لَم يُشارِكْهُ أَوَّلًا آلامَهُ" (أُوغُسطِينوس، العِظَة 21). وَعَلَى هظ°ذا الأَساسِ، يُمكِنُ فَهمُ الِاضطِهَادِ كَعُنصُرٍ تَربَوِيٍّ رُوحِيٍّ يُنقِّي الإِيمَانَ، وَيُثَبِّتُ المُؤمِنَ فِي الحَقِّ، وَيُدخِلُهُ أَعمَقَ فِي شَرِكَةِ آلامِ المَسِيحِ، مِمَّا يُهَيِّئُهُ لِلمَجْدِ الأَبَدِيِّ (رومية 8: 17). وَيُعلِّقُ البابا فِرنْسيس على هظ°ذِهِ الرُّؤيَةِ الخَلاصِيَّةِ قائلًا: "إِنَّ يَسوعَ حَذَّرَنا مِمّا سَنُواجِهُهُ مِنِ اضطِهَاداتٍ وَمُعاناةٍ، وَلظ°كِنَّهُ طَمأَنَنا: "وَلَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤوسِكُم"، مُذَكِّرًا إِيّانا بِأَنَّنا بَينَ يَدَيِ اللهِ، وَلَا يَجِبُ أَن تُبعِدَنا عَنهُ التَّجارِبُ" (فِرنْسيس، عِظَة عامَّة). 19 إِنَّكم بِثَباتِكُم تكتَسِبونَ أَنفُسَكم. تَشيرُ عِبارَةُ "الثَّباتُ" فِي الأَصلِ اليُونانِيِّ ل½‘د€خ؟خ¼خ؟خ½خ® إِلى مَعنى الصَّبْرِ وَالمُثابَرَةِ وَالاحْتِمالِ بِثِقَةٍ. وَهِيَ لا تَعني مُجرَّدَ تَحَمُّلِ المَتاعِبِ، بَلْ قُوَّةً داخِلِيَّةً راسِخَةً تَظهَرُ فِي إِيمانٍ مُعْلَنٍ عَلانِيَةً حَتّى النِّهايَةِ، مَهْما اشْتَدَّتِ التَّجارِبُ وَقَساوَةُ الأَيّامِ. فَالثَّباتُ هُوَ دَعْوَةٌ لِمُواجَهَةِ الحَياةِ بِكُلِّ أَبْعادِها وَمَآسِيها فِي سَبِيلِ الخَلاصِ وَالوَفاءِ لِلرَّبِّ. وَيَقُولُ القِدِّيسُ باسيليوسُ الكَبِير مُوَضِّحًا عُمْقَ هظ°ذِهِ الفَضِيلَةِ: "لَيْسَ الثَّباتُ أَنْ نَصْمُدَ لِوَقْتٍ قَصِيرٍ، بَلْ أَنْ نَتَمَسَّكَ بِالرَّجاءِ فِي اللهِ حَتّى آخِرِ النَّفَسِ. فَالَّذِي يَثْبُتُ فِي الإِيمانِ يُظْهِرُ أَنَّ قُوَّةَ اللهِ تَعْمَلُ فِيهِ، وَأَنَّهُ يَسِيرُ بِلَا خَوْفٍ فِي طَرِيقِ الخَلاصِ." وَقَد أَوضَحَ يَسوعُ هذَا البُعدَ قائلًا: "الَّذي يَثبُتُ إِلى النِّهايَةِ فَذاكَ يَخلُصُ" (مَتّى 24: 13). الثبات لَيسَتِ انسِحابًا سَلبِيًّا أَوِ استِسلامًا، بَل مَوقِفًا مَسيحِيًّا فاعِلًا يَتَجَلّى في أَمانَةٍ مُستَمِرَّةٍ لِلمَسيحِ وَسْطَ الأَلَمِ، وَاليَأسِ، وَإِغراءاتِ العالَمِ، وَاضطِهادِ العائِلَةِ أَوِ الجَماعَةِ أَوِ المُجتَمَعِ. وَيُعَدُّ هذَا الثَّباتُ، في نَظَرِ يَسوعَ، شَهادَةً أُمَمِيَّةً تُعلِنُ مَلكوتَهُ في العالَمِ، كَما جاءَ:"سَتُعلَنُ بِشارَةُ المَلكوتِ هذِهِ في المَعمورِ كُلِّهِ شَهادَةً لَدَى الوَثَنِيِّينَ أَجمَعينَ، وَحينَئِذٍ تَأتي النِّهايَةُ" (مَتّى 24: 14). فَالثَّباتُ في الإِيمانِ هُوَ بِحَدِّ ذاتِهِ عَلامَةُ دينونَةٍ وَبِدايَةُ الأَزمِنَةِ الأَخيرَةِ، لِأَنَّهُ يَكشِفُ وَلاءَ المُؤمِنِ لِلمَلكوتِ بِالرَّغمِ مِن كُلِّ الاضطِهاداتِ. وَيُعَلِّقُ البَابا غريغوريوس الكَبيرُ عَلى فَضيلَةِ الصَّبرِ قائلًا: "وَضَعَ الرَّبُّ اقتِناءَ النَّفسِ في فَضيلَةِ الصَّبرِ، لِأَنَّ الصَّبرَ هُوَ أَصلُ جَميعِ الفَضائِلِ وَالحارِسُ لَها. الصَّبرُ هُوَ احتِمالُ الشُّرورِ الَّتي تَسقُطُ عَلَينا مِنَ الآخَرينَ بِهُدوءٍ، دونَ أَن نَحمِلَ في قُلوبِنا مَشاعِرَ سَخَطٍ ضِدَّ مَن يُسقِطُها عَلَينا". فَالَّذي يَثبُتُ في المِحنَةِ يَحفَظُ قَلبَهُ نَقِيًّا، وَبِالتَّالي يَحفَظُ نَفسَهُ لِلهِ. إِنَّ الثَّباتَ هو بِمَثابَةِ الِانْتِظارِ بِثِقَةٍ فِي الرَّبِّ، مُؤْمِنِينَ بِأَنَّ الِمِحَنَ وَالصُّعُوبَاتِ الْخارِجِيَّةَ لَنْ تَسْحَقَنا. فَهظ°ذا لَيْسَ اسْتِسْلامًا، بَلْ مَوْقِفٌ إِيمَانِيٌّ يَنْبَعُ مِنَ الِاعْتِمادِ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ الَّذِي نَنْتَمِي إِلَيْهِ، حِينَما نَتَمَسَّكَ بِالرَّجاء. وَيُؤَكِّدُ الْقِدِّيسُ أغناطيوس الأَنْطَاكِيُّ هظ°ذِهِ الْحَقِيقَةَ بقولِهِ: "اِثْبُتُوا فِي الإِيمَانِ كَالصَّخْرَةِ الَّتِي تَتَحَطَّمُ عَلَيْهَا أَمْوَاجُ الْبَحْرِ، لِكَيْ يَظْهَرَ أَنَّكُمْ لِلَّهِ حَقًّا، وَأَنَّ الرَّجَاءَ فِيكُمْ أَقْوَى مِنْ كُلِّ ضِيقٍ". ويضيف القديس يوحنا الذهبي الفم:" إنّ الشَّيطان لا يَخافُ مِن صَومِكَ ولا مِن صَلاتِكَ كما يَخشَى ثَباتَكَ في التَّجَارِبِ" (عظة 2 على التماثيل). أَمّا عِبارَةُ "تَكتَسِبونَ أَنفُسَكُم" فَتَعني أَنَّ ثَباتَ التَّلاميذِ في زَمَنِ الاضطِهادِ يَؤولُ إِلى رِبحِ النَّفسِ وَخَلاصِها. فَالمِقياسُ لَيسَ تَجَنُّبَ الأَلَمِ بَلِ الأَمانَةَ لِلهِ. وَقَد نَبَّهَ يَسوعُ قائلًا: "لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسَدَ وَلا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفسِ، بَل خافوا الَّذي يَقدِرُ عَلى أَن يُهلِكَ النَّفسَ وَالجَسَدَ جَميعًا في جَهَنَّمَ" (مَتّى 10: 28). وَعَلَيهِ، فَإِنَّ الكَنيسَةَ في كُلِّ عَصرٍ مَدعُوَّةٌ لِمُواجَهَةِ الشَّدائِدِ وَالصُّعوباتِ وَالاضطِهاداتِ بِروحِ الرَّجاءِ المَسيحِيِّ، عالِمَةً أَنَّ الرُّوحَ القُدُسَ هُوَ الَّذي يُقَوِّي وَيُثَبِّتُ وَيُعَزِّي وَيَمنَحُ الحِكمَةَ وَالنُّطْقَ عِندَ الحاجَةِ. فَالثَّباتُ لَيسَ مُجرَّدَ فَضيلَةٍ بَشَرِيَّةٍ، بَل عَطيَّةٌ مُتَجَدِّدَةٌ مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ في قَلبِ المُؤمِنِ. وَمِن هذَا المُنطَلَقِ، عَلى تِلميذِ المَسيحِ أَن يُدرِكَ حَقيقَةً واحِدَةً أَساسيَّةً: الخَلاصُ مُرتَبِطٌ بِالثَّباتِ. فَلا يَكفي أَن يَبدأَ بِالإِيمانِ، بَل عَلَيهِ أَن يَثبُتَ، وَلَو كانَ الثَّمَنُ حَياتَهُ الزَّمَنِيَّةَ، لِأَنَّ مَن يَحفَظُ أَمانَتَهُ لِلمَسيحِ يَنالُ الحَياةَ الأَبَدِيَّةَ. ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 21: 5-19) اِنطِلاقًا مِنَ المُلاحَظاتِ الوَجيزَةِ حَولَ وِقائِعِ النَّصِّ الإِنجِيلِيِّ (لوقا 21: 5-19)، نَستَنتِجُ أَنَّ جَوْهَرَهُ يَتَمَحْوَرُ حَولَ تَحذيراتِ يَسوعَ لِتَلامِيذِهِ مِنَ المَسَحاءِ الكَذّابِينَ، وَمِن خَطَرِ الضَّعفِ أَمامَ الاضطِهادِ، داعِيًا إِيّاهُم إِلى الشَّهادَةِ وَالثَّباتِ في الإِيمانِ، وَذظ°لِكَ في سِياقِ إِعلانِهِ عَن خَرابِ الهَيكَلِ وَنِهايَةِ العالَمِ وَمَجيئِهِ الأَخِيرِ. عِندما طَلَبَ التَّلاميذُ عَلاماتِ الزَّمَنِ لِخَرابِ الهَيْكَلِ، حَذَّرَهُم يَسوعُ مِنَ المَسَحاءِ الكَذَبَةِ، فَقالَ: "إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَدٌ! فَسَوفَ يَأتي كَثيرٌ مِنَ النّاسِ مُنتَحِلِينَ اسمي فَيَقولونَ: أَنا هُوَ! قَد حانَ الوَقتُ! فَلا تَتَّبِعوهُم" (لوقا 21: 8). فَظُهورُ المَسَحاءِ وَالأَنبياءِ الكَذَبَةِ لِخِداعِ البَشَرِيَّةِ هُوَ أَوَّلُ عَلامَةٍ لِمَجيءِ المَسيحِ في الأَزمِنَةِ الأَخيرَةِ. ومن هنا نتناول تَحذيراتِ يَسوعَ لِتَلامِيذِهِ: التَّحذيرُ الاول مِنَ خِداع المُسَحاء الكذَّابين عِندما طَلَبَ التَّلاميذُ عَلاماتِ الزَّمَنِ لِخَرابِ الهَيْكَلِ، حَذَّرَهُم يَسوعُ مِنَ المَسَحاءِ الكَذَبَةِ، فَقالَ: "إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَدٌ! فَسَوفَ يَأتي كَثيرٌ مِنَ النّاسِ مُنتَحِلِينَ اسمي فَيَقولونَ: أَنا هُوَ! قَد حانَ الوَقتُ! فَلا تَتَّبِعوهُم" (لوقا 21: 8). ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ أَثناسيوسُ الرَّسولي مُوَضِّحًا خِداعَ إِبليس، فيَقول: "إِنَّ إِبليسَ مُخادِعٌ يَنتَحِلُ لِنَفسِهِ اسمًا مَحبوبًا لِلكُلِّ، يُشبِهُ رَجُلًا يُريدُ أَن يَسرِقَ أَولادًا لَيسوا لَه، فَيَستَغِلُّ غِيابَ والِدِيهِم ليَجتَذِبَ أَنظارَهُم وَيَسحَبَهُم إِلَيه بِتَقديمِ أُمورٍ يَشتَهونَها. هكَذا في كُلِّ هَرطَقَةٍ يَنطِقُ العَدُوُّ مُخادِعًا: "أَنا هُوَ المَسيحُ وَمَعي الحَقُّ". فَظُهورُ المَسَحاءِ وَالأَنبياءِ الكَذَبَةِ لِخِداعِ البَشَرِيَّةِ هُوَ أَوَّلُ عَلامَةٍ لِمَجيءِ المَسيحِ في الأَزمِنَةِ الأَخيرَةِ. فَهؤُلاءِ المَسَحاءُ الكَذَبَةُ يُقِيمونَ "مَملَكَةَ إِبليسَ" تَحتَ سِتارِ المَسيحِ أَوِ اسْمِ اللهِ، لِيُضِلّوا الكَثيرينَ وَيَسحَبوهُم عَن مَلكوتِ اللهِ وَخَلاصِهِم مِن خِلالِ الإِغراءاتِ وَالخُدَعِ الرُّوحِيَّةِ. وَيَبدو أَنَّ المَسَحاءَ الدَّجّالينَ أَوِ "المَسَحاءَ الكَذَّابينَ" قَد ظَهَروا مُنذُ بَداياتِ نُشوءِ الكَنيسَةِ، مِثلَ سِمعانَ السّاحِرِ الَّذي كانَ "يُدهِشُ أَهلَ السّامِرَةِ زاعِمًا أَنَّهُ رَجُلٌ عَظيمٌ. فَكانوا يُصغونَ إِلَيهِ بِأَجمَعِهِم مِن صَغيرِهِم إِلى كَبيرِهِم، وَيَقولونَ: هذا هُوَ قُدرَةُ اللهِ الَّتي يُقالُ لَها القُدرَةُ العَظيمَةُ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 8: 9-10). وَكَذلِكَ ثودَسُ الَّذي "قامَ قَبلَ هذِهِ الأَيّامِ، وَادَّعى أَنَّهُ رَجُلٌ عَظيمٌ، فَشايَعَهُ نَحوُ أَربَعِمِائَةِ رَجُلٍ، فَقُتِلَ وَتَبَدَّدَ جَميعُ الَّذينَ اِنقادوا لَهُ، وَلَم يَبقَ لَهُم أَثَرٌ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 5: 36). ثُمَّ "قامَ بَعدَهُ يَهوذا الجَليلِيُّ أَيّامَ الإِحصاءِ، فَاِستَدرَجَ قَومًا إِلى اِتِّباعِهِ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 5: 37). وَفي نِهايَةِ الثَّورَةِ اليَهودِيَّةِ الثّانِيَةِ سَنَةَ 135م، أَعلَنَ الرّابّي عَقبِه (عَقِيبَا) أُستاذُ المَجمَعِ أَنَّ بار كوخبَا رَئيسَ الثَّورَةِ هُوَ "المَسيحُ"، فَأَعدَمَهُ الرُّومانُ. وَيَذكُرُ يُوسيفوسُ المُؤَرِّخُ اليَهودِيُّ أَنَّ مُزوِّرينَ كُثُرًا وَسَحَرَةً ظَهَروا وَجَذَبوا الجُموعَ إِلى البَرِّيَّةِ لِيُخدِعوهم، فَمِنهُم مَن جُنَّ، وَمِنهُم مَن عاقَبَهُم فليكس الوالِي. وَمِنهُم ذلِكَ "المِصرِيُّ" الَّذي أَشارَ إِلَيهِ قائِدُ الأَلفِ حِينَ قالَ لِبُولُسَ الرَّسولِ: "أَفَلَستَ المِصرِيَّ الَّذي أَثارَ مُنذُ أَيّامٍ أَربَعَةَ آلافِ فَتَّاكٍ، وَخَرَجَ بِهِم إِلى البَرِّيَّةِ؟"(أَعمالُ الرُّسُلِ 21: 38). وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أغناطيوس الأَنطاكيِّ على هذِهِ الظَّاهِرَةِ مُحَذِّرًا: "لا تَنظُروا بِنَظرَةِ الإِعجابِ إِلى كُلِّ مَن يَدَّعِي المَسيحَ، بَل تَثبُتوا فِي الإِيمَانِ الَّذي تَسَلَّمتُموهُ، فَإِنَّ المَسيحَ واحِدٌ وَلا غَيرٌ". وَقَد ظَهَرَت في أَيّامِنا الأَخِيرَةِ مِئاتُ البِدَعِ وَالفَلسَفَاتِ المُلحِدَةِ المُضِلَّةِ الَّتي تُشَكِّكُ في وُجودِ اللهِ، بَل وَفَلسَفاتٌ تَتَسَتَّرُ تَحتَ رِداءِ الدِّينِ. وَثَمَرَةُ هذِهِ الفَلسَفَاتِ وَالبِدَعِ هِيَ الارتِدادُ وَفُتورُ مَحَبَّةِ الكَثيرينَ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسطينوس عَلَى هذِهِ الظَّاهِرَةِ قائلًا: "يُحَذِّرُنا الرَّبُّ مِن أَنَّهُ حَتّى الأَشرارَ يَقدِرونَ أَن يَصنَعوا مُعجِزاتٍ مُعَيَّنَةً لا يَستَطيعُ حَتّى القِدِّيسونَ أَن يَصنَعُوها، فَلَيسَ بِسَبَبِها يُحسَبونَ أَعظَمَ مِنهُم عِندَ اللهِ، بَل بِقُداسَةِ الحَياةِ وَصِدقِ الإِيمانِ". إِذًا، فَالمِعيارُ لَيسَ العَجائِبَ، بَل الأَمانَةُ لِلمَسيحِ وَحِفظُ تَعليمِهِ الصَّحيحِ. فَالخَطَرُ الحَقيقِيُّ لا يَكمُنُ في القُدرَةِ عَلى إِتيانِ الآياتِ، بَل في الاِبتِعادِ عَنِ الإِيمانِ القَويمِ وَتَحريفِ الحَقِّ. وَقَد أَشارَ قَداسَةُ البابا فِرنسيس في تَأمُّلٍ لَهُ إِلى أَنَّ كَلامَ يَسوعَ لا يَزالُ يَنطَبِقُ عَلَينا نَحنُ أَيضًا الَّذينَ نَعيشُ في القَرنِ الحادِي وَالعِشرينَ، فَقالَ: "إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَدٌ! فَسَوفَ يَأتي كَثيرونَ مُنتَحِلِينَ اسمي". ثُمَّ أَضافَ: "إِنَّ هذِهِ دَعوةٌ إِلى الفِطنَةِ، فَهيَ الفَضيلَةُ المَسيحِيَّةُ لِتَمييزِ أَينَ يَكونُ رُوحُ الرَّبِّ وَأَينَ يَكمُنُ رُوحُ الشَّرِّ. وَاليَومَ أَيضًا نَجِدُ "مَسَحاءَ كَذَبَةً " يُريدونَ أَن يَحلّوا مَكانَ يَسوعَ، وَهُم أُولئِكَ الَّذينَ يُحاوِلونَ جَذبَ النّاسِ إِلَيهِم، خُصوصًا الشَّبابَ. فَلنَتَذَكَّر أَنَّ يَسوعَ حَذَّرَنا مِنهُم وَطَلَبَ أَلّا نَتَّبِعَهُم". وَيَتَّضِحُ مِمّا سَبَقَ أَنَّ أَوَّلَ تَحذيرٍ وَجَّهَهُ يَسوعُ لِتَلامِيذِهِ قَبلَ حُدوثِ الضِّيقَاتِ وَالاضطِهاداتِ هُوَ الحِفاظُ عَلى نَقاوَةِ الإِيمانِ وَعَدَمُ الانخِداعِ بِالمَظهَرِ، وَأَنَّ المِعيارَ لَيسَ بَهاءَ العَجائِبِ أَوِ الأَعدادِ، بَل صِدقُ الإِيمانِ وَالأَمانَةُ لِلمَسيحِ. فَمَن يَثبُتُ في الحَقِّ، يَنجو مِن خِداعِ الباطِلِ، من خِداع المُسَحاء الكذَّابين. التَّحذيرُ الثَّاني مِنَ الضَّعفِ في الاضطِهادِ وَالشَّهادَةِ وَالثَّباتِ لَم يَكتَفِ يَسوعُ بِتَحذيرِ تَلامِيذِهِ مِنَ المَسَحاءِ الدَّجّالينَ وَالأَنبياءِ الكَذَبَةِ، بَل وَجَّهَ إِلَيهِم تَحذيراتٍ أُخرَى حَولَ الضَّعفِ أَمامَ الاضطِهاداتِ وَالشَّهادَةِ وَالثَّباتِ. أ) تَحذِيرٌ مِنَ الضَّعفِ تِجاهَ الاضطِهادِ طَلَبَ التَّلاميذُ عَلاماتٍ لِلأَزمِنَةِ النِّهائِيَّةِ، فَأَعطاهُم يَسوعُ الاضطِهادَ عَلامَةً لَهُم. وَيُحاوِلُ الكائِنُ الشِّرِّيرُ، مِن خِلالِ الاضطِهادِ، أَن يَفصِلَ الإِنسانَ البارَّ عَنِ اللهِ، لِأَنَّ البارَّ يُحِبُّ اللهَ وَهُوَ أَمِينٌ لِكَلِمَتِهِ (أَعمالُ الرُّسُلِ 7: 27)، وَلِأَنَّ الشِّرِّيرَ يَرى في البارِّ "تَوبيخًا حَيًّا" (الحِكمَةُ 2: 12-14)، وَشاهِدًا لِلهِ الَّذي يَتَجاهَلُه (الحِكمَةُ 2: 16-20). فَالشِّرِّيرُ يَستَهدِفُ اللهَ مِن خِلالِ البَارِّ الَّذي هُوَ شاهِدٌ لِمَحبَّةِ اللهِ وَرَحمَتِهِ وَنِعمَتِهِ (الحِكمَةُ 3: 7-10). ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ يوحَنَّا الذَّهَبِيُّ الفَمِّ مُبَيِّنًا سَبَبَ ضَرَورة الاضطِهادِ: "إِنَّ اللهَ يَسمَحُ بِالاضطِهادِ لِأَنَّهُ يُظهِرُ جَواهرَ الإِيمانِ، فَمِن دونِ النَّارِ لا يَتالَّقُ الذَّهَبُ". فَالِاضطِهَادُ ـ فِي المَنظُورِ الكِتابِيِّ وَالآبَائِيِّ ـ لَيسَ دَليلًا عَلى غِيابِ الحِمَايَةِ الإِلَهِيَّةِ، بَل هُوَ مِعيارٌ لِصِدْقِ الِاتِّباعِ لِلمَسِيحِ، وَعَلامَةٌ لِلانتِماءِ إِلَيهِ (متى 5: 11-12). اِختَبَرَ شَعبُ اللهِ، عَلى طُولِ اِمتِدادِ تَاريخِهِ، الاضطِهادَ الَّذي لَم يَستَثنِ مِنهُ السَّيِّدُ المَسيحُ نَفسُهُ، إِذ جاءَ لِيُخَلِّصَ العالَمَ، وَمَعَ ذظ°لِكَ قَد أَبغَضَهُ العالَمُ (يوحنّا 3: 17؛ يوحنا 15: 18). بَل بَلَغَ الاضطِهادُ الذِّروَةَ في آلامِهِ (مَتّى 23: 31-32). وَإِنَّ الرُّسُلَ أَنفُسَهُمُ الَّذينَ سَمِعوا يَسوعَ يُعلِنُ لَهُم ذظ°لِكَ، نَجِدُهُم بَعدَ سَنَواتٍ قَليلَةٍ "فَرِحينَ بِأَنَّهُم وُجِدوا أَهلاً لِأَن يُهانوا مِن أَجلِ الِاسْمِ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 5: 41). وَكَتَبَ القِدِّيسُ أُوغُسطِينوس: "لَقَد تَمَّ تَقييدُ الشُّهَداءِ، وَسُجِنوا وَجُلِدوا وَعُذِّبوا وَحُرِقوا وَمُزِّقوا وَذُبِحوا – وَمَعَ ذظ°لِكَ، تَضاعَفَ عَدَدُهُم". يَسوعُ يُطْمِئِنُنا أَنَّ عَمَلَ اللهِ عَلى الدَّوامِ يُقاوَمُ، لَكِنَّهُ بِالمُقاوَمَةِ يَزدادُ قُوَّةً، وَيَتَجَلَّى بِأَكثَرَ بَهاءٍ. وَلَا يَستَطيعُ التَّلاميذُ أَن يَطمَعوا في مُعامَلَةٍ تَختَلِفُ عَنِ الَّتي لاقاها سَيِّدُهُم؛ فَهُم في أَثَرِهِ وَعَلى مِثالِهِ وَبِسَبَبِهِ، يُلاقونَ الاضطِهاداتِ، كَما صَرَّحَ: "ما كانَ الخادِمُ أَعظَمَ مِن سَيِّدِهِ. إِذا اضطَهَدوني فَسَيَضطَهِدونَكُم أَيضًا" (يوحنّا 15: 20). وَمِن ثَمَّ، يَتَّضِحُ أَنَّ الِاضطِهَادَ لَيسَ مِفاجِئًا فِي حَياةِ الكَنِيسَةِ، بَل يَنتَمِي إِلى هُوِيَّتِها الرَّسولِيَّةِ. وَيُعَلِّقُ القِدِّيسُ أغناطيوس الأَنطاكيّ عَلى هظ°ذِهِ الحَقِيقَةِ، فَيَقولُ: "حَيثُ يَكونُ المَسِيحُ، يَكونُ الِاضطِهَادُ. وَمَن يُحِبُّ المَسِيحَ حَقًّا، لَا يَرفُضُ نَصِيبَهُ مِن صَليبِهِ، بَل يَقبَلُهُ بِفَرَحٍ لِيُظهِرَ أَنَّهُ تِلميذٌ بِالحَقِّ لَا بِالكَلامِ" (أغناطيوس، رِسالَة إِلى الرُّومان). وَعَلَى التَّلاميذِ أَن يَشرَبوا كَأسَهُ، وَأَن يَتَعَمَّدوا بِمَعمُودِيَّتِهِ (مَرقُس 10: 39). وَالنَّتيجَةُ أَنَّ البارَّ الَّذي يَحتَمِلُ الاضطِهادَ، يَغلِبُ العالَمَ إِلى الأَبَدِ، كَما وَعَدَ بِهِ السَّيِّدُ المَسيحُ: "تُعَانُونَ الشِّدَّةَ في العالَمِ، وَلَكِن ثِقوا: إِنِّي قَد غَلَبتُ العالَمَ" (يوحنّا 16: 33). وَيُعَلِّقُ أَحَدُ الوُعّاظِ في القَرنِ الثَّاني قائلًا: "قارِنوا أَنفُسَكُم مَعَ الشَّجَرَةِ المُثمِرَةِ. خُذوا الكَرمَةَ مِثالًا، فَإِنَّها تُجَرَّدُ أَوَّلًا مِن أَوراقِها، ثُمَّ تَتَكَوَّنُ البراعمُ، ثُمَّ الحِصرِمُ، ثُمَّ العِنَبُ النّاضِجُ. وَهكَذا يَحتَمِلُ شَعبي تَقَلُّباتِ الشَّدائِدِ، ثُمَّ يَنالُ الصَّالِحاتِ"Funk 1, 158)). تَنَبَّأَ يَسوعُ عَنِ اضطِهادِ التَّلاميذِ (لوقا 21: 12-19)، عِلمًا بِأَنَّ الإِيمانَ لَيسَ ضَمانًا لِلسَّلامَةِ وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لِلاِضطِهاداتِ، بَل حَتّى في الاضطِهادِ وَالضِّيقِ هُناكَ "طَريقُ شَهادَةٍ لِلحَياةِ". فَقَبلَ دَمارِ أُورَشَليمَ، حَذَّرَ يَسوعُ تَلاميذَهُ مِنَ الاضطِهادِ، قائِلًا: "وَقَبلَ هذَا كُلِّهِ يَبسُطُ النّاسُ أَيدِيَهُم إِلَيكُم، وَيَضطَهِدونَكُم، وَيُسَلِّمونَكُم إِلى المَجامِعِ وَالسُّجونِ، وَتُساقونَ إِلى المُلوكِ وَالحُكّامِ مِن أَجلِ اسمي" (لوقا 21: 12). ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ أُوغُسطِينوس قائلًا: "إِنَّ الاضطِهادَ يَنقِي الإِيمانَ كَالنَّارِ الَّتي تُصفِّي المَعادنَ مِنَ الشَّوائِبِ، فَلا يَثبُتُ مَعَ المَسيحِ إِلّا مَن أَحَبَّهُ أَكثَرَ مِن نَفسِهِ". فَإِنَّ الاضطِهادَ ضَرورِيٌّ، لِأَنَّهُ العَلامَةُ الَّتي يُعرَفُ بِها تَلاميذُ الرَّبِّ، وَبِها يُمكِنُ لَهُم أَن يَشهَدوا لاِنتِمائِهِم لِرَبِّهِم. عِندَما كَتَبَ لوقا إِنْجِيلَهُ، كانَتِ الجَماعَةُ المَسيحِيَّةُ الأُولَى مُعَرَّضَةً لِلاِضطِهاداتِ. فَقَد تَعَرَّضَ بُطرُسُ وَيُوحَنَّا لِلاِضطِهادِ (أَعمالُ الرُّسُلِ 4: 1-3). وَكانَ شاوُلُ الطَّرسُوسِيُّ مِن أَوَّلِ مَن تَمَّمُوا هذِهِ النُّبُوءَةَ بِاعتِبارِهِ يَهودِيًّا مُضطَهِدًا، كَما أَكَّدَ حَنانْيا: "يا رَبُّ، سَمِعتُ بِهذَا الرَّجُلِ مِن أُنَاسٍ كَثيرِينَ، كَم أَساءَ إِلى قِدِّيسِيكَ في أُورَشَليم. وَعِندَهُ ههُنا تَفويضٌ مِن عُظَماءِ الكَهَنَةِ لِيُوثِقَ كُلَّ مَن يَدعو بِاسمِكَ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 9: 13). ثُمَّ تَعَرَّضَ شاوُلُ نَفسُهُ لِلاِضطِهادِ بَعدَما أَصْبَحَ مَسيحِيًّا، كَما صَرَّحَ قائِلًا: "جَلَدَنِي اليَهودُ خَمسَ مَرَّاتٍ، أَربَعِينَ جَلدَةً إِلَّا واحِدَةً. ضُرِبتُ بِالعِصِيِّ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، رُجِمتُ مَرَّةً واحِدَةً" (2 قورِنتُس 11: 24). وَتَعَرَّضَ بُولُسُ الرَّسُولُ وَرَفِيقُهُ سِيلا لِلضَّربِ وَالسِّجنِ (أَعمالُ الرُّسُلِ 16: 22). لَم يَهرُب بُولُسُ الرَّسُولُ مِنَ الاِضطِهاداتِ، بَل تَقَبَّلَها بِكُلِّ اِفتِخارٍ، قائِلًا: "فَإِنِّي راضٍ بِحالَاتِ الضُّعفِ، وَالإِهانَاتِ، وَالشَّدائِدِ، وَالاِضطِهاداتِ، وَالمَضايِقِ في سَبيلِ المَسيحِ، لِأَنِّي عِندَما أَكونُ ضَعيفًا أَكونُ قَوِيًّا"(2 قورِنتُس 12: 10). ويُعَلِّقُ القِدِّيسُ أغناطيوسُ الأَنْطاكيّ على مَوقِفِ الرُّسُلِ هذَا قائِلًا: "حَيثُ يَكونُ المَسيحُ، يَكونُ الاِضطِهادُ. وَمَن يُحِبُّ المَسيحَ حَقًّا لا يَرفُضُ حِصَّتَهُ مِن صَليبِهِ، بَل يَقبَلُهُ بِفَرَحٍ لِيَظهَرَ أَنَّهُ لَيسَ تِلميذًا بِالكَلامِ بَل بِالحَياةِ". أَمَّا عَلى صَعيدِ حَياةِ الكَنيسَةِ، فَتُشَكِّلُ الاضطِهاداتُ الشَّرطَ لِلنَّصرِ النِّهائِيِّ الَّذي يَفوزُ بِهِ المَسيحُ وَخاصَّتُهُ. إِنَّها مُقَدِّمَةٌ لِيَومِ الدَّينونَةِ (1 بُطرُس 4: 17-19)، وَلِإِقامَةِ المَلكوتِ وَالتَّمهيدِ لِنِهايَةِ العالَمِ، كَما جاءَ في سِفْرِ الرُّؤيا: "هؤُلاءِ هُمُ الَّذينَ أَتَوا مِنَ الشَّدَّةِ الكُبْرَى، وَقَد غَسَلوا حُلَلَهُم وَبَيَّضوها بِدَمِ الحَمَلِ. لِذظ°لِكَ هُم أَمامَ عَرشِ اللهِ يَعبُدونَهُ نَهارًا وَلَيلًا في هَيكَلِهِ، وَالجالِسُ عَلى العَرشِ يُظَلِّلُهُم" (رُؤيا 7: 14-15). وَيُعَلِّقُ البابا فِرنْسيس قائِلًا: "إِنَّ يَسوعَ حَذَّرَنا مِمّا سَنُواجِهُهُ مِنِ اضطِهاداتٍ وَمُعاناةٍ، وَلظ°كِنَّهُ طَمأَنَنا: "وَلَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤوسِكُم"، مُذَكِّرًا إِيّانا بِأَنَّنا بَينَ يَدَيِ اللهِ وَلَا يَجِبُ أَن تُبعِدَنا عَنهُ التَّجارِبُ". وَبِمَنظُورٍ أَنثروبُولُوجِيٍّ لا هُوتِيٍّ، يُساعِدُ الِاضطِهَادُ المُؤمِنَ عَلى تَخطِّي وَهمِ "الأَنَا" وَالتَّمَحْوُرِ حَولَ الذاتِ، لِيَتَحَرَّرَ فِي المَحبَّةِ وَيَصِيرَ شَاهِدًا لِلحَقِّ فِي العالَمِ. وَيُعَلِّقُ الأَبُ ثِيوفِلاكتِيُوس: "نَطَقَ يَسوعُ بِالِاضطِهَادِ لِكَي يَستَعِدَّ تَلاميذُهُ لِاحْتِمالِ الِاضطِهَاداتِ وَالشُّرُورِ بِصَبرٍ عَظيمٍ" (ثِيوفِلاكتِيُوس، تَفسير لوقا). نستَنتِجُ مِمّا سَبَقَ أَنَّ الاضطِهادَ لَيسَ بِالأَمرِ العارِضِ في حَياةِ المُؤمِنِ، بَل يُلازِمُ المُؤمِنَ عَلى الدَّوامِ حَتّى يَعبُرَ مِن هظ°ذا العالَمِ، كَما جاءَ في رُؤيا يُوحنّا: "هؤُلاءِ هُمُ الَّذينَ أَتَوا مِنَ الشَّدَّةِ الكُبرَى، وَقَد غَسَلوا حُلَلَهُم وَبَيَّضوها بِدَمِ الحَمَلِ" (رُؤيا 7: 14). وَيُعَلِّقُ الأَبُ ثيُوفِلاكتِيُوس قائِلًا: "نَطَقَ يَسوعُ بِالاضطِهادِ لِكَي يَستَعِدَّ تَلاميذُهُ لاحْتِمالِ الاضطِهاداتِ وَالشُّرورِ بِصَبرٍ عَظيمٍ". فَالاضطِهادُ، كَكُلِّ عَذاباتِ المَسيحِ، إِنَّما هُوَ ضَرورِيٌّ لإِتْمامِ رِسالَتِهِ وَلِتَحقيقِ تَدبيرِ الخَلاصِ. ب) تَحذيرٌ مِنَ الضَّعفِ تُجاهَ الشَّهادَةِ لم يُحَذِّرْنا الرَّبُّ يَسوعُ مِنَ الضَّعفِ تُجاهَ الاضطِهادِ فَحَسْب، ولكِنَّهُ يُحَذِّرُنا أَيضًا مِنَ الضَّعفِ تُجاهَ الشَّهادَةِ. فَالاضطِهادُ يُتِيحُ فُرصَةً لِلشَّهادَةِ، وتَقُومُ الشَّهادَةُ في الإِقْرارِ بِحَقيقَةِ الإِنجيلِ الطَّاهِرِ وَالتَّبشيرِ بِهِ. كُلُّ الشَّرِّ الَّذي سَيُصِيبُنا هُوَ فُرصَةٌ لِنُؤَدِّيَ الشَّهادَةَ لِلعالَمِ بِأَنَّ الخَيرَ أَقوَى مِنَ الشَّرِّ، وَأَنَّ الحُبَّ وَالإِخلاصَ لِلهِ سَيَهْزِمانِ الكَراهِيَّةَ. أَمَّا شَهادَةُ يَسوعَ فَهِيَ نَمُوذَجٌ لِشَهادَةِ المسيحيِّينَ، لأَنَّ يَسوعَ هُوَ "الشَّاهِدُ الأَمِينُ الأَسمَى" (رِؤْيا 1: 5). فَقَد جاءَ إِلى العالَمِ شاهِدًا لِلحَقِّ كَما أَعلَنَ أَمامَ الحاكِمِ بِيلاطُسَ النَّبْطِيِّ: "وَأَنا ما وُلِدتُ وَأَتَيتُ العالَمَ إِلَّا لِأَشهَدَ لِلحَقِّ" (يُوحَنّا 18: 37). إِنَّهُ يَشهَدُ بِما رَأى وَسَمِعَ عِندَ الآبِ (يُوحَنّا 3: 11)، وَيَشهَدُ ضِدَّ العالَمِ الشِّرِّيرِ كَما صَرَّحَ: "شَهِدُ عَلَيهِ بِأَنَّ أَعمالَهُ سَيِّئَةٌ" (يُوحَنّا 7: 7)، وَيَشهَدُ لِنَفسِهِ كَما قالَ لِليَهودِ: "إِنِّي، وَإِنْ شَهِدتُ لِنَفْسِي فَشَهادَتي تَصِحُّ، فَأَنا أَعلَمُ مِن أَينَ أَتَيتُ وَإِلى أَينَ أَذهَبُ" (يُوحَنّا 8: 13-14). وَتَصِلُ قِمَّةُ شَهادَتِهِ في اِعتِرافِهِ أَمامَ بُنطِيُوسَ بِيلاطُسَ، كَما صَرَّحَ بولُسُ الرَّسولُ لِتِلميذِهِ طيموتاوُس: "أُوصِيكَ، في حَضرَةِ اللهِ الَّذي يُحْيِي كُلَّ شَيءٍ، وَفي حَضرَةِ المسيحِ يَسوعَ الَّذي شَهِدَ شَهادَةً حَسَنَةً في عَهدِ بُنطِيُوسَ بِيلاطُسَ" (1 طيموثاوُس 6: 13)، كاشِفًا بِذلِكَ عَن تَدبيرِ اللهِ الخَلاصِيِّ: "المسيحُ يَسوعُ الَّذي جادَ بِنَفْسِهِ فِدًى لِجَميعِ النَّاسِ. تِلكَ شَهادَةٌ أُدِّيَتْ في الأَوقاتِ المُحَدَّدَةِ لَها" (1 طيموثاوُس 2: 6). تَنَبَّأَ يَسوعُ عَنِ اضطِهادِ التَّلاميذِ عَلى يَدِ كُلٍّ مِنَ اليَهودِ في المجمَعِ، وَالأُمَمِ في المَحاكِمِ، وَبِذلِكَ تَسْنَحُ الفُرصَةُ أَمامَهُم لِلشَّهادَةِ: "فَيُتاحُ لَكُم أَنْ تُؤَدُّوا الشَّهادَةَ" (لوقا 21: 13). فَيَتَحَوَّلُ الاضطِهادُ إِلى شَهادَةٍ لِلمُضطَهِدينَ أَنفُسِهِم، الَّذينَ يَحسِبونَ أَنَّهُم قادِرونَ أَنْ يَكتُموا صَوتَ الحَقِّ بِالسُّلطانِ الزَّمَنيِّ وَالعُنفِ، فَإِذا بِالحَقِّ يَتَجَلّى أَمامَهُم، وَيَزدادُ صَوتُهُ وُضوحًا في فِكرِهِم. يُعَدُّ الاضطِهادُ مَدعاةَ فَرَحٍ لِلمَسيحيّينَ، لأَنَّهُ مُناسَبَةٌ لِإِعلانِ بُشارَةِ الإِنجيلِ وَالشَّهادَةِ لِيَسوعَ المَسيحِ. وَهذا ما رَأَيناهُ حينَ أَرادَ هيرودُسُ أَنْ يَكتُمَ أَنفاسَ القِدّيسِ يُوحَنّا المَعمَدانِ، فَصارَ صَوتُ يُوحَنّا يُدوّي في أُذُنَيهِ حَتّى بَعدَ استِشهادِهِ. وَنَجِدُ بولُسَ الرَّسولَ أَيضًا قَد أشارَ إِلى فائِدَةِ دُخولِهِ إِلى السِّجنِ لِكَي يُبَشِّرَ الكَثيرينَ، فَكانَت لَهُ فُرصَةُ مُخاطَبَةِ السُّلُطاتِ العُليا في ذلِكَ الوَقتِ: أَغريباسَ الثّاني (أَعمالُ الرُّسُلِ 26: 1) وَالوَالي غاليونَ في قورِنثُس (أَعمالُ الرُّسُلِ 18: 12) وَفيلِكسَ وَفَسْتُسَ في قَيسَرِيَّةَ (أَعمالُ الرُّسُلِ 24: 1؛ 25: 1) وَحُكّامٍ وَحُرّاسِ السِّجنِ (فيلِبّي 1: 12). وَكانَ اليَهودُ الهِيلينِيُّونَ يَتَساءَلونَ: مِن أَيْنَ لِإِسْطِفانُسَ هذِهِ الحِكمَةُ؟ (أَعمالُ الرُّسُلِ 6: 10). أَمَّا الرُّسُلُ فَهُم شُهودٌ لِلمَسيحِ في سَبيلِ نَشرِ الإِنجيلِ في العالَمِ أَجمَعَ (أَعمالُ الرُّسُلِ 1: 8)، حَيثُ إِنَّ مِن واجِبِهِمُ المُجاهَرَةُ رَسْمِيًّا أَمامَ النّاسِ بِكُلِّ الأَعمالِ الَّتي حَدَثَت، ابتِداءً مِن مَعمُودِيَّةِ يُوحَنّا حتّى صُعودِ يَسوعَ، وَلاسيَّما بِقِيامَتِهِ الَّتي جاءَت مِصداقِيَّةً عَلى سِيادَتِهِ المُطلَقَةِ (أَعمالُ الرُّسُلِ 1: 22). وَاتَّخَذَتِ الشَّهادَةُ، لِكَي تَصِلَ إِلى النّاسِ، صُورَةً واقِعِيَّةً، أَلَا وَهِيَ التَّبشيرُ بِالإِنجيلِ، كَما جاءَ في تَعليمِ يَسوعَ: "سَتُعلَنُ بِشارَةُ المَلَكوتِ هذِهِ في المَعمورِ كُلِّهِ، شَهادَةً لَدَى الوَثَنِيِّينَ أَجمَعينَ" (مَتّى 24: 14). وَأَمَّا شَهادَةُ بولُسَ الرَّسولِ فَقَد تَمَّت لَمَّا أُقيمَ، عَلى طَريقِ دِمَشقَ، شاهِدًا لِلمَسيحِ أَمامَ كُلِّ البَشَرِ تَلبِيَةً لِطَلَبِ يَسوعَ المَسيحِ: "فَإِنَّكَ سَتَكونُ شاهِدًا لَهُ أَمامَ جَميعِ النّاسِ بِما رَأَيتَ وَسَمِعتَ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 22: 15). وَهكَذا في كُلِّ مَكانٍ مِنَ البِلادِ الوَثَنِيَّةِ، جاهَرَ بولُسُ الرَّسولُ بِقِيامَةِ يَسوعَ: "شَهِدْنا عَلى اللهِ أَنَّهُ قَد أَقامَ المَسيحَ" (1 قورِنتُس 15: 15)، وَأَنشَأَ الإِيمانَ في الجَماعَاتِ المَسيحِيَّةِ في تِسالونيكي (2 تِسالونيكي 1: 10) وَفي قورِنتُس (1 قورِنتُس 1: 6). وَيُظْهِرُ الكِتابُ المُقَدَّسُ أَنَّ الِاضطِهَادَ هُوَ طَرِيقُ الشَّهادَةِ وَالظَّفَرِ الرُّوحِيِّ الَّذي بِهِ يَعبُرُ المُؤمِنُ مِن "هظ°ذا العالَمِ" إِلى "مَلَكُوتِ اللهِ". فَالرُّؤيَا تُشَدِّدُ عَلى أَنَّ الَّذينَ «أَتَوا مِنَ الشَّدَّةِ الكُبرَى، وَقَد غَسَلوا حُلَلَهُم وَبَيَّضوها بِدَمِ الحَمَلِ» (رُؤيا ظ§: ظ،ظ¤)، هُم بِعَينِهِم الَّذينَ يَقِفُونَ أَمامَ عَرشِ اللهِ وَيَتَمَتَّعونَ بِالمَجدِ وَالشَّرِكَةِ الأَبَدِيَّةِ (رُؤيا ظ§: ظ،ظ¥). هُنَا تُدرَكُ الحَقِيقَةُ اللَّاهُوتِيَّةُ: أَنَّ الِاضطِهَادَ هُوَ بَابُ الدُّخُولِ إِلى المَجدِ، لِأَنَّهُ يُشَرِّكَ المُؤمِنَ فِي فِعلِ الفِداءِ. وَيُؤَكِّدُ القِدِّيسُ أغناطيوس الأَنطاكيّ: "لا شَيءَ ذُو قِيمَةٍ مِن دُونِ يَسوعَ المَسيحِ، وَلأَجلِهِ أَقبَلُ أَن أَمُوتَ، لِكَي يشِرِكَني مَعَهُ فِي حَياتِهِ" (أغناطيوس، رِسالَة إِلى أَفسُس). وَيُمكِنُ أَن تَتَحَوَّلَ الشَّهادَةُ إِلىَ الاِستِشهادِ. وَما الاِستِشهادُ إِلَّا شَهادَةُ الإِيمانِ المَمهورَةُ بِشَهادَةِ الدَّمِ. فَعِندما يَتَرَتَّبُ عَلى التَّلاميذِ أَن يَشهَدوا أَمامَ السُّلطاتِ وَالمَحاكِمِ (لوقا 21: 13-14)، تَأخُذُ الشَّهادَةُ طابِعًا رَسميًّا، إِلَّا أَنَّها غالِبًا ما يُعقِّبُها الآلامُ وَالاِستِشهادُ (رِؤيا 1: 9). اِحتَمَلَ المُؤمِنونَ الاضطِهادَ وَالاِستِشهادَ، وَأَوَّلُهُم إِسْطِفانُسُ الَّذي خَتَمَ شَهادَتَهُ بِدَمِهِ المَسفوكِ (أَعمالُ الرُّسُلِ 22: 20). وَيَتَوَقَّعُ شُهودُ الإِنجيلِ نَفسَ المَصيرِ عَلى هذِهِ الأَرضِ، كَما جاءَ في رُؤيَةِ يُوحَنّا: "فَإِذا أَتَمَّا شَهادَتَهُما، حارَبَهُما الوَحشُ الصّاعِدُ مِنَ الهاوِيَةِ فَغَلَبَهُما وَقَتَلَهُما" (رِؤيا 11: 7). فَما أَكثَرَ الَّذينَ سَفَكوا دَمَهُم "في سَبيلِ كَلامِ اللهِ وَالشَّهادَةِ الَّتي شَهِدوها" (رِؤيا 6: 9). وَقَد سَكِرَت بابِلُ، رَمزُ القُوَّةِ الشَّرِسَةِ المُعادِيَةِ لِلمَسيحِيَّةِ، بِدَمِ هؤُلاءِ الشُّهودِ (رِؤيا 17: 6). وَلَكِن لَن يَكونَ لَها النَّصرُ إِلَّا في الظّاهِرِ، أَمَّا في الحَقيقَةِ فَهُمُ الشُّهَداءُ الَّذينَ بِالاِشتِراكِ مَعَ المَسيحِ سَيَغلِبونَ إِبلِيسَ، "بِدَمِ الحَمَلِ وَبِكَلِمَةِ شَهادَتِهِم" (رِؤيا 12: 11). وَيُعَلِّقُ القِدّيسُ قُبريانُس، الأُسقُفُ مِنَ القَرنِ الثّالِثِ: "عِندما يَحِلُّ الاضطِهادُ، يُوضَعُ جُنودُ الرَّبِّ تَحتَ الاِختِبارِ، وَتَنفتِحُ السَّماءُ لِلشُّهَداءِ". فَالمَسيحيُّ المُؤمِنُ هُوَ الشّاهِدُ ذو المِصداقِيَّةِ لِلرَّبِّ يَسوعَ أَمامَ الجَميعِ. وَهذِهِ هِيَ مُهِمَّتُهُ وَرِسالَتُهُ في الزَّمَنِ الأَرضِيِّ. وَفي هذَا الصَّددِ يَقولُ البابا فرنسيس: "وَنَحنُ في هذَا الوَقتِ مِنِ انتِظارِ مَجيءِ الرَّبِّ، عَلَينا أَن نَعيشَ الاِنتِظارَ كَزَمَنٍ لِلشَّهادَةِ". ج) تَحذيرٌ مِنَ الضَّعفِ تُجاهَ الثَّباتِ يَحتاجُ الإِنسانُ إِلى الثِّقَةِ لِلشَّهادَةِ في سَبيلِ الإِنجيلِ وَمُواجَهَةِ الاضطِهادِ لِكَي يَثبُتَ، حتّى وَلَو تَعرَّضَ لِأَبشَعِ الضُّغوطِ وَخِيانَةِ أَقرَبِ النّاسِ. فَبِالثَّباتِ في الإِيمانِ يَجِدُ طَريقَ الحَياةِ، وَلا يَفقِدُ الأَمَلَ في بُلوغِ هَدَفِهِ. فَفي مَن يَضعُ ثِقَتَهُ؟ يَضَعُ الثِّقَةَ في حِكمَةِ اللهِ (أَمثالُ 3: 5)، وَبِقُدرَةِ الخالِقِ ضابِطِ الكُلِّ، وَبِعِنايَتِهِ (تَكوينُ 1: 1)، وَبِرَحمَةِ اللهِ (مَزمورُ 13: 6). إِنَّ الدَّعوَةَ المَسيحِيَّةَ هِيَ دَعوَةٌ إِلى الثَّباتِ. وَيُمكِنُنا أَن نُميِّزَ بَينَ فِئَتَينِ مِنَ النّاسِ: الفِئَةُ الأُولى: تَشعُرُ أَنَّها مَدعوَّةٌ لِلثَّباتِ لِتَحيا حَياةً مَسيحِيَّةً حَقَّةً، لَكِنَّ هذِهِ الدَّعوَةَ تَقَعُ في قُلوبِ أَفرادِها مَوقِعَ حَبَّةِ البِذرِ عَلى الصَّخرِ. حَماسُهُم شَديدٌ، لَكِنَّهُ سُرعانَ ما يَخمُدُ وَلا يَبقى مِنهُ شَيءٌ، كَنِيرانِ الهَشيمِ. أَمَّا الفِئَةُ الثَّانِيَةُ: فَهِيَ الَّتي تَستَقبِلُ الدَّعوَةَ مِثلَما تَستَقبِلُ الأَرضُ الصّالِحَةُ الزَّرعَ، فَتَنبُتُ الحَياةُ المَسيحِيَّةُ في أَفرادِها وَتَنمو، مُتَخَطِّيَةً الصِّعابَ، مُقاوِمَةً العَواصِفَ. ذلِكَ لأَنَّ الثَّباتَ تَوافَرَ عِندَ أَفرادِ الفِئَةِ الثَّانِيَةِ، وَأُهمِلَ عِندَ أَفرادِ الفِئَةِ الأُولى مِنَ النّاسِ: "إِنَّكُم بِثَباتِكُم تَكتَسِبونَ أَنفُسَكُم". وَمِنَ الطَّبيعيِّ أَنَّهُ لَو أَرَدنا أَن نَثبُتَ، فَلَن يَكفينا الاِعتِمادُ عَلى قِوانا الشَّخصِيَّةِ، بَل نَحتاجُ إِلى مَعونَةِ اللهِ. وَقَد دَعا القِدّيسُ بولُسُ اللهَ "إِلهُ الثَّباتِ" (روميةَ 15: 5). وَمِن هذا المُنطَلَقِ، يَجِدُ تَلاميذُ الرَّبِّ يَسوعَ الخَلاصَ، حتّى وَسْطَ الاضطِهاداتِ، بِفَضلِ ثَباتِهِم. يَتَوَقَّعُ أَبناءُ اللهِ مِنَ العالَمِ أَلوانًا مِنَ السُّخرِيَّةِ وَالاضطِهادِ، بِسَبَبِ ثِقَتِهِم بِاللهِ، حَيثُ إِنَّ يَسوعَ نَفسَهُ قَدِ اختَبَرَ ذلِكَ كَما روى مَتّى الإِنجِيلِيُّ: "وَبَعدَ ما سَخِروا (الجُنودُ) مِنهُ نَزَعوا عَنهُ الرِّداءَ، وَأَلبَسوهُ ثِيابَهُ، وَساقوهُ لِيُصلَب" (مَتّى 27: 28، 31). وَقَد أَسلَمَ رُوحَهُ بِصَرخةٍ كُلُّها حُبٌّ وَثِقَةٌ قائلًا: "يا أَبَتِ، في يَدَيكَ أَجعَلُ رُوحي!" (لوقا 23: 46). فَبِفِعلِ المَحَبَّةِ المَملوءةِ ثِقَةً اِنْتَصَرَ يَسوعُ عَلى كُلِّ قُوّاتِ الشَّرِّ، وَجَذَبَ إِلَيهِ قُلوبَ البَشَرِ أَجمَعِينَ، كَما صَرَّحَ يَومًا: "وَأَنا، إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرضِ، جَذَبتُ إِلَيَّ النّاسَ أَجمَعينَ" (يُوحَنّا 12: 32). إِنَّ التِّلميذَ الَّذي يَثِقُ، يُصبِحُ في الواقِعِ شاهِدًا أَمِينًا، وَهُوَ يُقيمُ أَمانَتَهُ عَلى أَساسِ أَمانَةِ اللهِ، واثِقًا بِأَنَّ النِّعمَةَ الإلظ°هِيَّةَ سَتُكَمِّلُ عَمَلَهُ، كَما جاءَ في تَعليمِ بولُسَ الرَّسولِ: "الرَّبُّ أَمِينٌ، سَيُثَبِّتُكُم وَيَحفَظُكُم مِنَ الشِّرِّيرِ" (2 تِسالونيقي 3: 3). إِنَّ هذِهِ الثِّقَةَ الَّتي يُؤَكِّدُها الرَّسولُ تُعطِيهِ، حَتّى في ساعاتِ الأَزمَةِ (غَلاطِية 5: 10)، يَقينًا لا يَضعُفُ، لِيُبَشِّرَ بِكَلِمَةِ اللهِ، كَما حَدَثَ مَعَ بولُسَ الرَّسولِ: "يُعلِنُ مَلَكوتَ اللهِ وَيُعَلِّمُ بِكُلِّ جُرأَةٍ ما يَختَصُّ بِالرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ، لا يَمنَعُهُ أَحَدٌ" (أَعمالُ الرُّسُلِ 28: 31). إِنَّ هذِهِ الثِّقَةَ الَّتي لا تَتَزَعزَعُ، هِيَ أَحَدُ شُروطِ الثَّباتِ (عِبرانِيّينَ 3: 14)، حَيثُ إِنَّ التَّلاميذَ يَعلَمونَ عَلى مَنِ اتَّكَلوا (2 طيموتاوُس 1: 12). وَلِذا فَلا شَيءَ يَفصِلُهُم عَن مَحَبَّةِ اللهِ، كَما يَصرِّحُ بولُسُ الرَّسولُ: "وَإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّهُ لا مَوتٌ وَلا حَياةٌ، وَلا مَلائِكَةٌ وَلا أَصحابُ رِئاسةٍ، وَلا حاضِرٌ وَلا مُستَقبَلٌ، وَلا قُوَّاتٌ، وَلا عُلُوٌّ وَلا عُمْقٌ، وَلا خَليقَةٌ أُخرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عَن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا" (رومة 8: 38-39). حَيثُ إِنَّ كُلَّ شَيءٍ يُعاوِنُهُم لِلخَيرِ: "إِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ جَميعَ الأَشياءِ تَعمَلُ لِخَيرِ الَّذينَ يُحِبُّونَ اللهَ" (رومة 8: 28). وَيُضيفُ بولُسُ الرَّسولُ أَيضًا: "تَقَوَّوا في الرَّبِّ وَفي قُدرَتِهِ العَزيزَةِ، وَتَسَلَّحوا بِسِلاحِ اللهِ لِتَستَطيعوا مُقاوَمَةَ مَكايدِ إِبليسَ، فَلَيسَ صِراعُنا مَعَ اللَّحمِ وَالدَّمِ، بَل مَعَ أَصحابِ الرِّئاسةِ وَالسُّلطانِ وَوُلاةِ هذَا العالَمِ، عالَمِ الظُّلُماتِ، وَالأَرواحِ الخَبيثَةِ في السَّماواتِ" (أَفسُس 6: 10-12). نَستَنتِجُ مِمّا تَقَدَّمَ أَنَّ التِّلميذَ المُضطَّهَدَ بِرَجاءٍ يَجعَلُهُ اللهُ أَمِينًا ثابِتًا وَفَرِحًا (رومة 12: 12)، لأَنَّهُ عالِمٌ عَلى مَنِ اتَّكَلَ (2 طيموتاوُس 1: 12). لِذظ°لِكَ عَلَيهِ أَن يُوَجِّهَ نَظَرَهُ نَحوَ المَسيحِ الَّذي صَبَرَ عَلى ما لَقِيَ مِن مُخالَفَةِ الخاطِئِينَ، وَأَن يَجريَ نَحوَ الهَدَفِ، كَما جاءَ في تَوصِياتِ بُطرُسَ الرَّسولِ: "أَمَّا الَّذينَ يَتَأَلَّمونَ كَما شاءَ اللهُ، فَليَستَودِعوا الخالِقَ الأَمِينَ نُفوسَهُم مُواظِبِينَ عَلى عَمَلِ الخَيرِ" (1 بُطرُس 4: 19)، وَيَجريَ بِدونِ أَن تَثبُطَ هِمَّتُهُ وَعَزيمَتُهُ (عِبرانِيّين 12: 1). فَهُوَ يُوَجِّهُ لِكُلٍّ مِن تلاميذه دَعوَةً إِلى الثَّباتِ: "لا تَخَفْ مِمّا سَتُعاني مِنَ الآلامِ. ها إِنَّ إِبليسَ يُلقي مِنكُم في السِّجنِ لِيَمتَحِنَكُم، فَتَلقَونَ الشِّدَّةَ عَشرَةَ أَيّامٍ. كُن أَمِينًا حَتّى المَوتِ، فَسَأُعطيكَ إِكليلَ الحَياةِ" (رِؤيا 2: 10). وَيُعَلِّقُ البابا فرنسيس قائِلًا: "إِنَّ يَسوعَ يَعِدُنا بِالنَّصرِ: "إِنَّكُم بِثَباتِكُم تَكتَسِبونَ أَنفُسَكُم" (لوقا 21: 19). وَيُشَدِّدُ عَلى هذِهِ الكَلِماتِ المفعَمَةِ بِالرَّجاءِ لِكَي نَنتَظِرَ بِصَبرٍ ثِمارَ الخَلاصِ، وَبِالرَّغمِ مِنَ الأَزماتِ وَالكَوارِثِ الَّتي تَضرِبُ العالَمَ، فَطِيبَةُ الرَّبِّ وَرَحمَتُهُ سَتَتَحَقَّقانِ، وَهذَا هُوَ رَجاؤُنا". الخُلاصَةُ إِذ بَعدَ أَن أَعطى يَسوعُ دَرسًا لِتَلاميذِهِ مِن خِلالِ مُراقَبَتِهِ لِلأَرمَلَةِ الَّتي أَعطَت كُلَّ ما لَدَيها (لوقا 21: 1-4)، يَستَكمِلُ يَسوعُ خِطابَهُ الَّذي استَمَدَّهُ مِن تَصريحٍ أَدلى بِهِ بَعضُ الحاضِرينَ عَن أَحجارِ الهَيكَلِ المُزَيَّنَةِ، لِيَنطَلِقَ مِن تَساؤُلِ التَّلاميذِ (لوقا 21: 5-7)، والَّذي استَعانَ فيه لوقا الإِنجِيليُّ بِالأُسلوبِ الرُّؤيوِيِّ، عَن مِحنَةٍ أَخِيرَةٍ تَتَضَمَّنُ كَوارِثَ مُزعِجَةً وَغَيرَ مُتَوَقَّعَةٍ. فَيَكشِفُ الرَّبُّ أَنَّهُ يَتَوَجَّبُ أَن تَحدُثَ عِدَّةُ أَشياءَ قَبلَ حُلولِ زَمَنِ نِهايَةِ الأَزمِنَةِ. فَانطَلَقَ يَسوعُ مُتَنَبِّئًا عَن ضِيقِ نِهايَةِ الأَزمِنَةِ وَعَودَتِهِ في المَجدِ، وَتَوَجَّهَ بِكَلامِهِ إِلى التَّلاميذِ وَالشَّعبِ في الهَيكَلِ. وَقَد مَيَّزَ لوقا بَينَ الأَحداثِ القَريبَةِ: اضطِهادِ التَّلاميذِ (لوقا 21: 12-19)، وَدَمارِ أُورَشَليمَ (لوقا 21: 20-24)، وَأَحداثِ نِهايَةِ الأَزمِنَةِ (لوقا 21: 10-11، 25-27). لَم يَترُكِ الرَّبُّ يَسوعُ تَلاميذَهُ بِلا استِعدادٍ لِلسَّنواتِ الصَّعبَةِ المُقْبِلَةِ، بَل حَذَّرَهُم مِنَ المَساحِ الكَذَبَةِ الَّذينَ يَدَّعونَ سُلطانًا إِلظ°هِيًّا، وَحَذَّرَهُم أَيضًا مِنَ الكَوارِثِ الطَّبيعِيَّةِ وَمِنَ الضَّعفِ تُجاهَ الاضطِهادِ وَالشَّهادَةِ، لِكَي يَعرِفوا كَيفَ يَتَصَرَّفُونَ في زَمَنِ المِحنَةِ، لا سِيَّما في الزَّمَنِ الحاضِرِ، استِعدادًا لِلمُستَقبَلِ. وَقَد كانَ عَلى المَسيحِيَّةِ، في كُلِّ عَصرٍ، مُواجَهَةُ هظ°ذا الاِحتِمالِ. وَفي النِّهايَةِ حَثَّ يَسوعُ السَّامِعينَ عَلى السَّهرِ وَالرَّجاءِ (لوقا 21: 34-36). وَأَكَّدَ أَنَّهُ سَيَظَلُّ مَعَهُم لِيَحمِيَهُم، وَلِيُعلِنَ مَلكوتَهُ بِوَساطَتِهِم، وَوَعَدَ أَنَّهُ يَأتي في النِّهايَةِ في مَجدٍ وَقُوَّةٍ لِيُنقِذَهُم مِن كُلِّ ذظ°لِكَ. إِنَّ اللهَ "يُمَهِّلُ وَلا يُهمِلُ"، وَما عَلَينا إِلَّا الاِلتِزامُ وَالصَّبرُ وَالثِّقَةُ؛ فَمَنِ اتَّكَلَ عَلى اللهِ لا يَخزى، كَما جاءَ في نُبوءَةِ مَلاخي: "وَلَكُم أَيُّهَا المُتَّقونَ اسمي، تُشرِقُ شَمسُ البِرِّ وَالشِّفاءُ في أَجنِحَتِها" (مَلاخي 4: 2). وَيَدعو الرَّبُّ البَعضَ لِيَكونوا شُهَداءَ مِن أَجلِ الإِيمانِ. غَيرَ أَنَّ دَعوَةَ مُعظَمِنا هِيَ أَن نَكونَ شُهَداءَ دونَ سَفكِ الدَّمِ، شُهَداءَ يَشهَدونَ لِفَرَحِ وَقُوَّةِ الإِنجيلِ وَسَطَ التَّحَدِّياتِ اليَومِيَّةِ، وَالتَّجارِبِ وَالشَّدائِدِ الَّتي تَعترِضُنا في طَريقِ اتِّباعِنا لِيَسوعَ المَسيحِ. في خِضَمِّ المِحنِ والاضطِهاداتِ، لا يَدعونا الرَّبُّ إِلى الخَوفِ بَل إِلى الثَّباتِ والرَّجاءِ. فالمسيحُ الَّذي يَسيرُ معَنا في الطَّريقِ لا يَحمينا فَحَسْب، بَل يُثمِرُ فينا شَهادَةً حَيَّةً لقُوَّةِ الإِنجيل. لَيسَ كُلُّنا مَدعوّينَ لِلاِستِشهادِ بِالدَّمِ، وَلظ°كِنَّا جَميعًا مَدعوّونَ لِنَشهَدَ لِلمَسيحِ بِأَمانَةٍ في وَسَطِ تحدِّياتِ الحَياةِ، مُتَّكِلينَ عَلى وَعدِهِ: "إنَّكم بِثَباتِكم تَكتَسِبونَ أَنفُسَكم". الدُّعاء أيُّهَا الآبُ السَّماوِيُّ، نَطلُبُ إِلَيكَ بِاسمِ ابنِكَ يَسوعَ المَسيحِ، أَن تَمنَحَنا نِعمَةَ الثَّباتِ وَسَطَ مَصاعِبِ الحَياةِ وَالاضطِهادِ وَالخِيانَةِ وَالشَّدائِدِ، وَأَلّا يُضِلَّنا أَحَدٌ، خُصوصًا مِنَ المَسحاء الدَّجّالينَ وَالأَنبِياءِ الكَذَبَةِ. وَأَن نَكونَ مُخلِصينَ لِلَّحظَةِ الحاضِرَةِ، وَأَن نَظَلَّ أُمَناءَ لِلمَسيحِ حتّى آخِرِ لَحظَةٍ مِن حَياتِنا، أَو آخِرِ قَطرَةٍ مِن دَمِنا، فَنَثبُتَ عَلى الإِيمانِ الَّذي يُساعِدُنا عَلى تَحَمُّلِ الاضطِهاداتِ، فَلا تَسقُطُ شَعرَةٌ مِن رُؤوسِنا دونَ أَن تَجعَلَ مِنها إِكليلًا لِمَجدِكَ وَخَلاصًا لَنا. آمين. |
||||
|
|
رقم المشاركة : ( 219327 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
![]() 5 وقالَ بَعضُهم في الهيَكل إِنَّه مُزَيَّنٌ بِالحِجارةِ الحَسَنَةِ وتُحَفِ النُّذور، فقال: 6 ((هذا الَّذي تَنظُرونَ إِلَيه سَتأتي أَيَّامٌ لن يُترَكَ مِنه حَجَرٌ على حَجَر مِن غَيرِ أَن يُنقَض)). 7 فسأَلوه: ((يا مُعلّم، ومَتى تكونُ هذه، وما تكونُ العَلامَةُ أَنَّ هذه كُلَّها تُوشِكُ أَن تَحدُث؟)) 8 فقال: ((إِيَّاكُم أَن يُضِلَّكُم أَحَد! فسَوفَ يأتي كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ مُنتَحِلينَ اسمي فيَقولون: أَنا هُو! قد حانَ الوَقْت! فلا تَتبَعوهم. 9 وإِذا سَمِعتُم بِالحُروبِ والفِتَن فلا تَفزَعوا، فَإِنَّه لابُدَّ مِن حُدوثِها أَوَّلاً، ولكِن لا تَكونُ النِّهايةُ عِندَئِذٍ)). 10 ثُمَّ قالَ لَهم: ((ستَقومُ أُمَّةٌ على أُمَّة، ومَملَكَةٌ على مَملَكَة، 11 وتَحدُثُ زَلازِلُ شديدة ومَجاعاتٌ وأَوبِئَةٌ في أَماكِنَ كَثيرة، وستَحدُثُ أَيضاً مَخاوفُ تأتي مِنَ السَّماءِ وعَلاماتٌ عظيمة. 12 ((وقَبلَ هذا كُلِّه يَبسُطُ النَّاسُ أَيدِيَهُم إِلَيكمُ، ويَضطَهِدونَكم، ويُسلِمونَكم إلى المَجامِعِ والسُّجون، وتُساقونَ إلى المُلوكِ والحُكاَّمِ مِن أَجْلِ اسمي. 13 فيُتاحُ لكم أَن تُؤَدُّوا الشَّهادَة. 14 فاجعَلوا في قُلوِبكم أَن لَيسَ علَيكم أَن تُعِدُّوا الدِّفاعَ عن أَنفُسِكم. 15 فسَأُوتيكم أَنا مِنَ الكَلامِ والحِكمَةِ ما يَعجِزُ جَميعُ خُصومِكم عَن مُقاوَمَتِه أَوِ الرَّدِّ علَيه. 16 وسيُسلِمُكُمُ الوالِدونَ والإِخوَةُ والأَقارِبُ والأصَدقاءُ أَنفُسهم، ويُميتونَ أُناساً مِنكم، 17 ويُبغِضُكم جَميعُ النَّاسِ مِن أَجْلِ اسمي. 18 ولَن تُفقَدَ شَعْرَةٌ مِن رُؤُوسِكم. 19 إِنَّكم بِثَباتِكُم تكتَسِبونَ أَنفُسَكم. يَتَناوَلُ إِنْجيلُ هظ°ذا الأَحَدِ (لوقا 21: 5-19) خِطابَ يَسوعَ "الإسْكاتولوجي" أي المتعلّق بنهاية الأزمنة لِتَلاميذِهِ عِندَ خُروجِهِم مِنَ الهَيكَل. فَقَد أَبْدى بَعضُ التَّلاميذِ دَهشَتَهُم أَمامَ عَظَمَةِ حِجارَةِ الهَيكَلِ وَرَوعَةِ بُنْيانِهِ قائِلِينَ: "يا مُعَلِّمُ، اُنظُرْ! ما أَجمَلَ الحِجارَةَ وما أَرْوَعَ الأَبْنِيَة!". فَأَجابَهُم يَسوعُ بِقَوْلٍ نَبَوِيٍّ صادِم: "أَتَرَونَ هذِهِ الأَبْنِيَةَ العَظِيمَة؟ لَنْ يُترَكَ هاهُنا حَجَرٌ على حَجَرٍ إِلاّ ويُهَدَّم" (راجع مرقس 13: 1-3؛ متّى 24). يُعَلِّقُ القِدِّيس أُوغُسْطينُوس عَلى سُقوطِ الهَيكَلِ وَالأَحداثِ الَّتي سَبَقَت نِهايَةَ العَالَم قائلًا: "يَسقُطُ الهَيكَلُ المَبْنِيُّ بِالحِجارَةِ، لِكَيْ يَقِيمَ اللهُ فينا هَيكَلَهُ الرُّوحِيَّ، هَيكَلًا لا يَتَزَعْزَعُ. فَالعالَمُ يَنهارُ حَوْلَنا، لِيَتَأَسَّسَ اللهُ فِينَا أَبَدًا". وَيَجمَعُ خِطابُ يَسوعَ هظ°ذا، في نَفَسٍ واحِد، بَيْنَ نُبوءَةِ خَرابِ الهَيكَلِ وَسُقوطِ أُورَشَليمَ مِن جِهَة، وَبَيْنَ مَشاهِدِ نِهايَةِ الأَزمِنَةِ وَعَودَةِ "ابنِ الإِنسانِ" في المَجْدِ مِن جِهَةٍ أُخرى، مُتَضَمِّنًا تَحذيراتٍ وَدُعاءً إِلى السَّهَرِ وَالثَّبات. فالضِّيقَاتُ وَالاضْطِهاداتُ، الَّتي يَحتَلُّ ذِكْرُها مَكانَةً جَوْهَرِيَّةً في الكِتابِ المُقَدَّس، لَيْسَت نِهايَةً بِنَفْسِها، بَل هِيَ عُبورٌ يَسْبِقُ اكْتِمالَ التَّاريخ. وَهِيَ تُساعِدُ المُؤمِنَ عَلى قِراءَةِ "عَلاماتِ الأَزمِنَة" وَفَهْمِ مَعنى الزَّمَنِ الحاضِر، وَهُوَ يَتَقَدَّمُ نَحْوَ مُسْتَقبَلٍ يَتَحَقَّقُ وَفْقَ مَشيئَةِ الله. إِنَّ اللهَ يُمْهِلُ وَلا يُهْمِل؛ وَما يُطْلَبُ مِنَّا هُوَ الإِيمانُ وَالثَّباتُ وَالصَّبْرُ وَالثِّقَة، لأَنَّ الكَلِمَةَ الأَخيرةَ هِيَ لله، كما تَنَبَّأَ النَّبِيُّ مَلاخي قائِلًا: "هُوَذا يَأتي اليَومُ المُتَّقِدُ كَالتَّنُّور، فَيَكونُ جَميعُ المُسْتَكبِرينَ وَجَميعُ فاعِلي الشَّرِّ قَشًّا... أَمّا لَكُم أَيُّها الخائِفونَ لاسمي فَتُشرِقُ شَمسُ البِرّ" (ملاخي 3: 19-20). فَيُذَكِّرُنا القِدِّيس كِيرِلُّسُ الإِسكَندَرِيّ أَنَّ المَجْدَ الَّذي كانَ لِلهَيكَلِ المادّي لم يَعُد مُرتَبِطًا بِحِجارَةٍ تُرى، بَل بِحُضورِ المَسيحِ في كَنيسَتِهِ، قائِلًا: "الهَيكَلُ الَّذي يُسَرُّ اللهُ بِهِ الآنَ هُوَ نُفوسُ المُؤمِنينَ، الَّتي سَكَنَ فيها الرُّوحُ القُدُس، بَدَلَ الحِجارَةِ الَّتي تَتَحَطَّم". |
||||
|
|
رقم المشاركة : ( 219328 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
يُعَلِّقُ القِدِّيس أُوغُسْطينُوس عَلى سُقوطِ الهَيكَلِ وَالأَحداثِ الَّتي سَبَقَت نِهايَةَ العَالَم قائلًا: "يَسقُطُ الهَيكَلُ المَبْنِيُّ بِالحِجارَةِ، لِكَيْ يَقِيمَ اللهُ فينا هَيكَلَهُ الرُّوحِيَّ، هَيكَلًا لا يَتَزَعْزَعُ. فَالعالَمُ يَنهارُ حَوْلَنا، لِيَتَأَسَّسَ اللهُ فِينَا أَبَدًا". |
||||
|
|
رقم المشاركة : ( 219329 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
"هُوَذا يَأتي اليَومُ المُتَّقِدُ كَالتَّنُّور، فَيَكونُ جَميعُ المُسْتَكبِرينَ وَجَميعُ فاعِلي الشَّرِّ قَشًّا... أَمّا لَكُم أَيُّها الخائِفونَ لاسمي فَتُشرِقُ شَمسُ البِرّ" (ملاخي 3: 19-20). فَيُذَكِّرُنا القِدِّيس كِيرِلُّسُ الإِسكَندَرِيّ أَنَّ المَجْدَ الَّذي كانَ لِلهَيكَلِ المادّي لم يَعُد مُرتَبِطًا بِحِجارَةٍ تُرى، بَل بِحُضورِ المَسيحِ في كَنيسَتِهِ، قائِلًا: "الهَيكَلُ الَّذي يُسَرُّ اللهُ بِهِ الآنَ هُوَ نُفوسُ المُؤمِنينَ، الَّتي سَكَنَ فيها الرُّوحُ القُدُس، بَدَلَ الحِجارَةِ الَّتي تَتَحَطَّم". |
||||
|
|
رقم المشاركة : ( 219330 ) | ||||
|
† Admin Woman †
|
![]() وقالَ بَعضُهم في الهيَكل إِنَّه مُزَيَّنٌ بِالحِجارةِ الحَسَنَةِ وتُحَفِ النُّذور، فقال: تُشيرُ عِبارَةُ "قالَ بَعضُهُم" إِلى مَجموعةٍ مِن تَلاميذِ يَسوعَ الَّذينَ تَوَجَّهوا إِلَيهِ بِالسُّؤالِ وهُم خارِجونَ مِنَ الهَيكَل، مُتَأَثِّرينَ بِعَظَمَةِ الأَبْنِيَةِ وَجَمالِها (راجع مرقس 13: 1-3). أَمّا لَفظةُ «الهَيكَل» هُنا، فَلا تَعودُ إِلى الهَيكَلِ الأَوَّلِ الَّذي بَناهُ سُلَيْمانُ المَلِك عامَ 968 ق.م (1 ملوك 6: 1)، والَّذي دَمَّرَهُ نَبُوخَذنَصَّرُ المَلِكُ البابِلِيُّ سَنةَ 586 ق.م (2 ملوك 25: 8-10)، بَل تَشيرُ إِلى الهَيكَلِ الثّاني الَّذي شُيِّدَ بَعدَ العَودَةِ مِنَ السَّبْيِ عَلى يَدِ زَرُبّابِل عامَ 536 ق.م (عَزر31)، ودَنَّسَهُ السِّلْوِقيّونَ في القَرنِ الثّاني ق.م، إِلى أَن أَعادَ المَكّابِيّونَ تَكريسَهُ وتَدشينَهُ (1 مكّابيين 4: 36-59). ثُمَّ خَضَعَ الهَيكَلُ لأعمَالِ تَوسِعَةٍ وتَرميمٍ ضَخمَةٍ في عَهدِ هِيرودُسَ الكَبير، استَمَرَّت سِتًّا وأَربَعينَ سَنةً (يوحنا 2: 20). بَلَغَ طولُ "رِواقِ سُلَيْمان" في الهَيكَلِ حَوالَي 469 مِترًا، بَينَما امتَدَّ "الرِّواقُ المَلَكِي" جَنوبًا بِطولِ 276 مِترًا، وكانَ مُزَيَّنًا بِنَحوِ مِائَةٍ وستّينَ عَمودًا ضَخمًا. وَقَد جَعَلَ هِيرودُسُ هظ°ذا الهَيكَلَ أَعظَمَ وأَفخَمَ بِنَاءٍ في أُورَشَليم، لا بِدافِعِ إِكرامِ الله، بَل لِأَغراضٍ سِياسيَّةٍ تَهْدِفُ إِلى كَسبِ وُدِّ اليَهودِ وإِرضائِهِم، إِذ كانَ الهَيكَلُ رَمزًا لِهُوِيَّةِ الأُمَّةِ اليَهودِيَّةِ وَمَحَلَّ فَخرِها الرُّوحِيِّ والْوَطَنِيّ. |
||||