أخلى ذاته ورفع شأن أولاده
العجيب أن المسيح إلهنا بقدر ما كان يخلي ذاته، كان من الناحية الأخرى يرفع شأن أولاده...
أخذ شكل العبد، وأعطانا أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية! (2بط1: 4). حقًا كما تقول تسابيح الكنيسة " أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له". وهكذا صارت لنا شركة معه (1يو1: 6). وصرنا "شركاء الروح القدس" (عب6: 4)، (2كو13: 14)، وشركاء في الميراث (أف3: 6)... وصرنا جسده، وأعضاءه، ثابتين فيه، كالأغصان في الكرمة...
وصار الرب يقربنا إليه باستمرار، ويرفعنا قدامه...
ومع أنه إبن الله الوحيد، الكائن في حضن الآب منذ الأزل، يمسي نفسه في غالبيه الأوقات: "إبن الإنسان". ونحن بني الإنسان يدعونا أولاد الله، ويكررها مرات عديدة...
ويقول عنا أننا نور العالم، ويطلب إلينا أن يضئ نورنا قدام الناس (مت5: 14، 16). ويدعونا أصدقاء له، وأحباء، وخاصته التي يحبها حتى المنتهي. ولكن الأكثر من هذا كله أن يسمح الرب بأن ندعي أخوته! ويقول الكتاب: "ومن ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شيء" (عب2: 17) ويقول أيضًا:"... ليكون هو بكرًا بين أخوة كثيرين" (رو8: 29).
من هم أخوته هؤلاء؟! هم نحن التراب والرماد...
لو أن أحد الآباء الكهنة في أيامنا، أرسل خطابا إلى واحد من أولاده، يقول له فيه: "أيها الأخ العزيز "، لصاح الناس: ما هذا التواضع العجيب وإخلاء الذات؟! كيف يدعو ابنه أخًا له ؟! فماذا نقول إذن عن رب الأرباب عندما يدعونا إخوته؟!
بل أكثر من هذا أن الرب كثيرًا ما يختفي لنظهر نحن. فعندما ظهر الرب لشاول الطرسوسي ودعاه، فاستجاب وقال: "ماذا تريد يا رب أن أفعل" (أع9: 6). حوله الرب إلى القديس حنانيا في دمشق قائلًا له: "قم وأدخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل" (أع9: 6). وظهر الرب في رؤيا لحنانيا، وكلمة من جهة شاول، فشفاه وعَمَّده ونقل إليه رسالة الرب.
إن عمل الكهنوت كله، وكل أعمال الخدمة والرعاية، هي أعمال للرب، يعمل فيها الله في اختفاء، ويجعلنا نحن ظاهرين في الصورة. هو يعمل فينا، وهو يعمل بنا، وهو يعمل معنا، ولكنه غير ظاهر، أما نحن فنبدو للناس، كأننا نعمل. بينما " ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمي" (1كو3: 7). ولكن الله كثيرًا ما يعطي السلطان لأولاده، دون أن يستخدمه مباشرة...
والمطلوب من الخدام الذين يعمل فيهم الله في اختفاء، أن يختفوا هم ليظهر الله.
فمجد الله لا يجوز أن يعطي لآخر. أما الخدام فعليهم أن يصلوا قائلين: "ليس لنا يا رب ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس أعط مجدًا" (مز115: 1).
وعمل المعجزات يعمله الله أيضًا في اختفاء عن طريق أولاده فيظهرون هم في الصورة، أما الرب فيقول لهم في حب "من يكرمكم يكرمني"... الله يرسل السيدة العذراء، أو الملاك ميخائيل أو مارجرجس أو غيرهم من القديسين، فيعملون معجزات، ويمجدهم الناس، ويفرح الرب بأن أولاده يتمجدون... بل كثيرًا ما يقع إنسان في ضيقة، فيصرخ مستغيثًا "يا مارجرجس"، ويسمع الرب، فيرسل مارجرجس، فينقذه... أو ينذر إنسان نذرًا للعذراء... ويفرح الرب ويستجيب...
بل أن الكنائس وهي كنائس الله سمح أن تبني على أسماء أولاده. فنقول كنيسة العذراء، وكنيسة مارجرجس، وكنيسة الأنبا أنطونيوس، وكنيسة مارمرقس... وكلها بيوت للرب. ولكن الرب يفرح بأولاده...
بل حتى شريعة الرب ينسبها أيضًا لأولاده أحيانًا، فيقول:- "ناموس موسي" أو "شريعة موسى"، بينما هي شريعة الرب لا غيره. ويقول الرب للأبرص: "قدم القربان الذي أمر به موسي" (مت8: 4) ويقول أيضًا: "موسى من أجل قساوة قلوبكم أذِن لكم أن تطلقوا نساءكم" (مت19: 8)، بينما الذي أذن هو الله، والذي أمر هو الله. ولكن الله يرفع من شأن موسي، ويضع اسمه بدلًا من نفسه!...