17 - 09 - 2022, 02:01 PM | رقم المشاركة : ( 11 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
الذين يعطون تكلمنا عن القلب الحنون، الذي يعطف على الناس روحيًا. هذا القلب يعطف أيضًا ماديًا، وباستمرار يعطى.. وهذه هي شيمة الذين يعطون: يعطون بحب، وبسخاء وباستمرار، وبدون أن يطلب منهم.. وبراحة داخلية.. ما أجمل أن نشرك الله معنا في أموالنا، فيكون له نصيب منها. وما نعطيه لله، لا نحسبه جزءًا ضائعًا من مالنا، وإنما نحسبه بركة كبيرة لباقي المال. إذ أن الله عندما يأخذ من مالنا شيئًا، إنما يبارك هذا المال، فيزيد أكثر من الأصل بما لا يقاس. ويصبح مالًا مباركًا، ويعوضه الرب أضعافا من جهات أخرى. ونجد أننا بهذا العطاء قد زدنا ولم ننقص. وفى الواقع أننا لا نعطى الله من مالنا، بل من ماله هو.. إن كل شيء نملكه هو ملك لله، ونحن مجرد أمناء عليه، مجرد وكلاء لله في هذا المال الذي استودعنا إياه لكي ننفقه في الخير. حقًا، ما الذي نملكه نحن؟! نحن الذين قيل عنا إننا:"عراة جئنا إلى الأرض، وعراة نعود إلى هناك".. الله هو المالك الحقيقي لكل ما نملك. وما أصدق داود النبي حينما قال لله "من يدك أعطيناك".. وقد ظهر العطاء في التوراة في وصية العشور، حيث طلب الله من الناس أن يدفعوا العشور من كل ما يملكون. ولكن العشور لم تكن كل شيء في العطاء.. كانت هناك أيضًا البكور، والنذور، والتقدمات، والقرابين، والنوافل. وفي البكور كان الإنسان يعطي أوائل ثمار الأرض. أول حصيده يقدمه للرب، لكي يبارك الرب كل الحصاد. كما كان يقدم المولود البكر من كل حيواناته، حتى ابنه هو البكر، كان يقدمه لخدمة الرب، كما قال الرب في التوراة " قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم". ما أجمل أن نعطي البكور للرب: المرتب الأول الذي يتقاضاه الإنسان، والعلاوة الأولى وأول إيراد خاص يصل إليه. فمثلًا أجرة أول عملية يجريها الجراح يقدمها للرب وأول كشف للطبيب، وأول درس خصوصي للمدرس، وأول عمل يد للصانع. وهكذا يبارك الله كل أعمالنا لأنها بدأت به، وقدمنا أولى ثمارها له.. بل أن بكور الوقت نقدمها لله أيضًا.. الساعة الأولى في النهار نقدمها لله. أول كلمة ننطق بها كل يوم تكون كلمة موجهه إلي الله. أول عمل نعمله في يومنا يكون مختصًا بالله وعبادته. وبهذا يبارك الله يومنا ويقدسه وبنفس الوضع أول يوم في عامنا يكون يومًا للرب. وفي عطائنا لا يصح أن نحاسب الله بالدقة الحرفية. فإن دفعنا العشور مثلًا، لا يجوز أن نقول لله: "كفاك هذا! ليس لك شيء عندنا بعد!" كلا، إن العشور والبكور هي الحد الأدنى للعطاء، وأما العطاء فلا حدود له، أنه يختص بالقلب الحنون العطوف الذي يعطي عن حب مهما كانت قيمة العطاء، دون أن يحاسب الله على ما يعطيه.. ولقد جاءت المسيحية فرفعت العطاء عن مستوى العشور. وقالت: "من له ثوبان، فليعط الذي ليس له". ولم تكتف بهذا، بل تطورت إلي العطاء بغير حدود. فقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس: "مَنْ سألك فأعطه. ومَنْ طلب منك، فلا ترده". هكذا لم يقتصر العطاء على العشور والبكور والنذور.. بل بقى باب الكمال مفتوحًا لما هو أكثر من هذ . فعندما جاء الشاب الغني إلي السيد المسيح يستلهم منه معرفة الطريق الذي يوصله إلي الحياة الأبدية، أجابه بتلك الوصية الجميلة الخالدة.. "إن أردت أن تكون كاملًا، أذهب وبع كل مالك وأعطيه للفقراء، وتعال أتبعني". هذه الوصية، نفذها القديس انطونيوس حرفيًا وبها أسس الحياة الرهبانية فباع ثلاثمائة فدان كان يملكها من أجود الأطيان، ووزع ثمنها على الفقراء، وعاش حياة الزهد والنسك.. وسير القديسين تحكي لنا صور عجيبة للعطاء.. فالقديس الأنبا سرابيون الناسك، رأى رجلًا فقيرًا، وإذ لم يكن له ما يعطيه، باع إنجيله وأعطاه ثمنه. وفي ذلك الوقت لم تكن هناك مطبوعات، وكان الإنجيل مخطوطة ثمينة.. ثم مر بعد ذلك فرأى فقيرًا آخر. وإذ لم يكن له شيء أخر يعطيه، خلع ثوبه وأعطاه له. ورجع إلي مسكنه بلا ثوب ولا إنجيل. فلما سأله تلميذه: (أين إنجيلك يا أبي؟)، أجابه: (كان هذا الإنجيل يقول لي: "اذهب بع كل مالك وأعطيه للفقراء" فبعته لأنه كان كل ما لي).. فقال له تلميذه: (وأين ثوبك؟) فأجابه: (خلعته ليلبسه المسيح..). ولعل أجمل ما في العطاء، أن يعطى. الإنسان من أعوازه.. لأن الشخص الذي يعطى من أعوازه، إنما يفضل غيره على نفسه، بل يتعب لأجل إراحة غيره. وهذا هو منتهى الحب الذي فيه تزول الذاتية، وتحل في موضعها محبة الغير.. وقد مدح السيد المسيح الأرملة الفقيرة التي وضعت شيئًا ضئيلًا في الصندوق. وقال إنها أعطت أكثر من الجميع، لأنها أعطت وهي محتاجة.. إن القلب الحنون دائمًا يعطى. وإن لم يجد شيئًا يعطيه، فإنه يعطى كلمة حب.. و قد يوجد شخص يقترض لكي يعطى غيره. أو يطلب من الآخرين لكي يعطى للمحتاجين. ومن هنا نشأت الجمعيات الخيرية التي تجمع لتعطى.. ولكن أهم عطاء هو القلب ذاته. أعط الناس من قلبك، قبل أن تعطيهم من جيبك. أعطهم عاطفة، قبل أن تعطيهم مالًا. أظهر لهم أنك شخص محب، وليس مجرد شخص محسن.. والعطاء الخالي من الحب يكون عملًا اجتماعيًا أو إداريا، ولكنه ليس عملًا روحيًا. والقلب الحنون عندما يعطى، إنما يشعر أنه يتعامل مع الله ذاته: من مال الله، يعطى عيال الله، دون أن يشعر بأي فضل من جهته. هذا القلب العطوف يعطى للكل.. لا يقتصر على الأصدقاء والأحباء، وذوى القربى، وبنى جنسه، وأخوته في الدين والمذهب. كلا، بل يضع أمام عينيه أن يريح الكل، ويشفق على الكل. وبهذا يكسب الكل، ويحيط نفسه بجو من المحبة. والقلب العطوف يعطى دون أن يطلب منه. هو دائم التفكير في احتياجات الناس، دون أن يقولوا له. يريد أن يريح الناس، يريد أن يسعدهم. وأن وضعت في يده مسئولية، يستخدمها لراحة الناس. وإن وهبه الله ثروة أو سلطة أو أية إمكانية، فإنه يستخدمها لأجل راحة الناس، كل الناس. والقلب العطوف لا يستطيع أن ينام، إن سمع أن هناك شخصًا متعبًا أو محتاجًا. بل يظل يفكر ماذا يفعل لأجله. لذلك كان من المستحيل على مثل هذا القلب أن يؤذى أحدًا، لأنه يتألم لآلام الناس، أكثر من تألمهم هم. |
||||
17 - 09 - 2022, 02:03 PM | رقم المشاركة : ( 12 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
القلب المطمئن المملوء بالسلام ما أعمق القلب الذي يعيش في سلام داخلي، يملك الهدوء عليه، وكل ضيقات العالم لا تزعجه. إنه يستمد سلامه من الداخل، وليس من الظروف المحيطة.. لذلك فإن الظروف الخارجية لا تزعزعه. حقاً، إنه ليس من صالح الإنسان أن يجعل سلامه يتوقف على سبب خارجى: إن اضطربت الأحوال يضطرب معها، وإن هدأت يهدأ. سبب خارجى يجعله يثور، وسبب يجعله يفرح، وسبب يبكيه، وسبب يبهجه.. مثل هذا يكون كما قال الشاعر: كريشه في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق الرجل القوى يجعل الظروف الخارجية تخضع لمشاعره، تخضع لقوة قلبه، ولحن تحكمه في انفعالاته. ولا يخضع هو لها.. إن حدث حادث معين، يتناوله في هدوء، يفحصه بفكر مستقر، ويبحث عن حل له. كل ذلك وهو متمالك لأعصابه، متحكم في انفعالاته. وبهذا ينتصر، ويكون أقوى من الأحداث، ويحتفظ بسلامه الداخلى.. وذلك لأن قلبه كان أكبر من الظروف وأقوى من الأحداث.. وما أصدق ذلك الكاتب الروحى الذي قال: إن قطعة من الطين يمكنها أن تعكر كوباً من الماء، ولكنها لا تستطيع أن تعكر المحيط.. يأخذها المحيط، ويفرشها في أعماقه، ويقدم لك ماء رائقاً.. لذلك أيها القارئ العزيز، كن واسع القلب. كن رحب الصدر. كن عميقاً في داخلك. قل لنفسك في ثقة: أنا لا يمكن أن أضعف، ولا يمكن أن تنهار معنوياتى أمام الأخبار المثيرة، أو أمام الضغطات الخارجية. مهما حدث، فسأحاول أنى لا أنفعل. وإن انفعلت، سأحاول أن أسيطر على انفعالاتى.. سأبتسم للضيقات، وسأكون بشوشاً أمام الضغطات.. وسأثبت -بقوة من الله- حتى تمر العاصفة. لا تفكر في الضيقة التي أصابتك، ولا في أضرارها ومتاعبها. بل فكر في إيجاد حل لها. إن كثرة التفكير في الضيقة هي التي تحطم الأعصاب وتتعب النفس أحياناً يكون التفكير في الضيقة أشد إيلاماً للنفس من الضيقة ذاتها. إن التفكير في الضيقات هو الذي يجلب الأحزان والأمراض والهم والفكر. وهو لون من الانهيار ومن الخضوع تحت ثقل الضيقة. أما التفكير في إيجاد حل للضيقة، فهو الذي يعمل على سلام النفس وراحتها. ضع في نفسك أن كل ضيقة لها حل.. وكل ضيقة لها مدى زمنى معين تنتهى فيه. فكر في حل لضيقتك، فإن وصلت إليه تستريح. وإن لم تصل، ثق بروح الإيمان أن الله هذه حلول كثيرة، وأنه – تبارك اسمه – قادر أن يعينك وأن يحل جميع إشكالاتك. وتذكر ضيقات سابقة قد حلها الله، ومرت بسلام. واحذر من أن يوقعك الشيطان في اليأس، أو أن يصور لك الأمر معقداً لا حل له.. فإن الإنسان المؤمن لا ييأس. المؤمن يعرف أن الله موجود، وانه إله رحيم، ورحمته غير محدودة، وهو ضابط الكل، والعالم كله في قبضة يديه.. وان الله يدبر كل شيء حسناً، ولا بد أنه سيتدخل ويعمل عملاً.. لذلك فإن المؤمن يستريح في أعماقه، ويلقى على الرب كل همه، ويستودعه جميع أشكالاته.. أما الذي يستسلم لليأس، فإنه يضيع نفسه. وقد يتصرف في يأسه أى تصرف خاطئ يكون أكثر ضراراً من المشكلة القائمة نفسها. مثال ذلك الذي ييأس من مشاكل الحياة فينتحر.. أو مثال تلك الفتاة التي تخطئ، وتيأس من إيجاد حل لمشكلتها، فتستسلم للخطيئة وتضيع.. إن القلب القوى لا يستسلم للضيقات، والقلب الأقوى لا يشعر بالضيقة، لأنها لم تضايقه. وأتذكر أننى قلت في إحدى المرات: إن الضيقة قد سميت ضيقة لأن القلب قد ضاق عن أن يتسع لها. ولو كان القلب متسعاً، ما شعر أنها ضيقة. لو كان متسعاً، ما تضايق منها.. الضيق إذن قلا قلوبنا، وليس في العوامل الخارجية.. وإن تعكرنا نحن، تبدو أمامنا كل الأمور متعكرة وإن تعبنا في الداخل، تبدو أمامنا كل الأمور متعبة.. أليس حقاً أن أمراً من الأمور قد يضايق إنساناً ما، وفى نفس الوقت لا يتضايق منه إنسان آخر، هو نفس الأمر.. ليس المهم إذن في نوع الأحداث التي تحدث لنا، بل المهم بالأكثر هو الطريقة التي نتقبل بها الأحداث ونتصرف معها. الإنسان القوى الذي يصمد أمام الاشكالات، يزداد قوة. والإنسان الضعيف الذي ينهار أمامها، يزداد ضعفاً. فالاشكالات، يزداد قوة. والإنسان الضعيف الذي ينهار أمامها، يزداد ضعفاً. فالاشكالات هي نفس الاشكالات.. ولكنها تقوى شخصاً وتزيده صلابة ومراساً وحنكة، وتضعف شخصاً أخر، وتزيده إنهياراً وخوراً وحزناً. لذلك كونوا أقوياء من الداخل، وخذوا من الضيقات ما فيها من بركة، وليس ما فيها من ألم.. لقد سمح الله بالضيقات من أجل فائدتنا ونفعنا. وفى ذلك قال القديس يعقوب الرسول: "احسبوه كل فرح يا اخوتى حينما تقعون في تجارب متنوعة". إن المؤمن يشعر أن الله قد سمح له بالضيقة من أجل نفعه، لذلك يفرح بالضيقة. وبهذا يقدم لنا الكتاب درجة روحية أعلى من احتمال الضيقات، وهى الفرح بالضيقات.. إن المسألة تحتاج إلى إيمان. لأنك ربما الضيقة فقط ولا ترى الخير الإلهى الكامن فيها.. إن هذا الخير لا تراه بالعين المادية، ولكنك تراه بالأيمان، بثقتك في عمل الله المحب وحسن رعايته.. مثال ذلك يوسف الصديق: أحاطت به التجارب والضيقات حتى اتهم اتهامات باطلة والقى في السجن. ولكن السجن كان طريقة إلى الملك إن أهل العالم قد تزعجهم التجارب، أما الإنسان المؤمن فهو ليس كذلك. إن المتاعب قد تحيط به من الخارج، ولكنها لا تدخل مطلقاً إلى داخل نفسه.. إنه كالسفينة الكبيرة التي تمخر عباب المحيط، تضطرب الأمواج حولها، وهى سائر في رصانة نحو هدفها، طلما أن المياه أن تنفذ إلى داخلها..!! احذروا أيها الأحباء من أن تدخل المياه إلى أنفسكم. واعلموا في كل ضيقة أن التجارب التي يسمح بها الله، لها شروط منها: 1- انها على قدر احتمالكم، 2- وأيضا كل تجربة معها المنفذ 3- وانها لابد تؤول إلى نفعكم، إن أحسنتم استخدامها. إن الله في محبته للبشر، لا يسمح أن تحل تجربة بإنسان يكون احتمالها أكثر من طاقته. كل التجارب التي يسمح بها الله هي في حدود احتمالنا. والتجارب القوية، لا يسمح بها الله إلا للناس الأقوياء الذين يحتملونها..ما أجمل قول الكتاب: "ولكن الله أمين، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة ايضاً المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوها " (1 كو 1. : 13). 4- والتجارب هي مدرسة للصلاة.. إنها تدرب الإنسان كيف يحنى ركبتيه أمام الله، وكيف يرفع قلبه قبل أن يرفع يديه، طالباً العون من الله، الذي هو معين من لا معين له ورجاء من لا رجاء له عزاء صغيرى القلوب، وميناء الذين في العاصف |
||||
17 - 09 - 2022, 02:05 PM | رقم المشاركة : ( 13 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
جحيم الرغبات أيُّها القارئ العزيز، لتكن رغبتك الأولى والعُظمى هى الحياة مع اللَّه. أمَّا باقي الرغبات فلتكن داخل هذه الرغبة العُظمى. واحذر من أن تعيش في جحيم الرغبات العالمية التي تستعبد مَن يخضع لها أو يسعى إليها. بحث أحد الحكماء في أسباب السعادة والشقاء. فوصل إلى حقيقة عميقة في فهمها وهى: إن أهم سبب للشقاء هو وجود رغبة لم تتحقق: فقد يعيش الإنسان فقيراً. ويكون سعيداً في نفس الوقت. ولكن إن دخلت إلى قلبه رغبة في الغنى ولم تتحقق، حينئذ يتعب ويشقى. وأيضاً قد يكون الإنسان مريضاً وراضياً شاكراً، يُقابل الناس في بشاشة وابتهاج، لا يشقيه المرض. ولكن المريض الذي تدخل في قلبه رغبة في الشفاء ولم تتحقق فهذا بلا شك يتعب في رغبته. إن رحلة الرغبات داخل القلب تتعبه وتضنيه، وترهقه وتُشقيه: إنه يشتاق، ويشقى في إشتياقه. يريد ويُجاهد ويتعب لكي يصل. ويلتمس الوسائل، فيُفكِّر ويُقابل ويكتب ويشكو، ويروح ويجيء، ويسعى ويتعب في سعيه. وقد ينتظر طويلاً متى تتحق الرغبة، ويشقى في انتظاره. يصبر ويضيق صدره، ويمل ويضجر. ويدركه القلق حيناً، واليأس حيناً آخر. أو قد يتعبه الخوف من عدم الوصول إلى نتيجة. ورُبَّما يتعب من طياشة الفكر ومن أحلام اليقظة، أو من أن رغباته مُجرَّد آمال، مجرد قصور في الهواء، لا يراها إلا إذا أغمض عينيه! وقد ينتهي سعيه وتعبه إلى لا شيء. ويُحرم من رغبته التي يود تحقيقها، فيشقى بالحرمان. وأخطر من هذا كله، فإن آماله وأغراضه قد تجنح به عن طريق الصواب. فتقوده إلى الخِداع، أو اللف والدوران، أو التذلُّف والتملق، أو الكذب أو الرياء، أو ما هو أبشع من كل هذا. وقد صدق أحد الحكماء حينما قال: " لابد أن ينحدر المرء يوماً إلى النفاق، إن كان في قلبه شيء يود أن يخفيه ". والعجيب في هذه الرغبات الأرضية، أنها تُشقي الإنسان حتى إن تحققت! ذلك لأنها لا تقف عند حدٍّ ... فقد يعيش الأنسان في جحيم الرغبات زمناً. حتى إذا ما تحققت له رغبة، وفرح بها وقت ما، ما تلبس أن تقوده إلى رغبة أخرى، إلى خطوة أخرى في طريق الرغبات الذي لا ينتهي! إن الرغبات عندما تتحقق يلتذ بها، وتقوده اللذة إلى طلب المزيد. وللوصول إلى هذا المزيد، قد يجره إلى تعب جديد ... ويكون كمَن يشرب من ماء مالح، كُلَّما شرب منه يزداد عطشاً. وكُلَّما يزداد عطشاً يزداد اشتياقاً إلى الماء، في حلقة مفرغة لا يستريح فيها ولا يهدأ. صاحب الرغبة يعيش في رُعب: إمَّا خوفاً من عدم تحقق رغبته. أو خوفاً من ضياعها إن كانت قد تحقَّقت. ومن القصص اللطيفة في هذا المجال: أن رجلاً فقيراً لا يملُك شيئاً على الإطلاق، كان يعيش في منتهى السعادة. يضحك ملء فمه، ويُغنِّي من عُمق قلبه. وفي إحدى المرات رآه أحد الأمراء وأعجب به. فمنحه كيساً من الذهب. فأخذ الرجل الفقير كيس الذهب إلى بيته. وبدأت الآمال والرغبات تدخل إلى قلبه: أية سعادة سيبنيها بهذا المال! ثم لم يلبث الخوف أن ملك عليه، لئلا يسرق أحد منه هذا الذهب قبل أن يبني سعادته به. فقام وخبأ الكيس وجلس مفكَّراً. ثم قام وغيَّر المكان الذي أخفاه فيه. ثم حاول أن ينام ولم يستطع. وقام ليطمئن على الذهب... وفي تلك الليلة فقد سلامه. حتى قال لنفسه: " أقوم وأُعيد هذا الذهب إلى الأمير، وأنام سعيداً كما كنت ". إن الإنسان قد يُقاد من رغباته. ورغباته تُمثِّل نقطة ضعف فيه، يقوده الناس منها ... وما أشقى الإنسان الذي تكون رغباته في أيدي الناس، في حوزتهم أو في سلطانهم أو في إرادتهم! وبإمكانهم أن يُحقِّقوها له. وبإمكانهم أن يحرموه منها. لذلك يعيش عبداً للناس. تتوقف سعادته على رضاهم. لقد عاش النُّسَّاك في سعادة، زاهدين لا تتعبهم الرغبات ... هؤلاء قد ارتفعوا فوق مستوى الرغبات الأرضية. ولم تعُد لهم سوى رغبة واحدة مقدسة هى الحياة مع اللَّه والتَّمتُّع بعشرته. وهذه لا يستطيع أحد من الناس أن يحرمهم منها. وهكذا فإن سعادة الناسك الزاهد تنبع من داخله، من قلبه، من إحساسه بوجود اللَّه معه. وإذ تنبع سعادته من داخله، لا تصير تلك السعادة رهناً للظروف الخارجية، كما لا يتحكَّم الناس فيها. حقاً أي شيء في العالم يُمكن أن تتعلَّق به رغبات الروحيين؟! لا شيء ... فليس في العالم سوى المادة والماديات، ومشتهيات الجسد والنفس ... أمَّا رغباتهم هم فتتعلَّق باللَّه وسمائه وبعالمالروح. لذلك ليس في العالم شيء يشتهونه. لو كان الذي يشتهونه في هذه الأرض، لتحولت الأرض إلى سماء. إن الروحيين أعلى من رغبات العالم وأسمى. العالم لا يعطيهم بل هم بركة للعالم. وبسببهم يرضى اللَّه على الأرض. إنهم نور للعالم يُبدِّد ظلماته. وهم بهجة للأرض ونعمة ... هؤلاء لا يعيشون مُطلقاً في جحيم الرغبات الأرضية. ولقد تأملت في حياتي أحد هؤلاء الزاهدين المرتفعين عن مستوى الرغبات الأرضية، فناجيته بآبيات من الشعر قُلت فيها: كل ما حولك صمت وسكون وهدوء يكشف السر المصون هل ترى العالم إلاَّ تافهاً يشتهي المتعة فيه التافهون نعم ما أجمل أن يعيش الإنسان سعيداً باللَّه. يمكن أن تكون له رغبات داخل محبة اللَّه. ولكن لا يُمكن أن تستعبده الرغبات. تكون الرغبات مُفتاحاً في يده، ولا تكون أغلالاً في يديههل ترى الآمال إلاَّ مجمراً يتلظَّى بلظاه الآملون لست منهم. هُم جسوم بينما أنت روح فر من تلك السجون |
||||
17 - 09 - 2022, 02:08 PM | رقم المشاركة : ( 14 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
البابا شنودة الثالث - يعيش خارج نفسهإن نفسك أمانة في عنقك. ستقدم عنها حسابًا في اليوم الأخير. فاهتم بنفسك، واهتم بأبديتك، وحاذر من أن تعيش حياتك خارج نفسك. فما أقسى أن يعيش الإنسان خارج نفسه. هل فكرت أيها القارئ العزيز في أبديتك؟ أعنى في مصيرك الأبدي، في المكان الذي ستستقر فيه أخيرًا بعد رحلة هذا العمر؟ إنه سؤال خطير ينبغي أن تفكر فيه، وأن تعد حياتك كلها من أجله.. إن لك نفسًا واحدة إن ربحتها، ربحت كل شيء وإن خسرتها خسرت كل شيء. ففكر في مصير هذه النفس، التي لا يوجد في هذا العالم كله ما هو أثمن منها. وفي ذلك قال السيد المسيح: "ماذا يستفيد الإنسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! " إن الشيطان مستعد أن يعطيك كل شيء، في مقابل أن يربح نفسك له.. هو مستعد أن يعطيك الغنى والشهرة والمجد واللذة، في مقابل أن يأخذ منك نفسك.. وكثير من الناس تغريهم أمثال هذه الأمور، فينسون أنفسهم.. كثير من الناس تغريهم أمور العالم الحاضر، حتى يصبح التفكير في الأبدية أمرًا ثقيلًا عليهم! تراهم يهربون من هذا الموضوع، ولا يحبون التحدث فيه، لأنه يزعج بهجتهم، ويعطل تمتعهم بالحياة.. ومع ذلك فهذا الموضوع حقيقة قائمة، الهرب منها لا يمنع وجودها.. والشيطان مستعد أن يشغل الإنسان بأي شيء، على شرط ألا يفكر في أبديته، وألا ينشغل بخلاص نفسه.. والشيطان مستعد أن يشغل الإنسان بأي شيء، لكي لا يضع أمام عينيه ذلك اليوم الرهيب الذي يقف فيه أمام منبر الله العادل، ليعطى حسابًا عما فعله في هذه الحياة الدنيا. نعم ذلك اليوم الرهيب، الذي تفتح فيه الأسفار، وتكشف الأعمال، وتعلن الأفكار والنيات.. ما أكثر المشغولين عن نفوسهم بأمور أخرى، لذلك هم يعيشون خارج نفوسهم.. قد جرفهم العالم بكل مشاغله ومشاكله، وبكل شهواته ونزواته، وبكل أخباره وأفكاره.. وإن فكروا في نفوسهم، فإنما يفكرون من حيث ارتباطها بأمور العالم، وليس من حيث ارتباطها بالأبدية..! آمالهم وأحلامهم مركزة هنا، في هذا التراب، في أمجاد هذا العالم الزائل الذي قال عنه الكتاب إن "العالم يبيد، وشهوته معه". ويندر أن يفكر أحد منهم في العالم الآخر، في أمجاد السماء، في ذلك النعيم الأبدي الذي قال عنه بولس الرسول: "ما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر ما أعده الله لمحبي اسمه القدوس".. إننا نعيش في عالم مشغول.. عن خلاص نفسه.. ليس لديه وقت للتفكير في مصيره عالم تجرفه دوامة عنيفة في أبعاد سحيقة، خارج نفسه.. لذلك حسن قال الكتاب عن الابن الضال الذي تاب أخيرًا، إنه " رجع إلى نفسه".. لقد نجح الشيطان في أن يشغلنا جميعًا، حتى لا يبقى لنا وقت للتفكير في أبديتنا.. بل إن استطاع واحد منا أن يهرب من مشغوليات العالم، لكي ينشغل بالله وحده، بأن يهدأ في البرية عابدًا ناسكًا مصليًا، مهتمًا بخلاص نفسه، مناجيًا الله طوال ليله ونهاره، مرتفعًا عن تفاهات العالم وأباطيله، نرى الشيطان يتهكم عليه ويقول: انظروا هذا الهارب من العالم!! هذا الخائف العاجز!! أية رسالة له؟ وأية منفعة؟! إن هدف الشيطان واضح: يريد أن يشغل هذا العابد أيضًا، أو هذا المصلى، حتى يرجع إلى مشاكل العالم ومشاغله..! إن الشيطان يعدل خططه وأساليبه طبقًا للظروف ومقتضيات الحال.. كان يقنع الناس في القديم بأن الله هو تلك الأصنام والأوثان.. فلما فشل في ذلك الأمر، قدم للبشر فلسفات مضلة.. فلما فشلت تلك أيضًا، قدم لهم الشهوات واللذة حتى يغريهم بعيدًا عن الله.. فإن تنبه الناس لإغراءاته، يقدم لهم شيئًا آخر هو المشغولية الدائمة.. إنه لا يهمه نوع السلاح الذي يحارب به.. إنما المهم عنده أن يربح على كل حال قومًا.. فقد يحارب بهذا السلاح أو ذاك، أو بكل تلك الأسلحة جميعها، لكي يصل إلى هدف واحد، وهو أن ينفرد بالإنسان، بعيدًا عن الله، في متاهة.. خارج نفسه.. و إن اتجه الإنسان نحو الصلاح والخير، وعجز الشيطان عن إبعاده، يحاول حينئذ أن يجعل سعى الإنسان للخير خارج نفسه!.. فيدعو الناس للخير، دون أن يهتم بالسلوك فيه. يكون كما قال أحد الآباء، كمن يشبه أجراس الكنائس، التي تدعو الناس إلى دخول الهياكل دون أن تدخل هي إليها.. أو كما قال أحد الاقتصاديين: يكون الخير عنده للتصدير الخارجي، وليس للاستهلاك المحلى..! هذا الإنسان يتصل بالخير عن طريق المعرفة، وليس عن طريق الممارسة. إنه يتحمس للخير لكي يسير فيه الناس، لا لكي يسير هو فيه. إنه يشبه ذلك الرجل الذي بكته الشاعر بقوله يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذوى الضعفى كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم من أجل هذا الإنسان قال السيد المسيح له المجد: "أخرج أولًا الخشبة من عينك، قبل أن تخرج القذى من عين أخيك"..إن كثيرين يهتمون بأخطاء غيرهم، دون أن يهتموا بأخطاء أنفسهم. يتحمسون في مناقشة أخطاء الغير، كأنهم بلا أخطاء! يتأثرون بأخطاء الغير ويثورون عليها، كأنهم هم الذين سيحاسبون عليها في اليوم الأخير..! وأما أخطاؤهم هم فلا يبصرونها.. هم أمام أنفسهم ولا يصلحون لذلك، لأنهم يعيشون خارج أنفسهم! بل أن أخطاءهم ينسبونها إلى غيرهم، كما قال الشاعر: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا أيها القارئ الكريم، اهتم بنفسك.. وقبل أن تفكر في أخطاء غيرك، جاهد لكي تصلح أخطاءك..وقبل أن تطبق المثاليات على غيرك من الناس، طبقها على نفسك أولًا. وبدلًا من أن تكون واعظًا لسواك، كن عظة، كن قدوة، كن درسًا عمليًا، كن نموذجًا.. ولكن حاذر من أن تفعل الخير لكي تكون قدوة، وإلا عشت خارج نفسك. وإنما افعل الخير من أجل نفسك، لكي تكون نقيًا ومقبولًا أمام الله ومحبًا له.. وإن كنت قد عشت هذا الزمان كله خارج نفسك، ادخل الآن إليها، واكتشف خباياها، وأصلحها.. ولا تنشغل بأخطاء الناس، أو ما تظنها أخطاء، فربما تكون ظالمًا في ظنك.. ضع أمامك ذلك المثل المشهور الذي يقول: " من كان بيته من زجاج، لا يقذف الناس بالحجارة". |
||||
17 - 09 - 2022, 02:11 PM | رقم المشاركة : ( 15 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
المحبة هي قمة الفضائل المحبة هي الفضيلة الأولى بل هي جماع الفضائل كلها. وعندما سئل السيدالمسيح عن الوصية العظمى في الناموس، قال إنها المحبة" تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك.. وتحب قريبك كنفسك" " وبهذا يتعلق الناموس كله والأنبياء". وقد جاء السيدالمسيح إلى العالم لكي ينشرالمحبة،المحبةالباذلةالمعطية،محبةاللهللناس،ومحب ةالناسلله،ومحبةالناس بعضهم لبعض. وهكذا قال لرسله القديسين: "بهذا يعلم الجميع أنكم تلاميذى، إن كان فيكم حب بعضكم نحو بعض".. وبهذا علمنا أن نحب الله، ونحب الخير.. ونطيع الله من أجل محبتنا له، ومحبتنا لوصاياه.. تربطنا بالله علاقة الحب، لا علاقة الخوف. إن الخوف يربى عبيدًا، أما الحب فيربى الأبناء، وقد نبدأ علاقتنا مع الله بالمخافة ولكنها يجب أن تسمو وتتطور حتى تصل إلى درجة الحب، وعندئذ يزول الخوف. وفى إحدى المرات قال القديس العظيم الأنبا انطونيوس لتلاميذه: (يا أولادي، أنا لا أخاف الله). فلما تعجبوا قائلين: (هذا الكلام صعب يا أبانا)، حينئذ أجابهم القديس بقوله: (ذلك لأنني أحبه، والحب يطرح الخوف إلى خارج). والإنسان الذي يصل إلى محبة الله، لا تقوى عليه الخطية. يحاربه الشياطين من الخارج، وتتحطم كل سهامهم على صخرة محبته. وقد قال الكتاب: "المحبة لا تسقط أبدًا". وقال سليمان الحكيم في سفر النشيد: "المحبة قوية كالموت.. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة". ولذلك قال القديس أوغسطينوس: (أحبب، وأفعل بعد ذلك ما تشاء).. وقد بلغ من أهمية المحبة أنها سارت اسمًا لله. فقد قيل في الكتاب المقدس: "الله محبه، من يثبت في الله، والله فيه".. إن المحبة هي قمة الفضائل جميعًا. هي أفضل من العلم، وأفضل جميع المواهب الروحية، وأفضل من الإيمان ومن الرجاء.. ولهذا قال بولس الرسول: إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة، ولكن ليس لي محبة، فقد صرت نحاسًا يطن أو صنجًا يرن، وإن كانت لي نبوءة، وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، وليست لي محبة، فلست شيئًا". " العلم ينفخ، والمحبة تبنى". إن الدين ليس ممارسات ولا شكليات ولا فروضًا، ولكنه حب.. وعلى قدر ما في قلب الإنسان من حب لله وحب للناس وحب للخير، هكذا يكون جزاؤه في اليوم الأخير.. إن الله لا تهمه أعمال الخير التي يفعلها الناس، إنما يهمه ما يوجد في تلك الأعمال من حب للخير ومن حب لله.. فهناك أشخاص يفعلون الخير ظاهرًا وليس من قلوبهم، وهناك أشخاص يفعلون الخير مجبرين من آخرين، أو بحكم القانون، أو خوفًا من الانتقام، أو خوفًا من العار، أو خجلًا من الناس.. وهناك أشخاص يفعلون الخير من أجل مجد ينالونه من الناس في صورة مديح أو إعجاب.. كل هؤلاء لا ينالون أجرًا إلا إن كان الحب هو دافعهم إلى الخير.. لذلك ينبغي أن نخطط بكل فضيلة بالحب، ونعالج كل أمر بالحب، يكون الحب دافعنا، ويكون الحب وسيلتنا، ويكون الحب غايتنا ). ونضع أمامنا قول الكتاب: "لتصر كل أموركم في محبة". + تدخل الحب في كل الفضائل: كما ينبغي أن يدخل الاتضاع في كل فضيلة لكي يحفظها من الزهو والخيلاء والمجد الباطل، كذلك ينبغي أن يدخل الحب في كل فضيلة لكي يعطيها عمقًا ومعنى وحرارة روحية.. ولنضرب لذلك بضعة أمثلة.. الصلاة مثلًا، هل هي مجرد حديث مع الله؟ إنها أكبر من ذلك، إنها اشتياق القلب لله، وهى تعبير عن الحب الداخلي.. لذلك قال داود النبي في مزاميره: "يا الله أنت إلهي، عطشت نفسي إليك التحقت نفسي وراءك.. كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه، كذلك اشتاقت نفسي إليك يا الله.. محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي". "وجدت كلامك كالشهد فأكلته".. والذهاب إلى بيت الله، أهو نوع من العبادة، أم هو أيضًا حب؟ نسأل في هذا داود النبي، فيقول في مزاميره: "مساكنك محبوبة، أيها الرب إله القوات. تشتاق وتذوب نفسي للدخول إلى ديار الرب". "فرحت بالقائلين لي: إلى بيت الرب نذهب".. "واحدة طلبت من الرب، وإياها التمس، أن أسكن في بيت الرب كل أيام حياتي..". ليست الصلاة فقط هي علاقة حب، ولا الذهاب إلى بيت الله فحسب، وإنما العبادة كلها.. إن العبادة ليست هي حركة الشفتين بل القلب، إنها حركة القلب نحو الله. إنها استبدال شهوة بشهوة: ترك لشهوة العالم، من أجل التعلق بشهوة الله.. كذلك خدمة الله، والسعي لخلاص أنفس الناس.. كلها أعمال حب.. الخادم هو الإنسان الذي يحب الناس، ويهتم بمصيرهم الأبدي، ويسعى إلى خلاص نفوسهم. إنه كالشمعة التي تذوب لكي تضئ للآخرين، يقول مع بولس الرسول: "وددت لو أكون أنا نفسي مرفوضًا، من أجل أخوتي وأنسبائي حسب الجسد".. "من يفتر وأنا لا ألتهب؟!". لذلك كل إنسان يخدم الله، عليه أن يتعلم الحب أولًا، قبل أن يخدم الناس.. فالناس يحتاجون إلى قلب واسع، يحس إحساسهم، ويشعر بهم ويتألم لآلامهم، ويفرح لأفراحهم، ويحتمل ضعفاتهم، ولا يحتقر سقطاتهم، بل أيضًا يحتاجون إلى قلب يحتمل جحودهم وصدودهم وعدم اكتراثهم. وبالحب نستطيع أن نربح الناس.. والإنسان الذي يعيش بالحب، عليه أن يحب الكل. إن القلب الضيق هو الذي يحب محبته فقط، أما القلب الواسع فيحب الجميع حتى أعداءه. ولهذا قال السيدالمسيح له المجد: "أحبو أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وأعطانا مثلًا وقدوة من الله نفسه الذي: "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين". لذلك علينا أن نحب الكل، ولا نضيق بأحد ونأخذ درسًا حتى من الطبيعة.. نتعلم من النهر الذي يعطى ماءه للكل، يشرب منه القديس، كما يشرب منه الخاطئ.. انظروا إلى الوردة كيف تعطى عبيرها لكل من يعبر بها، يتمتع برائحتها البار والفاسق، حتى الذي يقطفها، ويفركها بين يديه، تظل تمنحه عطرها حتى آخر لحظة من حياتها.. ليتنا نعيش معًا بالحب، وأقصد به الحب العملي، كما قال الكتاب: "لا نحب باللسان ولا بالكلام، بل بالعمل والحق".. لأن كثيرين قد يتحدثون عن الحب، وأعمالهم تكذبهم، هؤلاء الذين وبخهم الله بقوله: "هذا الشعب يعبدني بشفتيه، أما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا".. وأهم ما في الحب هو البذل، وأعظم ما في البذل هو بذل الذات.. لذلك قال السيدالمسيح: "ليس حب أعظم من هذا، أن يبذل أحد نفسه عن أحبائه". فلنحب الناس جميعًا، لأن القلب الخالي من الحب، هو خال من عمل الله فيه، هو قلب لا يسكنه الله. وإن لم نستطع أن نحب إيجابيًا فعلى الأقل لا نكره أحدًا. فالقلب الذي توجد فيه الكراهية والحقد هو مسكن للشيطان.. إن لم نستطع أن نحب الناس، فعلى الأقل لا نكرههم، وإن لم نستطع أن ننفع الناس، فعلى الأقل لا نؤذيهم.. فليعطنا الله محب البشر، الذي أحب الكل في عمق، أن نحب بعضنا بعضًا، بالمحبة التي يسكبها الله في قلوبنا، له المجد الدائم إلى الأبد. آمين |
||||
17 - 09 - 2022, 02:13 PM | رقم المشاركة : ( 16 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
البابا شنودة الثالث - كيف تحب الناس ويحبك الناس؟ هناك قواعد هامة، عليك أن تتبعها لكي تكسب محبة الناس، ونحاول هنا أن نعرض لبعض منها. 1- ضع هدفًا واضحًا أمامك، أن تكسب محبة الناس، حتى لو أدى الأمر أن تضحى في سبيل ذلك.. هناك أشخاص يهمهم ذواتهم فقط، ولا يهتمون بالآخرين. لا يبالون إن غضب فلان أو رضى. أما أنت فاحرص على شعور كل أحد، وحاول أن تكسب كل أحد، لأن الكتاب يقول: "رابح النفوس حكيم". وإن عرفت أن واحدًا من الناس متضايق منك، فلا يهدأ قلبك حتى ترضيه. اجعل كل أحد يحبك، وكما قال الكتاب: "أن استطعتم فعلى قدر طاقتكم سالموا جميع الناس". لذلك قدم للناس محبتك، واكتسب محبتهم، واعتبر أن محبة الناس كنز ثمين يجب أن تحرص عليه. 2- وفي سبيل محبة الناس، احترم كل أحد، حتى من هو أصغر منك وأقل شأنًا. كثير من الناس يحترمون من هم أكبر منهم أو من هم أعظم مركزًا، ولكنهم يتجاهلون من هم أقل منهم، وبهذا يخسرون الكثير. أما أنت فتدرب على احترام الكل وتوقير الكل. لا تقل كلمة فيها إقلال من شأن أحد، أو جرح لشعور إنسان. ولا تعامل أحدًا باستصغار أو باحتقار، ولا تتجاهل أحدًا مهما كان مجهولًا. درب نفسك على عبارات تقدير وتوقير بالنسبة إلى أولادك أو أخوتك الصغار أو مرؤوسيك أو خدمك.. واعلم أن أمثال هذه العبارات سوف لا تنسى، سيتذكرها أولئك الصغار طول العمر، وسترفع من روحهم المعنوية، وستجعلهم يحبونك. إن كثيرًا من الكبار ينسون احترامك لهم لأنه شيء عادى بالنسبة إليهم. أما الصغار فلا ينسون. احترامك لهم عمل باق لا يضيع. واعرف أن الله لا يحتقرنا على الرغم من الفارق اللانهائي بين عظمته وضآلتنا، والله مع ذلك يتنازل ويكلمنا، ويتضع مستمعًا إلينا ساعيًا لخلاص أنفسنا. 3- لذلك فإن تواضعك للناس هو عامل هام في كسب محبتهم لك. لا تكلم أحدًا من فوق، ولا تتعال على أحد، بل عامل الكل باتضاع، فإن الناس يحبون المتضعين. إن كان لك مركز كبير، إنس مركزك، وعش مع الناس كواحد منهم. لا تشعرهم بفارق.. في إحدى المرات سألني أحد الآباء نصيحة، فقلت له: (كن ابنًا وسط أخوتك، وكن أخًا وسط أبنائك) ذلك لأن الاتضاع يستطيع أن يفتح حتى القلوب المغلقة والناس قد يخافون من هو عال وكبير بينهم، ولكنهم يحبون من ينسي مركزه في محبتهم. أكتسب أذن محبة الناس لك لا خوفهم منك. ولا يكن هدفك أن يهابك الناس وإنما أن يحبوك. لا تطلب أن تكون فوق رؤوسهم، وإنما أطلب أن تكون داخل قلوبهم. ولا تظن أن تواضعك للناس، يقلل من شأنك، بل على العكس إنه يرفعك أكثر.. تذكر قول الشيخ الروحاني: (في كل موضع حللت فيه، كن صغير أخوتك وخديمهم).. وقد قال السيد المسيح: "من وضع نفسه يرتفع، ومن رفع نفسه يتضع".. وما أجمل تلك النصيحة التي وجهها الشيوخ الحكماء لرحبعام الملك ابن سليمان الحكيم حينما قالوا له: "إن صرت اليوم عبدًا لهذا الشعب، وأحببتهم وخدمتهم، يكونوا لك عبيدًا كل الأيام".. 4- إن أردت أن يحبك الناس، اخدمهم، وساعدهم، وابذل نفسك عنهم.. أشعرهم بمحبتك بما تقدمه لهم من معونة ومن عطاء ومن بذل. أن الذين يحبون ذواتهم، يريدون باستمرار أن يأخذوا وأن ينالوا وأن يكسبوا. أما أنت فلا تكن كذلك. درب نفسك على البذل والعطاء. لتكن علاقتك بالناس تهدف إلى مصلحتهم هم لا إلى مصلحتك أنت. انظر كيف تريحهم، وكيف تجلب السرور إلى قلوبهم، وتدخل الفرح إلى حياتهم.. بهذا يحبونك.. إن أكثر إنسان مكروه هو الشخص الأناني، وأكثر إنسان محبوب هو الشخص الخدوم، الباذل المعطى. لا تظن أن الطفل هو فقط الذي تعطيه فيحبك، بل حتى الكبير أيضًا.. الله نفسه علاقته مع الناس علاقة إعطاء وبذل، وكذلك الرسل.. الأم محبوبة جدًا لأنها باستمرار تعطى وتبذل.. وإن لم يكن لك شيء تعطيه للناس، أعطهم ابتسامة لطيفة وكلمة طيبة. أعطهم حبًا، أعطهم حنانًا أعطهم كلمة تشجيع.. أعطهم قلبك.. أظهر لهم أنك تريد، وأنك مستعد، لكل تضحية من أجلهم.. 5- و إن أردت أن يحبك الناس، قابلهم ببشاشة ولطف.. إن الشخص البشوش شخص محبوب.. الناس أيضًا يحبون الإنسان المرح والإنسان اللطيف، والإنسان الذي ينسيهم آلامهم ومتاعبهم بكلامه العذب وشخصيته المريحة.. لذلك حاول باستمرار أن تكون بشوشًا.. حتى في عمق متاعبك وضيقاتك إنس متاعبك لأجل الناس.. لا تكلم أحد وأنت مقطب الوجه صارم الملامح، إلا في الضرورة الحتمية لأجل الصالح. أما في غير ذلك فكن لطيفًا.. كلم الناس بكل أدب وذوق، لا تعبس وجهك.. 6- إن أردت أن تكسب محبة الناس، لا تكن كثير الانتهار، أو كثير التوبيخ.. إن الكلمة القاسية موجعة تتعب الناس. والكلمة الجارحة قد تضيع المحبة وتبددها، فلا تكن كثير الانتهار.. إن أردت أن توجه لومًا أو نصيحة، فليكن ذلك بهدوء ووداعة وفي غير غلظة. ولا تشعر الناس بكثرة توبيخك أنك تكرههم. وإن أردت أن تقول كلمة توبيخ، فلتسبقها عبارة تقدير أو عبارة مديح أو مقدمة لطيفة تمهد الجو لقبول التوبيخ. أو على الأقل تخير الألفاظ في توبيخك فلا يكن جارحًا مهينًا، ولا يكن أمام الناس حتى لا يشعر من توبخه بالذل والخزي.. كذلك لا توبخ على كل صغيرة وكبيرة وإنما على الأمور الهامة فقط، إذ لا يوجد إنسان يخلو من الزلل. ويمكنك أن توجه الناس دون أن تجرحهم. ولا توبخ كل أحد، لأن سليمان الحكيم يقول: "وبخ حكيمًا يحبك، وبخ مستهزئًا يبغضك".. وإذا انتقدت فلا تكن قاسيًا في نقدك، إنما تكلم عن النقط الحسنة قبل أن تذكر السيئة. إذا انتقدت أحدًا لا تحطمه بل كن رفيقًا به. وليكن هدف النقد هو البناء وليس الهدم.. 7- وإن أردت أن يحبك الناس، دافع عنهم، وامدحهم.. حساس جدًا هو القلب المسكين الذي يجد الكل ضده، ووسط هؤلاء يعثر على إنسان يدافع عنه. إنه يهبه كل قلبه.. لذلك دافع عن الناس، وبخاصة من تجده في مأزق أو من تجد الضغط شديدًا عليه، أو من تراه مظلومًا أو في حاجة إلى من يدافع عنه.. وفى تعاملك مع الناس تذكر حسناتهم وانس سيئاتهم. وتأكد أن كل إنسان مهما كانت حياته مظلمة، لا بد ستجد فيه بعض نقط بيضاء تستوجب المديح.. ابحث عن هذه النقط البيضاء وامتدحها وأبرزها واظهر له أنك تعرفها وتقدرها. عندئذ سيحبك ويكون مستعدًا لقبول توجيهك أو توبيخك بعد أن أظهرت له حبك.. لتكن ألفاظك بيضاء، حاول أن تكثر من ألفاظ المديح لمن يستحقها.. لا تكن شتامًا، ولا هدامًا، ولا مستهزئًا، ولا متهكمًا على الآخرين.. اضحك مع الناس، ولكن لا تضحك على الناس. اشعر كل أحد بتقديرك له، وأعلن هذا التقدير أمام الكل.. استفد من الخير الذي في الناس قبل أن تنقد الشر الذي فيهم. اعتبر أن الشر الذي في الناس دخيل عليهم، وواجِبك أن تنقذهم منه لا أن تحطمهم بسببه. 8- وإن أردت أن يحبك الناس فلتكن إنسانًا فاضلًا فيه الصفات المحببة إلى الناس. لا تظن أن الناس يحبون عبثًا أو بلا مقابل، بل يحبون الشخص الذي تتركز فيه الصفات التي يحبونها.. يحبون الإنسان القديس، والإنسان الشجاع والإنسان الناجح والإنسان الذكي.. فلتكن فيك صفات جميلة.. عندئذ سيحبك الناس بسببها.. لذلك إن أردت أن يحبك الناس قوم نفسك أولًا.. أصلح العيوب التي فيك التي يكرهها الناس، عندئذ يحبك الناس.. إن واجهك أحد بعيب فلا تغضب، بل اختبر نفسك جيدًا فربما يوجد هذا العيب فيك. حينئذ اشكر من وجهك إليه ولا تحزن منه.. 9- و إن أردت أن يحبك الناس، احتمل الناس. لا تنتقم لنفسك، ولا تقابل السيئة بمثلها، ولا تغضب على مَنْ يسئ إليك.. كل إنسان له ضعفات فاحتمل الناس. لا تتضايق بسرعة، ولا تخسر الناس بسبب أخطائهم، بل اغفر لكل من يخطئ إليك.. وعندما يرجع لنفسه ويذكر احتمالك له ستزداد محبته لك.. وحتى الذين لا يرجعون لا تخسرهم أيضًا بل اذكر قول القديس يوحنا ذهبي الفم حينما قال: (مَنْ لا توفقك صداقته، فلا تتخذه لك عدوًا). 10- و إن أردت أن يحبك الناس كن مخلصًا لهم، وكن حكيمًا في إخلاصك. عامل الناس بكل إخلاص، واحذر من أن تكون محبتك لهم ضارة بهم. بل لتكن محبتك في حكمة استخدم المديح ولكن لا تستخدم التملق ولا الرياء. واستخدم الحنو، ولكن ابعد عن التدليل الضار.. كن مخلصًا في حبك للناس، هدفك صالحهم وليس مجرد أن يحبوك. والله المحب قادر أن يسكب المحبة في قلوبنا جميعًا لنحب بعضنا بعضًا كما أحبنا هو في قلبه الواسع الكبير. |
||||
01 - 10 - 2022, 10:27 AM | رقم المشاركة : ( 17 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
البابا شنودة الثالث - الأسرة السعيدة يجمعها الفهم والحب إن أول علاقة ينشئها الإنسان في حياته هي علاقته بأمه، ثم علاقته بأبيه. لولاهما ما كان له وجود، ولولاهما ما بقى كما هو الآن. إن أقل غلطة تقع فيها الأم أو يقع فيها الأب من جهة تربية الابن والحفاظ عليه، كافية لتغيير مصير هذا الابن وخط سيره في الحياة. لذلك من أول الواجبات على الأبناء، العرفان بجميل الوالدين. من أجل هذا أمر الله بمحبة الوالدين وطاعتهما واحترامهما. وأن وصية إكرام الوالدين هي أولى الوصايا الخاصة بالعلاقات البشرية التي كتبت ضمن الوصايا العشر، وسلمت إلينا على يد موسى النبي. ما أقسى على قلب الأم أن تتعب دهرًا طويلًا من أجل وليدها، حتى إذا شب وكبر، يتنكر لها وكأنه لا يعرفها..إن الإنسان الذي يخون أمه وينسى محبتها، من الصعب أن يخلص لأحد من الناس.. حتى إن كان للأم أخطاء حالية، فلا يصح أن ننسى لها تعبها القديم كله.. إن شيئًا من الحب ومن العطف ومن الاحترام نقابلها به، يكفى جدًا لأن يذيب مشاعرها، فتقابله بالتجاوب السريع.. إن محبة الوالدين غريزة فينا، لذلك فالخروج عنها هو نوع من الشذوذ، ضد طبيعتنا. أنها فضيلة لا نبذل في سبيل اقتنائها شيئًا من الجهد.. لذلك كانت عقوبة الابن العاق شديدة جدًا. لذلك يقول الكتاب: "ملعون من يستخف بأبيه وأمه". وجاء في أمثال سليمان الحكيم: "العين المستهزئة بأبيها، والمحتقرة إطاعة أمها، تقورها غربان الوادي، وتأكلها فراخ النسر".. وهناك وسائل كثيرة لإكرام الوالدين، نذكر من بينها النجاح في الحياة. لا شك أن الابن الناجح يفرح قلب أمه، ويرفع رأس أبيه. بينما الابن الفاشل أو الجاهل هو مرارة قلب لأبيه وأمه، وسبب خزي وعار لكليهما. لذلك فإن نجاح الابن يعد من أعظم الهدايا التي يقدمها لوالديه. أما إن كان فاشلًا في حياته، فإن أباه لا يعرف أين يخفى وجهه.. إن أوغسطينوس في فترة ضلاله كان مصدر ينبوع دموع مرة لأمه القديسة مونيكا. ومن مظاهر إكرام الوالدين الاهتمام بهما وأعالتهما وبخاصة في حالات الشيخوخة والمرض والاحتياج. قرأت قصة مؤداها انه في إحدى المرات غزا جيش الأعداء بلدًا من البلاد وقتل الجنود كل من فيها. وكان في تلك البلدة شابان على معرفة بقائد الجيش الذي غزا المدينة، وكانا قد فعلا معه جميلًا من قبل، أراد أن يرده لهما. فقال لهما: (أحملا أثمن ما عندكما، واهربا من البلد بسرعة، وأنا أضمن سلامتكما). فدخل الشابان إلى بيتهما ليحملا أثمن ما عندهما. فحمل أحد الشابين أباه، وحمل الآخر أمه، وتركا المدينة.. ومن إكرام الوالدين أيضًا المحبة والاحترام، على أن يكون هذا الحب عمليًا أيضًا، فيعمل الابن على إراحة والديه، وكسب رضائهما، ونوال بركتهما يظهر لهما محبته باستمرار. ويظل هكذا حتى بعد موتهما، يحفظ وصية كل منهما، ويقيم الصلوات من أجلهما. ولا يصح أن يعامل الابن أبويه بنفس المستوى، كلمة بكلمة، وغضبة بغضبة، ونقدًا بنقد. إن من حقهما أن يوبخاه، ومن واجبه أن يسمع دون أن يرد. بل يحاول الاستفادة من توبيخهما، متذكرًا قول الكتاب: "أمينة هي جراح المحب، وغاشية هي قبلات العدو". ومن علامات احترام الوالدين خدمتهما في كل ما يحتاجان إليه، دون أن يطلبا ذلك. بل على الابن أن يكون حساسًا جدًا من هذه الناحية، يدرك ما يلزم والديه فيحضره لهما دون أن يضطرهما إلى الطلب. عندما دخلت أم سليمان الملك لتزوره، قام عن عرشه، وسجد لها إلى الأرض، وأحضر كرسيًا وأجلسها بجواره.. وعلامات احترام الوالدين عدم الخجل من مركزهما إن كانا فقيرين. إن يوسف الصديق عندما كان نائب فرعون في مصر ووزيره الأول. لم يستح من والده يعقوب وكان راعيًا للغنم، فقدمه للملك وأكرمه فرعون من أجله.. من الخطأ أيضًا أن يظن ابن أن والده من جيل قديم عفا عليه الزمن، أو من عصر بال وتقاليد متأخرة.. ومن علامات إكرام الوالدين الطاعة والخضوع. على أن تكون طاعة حقيقية صادرة من القلب، وطاعة سريعة بدون تأخر، وطاعة بغير تذمر، وإنما برضى وثقة، وطاعة حتى في غيابهما، وطاعة بغير خداع. وتكون أيضًا طاعة صادقة وليست طاعة شكلية.. إذ قد يوجد ابن يريد أن يطيع والديه شكليًا. فإن رفضا له طلبًا، يظل يضغط ويلح، ويضغط ويلح وقد يتضايق وقد يحزن، ويظل هكذا حتى يحصل على موافقتهما.. وينفذ ما يشاء ويفتخر بأنه لم يخالف والديه مطلقًا، وهو يعلم تمامًا أن موافقتهما شكلية تمت بالضغط من جانبه، وإنها مجرد موافقة لسان وليست موافقة قلب. حقًا إن هذا الابن قد أطاع من جهة المظهر لكنه لم ينل رضى والديه ولم يرح قلبهما في تصرفه.. على أن من شروط طاعة الابن لوالديه أن تكون طاعة مقدسة في حدود وصايا الله.. ولا يصح أن يطيع أبًا أو أمًا فيما يخالف وصايا الله، ولا يطيع والدًا منحرفًا يبعده عن طريق الرب، لأن الطاعة لله أولى. وكما قال الكتاب: "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس". كن طائعًا خاضعًا في كل شيء، بكل اتضاع حتى الموت من أجل والديك.. أنكر ذاتك وأنكر مشيئتك، وأنكر كرامتك.. ولكن لا تنكر ضميرك.. لأجل هذا يجب على الوالدين أن يكونا دقيقين ورقيقين في أوامرهما. كل أمر يصدر منهما للأبناء يجب أن يكون مملوءًا بالحكمة، وموافقًا لكلام الله، وفي حدود إمكانيات الابن في التنفيذ. أن وصية الله التي تقول لنا: "أيها الأبناء، أطيعوا آباءكم في الرب"، تقول أيضًا: "أيها الآباء، لا تغيظوا أولادكم لئلا يفشلوا". ولا يصح أن نأخذ نصف الحقيقة، وننسى النصف الآخر. ويجب أن نعلم أن كل حق يقابله واجب. من حق الأب أن يطاع، ومن واجبه أن يأمر بما يليق، ويراعى شعور ابنه.. وكذلك الأم.. إن الأم التي توقع ابنها في حيرة وإشكال: أيهما أولى بالإرضاء، أمه أو زوجته؟! هي أم قاسية على ابنها. وأن كانت تحبه، فلا داعي إلى إحراجه بخصامها مع زوجته.. ترفقوا ببنيكم، لئلا يفشلوا.. نعود إلى إكرام الوالدين، فنقول إن هذه الوصية يمكن أن تتسع فوق نطاق القرابة الجسدية. فهناك أنواع كثيرة من الأبوة والأمومة يجب إكرامها. هناك نوع من القرابات في مستوى الأبوة والأمومة كالعم والخال مثلًا والعمة والخالة. وهناك أبوة السن أعنى إكرام الكبار الذين هم في سن الوالدين. وهناك الأبوة الروحية كالمعلم والكاهن والمرشد الروحي وأب الاعتراف وكالآباء القديسين في تاريخنا. وهناك أبوة المركز ويدخل في نطاقها طاعة الرؤساء.. وفوق الكل هناك أبوة الله لنا. وهناك أيضًا أبوة الوطن فكلنا أبناء لمصر، كلنا أبناء للنيل. كلنا أبناء لوطننا العزيز الذي يجب أن نكرمه في عيد الأسرة وفي كل حين. |
||||
01 - 10 - 2022, 10:31 AM | رقم المشاركة : ( 18 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
البابا شنودة الثالث فلسفة الأخذ والعطاء هل نحن في حياتنا نأخذ أم نعطى؟ أم نحن نأخذ ونعطى، أم نأخذ ولا نعطى؟ لسنا نستطيع أن نفهم كل هذا، ما لم ندرك في عمق: ما هي فلسفة الأخذ والعطاء. كلنا في الحياة نأخذ ونعطى.. وسعيد هو الإنسان الذي مهما أعطى، يشعر أنه يأخذ أكثر مما يعطى، أو لا يشعر إطلاقًا أنه يعطى.. مسكين ذلك الشخص الذي يظن أنه لا يأخذ شيئًا، أو الذي لا يحس ما قد أخذه.. إنه يعيش تعيسًا في الحياة، شاعرًا بالظلم، وشاعرًا بالعوز، ويقضى عمره في التذمر وفي الضجر وفي الشكوى، وفى الافتقار إلى الحب. واحد فقط، يعطى باستمرار دون أن يأخذ من أحد، إنه الله. والله وحده يعطى الكل، ولا يأخذ من أحد شيئًا.. لأنه لا يحتاج إلى شيء، فهو مكتف بذاته، كامل في كل شيء، يملك كل شيء، ولا يوجد عند أحد شيء يعطيه لله.. ولكن لعل البعض يسأل: ألسنا في الصلاة نعطى الله وقتًا، ونعطيه قلبًا، ونعطيه حبًا؟! كلا، ليس هذا هو المفهوم الحقيقي للصلاة. إننا عندما نصلى، إنما نأخذ من الله نعمة، ونأخذ منه بركة، ونأخذ منه كافة احتياجاتنا الروحية والمادية.. بل نأخذ أيضًا لذة التخاطب معه، ولذة الوجود في عشرته الإلهية.. إن الذي يظن أنه يعطى الله وقتًا، ويعطيه ركوعًا وتسبيحًا وتمجيدًا، ما أسهل عليه أن يمتنع أحيانًا عن الصلاة محتجًا بأن ليس له وقت ليعطيه! وما أسهل على هذا الإنسان أن يجدف على الله الذي يطالبه بكل هذا التسبيح والتمجيد!! والذي يفرض عليه كل هذه الفروض! وما أسهل على هذا الإنسان أن يحتج بأنه ليست لديه صحة للصوم، وليست لديه رغبة للتعبد، وليس لديه وقت للصلاة.. وأن قام بمثل هذه العبادة، يقوم بها بطريقة حرفية آلية لا روح فيها. الواقع إننا نصلى لأننا محتاجون إلى الله، لذلك نبسط إليه أيدينا إشارة إلى أخذنا منه.. إن أفواهنا تتقدس عندما تلفظ اسمه القدوس، وقلوبنا تبتهج بعشرته وإنه لتواضع كبير من الله أن يسمح لنا بمخاطبته، ومنه عظيمة منه أن يوقفنا أمامه. لذلك في كل مرة نقف للصلاة، ينبغي أن نشكره -تبارك اسمه- على هذا التفضل والتواضع. وعندما يقول الله: "يا ابني أعطني قلبك"، إنما يقصد: أعطني هذا القلب لأملأه بركة وحبًا وطهارة. أعطني هذا القلب لكي أقدسه وأنقيه وأغسله من جميع أقذاره، وأرفعه عن مستواه الأرضي لكي أجلسه في السماويات، وأريه مجدي.. لذلك في كل مرة نذهب فيها للصلاة، ينبغي أن نشعر بأننا نأخذ ولا نعطى، وإنها بركة لنا وليست فرضًا علينا. هذا من جهة الله، وأما من جهة الناس، فإنني أسأل: أترانا حقًا نعطيهم شيئًا مهما كنا محبين وكرماء؟ نحن لا نملك شيئًا لنعطيه. كل الذي لنا هو ملك لله، استودعنا إياه، وقد أخذناه منه لنعطيه لغيرنا كل ما نتبرع به لمشروعات الخير، إنما نقول عنه لله ما سبق أن قاله داود النبي: "من يدك أعطيناك". تمامًا كالابن الصغير الذي يقدم هدية في عيد الأسرة لأبيه أو أمه، ومنهما قد أخذ المال الذي اشترى به هذه الهدية.. إن الله قد أعطانا اليد التي تعطى، وأعطانا الخير الذي نعطى منه، بل قد أعطانا أيضًا محبة العطاء.. نعم، حتى موهبة العطاء قد أخذناها منه. هذه الفضيلة، فضيلة العطاء، قد تفضل الله فأنعم بها علينا.. هي جزء من عمله فينا، وجزء من مؤازرة نعمته لنا. لأن كل موهبة صالحة، هي نازلة من فوق، من عند الله.. كل شيء نعطيه سنجده في الأبدية، وسنأخذ أكثر منه بكثير. وسنرى أن المكافأة في السماء أغزر وأوفر. فالشيء الذي نعطيه، أو الذي يعطيه الله عن طريقنا، هو محجوز لنا فوق، لم يضع.. في الواقع أننا لم نعطه، وإنما ادخرناه! فأين العطاء إذن؟! إننا نعطى الفانيات ونأخذ الباقيات، نعطى الأرضيات ونأخذ السماويات. نعطى المادة ونأخذ البركة. لا شك أننا نأخذ أكثر مما نعطى.. لذلك أيها القارئ العزيز، عوِّد نفسك على العطاء. فقد قال الكتاب: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ". أعط بفرح وليس بتضايق لأن الكتاب يقول: "المعطى بسرور يحبه الرب". وأعط عن حب وعن عاطفة. وأعط بوفرة وبكرم أعط وأنت موسر، وأعط وأنت معوز، فالذي يعطى من أعوازه، يكون أعظم بكثير ممن يعطون من سعة. وأجره أكبر في السماء. وإن لم يكن لك ما تعطيه، أعط ابتسامة طيبة، أو كلمة تشجيع، أو عبارة تفرح قلب غيرك. ولا تظن أن هذا العطاء المعنوي أقل من العطاء المادي في شيء، بل أحيانًا يكون أعمق منه أثرًا، ولكن حذار أن تكتفي بالعطاء المعنوي إن كان بإمكانك أن تعطى المادة أيضًا. واشعر -عندما تعطي- أنك تأخذ. إن السعادة التي يشعر بها قلبك حينما يحقق سعادة لغيره، هي شيء كبير أسمى من أن يقتنى بالمال.. إن راحة الضمير التي تأخذها، وفرحة القلب برضى الناس، كلها أمور أسمى من المادة قد أخذتها وأنت تعطى.. وستأخذ أعظم منها في السماء. وعندما تعطى لا تحقق كثيرًا مع الذي تعطيه. وإلا كانت منزلتك هي منزلة قاض لا عابد.. لا تحقق كثيرًا لئلا تخجل الذي تعطيه، وتريق ماء وجهه. أعطه دون أن تشعره بأنه يأخذ.. حسن إنك قد أعطيته حاجته، أعطه أيضًا كرامة وعزة نفس، ولا تشعره بذله في الأخذ. وعندما تعطى أنس أنك قد أعطيت. ولا تتحدث عما فعلته، بل لا تفكر فيه. ولعل هذا هو ما يقصده السيد المسيح بقوله: "إذا أعطيت صدقة، فلا تجعل شمالك تعرف ما فعلته يمينك". وإن تذكرت قل لنفسك: "أنا لم أعط هذا الإنسان شيئًا، بل هو الذي أعطاني فرصة لأسعد بهذا الأمر". إن الأم تعطى ابنها حنانًا، إنما تسعد هي نفسها بهذا الحنان. وهى عندما ترضعه، إنما تشعر براحة، ربما أكثر من راحته هو في الرضاعة. ذلك إن عمل الحب هو عمل متبادل يأخذ فيه الإنسان أثناء إعطائه لغيره. وعمل الخير الذي لا تأخذ منه سعادة، ليس هو خيرًا على وجه الحقيقة. إن أجره ليس فيه، وليس فيما بعد. انه عمل ضائع. كذلك عندما تأخذ، خذ من الله وحده، وممن يرسلهم الله إليك. وحاذر من أن تأخذ من الشيطان شيئًا ولا من جنوده. إن الشيطان عندما يعطى، يأخذ أكثر مما يعطيه. قد يعطيك لذة الجسد، ويأخذ منك كرامة الروح. وقد يعطيك الكرامة. ويأخذ منك الاتضاع، وقد يعطيك الغنى، ويأخذ منك الزهد، ويعطيك الدنيا، ويأخذ منك الآخرة ويعطيك اللهو والعبث، ويأخذ منك الحكمة والرزانة. ويعطيك اللعب، ويأخذ منك النجاح.. إنه يأخذ الجوهرة التي فيك، ويعطيك القشور التي لها. تخطئ إن ظننت أنك تأخذ منه شيئًا. إنك الفاقد، ولست الآخذ، ولست المعطى. أما الله، فإنه يعطى على الدوام، ويعطى بسخاء ولا يعير، ويعطى عطايا صالحة تليق بصلاحه.. إننا نعيش في عطائه كل لحظة من حياتنا. المقال مع بعض التعديلات نُشِر في وقتٍ لاحق في جريدة الأهرام يوم 27 نوفمبر 2011 فلسفة الأخذ والعطاء هل نحن في الحياة نأخذ أم نعطي؟ أم نحن نأخذ ونعطي؟ أم نأخذ ولا نعطي..؟ لكي نفهم كل هذا، علينا أن ندرك ما هي فلسفة الأخذ والعطاء. † كلنا في الحياة نأخذ ونعطي، وسعيد هو الإنسان الذي مهما أعطي، يشعر أنه يأخذ أكثر مما يعطي، أو أنه لا يشعر إطلاقًا بأنه يعطي.. بينما مسكين ذلك الشخص الذي لا يظن أنه لا يأخذ شيئًا أو هو لا يشعر بما يأخذه.. إنه يعيش تعيسًا في الحياة، شاعرًا بالظلم، وشاعرًا بالعوز والاحتياج، وقد يقضي عمره كله في التذمر وفي الضجر والشكوى، وفي الافتقاد إلي الحب. † واحد فقط يعطي باستمرار دون أن يأخذ من أحد، انه الله، والله وحده يعطي الكل، ولا يأخذ من أحد شيئًا. ذلك لأنه لا يحتاج إلي شيء فهو مكتف بذاته، كامل في كل شيء يملك كل شيء، ولا يوجد عند أحد شيء يعطيه لله. لكن لعل البعض يسأل: ألسنا في الصلاة نعطي الله وقتًا، ونعطيه قلبًا وشعورًا وخشوعًا وحبًا؟ كلا ليس هذا هو المفهوم الحقيقي للصلاة، بل إننا عندما نصلي، إنما نأخذ من الله معونة، ونأخذ منه نعمة وبركة، ونأخذ كافة احتياجاتنا الروحية والمادية، بل نأخذ أيضا لذة التخاطب معه ولذة الوجود في عشرة الله. والذي يظن أنه في الصلاة يعطي الله وقتا، ما أسهل عليه أن يمتنع أحيانًا عن الصلاة محتجًا بأنه ليس له، وقت ليعطيه! في الواقع إننا نصلي لأننا محتاجون إلي الله، لذلك نبسط إليه أيدينا إشارة إلي أخذنا منه، إن أفواهنا تتقدس عندما تلفظ اسمه القدوس، ولاشك أنه تواضع كبير من الله عز وجل أن يسمح لنا بمخاطبته، لهذا ففي كل مرة نسجد للصلاة، ينبغي أن نشكر الله -تبارك اسمه- علي تواضعه وسماحه لنا بمخاطبته. وعندما يقول الله: يا ابني أعطني قلبك.. فان ما يقصد: اعطني هذا القلب لكي أطهره وأقدسه، وأملأه حبًا ونقاء، وأجعل فيه ما يحتمله من كل أنواع الفضائل، وأرفعه عن مستواه الأرضي لكي أجلسه في السماويات. † وعموما من جهة موقفنا من العطاء، نحن لا نملك شيئًا لنعطيه، فكل الذي لنا هو ملك لله، قد استودعنا إياه، وقد أخذناه منه لنعطيه لغيرنا، فكل ما نتبرع به لمشروعات الخير، إنما نقول عنه لله ما سبق أن قاله داود النبي: من يدك أعطيناك تماما كالابن الصغير الذي يقدم هدية في عيد الأسرة لأبيه أو أمه، ومن هنا قد أخذ المال الذي اشتري به هذه الهدية. إن الله قد أعطانا اليد التي تعطي، وأعطانا الخير الذي نعطي منه، بل قد أعطانا أيضا محبة العطاء والقدرة علي العطاء، حقًا إن موهبة العطاء قد أخذناها منه، قد تفضل الله وأنعم بها علينا، هي جزء من عمله فينا، وجزء من مؤازرة نعمته علينا، لان كل موهبة صالحة هي نازلة من فوق من عند الله. † كل شيء نعطيه سنجده في الأبدية، وسنري أكثر منه بكثير في المكافأة السمائية إذن فالشيء الذي نعطيه، أو الذي يعطيه الله عن طريقنا، هي محجوز لنا فوق، لم يضع.. وفي الواقع إننا لم نعطه، وإنا قد ادخرناه.. وبالإضافة إلي ذلك فإنما نحن نعطي الفانيات لكي نأخذ الباقيات، نعطي الأرضيات ونأخذ السماويات.. لا شك إذن أننا نأخذ أكثر مما نعطي. † لذلك أيها القارئ العزيز، عود نفسك علي العطاء، فقد قال السيد المسيح له المجد: "مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ" (سفر أعمال الرسل 20: 35). أعط بفرح لا بتضايق، لان الكتاب يقول: المعطي المسرور يحبه الرب، ونص الآية هو: "الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 9: 7). إذن ليكن عطاؤك هو عن حب وعن عاطفة، وبسخاء وكرم، أعط وأنت موسر، وأعط وأنت معوز، والذي يعطي من أعوازه يكون أعظم بكثير من الذين يعطون عن سعة وأجره أكبر في السماء. † وإن لم يكن لك ما تعطيه لغيرك أعط ابتسامة طيبة، أو كلمة تشجيع، أو عبارة تفرح قلب غيرك. ولا تظن أن هذا العطاء المعنوي أقل من العطاء المادي في شيء، بل أحيانًا يكون أعمق أثرا، ولكن حذاري أن تكتفي بالعطاء المعنوي إن كان بإمكانك أن تعطي المادة أيضًا. وأشعر ـ عندما تعطي أنك تأخذ فالسعادة التي يشعر بها قلبك حينما يحقق سعادة لغيره، هي شيء أسمي من أن يقتني بالمال، راحة الضمير التي تأخذها، وفرحة القلب برضا الناس، كلها أمور أسمي من المادة، يأخذ علي الأرض ويأخذ أعظم منها في السماء. † عندما تعطي، لا تحقق كثيرًا مع الذين تعطيه، وإلا كنت في موضع القاضي وليس العابد، لا تحقق كثيرًا لئلا تخجل الذي تعطيه، وتريق ماء وجهه. حسن إنك قد أعطيته حاجته، فأعطه أيضًا كرامة وعزة نفس، ولا تشعره بذلة في الأخذ،. † وعندما تعطي انس أنك قد أعطيت، ولا تتحدث عما فعلته، بل لا تفكر فيه، ولعل هذا بعض ما قصده السيد المسيح حينما قال في العطاء، لا تجعل شمالك تعرف ما تفعله يمينك، ونص الآية هو: "لاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ" (إنجيل متى 6: 3)، وإنك تذكرت قل لنفسك، أنا لم أعط هذا الإنسان شيئًا، بل هو الذي أعطاني فرصة لأسعد بهذا الأمر أن الأم عندما تعطي ابنها حنانا إنما تسعد هي نفسها بهذا الحنان. وهي عندما ترضعه إنما تشعر براحة، ربما أكثر من راحته هو في الرضاعة، لذلك فان عمل الحب هو عمل متبادل، يأخذ فيه الإنسان أثناء إعطائه لغيره. † كذلك عندما تأخذ احذر من تأخذ شيئًا من الشيطان ولا من جنوده، والشيطان عندما يعطي، يأخذ أكثر مما يعطيك، قد يعطيك لذة الجسد، ويأخذ منك كرامة الروح، قد يعطيك كرامة أمام الناس، ويأخذ منك فضيلة الاتضاع، أو يعطيك اللهو والعبث، ويسحب منك الحكمة والرزانة.. تخطيء إذن إن ظننت انك تأخذ منه شيئًا. |
||||
01 - 10 - 2022, 10:33 AM | رقم المشاركة : ( 19 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
الذاتية وإنكار الذات لا تظنوا أيها الأخوة الأحباء أن عبادة الأصنام قد تلاشت من الأرض. فهناك صنم خطير يكاد يعبده الكل.. انه الذاتego.. كل إنسان مشغول بذاته، معجب بذاته، يضع ذاته في المرتبة الأولى من الأهمية. . أو في المرتبة الوحيدة من الأهمية.. يفكر في ذاته، ويعمل من أجل ذاته ، ويهمه أن تكبر هذه الذات، بل تصير أكبر من الكل، ويهمه أن تتمتع هذه الذات، بشكل اللذات، بأى ثمن، وبأى شكل. هذه هي الذاتية، أو التمركز حول الذات.. وفيها يختفى الكل، وتبقى الذات وحدها. فيها ينسى الإنسان غيره من الناس، أو يتجاهل الكل وتبقى ذاته في الصورة، وحدها.. ولا مانع من أن يضحى بالكل من أجل ذاته.. وأن يفكر هذا الإنسان في غيره، يكون تفكيره ثانوياً، في المرحلة التالية لذاته أو قد يكون تفكيراً سطحياً، أو تفكير عابراً.. وإن أحب ذلك الإنسان الغارق في الذاتية، فإنه يحب من أجل ذاته، ويكون من يحبه مجرد خادم للذاته.. هو لا يحب الغير من أجل الغير، وإنما يحب من يشبعه في ناحية ما... يحب مثلاً من يمدحه، أو من يقضى له حاجياته، أو من يشبع له شهواته أو من يحقق له رغبة معينة.. فهو في الحقيقة يحب ذاته لا غيره وما حبه لغيره سوى وسيلة يحقق بها محبته لذاته. لذلك لا مانع عند هذا الشخص أن يضحى بهذا الحب إذا اصطدم بذاته ورغباته. ولعل هذا يفسر لنا الصداقات التي تنحل بسرعة إذا ما اصطدمت بكرامة ذاتية أو غرض ذاتى.. ولعل هذا يفسر لنا أيضاً الزيجات التي تنتهى إلى الطلاق أو إلى الانفصال بينما يظن البعض أنها قد بدأت بحب، وبحب عنيف أو عميق.. قطعاً أن ذلك لم يكن حباً بمعناه الحقيقى لأن في الحب تضحية، وفيه احتمالا وبذلا وعذراً للآخرين. والمحبة كما قال الكتاب: "تحتمل كل شيء".. إنما مثل هؤلاء أشخاص كانوا يحبون ذواتهم فيما هم يتغنون بمحبتهم لغيرهم. كان في محبتهم عنصر الذاتية، لذلك ضحوا بهذه المحبة على مذبح الذاتية أيضاً.. إن المحبة تصل إلى أعماقها حينما تتكلل بالبذل.. إن المحب الحقيقى هو الذي يضحى من أجل أحبائه بكل شيء، ولو أدى الأمر أن يضحى بذاته.. وكما قال الإنجيل: "ليس حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه عن أحبائه" أما المحبة التي تأخذ أكثر مما تعطى، فهى ليست محبة حقيقية، إنما محبة للذات. كذلك المحبة التي تحب لتأخذ.. إنها تحب ما تأخذه، ولا تحب من تأخذ منه. لذلك كانت محبة الله محبة كاملة مثالية، لأنها باستمرار تعطى دون أن تأخذ ولذلك أيضاً كانت محبة الأم لطفلها محبة حقيقية، لأنها باستمرار تعطى وباستمرار تبذل.. ولكن لعل إنساناً يسأل: ولماذا لا نحب ذواتنا؟ وأية خطيئة في ذلك؟ ومن من الناس لا يحب ذاته؟! إنها غريزة في النفس.. نعم، جميل منك أن تحب نفسك، ولكن تحبها محبة روحية تحب ذاتك من حيث أن تهتم بنقاوة هذه الذات وقداستها وحفظها بلا لوم أمام الله والناس.. و تحب ذاتك من حيث اهتمامك بمصيرها الأبدى ونجاتها من الدينونة الأخيرة حينما تقف أمام منبر الله العادل لتعطى حساباً عن أعمالها وعن أفكارها ونياتها ومشاعرها.. هذا هو الحب الحقيقى للذات.. الحب الذي يطهر الذات من أخطائها ومن نقائصها، ويلبسها ثوباً من السمو والكمال. وهناك شرط آخر لمحبة الذات الحقيقية، أن الإنسان في محبته لذاته يحب جميع الناس، ويكون مستعداً أن يضحى من أجلهم بكل ما يملك، ولو ضحى بذاته أيضاً... لا يجوز لك أن ترتفع على جماجم الآخرين، ولا أن تبنى سعادتك على شقائهم، أو راحتك على تعبهم.. ضع مصلحة الآخرين قبل مصلحتك، وفضل خيرهم على خيرك. ودرب ذاتك كيف تضحى من أجل الناس، سواء شعروا بهذه التضحية، أو لم يشعروا، وسواء شكروا عليها أو لم يشكروا... من هنا علمنا السيد المسيح فضيلة عظمى، وهى إنكار الذات.. وشرح لنا كيف أن الذي يحب أن يسير في طريق الرب، عليه أولاً أن ينكر ذاته. إن الشخص النبيل لا يزاحم الناس في طريق الحياة، بل يفسح لهم مجالاً لكي يعبروا، ولو سبقوه.. أنه يختفى لكي يظهر غيره، ويصمت لكي يتكلم غيره ويمدح غيره أكثر مما يمدح نفسه، ويعطى مكانه ومكانته لغيره ان كان بذلك يسعد نفسه من نفوس الناس.. إن الإنسان الكامل هو دائم التفكير في غيره، ومحبة غيره، وصالح غيره، وأبدية غيره، وقداسة غيره أما ذاته فيضعها أخر الكل، أو يضعها خادمة للكل.. إنه لا ينافس أحداً من الناس. طريق الله يسع الكل.. وهو يشعر بسعادة عميقة كلما أسعد إنساناً يجد سعادته في سعادته، وراحته، يجد فيهم ذاته الحقيقية. لا ذاته الشخصية.. إنه يفرح لأفراحهم، ولو كانت الآلام تحيطه من كل جهة.. وإن أصابهم ألم لا يستريح، وإن كانت وسائل الراحة تحت قدميه.. إنه شمعة تذوب لكي تضئ للآخرين.. لا تفكر في ذاتها إنها تنقرض، إنما تنشغل بالآخرين كيف يستنيرون.. وفى أنارتها للناس لا تفرح بأنها صارت نوراً إنما تفرح لأن الآخرين قد استناروا.. ذاتها لا وجود لها في أهدافها.. ولو فكرت في ذاتها، لما استطاعت أن تنير للناس.. إن أنجح الناس في المجتمع هم الأشخاص المنكرون لذواتهم وأكثر الناس فشلاً هم الأنانيون. إن انجح أدارى هو الذي يعطى فرصة لكل إنسان أن يعمل، ويشرف على الكل في عملهم، ويبدو هو كما لو كان لا يعمل شيئاً بينما يكون هو مركز العمل كله. وأكثر إنسان محبوب في العمل، هو الذي كلما نجح عمله، يتحدث عن مجهود فلان وفلان، وينسب النجاح إلى كثيرين غيره، ويختفى هو كأنه لم يعمل شيئاً.. وكأنه يفرح بنجاح غيره لا بنجاح نفسه... إن الناس يفرحون بمن يعطيهم فرصة، وبمن يقدرهم، وبمن يشيد بمجهودهم. أما الإنسان المتمركز حول ذاته، الذي يخفى الناس لكي يظهر هو، ويعطل كل الطاقات لكي يمجد طاقاته الخاصة، فإنه يفشل في كسب محبة الناس، وقد يفشل العمل كله بسببه... الإنسان المخلص يهمه أن ينجح العمل، على أى يد تعمله. أما الأنانى فيهمه أن يتم النجاح على يديه، ولو أدى الأمر إلى تعطيل العمل كله. إن ذاتيته هي العقبة الكؤود التي تعرقل كل نجاح. الإنسان المتمركز حول ذاته لا يفكر في راحة غيره، سواء كان راحة فرد أو راحة المجتمع كله. ربما لا يهتم بالصلح العام، ولا بالنظام العام، وإنما يرضيه فقط أن يجد طريقة.. لذلك فإن الأنانيين هم أكثر الناس كسراً للقوانين. الرجل الكامل ينكر ذاته في علاقته بالناس، وأيضاً في علاقته بالله.. وما أجمل قول المرتل في المزمور "ليس لنا يارب ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس اعط مجداً" إنه يبحث عن مجد الله وعن ملكوت الله أولاً وأخيراً.. يهمه أن يطيع وصية الرب، ولو أدى به الأمر أن يغضب ذاته، أو يضغط على نفسه، أو يضحى براحته. إنه يبذل ذاته من أجل وصية الله.. حتى في صلاته، ينسى ذاته ويذكر الله.. إننى أتعجب إذ أجد كثيرين في صلواتهم متمركزين حول ذواتهم.. كل صلواتهم طلبات خاصة.. يزحمون الصلوات بطلباتهم ورغبتهم، وأيضاً بخطاياهم واعترافتهم.. أما الله وملكوته فلا يشغلهم في الصلاة.. ما أجمل ذلك المصلى الذي يقول في صلاته: (من أنا يارب، التراب والرماد، حتى أتحدث عن ذاتى وطلباتى في صلاتى. أريد أن أنسى نفسي وأذكرك أنت، أريد أن أسبح في جمالك غير المدرك، وفى كمالك غير المحدود.. أريد أن أتأمل في صفاتك الإلهية التي تبهرنى فأنس ذاتى.. وعندما أنسى نفسى، سأجدها فيك، في قلبك الكبير المحب.. هذا القلب الذي احبه من أعماقى، والذى أود أن أحيا عمرى كله وأبديتى أيضاً متأملاً في محبته، وحنوه، وعفوه، ورقته، وطول أناته واشفاقه على الخطاة الذين أولهم أنا).. |
||||
01 - 10 - 2022, 10:35 AM | رقم المشاركة : ( 20 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب مقالات روحية للبابا شنودة الثالث
التواضع هو الفضيلة الأولى البابا شنودة الثالث أريد في هذا المقال أن أكلمكم عن فضيلة جميلة وأساسية وهى الاتضاع. الاتضاع هو الفضيلة الأولى في الحياة الروحية. الاتضاع هو السور الذي يحمى الفضائل ويحمى المواهب، وكل فضيلة خالية من الاتضاع، عرضة أن يختطفها شيطان المجد الباطل، ويبددها الزهو والفخر والاعجاب بالنفس. لذلك إذا أعطاك الله موهبة من مواهبه، ابتهل إليه أن يعطيك معها إتضاعاً، أو أن يأخذها منك، لئلا تقع بسببها في الكبرياء وتهلك. الاتضاع إذن هو الأساس الذي تبنى عليه جميع الفضائل. ليس هو فضيلة قائمة بذاتها، إنما هو متداخل في جميع الفضائل، مثلة كالخيط الذي يدخل في كل حبات المسبحة. والله يعطي مواهبة للمتواضعين، لأنه يعرف أنها لا تؤذيهم. ويقول الكتاب المقدس إن الله يكشف أسراره للمتضعين..هؤلاء الذين كلما زادهم الله مجداً، زادوا هم إنسحاقاً قدامه. من أجل كل هذا دعانا الله جميعاً أن نكون متضعين. وقد كان الاتضاع والوداعة، إحدي سمات السيد المسيح البارزة التي حببته إلى الكل.. وقد وصفه الإنجيل المقدس بأنه كان: "وديعاً ومتواضع القلب". وقد اتقن القديسون الاتضاع بصورة عجيبة.. ولم يتواضعوا فقط أمام الله والناس، بل حتى أمام الشياطين، وهزموهم بهذا الاتضاع. القديس العظيم الأنبا انطونيوس أبو الرهبنة كلها، عندما كان الشياطين يحاربونه في عنف، كان يرد عليهم باتضاع قائلاً: (أيها الأقوياء، ماذا تريدون منى أنا الضعيف، وأنا عاجز عن مقاتله أصغركم)!! وكان يصلى إلى الله قائلاً: (انقذني يارب من هؤلاء الذين يظنون أنني شيء، وأنا تراب ورماد).. فعندما كان الشياطين يسمعون هذه الصلاة الممتلئة اتضاعاً، كانوا يقشعرون كالدخان. وفي إحدي المرات ظهر الشيطان للمتوحد الناسك القديس مقاريوس الكبير وقال له: "ويلاه منك يا مقاره، أي شيء أنت تعمله ونحن لا نعمله؟! أنت تصوم، ونحن لا نأكل. وأنت تسهر، ونحن لا ننام، وأنت تسكن البراري والقفار، ونحن كذلك، ولكن بشيء واحد تغلبن " فسأله عن هذا الشيء. فقال له " بتواضعك تغلبنا".. في مرة أخري أبصر الأنبا انطونيوس فخاخ الشياطين منصوبة، فألقي نفسه على الأرض أمام الله، وصرخ قائلاً: (يا رب، من يستطيع أن يخلص منها؟!) فأتاه صوت يقول: (المتواضعون يخلصون منها). إن كان التواضع بهذه القوة التي تهزم الشياطين، فما هو التواضع إذن؟ التواضع هو أن تعرف ضعفك، وأن تعرف سقطاتك وخطاياك، وأن تعامل نفسك على هذا الأساس. المرجع: موقع كنيسة الأنبا تكلاهيمانوت ليس التواضع أن تشعر بأنك كبير أو عظيم، وتحاول أن تتصاغر أو أن تخفي عظمتك فشعورك بأنك كبير فيه نوع من الكبرياء. وشعورك بأنك تخفي عظمتك فيه إحساس بالعظمة تخفيها عن الناس، ولكنها واضحة أمام نفسك. أما التواضع، إحساس بعظمة تخفيها عن الناس، ولكنها واضحة أمام نفسك. أما التواضع الحقيقي فهو تواضع أمام نفسك أولاً. شعور حقيقي غير زائف، في داخل نفسك، إنك ضعيف وخاطئ حتى في عمق قوتك تشعر أن القوة ليست منك، إنما هي منحة سماوية من الله لك، أما انت فبطبيعتك غير ذلك. اعرف يا أخي من أنت، فهذه المعرفة تقودك إلى الاتضاع. إنك تراب من الأرض. بل التراب أقدم منك، وجد قبل أن تكون. خلقه الله أولاً، ثم خلقك من تراب. أتذكر أنني (البابا شنودة 3) ناجيت هذا التراب ذات مرة في بضعة آيات قلت فيها: يا تراب الأرض يا جدي وجد الناس طرا أنت أصلي، أنت يا أقدم من آدم عمر ومصيري أنت في القبر، إذا وسدت قبر بل أنك يا أخي، إذا فكرت في الأمر باتضاع، تجد ان هذا التراب لم يغضب الله كما أغضبته أنت بخطاياك. لذلك أقول لك حقيقية هامة وهي: إن المتواضع الوحيد هو الله. الله هو الكبير الذي يتنازل ويكلمنا نحن الصغار، وهو القدوس الذي يتنازل ويعاملنا نحن الخطاة. أما نحن فالتواضع بالنسبة إلينا. ليس تنازلاً، وغنما هو مجرد معرفة للذات. إن عرفت هذا، فعامل نفسك إذن بما تستوجبه هذه المعرفة، ولا تطلب من الناس كرامة ولا مجداً. وإن حوربت بهذا الأمر، رد على نفسك وقل: (أنا لا أستحق شيئاً بسبب خطاياي.. وإن كان الله من فرط رحمته قد ستر خطاياي عن الناس، ولكنني أعرفها جيداً ولا انساها لئلا أتكبر باطلاً).. إحذر من أن تنسي خطاياك، لئلا تنتفخ، وتظن في نفسك الظنون، وتذكر قول ذلك القديس الذي قال: (إن نسينا خطايانا، يذكرها لنا الله. وإن ذكرنا خطايانا، ينساها لنا الله). اعترف بخطاياك أمام نفسك، وأمام الله، وإن استطعت فأمام الناس أيضاً. وإن لم تسطع، فعلي الأقل لا تمدح ذاتك أمامهم، ولا تقبل مديحهم لك وإن سمعته أذناك، فليرفضه قلبك وعقلك.. ولا تسع وراء الكرامة. وتذكر قول مار اسحق: (من سعي وراء الكرامة، هربت منه، ومن هرب منها بمعرفة، سعت وراءه). ولا يكن تواضعك مظهرياً، أو باللسان فقط، إنما ليكن تواضعاً حقيقياً من عمق القلب، وبيقين داخلي، ليكن تواضعاً بالروح. وإن عشت بالتواضع، ستحيا باستمرار في حياة الشكر.. سنشكر الله على كل شيء وفي كل حل، شاعراً على الداوم أن الله يعطيك فوق ما تستحق. أما غير المتواضع، فأنه يكون في كثير من الأحيان متذمراً ومتضجراَ، شاعراً أنه لم ينل بعد ما يستحقه، وأنه يستحق الكثير، وأنه مظلوم، من الناس ومن الله!! والشخص المتواضع سلام مع الكل، لا يغضب من أحد، ولا يغضب أحداً. لا يغضب من أحد، لأنه باستمرار يلوم نفسه، ولا يلوم الناس. ولا يغضب أحداً، لأنه يطلب بركة كل أحد وصلواته. فلنكن جميعاً متضعين لكي نكون أهلاً لعمل الله فينا، الله الذي لا يحد الذي تنازل واهتم بنا، له المجد الدائم إلى الأبد آمين. |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|