15 - 07 - 2017, 06:02 PM | رقم المشاركة : ( 18551 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
المجوس "وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: "أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ". فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ: "أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟" فَقَالُوا لَهُ: "فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، لِأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لِأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ". حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرّاً، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: "اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ، وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ". فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً، وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ، فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ، ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ" (متى 2:1-12). في فجر التاريخ البشري لم يطِقْ إبليس أن يرى أبوينا الأولين طاهرين سعيدين في جنة عدن، فاحتال عليهما وأسقطهما مع نسلهما جميعاً تحت عبودية الخطية. فهل يمكن أن يسكت لولادة المسيح، آدم الثاني، الأعظم من الأول بما لا يُقاس؟ أوَلَيْس هذا عدوَّه المقتدر الذي قال عنه الرسول: "لِأَجْلِ هذَا أُظْهِرَ ابْنُ اللّهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ"؟ (1 يوحنا 3:8). حقاً إن سكوت إبليس في هذا الوقت مستحيل، فلا بد من هيجانٍ جديد في دوائر الجحيم. ولا يحتاج هذا الرئيس إلى رسل من عالم الأرواح لإجراء مشيئته في إهلاك هذا الطفل الفريد، لأن عظماء القوم في البلاد هم في قبضة يده يستخدمهم كما يشاء في إتمام مقاصده المهلكة. ومَنْ هو أقدر على الإعدام من الملوك؟ أوَلَيْس ملك البلاد هيرودس الكبير الشرير الظالم الدموي طائعاً تماماً لمشيئة ملك الشياطين؟ فما حاجة إبليس إلى غير عبده هذا الملكي الذي يفتخر ويكتفي به ليُجري له مرامه الآن؟ وبما أن أجَلَ هذا الملك الشرير اقترب، فلذلك لا يتباطأ إبليس في استخدامه. وفي ذات يومٍ في أواخر أشهر الشتاء وقع اضطراب عظيم في أورشليم وفي قصر الملك، بسبب ظهور قومٍ غرباء في أورشليم آتين من المشرق، كانوا على ما يرجَّح من أهل العِلم والرُّتب الرفيعة اسمهم المجوس. ولا يقال من أي مشرق أتوا: أمن بلاد فارس أم الهند أم بلاد العرب؟ ولا يُقال كم كان عددهم: هل إثنا عشر حسب بعض التواريخ، أو ثلاثة حسب الرأي الغالب. والذين يصرُّون على أنهم ثلاثة يبنون حكمهم على أن تقدماتهم كانت من ثلاثة أنواع. ويحسبون أنهم مثَّلوا أقسام البشر الثلاثة: أي بني سام وبني حام وبني يافث، كما مثَّلوا أقسام العمر الثلاثة أي: الشباب والرجولة والكهولة. يُرجَّح أنهم كانوا من المهتمّين، كسائر علماء عصرهم، بدرس علم الفلك ومراقبة الأجرام السماوية. وقد يكونون من الذين سمعوا من اليهود المتغربين في بلادهم عن المسيح العظيم المنتظَر، وأنهم من أمثلة الوثنيين الذين يقول فيهم كتَبَةُ اليهود والرومان إنهم كانوا يتوقَّعون ظهور شخص عظيم في بلاد اليهود. أما أهل أورشليم فقد اعتادوا مجيء الزائرين من كل بلدان العالم حيثما كان الشعب اليهودي مشتتاً، لأن شهرة مدينتهم جعلتها مطمح أبصار الكثيرين من غير اليهود، الذين يريدون التفرُّج والاتِّجار. لكن قدوم هؤلاء المجوس أوقع اضطراباً عاماً بسبب السؤال الذي سألوه وغرضهم من هذه الزيارة. كان سؤالهم: "أين هو المولود ملك اليهود؟ لأننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له". أثار هذا السؤال خوفاً عظيماً في قلوب الذين سمعوه، بسبب ما توقعوا أن يفعله الملك الشرير هيرودس متى سمع بملكٍ جديد غيره. لا بد أن فنون جنونه تتجدَّد بذلك. ولا يعلم أحد على من تقع ضرباته البربرية المهلكة. كان جواسيسه المأجورون يبلغونه حالاً بكل ما يمسُّه أو يهمُّه، فلما بلغه خبر مجيء المجوس وسؤالهم، هاج خوفاً على عرشه وعلى حياته، فجمع حالاً كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب ليعرف منهم إن كان في كتب الأنبياء إشارة إلى مكان مولد المسيح. وإطاعة لأمره سردوا له قول النبي ميخا: "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الْأَزَلِ" (ميخا 5:2). ولا بد أن هيرودس دعا المجوس إلى قصره وأكرمهم - رغم شدة هيجان حنقه الداخلي عليهم - ليعرف منهم موعد ظهور النجم. ونعتقد أنه كان يهينهم ويعذبهم ويهلكهم لولا مَكْره الذي أوعز إليه أن يستخدمهم لإهلاك المولود الجديد الذي يهدد عرشه، فأخفى عنهم غيظه وأرسلهم إلى بيت لحم، ثم بمزيد الخبث والمكر أوصاهم: "أن يفحصوا بالتدقيق عن الصبي" وبمنتهى الرياء قال: "ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي وأسجد له" فقدَّر لنفسه يوماً قريباً فيه يأخذ من المجوس الخبر الذي طلبه منهم، فيذهب بنفسه متظاهراً بقصد السجود، ليقتل الصبي، وربما المجوس أيضاً الذين أزعجوه. كنا نود أن نعرف أفكار المجوس لما وصلوا إلى العاصمة اليهودية، ووجدوا أن لا علم لأحد بميلاد الملك الجديد، من سكان القصر الملكي إلى أحقر رجل في الشارع. لماذا لم يأسفوا على سياحتهم ومشاقها ويعودوا على أعقابهم إلى بلادهم خجِلين؟ لماذا لم يفتكروا أن نجمهم أضلَّهم فيندمون على ما فعلوا؟ ربما استأنسوا بقول هيرودس إنه يريد هو أيضاً أن يسجد لهذا المولود، فتجددت آمالهم بعد أن علموا أن الملك هيرودس نفسه يريد أن يأتي ويسجد له. فذهبوا مستعدين أن يفعلوا ما أوصاهم، وشكروه على التسهيلات التي قدمها لهم. وفي طريقهم إلى بيت لحم عاد النجم الذي رأوه في المشرق إلى الظهور، وتقدَّمهم "حتى جاء ووقف حيث كان الصبي. ففرحوا فرحاً عظيماً جداً" ولا بد أنهم استدلّوا من النجم، لما رأوه في بلادهم، أن وُجهتهم يجب أن تكون أورشليم، وأن النجم لم يرافقهم إليها. رأوه في المشرق وودّعهم هناك، ولذلك سرَّهم جداً ظهوره الآن بعد انحجابه. وبما أن ليس في أحوال العائلة المقدسة الخارجية، ولا في منظر الصبي، ما يؤيد أصله العجيب ومقامه السماوي، نرجح أن "أبويه" لم يكونا قد أظهرا هذه الأسرار لأهل بيت لحم، وأنه لا يمكن أن يهتدي المجوس إلى مكان المسيح بدون هداية النجم. فإلى أي طفل من جميع أطفال بيت لحم ينبغي أن يسجدوا؟ لذلك ظهر لهم النجم من جديد ليثبِّت إيمانهم، وليدُلَّهم على البيت الذي يجب أن يزوروه. فلم يكن النجم مجرد أعجوبة، بل كان وسيلة ضرورية للوصول إلى نتيجة مهمة. ونلاحظ أنهم لما دخلوا البيت الذي هداهم النجم إليه لم يسجدوا إلا للطفل، وقدموا له وحده الهدايا، فقدَّموا مُرّاً ناسب مقام هذا الطفل النبوي، ولباناً وافق مقامه الكهنوتي، وذهباً لائم مقامه الملكي. وقد بحث العلماء كثيراً في موضوع هذا النجم العجيب، ودقّق الفلكيون في حساب الظهورات الجوية النادرة، ليروا أيّها يجوز اتخاذه تفسيراً لهذا الظهور. وعُلم أن في نحو ذلك التاريخ حدث اقتران في النجوم السيارة، لا يحدث إلا مرة بين مئات السنين. وظن بعضهم أن هذا الاقتران كان دليل المجوس. وعُلم أيضاً أن نجماً خارقاً في لمعانه ظهر في نحو ذلك الزمان، وبقي وقتاً وجيزاً ثم اختفى، فظنّه آخرون أنه نجم المجوس، وزعم غيرهم أنه كان من ذوات الأذناب التي لم يرد خبر ظهور بعضها في التاريخ إلا مرة، خلافاً للبعض الآخر التي لضيق حلقة دورانها، تعود إلى الظهور في فلكنا في مواقيت معلومة. ولكن لا يعرف أحد بالتأكيد شيئاً كافياً عن هذا النجم. كم فرح المجوس برؤية هذا الطفل الذي رأوا نجمه أولاً في مشرقهم البعيد. لقد حصلوا على نور جديد يفوق كثيراً الأجرام السماوية التي كانوا يراقبونها. وهذه نتيجة اهتمامهم بالدين، لذلك أُوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، فانصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم. ولا نعرف كيف ودَّع المجوس الأغنياء العائلة المقدسة الفقيرة. "وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا، إِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لِأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ". فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ: "مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي" (متى 2:13-15). حال انصراف المجوس ظهر ملاك الرب ليوسف في حلمٍ ثانٍ، كما ظهر قبل هذا في الناصرة، وأمره بالذهاب إلى مصر، وأعلن له سبب ذلك، فلم يتباطأ يوسف في طاعة الأمر الإلهي. لا بد أن مجيء المجوس وما فعلوه أثّر في جميع سكان بيت لحم، وزاد احترامهم لعائلةٍ ربما كانوا قبلاً يحتقرونها، ولا سيما للطفل الذي اعتبره المجوس ملك إسرائيل الجديد، فسجدوا له وأتحفوه بهدايا ذات قيمة مهمة. ولولا هدايا المجوس الثمينة ما كان يوسف يقدر أن يقوم بنفقات هذا السفر البعيد والتغرُّب في مصر. فجاءت هذه الهدايا شاهداً جميلاً لتدبير العناية الإلهية العجيبة متى مسَّت الحاجة لإتمام مشيئته المقدسة. |
||||
15 - 07 - 2017, 06:02 PM | رقم المشاركة : ( 18552 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
طفولة فريدة
تتضح طفولية يسوع الفريدة عن كل طفولية سواها في التاريخ لمن يتتبع قراءتها بإمعان، فمنها الكلام العجيب الذي جاء أولاً في النبوات القديمة التي تحققت بصورة مدهشة في تفاصيل هذه الطفولية، ثم جاء في النبوات الجديدة من ملائكة وبشر قبل ولادته مباشرة، ثم في الأناشيد الممتازة لأليصابات وزكريا ومريم. ومنها الحوادث العجيبة التي ابتدأت بظهور الملاك لزكريا وعقابه بالخَرس لعدم إيمانه، ثم تلا ذلك حبل أليصابات العجيب، وشفاء زكريا من خرسه، وظهور الملاك لمريم وحبلها العجيب، والتعليمات الضرورية الصادقة التي وردت ليوسف في الأحلام، والأمر الإمبراطوري بالإحصاء وحفظ القيود النَسَبيّة اليهودية، وظهور الملائكة للرعاة، وحوادث التقديم في الهيكل، وزيارة مجوس المشرق، ومنها التنوُّع العجيب في الاحتفاء بولادة هذا الطفل: أولاً اشتراك الملائكة ممثلي أهل السماء، ثم الكاهن ممثل رجال الدين، ثم الرعاة ممثلي فقراء العالم. ثم مريم وأليصابات ممثلتيْ الشابات والعجائز ثم المجوس ممثلي الأغنياء والعلماء والأشراف، وممثلي الأمم الوثنية، ثم سمعان الشيخ ممثل الإسرائيليين الأتقياء، وحنة ممثلة الأنبياء، والنجم ممثل الطبيعة غير العاقلة. يُضاف إلى هذا مناسبة الوقت الذي جاء فيه هذا المولود، ليس فقط أنه الوقت الذي اتفق مع النبوات الصريحة المختصة بالمسيح الموعود به، بل أن المناسبة ظهرت من أوجه أخرى عديدة، أوضحها الرسول بولس بعد ذلك في قوله: "لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الّزَمَانِ، أَرْسَلَ اللّهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ" (غلاطية 4:4). جاء المسيح رئيس السلام في وقت سلام عمَّ الأرض نادر الوقوع. وجاء في وقت توطَّد فيه الأمن العام، وتوفّرت المواصلات في الداخل والخارج تسهيلاً لأسفار رسله والمبشرين بإنجيله، وذلك بواسطة امتدادٍ لا مثيل له في التاريخ لسطوة سياسية موحَّدة منظمة شاملة، هي سطوة الإمبراطورية الرومانية في عِزِّها. ومن محاسن هذا الحكم إطلاق الحرية التامة الدينية. وكانت اللغة اليونانية، أفضل اللغات القديمة، منتشرةً مع فلسفتها البليغة في البلدان المختلفة، تسهيلاً لتوزيع إنجيل المسيح والتبشير به، ولا سيما أن اليهود كان لهم في الشتات ترجمة توراتهم العبرانية إلى اللغة اليونانية. جاء المسيح في وقت تفاقم فيه الشر في العالم لتتضح شدة احتياجه إلى مخلِّص مقتدر يقدم فداءً كافياً، ويُظهر سلطةً وافية ليكون مخلص البشر أجمع. جاء المسيح في وقت تمّت فيه الوسائل الأخرى التي استخدمها الإله سبحانه لردِّ البشر عن شرورهم. وكانت هذه الشرور تزداد، فامتلأت صدور الأتقياء القليلي العدد يأساً، جعلهم يتوقعون بفروغ صبر المسيح المخلص. جاء المسيح في وقت تشتَّت فيه الشعب اليهودي في كل المعمور، وهو شعب متمسك بالتوحيد الإلهي، يكره العبادة الصنَمية. وباعتبار التوراة الكتاب المُنزل كان رسل المسيح يبدأون باليهود في التبشير بمجيء مسيحهم، ويستعينون بمن يؤمن منهم لنشر البشارة بين الأكثرية الوثنية. وفي ذات الوقت كان الحكم الروماني العادل الصارم حاجزاً منيعاً أوقف رؤساء اليهود الذين أرادوا أن يخنقوا المسيحية في مهدها وأن يطفئوا ذكر المسيح. فبناءً على الأمور المار ذكرها وأمثالها، هل من عجب أن افتتح البشير مرقس تاريخ حياة هذا المولود بقوله: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله؟". |
||||
15 - 07 - 2017, 06:03 PM | رقم المشاركة : ( 18553 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
زيارة المجوس ليسوع الطفل "وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: "أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ". فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ. فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ: "أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟" فَقَالُوا لَهُ: "فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، لِأَنَّهُ هكَذَا مَكْتُوبٌ بِالنَّبِيِّ: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ أَرْضَ يَهُوذَا لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لِأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ". حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرّاً، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ. ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَقَالَ: "اذْهَبُوا وَافْحَصُوا بِالتَّدْقِيقِ عَنِ الصَّبِيِّ، وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِيَ أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ". فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً، وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ، فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ، ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً. ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلْمٍ أَنْ لَا يَرْجِعُوا إِلَى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طَرِيقٍ أُخْرَى إِلَى كُورَتِهِمْ" (متى 2:1-12). في فجر التاريخ البشري لم يطِقْ إبليس أن يرى أبوينا الأولين طاهرين سعيدين في جنة عدن، فاحتال عليهما وأسقطهما مع نسلهما جميعاً تحت عبودية الخطية. فهل يمكن أن يسكت لولادة المسيح، آدم الثاني، الأعظم من الأول بما لا يُقاس؟ أوَلَيْس هذا عدوَّه المقتدر الذي قال عنه الرسول: "لِأَجْلِ هذَا أُظْهِرَ ابْنُ اللّهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ"؟ (1 يوحنا 3:8). حقاً إن سكوت إبليس في هذا الوقت مستحيل، فلا بد من هيجانٍ جديد في دوائر الجحيم. ولا يحتاج هذا الرئيس إلى رسل من عالم الأرواح لإجراء مشيئته في إهلاك هذا الطفل الفريد، لأن عظماء القوم في البلاد هم في قبضة يده يستخدمهم كما يشاء في إتمام مقاصده المهلكة. ومَنْ هو أقدر على الإعدام من الملوك؟ أوَلَيْس ملك البلاد هيرودس الكبير الشرير الظالم الدموي طائعاً تماماً لمشيئة ملك الشياطين؟ فما حاجة إبليس إلى غير عبده هذا الملكي الذي يفتخر ويكتفي به ليُجري له مرامه الآن؟ وبما أن أجَلَ هذا الملك الشرير اقترب، فلذلك لا يتباطأ إبليس في استخدامه. وفي ذات يومٍ في أواخر أشهر الشتاء وقع اضطراب عظيم في أورشليم وفي قصر الملك، بسبب ظهور قومٍ غرباء في أورشليم آتين من المشرق، كانوا على ما يرجَّح من أهل العِلم والرُّتب الرفيعة اسمهم المجوس. ولا يقال من أي مشرق أتوا: أمن بلاد فارس أم الهند أم بلاد العرب؟ ولا يُقال كم كان عددهم: هل إثنا عشر حسب بعض التواريخ، أو ثلاثة حسب الرأي الغالب. والذين يصرُّون على أنهم ثلاثة يبنون حكمهم على أن تقدماتهم كانت من ثلاثة أنواع. ويحسبون أنهم مثَّلوا أقسام البشر الثلاثة: أي بني سام وبني حام وبني يافث، كما مثَّلوا أقسام العمر الثلاثة أي: الشباب والرجولة والكهولة. يُرجَّح أنهم كانوا من المهتمّين، كسائر علماء عصرهم، بدرس علم الفلك ومراقبة الأجرام السماوية. وقد يكونون من الذين سمعوا من اليهود المتغربين في بلادهم عن المسيح العظيم المنتظَر، وأنهم من أمثلة الوثنيين الذين يقول فيهم كتَبَةُ اليهود والرومان إنهم كانوا يتوقَّعون ظهور شخص عظيم في بلاد اليهود. أما أهل أورشليم فقد اعتادوا مجيء الزائرين من كل بلدان العالم حيثما كان الشعب اليهودي مشتتاً، لأن شهرة مدينتهم جعلتها مطمح أبصار الكثيرين من غير اليهود، الذين يريدون التفرُّج والاتِّجار. لكن قدوم هؤلاء المجوس أوقع اضطراباً عاماً بسبب السؤال الذي سألوه وغرضهم من هذه الزيارة. كان سؤالهم: "أين هو المولود ملك اليهود؟ لأننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له". أثار هذا السؤال خوفاً عظيماً في قلوب الذين سمعوه، بسبب ما توقعوا أن يفعله الملك الشرير هيرودس متى سمع بملكٍ جديد غيره. لا بد أن فنون جنونه تتجدَّد بذلك. ولا يعلم أحد على من تقع ضرباته البربرية المهلكة. كان جواسيسه المأجورون يبلغونه حالاً بكل ما يمسُّه أو يهمُّه، فلما بلغه خبر مجيء المجوس وسؤالهم، هاج خوفاً على عرشه وعلى حياته، فجمع حالاً كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب ليعرف منهم إن كان في كتب الأنبياء إشارة إلى مكان مولد المسيح. وإطاعة لأمره سردوا له قول النبي ميخا: "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الْأَزَلِ" (ميخا 5:2). ولا بد أن هيرودس دعا المجوس إلى قصره وأكرمهم - رغم شدة هيجان حنقه الداخلي عليهم - ليعرف منهم موعد ظهور النجم. ونعتقد أنه كان يهينهم ويعذبهم ويهلكهم لولا مَكْره الذي أوعز إليه أن يستخدمهم لإهلاك المولود الجديد الذي يهدد عرشه، فأخفى عنهم غيظه وأرسلهم إلى بيت لحم، ثم بمزيد الخبث والمكر أوصاهم: "أن يفحصوا بالتدقيق عن الصبي" وبمنتهى الرياء قال: "ومتى وجدتموه فأخبروني لكي آتي وأسجد له" فقدَّر لنفسه يوماً قريباً فيه يأخذ من المجوس الخبر الذي طلبه منهم، فيذهب بنفسه متظاهراً بقصد السجود، ليقتل الصبي، وربما المجوس أيضاً الذين أزعجوه. كنا نود أن نعرف أفكار المجوس لما وصلوا إلى العاصمة اليهودية، ووجدوا أن لا علم لأحد بميلاد الملك الجديد، من سكان القصر الملكي إلى أحقر رجل في الشارع. لماذا لم يأسفوا على سياحتهم ومشاقها ويعودوا على أعقابهم إلى بلادهم خجِلين؟ لماذا لم يفتكروا أن نجمهم أضلَّهم فيندمون على ما فعلوا؟ ربما استأنسوا بقول هيرودس إنه يريد هو أيضاً أن يسجد لهذا المولود، فتجددت آمالهم بعد أن علموا أن الملك هيرودس نفسه يريد أن يأتي ويسجد له. فذهبوا مستعدين أن يفعلوا ما أوصاهم، وشكروه على التسهيلات التي قدمها لهم. وفي طريقهم إلى بيت لحم عاد النجم الذي رأوه في المشرق إلى الظهور، وتقدَّمهم "حتى جاء ووقف حيث كان الصبي. ففرحوا فرحاً عظيماً جداً" ولا بد أنهم استدلّوا من النجم، لما رأوه في بلادهم، أن وُجهتهم يجب أن تكون أورشليم، وأن النجم لم يرافقهم إليها. رأوه في المشرق وودّعهم هناك، ولذلك سرَّهم جداً ظهوره الآن بعد انحجابه. وبما أن ليس في أحوال العائلة المقدسة الخارجية، ولا في منظر الصبي، ما يؤيد أصله العجيب ومقامه السماوي، نرجح أن "أبويه" لم يكونا قد أظهرا هذه الأسرار لأهل بيت لحم، وأنه لا يمكن أن يهتدي المجوس إلى مكان المسيح بدون هداية النجم. فإلى أي طفل من جميع أطفال بيت لحم ينبغي أن يسجدوا؟ لذلك ظهر لهم النجم من جديد ليثبِّت إيمانهم، وليدُلَّهم على البيت الذي يجب أن يزوروه. فلم يكن النجم مجرد أعجوبة، بل كان وسيلة ضرورية للوصول إلى نتيجة مهمة. ونلاحظ أنهم لما دخلوا البيت الذي هداهم النجم إليه لم يسجدوا إلا للطفل، وقدموا له وحده الهدايا، فقدَّموا مُرّاً ناسب مقام هذا الطفل النبوي، ولباناً وافق مقامه الكهنوتي، وذهباً لائم مقامه الملكي. وقد بحث العلماء كثيراً في موضوع هذا النجم العجيب، ودقّق الفلكيون في حساب الظهورات الجوية النادرة، ليروا أيّها يجوز اتخاذه تفسيراً لهذا الظهور. وعُلم أن في نحو ذلك التاريخ حدث اقتران في النجوم السيارة، لا يحدث إلا مرة بين مئات السنين. وظن بعضهم أن هذا الاقتران كان دليل المجوس. وعُلم أيضاً أن نجماً خارقاً في لمعانه ظهر في نحو ذلك الزمان، وبقي وقتاً وجيزاً ثم اختفى، فظنّه آخرون أنه نجم المجوس، وزعم غيرهم أنه كان من ذوات الأذناب التي لم يرد خبر ظهور بعضها في التاريخ إلا مرة، خلافاً للبعض الآخر التي لضيق حلقة دورانها، تعود إلى الظهور في فلكنا في مواقيت معلومة. ولكن لا يعرف أحد بالتأكيد شيئاً كافياً عن هذا النجم. كم فرح المجوس برؤية هذا الطفل الذي رأوا نجمه أولاً في مشرقهم البعيد. لقد حصلوا على نور جديد يفوق كثيراً الأجرام السماوية التي كانوا يراقبونها. وهذه نتيجة اهتمامهم بالدين، لذلك أُوحي إليهم في حلم أن لا يرجعوا إلى هيرودس، فانصرفوا في طريق أخرى إلى كورتهم. ولا نعرف كيف ودَّع المجوس الأغنياء العائلة المقدسة الفقيرة. "وَبَعْدَمَا انْصَرَفُوا، إِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ، وَكُنْ هُنَاكَ حَتَّى أَقُولَ لَكَ. لِأَنَّ هِيرُودُسَ مُزْمِعٌ أَنْ يَطْلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ". فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ، وَكَانَ هُنَاكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ: "مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي" (متى 2:13-15). حال انصراف المجوس ظهر ملاك الرب ليوسف في حلمٍ ثانٍ، كما ظهر قبل هذا في الناصرة، وأمره بالذهاب إلى مصر، وأعلن له سبب ذلك، فلم يتباطأ يوسف في طاعة الأمر الإلهي. لا بد أن مجيء المجوس وما فعلوه أثّر في جميع سكان بيت لحم، وزاد احترامهم لعائلةٍ ربما كانوا قبلاً يحتقرونها، ولا سيما للطفل الذي اعتبره المجوس ملك إسرائيل الجديد، فسجدوا له وأتحفوه بهدايا ذات قيمة مهمة. ولولا هدايا المجوس الثمينة ما كان يوسف يقدر أن يقوم بنفقات هذا السفر البعيد والتغرُّب في مصر. فجاءت هذه الهدايا شاهداً جميلاً لتدبير العناية الإلهية العجيبة متى مسَّت الحاجة لإتمام مشيئته المقدسة. قتل أطفال بيت لحم "حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدّاً، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ، بِحَسَبِ الّزَمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ. حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبِيِّ: "صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلَادِهَا وَلَا تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ" (متى 2:16-18). ماذا جرى في قصر هيرودس بعد أن ترك المجوس بيت لحم، وماذا فعل يوسف ومريم؟ لنعُدْ بالفكر إلى القصر الملكي في أورشليم، فنرى هيرودس منتظراً بفروغ صبر عودة المجوس، ليعرف ماذا يعمل لكي يُهلك المولود ملك اليهود. ولما انتهت المدة المتّفَق عليها بينه وبينهم لم يعودوا إليه، يرجَّح أنه أرسل إلى بيت لحم يسأل عنهم. ولما أخبره رسوله أنهم انصرفوا على غير طريق أورشليم، أدرك أن المجوس خدعوه، فاغتاظ جداً لأن هذا أضاع فرصته لمعرفة أي صبي في بيت لحم يجب أن يُقتل. ولا شك أن هيرودس سعى ليعرف من أهل بيت لحم البيت الذي زاره المجوس. ولما أُخبر أنهم كانوا غرباء من الجليل، وأنهم سافروا ليلاً إلى جهة مجهولة، لم يصدق ذلك، بل نسب إليهم الخداع، حسب عادته المشهورة في التطرُّف في إساءة الظن، واعتبر أن هذه الإجابة محافظةٌ على أحد أولادهم، فحمي غضبه أكثر، وقصد أولاً أن يتأكد من قَتْل الطفل يسوع. وثانياً أن ينتقم من أهل بيت لحم بعد أن ظن أنهم قاوموه بالخداع، وقبلوا سخرية المجوس به، وهو الملك العظيم. فأرسل رجاله ليقتلوا جميع الصبيان الذين في بيت لحم والذين في كل تخومها (لئلا يكون قد تحذَّر أحد فهرب إلى خارج) من ابن سنتين فما دون، بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس. يرى البشير متى في هذا الحادث المريع وهذه الفظاعة الهيرودية، إتماماً ثانياً لقول إرميا: "صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ بُكَاءٌ مُرٌّ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلَادِهَا وَتَأْبَى أَنْ تَتَعَزَّى عَنْ أَوْلَادِهَا لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ" (إرميا 31:15) وقد حسبهم البعض باكورة الشهداء المسيحيين لأنهم ذُبحوا في سبيل المسيح. عودة إلى الناصرة "فَلَمَّا مَاتَ هِيرُودُسُ، إِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلْمٍ لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ قَائِلاً: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ نَفْسَ الصَّبِيِّ". فَقَامَ وَأَخَذَ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ. وَلكِنْ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلَاوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضاً عَنْ هِيرُودُسَ أَبِيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُنَاكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلْمٍ، انْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي الْجَلِيلِ. وَأَتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالْأَنْبِيَاءِ: "إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيّاً" (متى 2:19-23). لم يطل الوقت إلا ونال هيرودس الظالم الدموي الشرير عقابه الذي يستحقه، لأنه مات موتاً مخيفاً في قصره في مدينة أريحا، معذّباً عذابات لا توصف من خارج ومن داخل. فمن يقدر أن يتصور لسعات ضمير الشرير في ساعات الموت، وخصوصاً متى طالت هذه الساعات، وكانت علته لا ترحمه؟ ظن هيرودس لما قتل أطفال بيت لحم أنه يعيش وأن الصبي الذي خشي أن يهدد عرشه قد قُتل. لكن بعد أيام قليلة كان هيرودس في قبره، بينما كان الصبي يسوع حياً محروساً، قد عظُم شأنه حسب ما نراه في هذا اليوم. ولم يطل تغرُّب العائلة المقدسة، فقد جاء ليوسف في مصر ملاكٌ قال له في حلم: "قم وخذ الصبي وأمه" لكنه لم يقل: "اهرب" بل "اذهب". وأمره بالرجوع إلى أرض إسرائيل باطمئنان، لأن الذي أراد أن يقتل الصبي قد مات، فسمع يوسف وأطاع. ونعتقد أن يوسف ومريم أرادا أن يستوطنا في بيت لحم، مدينة أجدادهم، مدينة داود الجميلة المكرمة، الواقعة على حدود المدينة المقدسة أورشليم، وبقرب هيكل الله العظيم، وبجانب المدارس العالية التي يلزم أن يتخرج فيها كل من قصد التقدُّم في المراتب الدينية، فقد كان تقدُّم المسيح مطمح أبصارهما، وهذه هي المدينة التي وضع الله اسمه فيها منذ أيام داود الملك والنبي العظيم، أفلا يوافق أن يتربى فيها أو في جوارها وارث داود الأعظم؟ ولكن بما أن ملك اليهود الجديد أرخيلاوس بن هيرودس الذي قام في أول ملكه بأعمال كثيرة حسنة، ليؤيد سلطته ويحفظ عرشه، تغيَّر سريعاً، وأظهر من القساوة ما ماثل تصرفات أبيه، خاف يوسف أن يستوطن تحت ظله. ويظهر أن يوسف كان في حيرته يلتجئ إلى الصلاة طلباً لإرشاد الله، فكان الله يجيبه وينيره بواسطة أحلامه. وقد شعر الآن بعظمة المسؤولية التي عليه للمحافظة على يسوع وحُسن تربيته. وفي هذه الحيرة أتاه الإرشاد الإلهي في حلم، فرجعوا إلى وطنهم الأول في الناصرة وسكنوا هناك. ويقول متى البشير إن الإقامة في الناصرة حققت قول أحد الأنبياء إن المسيح سيُدعى ناصرياً (متى 2:23). طفولة فريدة تتضح طفولية يسوع الفريدة عن كل طفولية سواها في التاريخ لمن يتتبع قراءتها بإمعان، فمنها الكلام العجيب الذي جاء أولاً في النبوات القديمة التي تحققت بصورة مدهشة في تفاصيل هذه الطفولية، ثم جاء في النبوات الجديدة من ملائكة وبشر قبل ولادته مباشرة، ثم في الأناشيد الممتازة لأليصابات وزكريا ومريم. ومنها الحوادث العجيبة التي ابتدأت بظهور الملاك لزكريا وعقابه بالخَرس لعدم إيمانه، ثم تلا ذلك حبل أليصابات العجيب، وشفاء زكريا من خرسه، وظهور الملاك لمريم وحبلها العجيب، والتعليمات الضرورية الصادقة التي وردت ليوسف في الأحلام، والأمر الإمبراطوري بالإحصاء وحفظ القيود النَسَبيّة اليهودية، وظهور الملائكة للرعاة، وحوادث التقديم في الهيكل، وزيارة مجوس المشرق، ومنها التنوُّع العجيب في الاحتفاء بولادة هذا الطفل: أولاً اشتراك الملائكة ممثلي أهل السماء، ثم الكاهن ممثل رجال الدين، ثم الرعاة ممثلي فقراء العالم. ثم مريم وأليصابات ممثلتيْ الشابات والعجائز ثم المجوس ممثلي الأغنياء والعلماء والأشراف، وممثلي الأمم الوثنية، ثم سمعان الشيخ ممثل الإسرائيليين الأتقياء، وحنة ممثلة الأنبياء، والنجم ممثل الطبيعة غير العاقلة. يُضاف إلى هذا مناسبة الوقت الذي جاء فيه هذا المولود، ليس فقط أنه الوقت الذي اتفق مع النبوات الصريحة المختصة بالمسيح الموعود به، بل أن المناسبة ظهرت من أوجه أخرى عديدة، أوضحها الرسول بولس بعد ذلك في قوله: "لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الّزَمَانِ، أَرْسَلَ اللّهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ" (غلاطية 4:4). جاء المسيح رئيس السلام في وقت سلام عمَّ الأرض نادر الوقوع. وجاء في وقت توطَّد فيه الأمن العام، وتوفّرت المواصلات في الداخل والخارج تسهيلاً لأسفار رسله والمبشرين بإنجيله، وذلك بواسطة امتدادٍ لا مثيل له في التاريخ لسطوة سياسية موحَّدة منظمة شاملة، هي سطوة الإمبراطورية الرومانية في عِزِّها. ومن محاسن هذا الحكم إطلاق الحرية التامة الدينية. وكانت اللغة اليونانية، أفضل اللغات القديمة، منتشرةً مع فلسفتها البليغة في البلدان المختلفة، تسهيلاً لتوزيع إنجيل المسيح والتبشير به، ولا سيما أن اليهود كان لهم في الشتات ترجمة توراتهم العبرانية إلى اللغة اليونانية. جاء المسيح في وقت تفاقم فيه الشر في العالم لتتضح شدة احتياجه إلى مخلِّص مقتدر يقدم فداءً كافياً، ويُظهر سلطةً وافية ليكون مخلص البشر أجمع. جاء المسيح في وقت تمّت فيه الوسائل الأخرى التي استخدمها الإله سبحانه لردِّ البشر عن شرورهم. وكانت هذه الشرور تزداد، فامتلأت صدور الأتقياء القليلي العدد يأساً، جعلهم يتوقعون بفروغ صبر المسيح المخلص. جاء المسيح في وقت تشتَّت فيه الشعب اليهودي في كل المعمور، وهو شعب متمسك بالتوحيد الإلهي، يكره العبادة الصنَمية. وباعتبار التوراة الكتاب المُنزل كان رسل المسيح يبدأون باليهود في التبشير بمجيء مسيحهم، ويستعينون بمن يؤمن منهم لنشر البشارة بين الأكثرية الوثنية. وفي ذات الوقت كان الحكم الروماني العادل الصارم حاجزاً منيعاً أوقف رؤساء اليهود الذين أرادوا أن يخنقوا المسيحية في مهدها وأن يطفئوا ذكر المسيح. فبناءً على الأمور المار ذكرها وأمثالها، هل من عجب أن افتتح البشير مرقس تاريخ حياة هذا المولود بقوله: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله؟". |
||||
15 - 07 - 2017, 06:08 PM | رقم المشاركة : ( 18554 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
يسوع في عمر الثانية عشرة ولما بلغ يسوع الثانية عشرة من عمره ذهب مع مريم ويوسف إلى هيكل أورشليم، ثم مرَّ على هذا الحادث نحو ثماني عشرة سنة، سكت الوحي تماماً عن أخبارها. ولم نقُلْ "سكت البشيرون" لأن سكوتهم لم يكن طبيعياً. ولا يفسره إلا أنهم كانوا منقادين بروح الوحي إلى هذا السكوت. وأما الكتبة الغير الموحى إليهم، الذين كتبوا بعدهم، فاتَّبعوا النسق الطبيعي، ولفّقوا أخباراً عديدة تتعلق حسب قولهم بتلك السنين. ولم يرْضَ مسيحيو الأجيال المظلمة عن هذا السكوت، فلفّقوا أخباراً مفصَّلة مطوَّلة، وكتبوا أناجيل ورسائل تحتوي قصصاً خرافية عن طفولية يسوع، تورد أقوالاً وأفعالاً تلائم تصوُّراتهم السخيفة، المضادة لنصوص الإنجيل الحقيقي، فقد ظنوا أن المعجزات التي اخترعوها تزيد من أمجاد المسيح، لكنها في الواقع تشهد بسخافة تلك القصص. ولكننا نتساءل: لماذا سكت الوحي عن أخبار هذه السنين، مع أن الوسائل لمعرفة حوادثها كانت متوفرة؟ وجواباً لذلك نقول إن حوادث طفولية يسوع أظهرت ملامح طبيعته الإلهية الضرورية لأجل صلاحيته كمخلِّص، فصار من الضروري أن تنحجب هذه الملامح مدة كافية لأجل إيضاح إنسانيته الحقيقية. لذلك انْحجَب لاهوته عن عشرائه أثناء سنوات استعداده الثلاثين، إلى أن برز للخدمة، فتجدّدت براهين لاهوته الحقيقي، في ما بقي من حياته بين الناس. وهذا السكوت من أهم براهين خطأ الذين يزعمون أن عمل يسوع الأعظم والأهم كان تقديمه قدوة للناس يتمثَّلون بها، فلو أن هذا كان صحيحاً لكان من الواجب إعلان ما قاله المسيح وفعله في السنين التي قضاها في العيشة العادية كأحد العامة، يمارس مهنته كنجار في الناصرة. ولم يقصد البشيرون تدوين حوادث حياة المسيح تاريخياً، بل قصدوا أن يبيِّنوا أنه المصلِح والمخلِّص. لذلك اكتفوا بالتاريخ الذي ابتدأ عند مباشرته أعماله علانية ورسمياً، بعد بلوغه سن الثلاثين، مع أن الأخبار التي أهملوها كانت تفيد وتلِذُّ العالم كثيراً لو أنها سُجِّلت. ومع أن الناصرة مدينة حقيرة بالنسبة إلى كثير من مدن البلاد، إلا أنها كانت تناسب من أوجه عديدة تربية الصبي ثم الشاب يسوع فيها، فقد كانت زُمر الكهنة تجتمع فيها من مساكنهم المتفرّقة، عندما يأتي دورهم ليخدموا في هيكل أورشليم، ومنها يذهبون معاً لأورشليم. والذين يتعذَّر عليهم الذهاب إلى أورشليم كانوا يقضون أسبوع خدمتهم في أداء الفروض الدينية في الناصرة، على إحدى الطرق الرئيسية الموصّلة بين المناطق الداخلية وشاطئ البحر الأبيض المتوسط، فكانت تمرُّ فيها القوافل المسافرة إلى البلاد الفينيقية وإلى مصر، فيرى يسوع من الحركات العمرانية ما يفقِّهه في أحوال البشر الزمنية. وقد أدَّى سكنه في قرية حقيرة في أطراف البلاد إلى نموِّه في التواضع وفي البساطة الدينية، لبُعده عن مركز اليهود الديني حيث كان الفساد مستفحلاً، لأن الادعاءات الرياسية، والغطرسة الريائية، والسفسطة التقليدية، والتفنينات الطقسية، كانت قد استولت على قادة الأمة في عاصمة دينهم، فخنقت التقوى الحقيقة، وضاع من بينهم روح الدين بسبب استعبادهم للحرف، وقد أوضح يسوع أفكاره في هذا كله يوم زار أورشليم، ودان أولئك الرؤساء على ذلك بكلام قارص جداً. ويظهر أن أصل يسوع السماوي كاد يبرح من أفكار مريم ويوسف في سني حداثته. ولا عجب، لأن حياته كانت تسير على أسلوب اعتيادي، ما خلا تفوُّقه في الصلاح، فاعتاد أهله النظر إليه كإنسان فقط. وكان في هذا الإغفال خير، إذْ أدَّى إلى أنه اختبر أحوال البشر المتنوعة، عندما اختلط بقومه في أطوار حياته التي تدرَّج فيها. ونتيجة لذلك تجرب في كل شيء مثلنا. فلو كان أبواه يفطنان في كثير من الأوقات إلى حقيقة طبيعته لأصبحا في ارتباك دائم في معاملته، ولكانا يحسبان أنه يجب عليهما الخضوع له في الرأي، وأن يقدّما له الطاعة، وليس بالعكس. وكان إذْ ذاك قد تربى تربية أبعدتهُ عن سائر البشر، وأفقدته الاشتراك التام في الشعور مع الأولاد والشبان والرجال. ولا نشك أن يسوع كان في حداثته في الناصرة متّقداً حرارة وغيرة وإشفاقاً لرؤيته مصائب الناس وآلامهم، ولذلك نُدهش أكثر لصبره العجيب، وامتلاكه عواطفه تلك السنين كلها التي كان فيها محتجباً في الناصرة، ومؤجلاً عمله الخطير الذي نزل من السماء لأجله، والذي شغل كل أفكاره. كان عليه أن يمارس يومياً حرفة النجارة ليكسب رزقه، حتى أطلق اليهود عليه لقب "النجار ابن مريم". وتعلَّم القناعة بحالته الفقيرة، والخضوع للأكبر منه سناً. ومما يؤيد استنتاجنا أن حياته كانت اعتيادية تماماً، أن إخوته لم يؤمنوا به، كما أن صيته لم يمتدّ في البلاد المجاورة، لأن نثنائيل في قانا الجليل على بُعْد ساعات قليلة، لم يكن قد سمع به كل تلك السنين، ولا أهل كفر ناحوم وبيت صيدا الأبعد قليلاً بالنسبة إلى قانا. وقد تلخَّص تاريخ حداثته في قول البشير لوقا: "وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ". وقوله: "وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ (في عقله) وَالْقَامَةِ (في جسمه) وَالنِّعْمَةِ (في روحه)، عِنْدَ اللّهِ وَالنَّاسِ" (لوقا 2:40 و52). وهذا الكلام يدل على أن المسيح تدرج في ذلك تدرُّجاً طبيعياً. وبذلك كان حائزاً - ليس فقط على الرضى الإلهي - بل على الإستحسان البشري أيضاً.. وكإنسان نتصوّره في كل تلك المدة يحبه جميع الناس، مستعداً لخدمتهم في كل أمر حسن، يبتعد عن كل ما يكدّرهم، ويصبر على هفواتهم، ويعاملهم باللطف في سيئاتهم. لم تأت ساعته بعد، التي تطلب منه مقاومة الشر جهاراً، فتثير عليه حنق الأشرار، ولم ينَلْ بعد الشهرة والأهمية التي تهيّج عليه حسد الكبار. |
||||
15 - 07 - 2017, 06:09 PM | رقم المشاركة : ( 18555 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
زيارة هيكل أورشليم "وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ. وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الْأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِساً فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: "يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!" فَقَالَ لَهُمَا: "لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لِأَبِي؟". فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلَامَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعاً لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الْأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللّهِ وَالنَّاسِ" (لوقا 2:41-52). في عمر الثانية عشرة سافر يسوع من الناصرة إلى هيكل أورشليم. وكان يوسف - رأس هذه الأسرة الناصرية الصغيرة - مكلَّفاً رسمياً أن يصعد إلى أورشليم سنوياً في الأعياد المهمة، وعلى الأخصّ في عيد الفصح، أكبر الأعياد، ولم تكن مريم مكلَّفة بذلك، شأنها شأن سائر النساء، كما كان الصبيان غير مكلَّفين قبل أن يدخلوا تحت "نير الناموس" في سن الإثنتي عشرة. وفي تلك السنة وقع عيد الفصح في 8 نيسان. إلى هذا العيد إذاً صعد به "أبواه" أول مرة. نحب أن نتصور اهتمام الثلاثة بالاستعداد لهذه الزيارة الأولى - زيارة هذا الولد العجيب - إلى المقام الديني الموقَّر. ثم نتصور رحلتهم برفقة القافلة المؤلَّفة من الجيران، مع كثيرين من بلاد أبعد وراء الناصرة. وكان على هذه القافلة أن تختار إما الطريق الأقصر الذي يمرُّ في بلاد السامريين المكروهين، وذلك يعرّضهم للإهانة والمضايقة، التي كان يتعرض لها اليهود الصاعدون بزيارات دينية إلى مدينة أورشليم من أهل السامرة. أو أن تفعل فِعل اليهود المتديّنين، وتختار المرور على الطريق الأبعد الواقع شرقي الأردن، فتضطر أن تعبر هذا النهر مرتين. وفي الحالتين يشرف هذا الجمهور على أورشليم في اليوم الرابع أو الخامس. ولا بد أن يسوع فرح وهو يرى الهيكل الفخم الجميل، والعابدين القادمين من مختلف بلاد العالم، ويسمع فرق الترتيل تعزف بالآلات الموسيقية وترنم بألحان مطربة مردّدة مزامير جدِّه داود. هنا يشاهد خدمة صفوف الكهنة، ولا سيما رئيسهم الأعظم، وهم مخصصون لخدمة الله، وخدمة الشعب في الأمور الروحية، وعليهم دون غيرهم تتوقف المصالح الدينية في البلاد. وكل فرد يطلب المصالحة مع الله وغفراناً لخطاياه كان مضطراً أن يقدم بواسطة هؤلاء الكهنة فقط الذبائح المفروضة عليه لينال هذه البركات. كان يوسف ومريم ويسوع يقضون أيامهم في المدينة مع المعيِّدين، ويحرصون بكل تدقيق على مواقيت الصلاة القانونية في الهيكل، مع سائر الفرائض المذهبيَّة العديدة المتعلقة بهذا العيد، ولا سيما التقدمات والذبائح. ولا بد أن رغبة هذا الصبي الذكي التقي اتجهت بالأكثر إلى السبب الخصوصي من هذه الزيارة، وهو فريضة الفصح المقدسة. ولا بد أنه كان يعلم أنه هو حمل الفصح الحقيقي، وأن كل تفاصيل هذا الاحتفال بالفصح ترمز إليه، وأن فيه تنتهي هذه السُنَّة القديمة التي مارسها شعب الله بكل تمسُّك مدة ألف وخمسمائة سنة. فكيف لا تكون عواطفه الدينية عامرة ابتهاجاً واشتياقاً إلى الاشتراك لأول مرة في فروض هذا العيد العظيم؟ لكن ما كان أبعد كل أفكار الجمهور الذي اختلط به هذا الصبي من التصوّر بأن هذا هو مسيحهم الموعود به والمنتظر. وكان من الواجب ألاّ يعرفوا ذلك الآن، لأنهم لو عرفوا لما سمحوا له أن يعود ويكمل مدته المعينة لاستعداده الكافي لعمله المقبل. يظهر أنه كان ينفرد عن "أبويه" في النهار، وهما لا يهتمان لذلك، لعلمهما بصفاته وثقتهما التامة فيه، فلم يلاحظا كم كان يقضي أوقاتاً في غُرف التدريس الديني الملاصقة للهيكل، حيث كان أعظم علمائهم يعظون ويدرّسون. وهو الآن يهتم فوق كل شيء بالاستفادة، فلا بد أنه رأى لأول وهلة الفرق الكلّي بين أفكاره وأفكارهم، وكشف سطحية ديانة هؤلاء المعلمين، فشعر بالحاجة إلى تعاليم روحية جديدة، على نسق جديد، وإلى بيان العلاقة الجوهرية بين التقوى وصلاح السيرة. وأخيراً انتهت أيام العيد، وتمَّ الاستعداد للرجوع للناصرة، وسافروا صباحاً جمهوراً ليس بقليل، فلم يلاحظ أحدهم - حتى ولا "أبواه" - أن الصبي لم ينضمَّ إليهم، ولا علم أحدهم أنه كان قد ذهب إلى الهيكل "ليسمع المعلّمين ويسألهم". ولكن لما لم يجدوه مساء، بعد التفتيش عنه بين جميع الأقرباء والمعارف، رجع "أبواه" إلى المدينة منزعجَيْن. وهناك لم يجداه في كل الأماكن التي تصوّرا أنه يتردّد إليها، حتى بعد مواصلة التفتيش الجدّي عنه يومين. إلى أن وجداه في اليوم الثالث في دائرة الهيكل جالساً بين علماء أمتهم وقد حصل على احترامهم وتعجُّبهم. كانت أفكاره متَّقدة بالمواضيع الدينية الجوهرية، يسأل العلماء بشغف، ويجيب على أسئلتهم بحكمة فائقة. فلما دخل "أبواه" إلى ذلك المكان الموقَّر لم تمتلك مريم نفسها، بل أسرعت إلى توبيخه، قائلة: "يا بُنيَّ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنَّا نطلبك معذبَيْن". لا نلوم أُمّاً احتدت على ابنها في أحوالٍ كهذه، إلا إذا كان ابنها يسوع، لأن معرفتها سموَّه العقلي والأدبي، كان يجب أن توقِفها عن توبيخه. ومن جوابه عرفنا أنها ملومة، لأن جوابه لم يكن اعتذاراً عمّا فعل أو حُجّةً لترضى بأن يبقى في أورشليم، إذْ رجع حالاً معهما وكان خاضعاً لهما. بل كان من باب التوبيخ اللطيف، إشعاراً لهما أنه مع صِغر سنّه يقدِّم إرادة الله على إرادة الأهل، وأنه لا يعتبر يوسف أباً حقيقياً له، بل أن أباه هو ذلك الذي وُلد من روحه. وجَّهَ لهما اللوم بأنه مع عِلمهما أن يوسف ليس أباه، نسيا أنه ينبغي أن يكون في ما لله أبيه الحقيقي، وليس في ما ليوسف أبيه المجازي، فلو كان يوسف أباه لقال: "ما لأبي السماوي" تمييزاً. ولا بد من القول إنه لو كان يسوع مجرد بشر، مولوداً من أب وأم بشريين، لاستحق اللوم على ما فعل وعلى ما قال، إذْ لا يحقُّ لابن الإثنتي عشرة أن يستقل عن والديه في الغُرْبة ويسبّب لهما عذاباً كهذا، ولا أن يكتم عنهما رغبته في أن ينفصل عنهما ويبقى في المدينة. ولا يحقّ له أن يجيب أمه كما أجاب يسوع مريم بعد أن وجدته في الهيكل، لأنه بكّتها على إتمامها أقدس واجباتها الوالدية والدينية - أي الاعتناء بولدها والتفتيش عنه، ونسب إليها الجهالة في قوله: "ألستما تعلمان؟". فكأحد أولاد البشر، كان يجب أن يندم على ما سبَّبه لهما من التعب والهم، وأن يُظهر لهما إكراماً لائقاً، ولا سيما بالنظر إلى حالة والدته، والمحنة الشديدة التي حصلت لها بسببه. إن مريم هي المصدر الوحيد لحفظ هذا الخبر ونشره. وقيل عنها في الوقت ذاته إنها لم تفهم كلامه. لكنها كانت تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها. فلماذا تخبر بما يخجلها؟ ولماذا اهتمَّ البشير والوحي الإلهي بإيراد هذا الخبر الذي يُرينا ولداً لم يقُم تماماً بمقتضيات الإحترام نحو والدته؟ إذا اعتبرنا هذا الصبي كما صوّره لنا البشيرون في أخبار طفوليته أنه ليس مجرد بشر، تنحل هذه العقدة، لأن الطبيعة الإلهية فيه توجب عليه أن يذكِّر أمه ويوسف أيضاً عند قولها: "أبوك وأنا"، أن يوسف ليس أباه، وأنه ليس تحت سيطرتهما كغيره من الأولاد مع والديهم، ولذلك يجب على مريم، ثم على البشير أن يخبرا بما جرى، مما ينبّه الأفكار إلى أصله الإلهي، وأنه حقاً نزل من السماء ليولد من مريم. ويؤخذ من قوله لأمه: "ألستما تعلمان؟" أن السر الجوهري المتعلِّق بأصله السماوي كان معلوماً عنده، فهل كان يا ترى معروفاً عند "والديه"؟ يجب أن نهتم كثيراً بهذه الألفاظ الوجيزة من فم يسوع، لأنها أول ما حُفظ لنا من كلامه. ويُلاحَظ أن قوله: "ينبغي أن أكون فيما لأبي" هو فاتحةٌ تناسب كل حياته فيما بعد، وهو القانون الذي اتخذه لنفسه، ولم يحد عنه مطلقاً في كل الزمان، من أول سني إدراكه، إلى أن اختفى من أبصار تلاميذه متمماً إرساليته بصعوده إلى السماء |
||||
15 - 07 - 2017, 06:09 PM | رقم المشاركة : ( 18556 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
صُبُوَّة المسيح بعد أن ذكر الإنجيل حوادث ميلاد المسيح ذكر حادثة ذهاب المسيح إلى هيكل أورشليم، وله من العمر اثنتي عشرة سنة، ثم صمت الإنجيل تماماً عن ذكر أي شيء من حياة المسيح حتى بلغ الثلاثين من عمره وبدأ خدمته الجهارية بين الناس، يشفي aالمرضى ويقيم الموتى ويعلّم الناس. ويتوق كل إنسان إلى أن يرى عملاً ولو واحداً، وأن يسمع قولاً ولو كلمة، عن مرحلة طفولة المسيح وصُبوّته. لكن ليس للعالم شيء من ذلك قبل بلوغ المسيح سن الإثنتي عشرة، لأن الوحي أسدل ستاراً حجب عن العالم ما افتكره المسيح وقاله وفعله في تلك المدة كلها. ويجوز أن نخمِّن بعض أمور أُهمل ذكرها، منها التحاقه في سن السادسة بالمدرسة كسائر أولاد اليهود، مراعاةً لقانون الدين، الذي جعل تعليم الأولاد إلزامياً، فأصبح يسوع شريكاً لجمهور الأولاد في المدارس، ونموذجاً لهم في الدروس والسلوك، يعرف تجاربهم ويشعر معهم فيها، لأنه تجرّب مثلهم فيرثي لهم. ومنها أيضاً امتيازه بين زملائه علمياً وأخلاقياً. في عمر الثانية عشرة ولما بلغ يسوع الثانية عشرة من عمره ذهب مع مريم ويوسف إلى هيكل أورشليم، ثم مرَّ على هذا الحادث نحو ثماني عشرة سنة، سكت الوحي تماماً عن أخبارها. ولم نقُلْ "سكت البشيرون" لأن سكوتهم لم يكن طبيعياً. ولا يفسره إلا أنهم كانوا منقادين بروح الوحي إلى هذا السكوت. وأما الكتبة الغير الموحى إليهم، الذين كتبوا بعدهم، فاتَّبعوا النسق الطبيعي، ولفّقوا أخباراً عديدة تتعلق حسب قولهم بتلك السنين. ولم يرْضَ مسيحيو الأجيال المظلمة عن هذا السكوت، فلفّقوا أخباراً مفصَّلة مطوَّلة، وكتبوا أناجيل ورسائل تحتوي قصصاً خرافية عن طفولية يسوع، تورد أقوالاً وأفعالاً تلائم تصوُّراتهم السخيفة، المضادة لنصوص الإنجيل الحقيقي، فقد ظنوا أن المعجزات التي اخترعوها تزيد من أمجاد المسيح، لكنها في الواقع تشهد بسخافة تلك القصص. ولكننا نتساءل: لماذا سكت الوحي عن أخبار هذه السنين، مع أن الوسائل لمعرفة حوادثها كانت متوفرة؟ وجواباً لذلك نقول إن حوادث طفولية يسوع أظهرت ملامح طبيعته الإلهية الضرورية لأجل صلاحيته كمخلِّص، فصار من الضروري أن تنحجب هذه الملامح مدة كافية لأجل إيضاح إنسانيته الحقيقية. لذلك انْحجَب لاهوته عن عشرائه أثناء سنوات استعداده الثلاثين، إلى أن برز للخدمة، فتجدّدت براهين لاهوته الحقيقي، في ما بقي من حياته بين الناس. وهذا السكوت من أهم براهين خطأ الذين يزعمون أن عمل يسوع الأعظم والأهم كان تقديمه قدوة للناس يتمثَّلون بها، فلو أن هذا كان صحيحاً لكان من الواجب إعلان ما قاله المسيح وفعله في السنين التي قضاها في العيشة العادية كأحد العامة، يمارس مهنته كنجار في الناصرة. ولم يقصد البشيرون تدوين حوادث حياة المسيح تاريخياً، بل قصدوا أن يبيِّنوا أنه المصلِح والمخلِّص. لذلك اكتفوا بالتاريخ الذي ابتدأ عند مباشرته أعماله علانية ورسمياً، بعد بلوغه سن الثلاثين، مع أن الأخبار التي أهملوها كانت تفيد وتلِذُّ العالم كثيراً لو أنها سُجِّلت. ومع أن الناصرة مدينة حقيرة بالنسبة إلى كثير من مدن البلاد، إلا أنها كانت تناسب من أوجه عديدة تربية الصبي ثم الشاب يسوع فيها، فقد كانت زُمر الكهنة تجتمع فيها من مساكنهم المتفرّقة، عندما يأتي دورهم ليخدموا في هيكل أورشليم، ومنها يذهبون معاً لأورشليم. والذين يتعذَّر عليهم الذهاب إلى أورشليم كانوا يقضون أسبوع خدمتهم في أداء الفروض الدينية في الناصرة، على إحدى الطرق الرئيسية الموصّلة بين المناطق الداخلية وشاطئ البحر الأبيض المتوسط، فكانت تمرُّ فيها القوافل المسافرة إلى البلاد الفينيقية وإلى مصر، فيرى يسوع من الحركات العمرانية ما يفقِّهه في أحوال البشر الزمنية. وقد أدَّى سكنه في قرية حقيرة في أطراف البلاد إلى نموِّه في التواضع وفي البساطة الدينية، لبُعده عن مركز اليهود الديني حيث كان الفساد مستفحلاً، لأن الادعاءات الرياسية، والغطرسة الريائية، والسفسطة التقليدية، والتفنينات الطقسية، كانت قد استولت على قادة الأمة في عاصمة دينهم، فخنقت التقوى الحقيقة، وضاع من بينهم روح الدين بسبب استعبادهم للحرف، وقد أوضح يسوع أفكاره في هذا كله يوم زار أورشليم، ودان أولئك الرؤساء على ذلك بكلام قارص جداً. ويظهر أن أصل يسوع السماوي كاد يبرح من أفكار مريم ويوسف في سني حداثته. ولا عجب، لأن حياته كانت تسير على أسلوب اعتيادي، ما خلا تفوُّقه في الصلاح، فاعتاد أهله النظر إليه كإنسان فقط. وكان في هذا الإغفال خير، إذْ أدَّى إلى أنه اختبر أحوال البشر المتنوعة، عندما اختلط بقومه في أطوار حياته التي تدرَّج فيها. ونتيجة لذلك تجرب في كل شيء مثلنا. فلو كان أبواه يفطنان في كثير من الأوقات إلى حقيقة طبيعته لأصبحا في ارتباك دائم في معاملته، ولكانا يحسبان أنه يجب عليهما الخضوع له في الرأي، وأن يقدّما له الطاعة، وليس بالعكس. وكان إذْ ذاك قد تربى تربية أبعدتهُ عن سائر البشر، وأفقدته الاشتراك التام في الشعور مع الأولاد والشبان والرجال. ولا نشك أن يسوع كان في حداثته في الناصرة متّقداً حرارة وغيرة وإشفاقاً لرؤيته مصائب الناس وآلامهم، ولذلك نُدهش أكثر لصبره العجيب، وامتلاكه عواطفه تلك السنين كلها التي كان فيها محتجباً في الناصرة، ومؤجلاً عمله الخطير الذي نزل من السماء لأجله، والذي شغل كل أفكاره. كان عليه أن يمارس يومياً حرفة النجارة ليكسب رزقه، حتى أطلق اليهود عليه لقب "النجار ابن مريم". وتعلَّم القناعة بحالته الفقيرة، والخضوع للأكبر منه سناً. ومما يؤيد استنتاجنا أن حياته كانت اعتيادية تماماً، أن إخوته لم يؤمنوا به، كما أن صيته لم يمتدّ في البلاد المجاورة، لأن نثنائيل في قانا الجليل على بُعْد ساعات قليلة، لم يكن قد سمع به كل تلك السنين، ولا أهل كفر ناحوم وبيت صيدا الأبعد قليلاً بالنسبة إلى قانا. وقد تلخَّص تاريخ حداثته في قول البشير لوقا: "وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ". وقوله: "وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ (في عقله) وَالْقَامَةِ (في جسمه) وَالنِّعْمَةِ (في روحه)، عِنْدَ اللّهِ وَالنَّاسِ" (لوقا 2:40 و52). وهذا الكلام يدل على أن المسيح تدرج في ذلك تدرُّجاً طبيعياً. وبذلك كان حائزاً - ليس فقط على الرضى الإلهي - بل على الإستحسان البشري أيضاً.. وكإنسان نتصوّره في كل تلك المدة يحبه جميع الناس، مستعداً لخدمتهم في كل أمر حسن، يبتعد عن كل ما يكدّرهم، ويصبر على هفواتهم، ويعاملهم باللطف في سيئاتهم. لم تأت ساعته بعد، التي تطلب منه مقاومة الشر جهاراً، فتثير عليه حنق الأشرار، ولم ينَلْ بعد الشهرة والأهمية التي تهيّج عليه حسد الكبار. زيارة هيكل أورشليم "وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ. وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الْأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الْأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِساً فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: "يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!" فَقَالَ لَهُمَا: "لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لِأَبِي؟". فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلَامَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعاً لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الْأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللّهِ وَالنَّاسِ" (لوقا 2:41-52). في عمر الثانية عشرة سافر يسوع من الناصرة إلى هيكل أورشليم. وكان يوسف - رأس هذه الأسرة الناصرية الصغيرة - مكلَّفاً رسمياً أن يصعد إلى أورشليم سنوياً في الأعياد المهمة، وعلى الأخصّ في عيد الفصح، أكبر الأعياد، ولم تكن مريم مكلَّفة بذلك، شأنها شأن سائر النساء، كما كان الصبيان غير مكلَّفين قبل أن يدخلوا تحت "نير الناموس" في سن الإثنتي عشرة. وفي تلك السنة وقع عيد الفصح في 8 نيسان. إلى هذا العيد إذاً صعد به "أبواه" أول مرة. نحب أن نتصور اهتمام الثلاثة بالاستعداد لهذه الزيارة الأولى - زيارة هذا الولد العجيب - إلى المقام الديني الموقَّر. ثم نتصور رحلتهم برفقة القافلة المؤلَّفة من الجيران، مع كثيرين من بلاد أبعد وراء الناصرة. وكان على هذه القافلة أن تختار إما الطريق الأقصر الذي يمرُّ في بلاد السامريين المكروهين، وذلك يعرّضهم للإهانة والمضايقة، التي كان يتعرض لها اليهود الصاعدون بزيارات دينية إلى مدينة أورشليم من أهل السامرة. أو أن تفعل فِعل اليهود المتديّنين، وتختار المرور على الطريق الأبعد الواقع شرقي الأردن، فتضطر أن تعبر هذا النهر مرتين. وفي الحالتين يشرف هذا الجمهور على أورشليم في اليوم الرابع أو الخامس. ولا بد أن يسوع فرح وهو يرى الهيكل الفخم الجميل، والعابدين القادمين من مختلف بلاد العالم، ويسمع فرق الترتيل تعزف بالآلات الموسيقية وترنم بألحان مطربة مردّدة مزامير جدِّه داود. هنا يشاهد خدمة صفوف الكهنة، ولا سيما رئيسهم الأعظم، وهم مخصصون لخدمة الله، وخدمة الشعب في الأمور الروحية، وعليهم دون غيرهم تتوقف المصالح الدينية في البلاد. وكل فرد يطلب المصالحة مع الله وغفراناً لخطاياه كان مضطراً أن يقدم بواسطة هؤلاء الكهنة فقط الذبائح المفروضة عليه لينال هذه البركات. كان يوسف ومريم ويسوع يقضون أيامهم في المدينة مع المعيِّدين، ويحرصون بكل تدقيق على مواقيت الصلاة القانونية في الهيكل، مع سائر الفرائض المذهبيَّة العديدة المتعلقة بهذا العيد، ولا سيما التقدمات والذبائح. ولا بد أن رغبة هذا الصبي الذكي التقي اتجهت بالأكثر إلى السبب الخصوصي من هذه الزيارة، وهو فريضة الفصح المقدسة. ولا بد أنه كان يعلم أنه هو حمل الفصح الحقيقي، وأن كل تفاصيل هذا الاحتفال بالفصح ترمز إليه، وأن فيه تنتهي هذه السُنَّة القديمة التي مارسها شعب الله بكل تمسُّك مدة ألف وخمسمائة سنة. فكيف لا تكون عواطفه الدينية عامرة ابتهاجاً واشتياقاً إلى الاشتراك لأول مرة في فروض هذا العيد العظيم؟ لكن ما كان أبعد كل أفكار الجمهور الذي اختلط به هذا الصبي من التصوّر بأن هذا هو مسيحهم الموعود به والمنتظر. وكان من الواجب ألاّ يعرفوا ذلك الآن، لأنهم لو عرفوا لما سمحوا له أن يعود ويكمل مدته المعينة لاستعداده الكافي لعمله المقبل. يظهر أنه كان ينفرد عن "أبويه" في النهار، وهما لا يهتمان لذلك، لعلمهما بصفاته وثقتهما التامة فيه، فلم يلاحظا كم كان يقضي أوقاتاً في غُرف التدريس الديني الملاصقة للهيكل، حيث كان أعظم علمائهم يعظون ويدرّسون. وهو الآن يهتم فوق كل شيء بالاستفادة، فلا بد أنه رأى لأول وهلة الفرق الكلّي بين أفكاره وأفكارهم، وكشف سطحية ديانة هؤلاء المعلمين، فشعر بالحاجة إلى تعاليم روحية جديدة، على نسق جديد، وإلى بيان العلاقة الجوهرية بين التقوى وصلاح السيرة. وأخيراً انتهت أيام العيد، وتمَّ الاستعداد للرجوع للناصرة، وسافروا صباحاً جمهوراً ليس بقليل، فلم يلاحظ أحدهم - حتى ولا "أبواه" - أن الصبي لم ينضمَّ إليهم، ولا علم أحدهم أنه كان قد ذهب إلى الهيكل "ليسمع المعلّمين ويسألهم". ولكن لما لم يجدوه مساء، بعد التفتيش عنه بين جميع الأقرباء والمعارف، رجع "أبواه" إلى المدينة منزعجَيْن. وهناك لم يجداه في كل الأماكن التي تصوّرا أنه يتردّد إليها، حتى بعد مواصلة التفتيش الجدّي عنه يومين. إلى أن وجداه في اليوم الثالث في دائرة الهيكل جالساً بين علماء أمتهم وقد حصل على احترامهم وتعجُّبهم. كانت أفكاره متَّقدة بالمواضيع الدينية الجوهرية، يسأل العلماء بشغف، ويجيب على أسئلتهم بحكمة فائقة. فلما دخل "أبواه" إلى ذلك المكان الموقَّر لم تمتلك مريم نفسها، بل أسرعت إلى توبيخه، قائلة: "يا بُنيَّ، لماذا فعلت بنا هكذا؟ هوذا أبوك وأنا كنَّا نطلبك معذبَيْن". لا نلوم أُمّاً احتدت على ابنها في أحوالٍ كهذه، إلا إذا كان ابنها يسوع، لأن معرفتها سموَّه العقلي والأدبي، كان يجب أن توقِفها عن توبيخه. ومن جوابه عرفنا أنها ملومة، لأن جوابه لم يكن اعتذاراً عمّا فعل أو حُجّةً لترضى بأن يبقى في أورشليم، إذْ رجع حالاً معهما وكان خاضعاً لهما. بل كان من باب التوبيخ اللطيف، إشعاراً لهما أنه مع صِغر سنّه يقدِّم إرادة الله على إرادة الأهل، وأنه لا يعتبر يوسف أباً حقيقياً له، بل أن أباه هو ذلك الذي وُلد من روحه. وجَّهَ لهما اللوم بأنه مع عِلمهما أن يوسف ليس أباه، نسيا أنه ينبغي أن يكون في ما لله أبيه الحقيقي، وليس في ما ليوسف أبيه المجازي، فلو كان يوسف أباه لقال: "ما لأبي السماوي" تمييزاً. ولا بد من القول إنه لو كان يسوع مجرد بشر، مولوداً من أب وأم بشريين، لاستحق اللوم على ما فعل وعلى ما قال، إذْ لا يحقُّ لابن الإثنتي عشرة أن يستقل عن والديه في الغُرْبة ويسبّب لهما عذاباً كهذا، ولا أن يكتم عنهما رغبته في أن ينفصل عنهما ويبقى في المدينة. ولا يحقّ له أن يجيب أمه كما أجاب يسوع مريم بعد أن وجدته في الهيكل، لأنه بكّتها على إتمامها أقدس واجباتها الوالدية والدينية - أي الاعتناء بولدها والتفتيش عنه، ونسب إليها الجهالة في قوله: "ألستما تعلمان؟". فكأحد أولاد البشر، كان يجب أن يندم على ما سبَّبه لهما من التعب والهم، وأن يُظهر لهما إكراماً لائقاً، ولا سيما بالنظر إلى حالة والدته، والمحنة الشديدة التي حصلت لها بسببه. إن مريم هي المصدر الوحيد لحفظ هذا الخبر ونشره. وقيل عنها في الوقت ذاته إنها لم تفهم كلامه. لكنها كانت تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها. فلماذا تخبر بما يخجلها؟ ولماذا اهتمَّ البشير والوحي الإلهي بإيراد هذا الخبر الذي يُرينا ولداً لم يقُم تماماً بمقتضيات الإحترام نحو والدته؟ إذا اعتبرنا هذا الصبي كما صوّره لنا البشيرون في أخبار طفوليته أنه ليس مجرد بشر، تنحل هذه العقدة، لأن الطبيعة الإلهية فيه توجب عليه أن يذكِّر أمه ويوسف أيضاً عند قولها: "أبوك وأنا"، أن يوسف ليس أباه، وأنه ليس تحت سيطرتهما كغيره من الأولاد مع والديهم، ولذلك يجب على مريم، ثم على البشير أن يخبرا بما جرى، مما ينبّه الأفكار إلى أصله الإلهي، وأنه حقاً نزل من السماء ليولد من مريم. ويؤخذ من قوله لأمه: "ألستما تعلمان؟" أن السر الجوهري المتعلِّق بأصله السماوي كان معلوماً عنده، فهل كان يا ترى معروفاً عند "والديه"؟ يجب أن نهتم كثيراً بهذه الألفاظ الوجيزة من فم يسوع، لأنها أول ما حُفظ لنا من كلامه. ويُلاحَظ أن قوله: "ينبغي أن أكون فيما لأبي" هو فاتحةٌ تناسب كل حياته فيما بعد، وهو القانون الذي اتخذه لنفسه، ولم يحد عنه مطلقاً في كل الزمان، من أول سني إدراكه، إلى أن اختفى من أبصار تلاميذه متمماً إرساليته بصعوده إلى السماء |
||||
15 - 07 - 2017, 06:14 PM | رقم المشاركة : ( 18557 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
المسيح يطلب من يوحنا أن يعمده "حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الْأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: "أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" فَقَالَ يَسُوعُ لَهُ: " اسْمَحِ الْآنَ، لِأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ". حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللّهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: " هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3:13-17). حان زمان ظهور المسيح ليباشر عمله الخلاصي، فامتزج مع الجمهور الفقير الكبير المحيط بالمعمدان في البرية. نظرهم يتقدمون ويعترفون للمعمدان بخطاياهم، وينالون منه المعمودية بالماء إشارة إلى المغفرة، ثم النصائح المناسبة لكل واحد. رأى رهبة هذا النبي الجديد واحترام الجموع وخضوعهم له، وسمع لهجة سلطته الروحية في كلامه، فتقدم المسيح إليه ليطلب أن يعمده، لكنه لم يقدم شرط المعمودية أي الاعتراف والتوبة. فكيف يعمّده المعمدان؟ لاحظ المعمدان أن يسوع مزيَّن بهيبة القداسة، فبدلاً من أن يطالبه بالتوبة، اعتبره أعظم منه وأطهر، ورفض أن يعمده وقال: "أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" (متى 3:14). كان يوحنا ذا مقام رفيع، لأنه من السلالة الكهنوتية الممتازة، ومن منطقة اليهودية أشرف أقسام الأرض المقدسة. ومع ذلك لا تتعجب من كلامه هذا، لأنه علم أن الذي يخاطبه هو المسيح الذي طالما نادى بقرب مجيئه، وأطنب في وصفه، وتشوَّق إلى رؤياه. لكن اعتراف المعمدان الصريح بأنه لم يكن يعرفه يجعلنا نُعجب أنه وجَّه كلاماً كهذا إلى نجّار مجهول من وطن حقير. لم يتذلل المعمدان أمام رؤساء البلاد، حتى ولا أمام الملك ذاته. قد سمعنا صوته بالأمس للرؤساء بين الجمهور قائلاً: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟" فكيف يتذلل الآن أمام النجار الناصري، ويقول لهذا الشاب الغريب: "أنا محتاج أن أعتمد منك؟". في قوله هذا أظهر أنه مع كل تقواه وغيرته ونجاحه في خدمة الدين وانتصاره للصلاح، وحياته التقشُّفية يشعر أنه خاطئ، ويفتقر إلى من يعمده هو بمعمودية التوبة. برهن تواضعه على عظمته، فإن التفوق في الشعور بالخطية يرافق دائماً التفوُّق في الصلاح. وكان جواب المسيح على اعتراض المعمدان بالرزانة والحكمة، كأنه معلم يخاطب تلميذاً له. قال: "اسْمَحِ الْآنَ، لِأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ" (متى 3:15). لا بد من الوقوف تُجاه هذه العبارة، لأنها أول كلام حُفظ لنا من كلام المسيح عندما بلغ سن الرجولية، وهي القول الثاني فقط المدوّن من فمه العزيز. من قوله: "هكذا يليق" نعرف أن المسيح اعتمد لياقة لا وجوباً، واختياراً لا اضطراراً. فلم يقُل كما قال المعمدان: "أنا محتاج أن أعتمد منك". ولكنه طلب المعمودية ليشجع خدمة المعمدان، ويزيد تأثيره الحسن بين الناس، ويقوّي بقدوته تيار القادمين إليه ليسمعوا وعظه ويطلبوا معموديته، فيمكّنه بذلك أن يتمّم هذا القسم من رسالته، وهو تهيئة طريق المسيح. كان في معمودية يوحنا معنيان (أ) أصغرهما يشير إلى التطهير من الخطية. وثانيهما وأكبرهما (ب) يشير إلى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد الذي سوف يقيمه المسيح، وإلى حياة جديدة يحياها المعتمد. بالمعنى الأول، معنى التطهير من الخطية، يعتمد المسيح لا شخصياً بل نيابياً ورمزياً، فقد أخذ المسيح محل الخاطئ بعد أن اتّخذ شبه جسد الخطية... عند اليهود كان الطاهر يتنجس إن لمس ميتاً. ولما لمس يسوع جنسنا الخاطئ اعتُبر خاطئاً لأنه حسب كلام النبوة "أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَة" (إشعياء 53:12) وهكذا اشترك في معمودية التوبة نائباً عنا. وبهذا المعنى قال الرسول بولس إن الله: "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا" (2 كورنثوس 5:21). ولكن بالمعنى الثاني، معنى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد، يعتمد المسيح جدياً وشخصياً، لأنه يدخل الآن في خدمته الجهارية الخلاصية في إنشاء هذا الملكوت والترأس فيه. كان غيره من المعتمدين يدخل على حياة جديدة بواسطة ما يناله، إلا أن حياة المسيح الجديدة تقوم بما ينيله للناس. وفي معموديته أخذ المسحة القانونية التي تتطلّبها وظائفه الثلاث: كنبي وكاهن وملك. عمد يوحنا يسوع بالماء، وصعد يسوع للوقت من الماء عالماً بما لهذه الساعة من الأهمية الفائقة في مستقبل حياته الأرضية، ومستقبل تاريخ البشر. أما معظم أفكاره فكانت متَّجهة إلى غير هذه المعمودية. كان كابن الإنسان يعرف حاجته إلى معمودية الروح القدس كشرط ضروري في كل معمودية مسيحية ثابتة، فشعر في هذه الساعة بقرب الآب منه ورضاه التام عنه. ولذلك كان أمراً طبيعياً أن يصلي وهو صاعد من الماء بعد العماد. ومن الاستجابة التي نالها عرفنا أن صلاته كانت لأجل حلول الروح القدس عليه. لما قرع باب السماء بصلاته انشقَّت وانفتحت له. وحلَّ عليه الروح القدس حسب طلبه. ويظهر أن يوحنا كان موعوداً بعلامة بها يعرف المسيح، لأنه قال: "الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللّهِ" (يوحنا 1:33 و34). هذا الوعد كان سبباً كافياً لاتّخاذ الروح القدس هيئة جسمية، لأن المعمدان حالما شاهد ذلك عرف دون أدنى ريب أن هذا هو الذي قال عنه سابقاً إنه يأتي بعده، الذي كان قبله، الذي يعمد بالروح القدس. ومع حلول الروح القدس على الابن الأزلي المتأنّس، سمع حالاً صوت الآب مستحسناً: " هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3:17). ثم تحقيقاً لإيمان المعمدان كان هذا الصوت ضرورياً لتحقيق الرؤيا وتفسيرها. وهذه هي أولى المرات الثلاث في تاريخ المسيح التي فيها سُمع صوت الله من السماء. بمجيء هذا الصوت اجتمعت الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، على صورة جلية ومؤثرة للغاية، عند تكريس المخلِّص. وبناء على هذا الظهور في اعتماده، نرى يسوع يوصي تلاميذه أن يعمّدوا كل من يؤمن به "بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (متى 28:19). ولم يقل "بأسماء" الآب والابن والروح القدس. |
||||
15 - 07 - 2017, 06:15 PM | رقم المشاركة : ( 18558 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
يوحنا المعمدان "وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: "تُوبُوا، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً". وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الْإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً. حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْأُرْدُنّ، وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الْأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: "يَا أَوْلَادَ الْأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الْآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. وَلَا تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَباً. لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلَاداً لِإِبْراهِيمَ. وَالْآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لَا تُطْفَأُ" (متى 3:1-12). قبلما بزغ نور المسيح العظيم، الذي قال عن نفسه: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ" (يوحنا 8:12) لاح فجره في شخص نسيبه يوحنا المعمدان، الذي كان مثله-ولو أنه أقل منه كثيراً، وقال عن نفسه: "لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ" (مرقس 1:7). سمّاه يسوع: "السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ" (يوحنا 5:35). وقال فيه الرسول يوحنا إنه "إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللّهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ" (يوحنا 1:8). كان هذا الفجر المبشَّر به منتظراً، بسبب النبوَّات التي سبقت ظهوره. والمعمدان هو الوحيد غير المسيح الذي جاءت عنه نبوات قبل ظهوره بمئات السنين. أشار البشيرون إلى نبوَّة منها وردت في كتابة إشعياء، أعظم الأنبياء الذين كتبوا بعد موسى وأشاروا أيضاً إلى كلام نبيٍ ثانٍ بعده بثلاثمائة سنة. وهو ملاخي، آخر الأنبياء الذين كتبوا بالوحي. ونبوّته هي الحلقة الموصّلة بين العهد القديم وأسفاره والعهد الجديد وأسفاره (إشعياء 40:3 ، ملاخي 3:1 ، 4:5). تقرَّر مقام المعمدان أولاً بواسطة هذه النبوات، وتقرَّر أيضاً بواسطة سلسلة المعجزات الممتازة التي رافقت ولادته. ثم بواسطة القوة الفائقة التي ظهرت فيه حتى جذب الجماهير إلى وعظه ومعموديته، لأنه تسلط تسلُّطاً روحياً وأدبياً على الشعب وعلى رؤسائهم، حتى على ملكهم الشرير هيرودس أنتيباس. فصار اليهود يتساءلون قائلين: "ألعل هذا هو المسيح؟" ونال هذه المكانة، دون شيء من الظواهر المجيدة التي كان اليهود يصوّرونها لمسيحهم متى جاء، ودون أن يفعل معجزة واحدة في زمانه. أما الذي أيَّد عظمة مقام المعمدان تأييداً صريحاً كاملاً، فهو شهادات المسيح له، فقد قال عنه للشعب: "مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ... اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ!" (متى 11:7-11) كانت عظمته من النوع المُشار إليه في قول دانيال النبي: "وَالْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ، وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ" (دانيال 12:3). يتقدم يوحنا المعمدان بروح إيليا ونشاطه، أمام ملك إسرائيل الحقيقي، حباً واحتراماً، عند قدومه إلى مملكته الأرضية، وكان غرض يوحنا كغرض إيليا: تبكيت شعب الله على حيدانهم عن شرائعه تعالى، وعلى انقيادهم إلى العادات الفاسدة التي اقتبسوها من الأمم حولهم. يسوق الضمير البشر ليُصغوا إلى الواعظ الذي يأتيهم بروح الأنبياء العظماء، مثل موسى الذي "قَبِلَ أَقْوَالاً حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَاَ" (أعمال 7:38). وبروح الرسول بطرس الذي كتب: "إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ اللّهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا اللّهُ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ اللّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الْآبِدِينَ" (1 بطرس 4:11). الواعظ المملوء من الروح القدس - نظير المعمدان - لا يفتقر إلى سامعين، لأنه لا يشغل نفسه بالمقالات الفلسفية، ولا يتكلم من نفسه، ولا يعظ لأن الوعظ حرفته التي يرتزق منها ويُرضي الناس بها، بل يعظ كمن يسمع كلام الله الذي يقول له: "فَالْآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ" (خروج 4:12) وكمن يشعر مع بولس لما كتب: "وَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لَا أُبَشِّرُ" (1 كو 9:16). تيتَّم المعمدان صغيراً، وليس له إخوة ولا أخوات. ولما بلغ سنّ الرشد لم يتبع أباه في رتبة الكهنوت، لأنه علم أنه نذير الله، فاتّخذ البرية مسكنه، والجراد والعسل البري طعامه، وثوباً من وبر الإبل لباسه، والجلد حزاماً لوسطه، والزهد في الدنيا طباعه، فاختلف في ذلك عن المسيح الذي قضى سنيه كلها بين إخوته وأخواته ومواطنيه في الناصرة، يمارس صناعته بينهم، ويختلط بهم كأحدهم، ثم يتجول في المدن والقرى بين الجماهير في أنحاء البلاد. ويلاحَظُ أن قصة المعمدان كقصة المسيح تخلو من الأخبار بين طفوليته وسن الثلاثين، فالقول الوحيد الذي ورد عن المعمدان في هذه المدة كلها هو: "وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ. أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لِإِسْرَائِيلَ" (لوقا 1:66 و80). ومع أن المعمدان لم يماثل المسيح في معيشته الخارجية، إلا أنه ماثله في التمسُّك التامّ بالأمور الروحية، والاهتمام بخير الناس، والغيرة على إصلاحهم، والجرأة في الانتصار للحق والبر، ومحاربة الشر على أنواعه بين كل طبقات البشر. وكان نصير المساواة بين الناس، يحطّ المترفّع منهم، وينهِض المتواضع، ويقوّم المعوّج، ويمهّد الطريق إلى الصلاح، ثم إلى السماء. وكان نصير السلام، يردُّ القلوب المتباعدة بعضها إلى بعض. وفي كل هذا أتمَّ النبوات التي وردت بشأنه، ومنها أنه يجهز الطريق لمجيء المخلّص الذي هو المسيح الرب. وقد قرن يوحنا المعمدان في معموديته الغفران بالتوبة، فليس الغفران أمراً مؤجلاً يناله الخاطئ عند موته، أو في المستقبل بعد أن يُظهِر حقيقة توبته بالأفعال الصالحة، بل هو هبةٌ إلهية تُعطَى حالما تتولّد في قلب الخاطئ ندامة صادقة مخلصة تقود النادم للالتجاء إلى الله. ولا بد أن الفكر المنتشر في البلاد وقتها بأن ظهور المسيح قريب كان من أسباب ازدحام الجمهور حول المعمدان. ولما قال علانية إن المسيح قد جاء، زاد الحماس الديني في أفكار الناس، فتقاطروا إلى هذا المبشر أكثر فأكثر. لكنه لم يدارِ خاطراً ولم يراعِ مقاماً في توبيخاته القوية الصريحة على الشرور المتنوعة، فبرهن بجرأته وعدالته أهليته للوظيفة النبوية. وفي إنكار ذاتٍ أعلن أنه ليس أكثر من "صوت صارخ في البرية" ينطق بأوامر إلهية تسلَّمها ليسلّمها للشعب، كما صُرِّح عنه في النبوة القديمة المشيرة إليه. ونبّههم إلى أن الوقت قد حان لوضع الفأس على أصل الشجرة التي لا تثمر أثماراً صالحة، وأن بيد مسيحهم القادم رفشاً لتنقية بيدره، وإحراق البطالين بنار لا تُطفأ، بعد جَمع الصالحين إلى مخزنه (متى 3:7-12). صوت المعمدان هذا هو الصوت الصارخ في البرية، وهو صدى الرعود على جبل سيناء عند إنزال الشريعة الطاهرة على موسى، فحَرك الناس ليفتكروا بالنجاة. ولما رآهم المعمدان مرتعبين سألهم مؤنّباً: "من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟". وأعلن أن النجاة لن تكون بالهروب، بل بإصلاح سيرتهم، وأكّد لهم أن مجرد تسلسلهم من إبراهيم لا يخوّلهم البركات التي وعد الله نسل إبراهيم بها، لأن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم. ولكن لا يمكنه أن يحسب نسلاً لإبراهيم أناساً يخالفون إبراهيم وصلاحه. فظهر تأثير وعظه في المسائل التي تقدمت له لإجل الإرشاد الديني من صفوف الناس المختلفة، وظهرت حكمته في أجوبته. ولم يكن كل وعظ يوحنا إرهاباً، فقد بشَّر الناس بالعمل الفائق الذي يقوم به المسيح متى ظهر. وأنه هو يقدر أن يعمدهم بماءٍ للتوبة، لكن معمودية الماء ليست إلا رمزاً وتمهيداً للمعمودية التي يفتقر إليها كل خاطئ لأجل الخلاص، وهي معمودية الروح القدس، التي يستحيل على أعظم الرسل والأنبياء أن يعمّد بها، لأنها عمل الإله وحده، فلما قال يوحنا إن المسيح يعمّد بالروح القدس أعلن للناس أن يسوع المسيح حقاً هو الإله المتأنّس، ولما قال إن المسيح الذي يأتي بعده كان قبله، قدَّم برهاناً آخر بأن يسوع لم يكن مجرد بشر. لا شك أن المعمدان مهّد طريق المسيح كثيراً، لأن تأثير وعظه خلق استعداداً داخلياً في كثيرين لسماع تعاليم المسيح وقبوله فيما بعد. وكان وعظه بأن ملكوت الله قد اقترب ذات الوعظ الذي افتتح به المسيح خدمته. اختار الله المعمدان من النسل الكهنوتي ليهيئ طريق المسيح المخلّص، ويوصّل بين العهدين القديم والجديد، فأقامه نبياً لا كاهناً، وجعله الأخير في سلسلة الأنبياء، والأول في سلسلة المبشرين الجديدة. اختاره من أنسباء يسوع في الجسد، تكريماً وتعزيزاً للعلاقات العائلية بين البشر، فالعائلة هي أساس المجتمع الإنساني، وأقدس فروعه، وهي أساسٌ في الدين أيضاً. فرأس كل عائلة هو كاهنها ورئيسها الديني لا الزمني فقط. فالدين في المدارس حتى في المعابد أيضاً تابعٌ للدين في العائلة. رنَّ صوت المعمدان الصارخ في البرية، فملأ البلاد إلى أقاصيها، فجعله صيته مهوباً عند الجميع، من الملك هيرودس أنتيباس إلى رجل الشارع. وفي ذات يوم أتاه المسيح إلى بيت عبرة على ضفة الأردن من الناصرة على بعد سفر يوم - وكان قد أكمل السنين الثلاثين الإستعدادية. طال انحجاب حقيقة أمره عن أبصار العالم، وعن ذويه في وطنه فلم يعرفوا عظمة عمله المقبل، وهكذا يطول انحجاب البذرة في الأرض بحسب أهمية الشجرة التي ستكون منها. |
||||
15 - 07 - 2017, 06:15 PM | رقم المشاركة : ( 18559 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
يوحنا المعمدان يجهز الطريق "وَفِي تِلْكَ الْأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: "تُوبُوا، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ. فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً". وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الْإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَاداً وَعَسَلاً بَرِّيّاً. حِينَئِذٍ خَرَجَ إِلَيْهِ أُورُشَلِيمُ وَكُلُّ الْيَهُودِيَّةِ وَجَمِيعُ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ بِالْأُرْدُنّ، وَاعْتَمَدُوا مِنْهُ فِي الْأُرْدُنِّ، مُعْتَرِفِينَ بِخَطَايَاهُمْ. فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: "يَا أَوْلَادَ الْأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الْآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. وَلَا تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَباً. لِأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلَاداً لِإِبْراهِيمَ. وَالْآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لَا تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لَا تُطْفَأُ" (متى 3:1-12). قبلما بزغ نور المسيح العظيم، الذي قال عن نفسه: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ" (يوحنا 8:12) لاح فجره في شخص نسيبه يوحنا المعمدان، الذي كان مثله-ولو أنه أقل منه كثيراً، وقال عن نفسه: "لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَنْحَنِيَ وَأَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ" (مرقس 1:7). سمّاه يسوع: "السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ" (يوحنا 5:35). وقال فيه الرسول يوحنا إنه "إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللّهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ. لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ" (يوحنا 1:8). كان هذا الفجر المبشَّر به منتظراً، بسبب النبوَّات التي سبقت ظهوره. والمعمدان هو الوحيد غير المسيح الذي جاءت عنه نبوات قبل ظهوره بمئات السنين. أشار البشيرون إلى نبوَّة منها وردت في كتابة إشعياء، أعظم الأنبياء الذين كتبوا بعد موسى وأشاروا أيضاً إلى كلام نبيٍ ثانٍ بعده بثلاثمائة سنة. وهو ملاخي، آخر الأنبياء الذين كتبوا بالوحي. ونبوّته هي الحلقة الموصّلة بين العهد القديم وأسفاره والعهد الجديد وأسفاره (إشعياء 40:3 ، ملاخي 3:1 ، 4:5). تقرَّر مقام المعمدان أولاً بواسطة هذه النبوات، وتقرَّر أيضاً بواسطة سلسلة المعجزات الممتازة التي رافقت ولادته. ثم بواسطة القوة الفائقة التي ظهرت فيه حتى جذب الجماهير إلى وعظه ومعموديته، لأنه تسلط تسلُّطاً روحياً وأدبياً على الشعب وعلى رؤسائهم، حتى على ملكهم الشرير هيرودس أنتيباس. فصار اليهود يتساءلون قائلين: "ألعل هذا هو المسيح؟" ونال هذه المكانة، دون شيء من الظواهر المجيدة التي كان اليهود يصوّرونها لمسيحهم متى جاء، ودون أن يفعل معجزة واحدة في زمانه. أما الذي أيَّد عظمة مقام المعمدان تأييداً صريحاً كاملاً، فهو شهادات المسيح له، فقد قال عنه للشعب: "مَاذَا خَرَجْتُمْ إِلَى الْبَرِّيَّةِ لِتَنْظُرُوا؟ أَنَبِيّاً؟ نَعَمْ أَقُولُ لَكُمْ، وَأَفْضَلَ مِنْ نَبِيٍّ... اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ!" (متى 11:7-11) كانت عظمته من النوع المُشار إليه في قول دانيال النبي: "وَالْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ، وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ" (دانيال 12:3). يتقدم يوحنا المعمدان بروح إيليا ونشاطه، أمام ملك إسرائيل الحقيقي، حباً واحتراماً، عند قدومه إلى مملكته الأرضية، وكان غرض يوحنا كغرض إيليا: تبكيت شعب الله على حيدانهم عن شرائعه تعالى، وعلى انقيادهم إلى العادات الفاسدة التي اقتبسوها من الأمم حولهم. يسوق الضمير البشر ليُصغوا إلى الواعظ الذي يأتيهم بروح الأنبياء العظماء، مثل موسى الذي "قَبِلَ أَقْوَالاً حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَاَ" (أعمال 7:38). وبروح الرسول بطرس الذي كتب: "إِنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فَكَأَقْوَالِ اللّهِ، وَإِنْ كَانَ يَخْدِمُ أَحَدٌ فَكَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةٍ يَمْنَحُهَا اللّهُ، لِكَيْ يَتَمَجَّدَ اللّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الْآبِدِينَ" (1 بطرس 4:11). الواعظ المملوء من الروح القدس - نظير المعمدان - لا يفتقر إلى سامعين، لأنه لا يشغل نفسه بالمقالات الفلسفية، ولا يتكلم من نفسه، ولا يعظ لأن الوعظ حرفته التي يرتزق منها ويُرضي الناس بها، بل يعظ كمن يسمع كلام الله الذي يقول له: "فَالْآنَ اذْهَبْ وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَأُعَلِّمُكَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ" (خروج 4:12) وكمن يشعر مع بولس لما كتب: "وَيْلٌ لِي إِنْ كُنْتُ لَا أُبَشِّرُ" (1 كو 9:16). تيتَّم المعمدان صغيراً، وليس له إخوة ولا أخوات. ولما بلغ سنّ الرشد لم يتبع أباه في رتبة الكهنوت، لأنه علم أنه نذير الله، فاتّخذ البرية مسكنه، والجراد والعسل البري طعامه، وثوباً من وبر الإبل لباسه، والجلد حزاماً لوسطه، والزهد في الدنيا طباعه، فاختلف في ذلك عن المسيح الذي قضى سنيه كلها بين إخوته وأخواته ومواطنيه في الناصرة، يمارس صناعته بينهم، ويختلط بهم كأحدهم، ثم يتجول في المدن والقرى بين الجماهير في أنحاء البلاد. ويلاحَظُ أن قصة المعمدان كقصة المسيح تخلو من الأخبار بين طفوليته وسن الثلاثين، فالقول الوحيد الذي ورد عن المعمدان في هذه المدة كلها هو: "وَكَانَتْ يَدُ الرَّبِّ مَعَهُ. أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لِإِسْرَائِيلَ" (لوقا 1:66 و80). ومع أن المعمدان لم يماثل المسيح في معيشته الخارجية، إلا أنه ماثله في التمسُّك التامّ بالأمور الروحية، والاهتمام بخير الناس، والغيرة على إصلاحهم، والجرأة في الانتصار للحق والبر، ومحاربة الشر على أنواعه بين كل طبقات البشر. وكان نصير المساواة بين الناس، يحطّ المترفّع منهم، وينهِض المتواضع، ويقوّم المعوّج، ويمهّد الطريق إلى الصلاح، ثم إلى السماء. وكان نصير السلام، يردُّ القلوب المتباعدة بعضها إلى بعض. وفي كل هذا أتمَّ النبوات التي وردت بشأنه، ومنها أنه يجهز الطريق لمجيء المخلّص الذي هو المسيح الرب. وقد قرن يوحنا المعمدان في معموديته الغفران بالتوبة، فليس الغفران أمراً مؤجلاً يناله الخاطئ عند موته، أو في المستقبل بعد أن يُظهِر حقيقة توبته بالأفعال الصالحة، بل هو هبةٌ إلهية تُعطَى حالما تتولّد في قلب الخاطئ ندامة صادقة مخلصة تقود النادم للالتجاء إلى الله. ولا بد أن الفكر المنتشر في البلاد وقتها بأن ظهور المسيح قريب كان من أسباب ازدحام الجمهور حول المعمدان. ولما قال علانية إن المسيح قد جاء، زاد الحماس الديني في أفكار الناس، فتقاطروا إلى هذا المبشر أكثر فأكثر. لكنه لم يدارِ خاطراً ولم يراعِ مقاماً في توبيخاته القوية الصريحة على الشرور المتنوعة، فبرهن بجرأته وعدالته أهليته للوظيفة النبوية. وفي إنكار ذاتٍ أعلن أنه ليس أكثر من "صوت صارخ في البرية" ينطق بأوامر إلهية تسلَّمها ليسلّمها للشعب، كما صُرِّح عنه في النبوة القديمة المشيرة إليه. ونبّههم إلى أن الوقت قد حان لوضع الفأس على أصل الشجرة التي لا تثمر أثماراً صالحة، وأن بيد مسيحهم القادم رفشاً لتنقية بيدره، وإحراق البطالين بنار لا تُطفأ، بعد جَمع الصالحين إلى مخزنه (متى 3:7-12). صوت المعمدان هذا هو الصوت الصارخ في البرية، وهو صدى الرعود على جبل سيناء عند إنزال الشريعة الطاهرة على موسى، فحَرك الناس ليفتكروا بالنجاة. ولما رآهم المعمدان مرتعبين سألهم مؤنّباً: "من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟". وأعلن أن النجاة لن تكون بالهروب، بل بإصلاح سيرتهم، وأكّد لهم أن مجرد تسلسلهم من إبراهيم لا يخوّلهم البركات التي وعد الله نسل إبراهيم بها، لأن الله قادر أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم. ولكن لا يمكنه أن يحسب نسلاً لإبراهيم أناساً يخالفون إبراهيم وصلاحه. فظهر تأثير وعظه في المسائل التي تقدمت له لإجل الإرشاد الديني من صفوف الناس المختلفة، وظهرت حكمته في أجوبته. ولم يكن كل وعظ يوحنا إرهاباً، فقد بشَّر الناس بالعمل الفائق الذي يقوم به المسيح متى ظهر. وأنه هو يقدر أن يعمدهم بماءٍ للتوبة، لكن معمودية الماء ليست إلا رمزاً وتمهيداً للمعمودية التي يفتقر إليها كل خاطئ لأجل الخلاص، وهي معمودية الروح القدس، التي يستحيل على أعظم الرسل والأنبياء أن يعمّد بها، لأنها عمل الإله وحده، فلما قال يوحنا إن المسيح يعمّد بالروح القدس أعلن للناس أن يسوع المسيح حقاً هو الإله المتأنّس، ولما قال إن المسيح الذي يأتي بعده كان قبله، قدَّم برهاناً آخر بأن يسوع لم يكن مجرد بشر. لا شك أن المعمدان مهّد طريق المسيح كثيراً، لأن تأثير وعظه خلق استعداداً داخلياً في كثيرين لسماع تعاليم المسيح وقبوله فيما بعد. وكان وعظه بأن ملكوت الله قد اقترب ذات الوعظ الذي افتتح به المسيح خدمته. اختار الله المعمدان من النسل الكهنوتي ليهيئ طريق المسيح المخلّص، ويوصّل بين العهدين القديم والجديد، فأقامه نبياً لا كاهناً، وجعله الأخير في سلسلة الأنبياء، والأول في سلسلة المبشرين الجديدة. اختاره من أنسباء يسوع في الجسد، تكريماً وتعزيزاً للعلاقات العائلية بين البشر، فالعائلة هي أساس المجتمع الإنساني، وأقدس فروعه، وهي أساسٌ في الدين أيضاً. فرأس كل عائلة هو كاهنها ورئيسها الديني لا الزمني فقط. فالدين في المدارس حتى في المعابد أيضاً تابعٌ للدين في العائلة. رنَّ صوت المعمدان الصارخ في البرية، فملأ البلاد إلى أقاصيها، فجعله صيته مهوباً عند الجميع، من الملك هيرودس أنتيباس إلى رجل الشارع. وفي ذات يوم أتاه المسيح إلى بيت عبرة على ضفة الأردن من الناصرة على بعد سفر يوم - وكان قد أكمل السنين الثلاثين الإستعدادية. طال انحجاب حقيقة أمره عن أبصار العالم، وعن ذويه في وطنه فلم يعرفوا عظمة عمله المقبل، وهكذا يطول انحجاب البذرة في الأرض بحسب أهمية الشجرة التي ستكون منها. المسيح يطلب من يوحنا أن يعمده "حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الْأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: "أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" فَقَالَ يَسُوعُ لَهُ: " اسْمَحِ الْآنَ، لِأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ". حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللّهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: " هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3:13-17). حان زمان ظهور المسيح ليباشر عمله الخلاصي، فامتزج مع الجمهور الفقير الكبير المحيط بالمعمدان في البرية. نظرهم يتقدمون ويعترفون للمعمدان بخطاياهم، وينالون منه المعمودية بالماء إشارة إلى المغفرة، ثم النصائح المناسبة لكل واحد. رأى رهبة هذا النبي الجديد واحترام الجموع وخضوعهم له، وسمع لهجة سلطته الروحية في كلامه، فتقدم المسيح إليه ليطلب أن يعمده، لكنه لم يقدم شرط المعمودية أي الاعتراف والتوبة. فكيف يعمّده المعمدان؟ لاحظ المعمدان أن يسوع مزيَّن بهيبة القداسة، فبدلاً من أن يطالبه بالتوبة، اعتبره أعظم منه وأطهر، ورفض أن يعمده وقال: "أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" (متى 3:14). كان يوحنا ذا مقام رفيع، لأنه من السلالة الكهنوتية الممتازة، ومن منطقة اليهودية أشرف أقسام الأرض المقدسة. ومع ذلك لا تتعجب من كلامه هذا، لأنه علم أن الذي يخاطبه هو المسيح الذي طالما نادى بقرب مجيئه، وأطنب في وصفه، وتشوَّق إلى رؤياه. لكن اعتراف المعمدان الصريح بأنه لم يكن يعرفه يجعلنا نُعجب أنه وجَّه كلاماً كهذا إلى نجّار مجهول من وطن حقير. لم يتذلل المعمدان أمام رؤساء البلاد، حتى ولا أمام الملك ذاته. قد سمعنا صوته بالأمس للرؤساء بين الجمهور قائلاً: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟" فكيف يتذلل الآن أمام النجار الناصري، ويقول لهذا الشاب الغريب: "أنا محتاج أن أعتمد منك؟". في قوله هذا أظهر أنه مع كل تقواه وغيرته ونجاحه في خدمة الدين وانتصاره للصلاح، وحياته التقشُّفية يشعر أنه خاطئ، ويفتقر إلى من يعمده هو بمعمودية التوبة. برهن تواضعه على عظمته، فإن التفوق في الشعور بالخطية يرافق دائماً التفوُّق في الصلاح. وكان جواب المسيح على اعتراض المعمدان بالرزانة والحكمة، كأنه معلم يخاطب تلميذاً له. قال: "اسْمَحِ الْآنَ، لِأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ" (متى 3:15). لا بد من الوقوف تُجاه هذه العبارة، لأنها أول كلام حُفظ لنا من كلام المسيح عندما بلغ سن الرجولية، وهي القول الثاني فقط المدوّن من فمه العزيز. من قوله: "هكذا يليق" نعرف أن المسيح اعتمد لياقة لا وجوباً، واختياراً لا اضطراراً. فلم يقُل كما قال المعمدان: "أنا محتاج أن أعتمد منك". ولكنه طلب المعمودية ليشجع خدمة المعمدان، ويزيد تأثيره الحسن بين الناس، ويقوّي بقدوته تيار القادمين إليه ليسمعوا وعظه ويطلبوا معموديته، فيمكّنه بذلك أن يتمّم هذا القسم من رسالته، وهو تهيئة طريق المسيح. كان في معمودية يوحنا معنيان (أ) أصغرهما يشير إلى التطهير من الخطية. وثانيهما وأكبرهما (ب) يشير إلى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد الذي سوف يقيمه المسيح، وإلى حياة جديدة يحياها المعتمد. بالمعنى الأول، معنى التطهير من الخطية، يعتمد المسيح لا شخصياً بل نيابياً ورمزياً، فقد أخذ المسيح محل الخاطئ بعد أن اتّخذ شبه جسد الخطية... عند اليهود كان الطاهر يتنجس إن لمس ميتاً. ولما لمس يسوع جنسنا الخاطئ اعتُبر خاطئاً لأنه حسب كلام النبوة "أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَة" (إشعياء 53:12) وهكذا اشترك في معمودية التوبة نائباً عنا. وبهذا المعنى قال الرسول بولس إن الله: "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا" (2 كورنثوس 5:21). ولكن بالمعنى الثاني، معنى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد، يعتمد المسيح جدياً وشخصياً، لأنه يدخل الآن في خدمته الجهارية الخلاصية في إنشاء هذا الملكوت والترأس فيه. كان غيره من المعتمدين يدخل على حياة جديدة بواسطة ما يناله، إلا أن حياة المسيح الجديدة تقوم بما ينيله للناس. وفي معموديته أخذ المسحة القانونية التي تتطلّبها وظائفه الثلاث: كنبي وكاهن وملك. عمد يوحنا يسوع بالماء، وصعد يسوع للوقت من الماء عالماً بما لهذه الساعة من الأهمية الفائقة في مستقبل حياته الأرضية، ومستقبل تاريخ البشر. أما معظم أفكاره فكانت متَّجهة إلى غير هذه المعمودية. كان كابن الإنسان يعرف حاجته إلى معمودية الروح القدس كشرط ضروري في كل معمودية مسيحية ثابتة، فشعر في هذه الساعة بقرب الآب منه ورضاه التام عنه. ولذلك كان أمراً طبيعياً أن يصلي وهو صاعد من الماء بعد العماد. ومن الاستجابة التي نالها عرفنا أن صلاته كانت لأجل حلول الروح القدس عليه. لما قرع باب السماء بصلاته انشقَّت وانفتحت له. وحلَّ عليه الروح القدس حسب طلبه. ويظهر أن يوحنا كان موعوداً بعلامة بها يعرف المسيح، لأنه قال: "الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللّهِ" (يوحنا 1:33 و34). هذا الوعد كان سبباً كافياً لاتّخاذ الروح القدس هيئة جسمية، لأن المعمدان حالما شاهد ذلك عرف دون أدنى ريب أن هذا هو الذي قال عنه سابقاً إنه يأتي بعده، الذي كان قبله، الذي يعمد بالروح القدس. ومع حلول الروح القدس على الابن الأزلي المتأنّس، سمع حالاً صوت الآب مستحسناً: " هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3:17). ثم تحقيقاً لإيمان المعمدان كان هذا الصوت ضرورياً لتحقيق الرؤيا وتفسيرها. وهذه هي أولى المرات الثلاث في تاريخ المسيح التي فيها سُمع صوت الله من السماء. بمجيء هذا الصوت اجتمعت الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، على صورة جلية ومؤثرة للغاية، عند تكريس المخلِّص. وبناء على هذا الظهور في اعتماده، نرى يسوع يوصي تلاميذه أن يعمّدوا كل من يؤمن به "بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (متى 28:19). ولم يقل "بأسماء" الآب والابن والروح القدس. |
||||
15 - 07 - 2017, 06:57 PM | رقم المشاركة : ( 18560 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
وليم كاري, أبو الإرساليّات وُلِد "وليم كاري"، (1761-1834)، في "نورثمبتون" في إنكلترا، وعمل كصانع أحذية لفترة طويلة. طلب "وليم" الخلاص، وتجدّد بالرّوح القدس في الثّامنة عشرة من عمره. استطاع أن يجمع بين العمل والخدمة والدّراسة، فتعلّم اللاّتينيّة واليونانيّة والعبريّة والهولنديّة والفرنسيّة، وقرأ اللاّهوت والآداب بتعمّق. وكانت خدمته ترتكز على التّبشير بالإنجيل والخلاص وسط "الكالفينيّين"، الّذين كانوا يعتقدون أنّ قَدَر الإنسان مرسوم قبل ولادته. في العام 1785، انتُخب "كاري" واعظًا في كنيسة معمدانيّة في "مولتن"، وكان يعلّم في مدرسة تقع في المنطقة نفسها. وبعد سنة، رُسِم "وليم كاري" قسّيسًا. وفي خلال هذه الفترة، أُوكل إليه الاهتمام بأمور النّاس الّذين لم يُبشَّروا بالإنجيل في المناطق الوثنيّة. عام 1792 أصدر "وليم كاري" كتيّبًا حول "واجب المسيحيّين في هداية الوثنيّين"، وأسّس أوّل جمعيّة إرساليّة حديثة. قدّم "كاري" عظته المشهورة: "توقّعوا أشياء كثيرة من الرّبّ، وحاولوا عمل أشياء كثيرة للرّبّ"، في اجتماع للخدمة في كنيسة معمدانيّة في "ليشستر"، والّتي تولّى رعايتها سنة 1789. وبعد أربعة أشهر، أسّس "الجمعيّة المعمدانيّة لنشر الكتاب المقدّس وسط الشّعب الوثنيّ"، المعروفة اليوم بـ" الجمعيّة الإرساليّة المعمدانيّة". . سافر "وليم كاري"، مع "جون توماس"، إلى البنغال في الهند عام 1793، وتعلّم لغة البلاد بسرعة. وفي عام 1794 تولّى إدارة شركة لصناعة الصّباغة بالقرب من "مِدراس". عام 1798، درس "كاري" لغة الهند الأدبيّة القديمة، وترجم الكتاب المقدّس إلى لغة البنغال. ثمّ انتقل، في العام 1800، إلى مستعمرة دنماركيّة من "سيرامبور"، والّتي صارت مقرًّا له في الأربع وثلاثين سنة المتبقيّة من خدمته الإرساليّة المتعدّدة الجهود، الّتي نشرت تأثيرها في الهند وبعدها في آسيا. وفي تلك البلاد، تألّم "وليم كاري" كثيرًا بسبب فقر السّكّان ومعاناتهم. أمّا ألمه الأكبر، فكان لعبادتهم الأصنام في البيوت والطّرقات والمعابد. وكانت الممارسات الشّرّيرة تدفع إلى حرق الأرملة حيّة إلى جانب جثّة زوجها. وقد دفعت، كلّ هذه العادات السّيّئة، "وليم كاري" إلى مواجهتها بصرامة. أمّا التّخلّص منها فكان يعتبر تهديدًا للتّقاليد الاجتماعيّة السّائدة، الأمر الّذي كان يسبّب له المواجهة المستمرّة مع القادة والجماهير. إلاّ أنّ إيمانه بأنّ الله، المحبّ للبشر، يريد خلاص الوثنيّين دفعه إلى عدم الاستسلام ومتابعة البشارة بالإنجيل بلا كلل وبإيمان. اعتمد أوّل مهتدٍ إلى المسيح في خدمة "كاري"، وهو السيّد "كريشنا بال" على يدَي "كاري"، بعد سبع سنوات على عمله الإرساليّ في الهند، وكان ذلك يوم الأحد 28 تشرين الثّاني 1800. ثمّ خدم "كاري" و"كريشنا" وغيرهما من المُرسَلين والوطنيّين بنشاط، وأثمر الرّبّ زرع بشارتهم بخلاص كثيرين وانضمامهم إلى الكنيسة الّتي أسّسها "كاري". بالإضافة إلى خدمات "وليم كاري" الرّوحيّة، وبخاصّة الإرساليّة، علّم الّلغات السّنسكريتيّة والبنغاليّة والمراثي في جامعة "فورت وليم". وراقب أيضًا ترجمة الكتاب المقدّس إلى ستّ وثلاثين لغة ودقّق فيها، وأصدر قاموس اللّغتين "البنغالي والإنكليزي". كان "كاري" رائد الإصلاح الإنجيلي في الهند، وأسّس جمعيّة للزّراعة، وعلّم زراعة الأشجار المُثمرة والخضار والأزهار والنّباتات الزّيتيّة، فأصبح "وليم كاري" يُعرف بـ"أبو الإرساليّات الحديثة". توفيّ "وليم كاري" عن عمر 73 سنة، ووُضعت على قبره صلاة كتبها قُبيل وفاته بقليل، قال فيها: "يا ربّ، أنا دودة حقيرة، هزيلة، غير مستحقّة. أنا يا ربّ، أُلقي نفسي على ذراعيك اللّطيفتين". |
||||