08 - 01 - 2025, 04:08 PM | رقم المشاركة : ( 183101 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الشهيد القديس لاونديانوس |
||||
08 - 01 - 2025, 04:11 PM | رقم المشاركة : ( 183102 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ليتك تنتبه إلى صلاتي أنقذني بحسب وعدك (مز 119: 170) |
||||
08 - 01 - 2025, 04:18 PM | رقم المشاركة : ( 183103 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
يسوع يمنحنا القوة التي نسلُك بها في طريقه |
||||
08 - 01 - 2025, 04:21 PM | رقم المشاركة : ( 183104 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
كلما صليتم ستنظرون وجهي |
||||
08 - 01 - 2025, 04:22 PM | رقم المشاركة : ( 183105 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
أبنى الغالى .. بنتي الغالية اذا اردتم ان تلمسوني فصلوا بحرارة وستجدوني حاضراً وأستمع لكم وأرشدكم وتأكدوا انكم كلما صليتم ستنظرون وجهي وستجدوني ألمس ارواحكم العطشى وأهدئ ارواحكم واجسادكم وعقولكم فلا تخافوا |
||||
08 - 01 - 2025, 04:24 PM | رقم المشاركة : ( 183106 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
أستمع لكم وأرشدكم وتأكدوا انكم كلما صليتم ستنظرون وجهي وستجدوني ألمس ارواحكم العطشى |
||||
08 - 01 - 2025, 04:28 PM | رقم المشاركة : ( 183107 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ثقوا إن صلواتكم لا تذهب هدراً بل إن الرب ينصت ويسمع لكل كلمة تقولوها في الصلاة وهو يعرف طلباتكم واحتياجاتكم وهمومكم وجروحكم ، فواظبوا على صلاتكم وثقتكم بالرب وسترون ما يذهلكم من المعجزات في حياتكم |
||||
08 - 01 - 2025, 05:40 PM | رقم المشاركة : ( 183108 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الزفاف السماوي العروس المقامة إن كان بالتجسد الإلهي نزل كلمة الله إلينا يخطبنا عروسًا له، وبصلبه أقام حفل العرس، فإنه بقيامته قد بررنا، فصرنا العروس المقامة التي بلا عيب، لهذا يمتدحها العريس، ناظرًا فيها كل جمال، قائلًا لها: "هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ!" [1]. خلال القيامة وهب الكنيسة كل جمال روحي وقوة، الذي يتحدث عنه القديس بطرس الرسول قائلًا: "كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ" (2بط 1: 3-4). أما علامات هذا الجمال فهي: 1. "عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ مِنْ تَحْتِ نَقَابِكِ (صمتك)" [1]. يقول القديس أبدوسيوس: [العينان جميلتان كعيني حمامة لأنها في شبه حمامة الروح القدس التي نزلت من السماء]. لقد سبق فرأينا الرب يشبه كنيسته بعيني الحمامة، لأنها إذ تنظر على الدوام الروح القدس تتجلى صورته على عينيها فيكون لها البصيرة الروحية البعيدة عن كل انطباع أرضي أو جسدي، وتكون بسيطة لا تطلب إلاَّ ما لله، تحب كالحمام، ولا تستريح إلاَّ في أحضان نوح الحقيقي كما فعلت الحمامة التي انطلقت من الفلك. أما كونهما تحت النقاب، فذلك لأن أسرار الروح التي تعاينها عيني الكنيسة لا يستطيع العالم أن يفهمها أو يدركها، فتبقى بالنسبة له كأنها تحت نقاب! أما الترجمة الحرفية فهي "في صمتك"، فإن الكنيسة وقد انفتحت بصيرتها لمعاينة أسرار محبة الله الروحية تقف في صمت تتأمل أعمال الله الفائقة وكما يقول القديس يوحنا سابا: [من شاء أن يتكلم عن محبة الله، فهو يبرهن على جهله، لأن الحديث عن هذه المحبة الإلهية غير ممكن البتة. عجيبة هي أيضًا المحبة!! هي لغة الملائكة، ويصعب على اللفظ ترجمتها...! ليس لنا يا ربي أن نتكلم من الذي لنا عن الذي لك. لكنك أنت تتكلم فينا عنك، وعن كل ما هو لك، كما يحسن لك]. ولعله وصف العينين أنهما تحت النقاب لأن المؤمنين مهما تمتعوا ببصيرة روحية في هذا العالم، لكنها تعتبر كما لو أنها تحت النقاب متى قورنت بالرؤيا في الحياة الأبدية، إذ يقول الرسول: "لأننا نعلم بعض العلم... فأننا ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجهًا لوجه، الآن أعرف بعض المعرفة لكن حينئذ سأعرف كما عرفت" (1 كو 13: 9، 12). 2. "شَعْرُكِ كَقَطِيعِ مِعْزٍ رَابِضٍ عَلَى جَبَلِ جِلْعَادَ" [1]. إن كان السيد المسيح هو رأس الكنيسة، فإن الكنيسة هي الشعر المحيط بالرأس الذي يعيش عليه، بدون الرأس لا تساوي شيئًا، ولا يكون لها وجود. هذا هو شعب المسيح، إنه كقطيع ماعز يرعى على جبل جلعاد العالي، جبل كلمة الله المرتفعة التي تنطلق بقلوب أولاد الله نحو السماء. كلما أرتفع القطيع على الجبل يراه الإنسان من بعيد في وحدة واحدة، فلا يقدر أن يميز واحدة عن الأخرى... وهكذا إذ نقوم مع الرب ونرتفع خلال كلمة الخلاص إلى فوق ونتمتع برعايته الكنسية لنعيش بروح سماوي تزول عنا روح الفرقة والانشقاق التي علتها الفكر الأرضي وطلب الكرامة الوقتية ومحبة العالم. إذ نقوم مع الرب نصعد على جبل جلعاد كقطيع الماعز الذي يجتمع معًا على القمم فيُرى من بعيد كشعرٍ صقيل أسود براق لا يدخله الشيب، إذ يجدد الرب كالنسر شبابنا. أما وصف القطيع أنه رابض على الجبل أي جالس يستريح في كلمة الله بغير عجلة، والمستقر تحت رعاية الله في طمأنينة. أما اختياره جبل جلعاد فلأسباب كثيرة: أ. على جبل جلعاد تراءى الله للابان وحذره قائلًا: "أحذر أن تكلم يعقوب بخير أو شر" (تك 31: 24)... هكذا يشعر المؤمن بالطمأنينة، لا يقدر أحد أن يمسه... ب. امتازت منحدرات جبل جلعاد بوفرة العشب، فصار مثلًا لحياة الشبع، فحينما وعد الرب شعبه قديمًا أن يخلصهم من بابل العنيفة ويدخل بهم إلى الشبع قال لهم: "وَأَرُدُّ إِسْرَائِيلَ إِلَى مَسْكَنِهِ فَيَرْعَى كَرْمَلَ وَبَاشَانَ وَفِي جَبَلِ أَفْرَايِمَ وَجِلْعَادَ تَشْبَعُ نَفْسُهُ" (إر 50: 19)، وفي سفر ميخا قيل: "لترع في باشان وجلعاد كأيام القدم" (ميخا 7: 14). ج. قديمًا كان البلسان ينبت في جلعاد، يُعرف برائحته العطرة التي طالما أطنب الشعراء والمؤرخون القدماء في مدحه، واستخدمه الأطباء في شفاء الجروح والأمراض، لهذا جاء في إرميا النبي: "أَلَيْسَ بَلَسَانٌ فِي جِلْعَادَ أَمْ لَيْسَ هُنَاكَ طَبِيبٌ؟ فَلِمَاذَا لَمْ تُعْصَبْ بِنْتُ شَعْبِي؟!" (إر 8: 22). وكأنه على جبل جلعاد يعصب الطبيب الحقيقي - يسوع المسيح - جراحات شعبه ويشفي أمراضهم ببلسان دمه المبذول على الصليب. د. حين دخل جدعون في حرب مع جيش المديانيين اجتمع اثنان وثلاثون ألفًا من الشعب للحرب، لكن الرب قال لجدعون: "من كان خائفًا ومرتعدًا فليرجع وينصرف من جبل جلعاد" (قض 7: 3). فلا يهتم الله بكثرة العدد لكنه يطلب مؤمنين مجاهدين لا يعرفون الخوف ولا الرعب! هذه هي كنيسة المسيح الحقيقية التي حملت سلطانًا أن تدوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو، تعيش في ثقة كاملة بغير خوف. 3. "أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ الْجَزَائِزِ (المجزوزة) الصَّادِرَةِ مِنَ الْغَسْلِ" [2]. لاق بالكنيسة أن يكون لها أسنان، فقد نمت ونضجت ولم يعد يكفيها لبن التعليم، إنما تطلب دسمه، تمضغه وتهضمه في حياتها. يقول القديس أغسطينوس أن أسنان الكنيسة هم خدامها الذين يمضغون الطعام كالمرضعات ويقدمونه لبنًا للأطفال الصغار في الإيمان. هذه الأسنان مختلفة الأصناف من أنياب وضروس... لكنها تعمل لغاية واحدة وبروح واحد للبنيان. بهذه الأسنان طلب الرب من بطرس الرسول أن يأكل الحيوانات بعد ذبحها، ولا يقول عن شيء ما أنه نجس أو دنس. فالكنيسة تعمل على الدوام - خلال خدامها - لتقدم كلمة الخلاص للجميع، تذبح نجاسات الشر وتمضغ الأمم الوثنيين وتمزق شرهم وأخطاءهم حتى يصيروا أعضاء في جسدها. الخادم كالغنمة المجزوزة، يقص صوفها... أي يقطع عن نفسه أفكار الجسد وأعماله بواسطة الروح القدس الذي وهب له في جرن المعمودية (الغسل). فإن الصوف في الكتاب المقدس يُشير إلى الحياة الجسدية، لهذا كان محظورًا على الكهنة في العهد القديم أن يدخلوا القدس بثياب مصنوعة من الصوف، إنما تكون ثيابهم من الكتان علامة برّ المسيح. كما أكدت الشريعة الموسوية "لا تلبس ثوبًا مختلطًا صوفًا وكتانًا معًا" (تث 23: 11)، "لأنه أية خلطة للبر والأثم، وأية شركة للنور مع الظلمة، وأي اتفاق للمسيح مع بليعال، وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن؟!" (2 كو 6: 14-15). 4. "اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ وَلَيْسَ فِيهِنَّ عَقِيمٌ" [2]. الطفل الطبيعي غالبًا ما تنبت في لثته الأسنان مثنى مثنى، وهكذا كان الله يرسل تلاميذه - أسنان الكنيسة - أثنين أثنين للكرازة، لعله كي ينطق الواحد بكلمة الكرازة بينما يصلي له الآخر حتى تخرج الكلمة ممسوحة بالنعمة الإلهية. ولما سُئل القديس باخوميوس لماذا سمح أن يعيش الرهبان في قلاياتهم، كل أثنين معًا، أجاب لأنه إن سقط واحد الآخر يقيمه. ويرى القديس أغسطينوس في عبارة "وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ" إشارة إلى الوصيتين المتكاملتين معًا "محبة الله" و"محبة القريب" إذ بهما يكمل الناموس والأنبياء (مت 22: 40). بينما يرى القديس كيرلس الأورشليمي أنها تُشير إلى النعمة المزدوجة أي أن يتكمل الإنسان بواسطة الماء والروح أو خلال النعم التي أشار إليها العهدان: القديم والجديد. ويعلق القديس چيروم على هذه العبارة قائلًا: [إن كان ليس فيهن عقيم فإنه يلزم أن يكون للكل أضرعًا مملوءة لبنًا، قادرين أن يقولوا مع الرسول: "يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم" (غلا 4: 19)، "سقيتكم لبنًا لا طعامًا" (1 كو 3: 2). أخيرًا يمكننا القول بأن من تمتع بكلمة الخلاص عن طريق أسنان الكنيسة النقية، أي خدامها الحقيقيين، يلزمه ألاَّ يبقى عقيمًا بل يلد أكثر من واحد، أي يكون له ثمر مضاعف. يمتثل بالسامرية التي إذ سمعت صوت الرب وتلاقت معه داخليًا نادت مدينة السامرة لكي يلتقوا به مثلها، ولاوي أيضًا الذي جمع زملاءه للتمتع بالمخلص. 5. "شَفَتَاكِ كَسِلْكَةٍ مِنَ الْقِرْمِزِ. وَفَمُكِ حُلْوٌ" [3]. إن كان أعضاء الكنيسة جميعًا ملتزمين بالثمر المضاعف فإن سرّ هذا "الشفتين اللتين كسلكة من القرمز والفم الحلو"، أي أن المؤمن ملتزم بالشهادة للمخلص خلال شفتيه وفمه... أما مدلولات هاتين الشفتين وهذا الفم فهي: أ. في القديم ربطت راحاب الزانية حبلًا من القرمز في الكوة دليل إيمانها بالرب المخلص واحتمائها بدمه غافر الخطايا وإقرارها بملكيته عليها وعلى بيتها، فأُنقذت هي وكل من في داخل بيتها من الهلاك. هذه صورة حيَّة للمؤمن الذي يربط كل ما يخرج فمه بالدم الكريم، شاهدًا للرب بكلماته كما بأعماله حتى يدخل بالجميع إلى بيت الله ويخلص الكل من الهلاك. ب. إذ أراد الجند أن يسخروا من السيد ألبسوه ثوبًا قرمزيًا علامة الملك. أما الكنيسة وقد اتحدت بالملك صارت شفتاها كسلكة من القرمز، لا يخرج منها غير لائقة بها كملكة أو عروس للملك السماوي. ج. شفتا العروس كسلكة رفيعة مما يجعل فمها حلوًا، لا تخرج منه كلمة جارحة، لا يغش ولا يداهن، لكنه يترفق بالكل ويحب الجميع. 6. "خَدُّكِ كَفِلْقَةِ رُمَّانَةٍ تَحْتَ نَقَابِكِ" [3]. كان ثوب رئيس الكهنة وأفوره تزين برمان مطرز (خر 28: 33، 34؛ 39: 24-26)، كما زين الهيكل في مواضع مختلفة بمنحوتات على شكل الرمان (1 مل 7: 18). هكذا يُشير الرمان للزينة، تتجمل به الكنيسة بكونها ثوب السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم، والهيكل الذي يقطنه روحه القدوس. وقد خص الخد بالرمان، لأن الخد يُشير إلى ملامح الإنسان، عليه تظهر علامات الفرح أو الحزن، السلام أو الضيق، فملامح الكنيسة جميلة، مفرحة ومملوءة سلامًا. لم يقل "خدك كرمانة" بل كفلقة رمانة"، لكي يظهر ما بباطنها، إذ هي غنية بالبذور المكتنزة بالعصير الحلو الأحمر، دائمة النضرة، لا تعرف الضمور.! خدها كفلقة رمانة، مملوءة احمرارًا، سرّ جمالها هو دم السيد المسيح الذي يُقدسها فلا يكون للدنس أثرًا في داخلها. هذا كما يُشير هذا الأحمرار إلى احتشام النفس وحيائها، فهي لا تُشاكل أهل هذا العالم في العجرفة وصفاقة الوجه. أما كون خدها "تحت نقابها"، فسرّه ليس الخجل من الناس، بل أعلان حقيقة مجدها أنه من الداخل (مز 45). 7. "عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ، أَلْفُ مِجَنٍّ (درع) عُلِّقَ عَلَيْهِ، كُلُّهَا أَتْرَاسُ الْجَبَابِرَةِ" [4]. غالبًا ما يربط الرب جمال الكنيسة بجهادها حتى يفهم المؤمنون أن جمالهم في المسيح يسوع سرّه أيضًا جهادهم الروحي القانوني فلا يبقى خد الكنيسة جميلًا كفلقة رمانة بدون العنق المنتصب كبرج داود المبني للأسلحة، أي بدون الإيمان الحيّ المستقيم غير المنحرف المرتبط بالجهاد. خلال هذا العنق، الذي هو الإيمان، يرتفع وجه الكنيسة إلى السماء فيشرق الرب عليه بنوره، يجعلها تعيش مستقيمة، ليست كالمرأة المنحنية نحو الأرض (لو 13: 11- 16)، بل منتصبة ترى في الله سرّ قوتها وجهادها. تسمعه يقول لها: "أنا ترس لك" (تك 15: 1)، خلاله تحتمي من كل سهام العدو الملتهبة نارًا (أف 6: 16). لقد شبه عنقها ببرج داود، إذ يمثل داود الإيمان الذي حارب جليات الجبار وغلبه قائلًا له: "أنت تأتي إلى بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود" (1صم 17: 45). داود النبي أعلن في مزاميره أن الله هو ملجأه وحصن حياته، وفي نفس الوقت لا يكف عن الجهاد. لقد أعتاد القادة الجبابرة أن يعلقوا أتراسهم على البرج ذكرى انتصاراتهم الباهرة ولإبراز بطولتهم، هكذا يستخدم المؤمنون هذا البرج الروحي الذي هو الإيمان كمركز لنصرتهم في المسيح يسوع وغلبتهم على العدو الشرير. أما ذكر عدد الدرع "ألف" فتُشير إلى طبيعة هذه الأسلحة، إذ رقم 1000 يُشير إلى الحياة السماوية، وكأنه يقول أن أسلحة الكنيسة سماوية روحية، كقول الرسول بولس: "أن أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة بالله على هدم حصون" (2 كو 10: 4). 8. "ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْ ظَبْيَةٍ تَوْأَمَيْنِ يَرْعَيَانِ بَيْنَ السَّوْسَنِ، إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ أَذْهَبُ إِلَى جَبَلِ الْمُرِّ وتَلِّ اللُّبَانِ" [5-6]. إن كان السيد المسيح يظهر للكنيسة متمنطقًا عند ثدييه بمنطقة من ذهب (رؤ 1: 12) إذ يُقدم العهدين القديم والجديد كثديين ترضعهما الكنيسة وتتقوت بهما، فإن الكنيسة أيضًا وهي كنيسة المسيح صار لها هذان العهدان كثديين يتقوت بهما أولادها. تظهر كلمة الله الواردة في العهدين كتوأم من الغزلان الصغيرة وُلدا من أم واحدة، إشارة إلى تكامل العهدين معًا دون تمييز بينهما، فإن العهد القديم تنبأ عن العهد الجديد، والآخر كشف الأول وأوضحه. وقد رأينا أن السوسن يُشير إلى جماعة المؤمنين الذين تشبهوا بالسيد المسيح نفسه "سوسنة الأودية" (نش 2: 1)، ويُشير إلى طاقات الإنسان الداخلية وعواطفه ودوافعه التي تصير غذاء لكلمة الله الحيّ! أمام هذا المديح الذي صار للعروس من جهة بصيرتها الداخلية واحتشامها وجهادها في وحدة الروح وعملها الكرازي وخصوبتها ورقتها وإيمانها وتمسكها بكلمة الله... تعلن العروس لعريسها أن سرّ هذا كله هو صليب العريس وقيامته، لهذا تتعهد أمامه أن تذهب معه إلى جبل المرّ تدخل معه حياة الألم، وتُدفن معه في القبر كما تذهب معه إلى تل اللبان فتحيا كل أيام غربتها في صلاة دائمة حتى يفيح نهار الأبدية ونتهزم ظلال الزمن. وتكون إجابة العريس المتوقعة: "كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي، لَيْسَ فِيكِ عَيْبَةٌ" [7]. كأنه يختم حديثة بالقول: أنه يطول الحديث عن وصف جمال من خرجت معه إلى شركة آلامه ودخلت معي في حياة الصلاة والشركة. إنيّ ألمس فيكِ كل جمال، لأن حبي لك يخفي كل ضعفاتك، ودمي يستر كل خطاياكِ، مبرزًا كل جمال أزينك به، فلا أرى فيكِ عيبًا قط. ويعلق القديس چيروم على حديث العريس هذا هكذا: [أي شيء أجمل من النفس التي تدعى ابنة الله (مز 45: 10)، التي لا تطلب لنفسها الزينة الخارجية (1 بط 3: 2). إنها تؤمن بالمسيح، وإذ يوهب لها روحه فإنها تأخذ طريقها نحو المسيح الذي هو عريسها وربها في نفس الوقت، برجاء عظيم]. دعوة للعمل والجهاد: "هَلُمِّي مَعِي مِنْ لُبْنَانَ يَا عَرُوسي، مِنْ لُبْنَانَ، هَلُمِّي، انْظُرِي مِنْ رَأْسِ الإيمان، مِنْ رَأْسِ شَنِيرَ وَحَرْمُونَ، مِنْ خُدُورِ الأُسُودِ، مِنْ جِبَالِ النُّمُورِ" [8]. إن كان في بدء اللقاء مع العريس تشعر النفس بتعزيات كثيرة وراحة، لكنها لتعلم أنها مدعوة أن تنطلق مع عريسها في صحبته لحياة الجهاد الروحي القانوني. ويلاحظ في هذه الدعوة التي يكررها الرب الآتي: إنها دعوة للخروج مع العريس، فإن الحرب الروحية هي للرب، لحسابه وباسمه، فإن خرجت النفس محتمية فيه غلبت وانتصرت، بدونه لا تعرف إلاَّ الهزيمة. إن كانت الدعوة هنا موجهة للنفس أن تخرج مع عريسها الروحي من Libanus - كما جاءت في الترجمة السبعينية - تكون بهذا قد دعيت أن تنطلق خلال حياة الصلاة (لأن Libanus مشتقة من اللبان) لتدخل في مواجهة الأسود والنمور، فالحياة المسيحية ليست مجرد تعزيات في المخدع فحسب ولكنها أيضًا حرب طاحنة ضد قوات الروح الشريرة، ضد إبليس والخطية. حقًا لقد أشتاق بطرس أن يبقى مع الرب على جبل التجلي قائلًا له: "جيد يا رب أن نكون ههنا" لكن الرب ألزمه أن ينزل مع زميليه لمواجهة أحداث الصليب. وإن كانت الدعوة موجهة للخروج معه من لبنان، وهي بلد سياحي، عرف بحياة الترف، فإن العريس السماوي يدعو النفس البشرية أن تصحبه، تخرج من الحياة السهلة، حياة الراحة الجسدية، وتواجه الصراع مع قوات الظلمة، وهي في صحبة عريسها قاهر الأسود والنمور. أما علامات الخروج فهي أن تنطلق من رأس الإيمان (أمانة)، وخلال الإيمان تقدر أن تدخل إلى رأس حرمون إلى حياة الحرمان والترك الاختياري، تمارس الصليب في داخلها، بأن تخلي ذاتها بالإيمان من شهوات الجسد ورغباته لتحيا في حالة شبع بالمسيح يسوع وحده. تقول بالإيمان مع الرسول بولس: "إن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما" (1 تي 6: 8)، "قد تدربت أن أشبع وأن أجوع وأن أستفضل وأن أنقص، أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في 4: 12-13). ومن خلال هذه الحياة الداخلية الحية في المسيح يسوع تدخل النفس إلى الحرب لتغلب بالمسيح يسوع الأسود والنمور. هذا هو منطلق حياة النصرة التي هي عبور مع الرب الغالب من بداية الإيمان للدخول إلى حرب طاحنة بل إلى نصرة روحية وعبور للأبدية. لقد علق القديس أغسطينوس على هذه الدعوة معلنًا أن الدعوة هنا ليست عبورًا مع المسيح، بل هي عبور إليه، أي دخول إلى الاتحاد معه لتمارس الحياة الزوجية الروحية، قائلًا: [اعبري إليّ من رأس الإيمان... فإن الإيمان بدء الزواج]. ويرى القديس أغسطينوس أيضًا أنه عبور للعروس إلى الآب السماوي خلال اتحادها بالعريس المسيح إذ يقول: [إنها تأتي كمركبة الله، تضم ألوف من الرجال الفرحين، تسير بنجاح، وتعبر هذا العالم إلى الآب، إذ يجتاز بها عريسها نفسه الذي عبر هذا العالم إلى الآب: "أريد أن هؤلاء يكونون معي حيث أكون"، بهذا يجتازون بدء الإيمان]. ويرى القديس غريغوريوس النيصي في هذه العبارات إعلان عن العطش المتزايد بغير حدود لتبعية العروس لعريسها، إذ يقول: [من يقوم متجهًا نحو الله يختبر على الدوام ميلًا مستمرًا لتقدم متزايد]. ويفسر عبارة العريس "هَلُمِّي مَعِي مِنْ لُبْنَانَ Libanus يَا عَرُوسُ" هكذا: [قصد بهذا: لقد فعلتي حسنًا إذ قمتي معي حتى الآن، وجئتي معي إلى جبل البخور. لقد دفنتي معي في المعمودية حتى الموت، لكنك قمتي وصعدتي في شركة لاهوتي... والآن ارتفعي من هنا وتعالي إلى قمتين آخريتين، فتنمين وتصعدين على الدوام خلال المعرفة... ما دمتي قد بلغتي هذا الارتفاع فلا تتوقفين عن الاستمرار في التسلق... هذا اللبان هو بدء إيمانك الذي به اشتركتي في القيامة. إنه بدء تقدمك لنوال نعم أعظم. اعبري وتعالي من هذه البداية -أي الإيمان- وانك تصلين لكنك لا تتوقفين عن العبور الدائم والاستمرار في القيام]. ويرى القديس في دعوتها أن تعبر معه "مِنْ خُدُورِ الأُسُودِ مِنْ جِبَالِ النُّمُورِ"، إن الإنسان وقد جعلت منه الخطية وحشًا مفترسًا كالأسد والنمر، فإنه قد تحول عن هذه الطبيعة... لكن العريس يخشى على عروسه أن تنكص إلى الخطية مرة أخرى، لهذا يدعوها أن تخرج دومًا عن أعمال إنسانها القديم، إنها دعوة الجهاد المستمر المرتبط بحياة الإيمان... على أي الأحوال، إذ يدعوها عريسها للعبور معه خلال حياة الإيمان مع الجهاد المستمر والصراع ضد الوحوش الروحية، تشعر أحيانًا بمرارة هذا الصراع فترفع عينيها الداخليتين إليه تستنجد به، فتسمعه يُجيبها هكذا: "قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ، قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي، بِإِحْدَى عَيْنَيْكِ، بِقَلاَدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُنُقِكِ" [9]. في بدء علاقتها مع الله دخل بها إلى لبنان كما يفعل العريس مع عروسه إذ غالبًا ما يبدأ معها الحياة الزوجية في منطقة سياحية بعيدًا عن هموم الحياة، هناك يتعرفان على بعضهما البعض. لكن لن تبقى الحياة الزوجية هكذا على الدوام، إنما يلزمهما أن يتركا لبنان ليعيشا في بيت الزوجية يُجاهدان ويتعبان... وهكذا دعاها الرب أن تخرج معه من لبنان لتواجه الأسود والنمور في خدورها. أو تخرج معه من جبل لبنان إلى حياة الصراع ضد أعمال الإنسان العتيق التي كالوحوش الضارية. في وسط جهادها المرّ تئن في داخلها ويبكي قلبها، أما هو فلا يقدر أن يحتمل أنينها ودموعها... فينجذب قلبه إليها، ويأسره تنهدها الداخلي. لاحظ القديس غريغوريوس النيصي أن العريس هنا يقول "بِإِحْدَى عَيْنَيْكِ"، لأن الإنسان له بصيرتان، البصيرة الخارجية التي يرى بها الأمور المنظورة، والبصيرة الداخلية التي يعاين بها الله... التي هي القلب. هنا ما يأسر قلب الله هي دموع البصيرة الداخلية السرية. إنه كعريس سماوي يفهم قلب عروسه، يهتم بها وقت جهادها وآلامها، ولا يتطلب منها كلامًا، بل يفهم لغة عينيها الداخليتين... حين سقط بطرس الرسول في إنكار سيده لم تكن هناك كلمات يعتذر بها لكن الرب عرف ما في قلبه خلال دموعه. وحينما دخلت المرأة الزانية بيت سمعان الفريسي لم يوجد مجال للحديث، لكن الرب فاحص القلوب قال: "لقد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا" (لو 7: 47). وقد علمتنا الكنيسة أن نتحدث مع الرب بهذا اللغة - لغة الدموع - في غروب كل يوم، قائلين: "إليك رفعت عينيّ يا ساكن السماء، فها هما مثل عيون العبيد إلى أيدي مواليهم، ومثل عيني الأمة إلى يدي سيدتها. كذلك أعيننا نحو الرب إلهنا حتى يترأف علينا. ارحمنا يا رب ارحمنا، فإننا كثيرًا ما امتلأنا هوانًا، وكثيرًا ما امتلأت نفوسنا عارًا أردده على المخصبين، والهوان على المتعظمين. هللويا" (مز 122). وتكون إجابة الرب: إننيّ لا أحتمل انكساركم وهوانكم. لقد سبيتم قلبي وكل حبي، فلا أدعوكم عبيدًا بل أحباء. أنتم أخوتي. أنتم عروسي! في رسالة بعث بها القديس چيروم إلى كاهن ضرير في Baetica بأسبانيا تحدث عن العين التي تسبي قلب الله قائلًا له: [يليق بك ألا تحزن بسبب حرمانك من العينين الجسديتين اللتين يشترك فيهما النمل والذباب والزحافات كسائر البشر، بل بالحري تفرح بأن لك العين التي قيل عنها في نشيد الأناشيد: "قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي بِإِحْدَى عَيْنَيْكِ". هذه العين تُعاين الله، وقد أشار إليها موسى عندما قال: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" (خر 3: 3). ونحن نسمع عن فلاسفة من هذا العالم فقؤا أعينهم حتى تتحول أفكارهم بالكامل إلى أعماق ذهنهم النقي...]. يسبى قلب الله بلغة العينين المنكسرتين أمامه، كما يسبى أيضًا بلغة البذل والطاعة؛ إذ يقول: "قَدْ سَبَيْتِ قَلْبِي... بِقَلاَدَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ عُنُقِكِ". ما هذه القلادة التي تزين العنق الداخلية للنفس إلاَّ حمل النير وطاعة الوصية الإلهية فقد جاء في سفر الأمثال: "اسمع يا ابني تأديب أبيك ولا ترفض شريعة أمك، لأنها إكليل نعمة لرأسك وقلائد لعنقك" (أم 1: 8-9). فالعروس تتزين بقبولها تأديبات أبيها (الله) بفرح وسرور وحفظها شريعة أمها (الكنيسة)! بمعنى آخر تحمل على عنقها نير الطاعة، الذي هو نير المسيح الهين. الآن ماذا فعلت آلام الجهاد بنا؟ إن كنا وسط الآلام نشعر بضعفنا فنرفع أعيننا الداخلية بتذلل نحو إلهنا الذي في أعماقنا فنجتذب قلبه ونسبي حبه بانسحاقنا، إذا به يعلن حقيقة مركزنا، أننا في موقف القوة لا الضعف، والمجد لا الهوان. إن كنا نئن خلال شعورنا بالضعف لكنه يؤكد لنا الحقيقة المخفية عن أعيننا: أن جهادنا -رغم كل ما يبدو فيه من ضعف- يعلن حلاوة حبنا وتفوح منه رائحة أدهان فريدة في أطيابها، إذ يقول: "مَا أَطْيبَ حُبَّكِ (ثدياكِ) يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ؟! كَمْ مَحَبَّتُكِ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْر؟ِ! كَمْ رَائِحَةُ أَدْهَانِكِ أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ الأَطْأيَيبِ!" [10]. لقد جاءت كلمات العريس مطابقة لكلمات العروس في مدحها له، لكن في صورة أروع وأقوى... فما أبعد هذه الكلمات من قول العروس: "لأَنَّ (حُبَّكَ) ثدييك أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ، لِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ..." (نش 1: 2-3). بينما نقول له: "لأن ثدييك أطيب من الخمر"، إذا به يقول لنا: "مَا أَطْيبَ حُبَّكِ (ثدياكِ) يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ؟! كَمْ مَحَبَّتُكِ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ!". نحن نُناجيه "ِرَائِحَةِ أَدْهَانِكَ الطَّيِّبَةِ"، أما هو فبقوة يقول: "َكَمْ رَائِحَةُ أَدْهَانِكِ أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ الأَطْأيَيب؟ِ!". عجيب هو الرب في نظرته إلينا وفي مدحه إيانا، مع أن ما نحمله من حب إنما هو انعكاس لحبه فينا، وما نحمله من رائحة أطياب إنما هي ثمر أطيابه العاملة فينا! يا للعجب، يعطينا ما له ثم يعود فينسبه لنا ويمتدحنا من أجله ويكافئنا عليه.!! يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص سمو كنيسة العهد الجديد خلال الرائحة التي تفوح منها إذ هي "أَطْيَبُ مِنْ كُلِّ الأَطْأيَيبِ"، فاقت رائحة كل عبادة قُدمت سابقًا، إذ يقول: [سرّ الحق الذي تحقق خلال رسالة الإنجيل هو وحده حلو بالنسبة لله، ويُحسب أسمى من كل أطايّب الشريعة، فإنه لم يعد مخفيًا وراء رمز أو ظل، بل تفوح رائحته بإعلان للحق واضح ومكشوف. إن كانت إحدى الأطايب السابقة قد أرضت الرب كرائحة ذكية، فسرّ قبولها ليس سمو مادتها أو مظهرها التي استخدمت في أفعال العبادة وإنما المعنى الذي أعلنته خلال هذه الأفعال. هذا واضح من القول العظيم للنبي: "لا آخذ من بيتك ثورًا، ولا من حظائرك أَعْتِدَةً... فإنيّ لا آكل لحم الثيران ولا أشرب دم التيوس" (مز 49: 9، 13)]. أما الآن فلم تعد الذبائح الحيوانية، بل الذبيحة الفريدة التي يشتمها الآب رائحة رضا... خلال هذه الذبيحة يشتم الله كل عبادتنا وكل جهادنا الروحي كرائحة طيبة "أفضل من كل الأطاييب". لهذا ففي وسط مرارتنا بسبب شعورنا بالضعف، يمتدحنا الرب بغير مداهنة ولا رياء، بل يعود ويتكلم عن بركة شركة الآلام معه أو الجهاد من أجله وباسمه في أكثر تفصيل، قائلًا: "شَفَتَاكِ يَا عَرُوسُي تَقْطُرَانِ شَهْدًا، تَحْتَ لِسَانِكِ عَسَلٌ وَلَبَنٌ، وَرَائِحَةُ ثِيَابِكِ كَرَائِحَةِ لبانَ(129)" [11]. ماذا يرى الرب في عروسه المجاهدة المتألمة؟ إنه يراها كالنحلة إذ قيل عنها "النحلة ضئيلة بين الطير وشهدها أعذب ما يستساغ من الطعام" (ابن سيراخ 3: 11). يعلق القديس غريغوريوس النيصي على ذلك قائلًا: [النحلة محبوبة من كل أحد، ويقدرها الجميع، فبالرغم من ضعف قوتها لكنها تحمل حكمة علوية وتسعى دومًا لبلوغ حياة الكمال]. هذا هو سرّ الشهد الذي يقطر من شفتي العروس والعسل الذي تحت لسانها، لهذا يقول القديس: [يليق بنا أن نطير على مروج التعاليم الموحى بها، ونجمع من كل منها في مخازننا التي للحكمة. هكذا يتكون العسل في داخلنا وكأنه ذلك المحصول الحلو الذي يخزن في قلوبنا كما في خلية نحل، وبواسطة التعاليم المتنوعة تتشكل في ذاكرتنا مخازن على مثال الخلايا الشمعية التي لا تهلك. يلزمنا أن نكون كالنحلة فإن عسلها حلو ولدغتها لا تؤذي، ننشغل في عمل الفضيلة الهام. إنها تنهمك بالحق في تحويل أتعاب هذه الحياة إلى بركات أبدية، وتقديم جهادها لصحة ملوك وعشب. هكذا أيضًا النفس تجتذب العريس، ويعجب بها الملائكة، الذين يكملون قوتها في الضعف خلال الحكمة المكرمة]. ماذا يرى الرب أيضًا في عروسه المجاهدة المتألمة؟ إنه يراها الأرض المقدسة التي تفيض عسلًا ولبنًا (خر 3: 8، 17). لقد قدم الرب عروسه المجاهدة المتألمة في أروع صورة، فإن كان الرب قد وعد شعبه قديمًا بأرض تفيض لبنًا وعسلًا لتكون بالنسبة لهم موضع راحة جسدية ومكان شبع جسدي ومركزًا للعبادة عليه، فإن عروسه بدورها تصير هي نفسها موضع راحة الرب، يستريح في داخلها الثالوث القدوس، تفيض من ثمر الروح لبنًا وعسلًا يشتهيه الله وملائكته ويفرح به القديسون، بل ويفيض حتى على غير المؤمنين. في وسط آلام المؤمن يرى الرب شفتيه تقطران شهدًا ولسانه يخفي عسلًا وصدره مملوء لبنًا روحيًا. أما عن الشهد الذي يقطر من شفتيه فيُشير إلى كلمات النعمة التي تصدر من فم المؤمن، قليلة تتساقط كقطرات (تقطر) لكنها حلوة وشهية! تعطي للمستمع بركة وعذوبة داخلية وراحة في النفس! أما عن العسل فهو كالكنز المخفي "تحت اللسان" يقدمه المؤمن للآخرين في غير مظهرية أو حب للاستعراض... كنز وغذاء يصلح للناضجين.! ترى ماذا يكون هذا العسل المخفي إلاَّ "كلمة الله" الحيّ الذي دُعي بالمن السماوي والذي كان رمزه المن النازل على الشعب القديم "طعمه كرقاق بعسل" (خر 16: 31). إذ أكل حزقيال النبي كلمة الله قال: "صار في فمي كالعسل حلاوة" (حز 3: 3)، كما وصفه المرتل هكذا: "ما أحلى قولك لحنكي أحلى من العسل لفمي" (مز 119: 103)، "أحكام الرب حق عادلة كلها. أشهى من الذهب والإبريز الكثير وأحلى من العسل وقطر الشهادة" (مز 19: 9-10). كما طالبنا سليمان الحكيم أن ننعم بأكل كلمة الله الحسنة إذ قال: "يا ابني كل عسلًا لأنه طيب" (أم 24: 13)، "الكلام الحسن شهد عسل حلو للنفس وشفاء للعظام" (أم 16: 24). على أي الأحوال، حينما يتحدث الرب عن رعايته لشعبه يؤكد لهم أنه قدم لهم عسلًا إشارة إلى عذوبة عطيته، أو حلاوة كلمته في فمهم، إذ يقول: "أكلت السميذ والعسل والزيت وجملت جدًا جدًا فصلحت للمملكة" (حز 16: 13)، "من الصخرة كنت أشبعك عسلًا" (مز 81: 16)، "أرضعه عسلًا من حجر" (تث 32: 13). عسل كلمة الله هو سرّ جمال شعبه حتى يصلح أن يصير ملكة، وسرّ شبعها وارتوائها: هذا الذي يقوت شعبه بالعسل يعود فيجد عسله هذا مخفيًا تحت لسان عروسه فيفرح بها.! إن كان الرب يُقدم عسله خلال لسان عروسه ليشبع الناضجين، فإنه يملأ صدرها باللبن غير الفاشي حتى يجد الأطفال لهم موضعًا في كنيسته وراحة لدى عروسه. وكما يقول القديس غريغوريوس النيصي: [الإنسان الذي يعرف كيف يتحدث مع كل نوع من البشر وله تحت لسانه قوى مختلفة للكلمة الإلهية (عسلًا ولبنًا)، هو ذاك الذي يقدر أن يقدم لكل واحد ما يناسبه حسب قدراته في الوقت المناسب]. كلنا يعلم أن الإنسان وسط آلامه وضيقاته يزهد في ملبسه، لكن العريس هنا يشتم رائحة العروس وسط آلامها كرائحة صلاة (لبان) نقية! إنه يسمع لتنهداتها وطلباتها لأنها في حالة تألم! يصغي إليها ويستجيب طلباتها لأنها منكسرة القلب! بهذا يخلع المؤمن -في جهاده الروحي- ثيابه الأرضية لكي يلبس الروح القدس ثياب السماء التي لا تبلى: "محبة، فرح، سلام..." (غلا 5: 22). هذا هو عمل الروح في حياة العروس المتألمة! أخيرًا فإن الإنسان غالبًا ما يتطلع إلى نفسه في وقت الضيق فيظن كأنه في قفر بلا ساكن، عقيمًا بلا ثمر، أما الرب فيرى عكس هذا إذ يقول: "أُخْتِي الْعَرُوسُ جَنَّةٌ مُغْلَقَة،ٌ عَيْنٌ مُقْفَلَةٌ، يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ" [12]. كأنه يقول لها: اذكري الإمكانيات الكاملة في داخلك، أنتِ جنة وعين وينبوع، إمكانيات الروح القدس الساكن فيكِ، هذه التي لا تعلن فيكِ إلاَّ إذا قبلتي الآلام وانحنى ظهرك للصليب. لماذا دعيت العروس جنة مغلقة وينبوعًا مختومًا؟ 1. يرى القديس غريغوريوس النيصي أن الجنة تحوي أنواعًا مختلفة من الأشجار. ثمرها يكون في البداية مرًا، لكن في الوقت المناسب إذ ينضج يكون حلوًا ومفيدًا مبهج لكل الحواس... هكذا النفس في حياتها الروحية، إذ يغرسها الرب نفسه ويرويها، لكنها تحمل آلامًا وأتعابًا ومرارة... وفي الوقت المناسب تأتي بالثمر المبهج للنفوس. 2. يتحدث القديس عن سرّ إغلاقها قائلًا: [جنتنا مغلقة من كل جانب بسور الوصايا حتى لا يتسلل إليها مدخلها لص أو وحش مفترس. إنها مغلقة بسياج الوصايا فلا يستطيع خنزير بري أن يقترب إليها]. 3. إن كانت الحديقة تحتاج إلى عين أو ينبوع، فيلزم أن تكون العين مقفلة والينبوع مختوم، وكما يقول الحكيم: "أشرب مياهًا من جبك ومياها جارية من بئرك. لا تفضي ينابيعك إلى الخارج، سواقي مياه في الشوارع. لتكن لك وحدك وليس لأجانب معك. ليكن ينبوعك مباركًا" (أم 5: 15-18). هكذا يوصينا الوحي الإلهي ألا نبدد مياه ينابيعنا في الخارج، في الشوارع، مع الغرباء... وكما يقول القديس غريغوريوس أنه حينما تنحرف أفكارنا الداخلية نحو الخطية (الغريبة) نكون قد أضعنا مياه ينابيعنا وقدمناها للغرباء. [إنها النقاوة هي التي تختم هذا الينبوع ليكون لسيده]. يرى القديس أمبروسيوس أن الينبوع المختوم هو المعمودية التي تبقى مختومة ومغلقة إن لم تغتصب بالأعمال وتعلن بالكلمات. لقد صرنا بالمعمودية فردوسًا به إمكانية الحياة والإثمار لكنه فردوس مغلق، وعينًا تستطيع أن تفجر مياه نقية وعذبة تروي الكثيرين لكنها مقفلة، وينبوع مختوم إن فتح فجر ينابيع مياه حية.! قد نظن في أنفسنا أننا فارغون، لكن الله يرى في داخلنا فردوسًا وعينًا وينبوعًا لا يحق أن تفتح إلاَّ له هو، فهو عريس النفس الوحيد، الذي من حقه أن يدخل جنة القلب ويشرب ينابيع حبه! بمعنى آخر تلتزم النفس كعروس أن تبقى في عذروايتها مشتاقة إلى العريس السماوي وحده، تفتح له قلبها وأحاسيسها وعواطفها وكل طاقتها، بكونها العذراء العفيفة المنتظرة عريسها (مت 25)، كعضو في كنيسة الأبكار. وللقديس أمبروسيوس تعليق جميل، إذ يقول: [ينطق السيد بهذا القول للكنيسة التي يُريدها بتولًا بلا دنس ولا عيب. الجنة المخصبة هي البتولية التي يمكن أن تحمل ثمارًا كثيرة لها رائحة صالحة... أنها جنة مغلقة لأنها محاطة بسور الطهارة من كل جهة. وهي ينبوع مختوم لأن البتولية هي ينبوع العفة وأصلها، تحفظ ختم النقاوة مصونًا بغير اضحملال، فيه تنعكس صورة الله، حيث تتفق نقاوة البساطة مع طهارة الجسد أيضًا]. ربط القديس أمبروسيوس بين هذا الختم وسرّ الأفخارستيا، إذ رأى في حديث المسيح هنا عن الكنيسة وصية من العريس تجاه عروسه التي تقتات بجسده الأقدس ودمه الكريم، تحتفظ بهذه الأسرار في حياتها مختومة لا تحلها بأعمال الشر وفقد الطهارة. ويرى القديس أغسطينوس أن هذه الجنة المغلقة هي الكنيسة إذ يقول: [الفردوس هو الكنيسة كما دعيت في نشيد الأناشيد، وأنهار الفردوس الأربعة هي الأناجيل الأربعة، والأشجار المثمرة هم القديسون، والثمار هي أعمالهم، وشجرة الحياة هي قدس الأقداس أي المسيح، وشجرة معرفة الخير والشر هي حرية الإرادة، فإن أحتقر إنسان إرادة الله إنما يحطم نفسه، وعندئذ يتعلم الفارق بين تقديس نفسه للخير العام وبين ما يسلكه حسب إرادته الذاتية]. وأخيرًا فإن كثيرين من الآباء رأوا في القديسة مريم البتول "الجنة المغلقة" وهي في هذا تُمثل الكنيسة البتول التي تقدست للرب وحده. فيقول القديس أغسطينوس: [المسيح نفسه بتول، وأمه أيضًا بتول. نعم مع أنها أمه لكنها لا تزال بتولًا، إذ دخل يسوع فيها "خلال الأبواب المغلقة" (يو 20: 19)، دخل قبره الجديد المنحوت في صخر صلد حيث لم يرقد فيه أحد من قبله أو بعده (يو 19: 41). فمريم هي "جنة مغلقة... ينبوع مختوم". من هذا الينبوع يفيض كما يقول يوئيل (يوء 2: 18). النهر الذي يروي السيل من الحسك والشوك، حسك الخطايا التي ارتكبناها وارتبطنا بها (أم 5: 22)، والشوك الذي يخنق البذار التي زرعها صاحب الأرض (مت 13: 7)...]. إذن الجنة المغلقة أو العين المقفول أو الينبوع المختوم تُشير إلى الحياة التي لا يدخلها إلاَّ الرب وحده الذي له مفتاح داود "يفتح ولا أحد يغلق، ويغلق ولا أحد يفتح" (رؤ 3: 7). هذه الحياة تحمل ثمار الروح القدس الثمينة السمائية، إذ يقول: "أَغْرَاسُكِ فِرْدَوْسُ رُمَّانٍ مَعَ أَثْمَارٍ نَفِيسَةٍ فَاغِيَةٍ وَنَارِدِينٍ،نَارِدِينٍ وَكُرْكُمٍ، قَصَبِ الذَّرِيرَةِ وَقِرْفَةٍ مَعَ كُلِّ عُودِ اللُّبَانِ. مُرٌّ وَعُودٌ مَعَ كُلِّ أَنْفَسِ الأَطْيَابِ. يَنْبُوعُ جَنَّاتٍ بِئْرُ مِيَاهٍ حَيَّةٍ وَسُيُولٌ مِنْ لُبْنَانَ (اللبان)" [13-15]. ماذا يجد الرب فينا؟ أنه يجد أصنافًا متنوعة من ثمار للأكل كالرمان وروائح طيبة وأطياب وبخور (لبان) ومواد تستخدم كأدهان طيبة ومياه حيَّة للشرب... هكذا تظهر عروس المسيح غنية في كل شيء: لديها طعامًا يشبع، وشرابًا يروي، وأطيابًا ثمينة للتجميل، وأدوية للعلاج... يفرح بها عريسها وأصدقاؤه. ويلاحظ في العبارات المذكورة تكرار كلمة "كل"، فهي ليست في نقص إلى شيء، بل مكتفية في كل شيء. هذا هو التعبير الذي استخدمه الرسول بولس في وصفه للمؤمنين، إذ يقول: "الله قادر أن يزيدكم كل نعمة لكي تكونوا ولكم كل اكتفاء كل حين في كل شيء تزدادون في كل عمل صالح" (2 كو 9: 8). "نحن أيضًا منذ يوم سمعنا لم نزل مصلين وطالبين لأجلكم أن تمتلئوا معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحي، لتسلكوا كما يحق للرب في كل رضى مثمرين في كل عمل صالح ونامين في معرفة الله، متقوين بكل قوة بحسب قدرة مجده لكل صبر وطول أناة بفرح" (كو 1: 9-11). وفيما يلي أمثلة مما حملته النفس في داخلها من أغراس عديدة، وإن كنت قد سبق فتحدثت عن بعضها في شيء من التفصيل. 1. فردوس رمان: رأينا خد العروس كفلقة رمان مملوء احمرارًا علامة الجمال الروحي خلال دم السيد المسيح، كما علامة الحياء في وداعة وهدوء... إنها تحمل جمال حب الله ووداعته... يتحدث القديس غريغوريوس النيصي عن شجرة الرمان، قائلًا: [شجرة الرمان تجعل اللص ييأس منها، فإن فروعها محفوفة بالأشواك، وثمرها مغطى بقشرة مُرّة للغاية وخشنة تقوم بحمايتها. لكن حين تنضج الثمرة في الوقت المناسب، إذ تنزع عنها القشرة وتتطلع إلى داخلها تجد ثمرًا حلوًا، منظره جذاب، طعمه لذيذ كالشهد، له نكهة الخمر... هكذا يليق بنا نحن أيضًا ألا نكون مدللين في الجهاد ولا محبين للترف في هذه الحياة، إنما نختار طريق الحياة العفيفة (ضبط النفس) القاسية. بهذا لا تقدر اللصوص أن تقترب إلى ثمر الفضيلة، لأنها محصنة بغطاء ضبط النفس الخشن، ومحاطة بطريقة حياة قاسية وصارمة، وكأنها أشواك توخز من يقترب إليها بهدف شرير. لكن في الوقت المناسب نتمتع بما يقدمه الرمان من خليط من البهجة لأنواع ثمر متنوعة...]. 2. فاغة الحناء: سبق الحديث عنها، تستخدمها العروس للزينة في الليلة السابقة لعرسها لكي تتهيأ للعريس برائحة طيبة، وهي تصبغ بها يديها ورجليها لتكون حمراء. 3. ناردين: يستخلص من نبات صغير الحجم، ينبت بكثرة على جبال الهملايا، على ارتفاع حوالي 1100-1700 قدم فوق مستوى البحر. هو طيب كثير الثمن، استخدم في التجارة. به دهنت مريم أخت لعازر قدمي الرب (يو 12: 13)، كما سكبته هي أو غيرها على رأسه قبل الفصح بستة أيام (مر 14: 3) علامة حبها وشكرها له. 4. كركم: وردتها بنفسجية اللون إلى حد ما، بها عروق حمراء اللون، أما الكركم نفسه فأصفر اللون، يطحن ويخلط بزيت الزيتون ليستخدم طيبًا. ويستخدم الكركم في الطعام كنوع من التوابل، كما يستخدم في الأدوية. 5. قصب الذريرة: عود له رائحة ذكية، يستخرج منه زيت يستخدم في الأمور الخاصة بالذبيحة (إش 43: 24؛ إر 6: 20). 6. القرفة: نوع من الخشب له رائحة طيبة، يستخدمه بعض الشرقيين عوض الشاي، أُستخدم كأحد المُركبات الخاصة بالزيت المقدس لتقديس هرون وبنيه (خر 20: 22)، ولا يزال يُستخدم كأحد عناصر زيت الميرون عند طبخه، كما استخدم أيضًا كنوع من الأدوية. 7. أخيرًا يُناجيها العريس قائلًا: "يَنْبُوعُ جَنَّاتٍ مِيَاهٍ حَيَّةٍ وَسُيُولٌ مِنْ اللبان" إذ تحمل في داخلها عريسها الينبوع الحيّ الذي يروي غروسه وكرومه داخل جنته المغلقة، يقبض عليها بسيول تجرف كل مالها نحو الأبدية... العروس تشارك عريسها "اِسْتَيْقِظِي يَا رِيحَ الشَّمَالِ، وَتَعَالَيْ يَا رِيحَ الْجَنُوبِ، هَبِّي عَلَى جَنَّتِي، فَتَقْطُرَ أَطْيَابُهَا. لِينزل حَبِيبِي إِلَى جَنَّتِهِ، وَيَأْكُلْ ثَمَرَهُ النَّفِيسَ" [16]. في حفل العرس مدح العريس عروسه، ودعاها لتخرج معه خارج المحلة، تُشاركه آلامه وصلبه، وتتطيب بالمرّ فتدفن معه، لكي تقوم معه حاملة أغراس كثيرة ومتنوعة، هي من عمل قيامته فيها، والآن تُخاطبه العروس وتطلب أن تهب على جنتها ريح الشمال المملوء بردًا وريح الجنوب الحار... حتى تقطر أطيابها فينزل إليها عريسها وينعم بثماره فيها... فماذا تعني العروس بريح الشمال وريح الجنوب؟ 1. في اليونانية كلمة "ريح" هي بذاتها كلمة "روح"... لعل العروس هنا تطلب من عريسها أن يبعث إليها بروحه القدوس الذي يلاحقها من كل جانب، فيعطيها الثمر المتكاثر الذي يفرح به العريس. 2. دعوة الريح أن تهب عليها إنما هي دعوة للحبيب نفسه بكونه الريح الهادئ الوديع الذي يجتاز القلب ويسكن فيه، فيكون لنا "عمل المسيح" فينا. 3. ربما قصدت النفس بالريح أي ظروف خارجية، فإنه إذ صارت جنة مغلقة مكرسة للرب، لا تخاف مما يحيط بها فإن "كل الأمور تعمل معًا للخير للذين يحبون الله" (رو 8: 28)، فإن أعطى الرسول بولس كرامة آلت إلى تقدم الإنجيل، وإن قيد في الحبس الداخلي تؤول قيوده بالأكثر إلى تقدم الإنجيل (في 1: 12)، أو كما يقول عن نفسه "يتعظم المسيح في جسدي سواء كان بحياة أو موت" (في 1: 20). 4. تُشير الريح أيضًا إلى التجارب، فإن هبت على النفس تجارب شمالية أي هاجت الخطية ضدها، أو تجارب يمينية كأن يثور البرّ ذاتي فيها... ففي هذا كله يسندها الرب لا ليحفظها من التجارب فحسب بل يخرج منها ثمارًا يفرح بها العريس! إنه كشمشون الذي أخرج من الآكل أكلا، ووجد في الجافي حلاوة.! ويلاحظ أن النفس تُسمي قلبها "جنتي" أي خاصة بها، لكنها سرعان ما تدعو عريسها قائلة "لينزل حبيبي إلى جنته". فهي كرمه، من عمل يديه، وتحت رعايته، هو في وسطها فلن تتزعزع. لا يمكن للنفس أن تقطر أطيابها وسط التجارب ما لم تسلمه ذاتها لتكون جنته، يهتم بها ويأكل من ثمرها الذي هو "ثمره". إنها تدعوه أن ينزل إليها، فالقلب هو له، والثمر منسوب إليه... وقد رأى القديس أمبروسيوس أن الدعوة موجهة للعريس أن ينزل إلى النفس في جرن المعمودية ليتسلم جنته ويعمل فيها بروحه القدوس وتأتي بثمره، إذ يقول: ["لِينزل حَبِيبِي إِلَى جَنَّتِهِ، وَيَأْكُلْ ثَمَرَ التفاح الذي له". حقًا يا له من شجر جميل مملوء ثمارًا، تمتد جذوره في مياه (المعمودية) الينبوع المقدس!]. لقد نزل إليها بتجسده، وبصلبه ودخوله القبر، وينزل إليها عند عمادها في الينبوع المقدس، ولا تزال تسأله أن ينزل إليها قادمًا على السحاب ليأخذها معه، فقد حملت ثماره داخلها! الحياة الزوجية بدء الحياة الزوجية ما أن دعت الكنيسة عريسها للنزول إليها ليأكل من جنته التي في داخلها، المملوءة من أغراس روحه القدوس، والمرتويه من ينبوع المعمودية المقدس، حتى استجاب لدعوتها فورًا بغير تردد، قائلًا: "قَدْ نَزلّت إِلي جَنَّتِي يَا أُخْتِي الْعَرُوسُ، قَطَفْتُ مُرِّي مَعَ أطِايبِي، أَكَلْتُ شَهْدِي (خبزي) مَعَ عَسَلِي، شَرِبْتُ خَمْرِي مَعَ لَبَنِي، كُلُوا أَيُّهَا الأَصْحَابُ، اشْرَبُوا، وَاسْكَرُوا أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ" [1]. لقد أسرع بالنزول إلى جنته بغير تردد، لأن الدعوة هنا جاءت مطابقة لمشيئته، فوجدت استجابة سريعة في عيني الله. لقد دعته للنزول إلى جنته، التي يشتهي أن ينزل إليها على الدوام. فإن كان الرب منذ الأزل قد أعد أحداث الخلاص حتى صارت موضوع لذته وسروره بالرغم مما حملته من خزي وآلام وموت كقول الرسول بولس: "من أجل السرور الموضوع أمامه أحتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 3)، فإن عروسه تدعوه أن ينزل إلى ذات البستان الذي دخله ليلة آلامه، وإلى ذاك الذي فيه وضع جسده في القبر. تدعوه أن يراها وهي تكمل نقائص شدائده في جسمها (كو 1: 24)، أي تشاركه آلامه وصلبه ودفنه، لهذا لا يتردد الرب في قوله: "قطفت مُرّي مع أطيابي"... وكأن أحداث الخلاص صارت حيَّة وممتدة في حياة أولاده! ويرى الأب روفينوس أن الجنة هنا ليست إلاَّ الموضع الذي صلب فيه الرب، حيث يعلن الحكيم أن العريس يشرب الخمر ممتزجًا بالمرّ، الذي قُدم للرب في لحظات صلبه. لقد قبل الرب الدعوة فورًا إذ وجد كل ما للعروس إنما يخصه، فلقبها هو جنته، وهي أخته وعروسه، وفي داخلها وجد مرّ وأطيابه وشهده وعسله وخمره ولبنه. وجد ثمار روحه القدوس في داخلها فأسرع إليها، ولم يجد في داخلها أجرة إثم أو أجرة زانية أو غير ذلك من الأمور التي لا يقبلها إذ يقول: "لا تدخل أجرة زانية ولا ثمن كلب إلى بيت الرب إلهك عن نذر ما لأنهما كليهما رجس لدى الرب إلهك" (تث 23: 18). قبل أن يشرح القديس غريغوريوس أسقف نيصص ما بداخل الجنة، تساءل: "من هو هذا الذي تدعوه للوليمة التي أعدتها" إنه ذاك الذي منه وبه كل شيء كائن (1 كو 1: 17)، الذي يُعطي عونًا لكل أحد في حين حسن (لو 12: 43)، الذي يفتح يده فيشبع كل حيّ بالبركة (مز 144: 16)، الذي ينزل بكونه الخبز السماوي (يو 6: 14)، واهبًا الحياة للعالم، يسكب من عنده وحده حياة على كل الخليقة. هذا هو الذي أعدت له العروس مائدتها، أما المائدة فهي جنة مغروسة أشجار حية. وأما الأشجار فهي نحن، والثمر الذي نقدمه هو نفوسنا، وذلك كقوله عندما أخذ كمال ناسوتيتنا: "طعامي أن أعمل مشيئة أبي" (يو 4: 34). أما غاية إرادته الإلهية فواضحة، إذ يُريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). إذن، الطعام المعد هو خلاصنا، والثمر هو إرادتنا الحرة التي تقدم لله "نفوسنا"، كأنها ثمر يُجنى من الغصن. يليق بنا أيضًا أن نتأمل العروس التي تمتعت قبلًا بثمر التفاح، قائلة: "ثمرته حلوة لحلقي" (نش 2: 3)، أما الآن فقد صارت هي نفسها حلوة، صارت ثمرة ناضجة تُقدم للكرام ينعم بها. أما العبارة "لينزل حبيبي" [1]، فهي مثابة طلب في تعبيره يماثل الصلاة: "ليتقدس أسمك" و"لتكن مشيئتك". فكما أن تكوين هاتين العبارتين يحمل صلاة هكذا تصلي العروس قائلة: "لينزل (خليلي)" معلنة لله فيض ثمر كمالها. نزوله يستلزم عمل محبته الإلهية، إذ لا نقدر نحن أن نرتفع إلى العلي ما لم يقف الرب عند المتواضعين ويرفع الودعاء (مز 146 (147): 6). فلكي ترتفع النفس إلى السماء تطلب عون الله العالي، متوسلة إليه أن ينزل من عظمته، ويتحد بنا هنا نحن الذين أسفل. لقد جاءت الإجابة خلال النبي هكذا: "حينئذ تدعو... فيقول هأنذا" (إش 58: 9)، بل وقبلما ترفع العروس صلاتها يسمع طلبتها ويصغي إلى استعداد قلبها (مز 10: 17 الترجمة السبعينية). إنه يأتي إلى جنته... ويقطف أطيابها المملوءة من ثمر فضائلها، عندئذ يتحدث عن تمتعه بالوليمة وتلذذه بها قائلًا: لعروسه: "قد نزلت إلى جنتي يا أختي العروس...". القديس غريغوريوس أسقف نيصص في داخلنا يأكل شهده وعسله، وكأنه قد دخل أرض الموعد التي تفيض لبنًا وعسلًا. يأكل ذات النوعين من الطعام "الشهد والعسل" اللذين أكل منهما مع تلاميذه بعد قيامته مبرهنًا بطرق كثيرة أنه حيّ قائم من الأموات يبقى عاملًا وسط كنيسته. يجد كل ما في قلبنا حلو وشهي كالشهد والعسل. يشرب أيضًا خمره أي حبه الذي سكبه فينا بروحه القدوس، مع لبنه غير الغاش أي النقاوة والطهارة... عندئذ يدعو أصحابه وأحباءه أن يدخلوا معه جنته الخاصة لكي يشبعوا ويفرحوا بعروسه، فمن هم هؤلاء الأصحاب والأحباء؟ إنهم السمائيون الذين يفرحون بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارًا لا يحتاجون إلى توبة (لو 15: 7). هؤلاء يدخلون مع الرب القلب لا ليملكوا بل كجند الملك السماوي، أصدقاء العريس، قائلين مع القديس يوحنا المعمدان: "من له العروس فهو العريس، وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحًا من أجل صوت العريس" (يو 3: 29). فيما يلي مقتطفات من أقوال الآباء عن هؤلاء الأصدقاء وعملهم في القلب: * القلب هو قصر المسيح، فيه يدخل الملك لكي يستريح، ومعه الملائكة وأرواح القديسين، هناك يقطن ويتمشى وفي داخله يقيم مملكته! القديس مقاريوس الكبير إذن افتحوا أبوابكم للمسيح كي يدخل فيكم، افتحوا أبواب الطهارة، أبواب الشجاعة، أبواب الحكمة. صدقوا رسالة الملائكة: ارفعوا أبوابكم الدهرية ليدخل ملك المجد، رب الصباؤوت (الجنود). القديس أمبروسيوس إذن لنفتح القلب لله وملائكته، ليكون في داخلنا فرح سماوي.ظلال في الحياة الزوجية "أَنَا نَائِمَةٌ وَقَلْبِي مُسْتَيْقِظٌ، صَوْتُ حَبِيبِي (قريبي) قَارِعًا: اِفْتَحِي، اِفْتَحِي لِيّ يَا أُخْتِي يَا حَبِيبَتِي يَا حَمَامَتِي يَا كَامِلَتِي، لأَنَّ رَأْسِي أمْتَلأَ مِنَ الطَّلِّ، وَقُصَصِي مِنْ نَدَى اللَّيْلِ. قَدْ خَلَعْتُ ثَوْبِي فَكَيْفَ أَلْبِسُهُ؟ قَدْ غَسَلْتُ رِجْلَيَّ فَكَيْفَ أُوَسِّخُهُمَا؟" [2-3]. يا لها من صورة دقيقة للمعاملات المتبادلة بين الله والإنسان. فقد عاش الإنسان زمانًا طويلًا وهو مسترخي ومهملًا خلاصه بالرغم من كل الإمكانيات التي قدمها له الله ليكون متيقظًا. لقد أراد الله أن يجعله ابنًا للنور والنهار، لكن الإنسان أصر أن يحول زمان غربته كله ليلًا يقضيه نائمًا حتى وإن كان قلبه متيقظًا. لقد أعطى الله للبشرية الناموس الطبيعي ييقظ قلبهم حتى أنهم بلا عذر، لكنهم "لما عرفوا الله لم يُمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبي. وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى والطيور والدواب والزحافات" (رو 1: 21-23). وأعطاهم الناموس المكتوب، لكنهم إذ أخطئوا في الناموس فبالناموس سقطوا تحت الدينونة، "لأن ليس الذين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس هم يبررون" (رو 2: 13)، فالناموس المقدس أو الوصية المقدسة والعادلة والصالحة أعلنت ليّ الخطية وكشفتها فعاشت الخطية ومت أنا (رو 7). وأرسل الله أنبياءه، لكن ماذا فعلت البشرية بهم؟ يقول الرب نفسه: "يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا؟!" (مت 23: 37). وأخيرًا "صَوْتُ حَبِيبِي قَارِعًا"... نزل "كلمة الله" نفسه إلى الإنسان يقرع باب قلبه... يقف أمام النفس يرجوها أن تفتح له. نزل شمس البرّ ودخل زماننا الذي جعلناه ليلًا، لكي يُضئ علينا نحن الجالسين في الظلمة وظلال الموت، فنقوم من غفلتنا! لعل الحديث هنا خاص بالنفس التي دعت المسيا عريسًا لها، لكنها عادت فاسترخت في حبه. غلبها النوم ولم تقدر أن تسهر معه في ليلة آلامه، مع أن قلبها مسكن الروح القدس فيه حياة، يؤنبها! لقد فترت في حبها له، لكن الله محب البشر يرى قلبها متيقظًا فلا يكف عن أن ينزل إلى بابها يدعوها: "اِفْتَحِي، اِفْتَحِي لِيّ يَا أُخْتِي، يَا خَليِلتيّ، يَا حَمَامَتِي، يَا كَامِلَتِي..." صوت الحبيب هنا يُعاتب في رقة، فلا يجرح مشاعر القلب، بل يشجع عروسه فيدعوها أخته وخليلته وحمامته وكاملته... مع أنها تغط في نومها! لا ينتهرها ولا يوبخها بل يعطيها رجاءً ويشجعها. أما تكراره السؤال: "اِفْتَحِي، اِفْتَحِي لِيّ..." فربما يوضح الدعوة المتكررة للبشرية في العهدين، القديم والجديد، فإن الله لم يتغير، ولا دعوته قد تغيرت، إذ يطلب أن ينفتح له القلب ويقبله.! وفي تكرار الدعوة أيضًا إعلان عن كمال حرية النفس، فهو الخالق والسيد والملك لكنه لا يقتحم النفس إتقحامًا، إنما يتوسل إليها أن تنفتح له... ففي سفر الرؤيا نراه يقول "هأنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي" (رؤ 3: 20)، حتى عندما تقدم إلى تلاميذه ماشيًا على البحر وسط الهياج الشديد لم يقتحم سفينتهم بل يقول الإنجيلي: "فرضوا أن يقبلوه في السفينة" (يو 6: 20). لقد أستخدم القديس أثناسيوس الرسولي هذا الحديث الودي للسيد المسيح نحو النفس البشرية في كتابه "تاريخ الأريوسيين" كحجة ضد استخدامهم العنف قائلًا: [إذ يأتي (الرب) لكل أحد لا يلزمه أن يفتح بالقوة، لكنه يقرع الباب قائلًا: "افتحي ليّ يا أختي يا عروسي" فإن فُتح له دخل، وإن تأخر فارقه ولا يدخل. إنه يستخدم الإقناع والنصح عندما يكرز بالحق، ولا يستخدم السيوف والجند. ولكن أي إقناع هذا حين يعم رعب الإمبراطور!؟]. إنه يقنعها أن تفتح له بالحب، فقد صارت له أختًا وهو أخوها البكر، يقدر أن يعينها. لقد صار "بكرًا بين اخوة كثيرين" (رو 8: 39) إقتحم باب الموت وحطمه فصار باكورة الراقدين (1 كو 15: 20)... لتفتح قلبها لذاك الذي فتح لها باب الحياة! يعود فيرجوها أن تفتح بحق الصداقة القوية بينهما إذ يدعوها "خليلته" وهذا هو اللقب الذي دُعِيَ به إبراهيم أب المؤمنين (2 أي 20: 7، إش 41: 8، مع 2: 23). إن كان الله قد فتح أسرار قلبه لخليله إبراهيم، قائلًا: "هل أخفي عن إبراهيم ما أنا أفعله؟!" (تك 18: 17)... فكم بالحري يليق بالمؤمن وقد صار خليلًا لله أن يفتح قلبه بالكامل له. إنه يجتذبها لفتح أبواب قلبها بدعوته إياها "حمامته"، إذ حملت "الروح القدس" الذي نزل على شكل حمامة في داخلها، فصار لها القدرة على فتح قلبها. وأخيرًا يُشجعها على ذلك بكونها "الكاملة" التي بلا عيب، فلا تقدر أن تغلق الباب في وجهه. هكذا يتعامل الله معنا، فيوصينا لا خلال أوامر أو نواه بل بإعلان حبه وصداقته، ويوضح لنا مركزنا بالنسبة له، ويكشف لنا إمكانيات روحه القدوس العامل فينا، ويشجعنا خلال ما بلغنا إليه! أخيرًا يتوسل إليها بكونه "حامل الآلام والأحزان" من أجلها، إذ يقول لها: "لأَنَّ رَأْسِي أمْتَلأَ مِنَ الطَّلِّ، وَقُصَصِي مِنْ نَدَى اللَّيْلِ" [2]. إن كنت قد جعلتي زمانك ليلًا بلا نهار، فصارت حياتك نومًا، فإني بالحب أقتحم الزمن وأدخل إلى هذا الليل لا لأنام بل لأحمل أهوال الليل عنك. بالفعل دخل السيد البستان ليلًا ونام تلاميذه ولم يقدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة (مت 26: 40)، أما هو فكان يدخل إلى العمق يتسلم كأس الألم حتى يشربه عن البشرية كلها... في البستان كان "يحزن ويكتئب" (مت 26: 37). كان يصرخ: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت"، وكانت قطرات العرق تتصبب كالدم!!! إنه يُناجيها ويطلب أن تفتح له من أجل ما أحتمله بسببها في تلك الليلة العاصفة الممطرة، فقد امتلأ رأسه من الطل وقصصه من ندى الليل... حمل الغضب الإلهي في جسده، وكما يقول النبي: "أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا، وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَابًا مَضْرُوبًا مِنَ اللَّهِ وَمَذْلُولًا. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا وتَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا" (إش 53: 4-5). أما هي فقدمت اعتذارات بشرية غير لائقة، وتحدثت بغير اكتراث، فلم تدعوه ربها أو سيدها، ولا حتى نادته باسمه، ولا ذكرت أحد ألقابه، بل قالت: "قَدْ خَلَعْتُ ثَوْبِي فَكَيْفَ أَلْبِسُهُ؟! قَدْ غَسَلْتُ رِجْلَيَّ فَكَيْفَ أُوَسِّخُهُمَا؟" [3]. يا لها من حجج واهية، تقدمها النفس في فتورها الروحي... أعتذار لعدم فتح القلب لذاك الذي تعلم عنه تمامًا أنه يحبها. أنها صورة للإنسان وقد ضن على نفسه أن يتحمل يسيرًا من التعب لأجل تحقيق اللقاء مع السيد المسيح بالرغم من الكثير الذي دفعه السيد.! ما أسهل أن تصنع آذارًا على جسدها وتنتعل حذاءً في قدميها... لكنها انشغلت براحه جسدها عن التمتع بعريسها... تشبهت بهؤلاء الذين قدموا أعذارًا لكي لا يحضروا العرس (مت 22: 5). إن كانت قد خلعت ثوبها، فالسيد المسيح نفسه هو الثوب الأبدي الذي يسترنا، كقول الرسول بولس "قد لبستم المسيح" (غل 3: 27). هذه هي الحلة الأولى التي يُقدمها الآب السماوي للابن الراجع إليه (لو 15: 22). هذا هو الثوب المزخرف الذي يُقدم من يد الله كقول زكريا النبي: "قد أذهبت عنك إثمك وألبستك ثيابًا مزخرفة" (زك 3: 4). إن كانت قد خلعت ثوبها، فهو يعطيها روحه لكي تلبسه، كسرّ حياة فيها، إذ يؤكد على تلاميذه: "ها أنا أرسل إليكم موعد أبي فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي" (لو 24: 49). إن كانت قد غسلت رجليها، فلتعلم أن القارع على الباب هو سيدها الذي يتمنطق ويغسل أقدام عروسه (يو 13: 5). هي غسلتهما بمياه برها الذاتي لكي يستريح ضميرها إلى حين، لكن إذ تمتد يدي الرب لغسل قدميها يصير لها راحة في ملكوته الأبدي. لهذا قال الرب لبطرس الرسول: "إن كنت لا أغسلك فليس لك معي نصيب" (يو 13: 8). إذن فلنقم من سرير "الأنا" أو "الذات البشرية" ونتقدم لعريسنا الذي يسترنا بدمه ويلبسنا روحه القدوس، كما يغسل حياتنا الداخلية فنحيا مقدسين له. بالصليب يعود الحب الزوجي إن كانت النفس لا تقدر أن تنصت إلى صوت من أحبها الذي أعلن بطرق متنوعة، فقد بقي أن يمد يده المجروحة على الصليب إلى داخل ذهنها فترى آثار جراحات الحب التي احتملها من أجله، فتئن أحشاؤها عليه، قائلة: "حَبِيبِي مَدَّ يَدَهُ مِنَ الْكُوَّةِ، فَأَنَّتْ عَلَيْهِ أَحْشَائِي، قُمْتُ لأَفْتَحَ لِحَبِيبِي، وَيَدَايَ تَقْطُرَانِ مُرًّا، وَأَصَابِعِي مُرٌّ قَاطِرٌ عَلَى مَقْبَضِ الْقُفْلِ" [4-5]. إذ ضاقت الدنيا في وجه التلاميذ بسبب الخوف أغلقوا الأبواب وأقاموا المتاريس ولم يعلموا أن الأبواب المغلقة لن تمنع الرب المجروح عنهم أن يدخل إليهم ليريهم يديه وجنبه فيفرحون (يو 20: 20). لقد فتح كوة داخلية في قلوبهم ليتلامسوا مع جراحات محبته. وهكذا يمد الرب يده المجروحة خلال الكوة ليكتشف مؤمنوه سرّ محبته فتئن أحشاؤهم عليه. أقول، أن هذه الكوة ليست إلاَّ جنب الرب وجراحاته، من خلالها يمد الرب يد محبته فنكشف أحشاءه الداخلية الملتهبة حبًا، فتئن أحشاؤنا أيضًا... أحبنا أولًا لذا نحن أيضًا نحبه. وللكوة ذكريات خاصة وردت في العهد القديم حمل بعضها جوانب رمزية لعمل الله الخلاصي في حياة عروسه، نذكر على سبيل المثال: 1. خلال الكوة أدرك إبيمالك أن رفقة هي زوجة إسحق وليست مجرد أخته (تك 26: 81)، وهكذا خلال جراحات الرب تعلن الكنيسة كعروس للمسيح يسوع. 2. خلال الكوة نزل الجاسوسان من بيت راحاب الذي بحائط السور (يش 2: 15)، وخلالها نزل داود من البيت هاربًا من رسل شاول ونجا (1 صم 19: 21). خلال الكوة ننزل من كبرياء هذا العالم لنعبر أسواره وننجو من كل مشورات إبليس. 3. الكوة التي ربطت عليها حبل من خيوط القرمز (يش 2: 12)، والتي من خلالها خلصت راحاب الزانية وكل أهل بيتها إنما هي إشارة إلى جراحات السيد المسيح التي أنقذت جماعة الأمم الفاسدة وكل أولادهم الذين دخلوا الكنيسة، محفوظين في دم الرب الثمين. 4. كما كانت الكوة علامة للخلاص، فإنها حملت أيضًا إشارة إلى هلاك الشر، فإذ تكحلت إيزابل الملكة الشريرة وزينت رأسها بزينة العالم، أُلقيت من الكوة ولحست الكلاب دمها (2 مل 9). وأخزيا الملك الشرير أيضًا الذي اتكل على بعل زبوب إله عقرون وليس على الله الحيّ سقط من الكوة التي في عليته التي في السامرة (2 مل 1: 2) فمرض ومات. وفي تسبحة دبورة القاضية، طلبت من أم الملك سيسرا أن تشرف من الكوة (قض 5: 28) لترى لماذا أبطأت مركبات ابنها عن المجيء ولماذا تأخرت خطوات مراكبه... فقد هلك هو ومركباته. 5. خلال هذه الكوة تئن أحشاء المؤمنين من أجل محبة الله الخلاصية، بينما يسخر غير المؤمنين بهذه الجراحات، متشبهين بميكال ابنة الملك الشرير شاول، فإنها إذ أشرفت من الكوة ورأت الملك داود يطفر ويرقص أمام الرب احتقرته في قلبها (2 صم 6: 16، 1 أي 15: 29). نعود إلى العروس التي تمتعت بيد الرب التي حلت في وسطها فأدركت سرّ صليبه، فتحطم قساوة قلبها الحجري، وقامت لتفتح لحبيبها. لقد صرخت مع الابن الأصغر "أقوم وأذهب إلى أبي" (لو 15). أعلنت شوقها لمن أحبها بالرجوع إليه خلال التوبة الصادقة والدموع المُرّة والتنهدات الخالصة، لذا قالت: "َيَدَايَ تَقْطُرَانِ مُرًّا وَأَصَابِعِي مُرٌّ قَاطِرٌ عَلَى مَقْبَضِ الْقُفْلِ". يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن المرّ يُشير إلى "الموت الذي ماته المسيح عنا"، فقد تلامسنا معه بالتوبة وقبلنا أن نموت معه، لكي تفتح أمامنا الأبواب الدهرية. "فَتَحْتُ لِحَبِيبِي، لَكِنَّ حَبِيبِي تَحَوَّلَ وَعَبَرَ. نَفْسِي خَرَجَتْ عِنْدَمَا أَدْبَرَ (تكلم). طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ، دَعَوْتُهُ فَمَا أَجَابَنِي: وَجَدَنِي الْحَرَسُ الطَّائِفُ فِي الْمَدِينَةِ، ضَرَبُونِي، جَرَحُونِي. حَفَظَةُ الأَسْوَارِ رَفَعُوا إِزَارِي عَنِّي. أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ (بقوى الحقل وفضائله)، إِنْ وَجَدْتُنَّ حَبِيبِي أَنْ تُخْبِرْنَهُ بِأَنِّي مجروحَةٌ حُبًّا. مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ، أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ!! مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ حَتَّى تُحَلِّفِينَا هَكَذَا!" [6-9]. لقد قامت تفتح لعريسها بعد طول رقاد، لكن عريسها كان قد تركها وعبر. لماذا فعل هكذا؟ إنه يؤدب الإنسان لتأخره في الاستجابة، وفي تأديبه يبدو كما لو أنه قد تركنا إلى حين... هذا الترك في ذاته يعتبر علامة اهتمام الله بنا، وقد أعطى الأب دانيال تعليلين لهذا الترك: 1. يتركنا الله فترة قصيرة لكي نتنبه إلى ضعف قلوبنا، عندئذ ندرك أنه ما كان لنا من نقاوة قلب قبلًا إنما هو عطية مجانية من قبل الافتقاد الإلهي. 2. عندما يتركنا ينكشف في داخلنا هدفنا القلبي ونشاطنا في الصلاة باحثين عن الروح القدس، أي يكون بمثابة امتحان لنا في المثابرة والرسوخ العقلي والغيرة الحقيقية. فإذا ما نلنا السعادة الروحية وبهجة النقاوة نتمسك بهذه الأمور بأكثر حرص، لأن البشر بوجه عام لا يحرصون على المحافظة على ما يظنون أنهم قادرون على نواله بسهولة. يقول الأب دانيال: [يعرفنا داود النبي الطوباوي بأن هذا الترك المؤقت من جانب الله يكون أحيانًا لصالحنا، لذلك طلب في صلاته ألا يكون هذا الترك دائمًا، متوسلًا إليه أن يكون لحدود معينة، قائلًا: "لا تتركني كثيرًا" (مز 119: 8). بمعنى آخر يقول: أنني أعلم أنك تترك قديسيك لأجل فائدتهم وذلك لامتحانهم... لذلك فأنا لا أسأل ألا تتركني، فإنه ليس من المفيد ليّ ألا أشعر بضعفي (لذلك قال: ويرى ليّ أنيّ تذللت (مز 119: 71)، ولا من النافع ليّ ألا تتاح ليّ فرصة للحرب. فإن هذه الفرصة لن تتاح ليّ بالتأكيد ما دمت أمتلئ بحماية الله الدائمة. فالشيطان لا يتجاسر ويحاربني ما دمت مستندًا على حمايتك... فأنا ألتمس منك أن تتركني لكن ليس للغاية (اللفظ اليوناني "ليس كثيرًا")، وذلك لأنه مفيد ليّ أن تتركني قليلًا حتى يمتحن ثبات حبي...]. لقد تحدث الأب دانيال كثيرًا عما نسميه بالفتور الروحي بسبب ترك الله لنا إلى حين لكي نمتحن ونحارب ونتزكى... لكنه في الحقيقة هو ليس تركًا بل اهتمامًا إلهيًا، وقد شبه القديس يوحنا الذهبي الفم موقف الله بمربية تمسك بأيدي طفل، تمشي به قليلًا، ثم ترفع يديها عنه فجأة حتى يتجاسر ويمشي... تنزع يديها لكنها تبقى تتطلع إليه بقلبها وفكرها كما تترقبه عيناها، ويداها تستعدان لمساندته. تقول النفس البشرية: "طَلَبْتُهُ فَمَا وَجَدْتُهُ"، مع أنه واقف بجوارها، بل هو في داخلها، ينتظر أن يرى جهادها من أجله، لتقول مع يعقوب: "لن أتركك حتى تباركني". "دَعَوْتُهُ فَمَا أَجَابَنِي"، مع أنه مشغول بتدبير كل الأمور لأجل خلاصي. جالت النفس في كل العالم تطلب من تحبه مع أنه كان في داخلها، وكما قال القديس أغسطينوس: [إنه في غباوة خرج يبحث عنه خارجًا في الطبيعة والكتب، مع أن الله كان في داخله عميقًا أعمق من عمقه، وعاليًا أعلى من علوه]. والآن من هم الحرس الطائف في المدينة الذين ضربوها وجرحوها، وحفظة الأسوار الذين رفعوا إِزَارِها عنها؟ 1. إذ كان المتحدث هنا هو المؤمن في كنيسة العهد الجديد، فإنه باسم الكنيسة يُعاتب جماعة اليهود وقادتها، الذين يمثلون الحرس الطائف في مدينة أورشليم والمسئولين عن حفظ كلمة الله، إذ كان يليق بهم أن يكونوا خدامًا للكلمة وكارزين بالمسيا المخلص، لكنهم يمسكون الكنيسة ويضربونها ويجرحونها، وصاروا يشهرون بها... أمام هذه الإهانات، لا ينحرف المؤمن عن نظره نحو عريسه، بل بالعكس يؤكد للمضايقين أنه مجروح بمحبة هذا العريس السماوي، قائلًا: "أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ... إِنْ وَجَدْتُنَّ حَبِيبِي أَنْ تُخْبِرْنَهُ بِأَنِّي مجروحَةٌ حُبًّا". هذه هي المرة الخامسة التي تتحدث كنيسة الأمم في عتاب مع جماعة اليهود هكذا: أ. ففي المرة الأولى (نش 1: 5)، تُعاتبهم لأنهم أهانوها قائلين عنها أنها سوداء كخيام قيدار، ليس لها أصل، لم تستلم الشريعة، ولا جاء منها الأنبياء... فتُجيبهم أنها وإن كانت سوداء بحكم أصلها الوثني لكنها الآن هي في حضن الآب، ضمها إليه وجملها خلال ابنه يسوع المسيح الذي جملها وصيرها كشقق سليمان. ب. في المرة الثانية (نش 2: 7)، إذ بدأت اتحادها مع الرب الذي وضع شماله تحت رأسها ويمينه تعانقها حاول اليهود إفساد هذه الوحدة وتحطيمها، أما هي فأعلنت أنه يأتي اليوم الذي فيه يظهر الرب ويعلن حقيقة هذه الاتحاد. ج. وفي المرة الثالثة (نش 3: 5)، إذ دخل العريس القبر وقف اليهود موقف الشامتين، وكأنهم يقولون: "أخرج من القبر فنؤمن بك"، أما الكنيسة فتجيبهم لا تحسبن أنه مات وزالت رسالته، لكنه هو حيّ قائم من الأموات يقيمني معه ويصعدني من البرية بيضاء كأعمدة من الدخان معطرة بالمرّ واللبان... خلاله ارتفع إلى الآب.! د. وفي المرة الرابعة (نش 3: 11)، إذ كان الحديث عن الصليب طلبت الكنيسة من اليهود أن يفهموا أنهم وهم يكللونه بالشوك استهزاءً به، إنما كان يُكلل كعريس للبشرية كلها في يوم عرسه ويوم فرح قلبه. ه. هذه هي المرة الخامسة (نش 5: 8)، حيث تعلن الكنيسة لجماعة اليهود أنه وإن مر أولادها ببعض الفتور، وصار كأن الله قد تركهم، لكن لا زالت الكنيسة حيَّة مملوءة حبًا... إنها تُجاهد حتى ينزع الرب عنهم فتورهم. 2. ربما يُشير الحرس الطائف في المدينة إلى خدام الكنيسة، مدينة الله، ويكون حفظة الأسوار هم الكارزين بالكلمة، فإن هؤلاء جميعًا ملتزمون أن يختفوا وراء كلمة الله في حديثهم مع النفوس الفاترة. هذه النفوس تشعر كأنها قد ضُربت منهم وجرحت وصارت في عار وخزي برفع إزارها عنها، ذلك لأن كلمة الله كالسيف الذي يبتر الشر ويطرده عن النفس. كما أنها كالمرأة تكشف ضعفات الإنسان وتفضح أعماقه! فالضربات والجراحات والعري هنا ليس لمضايقة النفس والتشهير بها، وإنما جراحات الحب التي تقود للتوبة الصادقة. وكما يقول الرسول بولس نفسه: "لأنه إن كنت أحزنكم أنا فمن هو الذي يفرحني إلاَّ الذي أحزنته" (2 كو 2: 2). على أي الأحوال إذ ينزع الفتور عن النفس البشرية، ليس فقط تدرك عودتها إلى الأحضان الأبوية في المسيح يسوع، لكنها تشهد لقوة هذا العمل حتى أمام غير المؤمنين، الذين يتساءلون قائلين: "مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ، أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ! مَا حَبِيبُكِ مِنْ حَبِيبٍ حَتَّى تُحَلِّفِينَا هَكَذَا؟!" [9]. إنك جميلة، ولا ينقصك شيء، فمن هو هذا الحبيب الذي تنشغلين به؟ من هو هذا الحبيب الفريد الذي تحلفينا هكذا من أجل بقائك في اتحاد معه.؟! لعل في هذا التساؤل نبوة عن قبول اليهود للسيد المسيح في أواخر الأيام، فإنه يأتي يوم يدرك فيه اليهود أنهم يخطئون إذ يطلبون مملكة أرضية ومطامع زمنية، لكن الحاجة إلى خلاص أبدي وتذوق لمحبة الله السماوية.! الحب الزوجي المتبادل 1. العروس تمدح عريسها. 2. حوار الحديقة. 3. وصفة للعروس "شولميث". العروس تمدح عريسها إذ يكتشف العالم في العروس حبها لعريسها ويدركون فاعلية هذا الحب في حياتها الداخلية وانعكاساته على ملامحها ومشاعرها وتصرفاتها، يتساءل عن هذا العريس الفريد. وهنا تشهد العروس لعريسها لا بالكلام بل بالحياة التي تعيشها، فإنها تعرفه تمامًا وتلمسه متحدة به، يدخل بها إلى معرفة الآب غير المنظور... تحمل شهادة حقة وعملية فتقول عنه: 1. "حَبِيبِي (خليلي) أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ" [10]. ما أعذب هذا المخلص العريس ففيه أجتمع اللونان: الأبيض والأحمر، كل منهما يوضح الآخر ويكمله! فهو أبيض، لكنه ليس بالأبيض الشاحب الذي بلا حياة كحنانيا رئيس الكهنة الذي قال عنه الرسول بولس: "سيضربك الله أيها الحائط المبيض. أفأنت جالس تحكم عليّ حسب الناموس وأنت تأمر بضربي مخالفًا للناموس" (أع 23: 3)، فبمخالفته للوصية والناموس صار في حكم الموت بلا حياة، فقد دمه علامة الحياة، وصار شاحبًا كالأموات، أما مخلص الكنيسة ففي بياضه يحمل احمرارًا دائمًا علامة كمال القوة والحياة والحيوية! كذلك لا يحمل المخلص احمرارًا منفردًا عن البياض وإلاَّ كان في ذلك إشارة إلى القتل وسفك الدم كما جاء في سفر الرؤيا (رؤ 6: 4) وكما وصفت الخطية أنها كالقرمز وحمراء كَالدُّودِي (إش 1: 18)، ولكنه هو "الآتِي مِنْ أَدُومَ بِثِيَابٍ حُمْرٍ مِنْ بُصْرَةَ هَذَا الْبَهِيُّ بِمَلاَبِسِهِ... الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِرِّ الْعَظِيمُ لِلْخَلاَصِ" (إش 63: 1). لقد جاءت كلمة "أبيض" هنا بمعنى "بهي"، إذ هو شمس البرّ الذي أضاء علينا نحن الجالسين في الظلمة، ليدخل بنا بواسطة روحه القدوس إلى كمال نور معرفة الآب. حملنا فيه خلال بهائه في استحقاقات دمه (الأحمر) لنكون في حضن الآب نتعرف على كمال أسراره. هكذا يمتزج بهاؤه بعمله الخلاصي، أي بياضه باحمراره، حتى نحمل انعكاسات بهائه فينا بدخولنا إلى أبيه. في سفر دانيال نرى لباسه أبيض كالثلج (دا 7: 2)، وفي تجليه أيضًا "صارت ثيابه بيضاء كالنور" (مت 17: 2). وما هو ثوب السيد المسيح إلاَّ كنيسته التي يلتحف بها كالثوب، يسكن في داخلها. فما يحمله من بهاء وبياض يعكسه على كنيسته كما على السمائيين الذين في حضرته على الدوام (مر 16: 5، أع 1: 10) فنظهر في السماء بثياب بيض (رؤ 3: 4، 7: 9)، كما نوصى هكذا: "لتكن ثيابك في كل حين بيضاء" (جا 9: 8). لقد تحدث الكتاب المقدس عن ظهورات كثيرة للملائكة لكنه لم يتعرض لوصف ثيابهم، أما في أحداث القيامة والصعود فقد أكد لنا الكتاب أن الملائكة قد ظهرت بثياب بيضاء. من أجلنا ظهرت، كي نعرف أننا خلال قيامة الرب وصعوده نغتسل فنبيض أكثر من الثلج (مز 50). إن كانت خطايانا كالقرمز - فقد دفنت في القبر - وأقامنا الرب كالثلج (إش 1: 18)، لهذا يقول دانيال النبي "تتطهرون فتبيضون" (دا 11: 35). هكذا ترى الكنيسة عريسها فتفرح ببهائه وتبتهج بدمه... أما العدو الشيطان فيرتعب أمام بهاء المخلص ويخاف من دم صليبه، لهذا تقول الكنيسة: 2. "علَمٌ بَيْنَ رَبْوَةٍ" [10]. صار معروفًا للناس والشياطين، تعرفه الكنيسة بكونه "قائم راية للشعوب" (إش 11: 10) ارتفع على الصليب فجذب البشرية إليه ليسكب بهاءه عليها ويُقدسها بالدم، وتعرفه الشياطين فتصرخ: "أنزل من على الصليب" لأنه حطم مملكتهم وأشهرهم جهارًا. ظافرًا بهم (كو 2: 15). 3. "رَأْسُهُ ذَهَبٌ إِبْرِيزٌ (خالص)، قُصَصُهُ مُسْتَرْسِلَةٌ، حَالِكَةٌ كَالْغُرَابِ" [11]. إن كان الذهب يُشير إلى الحياة السماوية فإن "الذهب الخالص" يُشير إلى لاهوته، إذ فيه "يحل ملء اللاهوت جسديًا" (كو 2: 9). لقد أقامه الآب رأسًا للكنيسة "الذي منه كل الجسد بمفاصل وربط" (كو 2: 9)، إذ هو وحده كابن الله وكلمته يقدر أن يدخل بالجسد كله إلى السماء. إن كان الرأس سماويًا، فالجسد لا يقدر أن يعيش إلاَّ على مستوى سماوي ما دام الجسد متحدًا بالرأس. هذا هو سرّ حبها لعريسها، أنه يدخل بها إلى السموات أي إلى أحضان أبيه، خلال اتحادها به. أما شعره المحيط بالكنيسة المسترسل إنما هو الكنيسة أو كما يقول القديس أغسطينوس: [هو جماعة القديسين الذين بمثابة شعر الرب لا تسقط منه واحدة بدون إذن أبيه... هم يعيشون به. لهذا لا تظهر فيه شعرة بيضاء بل كله "أسود حالك كالغراب"، لا يشيخ مؤمن بل يتجدد كالنسر شبابه]. هذا هو عمل الروح القدس، الذي يهب الشركة بين الأعضاء والرأس، فتبقى الأعضاء في كمال قوتها خلال الرأس الذي لا يضعف مطلقًا. كما أن السيد المسيح هو "هو أمس واليوم وإلى الأبد" (عب 12: 8)، فإن كنيسته تعبر خلاله فوق حدود الزمن فلا تصيبها شيخوخة ولا تقوى عليها أحداث أرضية.! 4. "عَيْنَاهُ كَالْحَمَامِ عَلَى مَجَارِي الْمِيَاهِ، مَغْسُولَتَانِ بِاللَّبَنِ جَالِسَتَانِ فِي وَقْبَيْهِمَا (على المجاري)" [12]. مع أنه الملك المرهب الذي يخيف الأعداء، عيناه كلهيب نار (رؤ 1: 14) فاحصة لدقائق الأمور وخفياتها، لكنه إذ يظهر لمؤمنيه يرون عينيه كالحمام البسيط الوديع المملوء براءة. عيناه كعيني الحمامة "أطهر من أن تنظرا الشر" (حب 1: 13). يرى الأب فيكتوريانوس أسقف Pateuمن رجال القرن الثالث أن المياه تُشير إلى الشعوب الكثيرة المتعددة التي جاءت إلى الله خلال المعمودية، بهذا فإن الحديث عن عينيه كالحمام على مجاري المياه إنما يُشير إلى تجسد الرب وإعلان بدء جيل جديد مقدس خلال عماده. أما كونهما مغسولتان في اللبن فيُشير ذلك إلى أهتمام الرب أن يقدم لمؤمنيه الإيمان الخالص غير الغاش غذاء لنفوسهم إذ يقول القديس أمبروسيوس: [يعتمد الرب في اللبن بمعنى أنه يعتمد في الاخلاص، والذين يعتمدون في اللبن هم أولئك الذين لهم الإيمان الذي بلا دنس]. أما جلوسهما في وَقْبَيْهِمَا أي استقرارهما في موضعهما إنما يُشير إلى رعاية الله لكنيسته وأولاده، يركز نظره الإلهي على كل عضو، ولا يحول عنه عينيه حتى يدخل به شركة الأمجاد. نستطيع القول أيضًا بأن عيني المسيح هم كهنته وخدامه هؤلاء الذين يحملون نظرة المسيح نحو البشرية، لهم البصيرة الروحية المتفتحة بالروح القدس كما "بالحمامة"، ليدخلوا بالشعوب إلى مياه المعمودية، هناك يغتسلون من خطاياهم، وينعمون بالإيمان غير الغاش كاللبن. يجلس هؤلاء العاملون في وَقْبَيْهِمَا، أي لهم موضع في الرأس "المسيح" حتى يقدرون خلاله أن يتطلعوا إلى كل نفس، مهتمين بخلاص الجميع. أما تشبيههم بعيني المسيح فهو تشبيه كتابي، إذ عُرف النبي في العهد القديم بالرائي (عا 7: 12)، إذ يستطيع النبي بروح النبوة أن يرى ما لا يستطيع الشعب أن يراه. وكان يُلقب أحيانًا بالرقيب (حز 3: 17، 23: 7) يقف على البرج ليرى إن كان هناك أعداء فينذر الشعب. 5. "خَدَّاهُ كَخَمِيلَةِ (سلطانية) الطِّيبِ وَأَتْلاَمِ (تفيض) رَيَاحِينَ ذَكِيَّةٍ" [13]. خدا السيد المسيح اللذان يشيران إلى طلعته قد تعرضا للهزء والاحتقار كما جاء على لسان إشعياء النبي: "بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين، وجهي لم أستر عن العار والخزي" (إش 50: 6)... هذا الوجه الذي لم يحوله الرب عن بصاق الأشرار (مت 27: 3)، تراه الكنيسة يحمل دلائل الحب الباذل فتشبه بخميلة طيب أي مجموعة من الشجيرات المتشابكة التي تفيح رائحتها طيبًا، وبأتلام (باقات) رياحين ذكية، تشتمها النفس رائحة حياة. 6. "شَفَتَاهُ سَوْسَنٌ تَقْطُرَانِ مُرًّا مَائِعًا" [13]. تحدثنا قبلًا عن العريس كسوسنة البرية، وأنه بالاتحاد معه يصير المؤمنون أيضًا سوسن. أما هنا فشفتا العريس تشبهان بالسوسن (زنبق)... فماذا يعني هذا؟ يُشير السوسن إلى المجد الملوكي، إذ يتحدث عنه الرب قائلًا: "ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها" (مت 6: 29). فشفتا السيد المسيح تعلنان تعاليم مجيدة، أو بمعنى آخر تقدم كلمة الحياة القادرة أن تدخل بالمؤمن إلى الحياة المجيدة الأبدية. لهذا يقول عنه المرتل: "انسكبت النعمة على شفتيه" (مز 45: 2). هاتان الشفتان تحملان رائحة طيب عطرة تقطر كالمرّ. وقد وصف الإنجيليون الكلمات الخارجة منهما هكذا: "لم يتكلم إنسان مثل هذا قط" (يو 7: 47)، "كان الجميع يشهدون له يتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه ويقولون: أليس هذا ابن يوسف؟" (لو 4: 22). أما وصفهما بأنهما يقطران مرًا ممتزجًا بالميعة إنما يعني أن كلماته ممتزجة بالدخول في مرارة آلامه والدفن معه إذ كفن بالميعة... كل من يسمعه يشتهي الدخول معه في شركة آلامه والموت معه. وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يفيض المُرّ من جسده، ويملأ نفوس من قبلوه، وهذا رمز واضح عن أماتة الجسد...]. يرى القديس غريغوريوس أيضًا أن هذا الفم الذي يفيض سوسنًا ومرًا مائعًا إنما يمثل الرسل، الذين هم فم الرب، يشهدون بكلمة إنجيله التي هي السوسن، ويدخلون بالمؤمنين إلى المرّ المائع أي الأمانة في المعمودية أو الدفن معه لينالوا قوة قيامته. فالرسول بطرس أفاض بسوسن بهي - الذي هو الكلمة - في بيت كرنيليوس، مالئًا نفوس سامعيه بالمرّ، إذ دفنوا مع السيد المسيح في المعمودية، وصاروا أموات عن العالم. 7. "يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ مُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ" [14]. تُشير "الحلقة" أو "الدائرة" إلى الأبدية، لأن ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية. يداه أبديتان، تشبعان النفس والجسد معًا إلى الأبد. أما كونهما من ذهب فإشارة إلى سمتها السماوية... فهو يمسك بعروسه ويدخل يدها في يده السماوية ليسكب عمله فيها فتحمل قوته وإمكانياته السماوية، لتعبر معه إلى السماء. أما الزبرجد فقد ورد مرارًا في العهد القديم (حز 1: 16، دا 10: 6)، ليُشير إلى قوة التأسيس... إذ "أعمال يديه أمانة وحق"، تؤسسان عروسه على الإيمان الراسخ والحق. 8. "بَطْنُهُ عَاجٌ أَبْيَضُ مُغَلَّفٌ بِالْيَاقُوتِ الأَزْرَقِ" [14]. تُشير البطن أو الأحشاء إلى مشاعر الله العميقة المملوءة حبًا وحنانًا كما جاء في إرميا: "حنت أحشائي إليه، رحمة أرحمه يقول الرب" (إر 21: 20). أما كون هذا الحنان كالعاج الأبيض، فذلك لأن العاج يأتي كثمر للألم إذ يُنزع من الفيل خلال آلامه حتى الموت. وأما كون أحشاؤه مغلفة بالياقوت الأزرق وهو لون سماوي، إنما ليعلن أن حبه ليس أرضيًا مؤقتًا بل سماوي أبدي. 9. "سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ مُؤَسَّسَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ إِبْرِيزٍ (ذهب)" [15]. تُشير الساقان إلى القدرة على السير بثبات، وأما الذهب أو الإبريز فيُشير إلى الطبيعة السماوية، وكأن من يتحد بالعريس إنما يقدر أن يسير به في حركة مستمرة نحو السماء، يدُكّ تحت قدميه كل قوى إبليس، محطمًا الموت وقاهرًا الخطية. وللقديس أمبروسيوس تعليق جميل على هذه العبارة، إذ يقول: [ساقاه عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين من ذهب، لأن المسيح يتمشى في النفوس، ويجعل له طرقًا في أذهان قديسيه، فيكون فيها كما لو كانتا قاعدتين من الذهب وأساسات من الحجارة الكريمة طُبع عليها آثار قدمي كلمة الله السماوي]. 10. "طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ، فَتًى كَالأَرْزِ" [15]. لبنان منطقة سياحية جميلة يلجأ إليها بعض المتزوجين حديثًا لبدء حياتهم الزوجية في جو جميل، هكذا فإن وجه الرب يسوع بما يحمله من بشاشة وحنان يفرح النفس التي تُريد أن تعيش في الحياة الزوجية الروحية مع الكلمة الإلهي. لقد وصف المرتل المسيا قائلًا: "أبرع جمالًا من بني البشر"، وجاء في التقرير الذي كتبه بيلاطس البنطي لهيرودس عن السيد المسيح "تشتهي أن تتطلع إليه". أما سرّ جماله فيكمن في كونه " فَتى كَالأَرْزِ"، المعروف بطوله الشامخ مع استقامته ورائحته الذكية... هكذا يظهر السيد المسيح للنفس كالفتى الذي لا يشيخ قط. والعجيب أن الرب في تنازله حمل ناوستنا مشاركًا إيانا كل مراحل نمو ما عدا الشيخوخة، صار جنينًا مع الأجناء، وطفلًا بين الأطفال، وصبيًا وشابًا فرجلًا لكنه صعد قبل الشيخوخة، إذ لا يليق به أن يشيخ، حتى لا تحمل كنيسته روح العجز والشيخوخة الروحية. فقد جاء في الوحي الإلهي: "يتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5). وجاء في الطقس الكنسي عن الكنيسة وعن العذراء مريم بكونها العضو الأمثل في الكنيسة: "الكرمة التي لا تشيخ"... المسيحي لا يعرف الشيخوة مطلقًا، بل يزداد مع الأيام شبابًا، فإنه وإن كان إنسانه الخارجي يفنى لكن الداخل يتجدد يومًا فيوم (2 كو 4: 16)، وكما يقول الرسول بولس: "لبستم الإنسان الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كو 3: 10)... حقًا، إن الجسد يضعف وقد يشيخ لكن الروح يبقى نشيطًا وقويًا (مت 26: 41، مر 14: 38). 11. "حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وَكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ، هذَا حَبِيِبي وهذّا خَلِيِلي يَا بَنَاتِ أُورُشَليمَ" [16]. يقول المرتل: "ما أحلى قولك لفمي، أحلى من العسل لفمي" (مز 119: 103). هكذا يجد المؤمن في كلمات السيد عذوبة خاصة وحلاوة، لأن هذه الكلمات هي روح وحياة. من يأكل منها يرجع إلى السيد جائعًا إليه، ومن يشرب منه يعطش بالأكثر إليه... إذ ينصت الإنسان لكلمات الرب ينسحب قلبه في شوق أعظم نحو التعرف على هذه الأسرار الإلهية، ويبقى حياته كلها جالسًا عند قدمي الرب لا يُريد مفارقته، قائلًا مع المرتل: "لكل كمال وجدت حدًا أما وصاياك فواسعة جدًا" (مز 119). سرّ حلاوة كلماته أنها تحمل قوة وسلطانًا، فلا يعطي مجرد وصايا أو نصائح وإرشادات أو تحذيرات، لكنه يعطي مع الكلمة قوة التنفيذ، فترتفع الوصية بالإنسان ليدخل إلى معرفة أسرار السموات، وتنطلق النفس من مجد إلى مجد، تحمل باستمرار سرّ قوة جديدة لا تنتهي. أخيرًا، إذ تشعر العروس بعجز اللغة عن وصف عريسها تقول: "َكُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ". هذا هو حبيبها الصديق الذي تطلبه وتسعى إليه... إنه مشبع لها، فيه تجد كل حبها وإليه كل اشتياقها! حوار في الحديقة إن شهدت النفس لعريسها بدأ غير المؤمنين يتساءلون: "أَيْنَ ذَهَبَ حَبِيبُكِ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ؟ أَيْنَ تَوَجَّهَ حَبِيبُكِ فَنَطْلُبَهُ مَعَكِ؟" [1]. إذ حملت شهادة النفس عن العريس انعكاسات مجده على حياتها وتصرفاتها لقبوها "الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ". حتى منظرها في جماله الروحي ولد فيهم جاذبية خاصة لا ليتعلقوا بها في ذاتها، بل للبحث عن عريسها، الذي هو سرّ جمالها! لقد صرن في شوق شديد نحوه مع حيرة فتساءلن: "أين ذهب حبيبك؟ أين توجه؟ أين أختفي؟ إننا نُريد أن نعرفه معك، فندخل إليه ليس بدونك". لقد أدرك غير المؤمنين أنهم لا يقدرون أن يتعرفوا على هذا العريس خارج الكنيسة، بل معها وخلالها، أنه عريس الكنيسة، لذا يليق بهم لكي يدخلوا إليه أن يقبلوا العضوية في الكنيسة... بهذا يصير هو رأسًا لهم. فبدون الكنيسة لا يعرف العالم المسيح، وخارج المسيح لا توجد كنيسة. أما إجابة الكنيسة فهي: "حَبِيبِي نَزَلَ إِلَى جَنَّتِهِ، إِلَى خَمَائِلِ الطِّيبِ، لِيَرْعَى فِي الْجَنَّاتِ، وَيَجْمَعَ السَّوْسَنَ. أَنَا لِحَبِيبِي وَحَبِيبِي لِيّ، الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ" [2-3]. ليس بالأمر العجيب أن يحوي هذا السفر تأكيدات مستمرة لوجود العريس داخل الكنيسة، ووجوده داخل النفس التي أقتناها بدمه. فإنه يدخل إلى القلب الحجري المقفر ويجعل منه جنة له (نش 4: 12، 16؛ 5: 1)، بل جنات داخلية يرعى فيها، هناك يجمع السوسن الحامل سمات العريس نفسه والذي دُعي أيضًا بالسوسن (نش 2: 1). كأن العروس هنا تحذر من تضييع الوقت في البحث عن العريس خارجًا، فإنه باتضاعه نزل إلى كنيسته ودخل قلوب شعبه. لذا يقول الرسول: "لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي لِيُحْدِرَ المسيح... الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك" (رو 10: 7، 8). هذا وفي إجابة العروس توضيح للذين في الخارج عن سرّ العلاقة بين النفس والله، فإن كان الله قد دخل إلى جنته يجمع السوسن، فهو لا يفعل ذلك كمن يستغل خليقته أو كمحب للسيطرة والأخذ، إنما دخل بناء على دعوة محبة صدرت إليه منها، إذ تقول له "أَنَا لِحَبِيبِي". وكأنها تقول: كل ما ليّ فهو لحبيبي، ليدخل إلى قلبي وليتسلم كل القلب وكل الطاقات والأحاسيس الداخلية، لأن ما أملكه إنما هو له. وما هذه الدعوة إلاَّ استجابة لعمل المحبة الذي أظهره له إذ "َحَبِيبِي لِيّ". قدم ليّ حياته... وهذا أنا أرد حبه بالحب! إنيّ أحبه بملء اختياري إذ هو أحبني بكمال حريته. أما قولها "نَزَلَ" فيعني إعلانها حقيقة الموقف، أن نزول العريس إلى قلبها ليس عن احتياج منه ولا للإذلال بل هو تنازل منه أن يقبل دعوتي بالنزول إلى حياتي حتى يصعدني به ومعه إلى سمواته، يأخذني بكليتي كما أعطاني ذاته. لقد نزل إلى قلبي... فماذا أطلب؟ لا يليق بيّ أن أطلب منه إلاَّ أن آخذه هو، ولا يكفيني أو يشبع نفسي إلاَّ هذا الطلب. فإنه لا مكافأة أرضية ولا عطايا أو هبات تقدر أن ترويني، لكنني أطلبه هو... "َحَبِيبِي لِيّ". حديث العريس مع عروسه في الحديقة: 1. "أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي كَتِرْصَةَ، حَسَنَةٌ كَأُورُشَلِيمَ، مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ (منتظم)" [4]. إذ تدخل العروس في علاقة اتحاد مع عريسها يُناجي كل منهما الآخر. والآن إذ أعلنت العروس لغير المؤمنين وشهدت أنه بداخلها في جنته، وتطلب منهم ألاَّ يبحثوا عنه في الخارج يمتدحها العريس مستخدمًا بعض العبارات السابقة (نش 4) مع الكشف عن جمال أعمق، سَرَّه دخولها في اتحاد معه أعمق. هنا يراها "جَمِيلَةٌ كَتِرْصَةَ". وكلمة "َتِرْصَةَ" في العبرية تعني "انشراح أو بهجة". وَتِرْصَةَ هي أصغر البنات الخمس لصفحار بن حافر (عد 26: 33)، هؤلاء البنات مات أبوهن وليس لهن أخ، فوقفن أمام موسى والعازار الكاهن وأمام الرؤساء وكل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع وطلبن أن يرثن أبوهن مع أخوة أبيهن، فأعطاهن الرب هذا الحق وصار ذلك فريضة قضاء (عد 27: 1-11)، ونلن أيضًا نصيبهن عند تقسيم الأرض على يد يشوع بن نون (يش 17: 3-6). ولعله في سفر النشيد يشبه العروس بترصة كأصغر البنات اللواتي طالبن بحقهن أمام موسى النبي ويشوع، وصدر الأمر من قَبل الرب أن ينلن ميراثًا ونصيبًا. هذا هو جمال النفس المتحدة بالمسيح يسوع، أنها في دالة بغير خوف تطلب ميراثها ونصيبها أي حقها لتعيش كعضوة حيَّة في الجماعة المقدسة. وما هو هذا الميراث أو هذا النصيب الذي للمؤمن إلاَّ الرب نفسه الذي تقبله النفس في داخلها سرّ مجدها وغناها. وربما قصد بـ"تِرْصَة" المدينة الجميلة للغاية التي كانت أصلًا للكنعانيين استولى عليها يشوع بن نون (يش 12: 24) وقدمها لأسباط بني إسرائيل. وقد كانت عاصمة مملكة إسرائيل (الأسباط العشرة) نحو خمسين عامًا (1 مل 14: 17؛ 15: 21، 31؛ 16: 6، 23) حتى بني عمري السامرة. وكان سرّ جمالها أنها كانت قبلًا أممية وعابدة للأوثان لكن إذ ملك عليها يشوع الحقيقي صارت في ملكية الرب. ويراها الرب أيضًا "حَسَنَةٌ كَأُورُشَلِيمَ"، سرّ حُسنها أنها كأورشليم، مدينة الملك. أي صارت الكنيسة تمثل الأقداس السماوية التي يقطن فيها الله، وعاصمة دائرة ملكوته، كل ما فيها جميل وبهي. جمالها كترصة أو حسنها كأورشليم قد امتزج بالقوة، إذ هي "مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ (منظم)"، مرهبة أمام الأعداء، لأن الرب الغالب في وسطها يحميها، إنها كجيش سماوي يحمل ألوية (أعلام) الغلبة والنصرة، لا تعرف الهزيمة ولا اليأس بل روح الغلبة والقوة. وبحسب الترجمة اليونانية كجيش أحسن تنظيمه، إذ قائده الرب نفسه. بمعنى آخر، المسيحي يحمل مع الجمال قوة، فهو جميل بوداعته ورقته كما قوي بشجاعته وحزمه. جميل بهدوئه الداخلي وجبار في جهاده ضد الخطية حتى الدم. أما سرّ قوته ونصرته فهي "الدموع" التي يسكبها بقلب منكسر أمام الله فتأسر المحبة الإلهية، إذ يقول له الرب: "حَوِّلِي عَنِّي عَيْنَيْكِ فَإِنَّهُمَا قَدْ غَلَبَتَانِي" [5]. لقد غُلبت مراحم الله بدموع المرأة الخاطئة وتنهدات اللص اليمين. فإن الله لا يحتمل أن يرى دموع الإنسان وانسحاقه، ولعل أعظم مثل لهذا آخاب الملك الشرير الذي قتل وورث (1 مل 21: 19)، والذي شهد عنه الكتاب: "لم يكن كآخاب الذي باع نفسه لعمل الشر في عيني الرب الذي أغوته امرأته، ورجس جدًا بذهابه وراء الأصنام..." (1 مل 21: 25-26)، إذ سمع كلام الرب ضده على لسان إيليا النبي شق ثيابه وجعل مسحًا على جسده واضطجع بالمسح ومشى بالسكوت، لم يحتمل الرب هذا المنظر بل قال لإيليا النبي: "هل رأيت كيف أتضع آخاب أمامي؟ فمن أجل أنه قد أتضع أمامي لا أجلب الشر في أيامه" (1 مل 21: 29). 2. "شَعْرُكِ كَقَطِيعِ الْمَعْزِ الرَّابِضِ فِي جِلْعَادَ، أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ نِعَاجٍ صَادِرَةٍ مِنَ الْغَسْلِ، اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ وَلَيْسَ فِيهَن عَقِيمٌ، (شفتاكِ كسلكة من القرمز، كلامك حلو)، خَدُّكِ كَفِلْقَةِ رُمَّانَة (تُرىَ من) تَحْتَ نَقَابِكِ" [5-7]. لقد سبق أن أمتدحها بذات الصفات في الأصحاح الرابع (1-3)، الأمر الذي سبق فعالجناه بشيء من التفصيل. أما سرّ تكراره بذات العبارات إنما ليؤكد حقيقة هامة أن محبة الله للإنسان تبقى غير متغيرة. فبالرغم مما عاناه الإنسان من فتور - كما ورد في الأصحاح الخامس - لكنها إذ رجعت بدموع التوبة إليه وجدته يمتدحها بذات العبارات التي امتدحها قبلًا، ونظرته إليها لم تتغير، بل يزداد حبًا لها. لعل هذا يذكرنا بمعاملات الله مع الرسول بطرس الذي حتى بعد إنكاره أكد له الرب ثلاث مرات قبوله في العمل الرسولي، قائلًا له: "يا سمعان بن يونا أتحبني... أرع غنمي!". وكأن محبة الله لا تتغير إنما يتوقف الأمر على حبنا نحن الذي يتغير... أذرعه الإلهية لا تزال مفتوحة بالحب. 3. "هُنَّ سِتُّونَ مَلِكَةً وَثَمَانُونَ سُرِّيَّةً وَعَذَارَى بِلاَ عَدَدٍ، وَاحِدَةٌ هِيَ حَمَامَتِي كَامِلَتِي. الْوَحِيدَةُ لأُمِّهَا هِيَ، عَقِيلَةُ (المختارة) وَالِدَتِهَا هِيَ. رَأَتْهَا الْبَنَاتُ فَطَوَّبْنَهَا، الْمَلِكَاتُ وَالسَّرَارِيُّ فَمَدَحْنَهَا" [8-9]. إنه يمدحها خلال لغة الأرقام... فماذا يعني بالستين ملكة؟ والثمانين سرية؟ والأبكار بلا عدد؟ وحمامته الكاملة الواحدة؟! أولًا: ربما قارنها بالخليقة السماوية المحبة له، فرأى السمائيين طغمات كثيرة شبههم بالستين ملكة والثمانين سرية والأبكار بلا عدد... هؤلاء على درجات متفاوتة من جهة القامة، أما كنيسته التي أقتناها العريس بدمه وقدسها بروحه القدوس، فقد صارت العروس الواحدة الحمامة الكاملة... هذا هو سرّ جمالها وكمالها وقوتها: لقد صارت جسد الرب الواحد، مع أنها تضم أعضاء كثيرون، إذ "يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد" (يو 11: 52)، يجتمعون فيه (أف 1: 10). أما سرّ وحدتها فلا يقوم على مجرد اجتماع الأعضاء معًا في مكان واحد، أو اتحادهم في لغة واحدة أو ثقافة واحدة... إنما يقوم على العوامل الإلهية التالية: أ. إنها حمامته... إن كان يوجد الروح القدوس الواحد، الذي هو روح الآب والابن معًا، فقد وهب كنيسته هذا الروح الإلهي لينطلق بالمؤمنين كحمامة واحدة، تنال حياة الشركة مع الله. هذا هو عمل الروح القدس: يهب شركة للمؤمنين مع الله ومع بعضهم البعض، فإذ بواسطته نتصالح مع الآب في استحقاقات دم الابن ننال في المعمودية روح التبني الذي به نصرخ "أيها الآب أبانا" (رو 8: 15). خلال هذه المصالحة نرى أنفسنا أعضاء بعضنا البعض. نقتبس هنا بعض كلمات الآباء في هذا الشأن: * بالروح القدس، الذي يجمع شعب الله في واحد، يطرد الروح الشرير المنقسم على ذاته. * من اختصاص الروح القدس الشركة التي بها صرنا جسدًا واحدًا لابن الله الواحد الوحيد، إذ مكتوب "فإن كان وعظ ما في المسيح، إن كانت تسلية ما للمحبة، إن كانت شركة ما في الروح" (في 2: 1). القديس أغسطينوس لكنه عندما وزع ألسنة النار (الروح القدس) دعى الكل إلى الوحدة، لهذا بإتفاق واحد، نمجد الروح الكلي القداسة. لحن Kontakon لعيد البنطيقست (في الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية) ب. أنها كاملته: إذ تلبس الكنيسة السيد المسيح الكامل، تصير به كاملة، فتقوم وحدتها على أساس الدخول في "الحياة الجديدة الكاملة" التي لنا في المسيح يسوع. في هذه الحياة الجديدة لا نخضع لقانون الانشقاق أو لروح العداوة بل بالحري لروح الحب واهب الوحدة الداخلية. بهذا تصير وحدتنا خلال تقديسنا بالاتحاد مع القدوس، فنمتثل بوحدة الثالوث القدوس... هذا ما يظهر بوضوح في صلاة الرب الواداعية، ليلة آلامه، إذ يقول:"أَيُّهَا الآبُ الْقُدُّوسُ احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ، الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ. لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ. لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا... أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ" (يو 17). في هذا يقول الشهيد كبريانوس: [هذا ما اشتاقه لنا: أن نعيش على نفس نمط الوحدة التي تقوم بين الآب والابن بكونهما واحد]. ويقول القديس كيرلس الإسكندري: [يود لنا اتحادًا مع بعضنا البعض على نفس المثال الذي لوحدة الثالوث القدوس... هذه الوحدة وهي أكمل اتحاد يلزم أن تنعكس على وحدة المؤمنين]. ج. وحيدة أمها ومختارة والدتها: من هي هذه الأم أو من هذه الوالدة التي تتطلع إلى الكنيسة كوحيدتها والمختارة؟! إنها أورشليم السمائية، التي لا عمل لها إلاَّ انتظار هذه العروس الواحدة التي خطبها الرب يسوع لتبقى شريكة في المجد إلى الأبد. كأن سرّ الوحدة ينبع من دخول المؤمنين إلى الأبدية... أو انطلاقهم من دائرة الزمن. فإن كانت حياتنا الزمنية المؤقتة تبعث روح الانشقاق والغيرة، فإن تمتعنا بعربون السمويات يهبنا حبًا نحو كل البشرية، وشوقًا على مستوى أبدي. لأن قانون السماء هو السلام والوحدة ولغتها الحب. يقول العريس: "رَأَتْهَا الْبَنَاتُ فَطَوَّبْنَهَا، الْمَلِكَاتُ وَالسَّرَارِيُّ فَمَدَحْنَهَا"، أي يطوبها السمائيون، إذ يرونها قد خضعت لشريعتهم وتحدثت بلغتهم، صارت منهم وليست غريبة عنهم. ثانيًا: يمكن أن يُفهم من لغة الأرقام الرمزية إعلانات عن سرّ جمال الكنيسة وكمالها وقوتها: أ. ستون ملكة: تُشبه الكنيسة بستين ملكة، لأنه إن كان رقم 12 يمثل ملكوت الله على الأرض كما سبق فرأينا، إذ يملك الثالوث القدوس على أربعة جهات المسكونة (3 × 4). فإنه إذ يملك الله على حواس المؤمنين الخمس (12 × 5) يكون رقم ستون رمزًا لملكية الله على حياه المؤمنين، أو على حياة الكنيسة الممتدة في كل جهات المسكونة. بهذا تصير الكنيسة ستين ملكة... يملك فينا ملك الملوك فلا تصير حياتنا في عبودية بل ترتقي لتكون حاملة المجد الملكي. ب. ثمانون سرية:في الرقم الأول ظهرت الكنيسة كملكة خلال ملك الله على أحاسيسها، أما هنا فتظهر الكنيسة كسرية، أي تعيش في حياة خفية روحية مع العريس. أما رقم ثمانون فيُشير إلى اتسام الكنيسة بالطبع الأخروي وهي بعد على الأرض. فإن رقم 10 يُشير إلى حياتنا الزمنية، لذلك جاءت الوصايا العشر في العهد القديم كقانون إلهي نمارسه على الأرض أما رقم 8 (10 × 8) فيُشير إلى الحياة الأخرى كما سبق فرأينا، لأنه تعدى رقم 7 الذي يُشير لأسبوع حياتنا. لهذا جاء الختان في اليوم الثامن، وقام الرب في اليوم الأول من الأسبوع الجديد أو الثامن من الأسبوع السابق، وخلص في فلك نوح ثماني أنفس... هذه كلها تُشير إلى الحياة الجديدة العلوية أو السماوية. فالكنيسة وهي تعيش على الأرض (10) تحيا بالحياة الجديدة السماوية (8). ج. عذارى بلا عدد: هذا الرقم غير المحدود يُشير إلى عذراوية الحياة كلها للرب، فيقدم المؤمن قلبًا عذراويًا لا يقبل عريسًا غير الرب، وفكرًا عذراويًا لا يفكر إلاَّ فيما للرب، وأحاسيس عذراوية... لهذا شبه ملكوت الله بالعذارى خرجن لاستقبال العريس. د. الواحدة: وحدانية الكنيسة سمة رئيسية في حياة الكنيسة، إذ يعلن المؤمن "نؤمن بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية"، وقد سبق أن رأينا سرّ هذه الوحدانية... بنوتها لله الآب الواحد باتحادها مع المسيح بواسطة الروح القدس في المعمودية. يرى القديس ايريناؤس أن سرّ هذه الوحدة أيضًا هو "وحدة الإيمان" إذ يقول: [الكنيسة الحقة، التي هي بحق قديمة، هي كنيسة واحدة... الكنيسة الأولى الجامعة هي وحدها تعمل في وحدة الإيمان]. وفي حديث الأب روفينوس عن قانون الإيمان للرسل ذكر هذه العبارة (نش 6: 9) موضحًا أن سرّ هذه الوحدة هو الإيمان الواحد، إذ يقول: [من يقبل هذا الإيمان في الكنيسة ليته لا يخرج خارجًا إلى المشورة الباطلة، ولا يشترك مع صانعي الظلم]. ويمكن أن نفهم "وَاحِدَةٌ هِيَ حَمَامَتِي كَامِلَتِي" أنها القديس مريم العذراء، إذ كثيرات نلن كرامة أما هي ففاقتهن جميعًا، وقد جاء في ثيؤطوكية الأحد: "السلام لك يا مريم، الحمامة الحسنة، التي ولدت لنا الله الكلمة" وقد انطبق عليها ما ورد في سفر النشيد بعد ذلك "مَنْ هِيَ الْمُشْرِفَةُ مِثْلَ الصَّبَاحِ، جَمِيلَةٌ كَالْقَمَرِ، طَاهِرَةٌ كَالشَّمْسِ، مُرْهِبَةٌ كَجَيْشٍ بِأَلْوِيَةٍ (منظم)؟" [10]. فهي مشرقة كالصباح، إذ تجسد منها شمس البرّ الذي أضاء لنا نحن الجالسين في الظلمة زمانًا. وهي جميلة كالقمر تستمد جمالها من نور ابنها. طاهرة أو مختارة كالشمس، إذ حلّ عليها الروح القدس الذي طهرها وهيئها للتجسد الإلهي. مرهبة كجيش منظم، إذ تحمل في داخلها رب الجنود، قائد المعركة ضد الخطية ومملكة إبليس. يمكننا أيضًا أن نفهم النص بصورة أخرى، فإن كل نفس تلتقي مع الله وتحمل روحه القدوس فيها خلال الكنيسة وتلبس المسيح يسوع، يُناديها الرب باسمها، ويشرق فيها بنوره فتصير مشرقة بلا ظلام، جميلة كالقمر، مختارة وجميلة بدمه، مرهبة ومنتصرة بصليبه. اهتمام العروس بالعمل: "نَزَلْتُ إِلَى جَنَّةِ الْجَوْزِ لأَنْظُرَ إِلَى خُضَرِ الْوَادِي، وَلأَنْظُرَ هَلْ أَزهرَ الْكَرْمُ؟ هَلْ نَوَّرَ الرُّمَّانُ؟ هناك أعطيك ثدييّ، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاَّ وَقَدْ جَعَلَتْنِي نَفْسِي كمَرْكَبَاتِ عميناداب (قَوْمِ شَرِيفٍ). اِرْجِعِي ارْجِعِي يَا شُولَمِّيثُ، ارْجِعِي ارْجِعِي فَنَنْظُرَ إِلَيْكِ. مَاذَا تَرَوْنَ فِي شُولَمِّيثَ؟ مثل انتظام صفوف في معسكر (مِثْلَ رَقْصِ صَفَّيْنِ)" [11-13]. إن كان الرب قد مدح عروسه هكذا، فإن العروس أمام هذا الحب العظيم لم تقف لتنصت للمديح لكنها نزلت إلى واديها الداخلي للعمل، نزلت إلى جنة الجوز وأعطت اهتماما بالكرم وشجر الرمان. ماذا تعني جنة الجوز؟ يُجيب العلامة أوريجانوس: [نزلت العروس إلى جنة الجوز لتكتشف أن الجوز قد طرح ثماره بطريقة كهنوتية]، فإن هرون الكاهن الأعظم قد أفرخت عصاه وقدمت ثمر الجوز (عد 17: 8). والجوز في حقيقته يمثل كلمة الله التي تشغل قلب الكاهن على الدوام، مقدمًا إياها مائدة دسمة لشعبه ليأكلوا ويشبعوا، ويأتوا بثمر كثير. فحين صارت كلمة الرب إلى إرميا بن حلقيا الكاهن قيل له: "ماذا أنت راء يا إرميا؟" فقال: "أنا راء قضيب لوز"، فقال له الرب: "أحسنت الرؤية لأنيّ أنا ساهر على كلمتي لأجريها" (إر 1: 11-12). ويعلل العلامة أوريجانوس استخدام "الجوز" كرمز لكلمة الله أن الجوز يحوي غلافًا خارجيًا مرًا وهي القشرة التي تجف وتسقط، ثم الغلاف الداخلي السميك وهي التي تكسر ليأكل الإنسان الثمر الداخلي الحلو. هكذا يرى العلامة أن كلمة الله لها التفسير الحرفي المرّ الذي أستخدمه اليهود، ثم التفسير الأخلاقي أو السلوكي وهو أشبه بالغلاف السميك حيث يدفع بالإنسان إلى حياة الأمانة (الكسر) مجاهدًا حتى الدم ليدخل إلى المعنى الروحي الحلو الذي يوهب غذاء للروحيين، يعيشون به ليس فقط في هذا العالم بل وفي العالم الآخر. إذن، هوذا النفس قد نزلت إلى أعماقها الداخلية كما إلى جنة كلمة الله العاملة فيها، هناك ترى ثمار الوادي. هناك في القلب تدرك المفاهيم الروحية للكلمة التي تشبعها، وكأنها تقول للعريس: إن كنت قد مدحتني هكذا، فليس ليّ فضل وإنما هو ثمر كلمتك الإلهية المغروسة في داخلي بيدك الإلهية. والعجيب أن مديح الرب للنفس الأمينة لا يدفعها للكبرياء بل ينخسها للعمل فتنزل لترى كرم الرب الذي في داخلها والأشجار التي غرستها يمينه: هل أزهر الكرم؟! هل نوّر الرمان؟! إذ تدخل جنة الرب التي في داخلها، وتتلمس عمله فيها، تفرح بالثمر ولو أنه لا يزال في البداية، فتُناجي عريسها: "هناك أعطيك ثدييّ"... وكأنها تقول له إنيّ أرد حبك بالحب. أنت قدمت ليّ ثدييك اللذين هما العهد القديم والعهد الجديد، وها كلمتك قد أثمرت في داخلي، فأرد لك ما هو ملكك، أعطيك ثدييّ، أي أقدم لك ذات العهدين. لأن كتابك صار كتابي! لكن كيف تقدم له هذه الثديين؟ إنها إذ تشهد لكلمة الله عمليًا أمام الآخرين وتقدم الكلمة لاخوتها إنما تكون قد قدمته للعريس نفسه... إذ يقول: "بما أنكم فعلتموه بأحد أخوتي الأصاغر فبيّ فعلتم" (مت 25: 40). مع أنها لا ترى في الكرم إلاَّ زهرة وفي الرمان أيضًا "نوارته" لكنها أدركت أن الله قد جعل من نفسها أشبه بمركبات عميناداب أو مركبات قَوْمِ شَرِيف. لأن كلمة "عميناداب" تعني "شعبي كريم". لقد صارت بقوة الكلمة شعب الله المكرم المحارب والمجاهد حتى النهاية ضد الخطية. أما نظرتها إلى نفسها كمركبات عميناداب فحملت معان أخرى أيضًا منها: 1. عميناداب والد نحشون (را 4: 19، خر 6: 23) من سبط يهوذا، من نسله جاء السيد المسيح، فسرّ شرفها انتسابها للملك المسيح، قائد المركبات الحقيقي الذي به نغلب إلى التمام. 2. عميناداب الآخر من بني عزيئيل، وهو لاوي، أحد الرؤساء الذين اختارهم الملك داود لحمل تابوت العهد (1 أي 15: 3، 10)... وكأن النفس قد أعطي لها في العهد الجديد أن تحمل المسيح نفسه في داخلها... هذا هو سرّ أثمارها وتقديسها. 3. عميناداب بن قهات أيضًا من اللاويين (1 أي 6: 24)... الذي أقامه داود النبي مع غيرهم للغناء أو التسبيح في بيت الرب بعدما أستقر التابوت (1 أي 6: 31)... وكأن هذا هو عمل النفس المتحدة بالمسيح يسوع عريسها: "التسبيح الدائم". فالكنيسة إذن، أو النفس كعضو في الكنيسة، إنما تجد نفسها في حالة جهاد وحرب تحت قيادة العريس، تتقدس به، وتسبح له وتشكره.! في هذا الجو المملوء جهادًا مع فرح وتسبيح يُنادي العريس عروسه قائلًا: "اِرْجِعِي ارْجِعِي يَا شُولَمِّيثُ. ارْجِعِي ارْجِعِي فَنَنْظُرَ إِلَيْكِ." [13]. لقد دعاها "شولميث" وهو مؤنث "شالم أو سالم أو سليمان"، وكأن السيد المسيح الذي هو سليمان الحقيقي، يُناديها بلقبه هو. لقد حملت شخصه في داخلها، وسمائها في سلوكها، ودعي اسمه عليها. إنه ينظر إليها وهي في حالة الحرب ويدعوها "شولميث" أي الحاملة السلام! أما سرّ سلامها فهو رجوعها المستمر إليه... وأن الثالوث القدوس ينظر إليها ويهتم بها ولا ينساها... "ارْجِعِي ارْجِعِي فَنَنْظُرَ إِلَيْكِ". يعود فيتطلع إلى الذين حوله قائلًا: مَاذَا تَرَوْنَ فِي شُولَمِّيثَ؟! مثل انتظام صفوف في معسكر (مِثْلَ رَقْصِ صَفَّيْنِ)" [13]. يعتز السيد المسيح بكنيسته أو بالنفس التي هي عضو في كنيسته، إذ يراها وهي تحمل في داخلها السلام قد صارت كصفوف جنود منتظمة للحرب الروحية! وبحسب النص العبري يراها "مِثْلَ رَقْصِ صَفَّيْنِ"، كلمة "صفان" تعني "جيشان". وكأن الرب يعلن أن كنيسته قد حملت رقصات الجيشين علامة الغلبة والانتصار. هذا يذكرنا برقصات الفرح التي قامت بها مريم النبية أخت هرون مع بقية النساء، وهن يسبحن الرب الذي أنقذهن من فرعون وجيشه (خر 15: 20). وأيضًا عندما قتل داود النبي جليات الجبار خرجت النساء من جميع المدن بالغناء والرقص (1 صم 18: 6). وصفه للعروس "شولميث" إذ دخل العروسان الحديقة وتبادل الطرفان الحب الزوجي خلال الوحدة الروحية الأبدية، يصف العريس عروسه -الكنيسة- مقدمًا تشبيهات مختلفة عن السابقة، إذ يُناجيها هكذا: 1. "مَا أَجْمَلَ خطواتك (رِجْلَيْكِ) بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الأمير!" [1]. يلقبها "بنت الأمير" إذ هي منتسبة لله، وُلدت من الماء والروح كابنة للملك السماوي. لهذا دُعيت في المزمور (مز 45: 13) "ابنة الملك". فإن كانت في أصلها (بعد السقوط) حقيرة ومزدرى بها، لكن بانتسابها لله حملت أصلًا ملوكيًا. لقد سبق أن مدحت العروس عريسها (نش 5: 11-15) فوصفته مبتدئه من الرأس حتى القدمين، لأنها بهرت بجلاله ومجده فتحدثت عن الرأس الذي يمثل شخصه ثم تدرجت لتمدح حتى قدميه. أما العريس ففي مدحه للعروس يبدأ بالقدمين أو خطواتها حتى يصف الرأس، وذلك لسببين: أولهما أنه يُريد أن يؤكد أن سرّ جمالها هو خطواتها أو سيرها في الطريق الملوكي، أي عودتها بالتوبة إلى العريس سرّ حياتها. أما السبب الثاني فإنه أراد أن يعطي للأعضاء التي تبدو بلا كرامة كرامة أفضل (1 كو 12: 23-34). أما حديثه عن "النعلين" إنما يُشير إلى الكنيسة -كجماعة أو كأعضاء- وقد احتذت بإنجيل السلام (أف 6: 15)، وكأن العريس قد ركز في بدء وصفها بخطواتها الإنجيلية... تسلك طريق العريس ذاته، تمارس حياتها الإنجيلية المملوءة سلامًا. هذا هو سرّ جمالها الروحي، أنها عرفت الطريق ودخلته! بهذا تحمل أيضًا الشهادة لعريسها كقول الرسول بولس: "ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام، المبشرين بالخيرات" (رو 10: 15). وقول النبي إشعياء: "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك" (إش 52: 7)، وقول ناحوم النبي: "هوذا على الجبال قدما مبشر مناد بالسلام، عيدي يا يهوذا أعيادك، أوفي نذورك، فإنه لا يعود يعبر فيك أيضًا الملك" (نا 1: 15). إذ تحتذي النفس بكلمة الرب تصير حاملة لسرّ سلامها الداخلي، وسر سلام الآخرين فتكرز بكلمة الخلاص، وتعلن ملكوت الله المعلن على الصليب، وتسكب فرحًا في قلوب المؤمنين، بهذا يحصلون على روح الغلبة والنصرة على المهلك. 2. "مفاصل فَخْذَيْكِ مِثْلُ الْحَلِيِّ (السلاسل)، صَنْعَةِ يَدَيْ صَانعٍ" [1]. الفخذان يحملان الجسد ويعينانه على الحركة، لهذا فإن مفاصل الفخذين إنما تُشير إلى وحدة الكنيسة المقدسة في المسيح يسوع خلال المحبة. في هذا يقول الرسول: "نكون صادقين في المحبة، ننمو في كل شيء، إلى ذاك الذي هو الرأس المسيح، الذي منه كل الجسد مركبًا معًا ومقترنًا بمؤازرة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد لبنيانه في المحبة" (أف 4: 16). خلال هذه الوحدة ينمو الجسد ويتشدد (كو 2: 19) فتتحقق رسالة الكنيسة. هذه الوحدة كالسلاسل تربط البشرية معًا مع اختلافها في اللغة والجنس والثقافات، كما تربط الأجيال معًا، فتحمل الكنيسة الروح الجامعية على المستوى المكاني (في كل العالم) والمستوى الزماني (عبر الأجيال)... وهي من صنع يدي صانع ماهر، ألا وهو الروح القدس واهب الشركة. 3. "وسُرَّتُكِ كَأْسٌ مُدَوَّرَةٌ، لاَ يُعْوِزُهَا شَرَابٌ مَمْزُوجٌ" [2]. تُرشم السرة بدهن الميرون في سرّ التثبيت، لأن الروح القدس يقدس الأعضاء الظاهرة كما يقدس الأحشاء الداخلية، ليكون الإنسان بكليته للرب. حين تحدث الرب مع حزقيال عن بشاعة ما وصل إليه الإنسان والموت الذي حلّ به قال عنه: "أما ميلادك يوم ولدت فلم تقطع سرتك" (حز 16: 14). فالجنين إذ يخرج من أحشاء أمه يلزم أن تقطع سرته فيخرج إلى نور الحياة الجديدة ككائن حيّ مستقل عن أمه، لا يحتاج إلى الاغتذاء بدمها خلال الحبل السري بل يبدأ ممارسة إنسانيته ليخرج إلى النضوج الكامل. وبنفس الطريقة حين يدخل العروسان إلى الحياة الزوجية يلتزمان أن تقطع فيها حبلا سرتيهما من بيتي أبيهما، ليعيشا الحياة الزوجية الجديدة ويُمارس حبهما الناضج في وحدانية الروح. أقول، هكذا يرى السيد المسيح في كنيسته قد دخلت معه في الحياة الزوجية على مستوى سماوي، وقد قطعت سرتها فصارت كأسًا مدورة أي حملت الطبيعة السماوية (الدائرة التي بلا بداية أو نهاية)، لا يعوزها شراب ممزوج، إذ لم تعد في أحشاء العالم تطلب أفراحه الخارجية... لقد انطلقت كما من بيت أبيها الأرضي لتعيش مع بيت العرس الداخلي في شبع حقيقي وكفاية. 4. "بَطْنُكِ صُرَةُ (كومة) حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بِالسَّوْسَنِ" [3]. تحوي الكنيسة في داخلها مخازن غذاء روحي (حنطة) مشبع للنفس يسكن في داخلها السيد المسيح، الخبز الحيّ النازل من السماء، الذي من يأكل منه يحيا إلى الأبد (يو 6: 51). هكذا قد تبدو الكنيسة في خارجها فقيرة وجائعة لكن أحشاؤها مخازن خيرات تشبع النفوس الجائعة، وكما يقول الرسول بولس: "كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2 كو 6: 10). هذه الخيرات محاطة بسياج من السوسن الذكي الرائحة، وكأن ثمار الكنيسة مشبعة وجميلة تجتذب النفوس. 5. "ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْنِ تَوْأَمَيْ ظَبْيَةٍ" [3]. سبق أن وصفها بذلك في نش 4: 5 (يمكن الرجوع إليه). 6. "عُنُقُكِ كَبُرْجٍ مِنْ عَاجٍ" [4]. سبق فوصفها هكذا: "عُنُقُكِ كَبُرْجِ دَاوُدَ الْمَبْنِيِّ لِلأَسْلِحَةِ" (نش 4: 4)، بكونها راسخة وقوية تواجه كل حرب، أما الآن فيصف عنقها "كَبُرْجٍ مِنْ عَاجٍ" وقد سبق فرأينا أن العاج يُشير إلى قبول الألم حتى الموت... حيث يستخرج من الفيل خلال آلامه حتى الموت. فإن كان إيمان الكنيسة عاليًا كالبرج، مرتفعًا نحو السماء، فقد قبلت كل صفوف الألم حتى الموت... لتبقى أمينة في إيمانها، لا تنحرف وراء كل ريح تعلم غريب ولا تتلوث بالبدع والهرطقات لقد كلفها إيمانها الرسولي الأصيل الثمن الكثير! إنه إيمان من العاج، ناصع البياض، لا يشوبه شيء، ونفيس! يُشير هذا العنق أيضًا إلى طهارة الكنيسة ونقاوتها، فهي مرفوعة الرأس على الدوام، لا تقدر الخطية أن تنكسه في التراب أو تذله. 7. "عَيْنَاكِ كَالْبِرَكِ فِي حَشْبُونَ عِنْدَ بَابِ بَثِّ رَبِّيمَ" [4]. إن كان قبلًا قد وصف عينيها بعيني الحمامة، حيث تتجلى فيهما صورة الروح القدس الذي يُقدس سيرتها الداخلية بتطلعها المستمر إليه بغير انحراف، فإنه الآن يصفهما ببرك السمك fishponds في حشبون. هذا المنظر يكشف عن أتساع بصيرتها، فهي كالبرك المنفتحة على السماء لا يحجبها عنها شيء. هذا الانفتاح نحو السماء يولد فيها انفتاحًا نحو البشر أيضًا، لذا دعاها "برك السمك"، كل من ينظر إليها يجدها تحوي الأسماك داخلها... لا تهتم بما لنفسها بل بما هو للآخرين (الأسماك تُشير إلى جماعة المؤمنين)... إنه لا يصفها بالينابيع لئلا تحمل فقاعات هواء (تُشير إلى الحياة الجوفاء)، ولا بالبحر إذ ليس فيها اضطرابات أو قلق، بل في بساطة الإيمان تعيش بنظرة روحية هادئة. أما اختيار مدينة حشبون فلأسباب كثيرة منها: أ. "حشبون" تعني "حساب"... فالنظرة المتسعة والبسيطة لا تعني أن يحيا الإنسان بغير حساب أو بدون تدقيق... إنما بحكمة يضع في اعتباره حساب النفقة. ب. مدينة حشبون، تدعى حاليًا "حسبان"، وهي آثار مدينة قائمة على تل منعزل تبعد حوالي 16 ميلا شرق الأردن، وحوالي تسعة أميال شمال مادابا، وهي قائمة ما بين آرنون وجابوك. هذه المدينة أتخذها سيمون ملك الأموريين عاصمة لملكه وأعطاها موسى النبي للرأوبيين، وهي تقع على الحدود الفاصلة بين أملاك رأوبين وجاد (عد 32: 37، يش 13: 26). هي إحدى مدن الملجأ الستة من ال 48 مدينة التي أعطيت للاويين (يش 21: 37؛ 1 أي 6: 66). كأن عيني الكنيسة أو بصيرة المؤمن الروحية، كالبرك الهادئة في إحدى مدن الملجأ، يلجأ إليها الناس فينعمون بالمسيح يسوع الملجأ الحقيقي. ج. كانت مدينة حشبون عند مفارق الطرق الرئيسية تمر عليها جموع كثيرة، وهنا إشارة إلى انفتاح قلب المؤمن على الكثيرين ليتمتعوا بالسيد المسيح "الملجأ الأبدي". لهذا يكمل العريس حديثه قائلًا: "عِنْدَ بَابِ بَثِّ رَبِّيمَ". البث هو وحدة قياس عند اليهود تستخدم للسوائل، أما "ربيم" فتعني "ابنة الجموع"... وكأن المؤمن يصير ابنًا لجموع كثيرة. أو كأن الإنسان وقد تمتع ببصيرة روحية يدعو الجموع لتشاركه هذه البصيرة. 8. "أَنْفُكِ كَبُرْجِ لُبْنَانَ النَّاظِرِ تُجَاهَ دِمَشْقَ" [4]. هذا التعبير يُشير إلى شهامة الكنيسة وشجاعتها المقدسة في الحق، وعدم خوفها من الباطل، فإن كانت وديعة متواضعة لكنها في نفس الوقت قوية وجبارة. والأنف أيضًا يُشير إلى حاسة الشم للتمييز بين رائحة المسيح الذكية وأطاييب العالم الزائلة. فالمؤمن الحقيقي له أنف كالبرج يدرك خلاله من هو عدو ومن هو صديق، يميز ما هو للبنيان وما هو للهدم. أما اتجاهه نحو دمشق البلد التجاري المهتم بالزمنيات فيُشير إلى جسارة الكنيسة واقتدارها على مواجهة كل تيار. إن كان المؤمن يلتزم أن يكون له مثل هذا الأنف، فبالأكثر الراعي يليق به ألاَّ يكون "أفطسًا" (لا 21: 7-21). وكما يقول البابا غريغوريوس (الكبير): [الأفطس هو الذي يعجز عن التمييز، فنحن نميز بحاسة الشم الروائح الذكية من العفنة. إن هذه الحاسة تُشير حقًا لحاسة التمييز التي نختار بها الفضيلة ونرفض الرذيلة. لذلك قيل في مدح الكنيسة العروس: "أَنْفُكِ كَبُرْجِ لُبْنَانَ". فالكنيسة المقدسة تدرك تمامًا بالتمييز التجارب التي تثار عليها بأسباب متنوعة، وتعرف مقدمًا - من فوق برجها - معارك الشر المزمعة أن تحدث]. 9. "رَأْسُكِ عَلَيْكِ مِثْلُ الْكَرْمَلِ، وَشَعْرُ رَأْسِكِ كالقرمز، الملك قَدْ حجز في الشرفات" [5]. رأس الكنيسة مرتفع كالكرمل، الجبل الذي يرتفع إلى أقل من 2000 قدم، ليس في تشامخ بشري واعتداد مملوء عجرفة، بل في قوة النصرة على محبة العالم وكل عواصفه. والكرمل يعني "أرض الحديقة" أمتاز بالخضرة الكثيفة والثمار الكثيرة والغابات، هكذا لا يظهر رأس الكنيسة فارغًا بل مثمرًا، لا تلهو فيها أية أفكار باطلة، إنما تحمل أعمالًا مجيدة وتقدم ثمارًا تشبع الكثيرين. جبل الكرمل - كان في الحدود الجنوبية لأشير (يش 19: 26) - يحمل إلينا ذكريات مجيدة وفعالة. فهناك وقف إيليا النبي أمام كهنة البعل وكل الشعب يطلب ألاَّ يعرجوا بين الفريقين: فليعبدوا الله أو البعل...! وهناك قُتل كهنة البعل (1 مل 18: 17-40)، هكذا إذ ترتفع الكنيسة نحو السمويات لا تعرف التعريج بين محبة الله ومحبة العالم، إنما تقتل في داخلها كل انحراف نحو الحق، وتقود الكل بالحق. على رأس الكرمل سجد إليليا النبي وخر على الأرض طالبًا من الله أن يعطي مطرًا للأرض (1 مل 18: 42-46)، وفي الكنيسة يتعبد المؤمنون بانسحاق أمام الله لكي يمطر على القلوب الجافة بمياه نعمته حتى تلين بالتوبة وتأتي بالثمر المطلوب... وزار تلميذه أليشع النبي جبل الكرمل (2 مل 2: 25)، حيث التقت به الأرملة لكي يُقيم لها وحيدها من الموت (2 مل 4: 25)... هذه بعض ذكرياتنا على جبل الكرمل الذي شُبهت به رأس الكنيسة المرتفع على أعدائه (مز 27: 6). أما الشعر فقد رأيناه قبلًا يُشير إلى جماعة المؤمنين. أنه كالقرمز، وهو لباس الملوك كما يحمل رمز دم السيد المسيح باتحادنا مع العريس الملك، صارت كل الأعضاء تحمل سمة الملوكية خلال تقديسها بالدم الكريم. أمام هذا المنظر الجميل التقوى يقول العريس: "الملك قَدْ حجز في الشرفات" وكأنه لا يريد أن يتركها. هذا ما أكده المرتل بقوله: "الرب قد أختار صهيون، اشتهاها مسكنًا له: هذه هي راحتي إلى الأبد. ههنا أسكن" (مز 132: 13-14). 10. "مَا أَجْمَلَكِ وَمَا أَحْلاَكِ يا حبيبي! هذه هي عظمتك في لَّذَّاتِك: قَامَتُكِ هَذِهِ شَبِيهَةٌ بِالنَّخْلَةِ وَثَدْيَاكِ بِالْعَنَاقِيدِ. قُلْتُ إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى النَّخْلَةِ وَأُمْسِكُ بسعفها العال. وَتَكُونُ ثَدْيَاكِ كَعَنَاقِيدِ الْكَرْمِ، وَرَائِحَةُ أَنْفِكِ كَالتُّفَّاحِ. وَحَنَكُكِ كَأَجْوَدِ الْخَمْرِ، تسوغ بلذة لِحَبِيبِي وتسيل عَلَى شفتي وأسناني" [6-9]. في ختام وصفه لها يُناجيها: ما أجملك؟! ما أحلاك؟!، حسب النص الأصلي: "كم صرتِ جميلة؟!" فقد انسكب جمال العريس عليها، بسكناه في داخلها صارت لها عذوبة خاصة! امتزج بثمرها الذي يطلبه الرب ويجده فيها. لقد تطلع إلى قامتها فوجدها شبيهة بالنخلة وثدييها بالعناقيد. هوذا قد ظهرت قامة الكنيسة، إنها كالنخلة تمتاز بطولها واستقامتها... لقد ارتفعت لتبلغ ملء قامة المسيح (أف 4: 13). وكما يقول المرتل: "الصديق كالنخلة يزهو، كالأرز في لبنان ينمو" (مز 92: 12). لهذا رمز للسبعين رسولًا بسبعين نخلة (خر 15: 27، عد 33: 9)، كما زين بيت الله بالنخيل (1 مل 6: 29، أي 3: 5، خر 40: 22، 41: 18)، وفي الأبدية يحمل المؤمنون سعف النخيل علامة النصرة (رؤ 7). النخلة بجذورها الخفية العميقة تلتقي بينابيع المياه الحية، وهي تقدم ثمرها ظاهرًا ونافعًا لكثيرين خاصة في المناطق المقفرة... ويستخدم سعفها في استقبال الملوك يلوحون بها علامة الغلبة والنصرة. وكأن العريس السماوي يرى في كنيسته - خلال تشبيهها بالنخلة- الاتحاد الخفي العميق معه، والثمار المقدمة للعالم الجائع، والحياة الملوكية المنتصرة الغالبة! يفرح العريس بعروسه المثمرة، فيصعد إلى النخلة ليجني ثمارها. إنه لم يرسل أحد الخدم ليجني له الثمر، بل يصعد بنفسه ويقطف الثمار بيديه، هنا يعلن للنفس البشرية كرامتها وعظمتها، فإن كان من أجلها قد نزل إلى العالم ليتحد بها، فالآن هو يصعد عليها... لقد ارتفعت بعد أن كانت ساقطة، وبارتفاعها مع عريسها إلى سمواته تشاركه أمجاده، يرى نفسه صاعدًا على نخلته يقطف ثمارها التي هي في الحقيقة من صنع روحه القدوس! إنه يمسك بسعفها العالي... وكأنه يرى في نصرتها نصرة له، وفي علوها تمجيد لعمله الخلاصي. نحن نمسك بالسعف لأننا بالرب نغلب وننتصر. وهو يمسك بنصرتنا لأنها لحسابه ولمجد اسمه القدوس. أنه يفرح ويبتهج بكل نصرة نبلُغها.! أما أنواع الثمر فهي: أ. يرى ثدييها كعناقيد الكرم... وقد رأينا أن ثدييّ الكنيسة هما العهدان القديم والجديد، فإنهما يبعثان روح الفرح في حياة المؤمنين. ب. يرى أنفها كالتفاح... وقد رأينا أن التفاح رمزًا للتجسد الإلهي، وكأنها تشتم على الدوام رائحة الإله المتجسد. ج. حلقها كالخمر الجيد، يُشير بكلمات الفرح المستمر، المستساغة اللذيذة الطعم التي تجعل العريس نفسه أيضًا يفرح لفرحها، فتظهر علامات الفرح على شفتيه وأسنانه. إذ سمعت العروس وصف العريس ومديحه لها أجابته: إن كل ما قد وصفتني به إنما هو منك ولك يا حبيبي. في الأصحاح الثاني إذ تطلعت العروس إلى المصلوب أدركت حبه الذي خلاله قدم الرب نفسه لها كعريس فقدمت هي حياتها ملكًا له... قائلة: "حَبِيبِي (قريبي) لِيّ وَأَنَا لَهُ، الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ" (نش 2: 16). وفي الأصحاح الخامس تطلب إليه أن يدخل جنته أي قلبها ليقبل حبها له، ويتسلم حياتها بكل طاقاتها الداخلية كاستجابة حب لعمله معها، قائلة: "أَنَا لِحَبِيبِي وَحَبِيبِي لِيّ الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ" (نش 6: 3). أما هنا فقد ارتفعت إلى الأبدية لا لتقدم حياتها له استجابة لحبه وإنما لتكشف على مستوى العلانية واللانهائية مدى شوقه إليها: "أَنَا لِحَبِيبِي وَإِلَيَّ اشْتِيَاقُهُ". كأنها تقول له... لقد عرفت سرّ مديحك ليّ، إنك تطلبني أكون معك ولك، أكون موضع شوقك إلى الأبد! في هذه المرة لا تقول: "حبيبي ليّ" فقد دُهشت أمام بهجته بها واشتياقه نحوها... أنه "يشتهي صهيون مسكنًا له" (مز 132: 13)... أمام هذا الحب الذي اكتشفته في عريسها نحوها صارت تُناديه: "تَعَالَ يَا حَبِيبِي (قريبي) لِنَخْرُجْ إِلَى الْحَقْلِ،وَلْنَبِتْ فِي الْقُرَى. لِنُبَكِّرَنَّ إِلَى الْكُرُومِ، لِنَنْظُرَ هَلْ أَزْهَرَ الْكَرْمُ؟! هَلْ تَفَتَّحَ الْقُعَالُ؟! هَلْ نَوَّرَ الرُّمَّانُ؟! هُنَاكَ أُعْطِيكَ حُبِّي (ثدييّ)" [11-12]. إذ أدركت العروس محبته لها أخذت تطلبه ليخرجا معًا وحدهما إلى الحقل ويبيتا في القرى بعيدًا عن ضوضاء المدينة، ويقطفا من الثمار... الحقل: أي حقل هو هذا الذي دعت إليه حبيبها ليخرج معها إليه؟ لعله حقل العمل الإلهي المتسع على مستوى البشرية كلها، هذا الذي قال عنه الرب نفسه: "ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضت للحصاد" (يو 4: 35)... إن كان ربنا نفسه يدعونا للعمل، لكننا لن نخرج بدونه، بل معه وبه لأنه هو صاحب الكرم وهو الذي يهبه النمو. في هذا يقول الرسول بولس: "أنا غرست وأبلوس سقى لكن الله كان ينمي. إذًا ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله هو الذي ينمي... فإننا نحن عاملان مع الله وأنتم فلاحة الله، بناء الله" (1 كو 3: 6-9). لقد خرج قايين إلى الحقل لكن في غير معية الرب، خرج وحده، وهناك لم يحتمل البار هابيل بل قتله، وحين عاتبه الرب في جسارة الشر أجاب: "أحارس أنا لأخي؟!" (تك 4: 9)، ولعن الأرض معه وبسببه: "الآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائهًا وهاربًا تكون على الأرض". أما العروس فترفض أن تخرج إلى الحقل إلاَّ مع عريسها وبه، فيتسع قلبها بالحب لأخيها، وتشعر بالمسئولية نحوه، فتتبارك الأرض بسببها. ولعل الحقل يذكرنا باللقاء المملوء حبًا بين إسحق وعروسه رفقة، فقد خرج ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء ورأى امرأته مقبلة على جمل... أما هي إذ رأته نزلت عن الجمل والتقت به... هنا العروس تشتاق أن تخرج معه إلى حقل التأملات، هناك يكشف لها عريسها السماوي أسراره الإلهية، وتدرك أمجاده التي لا يُنطق بها، يقبلها عروسه إلى الأبد وتعيش هي في أحضانه الأبدية. ولعل العروس تقصد بالحقل "حياة الجهاد المستمر"، إذ يقول سفر الأمثال: "من يشتغل بحقله يشبع خبزًا" (أم 12: 11)... فلا قدرة للنفس على الجهاد لتشبع ما لم يعمل الرب معها وفيها. الخروج: تقول العروس "لنخرج..." في حديث السيد لعروسه ومدحه إياها اكتشفت حقيقة لم تكن قبلًا تدركها في كمالها... وهي أن الله ليس بالفكرة الصلدة المنعزلة في السماء، كما قال عنه أرسطو حرك العالم وتوقف ليسيطر عليه، لا بل الله دائم الحركة في تعامله مع الإنسان. الله حب غير منعزل، خرج إلينا تاركًا أمجاده إلى حين حتى لا نهابه ونرهبه بل نحبه ونقبله... خرج إلينا وحلّ بيننا. من أجلنا صار عبدًا! خرج أيضًا خارج المحلة يحمل عارنا على كتفيه! وهنا نراه يخرج إلينا فلا يكشف ذاته لنا لنحبه وإنما يعلن فينا جمالًا هو في حقيقته انعكاس جماله علينا وثمرة محبته التي تُحاصرنا. والآن تستنجد النفس به قائلة "لنخرج..."، وكأنها قد أدركت أنها بدونه تبقى حبيسة "ذاتها"، تعيش أسيرة قوقعتها لا تطلب إلاَّ ما لذاتها. إنه توسُل بل صرخة حب فيه تترجى النفس عريسها أن يطلقها من ذاتها لتعيش معه في حقل الحب، تطلب ما لغيرها. هذه صورة حيَّة للحياة الزوجية الحقة، فلا يطلب كل طرف أن يأسر الآخر في داخله، يستهلكه لحساب نفسه... إنما وهو يفتح القلب ليدخل بالآخر إليه ينطلق كلاهما معًا في حب وحدوي فيه يقدر الآخر ككائن حيّ مستقل. بمعنى آخر، كثيرًا ما نرى أحد الزوجين في حبه للآخر يطلب ما لذاته، ويرى في الطرف الآخر ليس شخصًا يعيش معه على مستوى المشاركة بل "شيئًا" يفرح به ويكتم أنفاسه ويستغله لإشباع احتياجاته النفسية والاجتماعية والبيولوچية. في حبه للطرف الآخر يخنق إرادة الآخر وحريته وإنسانيته... ظانًا أنه بهذا إنما يحبه.! هكذا حين تفتح العروس قلبها للعريس ليدخل إليها لا تطلبه "لتستهلكه" إن صح هذا التعبير، أو كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم "لتستغله"، تُريد في عريسها أن تشكله حسبما تُريد، يستجيب لكل طلباتها ويشبع كل احتياجاتها ويحل كل مشاكلها ويبارك كل تصرفاتها فحسب... لكن يليق أن تخرج عن ذاتها، تخرج معه وبه فتطلب منه ذاته أولًا وتخضع لإرادته، وإن سألته شيئًا وطلبت حلًا لمشاكلها أو بركة لعملها إنما كثمرة للقائهما معًا، لا كغاية هذا اللقاء. بمعنى آخر: الله أولًا في حياتها... تحبه لأجل ذاته لا على مستوى المنفعة! لنبت في القرى: ما هي هذه القرى التي تود أن تبت فيها مع عريسها؟! 1. لعلها تقصد بالقرى حياتها الداخلية بجوانبها المتعددة، وكأنها تقول له هيا بنا من مظاهر المدينة الخارجية ولتدخل إلى قلبي وفكري وعواطفي وكل طاقاتي الداخلية، ولتبت معي هناك، لنكشف سويًا ثمار روحك القدوس المتنوعة في داخلي، نجد الكرم قد أزهر والرمان قد نور وثدييّ يُقدمان لبن الحب الخالص. 2. لعله هنا أيضًا دعوة لخدمة القرى، فإن الكثيرين يهتمون بخدمة المدينة الغنية، لكن العروس - الكنيسة - ملتزمة بالكرازة والرعاية داخل القرى حيث البسطاء والفقراء أيضًا. 3. هنا الدعوة للمبيت معه في قرى "متعددة"، أي ترافقه من قرية إلى قرية، ولا يستريح قلبها في المدينة أو في قرية ما، بل تدخل مع عريسها في حياة الاتحاد خلال خدمتها في كل موضع... هكذا لا يجد المؤمن كمال راحته حتى تطمئن أعماقه الداخلية على كل البشرية. في الأصحاح الأول (نش 1: 6) كانت النفس تُعاتب بنات أورشليم أنهن أقمن إياها حارسة للكروم، أما الآن فهي التي تطلب التبكير إلى الكروم المتعددة... لقد خرجت من كل أنانية وكل انغلاق لتبكر إلى كروم الآخرين تعمل فيها مع الرب الكرام الأصيل. والعجيب أنه ليس فقط اتسع قلبها لخدمة الآخرين، لكنها تتعجل الخدمة: "لتبكرن...". لقد أدركت أن الوقت مقصر والأيام شريرة (أف 5: 16). أخيرًا تقول العروس "هُنَاكَ أُعْطِيكَ حُبِّي (ثدييّ)"... هناك في مجال الخدمة، في حقل الرب، في القرى، في الكروم حين تُقدم للبشرية اتحادها مع المسيح عريسها إنما تُقدم للرب حبها، أو تقدم ثدييها (العهدين)، تقدم كلمة الله بكونه الغذاء المشبع للنفوس. أخيرًا تقول له: "اَللُّفَّاحُ يَفُوحُ رَائِحَته، وَعِنْدَ أَبْوَابِنَا كُلُّ النَّفَائِسِ (الثمار) مِنْ جَدِيدَةٍ وَقَدِيمَةٍ، ذَخَرْتُهَا لَكَ يَا حَبِيبِي" [13]. اَللُّفَّاح من أجمل الزهور التي تُشير إلى الوحدة الزوجية بين الرجل وامرأته، لهذا حدثت بسببه مشاحنة بين راحيل وليئة (تك 30: 14)... ولكن العروس تختم حديثها بقولها لقد فاحت رائحة الحب الوحدوي أو الزوجي بين العريس السماوي وعروسه، وحان وقت كمال هذه الوحدة. هذه الوحدة التي ظهرت رائحتها تحمل ثمارًا نفيسة جاءت جديدة في كل يوم وقديمة أي أصيلة وعميقة... هي ثمار كلمة الله العاملة في نفوس المؤمنين. هذه الثمار النفيسة ظهرت عند أبواب المؤمنين هم أعضاء في العروس المقدسة. هذا ما تقدمه العروس الأم للمسيح العريس الأبدي... تقدم ثمار أعضائها بالروح القدس! العروس العاملة يقول القديس أمبروسيوس أنه لما تأكدت الألفة بين العروس ومحبوبها أخذت تفاوضه في أمر أهلها، وأوصته بأختها الصغيرة، التي تمثل البشرية غير المؤمنة. وفي نفس الوقت التهب حنين العروس لحياة الوحدة أو الاتحاد الأعمق مع عريسها، وكأن ختام المناجاة أو نشيد الأناشيد هو دخول المؤمن إلى خدمة الآخرين مع التهاب القلب بالانطلاق نحو الفردوس. إنهما اشتياقان وقد ظهرا متعارضان لكنهما في الحقيقة متكاملان ومتلازمان. يحيا المؤمن بقلب محترق من أجل كل نفس لم تتعرف على خلاصها، وفي نفس الوقت لا ينحرف قلبها عن شوقه للانطلاق ليكون مع المسيح وجها لوجه. في بدء النشيد بدأت العروس بالإلحاح في الدخول إلى حياة الشركة معه، تود أن تختلي به أكثر فأكثر في البرية، وأخرى في الحديقة، وثالثة في الحقل والقرى، ورابعة في بيت أمها لتسقيه من خمر حبها كما أرواها هو بحبه الأبدي، لهذا تُناجيه قائلة: "لَيْتَكَ كَأَخٍ لِيّ الرَّاضِعِ ثَدْيَيْ أُمِّي، فَأَجِدَكَ فِي الْخَارِجِ، وَأُقَبِّلَكَ، وَلاَ يُخْزُونَنِي. وَأَقُودُكَ وَأَدْخُلُ بِكَ بَيْتَ أُمِّي، وحجرة من حبلت بيّ، وَأنتَ تُعَلِّمُنِي، فَأَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ سُلاَفِ رُمَّانِي" [1-2]. إن كان هذا الأصحاح في جوهره حديث عن الخدمة، فإن أساس الخدمة وأساسها تمتع الخادم أولًا بعريس الكنيسة، حتى متى ألتقي بأخوته يشتمّون فيه رائحة "الحياة" ويتقبلون العضوية في الكنيسة جسد المسيح الحيّ. في هذا الحديث أيضًا نلاحظ الآتي: 1. أنها تود أن تقبّله كأخ لها، الراضع ثدييّ أمها... فإنه بحسب التقاليد الشرقية القديمة ما كان يليق ممارسة القبلات علانية حتى بين الرجل وزوجته، ولا يستثنى من هذا إلاَّ الأقرباء من الدرجات الأولى كالوالدين والأخوة. لهذا تُريده كأخ لها الراضع ثدييّ أمها، فتأخذه بين ذراعيها، وتظهر معه علانية، وتقبله في حضرة البشرية كلها ولا يلومها أحد. 2. لعل سرّ دعوتها له برجاء "ليتك كأخ ليّ..." إنما تعلن عن شهوة كنيسة العهد القديم التي كانت تنظر إلى الله كمن هو في الخارج، إذ تقول "أجدك في الخارج"، تطلب إليه أن ينزل إلى جنس البشر ولا يبقى منعزلًا، بل يصير أخًا بكرًا باشتراكه معنا في طبيعتنا وحلوله في وسطنا، فنستطيع أن نتعرف عليه، ونقبله بقبلات العبادة العلنية، وندخل به إلى حياتنا الداخلية. 3. وهو أيضًا حديث كنيسة العهد الجديد التي أدركت في نضوح حبها أن السيد المسيح الأخ البكر -وهو ربها وسيدها وعريسها- يُقبله المؤمنون بقبلات العبادة الحية، ويدخلون به إلى بيت أمهم -أورشليم السماوية- ليعيشوا معه وجهًا لوجه في أحضانه الأبدية. 4. أما قولها "أنت تعلمني"... فهو كشف بطبيعة المسيحي الحقيقي والخادم الأمين، فإن كانت النفس تلتقي بعريسها وتقبله وتعيش معه في بيت أمها -الكنيسة أو أورشليم السماوية- وهناك تسقيه من خمر بهجتها الممزوجة من عصير رمانها، لكنها تبقى في أتضاع تُريد أن تتعلم... إنها في حاجة إليه ليعلمها أسراره السماوية، حتى في الأبدية حين تبقى في أحضانه تراه على الدوام جديدًا في عينيها... وكأنها من لحظة إلى أخرى -إن صح هذا التعبير إذ لا يوجد في الأبدية لحظات أو زمن- تتعلم شيئًا جديدًا عن أسراره الإلهية. الخادم الحقيقي يبقى على الدوام في الكنيسة -بيت أمه- عند قدمي المخلص يطلب أن يتعلم، حتى إن دُعي "معلمًا" أو "أبًا" لكثيرين! في هذا يقول القديس أمبروسيوس: [إننيّ أرغب الجهاد في التعلم حتى أكون قادرًا على التعليم. لأنه يوجد سيد واحد (الله) الذي وحده لا يتعلم ما يعلمه للجميع. أما البشر فعليهم أن يتعلموا قبل أن يعلموا ويتقبلوا من الله معلمهم ما يعلمون به الآخرين]. كما يقول القديس إيرونيموس: [إن الفكر الذي يتوق إلى التعلم يستحق المديح ولو لم يوجد له معل]. 5. التعلم في الكنيسة -بيت الأم- ليس مجرد معرفة عقلية أو حفظ تعاليم عن ظهر قلب، لكنه في جوهره دخول إلى ممارسة "الحياة مع المسيح" لذلك تقول العروس: "فَأَسْقِيكَ مِنَ الْخَمْرِ الْمَمْزُوجَةِ مِنْ عصير رُمَّانِي"... هذا هو ما أتعلمه أن أرد حبك بالحب. 6. حين يدخل الإنسان الكنيسة في صحبة الرب، وهنا يجلس عند قدمي المخلص يتعلم، يُقدم الإنسان خمرًا ممزوجة بعصير الرمان... ماذا يعني هذا؟ رأينا الخمر كرمز الحياة الفرح والبهجة... فالكنيسة هي البيت المفرح الذي يستقبل الخطاة التائبين فيعطيهم الرب فرحًا داخليًا وبهجة لا تقدر الأحداث الزمنية أن تنزعها. أما الرمان فيُشير إلى حياة الجهاد، فشجر الرمان مملوء أشواكًا، وغلافه مرّ، وفي داخله بذور كثيرة، لكن عصيره يحمل نكهة جميلة وطعمًا لذيذًا. فالفرح في المسيحية يمتزج بالأتعاب والجهاد الروحي حتى النهاية. أخيرًا تؤكد العروس اتحادها بعريسها وتعلقها به فتردد ما سبق أن قالته قبلًا: "شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي، وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي. أُحَلِّفُكُنَّ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ بأيائل (قوى) الحقل، أَلاَّ تُيَقِّظْنَ وَلاَ تُنَبِّهْنَ الْحَبِيبَ حَتَّى يَشَاءَ" [3-4]. إنها ذات الكلمات التي نطقت بها حين أعلنت أنها "مجروحة حبًا"، وقد سبق لنا شرحها. لعلها أرادت هنا أن تؤكد أنها وإن قدمت كل حياتها للخدمة، لكنها في هذا لا توقف شركتها معه وانشغالها به... بل تؤكد أنها لن تسمح بشيء أو أحد أن يعوق اتحادها به، فالخدمة الحية لا تُلهي الخادم عن مسيحه بل بالحق تدخل به إلى أعماق أكثر في الحياة معه. شهادة العالم له: إذ يتطلع العالم إلى الكنيسة التي هي جسد المسيح والشاهدة له أمامه، يقول لها: "مَنْ هَذِهِ الطَّالِعَةُ مِنَ الْبَرِّيَّةِ، كلها بيضاء، مُسْتَنِدَةً عَلَى حَبِيبِهَا (قريبها)؟!" [5]. سبق أن نطقت بنات أورشليم بكلمات مشابهة (نش 3: 6) حين رأين التغير العجيب في حياة المؤمنين، وقد أعطتهن المعمودية بياضًا سماويًا وتمتعن باتكال حق على الحبيب القادر أن يرتفع بهم من برية هذا العالم ويدخل بهم إلى سمواته، والآن يدهش العالم خلال شهادة العروس العاملة أمامهم... أنها لا تدهش لمجرد كثرة العمل بل بالحري للثمر الذي في حياتها، فإن ظهور الخادم بثياب المعمودية البيضاء هو خير شهادة للعريس... يعلق القديس أغسطينوس على هذا النص قائلًا: [إنها لم تكن من البداية بيضاء، إنما صارت بيضاء فيما بعد، لأنه "إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج" (إش 1: 18)]. كما يقول: [من هذه الطالعة بيضاء في بهاء النور وليس بلون باطل؟!]. ويقول القديس أمبروسيوس: [لقد كانت قبلًا سوداء، فكيف صارت بيضاء فجأة (خلال المعمودية)؟!]. ويعلل القديس أغسطينوس سرّ استمرار بياضها هكذا: [الآن هذه التي صارت بيضاء تسلك حسنًا، لأنها مستمرة في الاتكاء على ذاك الذي جعلها بيضاء. فإن يسوع نفسه هذا الذي تستند عليه فيجعلها بيضاء يقول لتلاميذه: "بدونيّ لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5)]. ولعل هذه الدهشة لم تصب العالم فحسب، بل اجتاحت السمائيين أنفسهم إذ يرون ما يصل إليه الإنسان البشري خلال اتحاده بالسيد المسيح في جرن المعمودية، أي يرونه في ميلاده الجديد يحمل إمكانية الصعود نحو السمويات بثياب بيض. وكما وصف القديس كيرلس الأورشليمي الإنسان في المعمودية قائلًا: [ترقص الملائكة حولك وهم يقولون من هذه الطالعة بيضاء في ملابسها مستندة على قريبها؟! لأن النفس التي كانت قبلًا عبدة تبناها سيدها وجعلها قريبة له]. كما يردد السمائيون القول التالي: "تَحْتَ شَجَرَةِ التُّفَّاحِ شَوَّقْتُكَ (رفعتك) هُنَاكَ ولدتك أُمُّكَ، هُنَاكَ وضعتك وَالِدَتُكَ" [5]. هذا هو سرّ صعودها من البرية كلها بيضاء مستندة على حبيبها، أنها قد وضعتها أمها وأنجبتها والدتها تحت شجرة التفاح. لقد رأينا قبلًا أن "شجرة التفاح" تُشير إلى التجسد الإلهي، إذ ظهر الرب "كشجرة التفاح بين شجر الوعر" (نش 2: 3). فخلال التجسد الإلهي أمكن للكنيسة الأم أن تنجب أولادًا لله في المعمودية، قادرين على الارتفاع نحو السمويات بالإله المتجسد... هذه هي الولادة الجديدة، وهذه هي فاعليتها في حياة المؤمنين. هنا ربط بين التجسد الإلهي وولادتنا الروحية، فالسيد وُلد جسديًا لكي نولد نحن روحيًا. وهذا هو سرّ الاحتفال بعيدي الميلاد والعماد (الغطاس) في يوم واحد في الكنيسة الأولى...، إذ يرتبط العيدان معًا في ذهن الكنيسة. عدم الانشغال بالخدمة على حساب العريس: تؤكد العروس العاملة التصاقها بعريسها وسط انشغالها بخدمة القريب قائلة: "اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ (ختم) عَلَى قَلْبِكَ، كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ، الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالجحيم (كالقبرِ). لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ، لَظَى الرَّبِّ. مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ، وَالأنهار لاَ تَغْمُرُهَا. إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا" [6-7]. إن كانت النفس قد تمتعت خلال المعمودية بالميلاد الجديد تحت شجرة التفاح، وفي سرّ الميرون ختمت بختم الروح القدس، فصارت في ملكية العريس، تحمل ختمه وسماته، فإنها تعتز بهذا الختم الذي صار لها في كل جوانب حياتها. هذه الحياة تشعل لهيب حبها نحوه فتسأله لا أن يقبلها بين ذراعيه أو يأخذها في أحضانه الأبدية، بل تشتهي أن تلتصق به كالختم على قلبه وساعديه، لا يفصلها حتى الموت عنه.! إنها تطلب أن تكون ختمًا على قلب العريس، فهي لا تطلب أن يكون لها مجرد موضع في قلبه بل تحتل القلب كله، وكأن الله لا ينشغل إلاَّ بها. تُريد لا أن يكون أسمها منقوشًا على قلبه، بل هي بكل حياتها مختومة عليه، فلا يقدر أحد أن يقترب أو يمحو أسمها من أمام وجه الله. في سفر إشعياء النبي يقول الرب: "هوذا على كفي نقشتك" (إش 49: 16)، أما هنا فالعروس تطلب أن تكون خاتمًا على ساعده... بهذا تستقر العروس في قلب الله "مركز العاطفة والحب" وفي ساعده "مركز العمل"، تستريح إلى الأبد على عرش محبته وعلى كرسي قدرته! هذه هي دالة الكنيسة لدى عريسها.! أما سرّ هذه الدالة القوية فهو الحب الذي سكبه الرب في قلبنا من نحوه لهذا تقول: "المحبة قوية كالموت، الغيرة قاسية كالقبر..." وكأنها تقول له: إن الموت هين، لا يقدر أن يفصلني عن حبي لك، والمياه الكثيرة وجميع الأنهار لا تقدر أن تطفئه أو تغمره. وكما يقول الرسول بولس: "من سيفصلنا عن محبة المسيح: أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف... فإنيّ متيقن أنا لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا" (رو 8: 38، 39). يقول القديس أغسطينوس: [لا تستطيع زوابع العالم أو أمواج التجارب أن تطفئ لهيب الحب. عن هذا قيل: "المحبة قوية كالموت". فكما أن الموت متى حل لا يوجد من يقدر على مقاومته، إذ لا يقدر المولودون للموت أن يصدوا عنف الموت بأي فن من الفنون أو نوع من الأدوية، هكذا لا يقدر العالم أن يقف ضد قوة الحب. لقد أخذ التشبيه بمثال الموت المضاد، فكما أن الموت عنيف هكذا في التدمير، كذلك الحب قوي في الإنقاذ (الخلاص). خلال الحب مات كثيرون عن العالم ليحيوا لله]. في وسط العالم قدمت العروس لعريسها ما لا يقدر العالم أن يُقاومه، قدمت قلبها لذاك الذي يجد في القلب لذته، فهي لم تقف عند حدود تقديم الخدمة والجهاد والأسهار، بل قدمت أولًا قلبها أي "حبها" كله، والذي تقول عنه: "إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا". وكأنها تردد ما قاله الرسول بولس: "إن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس ليّ محبة فلا أنتفع شيئًا" (1 كو 13: 3). إنها ليست كالزوجة التي تظن أنها تخدم زوجها حسنًا، فتبذل كل جهدها لخدمة البيت وتسلمه جسدها... لكن قلبها ليس معه! إنها تُقدم القلب أولًا، ومن خلاله لا تقدر أن تمتنع عن خدمته.! حبها لعريسها يشعل حبها لإخوتها: عندما قدمت حبها كله للرب أتسع قلبها لإخوتها فقامت تطلب عنهم، قائلة: "لَنَا أُخْتٌ صَغِيرَةٌ لَيْسَ لَهَا ثَدْيَانِ. فَمَاذَا نَصْنَعُ لاُخْتِنَا فِي يَوْمٍ تُخْطَبُ؟! إِنْ تَكُنْ سُورًا فَنَبْنِي عَلَيْهَا بُرْجَ فِضَّةٍ، وَإِنْ تَكُنْ بَابًا فَنَحْصُرُهَا بِأَلْوَاحِ أَرْزٍ. أَنَا سُورٌ وَثَدْيَيَّ كَبُرْجَيْنِ، حِينَئِذٍ كُنْتُ فِي أعينهم كَوَاجِدَةٍ سَلاَمَةً" [8 -10]. هذه العبارات البسيطة تحمل دستورًا لحياة الخدمة تتلخص بنوده في النقاط التالية: 1. إدراك مركز غير المؤمنين بالنسبة للكنيسة، أنهم يمثلون "الأخت الصغيرة"، ليست أختها فحسب، بل هي أخت للعريس كما للعروس. خلال هذا المنظر لا تتعامل الكنيسة مع غير المؤمنين، حتى المضايقين لها أو المضادين للحق... وإن كانوا حتى ملحدين، على مستوى المعلم مع التلميذ بل الأخ الأكبر الذي يترفق بالأصغر. قد تخطئ الأخت الصغرى في حق الكبرى، فلتحتملها الثانية لأنها "الكبرى"، ولتعطها عذرًا لأن الصغرى ليس لها ثديان... أي لم تكتشف الحق خلال العهدين. 2. إن سرّ ضعف الصغرى أنها بلا ثديين، فعمل الكبرى تقديم كلمة الله أي العهدين القديم والجديد، لكي تتذوقهما الأخت الصغرى وتحبهما وتقتنيهما كثديين لها. هذا هو عمل الكنيسة الإنجيلي... تُقديم كلمة الله الحية لكل إنسان. 3. ماذا تفعل الكنيسة للأخت الصغرى وقد طلبها العريس كخاطب وها هي بلا ثديين؟! لتعاملها بكل عطف وحب، فلا تعيرها ولا تجرح مشاعرها وإنما تترفق بها وتقدم لها كل إمكانية. فإن كانت الصغرى سورًا تبني عليها برجًا فضيًا، وإن تكن بابًا تُحصرها بألواح الأرز... إنها تسندها بالعمل الإيجابي. تُقدم الأخت الكبرى نفسها وحياتها للصغرى، فتقول لها إن كنتِ في حاجة إلى سور يحوط حولك وبرجين يرتفعان بك... فأنا في خدمتك "أنا سور وثدييّ كبرجين". اقبلي السيد المسيح الذي في داخلي سورًا لك وكتابي المقدس ثديين يشبعانك. 4. لا يقف الأمر عند معالجة ما نقص في حياة الأخت الصغرى التي بلا ثديين، لكن الكبرى تبني عليها برجًا من الفضة وتحوطها بألواح أرز... وكأنها تسند أختها حتى تصير خادمة عاملة في كرم الرب. إن عمل الكنيسة هو الدخول بغير المؤمنين إلى الإيمان ودفعهم إلى الشهادة العملية لكلمة الله أمام الغير... بهذا يصيرون كالبرج الفضي (الفضة تُشير لكلمة الله المصفاة كالفضة، والبرج يُشير للشهادة العلنية). بهذا تصير الكنيسة في أعين الجميع كواجدة سلامًا حقيقيًا في حياة البشرية. حوار ختامي: "كَانَ لِسُلَيْمَانَ كَرْمٌ فِي بَعْلَ هَامُونَ، دَفَعَ الْكَرْمَ إِلَى نَوَاطِيرَ (حراس)، كُلُّ وَاحِدٍ يُؤَدِّي عَنْ ثَمَرِهِ أَلْفًا مِنَ الْفِضَّةِ، كَرْمِي الَّذِي لِيّ هُوَ أَمَامِي، الأَلْفُ لَكَ يَا سُلَيْمَانُ وَمِئَتَانِ لِنَوَاطِيرِ الثَّمَرِ. أَيَّتُهَا الْجَالِسَةُ فِي الْجَنَّاتِ، الأَصْحَابُ يَسْمَعُونَ صَوْتَكِ، فَأَسْمِعِينِي. اُهْرُبْ يَا حَبِيبِي وَكُنْ كَالظَّبْيِ أَوْ كَغُفْرِ (صغير) الأَيَائِلِ عَلَى جِبَالِ الأَطْيَابِ" [11-14]. 1. إذ تدخل الكنيسة بالعالم إلى عريسها السيد المسيح... تدعو الكل أن يتمتع به، وهنا توضح الكنيسة مبدأ هامًا في الخدمة: إن الكرم إنما هو كرم المسيح، وهو الذي يعمل فيه خلال الكرامين، لذلك تقول: "كَانَ لِسُلَيْمَانَ كَرْمٌ فِي بَعْلَ هَامُونَ". إن الكرم ليس كرمها، بل هو كرم "سليمان الحقيقي"... في هذا يقول القديس أغسطينوس: [الله يقوم بفلاحتنا نحن كرمه... أما زرعنا فهو العمل الذي في قلوبنا، وهو لا يعمل بأيد بشرية. إنه يقوم بفلاحتنا، كما يصنع الفلاح بحقله. يقول الرب في الإنجيل: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان... أبي الكرام" (يو 15: 1، 5). وماذا يفعل الكرام؟ إنه يقوم بفلاحة حقله. فالله الآب كرام له حقل يقوم بفلاحته وينتظر منه ثمرًا. ويقول الرب يسوع المسيح نفسه أنه: "غرس كرمًا... وسلمه إلى كرامين"، هؤلاء ملتزمون بتقديم الثمار في أوانها]. كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفمتعليقًا على قول الرسول:["فإننا نحن عاملان مع الله وأنتم فلاحة الله، بناء الله" (1 كو 3: 9)... الحقل لا يُنسب لمن يزرع فيه بل لمالكه]. 2. كلمة "بعل" تعني "سيد" أو "ملك"، "هامون" تعني "الجموع". وكأن كرم السيد المسيح، ملك السلام، إنما هو جموع البشرية... يصير ملكًا لهذه الجموع ليدخل بهم إلى سمواته. 3. لقد سلم الرب هذه الكرم لكرامين... "دَفَعَ الْكَرْمَ إِلَى نَوَاطِيرَ" لكنه لا يكف عن أن يعتني بالكرم بنفسه ويهتم به في محبة شديدة، إذ يقول "كرميّ الذي ليّ هو أمامي". يحرسه بنفسه ليلا ونهارًا (إش 27: 1-3)، لا يبخل عليه بشيء، حتى في عتاب يقول: "احكموا بيني وبين كرمي: ماذا يصنع أيضًا لكرميّ وأنا لم أصنعه له؟!" (إش 5: 3-4). 4. ما هو الثمر الذي يطلبه ملك السلام؟ "كُلُّ وَاحِدٍ يُؤَدِّي عَنْ ثَمَرِهِ أَلْفًا مِنَ الْفِضَّةِ". هذا ما يطلبه من الكرامين أن يقدم الكل ألوفًا، لأن الألف تُشير إلى السماء والحياة السماوية. فالله لن يقبل من الخدام إلاَّ الثمر الروحي السماوي. هذا هو عمل الكنيسة ورسالة خدام الكلمة... أن يدخلوا بالمخدومين إلى الحياة السماوية. 5. إن كان الثمر يُقدم لحساب السيد المسيح فما هو نصيب الخدام؟ "الأَلْفُ لَكَ يَا سُلَيْمَانُ وَمِئَتَانِ لِنَوَاطِيرِ الثَّمَرِ". وربما قصد بالمئتين أن يكون مئة لرجال العهد القديم ومئة لرجال العهد الجديد، فالثمر كثير يتمتع به كل الخدام في العهدين. لهذا يقول الرسول بولس لشعبه: "يا سروري وإكليلي" (في 4: 1). 6. إذ تعمل الكنيسة في كرم الرب، ويدرك العاملون أنهم يعملون لحساب السيد المسيح الذي له "الألف" وأيضًا لحساب أنفسهم فلهم "المئتان" يصيرون كمن هم في وسط الجنات. يتحول الباب الضيق والطريق الكرب إلى نير هين وحمل خفيف. يعيشون وهم على الأرض كمن في فراديس مفرحة، لذا يُناجي الرب عروسه قائلًا: "أَيَّتُهَا الْجَالِسَةُ فِي الْجَنَّاتِ، الأَصْحَابُ يَسْمَعُونَ صَوْتَكِ، فَأَسْمِعِينِي". صوت حبك لم يعد مكتومًا، بل يسمعه الذين على الأرض كما يفرح به السمائيون... والآن تعالي إلى لكي أسمع صوتك العملي المفرح، تعالي "رثي الملكوت المعد لكِ منذ إنشاء العالم". إنها كلمات عريس يفرح قلب عروسه، ويؤكد لها أن ما تصنعه تنال ثماره على مستوى أبدي. أما هي فتُجيبه بالفرح قائلة: "اُهْرُبْ (اسرع) يَا حَبِيبِي وَكُنْ كَالظَّبْيِ أَوْ كَغُفْرِ (صغير) الأَيَائِلِ عَلَى جِبَالِ الأَطْيَابِ". لقد سبق فرأينا لماذا تُشبه الكنيسة عريسها بالظبي وبأصاغر الأيائل... هنا تستجيب لدعوته قائلة أسرع إليّ وتعالى فإنيّ مشتاقة إليك... إن كنت تدعوني أن ألتقي بك لتسمع صوتي، فأنا أيضًا محتاجة أن ألتقي بك. ولعل مجيئه مسرعًا على جبل الأطياب يذكرنا بالأطياب التي كُفن بها السيد، فإنه يلتقي معها خلال دفنها معه... إذ تموت معه كل يوم، لكي تحيا معه إلى الأبد. هذا هو ختام النشيد... وكأنها تُردد ما قالته العروس في سفر أبوغلامسيس (الرؤيا): "آمين. تعال أيها الرب يسوع"! |
||||
08 - 01 - 2025, 05:43 PM | رقم المشاركة : ( 183109 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
لا يزالون يخفون وجوههم مِن بهاء عظمته. |
||||
08 - 01 - 2025, 05:47 PM | رقم المشاركة : ( 183110 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ. |
||||