|
رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 127 (126 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير عبادة الله باني البيت وحافظه كانت أنظار اليهود في أورشليم تتركز على هيكل سليمان بكونه بيت الرب الذي ما كان يمكن تقديم ذبيحة مقدسة مقبولة لدى الله إلا فيه. كان الهيكل هو مركز العبادة المقدسة في العهد القديم، ومركز فرح وتهليل المؤمنين. لقد اشتهى داود النبي أن يبنيه، فأخذ وعدًا من الله أن يقوم ابنه ببنائه. لكن في الحقيقة الذي قام ببنائه وحفظ مدينة أورشليم التي تعتز بالبيت هو الله نفسه. هكذا يشتاق المؤمن أن يعمل الله فيه، فيقيم هيكلًا جديدًا في قلبه، كبيتٍ إلهيٍ سماويٍ، ليس من عملٍ بشريٍ، بل هو عمل الله خلال مؤمنيه. الرب هو باني البيت الروحي وحافظه، وهو واهب الراحة والسلام، ومعطي البنين كجبابرة بأسٍ. يدعونا الرب إلى خبرة الحياة السماوية، فجوهر العبادة هو إقامة بيت روحي للرب في القلب، فتتحرر أرض قلبنا من اللعنة، ولا تنبت شوكًا وحسكًا، بل تصير سماءً جديدة متهللة بالرب. إنه يعمل في النفوس الجادة غير المتكاسلة ولا مهملة ولا متواكلة، لكن يبقى الرب نفسه هو العامل فينا وبنا. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الحديث هنا يكشف عما حدث عند العودة من السبي إلى أورشليم، فقد وُجدت مقاومة شديدة، واستغرق بناء الهيكل الكثير من السنوات. هذا ما أشار إليه اليهود عندما قالوا: "في ست وأربعين سنة بُني هذا الهيكل" (يو 2: 20) لم يتحدث اليهود هنا عن بنائه في أيام سليمان، وإنما في ذهن الذهبي الفم أنه عن بنائه بعد السبي، غير أن بعض الدارسين يرون الحديث هنا عن بنائه في أيام هيرودس. بني الهيكل في 46 عامًا، ويرى البعض أنه قد بدأ في أيام هيرودس حوالي عام 20/19 ق.م. فيكون قد انتهى البناء منه في حوالي 28 م. ويرى آخرون أنه قد بدأ هيرودس الكبير إعادة بنائه في السنة الثامنة عشر من ملكه[1] وانتهي من العمل الرئيسي في تسع سنوات ونصف، لكن تمت إصلاحات وإضافات للمبنى استمرت إلى سنوات طويلة. بدأ هيرودس العمل في السنة ١٦ قبل ميلاد السيد، والحديث هنا في السنة الثلاثين من ميلاده. فكأن عمر المبنى القائم ٤٦ عامًا. وقد استمر البناء بعد ذلك. موضحًا بذلك البناء الأخير للهيكل لأن بناءه الأول كمل على مدى عشرين سنة. وكأنه مع بداية خدمة المسيح كان اليهود في أكثر لحظات اعتزازهم بالهيكل المبني حديثًا. 1. الرب باني البيت وحافظ المدينة 1. 2. الرب واهب الراحة 2. 3. الرب واهب الأبناء الجبابرة 3-5. من وحي المزمور 127 1. الرب باني البيت وحافظ المدينة تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ. لِسُلَيْمَانَ إنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ، فَبَاطِلًا يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ. إِنْ لَمْ يَحْفَظِ الرَّبُّ الْمَدِينَةَ، فَبَاطِلًا يَسْهَرُ الْحَارِسُ [1]. تجسد كلمة الله وتأنس، لكي يحل بالإيمان في قلوبنا (أف 3: 17)، ينزع عن أرضنا الداخلية اللعنة، وعِوَض الشوك والحسك ينبت الحق (مز 85: 11). بقيامته بنى نفوسنا كهيكلٍ مقدسٍ له. ووهبنا روحه القدوس ساكنًا فينا. حقًا باني الكل هو الله (عب 3: 4)، و"نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع" (أف 2: 10). كان اليهود يفتخرون ببناء الهيكل الذي شيده سليمان، وكان يُحسب أحد عجائب الدنيا السبع، ويراه اليهود أنه مركز الأرض كلها، مسكن الله وسط شعبه. أما ربنا يسوع فوجَّه نظرنا إلى قيامة جسده معلنًا أنه في ثلاثة أيام يقيمه (يو 2: 19-22). لا يتجاهل ربنا يسوع تعب البنَّائين، لكنه يؤكد أنه لا يتحقق البناء بدونه. فبدون النعمة الإلهية تصير كل مجهوداتنا باطلة، وقد تكررت كلمة "باطل" ثلاث مرات في هذا المزمور الموجز. الرب هو الخالق الذي وحده له القدرة على بناء بيته في أعماق قلوبنا، وبعنايته بنا يحفظنا كمدينته المقدسة، ويهبنا ثمار الروح القدس (الأولاد)، لكن ليس في حياة المستهترين والمتراخين. بنى قايين مدينة باسم ابنه، وأراد البعض بناء برج بابل، وأحاط أهل أريحا مدينتهم بأسوار حصينة، لكن لأن كل هذه الأعمال بدون مسرة الله لم تدم. لهذا يقول المرتل: "إن لم يحفظ الرب المدينة، فباطلًا يسهر الحراس". المدينة هنا تشير إلى الجماعة الكنسية التي تحتاج إلى حماية إلهية من الشرور المتنوعة، والمخاطر التي تهددها، والناس الأشرار، لكن باطلًا يسهر الحارس إن لم يحرس الرب المدينة. فبمعزل عنه لا نجد عونًا ولا حماية ولا بركة. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله سمح بالمقاومة وامتدادها لمدة طويلة لكي يدرك الراجعون أنهم محتاجون إلى معونة الله حتى بعد تحررهم من السبي البابلي. يرى القديس أغسطينوس أنه كما لا يستطيع الجسد أن يعمل بدون الروح، هكذا لا يستطيع الإنسان أن يعمل بدون نعمة الله، فهو الذي يبني البيت بنا ويحرس المدينة. ويقولالقديس يوحنا كاسيان بأن الآباء النساك الأولين يرون أن من مبادئ السيرة الروحية أنه من المُحال أن يقتني أحد نقاوة القلب أو كمال الفضيلة ما لم يؤمن أولًا بأن اجتهاده كله وأتعابه جميعها ليست بكافية فيما يطلبه، بل هي باطلة بدون معونة الله ونعمته، فهو وحده واهب الخير. * مهما كنت أيها الراعي حذقًا ويقظًا في عملك، فلا يمكنك أن تنسب النجاح إلى خدمتك وإلى قوتك الشخصية واجتهادك في العمل. إذ أن الرب هو الذي يحفظ النفوس وحده، ونعمته تسهر عليها[2]. * "إن لم يحرس الرب المدينة فباطلًا سهِرَ الحراس" (مز ١٢7: ١)... إنَّنا نحرسكم في عملنا كوكلاء لله، لكنِّنا نحن أيضًا نود أن يحرسنا معكم. إننا كما لو كنَّا رعاة بالنسبة لكم، لكنِّنا أيضًا في رعاية الله، إذ نحن خراف زملاء لكم. إننا معلِّمون بالنسبة لكم، لكنِّنا بالنسبة لله فهو السيِّد الواحد، ونحن زملاء لكم في مدرسته. إن أردنا أن يحرسنا الله الذي تواضع من أجلنا وتمجَّد لكي يحفظنا. فلنتَّواضع نحن أيضًا. فلا يحسب أحد أنه شيء، فإنَّه ليس لأحدٍ شيء صالح ما لم يكن قد أخذه من الله الذي هو وحده صالح. * هذا هو البيت الذي نبنيه بالحياة الفاضلة الحية، والذي يبنيه الله بمعاونته لنا لكي نحيا في حياة فاضلة، إذ "إن لم يبنِ الرب البيت فباطلًا يتعب البناؤون" (مز 127: 1)[3]. القديس أغسطينوس * لاحظوا إننا نقول بأنه ليس شيء ما يتم بدون عنايته ولم نقل بدون إرادته؛ فقد تحدث أمور كثيرة بخلاف إرادته، لكن أمرًا ما لا يتم بدون عنايته التي بها يهتم ويوزع ويقسم الأنصبة، ويمنح ويتمم كل ما يحدث[5]. * نتعلم من هذا (مز 127: 1) أنه ليس لأن الله هو الذي يبني، يجلس الإنسان خاملًا، وأن الله يبني له البيت. وإنما لأنه يعمل ويهتم قدر إمكانياته البشرية، لكن الله يزيل كل العقبات ويتمم العمل. هكذا يدعى الإنسان للعمل قدر ما يستطيع في جديةٍ، لكن الله هو الذي يكلل العمل بالنجاح. لهذا يليق بالإنسان بحقٍ وفي تقوى أن يترك إتمام عمله لله، وليس لإنسانٍ بشريٍ آخر. على هذا بولس غرس، وأبولس سقى، والله هو الذي كان ينمي، إذ ليس الغارس شيئًا، ولا الساقي، بل الله الذي ينمي (1 كو 3: 6-7). بنفس الطريقة يمكننا القول إن هذا يعتمد لا حسب مشيئة إنسان أو جهاده إنما على مراحم الله[6]. العلامة أوريجينوس القديس يوحنا سابا القديس أبا مقاريوس الكبير القديس أمبروسيوس القديس أوغريس القديس لكتانتيوس القديس جيروم القديس ديديموس الضرير يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس في قدرة نفس بشريّة أن تحفظ أمورًا عظيمة كهذه؛ لماذا؟ لأنه يوجد لصوص كثيرون يتربصون لها، وظلمة كثيفة، وشيطان على الأبواب يدبر خططًا ضدها! كيف إذن يمكننا أن نحفظها؟ بالروح القدس؛ بمعنى إن كان الروح ساكنًا فينا، إن كنا لا نطرد النعمة يقف (الله) معنا. فإنه "إن لم يبن الرب البيت فباطلًا يتعب البناؤون، وإن لم يحرس الرب المدينة فباطلًا يسهر الحراس" (مز ١٢٧: ١). هذا هو حصننا، هذه هي قلعتنا. هذا هو ملجأنا! إن كان الروح ساكنًا فينا وهو حارسنا، فما الحاجة للوصية؟ لكي نتمسك بالروح، ولا نجعله يهجرنا[14].] * لقد ذهب بولس إلى هنا وهناك كطائرٍ ذي أجنحة. وبفمٍ واحدٍ (بالتبشير) حارب ضد العدو... كان الخيام (بولس) أقوى من الشيطان... إذ نال العربون، وحمل خاتم الزواج. رأى كل البشر الله قد خطب طبيعتنا، ورأى الشيطان ذلك وتقهقر. رأى العربون (الروح القدس) وارتعب منسحبًا، رأى ملابس الرسل فهرب (أع ١٩: ١١). يا لقوة الروح القدس. لقد أعطى سلطانًا لا للروح ولا للجسد فحسب، بل وللثوب أيضًا، وليس فقط للثوب بل وللظل[15]. القديس يوحنا الذهبي الفم 2. الرب واهب الراحة بَاطِلٌ هُوَ لَكُمْ أَنْ تُبَكِّرُوا إِلَى الْقِيَامِ مُؤَخِّرِينَ الْجُلُوسَ، آكِلِينَ خُبْزَ الأَتْعَاب. لَكِنَّهُ يُعْطِي حَبِيبَهُ نَوْمًا [2]. يترجمها البعض: "باطل هو أن تبكروا (قبل الفجر)"، لذا يرى البعض أنه يليق بالمؤمن ألا يتعجل الزمن، فلا يظن أنه يتمتع بالمكافأة وسط ظلمة الحياة الزمنية، إنما يترقب بزوغ فجر الأبدية، حيث يتمتع بالنور الأبدي، ويرى الله وجهًا لوجه. لنسلك برجاء في إشراق الأبدية، ونتمتع بشركة المجد الأبدي في حينه. مسيحنا بقيامته في فجر الأحد وهبنا الحياة المُقامة، وهبنا الراحة الحقيقية، فهو يعطي حبيبه نومًا، ليس نوم الكسل والتراخي، بل يعني بالنوم الأمان والسلام الداخلي وعدم القلق. وقد نام الابن الحبيب الوحيد على الصليب كأسدٍ غالبٍ، محطمًا قوة الشيطان. كما نام أيضًا في السفينة وسط عاصفة ليهبنا سلامه وسط عواصف هذه الحياة. باطلًا يتعب الإنسان إن ظن أنه قادر أن يتمتع بالراحة قبل قيامة رب المجد، وإشراق شمس البرّ علينا. لقد أراد سمعان بطرس أن يبكر قبل قيامة المسيح، قائلًا: "إني أضع نفسي عنك"، فرفض السيد ذلك وحسبه باطلًا، قائلًا له: "اذهب عني يا شيطان" (مت 16: 23). خلق الله الإنسان محبوبه ليشاركه مجده، وليكون في سلامٍ. هكذا يدعو المرتل الإنسان "حبيب الله". * انهضوا من بعد جلوسكم، أي قوموا من بعد موتكم... لأن الرب قام عنا (بموته)، ثم قام ليعطينا أن نقوم على مثاله. بقيامته أعطانا عزاءً وراحة[16]. * لم ينهض الرب قائمًا من بين الأموات إلا بعد أن أعطى أحباءه نومًا، لأن هؤلاء الذين ماتوا كانوا على الرجاء، فجاء الرب وحقق رجاءهم بقيامته، وحوَّل موتهم إلى رقادٍ (نومٍ) سوف يعقبه يقظة أبدية، وهكذا نرقد على الرجاء[17]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا كاسيان القديس يوحنا الذهبي الفم 3. الرب واهب الأبناء الجبابرة هُوَذَا الْبَنُونَ مِيرَاثٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ، ثَمَرَةُ الْبَطْنِ أُجْرَةٌ [3]. كان العبرانيون يحسبون البنين بركة من قِبَل الرب: "مباركة تكون ثمرة بطنك" (تث 28: 4)، "ويزيدك الرب خيرًا في ثمرة بطنك" (تث 28: 11). إن كان البنون حسب الجسد هم هبة من قبل الرب، فبالأكثر البنون الذين يتمتعون بنعمة التبني كأبناء لله هم عطية الرب. * الكنيسة أيضًا أمنا الحبيبة تلد بنين صالحين. تأملوا كيف تلد. إنها تلد بالمعمودية التي هي رحم الكنيسة لكي كل من يريد أن يُولد من جديد يدخل بطن أمه ثانية ويولد منها. هذه المعجزة لم يقدر نيقوديموس معلم إسرائيل أن يفهمها[20]. القديس أغسطينوس في رسالة لتعزية السيدة سالفينا Salvina في انتقال رجلها، استخدم القديس جيروم هذه العبارة، قائلًا لها: [عوض زوج واحد، تقبلتِ طفلين، وبهذا فإن عاطفتكِ تكون أكثر موضوعية عن قبل[21]].كَسِهَامٍ بِيَدِ جَبَّارٍ، هَكَذَا أَبْنَاءُ الشَّبِيبَةِ [4]. إذ يقدم السيد المسيح روحه القدوس كسيفٍ خارج من فمه أو كسهمٍ إلهي يجعل من مؤمنيه حاملي روحه "كسهامٍ بيد جبارٍ، هكذا أبناء الشبيبة" [4]. يرى القديس أغسطينوس أن أبناء الشبيبة الذين هم كالسهام بيد جبارٍ، هم التلاميذ والرسل الذين صوبهم السيد المسيح حين أرسلهم مبشرين كالسهام، وشتتهم في كل الأرض. انطلقوا كأنهم قُذفوا بيد جبارٍ وهو الله. "إلى كل الأرض خرج صوتهم، وإلى أقاصي المسكونة أقوالهم" (رو 10: 18). دُعوا أبناء الشبيبة، لأنهم كرزوا بروح القوة، ولم يُصبهم ضعف الشيخوخة حتى النفس الأخير، إذ كان الروح القدس يجدد مثل النسر شبابهم. كما يرى القديس أغسطينوس أن هذا القدير (الجبار) الذي يطلق سهامه بيده نحو الأرض كلها هو المخلص نفسه الذي قيل عنه: "اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض مُلكًا لك" (مز 2: 8) * كيف يمتد هذا المُلك، ويزداد في أقاصي العالم؟ لأنه: كسهامٍ بيد القدير (الجبار)". تنطلق الأسهم من القوس، وكلما كانت اليد قوية تطير الأسهم إلى أماكن أبعد. أية سهامٍ أقوى من تلك التي للرب. فمن القوس أطلق رُسله. ولم يُترك موضع لم تنطلق إليه الأسهم بيدٍ قديرةٍ كهذه، ولم تبلغ إليها. لقد بلغت إلى أقاصي الأرض... الرسل أبناء الأنبياء كانوا مثل سهام في يد القدير. إذ هو القدير، فقد صوبها بيدٍ قديرة بلغوا إلى أقاصي الأرض[22]. القديس أغسطينوس * السهام مرعبة، لكن ليس في ذاتها، وإنما عندما يمسك بها إنسان قوي، يقتل بها مهاجميه، هكذا يكون هؤلاء[23]. القديس يوحنا الذهبي الفم لاَ يَخْزُونَ بَلْ يُكَلِّمُونَ الأَعْدَاءَ فِي الْبَابِ [5]. كانت المحاكمات تُقام غالبًا عند باب المدينة. ولعله هنا يقصد باب الفردوس، كما يقول القديس جيروم[24]، حيث لا يُوجد ما يشتكي به العدو على المؤمنين الحقيقيين في الغردوس. هؤلاء الذين كرزوا بروح القوة لم يخشوا المقاومة، بل كانوا يكلمون الأعداء في الباب. هذه كانت عادة الملوك الأقوياء الذين لا يخشون الأعداء، فمتى أُرسل إليهم سفراء من قِبَل الأعداء لا يسمحون لهم بالدخول من أبواب المدينة، بل يرسلون لهم من يلتقي بهم خارج باب المدينة. الجعبة: هي وعاء توضع فيه السهام (إش 49: 2)، يحمله رماة السهام على ظهورهم، وفتحته إلى الكتف اليمنى متى كانوا مشاة. أما إذا كانوا في مركباتهم، فكانوا يعلقونها بجانب المركبة. يرىالقديس أغسطينوسأنجعبة التلاميذ أو الرسل هي عقولهم المقدسة، والسهام هي كلمة الله، أما الأعداء فهم أعمال إبليس الشريرة والمقاومة لكلمة الله. كما يرى أن الذي يملأ جعبته أو رغبته منهم، هم الذين لا يشتهون العالم وغناه، وإنما يشتهون الإيمان الحي الذي يكرز به الرسل. أما الباب هنا فهو السيد المسيح الذي قال: "أنا هو الباب" (يو 10: 9)، الذين يقبلون كرازة الرسل يدخلون منه إلى المدينة، أما الذين يرفضون كرازتهم به فيبقون خارج المدينة، حتى يُغلق الباب. يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أنه لا يليق بالمؤمن أن يسمح للأعداء، أي الأفكار الشريرة، أن تدخل إلى مدينته أي فكره أو قلبه، بل يقاومها قبل أن تتسلل إلى أعماقه. * يرى الجامعة أن الثروات تُحفظ للشر بالنسبة لمن يقتنيها، لأن فقدانها يسبب له قلقًا عظيمًا للغاية وعدم سلام. بالحقيقة إنها تُفقد، لأنها تُترك هنا، وتصير بلا نفع للذي هو ميت. لهذا فإن الإنسان الميت قد شعر بقلقٍ من جهتها ولم يجد راحة. لقد ترك ما قد يسبب له خزيًا، ولا يقدر أن يأخذ معه ما لم يقدر أن يحفظه (لو 12: 20-21). إنه بعيد للغاية من ذاك الذي كُتب عنه: "طوبي للذي ملأ جعبته منهم. لا يخزون، بل يكلمون الأعداء في الباب" (مز 127: 5). ميراثه هو الرب، مكافأته هي نسل العذراء مريم، وهو يُمجد بالتسابيح الصادرة عن الحكمة[25]. القديس أمبروسيوس القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي المزمور 127 لتقم هيكلك في محبوبك! * من كان يظن أن هيكل سليمان بكل عظمته يُهدم؟ لكن ما يُبنى بالأيادي، بالأيادي البشرية يُهدم، أما ما يبنيه رب الجنود، فيتحدى الزمن، ويخلد إلى الأبد. لتمد يدك، وتقيم هيكلك فيّ. فلا يقدر عدو أن يقترب إليه، ولا الزمن أن يحطمه. * نزلت يا مخلصي إلى أرضنا. لا لتردنا إلى جنة عدن المفقودة، بل تقيم منا جنة روحية سماوية. بروحك القدوس تقيم منا هيكلًا مقدسًا. فيُسمع في داخلنا صوت الفرح والتهليل. * ليحرسني روحك الناري، ويقودني إلى ملكوتك الأبدي، تدخل أيها المحبوب في قلبي العزيز جدًا لديك، تقيم فيه وتستريح، إذ تستريح أستريح أنا أيضًا بك وفيك، تعطي حبيبك نوم الراحة الأبدية. * بقيامتك حطمت الموت، ووهبتنا الحياة المُقامة. جعلتنا أحباء لك، تهبنا الراحة الحقيقية. صارت حياتنا سبتًا لا ينقطع. مادمت في داخلنا، يحل سلامك علينا وفينا! * أنت باني البيت وحارس المدينة. نعمتك تعمل فينا وتحوط حولنا. تصير كسور نارٍ، لا تقدر سهام العدو أن تخترقه. * وهبتنا ثمر الروح كبنينٍ مباركينٍ، أقمت منا شهودًا لك نجتذب نفوسًا إليك. ويتذوق الكثيرون عذوبة البنوة لك. * سكناك تحول بريتي إلى جنة مثمرة. تمتلئ حبًا وفرحًا وسلامًا وصلاحًا. يمتلئ قلبي كما عقلي بسهامك الجبارة. تصير كلمتك الفعّالة قائمة في داخلي. فلا يجرؤ عدو الخير أن يقرع باب قلبي! * يقف إبليس وكل قوات الظلمة في خزي، إذ لا موضع لهم فينا في حضورك، يا أيها القدوس! لأنك وأنت الغيور مقيم فيّ! |
15 - 04 - 2014, 04:36 PM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 128 (127 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير عبادة الأسرة المباركة في المزمور السابق تطلع المرتل إلى بيت الرب، فانجذب إلى الرب باني البيت المقدس، وحافظ مدينته المقدسة، واهب الراحة الحقيقية لأحبائه مع ثمار فائقة. الآن يتطلع المرتل إلى المتعبدين للرب أنفسهم، فيراهم أسرة واحدة ذات سمات معينة، تمارس حياة مطوَّبة، أي لها سمة سماوية. في هذا المزمور تتهلل نفس المؤمن مسبحًا الله، الذي أقام أسرة بهذه الصورة الشبه سماوية، وفي نفس الوقت يتمتع المؤمن نفسه بأسرة مقدسة في الرب. هنا يقدم المرتل وصفًا رائعًا للأسرة السعيدة التي تقوم على خوف الرب، ومن ثم تسلك في سيرة صالحة، في طريق الرب. هنا يتمتع المؤمن بما حققه من عمله وثماره فيكون على صورة سيده ومخلصه رب أسرة متهللة وهو نفسه مطوب ومغبوط. يصير المؤمن أشبه بالسيد المسيح الذي له عروسه الكنيسة تكرمه تحمل أغصانًا مثمرة (أي أولادها). هذا بالنسبة للرجل كما المرأة حيث يصير الكل كنيسة صغيرة مقدسة مملوءة من ثمر الروح. 1. أعضاء الأسرة المطوّبة 1. 2. أسرة عاملة 2. 3. أسرة مثمرة 3-4. 4. حياة كنسية سماوية 5. 5. حياة ممتدة مملوءة سلامًا 6. من وحي المزمور 128 1. أعضاء الأسرة المطوّبة تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ طُوبَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّقِي الرَّبَّ، وَيَسْلُكُ فِي طُرُقِهِ [1]. يصعب جدًا ترجمة كلمة "طوبى"، فإنها لا تعني مجرد: "يا لسعادة"، وإنما تعني تذوق عربون الحياة السماوية المطوَّبة، التي تقدم فرحًا داخليًا، وسلامًا فائقًا، لا يعتمد على عطايا أو إمكانيات زمنية، بل على الدخول في دائرة الأبدية. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن كلمة "مطوّب" فيها كل الكفاية، لأنها تمثل حالًا مستقرًا، أما العطايا الأخرى، أيا كانت من غنى أو كرامة أو كثرة الإنجاب الخ.، فجميعها يمكن أن تزول. من جانب آخر كان يوسف الشاب مطوبًا تحت كل الظروف، حينما بيع وصار غريبًا، كما صار عبدًا ثم سجينًا. هذه جميعها لم تفقد سمة الطوبى، إذ كان يتقي الله، يسلك في طرق الله. فلا يكفي الإيمان وحده دون مخافة الرب والسلوك في وصاياه. سمة أعضاء هذه الأسرة مخافة الرب أو ما ندعوه بالتقوى، وهي سمة تمس الأعماق الداخلية، حيث يدرك المؤمن بنوته لله، فيحمل نوعًا من مخافة الابن أو الابنة نحو الأب المحبوب جدًا. هذه المخافة تُترجم خلال السلوك العملي والطاعة للوصية الإلهية. علامة مخافة الرب أن يسلك المؤمن في طرق الرب. وكما قيل: "قفوا على الطرق، واسألوا عن السبل القديمة: أين هو الطريق الصالح وسيروا فيه" (إر 6:16) فمع كثرة الطرق أو السبل المستقيمة يحمل الكل روحًا واحدًا، فتدعى جميعها "الطريق الواحد الصالح" إذ هي إتحاد في المسيح "الطريق" الواحد. لكن المسيح الواحد وهو طريقنا للدخول إلى حضن الآب قدم طرقًا كثيرة للحياة معه، فيستطيع الإنسان التقي المتزوج أن يتمتع به، وأيضًا البتول. كما أن لكل مؤمنٍ موهبة خاصة، هذا في التعليم، وذاك في العطاء، وثالث في الصلوات الدائمة الخ. بقوله "كل" يرى المرتل بعين النبوة ما تحقق في العهد الجديد حيث انفتح باب الإيمان لكل الأمم، فالدعوة موجهة للجميع كي يقبلوا السيد المسيح واهب المخافة الربانية، وحاملنا في الطريق السماوي. بقوله "الكل" يفتح الباب لكل إنسانٍ، بغض النظر عن مركزه أو إمكانياته أو عمره أو ظروفه الاجتماعية. فالله محب كل البشر، يود أن يضم كل إنسانٍ إلى هذه الأسرة الممتدة من آدم إلى آخر الدهور. * الشخص الذي يخاف الله هو متحرر من هجمات الموجات العظيمة، ويستريح في هدوءٍ، في ميناءٍ آمنٍ، يحصد مكافآت التطويب الحقيقي. لهذا فإن الكاتب الملهم بوحي إلهي تجاهل كل هذه الأمور الأخرى ليعلن فقط أنه مطوّب. * لاحظوا أنه يبدأ هنا من حيث انتهى هناك (في المزمور السابق)، إذ يعلن أنهم مطوبون في هذه النقطة حيث لا يخزون، لأن الله حليف لهم، يقف في جانبهم، هكذا يبدأ هنا أيضًا بهذا بالقول: "طوبى لكل من يتقي (يخاف) الرب". مرة أخرى يضع ملاحظاته في تطبيقه العملي، مبتدأ بأن "الكل حسن". إن كنت عبدًا، سيدًا، فقيرًا، مقعدًا، أيا كان حالك، ليس شيء من هذه الظروف يحرمك من الطوباوية المُشار إليها[1]. * كثيرون لهم إيمان حقيقي لكن حياتهم فاسدة، وهم بالأكثر بائسون أكثر من كل أحدٍ[2]. * "يسلك في طرقه"... بهذا الطريق في الحقيقة يمكنه أن يرتفع إلى السماء، ويقتني المدينة الأم، ويرى الله نفسه قدر ما يمكن للإنسان أن يراه. هذه تدعى طُرق الله، لأن خلالها يمكن البلوغ إلى الله. لم يقل "طريق" بل "طرق" مظهرًا أنها كثيرة ومتنوعة. جعلها كثيرة بقصد أن يجعل اقترابنا سهلًا بطرق كثيرة عظيمة، أقصد أن البعض بارزون في البتولية، وآخرون في السمو في الحياة الزوجية، وآخرون يحتملون الترمل كزينة لهم، وآخرون يجردون أنفسهم من كل شيءٍ، وآخرون من نصف الأمور، وآخرون يسلكون حياة بلا لوم (عادية)، وآخرون بالتوبة، جعل هناك طرق كثيرة حتى يمكن السفر بسهولة... احتمل هذا كله بشكرٍ، فتحصد مكافأة عظيمة[3]. القديس يوحنا الذهبي الفم طبقًا لهذا المبدأ يمدح الكتاب المقدس من يخاف الله قائلًا: "طوبى لكل مَن يتَّقى (يخاف) الرب، ويسلك في طرقهِ" (مز 1:128)، واعدًا إياهم بسعادة سماوية. ومع هذا يرجع فيقول: "لا خوفَ في المحبَّة، بل المحبَّة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج، لأن الخوف له عذاب، وأما من خاف فلم يتكمَّل في المحبَّة" (1 يو18:4). مرة أخرى بالرغم من أن عبادة الله بخوفٍ شيء عظيم وقد قيل: "اعبدوا الربَّ بخوفٍ" (مز 11:2)، و"طوبى لذلك العبد الذي إذا جاءَ سيّدهُ يجدهُ يفعل هكذا" (مت 46:24)، إلا أنه قيل للرسل: "لا أعود أسمّيكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيدهُ، لكني قد سمَّيتكم أحبَّاءَ، لأني أَعلمتكم بكلّ ما سمعتهُ من أبي" (يو 15:15). مرة أخرى يقول: "أنتم أحبَّائي إن فعلتم ما أوصيكم بهِ" (يو 14:15). ترون إذن أن هناك درجات مختلفة من الكمال، وأن الرب يدعونا من الأشياء السامية إلى الأسمى بطريقة تجعل ذاك الذي صار مطوبًا وكاملًا في مخافة الله يسير كما هو مكتوب من قوَّةٍ إلى قوَّةٍ (مز 7:84)، أي من كمالٍ إلى آخر. بمعنى أن يصعد بغيرة الروح من الخوف إلى الرجاء، وأخيرًا إلى المحبة التي هي آخر مرحلة. فهذا الذي كان "العبد الأمين الحكيم" (مت 45:24)، يبلغ إلى مرحلة الصداقة ثم التبني كابن. من ثم يمكن فهم كلامنا بالمعنى التالي: إننا لا نقول إن الخوف من العقوبة المنتظرة أو رجاء الجزاء المبارك الذي وعد به القديسين ليس بذي قيمة، لكن وإن كان هذا نافعًا، إذ يدفع أولئك الذين يتبعونها للتقدم خطوة مباركة، إلا أنه في المحبة ثقة كاملة وفرح دائم، تبعدهم عن خوف العبيد ورجاء الأجير إلى محبة الله، وتجعلهم أبناء وتنقلهم من كمالٍ إلى كمالٍ أعظم[4]. الأب شيريمون * عندما أتحدث عن المسيحيين بصيغة الجمع أنهم واحد في المسيح الواحد. أنتم كثيرون ومع ذلك أنتم واحد. نحن كثيرون، ولكننا نحن واحد... لأننا نلتصق بالواحد، كأعضاء له، وإذ رأسنا في السماء، يمكن لأعضائه أن تتبعه... ليتنا نحن جميعًا الملتصقون بجسد المسيح نسلك في طرق الرب[5]. القديس أغسطينوس * كما أن مصباحًا يضيء حجرة مظلمة، هكذا مخافة الرب إذ تخترق قلب إنسان تنيره، معلِّمة إياه كل الفضائل ووصايا الله. أحد آباء البرية * ليتنا نخاف الرب ونُشيد منازل لأنفسنا، حتى نجد مأوى في الشتاء حيث المطر والرعد، لأن من لا منزل له يعاني من مخاطرٍ عظيمةٍ في وقت الشتاء. الأب دوروثيؤس 2. أسرة عاملة لأَنَّكَ تَأْكُلُ تَعَبَ يَدَيْكَ. طُوبَاكَ وَخَيْرٌ لَكَ [2]. جاءت في الترجمة السبعينية: "ستأكل ثمار أتعابك"، وكلمة أتعاب هنا تعني أعمال الإنسان، فإن ما يزرعه إياه يحصد (غل 6: 7). * في الوقت الحاضر لنا أتعاب، أما الثمار فستأتي فيما بعد. ولما كانت الأتعاب نفسها ليست بدون فرحٍ، وذلك من أجل الرجاء، الذي تحدثنا عنه منذ قليل. "فرحين في الرجاء" (رو 12: 12)، هذه الأتعاب عينها حاليًا تبهجنا، وتجعلنا فرحين في الرجاء... يوجد فارق بين الرجاء وتحقيقه. إن كان الرجاء عذبًا هكذا، فكم بالأكثر يكون تحقيقه أكثر عذوبة؟[6] القديس أغسطينوس * لماذا يضاعف البركة؟ لأنه يعرف عظمتها لهذا يجد مرحًا في الحقيقة[7]. * "من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا، ومن يزرع للروح، فمن الروح يحصد حياة أبدية" (غل 6: 8)... من يزرع في الجسد عهارة وسكرًا وشهوة بلا ضابط، يحصد ثمار هذه الأمور. ما هي ثمارها؟ عقوبة وجزاء وخزي وهزء وتحطيم... أما ثمار الروح فهي مضادة لذلك تمامًا. تأمل، هل بذرت صدقات؟ كنوز السماء ومجد أبدي تنتظرك! هل بذرت الاعتدال؟ تنتظرك الكرامة والمكافأة وتهليل الملائكة وإكليل من قبل الديان[8]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس يوحنا كاسيان القديس مرقس الناسك 3. أسرة مثمرة امْرَأَتُكَ مِثْلُ كَرْمَةٍ مُثْمِرَةٍ فِي جَوَانِبِ بَيْتِكَ. بَنُوكَ مِثْلُ غُرُوسِ الزَّيْتُونِ حَوْلَ مَائِدَتِكَ [3]. يشبه المرتل الإنسان المؤمن في أسرته المقدسة بغروس الزيتون الصغيرة المحيطة بالشجرة الأصل. فشجرة الزيتون تنتج ثمارًا طيلة خمسين عامًا تقريبًا، وتنبت أشبه بشجيرات أو فروع عند الجذر تحيط بها فتعينها وتزيد تماسكها وإنتاجها. ففي وقت الأزهار تمتلئ الشجرة بالزهر الأبيض، فتصير كرجل أشيب الشعر وتحيط حولها الأشجار الصغيرة. صورة جميلة جذابة للمؤمن، وقد أحاط حوله أولاده يسندونه ويعملون معه، ويعينون والديهم في عمرهم المتقدم[11]. يقول القديس جيروم يجب أن تفهم الزوجة والأبناء روحيًا، وإلا نتوهم أن الملائكة لا ينعمون بمثل هذه البركات، لأن ليس لهم زوجات ولا أبناء. فمن هي الزوجة الروحية؟ لقد تاق سليمان أن تكون له الحكمة زوجة (أم 4: 6، 8). * فلنتخذها نحن أيضًا زوجة لنا، ولنحتضنها (جا 2:8). لا ندعها تفارق أحضاننا، ولا تهرب من بين أذرعنا. فإن تلك العروس دائمًا في حضننا، فسننجب منها أبناء... أعني ما يقوله هنا: "بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك"... فالذي يتخذ الحكمة زوجة له ينجب منها أولادًا... كما تحمل الكرمة عناقيد كثيرة ولها جذر واحد، تضرب بأغصانها في اتساعٍ وازدهارٍ... هكذا الحكمة التي هي زوجتنا، إن لم ندعها تتركنا ولا تولد فينا عناقيد كثيرة أي فضائل عدة، وإرادة قوية مقدسة وأعمال شريفة كثيرة[12]. * من طبيعة زيت الزيتون أن يحفظ الأطعمة، ويشعل اللهب وينعش الجسم ويجدده بعد رحلة طويلة مرهقة، ويصلح ما فسد ويجدد ما قد تهلهل، فيرد الأصل عمليًا إلى ما كان عليه بعد دهنه بالزيت[13]. القديس جيروم * امرأته هنا قيلت بخصوص المسيح، وهي الكنيسة. امرأته هي نحن "مثل كرمة مثمرة"[14]. القديس أغسطينوس * في عبارات كثيرة للتعليم الإلهي... يشار إلى النساء من الجانب الإيجابي كما من الجانب السلبي. كمثال قيل... "امرأتك مثل كرمة مثمرة في جوانب بيتك، بنوك مثل غروس الزيتون" (مز 128: 3)... من الجانب السلبي يُقال: "لأن شفتي المرأة الشريرة تقطران عسلًا، وخدها أنعم من الزيت. لكن عاقبتها مُرة كالأفسنتين" (أم 5: 4)[15]. القديس ديديموس الضرير * دعنا نستمع ما تقوله الكرمة المزدهرة عن ثمارها، الكرمة الموضوعة في جوانب بيت الله، التي يقول النبي إنها مثمرة (مز 128: 3). إن الحياة الطاهرة الإلهية تمتزج بالحب. "طاقة فاغية حبيبي في كروم عين جدي". * سمع الكرام باِهتمام إلى الأوامر الإلهية مثل المرأة التي قال عنها داود، "امرأتك مثل كرمة مثمرة" (مز 128: 3). إنها رأت نفسها بعيدة عن القوة المدمرة لهذه الوحوش بواسطة قوة من أمرها، وفي الحال وهبت نفسها لراعيها الذي أزال الحائط الحاجز. فلا يحجز حائط الوصايا الاتحاد بينها وبين الواحد الذي ترغبه. وهي تقول: "أنا لحبيبي وحبيبي لي، الراعي بين السَوْسن. إلى أن يفيح النهار، وتنهزم الظلال أرجع وأشبه يا حبيبي الظبيْ أو غفر الأيائل على الجبال المشبعة" (نش 2: 17)، أي أنها عرفته وجهًا لوجه، الواحد الذي يعيش منذ الأزل، ومن أجل خلاصي جاء في صورة إنسان إني أستريح فيه وأسكن. لأنه هو الراعي الصالح الذي يرعى غنمه ليس بالعُشب بل بالنرجس النقي. حقيقة إنهم لا يتغذون على العشب، فالعشب هو الغذاء الصحيح للحيوانات الغير عاقلة، ولكن الإنسان عاقل ويتغذَّى على الكلمة الحقيقي. أما إذا اكتفى الإنسان بالعشب، فسوف يتحول إلى عشب "كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل" (إش 40: 6)، طالما هو جسد. أما إذا تحول الشخص إلى روح وولد من الروح، فلا يتغذى بعد ذلك على العشب، بل يتغذى على الروح، التي ترمز إليها بنقاء النرجس ورائحته الذكية. وسيتحول إلى نرجسة نقية وعَطرة، فلقد تغيّر حسب المادة الطيبة التي يأكلها. هذا هو اليوم الذي أرسل فيه أشعته إلى الأنام... وبواسطة نوره تختفي ظلال الحياة. ويُسرع هؤلاء الذين لم تُضأ عيون نفوسهم بواسطة نور الحق، وراء تلك الظلال. وهم يعتبرون الظلال، الباطلة كأنها حقيقة بينما ينظرون إلى الحق على أنه غير موجود. ولكن هؤلاء الذين تغذوا على النرجس، أي الذين نمت وترعرعت نفوسهم على تغذية عطره ونقائه، قد خلَّصوا أنفسهم من كل مظاهر الظلال والخداع التي يسعى الناس إليها أثناء هذه الحياة. لقد أصبحوا أولاد النور والنهار، وسوف يتعرفون على المادة الحقيقية للأشياء[17]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص * الحقل مملوء بالزهور. إنه مملوء بثمار متنوعةٍ. لتحرث حقلك إن أردت أن تُرسل إلى ملكوت الله. دع حقلك يزهر، ويثمر بالمكافاءات الصالحة. لتوجد كرمة مثمرة على جوانب بيتك وغروس زيتون حول مائدتك (مز 128: 3). لتدرك خصوبتها، دع نفسك يغرسها كلمة الله، ويحرسها مزارع روحي. قل للمسيح: "تعال يا أخي، لنخرج إلى الحقل" (راجع نش 7: 11). دعه يجيب: "دخلت جنتي يا أختي العروس، قطفت مري" (نش 5: 1). أي شيء أفضل من قطف الإيمان الذي به تُُخزن ثمرة القيامة ونبع الفرح الأبدي يتدفق؟[18]. القديس أمبروسيوس هَكَذَا يُبَارَكُ الرَّجُلُ الْمُتَّقِي الرَّبَّ [4]. * تحيا الفضيلة مع الإنسان الحكيم في اتحاد شرعي، حتى يمكن أن يلد منها ذرية مقدسة. ففي الحقيقة تلد الحكمة رجل تمييز (أم 10: 23). الإنسان الورع والمقدَّس يوجه إليه في الكتاب المقدس الكلمات: "امرأتك مثل كرمة مخصبة... بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك. هكذا يُبارك الرجل المتقي الرب" (مز 128: 3-4)[19]. القديس ديديموس الضرير [ 4. حياة كنسية سماوية ] يُبَارِكُكَ الرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، وَتُبْصِرُ خَيْرَ أُورُشَلِيمَ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ [5]. إذ يختبر المؤمن عضويته في الأسرة السماوية، لا يقدر العالم بكل أحزانه ومتاعبه أن ينزع عنه بركات الرب وصلاحه، بل تبقى مراحمه جديدة في كل صباح. [ 5. حياة ممتدة مملوءة سلامًا وَتَرَى بَنِي بَنِيكَ. سَلاَمٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ [6]. * إن كنتم قد تعلمتم شيئًا من عظتي أكون قد اعتنيت بأبنائي، وإن كنت قد علمت آخرين، فلنصلِ إلى الرب ليكون لنا أبناء وأحفاد، وأن تكون ذريتنا وفيرة. فلنسرع لننجب مثل هؤلاء الأبناء، فهذا اتحاد مقدس. وأنني أخبركم بما هو غريب، أن يولد مثل هؤلاء الأبناء بدون زوجة[20]. القديس جيروم من وحي المزمور 128 عجيب أنت في حبك للأسرة البشرية * أعطت البشرية ظهرها لك، وحملت فيها روح العداوة لك، والتغرب عنك، حسبت وصيتك قيدًا، والحياة معك حرمانًا! * ونحن أعداء، نزلت يا مخلصي لمصالحتنا. حملتنا فيك كطريقٍ عجيبٍ يحملنا إلى السماء. صيرتنا أسرة متهللة نمارس الحياة السماوية. عوض اللعنة التي حلت بنا، صرنا بك مطوبين. * حولت تعب العمل إلى العذوبة. وقدمت لنا خيرات من عندك يا إلهي. قدمت لنا الحكمة السماوية قرينةً لنا، تملأ جوانب البيت بثمار الروح العجيبة. * وهبتنا بنين مولودين لا من الجسد، بل بالروح، صاروا مغروسين في بيتك. قدمت لنا أبناء للبنين، وتبقى الأسرة ممتدة إلى يوم مجيئك. لك المجد يا من أقمت من المؤمنين أسرة مطوّبة |
||||
15 - 04 - 2014, 04:39 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 129 (128 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير مع المسيح صُلبت تبدأ المجموعة الرابعة من مزامير المصاعد، وهي تقابل سفر العدد حيث ينطلق الشعب في البرية متجهًا نحو كنعان. وقد التزمت المحلة أن تسير في شكل صليب، حيث تتشكل الأسباط كل ثلاثة معًا في اتجاه (الشرق والغرب والشمال والجنوب)، بينما يسير موسى وهرون وعشائر اللاويين في المنتصف أيضًا على شكل صليب. وكأنه لا عبور إلى أرض الموعد، رمز السماء بدون الصلب مع السيد المسيح. 1. الكنيسة المصلوبة 1-2. 2. المسيح المصلوب 3. 3. عشب السطوح 4-8. من وحي المزمور 129 1. الكنيسة المصلوبة تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ كَثِيرًا مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي. لِيَقُلْ إِسْرَائِيلُ: [1] منذ نشأت الكنيسة وهي تعاني من الضيق، أو بمعنى أدق يُوهب لها الضيق، الذي بدونه لا تقدر أن تتمتع ببهجة القيامة وبلوغ المجد الأبدي. يسرد لنا القديس أغسطينوس كيف احتملت الكنيسة منذ شبابها الضيق، فقدم لنا أمثلة حيَّة مثل هابيل ونوح والشعب قديمًا. ويرى الأنبياء في الشعب الخارج من أرض مصر الكنيسة في شبابها، كما جاء في إرميا وحزقيال: "قد ذكرت لكِ غيرة صباكِ، محبة خطيبكِ، ذهابك ورائي في البرية في أرض غير مزروعة" (إر 2: 2). "أما ميلادك يوم وُلدتِ فلم تُقطع سرتكِ، ولم تقمطي تقميطًا، لم تشفق عليكِ عين" (حز 16: 4-5). * تتحدث الكنيسة عن أولئك الذين احتملتهم، وكأنها قد سُئلت: "هل هذا يحدث الآن؟" تألمت الكنيسة منذ مولدها القديم، منذ دُعيت، منذ كانت على الأرض. ففي وقتٍ ما كانت الكنيسة في هابيل وحده، وقد حاربه أخوه الشرير الضائع قايين (تك 4: 8). وفي وقتٍ آخر كانت فيأخنوخ وحده، ونُقِل من أجل برِّه (تك 5: 24)، وفي وقتٍ كانت الكنيسة في بيت نوح وحده واحتمل كل الذين هلكوا في الطوفان، والفلك وحده طفا على الأمواج، وهرب إلى الشاطئ (تك 6-8)... وبدأ وجود الكنيسة في شعب إسرائيل، واحتملت فرعون والمصريين، ونحن جئنا إلى ربنا يسوع المسيح، وكُرز بالإنجيل في المزامير (مز 40: 5)... لهذا السبب لئلا يتشكك أحد في الكنيسة، هذا الذي يود أن يكون عضوًا صالحًا فيها، فليسمع الكنيسة نفسها أمه تقول له: لا تعجب من هذه الأمور يا ابني "كثيرًا ما ضايقوني منذ شبابي" [1][1]. * في الوقت الحاضر، حيث صار عمر الكنيسة كبيرًا لازالت تُقاوم، ليتها لا تخاف. هل فشلت في أن تبلغ السن الكبير لأنهم لم يتوقفوا عن محاربتها منذ شبابها؟ ليت إسرائيل (الجديد) نفسه يتعزى، لتعزي الكنيسة نفسها بالأمثلة القديمة[2]. القديس أغسطينوس كَثِيرًا مَا ضَايَقُونِي مُنْذُ شَبَابِي، لَكِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيَّ [2]. إن كان الضيق قد لازم الكنيسة منذ نشأتها حين كان أعضاؤها أحيانًا شخص واحد أو قلة قليلة، وفي كل عصر يتوقع البعض القضاء عليها تمامًا، لكن التاريخ كله يؤكد فشل الأعداء المقاومين لها بالرغم من كثرتهم وعنفهم وإمكانيتهم. يبقى التاريخ يفتح باب الرجاء أمام الكنيسة، ويؤكد لها أن نصرتها من قبل الرب فوق كل الحسابات البشرية. يقدم لنا القديس يوحنا الذهبي الفم مثلًا عمليًا لذلك، فقد سمح الله بالسبي البابلي، وامتد حوالي السبعين عامًا، ولم تكن هناك أية بوادر لرجوع الشعب وإعادة بناء الهيكل وتعمير أورشليم، لكن انتهت دولة بابل، وعاد الشعب. لقد ظنت بابل أن آلهتها أعظم من الله الحيّ، وأن عودة الشعب من السبي مستحيلة، ولم يدرك البابليون أن ما حدث ليس بسبب قوتهم وإمكانيتهم العسكرية، وإنما لتأديب إسرائيل الذي انحرف عن عبادة الله الحي. * بالرغم من أن الأعداء كثيرًا ما يهاجمون، لكنهم ليسوا أقوياء بما فيه الكفاية ليغلبوا، ولم يبلغوا قط النصرة القاطعة. لتأكيد ذلك قد أُخذوا أسرى، ونقلوهم إلى مناطق غريبة، وكسبوا معارك كثيرة... لم تكن نصرتهم بسبب قوتهم في ذلك الحين، وإنما بسبب خطية إسرائيل ولأسباب أخرى لم يستمروا كغالبين حتى النهاية. لم تكن لهم القوة في الحقيقة أن يزيلوا الجنس (اليهودي) تمامًا، ويحطموا المدينة بالكامل، ويزيلوا الشعب حتى آخر إنسانٍ، وإنما بسماح الله غلبوا إلى حين وبعد ذلك انهزموا. الآن كيف انهزموا؟ بعودة اليهود إلى رخائهم السابق[3]. القديس يوحنا الذهبي الفم 2. المسيح المصلوب عَلَى ظَهْرِي حَرَثَ الْحُرَّاثُ. طَوَّلُوا أَتْلاَمَهُمْ [3]. صورة بشعة لشر الأشرار، إذ يقومون بالحرث بمحراث على ظهر البار، بل ويطولون أتلامهم (ما تشقه سكة المحراث في الأرض)، لكي تصير الجراحات عميقة وممتدة. هذه الصورة تنقل إلينا العنف الذي كان يُمارس بالنسبة لمعاقبة العبيد والمجرمين حيث كانوا يُجلدون بأسواط بها قطع من الحديد، تسبب جراحات عميقة وكثيرة على ظهورهم. سرّ هذا التصرف المرير ضد البار، أن الشرير لا يحتمل أن يجد من لا يتفق معه في شره، حتى وإن لم يضايقه في شيء. يحسب برّ البار شهادة مُرة ضده، فيحاول الخلاص منه. من جهة أخرى استخدم المرتل هذا التشبيه، لأنه وإن كان الأشرار يُسرون بمضايقة الإنسان البار لكن كل ما يفعلونه من شرور ضده، إنما يكون مثل ما يفعل المحراث في التربة، إذ يهيئها بالأكثر للزراعة والإثمار. فالضيق يزيد البار صبرًا خلال نعمة الله، ويزكيه ويمجده، لذلك سبق فقال المرتل: "لكن لم يقدروا عليّ" [2]. تتحول المتاعب إلى أمجاد سماوية. * إنني لم أتفق معهم في الخطية. فإن كل إنسانٍ شريرٍ يضطهد الصالح لهذا السبب: إنه لا يتفق مع الشرير في الشر[4]. القديس أغسطينوس * لقد أظهر أنهم يهاجمون ليس فقط بعنفٍ، وإنما أيضًا بإصرارٍ شديدٍ، يقضون وقتًا طويلًا، ويكرسون أنفسهم للخطة، ويعملون بلا عائقٍ. لا يعود عليهم هذا بنفع، ليس من أجل قوتنا، وإنما من أجل قوة الله[5]. القديس يوحنا الذهبي الفم * يُختبر صبر الراعي في تحمل أخطاء الرعية أثناء بحثه عن فرصة لإصلاحهم. ولهذا قال صاحب المزامير: "على ظهري حرث الحرَّاث" (مز 129: 3)، لأننا نحمل الأثقال على ظهورنا. وهكذا يشكو داود من أن الخطاة قد أثقلوا ظهره، وكأنه يريد أن يقول إن "أولئك الذين لا أستطيع إصلاحهم، أحملهم كحمل ثقيل". ومع ذلك فإن هناك بعض الأمور السرية التي يجب البحث فيها بتدقيق، فإذا ظهرت بعض الأعراض أمكن للراعي أن يكتشف كل ما يُعمل داخل عقول الرعية، وبالتوبيخ في الوقت المناسب يمكنه أن يستخلص من الأشياء غير المهمة أشياء مهمة. ولهذا قيل لحزقيال: "يا ابن آدم، أنقب في الحائط". ويضيف نفس النبي: "فنقبت في الحائط، فإذا باب. وقال لي: "ادخل وأنظر الرجاسات الشريرة التي هم عاملوها هنا. فدخلت ونظرت، وإذا كل شكل دبابات وحيوان نجس وكل أصنام بيت إسرائيل مرسومة على الحائط". (حز 8: 8-10)[6] الأب غريغوريوس (الكبير) 3. عشب السطوح الرَّبُّ صِدِّيقٌ. قَطَعَ رُبُطَ الأَشْرَارِ [4]. ماذا يعني بقطع ربط الخطاة؟ 1. يشير إلى الربط التي تربط الثور بالمحراث، فلا يستطيع الحارث أن يحرك المحراث؛ يبذل مجهودًا ضخمًا، فيتعب دون أن يفعل شيئًا. وكأن كل مقاومة الأشرار ومضايقتهم ترتد إليهم. 2. تشير إلى الربط التي بالسوط، فإذا بالشرير يبذل كل الجهد ليجلد من هو أمامه، من دون أن يسبب له الشخص أذية. 3. لعله يقصد بالربط هنا القيود التي كان الأسرى يُقيدون بها عند سحبهم من بلادهم إلى بلادٍ غريبةٍ. جاءت في الترجمة السبعينية: "الرب البار يقطع عنق الخطاة". ويرى القديس أغسطينوس أن المرتل لم يقل: "الرب البار يقطع أيادي الخطاة" أو "أقدامهم"، بل عنقهم، إذ يبرر الشرير نفسه أمام الله في كبرياء وتشامح يهلك، لكن الله يقطع العنق المتصلب الذي للشرير، حتى يتمثل بالعشار الذي لم يجسر أن يرفع عينيه نحو السماء (لو 18: 13)، فتبرر أمام الله. * مجهودات الأعداء تذهب هباءً بينما تنتعش الكنيسة[7]. القديس يوحنا الذهبي الفم يقدم هنا المرتل صلاة أو نبوة عن الذين يريدون أن يحطموا كنيسة الله، ويدفعوا بها إلى الخزي والعار، فإن ما يفعلونه إنما يرتد عليهم. * يختم نصيحته بصلاة تجعل المستمع له ثقة خلال قصة الأحداث الماضية والصلاة، وتظهر سبب العداوة الظالم. تحدث العداوات من الحسد والكراهية، قائلًا: "فليخز وليرتد إلى الوراء كل مبغضي صهيون" إنهم ليس فقط لا ينتصرون وإنما يصيرون أيضًا في خزي وسخرية[8]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس * ثم بعد ذلك، باعترافنا بالخطايا التي عشنا فيها، نحن وآباؤنا، بعبادتنا للأوثان سوف نقول: "وقد أكل الخزي تعب آبائنا منذ صبانا غنمهم وبقرهم بنيهم وبناتهم" يجب أن يكون هناك خزي حتى يأكل التعب الباطل والأعمال الكاذبة التي لآبائنا، فإنه بدون الخزي لن تنتهي هذه الأعمال الباطلة والكاذبة. وفي هذا الصدد دعونا نستعرض بعض أوجه الاختلاف ما بين الخطاة: يوجد خطاة ليس عندهم خزي ولا حياء من خطاياهم، فهم لا يخجلون منها. هؤلاء هم الذين فقدوا كل حس والذين أسلموا لكل نجاسة. وأنت تري بالفعل كيف أن الشعوب الأممية يستعرضون في بعض الأحيان ويتفاخرون بقائمة فسقهم وزناهم كما لو كانت بطولات، دون أن يخجلوا من قيامهم بهذه الأفعال ودون أن يطلقوا عليها خطايا. وطالما لا يوجد عندهم خزي فإن خطاياهم لن تؤكل (لن تمحي). إن بداية الصلاح هي أن نشعر بالخجل من الأشياء التي كنا لا نخجل منها قبل ذلك. لذلك فإنني لا أظن أن تكون الكلمات التالية التي كان يقولها الأنبياء يقصد بها لعنة: "فليخز وليرتد إلي الوراء كل الذين يبغضون صهيون" (مز 129: 5)[10]. العلامة أوريجينوس الَّذِي يَيْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُقْلَع [6]. إنها صورة للخدمة المظهرية المتشامخة، سرعان ما تزدهر، وسرعان ما تيبس وتُقتلع. * هذا في الحقيقة طبيعة الوفرة (الازدهار) للذين يعيشون في الشر، جاذبية أمور هذه الحياة تظهر وتختفي من وقتٍ إلى آخر، ينقصهم العون والوجود الحقيقي. لهذا يلزم للشخص ألا يعطي اهتمامًا لهذه الأمور التي لا تدوم، بل يشتاق إلى الأمور الخالدة التي لا تفنى ولا تتغير[11]. القديس يوحنا الذهبي الفم من يفعل هذا يصير مكروهًا، وغالبًا ما يكون موضع سخريَّة عندما يضطر بغير إرادته أن يرد للآخرين الكرامة التي ليست له... يلزمه أن يعيد ما قد أخذه بغير حق. أما الإنسان الوديع والمستحق للمديح الذي بدون خوف من اللوم يستحق الجلوس بين الأولين لكنه لا يطلب ذلك لنفسه بل يترك للآخرين ما يليق به، فيُحسب منتصرًا على المجد الباطل وسيتقبل مثل هذه الكرامة التي تناسبه، إذ يسمع القائل له: "ارتفع إلى فوق". إذن العقل المتواضع عظيم وفائق الصلاح، يخّلص صاحبه من اللوم والتوبيخ ومن طلب المجد الباطل.. إن طلبت هذا المجد البشري الزائل تضل عن طريق الحق الذي به يمكنك أن تكون بالحق مشهورًا وتنال كرامة تستحق المنافس! فقد كُتب: "لأن كل جسد كعشبٍ، وكل مجد إنسان كزهر عشب" (1 بط 1: 24). كما يلوم النبي داود محبي الكرامات الزمنيَّة، قائلًا لهم هكذا: "ليكونوا كعشب السطوح الذي ييبس قبل أن يُقلع" (مز 129: 6). فكما أن العشب الذي ينبت على السطح ليس له جذر عميق ثابت لذا يجف سريعًا، هكذا من يهتم بالكرامات الدنيويَّة بعد أن يصير ظاهرًا في وقت قصير كالزهرة يسقط إلى النهاية، ويصير كلا شيء. إن أراد أحد أن يسبق الآخرين فلينل ذلك بقانون السماء، وليتكلل بالكرامات التي يهبها الله. ليسمُ على الكثيرين بشهادة الفضائل المجيدة، غير أن قانون الفضيلة هو الذهن المتواضع الذي لا يطلب الكبرياء بل التواضع! هذا هو ما حسبه الطوباوي بولس أفضل من كل شيء، إذ كتب إلى أولئك الذين يرغبون في السلوك بقداسة: أحبوا التواضع (كو 3: 12). وقد مدح تلميذ المسيح ذلك، إذ كتب هكذا: "ليفتخر الأخ المتضع (المسكين) بارتفاعه، وأما الغني فبتواضعه لأنه كزهر العشب يزول" (يع 1: 9-10). الذهن المتواضع والمنضبط يرفعه الله، إذ "القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 17). من يظن في نفسه أمرًا عظيمًا وساميًا فيتشامخ في فكره وينتفخ في علو فارغ يكون مرذولًا وتحت اللعنة، إذ يسلك على خلاف المسيح القائل: "تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). كما قيل: "لأن الله يقاوم المستكبرين، وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة" (1 بط 5: 5). لقد أظهر الحكيم سليمان في مواضع كثيرة الأمان الذي يحل بالذهن المتواضع، إذ يقول: "لا تنتفخ كي لا تسقط" (ابن سيراخ 1: 30)؛ كما يعلن ذات الأمر بطريقة تشبيهية: "المعلي بابه (بيته) يطلب الكسر" (أم 17: 19). مثل هذا يبغضه الله بعدل إذ يُخطئ في حق نفسه ويود أن يتعدى حدود طبيعته بغير شعور.. أسألك، على أي أساس يظن الإنسان في نفسه أمرًا عظيمًا...؟! ليت كل إنسان ينظر إلى حاله بعينين حكيمتين، فيصير كإبراهيم الذي لم يُخطئ في إدراك طبيعته بل دعي نفسه ترابًا ورمادًا (تك 18: 27)[12]. كما أن العشب الذي ينبت على السطح ليس له جذر عميق ثابت لذا يجف سريعًا، هكذا من يهتم بالكرامات الدنيوية بعد أن يصير ظاهرًا في وقت قصير كالزهرة يسقط في النهاية ويصير كلا شيء[13]. القديس كيرلس الكبير وَلاَ الْمُحَزِّمُ حِضْنَهُ [7]. بدأ المزمور بخدمة الصليب، حيث يُصلب المؤمنون الحقيقيون مع السيد المسيح المصلوب. يحتملون الآلام والحرث على ظهورهم، فيصيرون أشبه بفردوسٍ مثمرٍ يحمل ثمر الروح. وينتهي بخدمة الشكليات والمظهريات التي تهرب من الصليب، وتطلب الأمجاد الزمنية، فتكون كعشب السطوح الذي يظهر ابن يوم وييبس قبل أن يُقلع. خدمة الصليب تبدو كأنها فاشلة، إذ كاد أن يترك الجميع المصلوب يوم صلبه، حتى تلاميذه هربوا، والذين تمتعوا بأعمال محبته لم نسمع لهم صوت، ربما بعضهم كانوا ضمن الصارخين: "اصلبه! اصلبه!" أما خدمة الشكليات فبرّاقة وتبدو ناجحة ومزدهرة وجذابة للنفوس. لكن لننظر فنرى مجد قيامة المصلوب! وانهيار الخدمة الشكلية! * ينمو عشب السطوح على قرميد أسطح البيت، يُرى في العلا وبلا جذور. كم كان أفضل له لو أنه نما في الأسافل، لكان قد أزهر وسبب فرحًا عظيمًا! إذ ظهر في العلا، يبس سريعًا. لم يُقلع لكنه يبس. لم يصدر بعد ضده حكمًا من الله، ومع ذلك استنزف حيويته.... سيأتي الحاصدون لكنهم لا يملأون حزمهم منهم. سيأتي الحاصدون وسيجمعون الحنطة في البيدر، ويربطون الزوان معًا، ويطرحونه في النار. هكذا أيضًا عشب السطوح يُزال، وما يُقتلع منه يُلقى في النار، لأنه قد يبس حتى قبل أن يُقتلع. "لا يملأ الحاصد كفه منه، ولا المحزِّم حضنه" [7] والحاصدون هم الملائكة، يقول الرب (مت 13: 39)[14]. القديس أغسطينوس * مرعب هو الموسم غير المثمر، والذي تحدث فيه خسارة في المحاصيل... مرة أخرى مرعب هو الحصاد الغير لائق، عندما يعاني الفلاحون من ثقل قلوبهم، فيجلسون بجوار قبر محاصيلهم الذي أنعشته الأمطار الخفيفة، لكن الزوابع اقتلعته، "الذي لا يملأ الحاصد كفه منه، ولا المحزِّم حضنه" (مز 129: 7). ولا ينالون البركة التي يمنحها العابرون بالمزارعين. بالحقيقة إنه لأمر بائس هو التطلع إلى أرضٍ قفر، نُزع عنها زينتها، هذه التي يولول يوئيل عليها في صورة المأساة الشديدة لخراب الأرض وفاجعة المجاعة (يوئيل 1: 10). يولول نبي آخر عندما يقابل جمالها السابق بالفوضى التي حلت بها في النهاية، وبهذا يتحدث عن غضب الرب عندما يضرب الأرض: أمامه جنة عدن، وخلفه برية قفر[15]. القديس غريغوريوس النزينزي بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ. بَارَكْنَاكُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ [8]. يكشف لنا سفر راعوث عن عادة جميلة كانت قائمة، ألا وهي عندما يعبر صاحب الحقل بالحصادين، يحييهم قائلًا: "الرب معكم". ويجيبونه: "يباركك الرب" (را 2: 4). * أنتم تعرفون أيها الإخوة أنه من العادة عندما يعبر أناس على عاملين يخاطبونهم، قائلين: "بركة الرب عليكم". هذه العادة كانت سائدة على وجه الخصوص في الأمة اليهودية... إنه لا يجوز لأحد يعبر ويرى أحدًا يمارس أي عملٍ في حقلٍ أو كرمٍ أو حصادٍ أو أي شيء من هذا القبيل دون أن يبارك... من هم العابرون؟ هؤلاء الذين بالفعل عبروا هنا في مدينتهم خلال الطريق، أي خلال هذه الحياة، وهم الرسل والأنبياء. من الذين باركهم الأنبياء والرسل؟ هل الذين رأوا فيهم جذور المحبة! القديس أغسطينوس إن كان يليق بصاحب الحقل حين يلتقي بالحصادين أن يحيي الواحد الآخر بأن الله حاضر في وسطهم، وأنه يبارك صاحب الحقل، فيليق بالمؤمن أيضًا إلا ينشغل بخطاياه السابقة لئلا بتذكرها يفسد نقاوة قلبه. هذا ما تحدث عنه الأب بفنوتيوس في مناظرته مع القديس يوحنا كاسيان. * أما بالنسبة لما قلته منذ قليل، أنه بسبب هدف موضوع أمامك لا تريد أن تذكر خطاياك السابقة مرة أخرى، فبالتأكيد يلزم ألا تذكرها، إلا إذا باغتتك بغير إرادتك، فللحال أطردها فإنها تحرم الروح بقوة عن التأمل النقي، خاصة بالنسبة للمتوحد، فهي تعرقله في وصمات هذا العالم وتغرقه في الخطايا النجسة. فبينما تتذكر الأمور التي كنت تصفها في جهل وطيش... فإنه حتى وإن كنت في تذكرك لها لا تشعر بلذة، فلا أقل من أن عفونة النجاسات تفسد روحك برائحتها الكريهة وتبطل أريج رائحة الحياة الصالحة، أي رائحة الطيب الذكية. عندما تخطر بذاكرتك الخطايا السابقة، اهرب منها كما يهرب الإنسان البار الشريف متى وجد امرأة عاهرة شريرة تطلبه في الطريق العام بواسطة حديثها معه أو تقبيلها إيَّاه. فإنه إن لم يهرب منها للحال، متباطئًا في الحديث معها بأحاديث مشوبة، فإنه وإن رفض التمتع باللذة المعيبة إلا أنه لا يقدر أن يتجنب احتقار العامة له ونظرات السخرية المتسلطة عليه. هكذا نحن أيضًا، بتذكرنا المهلك هذا نسقط في أفكار كهذه. لهذا يلزمنا أولًا أن نمتنع عن التمسك بها، منفذين وصية سليمان القائل لا نذهب إلى هناك ولا نبطئ في مكانها، ولا نثبت نظرنا عليها، لئلا عندما ترانا الملائكة المارة بنا، أننا مشغولون بأفكار نجسة، فلا تقدر أن تقول لنا: "بركة الرب عليكم" (مز 8:129). فإنه يستحيل أن يستمر الفكر مشغولًا في الأمور الصالحة، إن كان النصيب الأكبر من القلب غارقًا في تأملاته الأرضية الشريرة. لقد حق قول سليمان: "عيناك تنظران الأجنبيات، وقلبك ينطق بأمور ملتوية. وتكون كمضطجع في قلب البحر أو كمضطجع على رأس سارية. يقول "ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف" (أم 33:23-35). يلزمنا أن نهجر لا الأفكار الشريرة فحسب، بل والتفكير في الأمور الزمنية، رافعين اشتياقات نفوسنا نحو الأمور السمائية كقول مخلصنا: "حيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي" (يو 26:12). لأنه يحدث أيضًا حتى من باب العطف أن نفكر في سقطات الغير أو أخطائهم، فنتأثر باللذة ونسقط بالتالي في هموم الآخرين. فتكون النتيجة أن ما بدأنا به حسنًا ينتهي نهاية مهلكة، لأنه "تُوجَد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت" (أم 12:14)[16]. الأب بينوفيوس من وحي المزمور 129 مع المسيح صُلبت! * الباب ضيق، والطريق كرب، لكن ما ذقت في رفقتك، فهو عذب وحلو! هب لي أن أختفي فيك، فأستعذب كل ما يحلّ بي. * أنت تقطع رُبط الأشرار، كل ما يبذلونه من مقاومة ومضايقات يصير باطلًا. يودون تدمير حياتي، لكنك أنت هو حياتي الأبدية، من يقدر أن يحطم شركتي معك؟! * يود الأشرار أن يدفعوني إلى الخزي والعار، لتكشف لهم شرهم، فيخزون مما يمارسونه. يرجعون إليك فيتقدسون. * هب لي أن استعذب الصليب معك. فأحمل أتعاب الآخرين بفرح. وتبتهج نفسي بقوة قيامتك العاملة فيّ. لست أطلب الثمر السريع، إنما أفرح بحضورك الإلهي وسط آلامي. * لتجتذبني إليك، فلا أنشغل ببريق المظاهر الخارجية. لا أكون كعشب السطوح الذي يراه الكثيرون. بل أُغرس بروح التواضع، فأنال بركة صليبك! |
||||
15 - 04 - 2014, 04:42 PM | رقم المشاركة : ( 4 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 130 (129 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير الرجاء وسط الضيق في المزمور السابق قدم لنا المرتل صورة للكنيسة التي تحمل الصليب مع رب المجد يسوع، فتكون كالتربة التي تُحرث بالمحراث، وإن بدا الأمر فيه ضيق، لكنه يهبها ثمرًا متزايدًا. على عكس هذا الذين يسعون وراء الطريق الواسع والحياة السهلة والمظاهر الخارجية، يصيرون كعشب السطوح، الذي يظهر ثم يذبل وييبس قبل أن يقتلع. الآن ونحن في رحلة الصليب نتمتع بالرجاء، فتنتظر نفوسنا الرب، ونترجى وعوده الإلهية الصادقة. نصير كالتلاميذ بعد صلب السيد المسيح ودفنه يترقبون قيامته في فجر الأحد، فتتحول أحزانهم إلى أفراح، ويتذوقون قوة الفداء وبهجة الخلاص. 1. الصليب وصرخة الأعماق 1-2. 2. الحاجة إلى المغفرة 3-4. 3. الرجاء وبهجة القيامة 5-8. من وحي المزمور 130 1. الصليب وصرخة الأعماق تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ مِنَ الأَعْمَاقِ صَرَخْتُ إِلَيْكَ يَا رَبُّ [1]. لعل أول ثمر للصليب أو الضيق أن تصدر صلاة المتألم من قلبه، من أعماقه الداخلية، بلغة لا يسمعها أحد سوى الله. وهو وحده يستجيب للغة الأعماق. رفع يونان صلاته وهو في أعماق البحر، وفي أحشاء الحوت، بل وقدم ذبيحة تسبيح مقبولة ومرضية أمام الله. صرخ قلب حنة إلى الله، ولم يفهم عالي الكاهن طلبتها، ولا شعر بحالها، لكن الله أمال أذنه وسمع لها. صرخ أيضًا موسى قبل أن يحرك شفتيه، وسمع صوت الرب: "ما لك تصرخ إليّ" (خر 14: 15). وصرخ قلب هابيل وهو يحتضر، وسمع الرب لصرخات دمه المسفوك بيد أخيه قايين. وسط الضيق إذ يصرخ المؤمن من أعماق قلبه تتحول مرثاته إلى تسبحة مملوءة بالرجاء المفرح. * صرخ يونان من الأعماق، من بطن الحوت (يون 2: 2). لم يكن فقط تحت الأمواج، بل وفي أحشاء الوحش. ومع هذا فإن الأمواج والجسم لم يمنعا صلاته من بلوغها إلى الله. لم يستطع بطن الوحش أن يحبس صوت صلاته. لقد اخترقت كل الأشياء، واندفعت بقوة عبر كل الأشياء، وبلغت أذني الله، لأن أذني الله كانتا في قلب ذاك الذي صلى[1]. * من أين يصرخ؟ من الأعماق. إذن من هو هذا الذي يصرخ؟ خاطئ. وبأي رجاء يصرخ؟ لأن الذي جاء لكي يغفر الخطايا يعطي رجاءً للخاطي حتى الذي في الأعماق[2]. القديس أغسطينوس * "من الأعماق صرخت إليك يا رب" (مز 130: 1). ما معنى من الأعماق؟ إنها ليست من الشفتين، أو من مجرد تحريك اللسان التي تخرج منه دون أن يكون للفكر أو القلب نصيب فيها. إنها صلاة عمق القلب، ومن أساسات النفس بحرارة شديدة وغير متقدة. مثل هذه الصلاة تستقيم صاعدة أمام الله بشدة وبأس، ولا يمكن أن تتزعزع أو تطيش، حتى ولو هاجمها الشيطان بكل ما أوتي من جرأة ووقاحة. لكن تلك الصلاة الهزيلة التي تخرج من الفم فقط، التي يكون بدايتها اللسان ونهايتها الشفتين. هذه لن تصل إلى الله، لأن القلب لا يشترك فيها. وكل من يصلي هكذا تتحرك شفتاه، وقلبه فارغ، وعقله بليد متكاسل[3]. * من أعماق قلبي، بغيرةٍ عظيمة وحماسٍ، من أعماق ذهني. هكذا كما ترون هي نفوس المحزونين: يثيرون قلوبهم ذاتها بكمالها، يدعون الله في ندامة عميقة، ولهذا السبب تمامًا يُسمع لهم. الصلاة بهذه الكيفية بالحقيقة لها قوة مهولة، فلا تسقط ولا تضعف، حتى وإن هاجمها الشيطان بقوة عظيمة. إنها مثل شجرة قوية تضرب جذورها إلى أعماق عظيمة في الأرض، فإنها تقاوم أي هبوب للريح، أما تلك التي تقوم على السطح فتسقط بأقل نفخة تهب عليها، وترتمي على الأرض. هكذا الصلوات التي تصدر عن أعماقٍ لها جذور دفينة تبقى قوية لا تهتز ولا تسقط، مهما هاجمتها تشتيتات بلا حصر، أو أثار إبليس معركة منظمة ضدها. أما الصلاة الصادرة من الفم واللسان، دون أن تصدر من الأعماق، فتعجز عن الصعود إلى الله، لأن القلب فارغ والذهن أبله[4]. * يقول: "من الأعماق صرخت"، وعندئذ "فاستجبت"؛ تلك الصلاة الحارة التي ترافقها دموع الندامة لها قوتها العظيمة لدى الله ليوافق على طلباتنا[5]. * موسى النبي كان متألمًا وصلى بهدوء وتواضعٍ، فسمع الله له، ولهذا قال له الله: "ما لك تصرخ إليَّ" (خر 14: 15). وحَنَّة أيضًا لما كان صوتها غير مسموع، تحقق لها كل ما أرادت. "وإذ كان قلبها يصرخ" (1 صم 1: 13). وهابيل لم يصلِّ وهو صامت بل وهو يحتضر! وكان صراخ دمه أقوى وأشد من صوت البوق (تك 4: 10). فهل تئنون أنتم أيضًا مثل هذا القديس. أرجو ألا يكون جوابكم بالنفي. ومثلما يأمرنا النبي: "مزقوا قلوبكم لا ثيابكم" (يؤ 2: 13). عليكم أن تصرخوا من الأعماق إلى الله، لأنه مكتوب: "من الأعماق صرخت إليك يا رب" (مز 130: 1). إذن من العمق من القلب أخرج صوتًا واجعل صلاتك سرية. ألا تعلمون أنه في قصر الملك الأرضي تسكن كل جلبة، ويرنو صمت في المكان العظيم. أنتم أيضًا، تصرَّفوا هكذا بلياقة عظيمة وأنتم تدخلون إلى قصر ليس على الأرض، بل هو مهيب أكثر، الذي هو في السماء. أجلّ، لأنكم منضمُّون إلى طغمات الملائكة ورؤساء الملائكة وتشتركون مع السيرافيم، وكل هذه الطغمات تُظهر نظامًا صالحًا جدًا، مرنمة في رعدة عظيمة ذلك اللحن السري (الصوفي) وترانيمها المقدسة لله ملك الجميع، فامتزجوا إذن مع هؤلاء حينما تصلون واقتدوا بترتيبهم السري. لأنكم لا تصلون للناس بل إلى الله، الحاضر في كل مكان، الذي يسمع حتى قبل خروج الصوت، الذي يعرف أسرار ذهنكم. فإن صليتم هكذا، فما أعظم ما تنالونه من أجر، "فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانية" (مت 6: 6). ولم يقل: "سيعطيك مجانًا"، بل قال: "سيجازيك". أجل، لأنه قد جعل نفسه مدينًا لك، وبهذا كرَّمك تكريمًا عظيمًا. فلأنه هو نفسه غير منظور، سيجعل صلاتك هكذا تكون أيضًا[6]. القديس يوحنا الذهبي الفم لِتَكُنْ أُذُنَاكَ مُصْغِيَتَيْنِ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي [2]. إذ يصرخ المتألم من الأعماق يلقي برجائه على الرب وحده، طالبًا أن تميل أذني الرب وتصغيان إلى صلاته. فإنه وحده يعرف أعماق القلب وبحنو ويترفق. 2. الحاجة إلى المغفرة إِنْ كُنْتَ تُرَاقِبُ الآثَامَ يَا رَبُّ، يَا سَيِّدُ فَمَنْ يَقِفُ؟ [3] حين يصرخ المتألم من أعماق قلبه لا يشكو إلى الرب من الضيق، ولا يلقي باللوم على الآخرين أو الظروف المحيطة به، إنما يعترف بخطاياه، ويشعر بعجزه عن الوقوف أمام القدوس. وفي نفس الوقت لا يرى الله مترصدًا له، لكي يعاقبه على كل ضعفٍ أو خطيةٍ، إنما يترقب خلاصه. * إنه يكشف من أي عمقٍ يصرخ. إنه يصرخ من تحت الأثقال والأمواج المتلاطمة... لم يقل: "ربما أقف" بل "فمن يقف؟" لقد رأى كأن كل الحياة البشرية تقريبًا من كل جانب تئن بسبب خطاياها، لأن كل الضمائر موضع اتهام من أفكارها نفسها، فلا يوجد قلب طاهر يثق في برِّه الذاتي. القديس أغسطينوس * "فمن يقف": بمعنى آخر، كمن يقول: "أنا خاطي، أنا مملوء بالخطايا التي بلا حصر، لا أستطيع أن اقترب وأصلي وأدعو الله"... إنه يستحيل لأي شخص أن يكون موسوسًا في أموره وينال رحمة أو رأفة. نقول هذا لا لكي نجعل النفوس في عدم مبالاة، إنما لكي نعطي راحة للساقطين في اليأس، تذكروا: من يفتخر بأن قلبه نقي أو من يثق أنه متحرر من الخطايا...؟ "فمن يقف؟" لم يقل "فمن يهرب؟"، وإنما "فمن يقف؟" يقول إنه لم يعد قادرًا أن يقف بسرعة[7]. القديس يوحنا الذهبي الفم لِكَيْ يُخَافَ مِنْكَ [4]. إذ يشعر المرتل بثقل خطاياه وعجزه التام عن تبرير نفسه، لا يجد له ملجأ إلا مراحم الله، فهو الإله القدوس المخوف، لكنه رحوم غافر الخطايا ومحب البشر. * إنه ليس من أجل أعمالٍ صالحة، بل من أجل صلاحك يمكن الهروب من العقوبة، بمعنى تجنب الدينونة يتوقف على رأفتك. فإن لم ننتفع بها لا تكفي مجهوداتنا على انتزاعنا من الغضب القادم[8]. القديس يوحنا الذهبي الفم إنه ثمن عظيم دُفع لتحرير الأسرى من يد العدو الذي سباهم. "عندك المغفرة". فإنه لو لم توجد رحمته عندك، وأردت أن تكون ديانًا فحسب ولا ترحم، فإنك تعلم كل آثامنا، وتطلب الحساب عنها. فمن يقف أمام هذا؟ من يقف أمامك ويقول: "أنا بريء". من يقدر أن يقف في يوم دينونتك؟[9] القديس أغسطينوس 3. الرجاء وبهجة القيامة انْتَظَرْتُكَ يَا رَبُّ. انْتَظَرَتْ نَفْسِي، وَبِكَلاَمِهِ رَجَوْتُ [5]. الصلب مع السيد المسيح لا يدفع إلى اليأس أو الإحباط أو صغر النفس، وإنما إلى الرجاء، فتنتظر النفس الله مخلصها بفرحٍ وتثق بكلامه ووعوده الصادقة والأمينة. لقاؤنا مع المصلوب يكشف لنا عن حب الله الفائق، ويدفعنا إلى الالتصاق والاتكاء على صدره. يلقي المتألم بخطاياه عند قدمي المخلص، ويذوب قلبه حبًا بذلك الذي قدم حياته مبذولة لأجله. وتتهلل نفسه أنها وسط الآلام في رفقة ذاك العجيب في حبه. بالصليب لم تعد كلمة الله أو ناموسه خصمًا أخشاه، إنما به تمت المصالحة، وصارت كلمة الله سرّ عذوبة في أعماقي. * من أجل رأفتك، ومن أجل شريعتك أتطلع إلى الخلاص، فإنني إن تطلعت إلى قدراتي سقطت طويلًا في اليأس... على أي الأحوال، إذ أصغي إلى شريعتك، إلى كلمتك، أمتلئ بالرجاء الصادق. أية كلمة؟ كلمة الرأفة. أنتم ترون إنه يقول: كما علت السماوات عن الأرض،هكذا علت طرقي عن طرقك وأفكاري عن أفكاركم" (إش 55: 9). وأيضًا: "لأنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض، قويت رحمته على خائفيه"، وأيضًا: "كبُعد المشرق من المغرب أبعد عنا معاصينا" (مز 103: 11-12). بمعنى: لست أخلص فقط الفضلاء، وإنما أيضًا أغفر للخطاة وأقدم شهادة عن عوني ورعايتي وسط خطاياكم[10]. القديس يوحنا الذهبي الفم لقد أُعطي له الناموس لكي يرى (الخاطي) نفسه. لقد جعله الناموس مذنبًا، ومُعطي الناموس حرره، لأنه هو صاحب السلطان الأعظم... لذلك يوجد ناموس رحمة الله، ناموس الله للكفارة. ناموس للخوف، وآخر للحب. ناموس الحب يهب المغفرة للخطايا، يمحو الماضي، ويحذر بخصوص المستقبل، لا ينسى المرافقة في الطريق، بل يصير في صحبة ذاك الذي يقوده في الطريق. لكن يلزم أن ترضي الخصم مادمت معه في الطريق (مت 5: 25). كلمة الله هي خصمك مادمت لا ترضيها. لكنك ترضيها عندما تبدأ أن تكون مسرتك في عمل وصية كلمة الله. فمن كانت خصمًا لك تصير صديقة لك. وإذ ينتهي الطريق لا يوجد من يسلمك للقاضي[11]. القديس أغسطينوس نَفْسِي تَنْتَظِرُ الرَّبَّ أَكْثَرَ مِنَ الْمُرَاقِبِينَ الصُّبْحَ. أَكْثَرَ مِنَ الْمُرَاقِبِينَ الصُّبْحَ [6]. يبدو المرتل أنه قضى الليل كله في الهيكل، يصرخ من أعماق قلبه، فجاءه العون مع الفجر. استجاب الرب لصرخات قلبه. يرى القديس أغسطينوس أننا ننتظر الرب في رجاء قيامته مثل المراقبين الصبح، فإذ قام من بين الأموات نقوم نحن معه. * ليس شيء له فاعليته على خلاصنا مثل الترقب المستمر والمعتمد على هذا الرجاء، حتى وإن أزعجتنا مشاكل بلا حصر لتسحبنا نحو اليأس... يلزمكم أن تترجوا الرب في كل الأوقات، كل أيامكم، في كل حياتكم[12]. القديس يوحنا الذهبي الفم لأَنَّ عِنْدَ الرَّبِّ الرَّحْمَةَ، وَعِنْدَهُ فِدًى كَثِيرٌ [7]. يدعو المرتل المؤمنين أن يمتلئ قلبهم بالرجاء المفرح، فعوض الارتباك بالآلام يتأملون مراحم الله وعمله الخلاصي. * ماذا يعني: "لأن عند الرب الرحمة"؟ ينبوع الرأفة وكنزها موجود هناك، يفيض بلا توقف! الآن، حيث توجد الرحمة يوجد الفداء أيضًا، ليس فقط الفداء، وإنما الفداء الكامل، محيط من الرأفة بلا حدود! حتى وإن تحطمنا بسبب خطايانا يلزمنا ألا نفتر ولا نيأس حيث توجد الرحمة والرأفة لا ينظر إلى الخطية في وسْوسة، فإن الديّان ينظر من حيث رحمته العظيمة ونزوعه إلى الرأفة... إذ نفكر في هذا ليتنا نستمر في مناشدته والتماسه ولا نتوقف، سواء نلنا ما سألناه أو لم ننل. فانه في سلطانه أن يعطي، وفي سلطانه عندما يعطي أن يعرف بدقة الوقت المناسب. لهذا فلنستمر في الطلب والتوسل، وليكن لنا ثقة في رحمته ورأفته ولن نيأس قط من خلاصنا بل نساهم فيما لنا وما هي إرادته تتحقق في كمالها، فإن رحمته من جانبه فوق كل تعبير، ورأفته بلا حدود[13]. القديس يوحنا الذهبي الفم في حبه يفدي المؤمنين من كل آثامهم، ويحملون يرَّه. من وحي المزمور 130 تتهلل نفسي بك أيها المصلوب! * تسبحك نفسي وتشكرك، وسط الآلام، أعماقي تصرخ إليك. أذناك تميلان إليّ، وتسمعان صرخات قلبي. أنت وحدك تعرف لغة القلب وتستجيب لها. حوّلت صرخات يونان في الأعماق إلى تسبحة مفرحة. * وسط آلامي أتطلع إلى صليبك. تبتهج نفسي بشركة الآلام معك. وينفتح قلبي للاعتراف بخطاياي. لا أستطيع أن أتبرر أمامك. إنما أرجو مراحمك ومغفرتك. * أراك، فتمتلئ نفسي بالرجاء. يلتهب قلبي بالغيرة المتقدة، أن ألتصق بك على الدوام. أتمسك بكلمتك، فهي روح وحياة، وبوعودك الإلهية الصادقة والأمينة. أدعو كل إخوتي للقاء معك. يتمتعون بأمجاد الفداء! |
||||
15 - 04 - 2014, 04:44 PM | رقم المشاركة : ( 5 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 131 (130 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير الفرح بالصليب واهب النضوج هذا هو المزمور الأخير من المجموعة الرابعة من مزامير المصاعد التي تمثل سفر العدد. فإن كان سفر العدد قد خُتم بالتهيئة لدخول أرض الموعد، فإن المرتل يشعر أنه يتمتع بأرض الموعد لا من أجل برِّه ولا قدراته وإمكانياته، إنما كهبةٍ يقدمها الله كأبٍ لابنه الطفل الفطيم. هذا وإن كانت الرحلة في البرية تمثل الصلب مع السيد المسيح، وقد رأينا في المزمور 129 الدعوة للصلب مع المسيح، وفي المزمور 130 بالصليب ينفتح لنا باب الرجاء وننعم ببهجة القيامة وقوتها، ففي هذا المزمور نرى المرتل وقد أدرك أنه بالفرح بالصليب ينعم بالنضوج والنمو المستمر. يكشف هذا المزمور الصغير عن روح التواضع الذي اتسم به داود النبي، الذي قلبه مثل قلب الله. يرى البعض أن هذا المزمور جاء كرد فعل لتصرف ميكال ابنة شاول حين رقص أمام تابوت العهد. قالت: "ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم حيث تكشف اليوم في أعين إماء عبيده كما يتكشف أحد السفهاء" (2 صم 6: 20). جاءت إجابته له: "إني أتصاغر دون ذلك، وأكون وضيعا في عيني نفسي، وأما عند الإماء التي ذكرت فأتمجد" (2 صم 6: 22). جاء هذا المزمور يقاوم تشامخ أصحاب السلاطين، فقد قيل للكاروب الساقط: "قد ارتفع قلبك لبهجتك، أفسدت حكمتك لأجل بهائك، سأطرحك إلي الأرض" (حز 28: 16-17) "مكرهة الرب كل متشامخ القلب، يدا ليد لا يتبرأ" (أم 16: 5). إن كان آدم وحواء قد طمحا أن يصيرا كالله (3: 5) وذلك بروح الكبرياء، فإن المرتل داود اشتهي أن يكون كالفطيم على صدر الله. اشتهى أن يكون كل شعب الله أو كنيسته كالرضع الصغار يتكئون على الله ويثقون فيه، متشبهين بداود نفسه. مناسبته 1. تغنى داود النبي بهذا المزمور متذكرًا أنه عاش كصبي يرعى الغنم، ولم يطمح يومًا ما في الجلوس على عرش المملكة. لقد اتهمه أخوه الأكبر أليآب بالكبرياء ظلمًا، حين قال له: "لماذا نزلت؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية. أنا علمت كبرياءك وشر قلبك، إنما نزلت لكي ترى الحرب" (1 صم 17: 28). 2. يظن البعض أنه تغنى به دفاعًا عن نفسه عندما اتهمه البعض من حاشية شاول الملك أنه كان يطمع في نوال تاج المُلك، وأنه يخطط لذلك[1]. 3. يظن آخرون أن وُضع في أرض السبي، حين كان اليهود يعلنون خضوعهم للذين أخذوهم أسرى في بابل. 1. فطيم نحو أمه 1-2. 2. الرجاء الدائم 3. من وحي المزمور 131 1. فطيم نحو أمه تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ يَا رَبُّ لَمْ يَرْتَفِعْ قَلْبِي، وَلَمْ تَسْتَعْلِ عَيْنَايَ، وَلَمْ أَسْلُكْ فِي الْعَظَائِمِ، وَلاَ فِي عَجَائِبَ فَوْقِي [1]. يقدم المرتل هذه التسبحة للرب، معلنًا عطية التواضع النابعة من أعماق قلبه، كعطيةٍ قدمها الله له. وفي نفس الوقت أضرم هذه الموهبة بعدم رفع عينيه متطلعًا إلى نوال مركز أكبر، ولا التصق بالعظماء لهدفٍ أرضي زمني، ولا سلك في أمور فوق قدراته أو مواهبه. قدم المرتل هذه التسبحة لا للافتخار وإنما للشكر، فإذ كانت التجارب تلاحقه منذ صباه، فخلالها تمتع بروح التواضع. إنه يعتز بالصليب الذي يسمح الله له به لأجل بنيانه ونموه الروحي. يدهش القديس يوحنا الذهبي الفم كيف يفتخر المرتل، ليس أمام شخص أو اثنين أو عشرة أشخاص بل أمام العالم كله، قائلًا إنه وديع ومتواضع وبسيط كالفطيم نحو أمه [2]. فإنه أحيانًا يلتزم الإنسان بالافتخار كما فعل الرسول بولس. * "وأما من افتخر فليفتخر بالرب" (2 كو 10: 17؛ راجع إر 9: 24). من لا يفتخر بالصليب يكون غبيًا تمامًا ومخالفًا للناموس (المسيحي). من لا يفتخر بالإيمان يكون أكثر بؤسًا من الجميع. من لا يفتخر ويتكلم علانية عن هذه الأمور يكون في طريق الدمار. لهذا كان الرسول واثقًا بما فيه الكفاية، ليقول: "وأما من جهتي، فحاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح" (غل 6: 14). وبطريقةٍ مماثلةٍ: "لا يفتخر الغني بثروته، ولا الحكيم بحكمته، وإنما ليفتخر بفهمه ومعرفته للرب" (راجع إر 9: 23-24). الآن، رفضه للتشامخ وبغضه للمظاهر الطنانة، وتجنبه لهذا وبغضه لها، إنجاز ليس بقليل. إنه الأمان القوي للغاية للفضيلة، والحماية العظيمة للتواضع[2]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس يوحنا كاسيان إذ لا توجد ذبيحة لا يوجد كاهن. ولكن إن كان لنا رئيس كهنة في السماوات يشفع لدى الآب عنا (إذ يدخل إلى قدس الأقداس داخل الحجاب)... نحن في أمان، إذ لنا كاهن؛ لنقدم ذبيحتنا هناك. لنضع في اعتبارنا أية ذبيحة يلزمنا أن نقدمها، لأن الله لا يُسر بالمحرقات، كما تسمعون في المزامير (مز 51: 16). ولكن في ذات الموضع يُظهر ما يقدمه: "ذبائح الله في روح منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره" (مز 51: 17). القديس أغسطينوس نَفْسِي نَحْوِي كَفَطِيمٍ [2]. يذكر معلمنا متى البشير: فدعا يسوع إليه ولدًا وأقامه في وسطهم، وقال: الحق أقول لكم، إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (مت 18: 1-4). يؤكّد السيِّد لطالبي الملكوت التزامهم بالرجوع ليصيروا مثل الأولاد، فيدخلوا ملكوت السماوات. إنه ليس تراجعًا إلى الوراء، لكنّه نمو نحو الطفولة المتواضعة البسيطة. فالإنسان خلال خبراته على الأرض تنتفخ ذاته جدًا، ولا يستطيع الدخول من الباب الضيق. لهذا يليق به أن يتخلّى عن كل كبرياء لكي تصغر ذاته جدًا وتُصلب تمامًا، فيعبر خلال سيّده المصلوب من باب التواضع، الذي هو الباب الملوكي والمدخل الوحيد للملكوت السماوي. أجمل زينة وأعظمها في عيني الله الوداعة. وكما يقول الرسول بطرس: "إنسان القلب الخفي في العديمة الفساد، زينة الروح الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1 بط 3: 4). يرى القديس أغسطينوسأنه يليق بالمؤمن أن يحرص على تواضعه، فكلما وُهبت له عطايا ومواهب من قِبَل الله لا ينتفخ بل بالأكثر يتواضع، وكما يقول ابن سيراخ: "ازدد تواضعًا ما ازددت عظمة، فتنال حظوة لدى الرب" (سي 3: 18). * لست متكبرًا: لا أود أن أكون معروفًا بين الناس بقواتٍ عجيبة، ولا أطلب شيئًا فوق قدرتي، أفتخر بها بين الجهال. وذلك مثل سيمون الساحر الذي أراد أن يتقدم في العجائب فوق قدراته، ولهذا سُر بالأكثر بسلطان الرسل عن برّ المسيحيين[4]. القديس أغسطينوس القديس كيرلس الكبير القديس أمبروسيوس القديس يوحنا الذهبي الفم في طريق البرية، تتجه أنظار الشعب إلى أرض كنعان لكنهم كثيرًا ما كانوا يعانون من الحرمان من رائحة اللحم الذي في مصر، والشبت والكمون الخ. هذا الفطيم مما كانوا يظنون أنه مباهج مصر في نظرهم حرمان وصلب، ولم يدركوا أنها بداية عملية للتمتع بأرض الموعد. 2. الرجاء الدائم لِيَرْجُ إِسْرَائِيلُ الرَّبَّ، مِنَ الآنَ وَإِلَى الدَّهْرِ [3]. تبقى الكنيسة (إسرائيل الجديد) تترجى الرب حتى تبلغ الأبدية، حيث ينتهي الرجاء، وتنعم بالحقيقة ذاتها. * إلى أن نصل إلى الأبدية لنتكل على الرب الإله؛ لأنه عندما نبلغ الأبدية لا يعود بعد رجاء، بل تصير الحقيقة ذاتها لنا[9]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي المزمور 131 لتفطمني عن محبة الله بعذوبة صليبك * كثيرًا ما اجتذبتني مغريات العالم، لكن صليبك فيه عذوبة الحب الفائق. صليبك يفطمني عن الملذات الزمنية، إذ يدخل به إلى الخيرات السماوية! * ضمني إلى صدرك الحنون، فتطمئن نفسي تمامًا، وأصير كطفل صغير، ينمو بغنى نعمتك! |
||||
15 - 04 - 2014, 04:49 PM | رقم المشاركة : ( 6 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 132 (131 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير صداقة فريدة رأينا في المقدمة على مزامير المصاعد أن المجموعة الخامسة منها (مز 132-134) تمثل سفر التثنية، حيث يشتهي المؤمن أن يدخل في صداقة مع الله كما كان موسى النبي. الآن في هذا المزمور نجد نوعًا من الميثاق بين الله وداود. فالأخير في وداعةٍ وتواضعٍ لا يجد راحته، ولا يدخل إلى بيته، ولا يصعد على سرير فراشه، ولا يعطي لعينيه نومًا حتى يجد موضعًا للرب، ومسكنًا لإله يعقوب. ومن جانب الرب نفسه، فقد اقسم لداود أن يجعل من بنيه من يجلس على كرسيه إلى الأبد، إن حفظ بنوه عهده. هذا ما يشتهيه المؤمن الحقيقي، أن يرتبط بصداقة مع الرب إلهه، فيجد الرب راحته في قلب المؤمن كمسكنٍ له، ومن جانب الله، فهو يود أن يدخل به إلى خبرة الحياة الملوكية السماوية. يرى البعض أن داود المرتل قام بتسجيله بروح الله بمناسبة إحضار تابوت العهد إلي المدينة المقدسة (2 صم 6: 14. 15). وأنه مزمور نبوي مسياني. بلا شك بقيت اللحظات التي عاشها داود مع كل أورشليم حين أحضر تابوت العهد لا تفارق عينيه. إنها لحظات مفرحة، بل كانت مصدر تعزية مستمرة له حتى وسط ضيقاته. لقد اهتز كل كيانه، فرقص أمام تابوت العهد كطفلٍ صغيرٍ، وأنشدت فرق المسبحين الترانيم المقدسة، مستخدمين كل أنواع الآلات الموسيقية في ذلك الحين (2 صم 6). يرى آخرون أن واضع المزمور سليمان الحكيم الذي دعاه الرب لبناء الهيكل خلال وعده لأبيه داود (2 صم 7: 13). فهو يسجل مجهودات أبيه وتهليل بهذا الحدث الفريد، مع الكشف عن شوقه وجهاد لبناء بيت للرب. أراد سليمان أن يتذكر الشعب على الدوام وعد الله لداود أبيه بخصوص إقامة مسكن الله. ويرى فريق ثالث أنه وُضع في نهاية السبي البابلي حيث ُعيد يناء الهيكل ووُضع فيه تابوت العهد. هذا المزمور هو أحد المزامير التي نسبح بها في "تسبحة النوم"، حيث نعلن أننا لن نستريح، وننعم بنومٍ مملوءٍ سلامًا ما لم يسكن الله في قلوبنا، كما نطلب من الله أن يجد فينا قدسه، موضع راحته. كان يُسبح به في موكب ليتورجي مفرح، في طريق تابوت العهد إلى الهيكل. الالتصاق بالرب يجعل من صهيون مركزًا للبركة الإلهية، والحياة الخصبة والفرح والأمان بالنسبة للمتكلين عليه. في هذا المزمور يذكر المرتل الشعب بوعود الرب العظيم لداود أنه يحكم في صهيون، وكيف نذر داود أن يبني بيتًا للرب [1-5]. وأعلن عن وعد الرب لداود أنه يبارك نسله [10-13]، ويجعل من صهيون عاصمة له [14-18]. يقول Gabelein إنه ليس من حاجة للقول بأن المزمور يتطلع إلى ذلك الذي هو أعظم من سليمان، هذا الذي صار ملكًا في صهيون، ابن داود وربه[1]. 1. شوق لبناء بيت للرب 1-5. 2. نزول الكلمة ليسكن بيننا 6-10. 3. يقيمنا ملوكًا 11-13. 4. راحته في راحتنا ونصرتنا 14-18. من وحي المزمور 132 1. شوق لبناء بيت الرب إحضار داود النبي والملك لتابوت العهد إلى أورشليم هو إعلان عن شوق عملي صادق ورغبة أكيدة حارة أن يقيم للرب بيتًا له، وقد أقسم للرب ونذر للقدير إله يعقوب أنه لن يستريح حتى يتمم هذا. وقد تحدث داود مع ناثان النبي في هذا الأمر (2 صم 7: 1-2). إن كان هذا هو شوق داود النبي من جهة إقامة مبنى كبيتٍ للربِ، فكم يكون شوقه أن يصير الإنسان مسكنًا للرب؟ فقد تحقق هذا لا بدخول التابوت إلى أورشليم، بل بنزول كلمة الله متجسدًا إلى عالمنا ليسكن فينا. * يقول داود هنا: لست أطلب موضعًا لراحتي سوى المسيح الذي يولد من نسلي، هذا الذي تسبحونه، وهو من ثمرة بطني[2]. القديس جيروم اُذْكُرْ يَا رَبُّ دَاوُدَ كُلَّ ذُلِّهِ [1]. يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم على المتسائلين كيف يُقال عن داود "وكل دعته"، مع أنه رجل حرب، وكيف يُقال عن موسى: "كان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض (عد 12: 3)، بالرغم من موقفه مع فرعون خاصة في حدوث الضربات العشرة، وموقفه مع المصري الذي كان في نزاع مع يهودي... يجيب بأن من وداعة موسى أنه لم يدافع قط عن نفسه، ولم يحمل عداوة شخصية، ولا طلب انتقامًا لمن أخطأ إليه شخصيًا. ونفس الأمر بالنسبة لداود النبي. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن سرّ وداعة داود النبي ليس فقط سلوكه وتعامله مع الذين أساءوا إليه، وإنما ما هو أهم أمران: الأول أنه كان يخاف الله ويرتعد من كلمته، أي أن كلمة الله كانت نصب عينيه وعلة تقواه، والأمر الثاني مع اشتياقه لبناء الهيكل والإعداد له وبناء أورشليم مدينة الله. كان مهتمًا بالتجديد في الحياة الروحية بروح الوداعة والتواضع، يربط بين الهيكل الخارجي وهيكل النفس الداخلي. * داود بحسب واقع التاريخ كان ملك إسرائيل، ابن يسى. بالحق كان وديعًا كما تشهد الأسفار المقدسة نفسها... كان وديعًا فلم يرُد الشر بالشر لمضطهده شاول. احتفظ أمامه بتواضعٍ شديدٍ، حيث تحدث معه كملكٍ، وحسب نفسه كلبًا، ولم يُجب على الملك بتشامخ أو فظاظة، مع أنه أكثر منه في القوة بالرب. إنما سعى أن يسترضيه بالتواضع، ولا يثيره بالكبرياء. لقد سُلِّم شاول له تحت سلطانه من قِبَل الرب الإله، ليفعل به كما يشاء، وإذ لم تصدر إليه وصية بقتله قدَّم له الرحمة التي قدمها الله له[3]. القديس أغسطينوس * التحدث عن وداعته يقتضي ذكر قصصه فيما فعله مع شاول ومع إخوته ويوناثان، وصبره على الجندي الذي صب له شتائم بلا حصر (2 صم 16: 5-13)، وأمور أخرى أكثر أهمية من هذه، قادته إلى فكره الرئيسي (منهجه) على نقطة حساسة كانت واضحة في غيرته. والآن لماذا فعل هذا؟ لسببين: الأول: مسرة الله الخاصة به. يقول الكتاب: اُذكر إلى من أنظر، إن لم يكن للوديع والهادئ الذي يرتعد من كلامي (راجع إش 66: 2). الثاني: دافعه الرئيسي نحو إقامة الهيكل وبناء المدينة وإصلاح الطريق القديم للحياة، الأمور التي وجه إليها اهتمامه[4]. * يا لعظمة هذا الرجل! ويا لسمو روحه! هذا الذي كان الناموس يطالبه "عين بعين وسن بسن" (تث 19: 22) فإنه لم يبلغ إلى هذه الدرجة فحسب بل نال درجة عالية من الحكمة. ولم تقف حكمته في عدم قتل شاول الخصم العنيف، بل ولم ينطق بكلمة غير لائقة ضده، مع أنه لو تكلم ما كان شاول يسمعه. أما نحن فكثيرًا ما نتكلم بالشر حتى ضد أصدقائنا عندما يكونون غائبين. يا لحنان روحه! إنه بحق قد تبرر كما جاء في القول: "أذكر يا رب داود وكل دعته (وداعته)" (مز 132: 1). لنقتدِ به فلا ننطق بكلمة ضد عدونا ولا نصنع به شرًا بل نقدم له الخير قدر المستطاع، فإننا بهذا نصنع خيرًا مع أنفسنا أكثر مما نصنعه معهم. فقد أمرنا أن نغفر لأعدائنا فتغفر خطايانا (مت 6: 14)[5]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب خروماتيوس نَذَرَ لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ: [2] لم نسمع عن هذا النذر الذي أقامه داود بخصوص بناء بيت للرب إلا في هذا الموضع، إنما نسمع عن غيرته المتقدة بخصوص العبادة الجماعية، وأيضًا اشتياقه لبناء بيت الرب لكي تستقر هذه العبادة. تارة يفترض القديس يوحنا الذهبي الفم أن واضع المزمور هو داود النبي وأخرى سليمان بن داود، فيطلب من الرب أن يحقق ما وعد به أباه. * نذر داود كما لو كان الأمر في قدرته، وصلى إلى الله حتى يتمم نذره. بنذره أوجد تكريسًا، وبصلاته تواضعًا. ليته لا يظن أحد أنه يتمم ما نذره بقوته. الذي يحثك على النذر، هو نفسه يساعدك على التنفيذ. القديس أغسطينوس لاَ أَدْخُلُ خَيْمَةَ بَيْتِي. لاَ أَصْعَدُ عَلَى سَرِيرِ فِرَاشِي [3]. لاَ أُعْطِي وَسَنًا لِعَيْنَيَّ وَلاَ نَوْمًا لأَجْفَانِي [4]. بقوله هذا يُعلن أنه لا يريد أن يعبر يوم ما في حياته دون أن يعمل بكل جدية وفي غيرة متقدة لبناء هيكل الرب. المؤمن الحقيقي حريص على الجدية في تمتعه بسكنى الله في قلبه، ناميًا في هذه الخبرة الحية كل يومٍ دون تراخٍ أو تأجيل للغد. * حقًا لن نكف عن السهر والصلاة والجهاد والعمل حتى يُسر الرب بنفوسنا، ويختارها مسكنًا يقيم فيها، قائلًا: "هذا هو موضع راحتي إلى دهور أبدية. ههنا أسكن، لأني اشتهيتها[7]" الأب مرتيروس السرياني لا تعطوا لأعينكم نومًا، ولا لأجفانكم نعاسًا (مز 4:132) حتى ترفعوا نفوسكم ذبائح محرقات طاهرة، وتعاينوا الله. لأنه بدون قداسة لا يقدر أحد أن يعاين الله كقول الرسول (عب 4:12)[8]. القديس أنبا أنطونيوس الكبير فردوس الآباء العلامة أوريجينوس مَسْكَنًا لِعَزِيزِ يَعْقُوبَ [5]. * أين بحث عن موضع للرب؟ إذ كان وديعًا بحث عن الموضع في نفسه. إذ كيف يكون الشخص موضعًا للرب؟ اسمع النبي: "أين تستريح روحي؟ على المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (راجع إش 66: 2). أتريد أن تكون موضعًا للرب؟ كن مسكينًا بالروح، ومنسحقًا، ومرتعدًا من كلمة الله، وعندئذٍ تصير أنت ما تطلبه[10]. * اطلب صداقة المسيح بدون خوف، فإنه يريدك أن تستضيفه في بيتك، أعدد له موضعًا. ماذا يعني أن تعدد له موضعًا؟ لا تحب ذاتك، حبه هو. فإن كنت تحب ذاتك تغلق الباب أمامه. إن كنت تحبه، تفتح الباب له. وإن فتحت يدخل، ولا تضيع أنت بحبك لذاتك، إذ تجد نفسك معه، مع ذاك الذي يحبك[11]. القديس أغسطينوس * يستطيع الإنسان أيضًا أن يحصّن نفسه بعوارض حينما يرتبط بوحدة المحبة. ويمكنه أن يقف على الأسس الفضية عندما يتأسس في ثبات كلمة الله النبوية والرسولية. يمكنه أن يزيّن رؤوس الأعمدة بتيجان إذا كانت تيجانه هي الإيمان بالمسيح، لأن "رأس كل رجل هو المسيح" (1 كو 3:11). ويمكن للإنسان أن يقيم في نفسه عشرة ديار، وذلك حينما يتعمق لا في كلمة أو اثنتين أو ثلاث كلمات من الشريعة، ولكن يتمتع باتساع المعنى الروحي للوصايا العشر للناموس وعندما يثمر ثمر الروح: فرح، سلام، طول أناة، وداعة، لطف، تعفف، إيمان، صلاح، وبالأخص عندما تضاف المحبة فوق كل تلك الثمار. لتكن هذه النفس يقظة: "لا تعطي نعاسًا لعينيها، ولا نومًا لأجفانها، ولا راحة لصدغها" حتى تجد مسكنًا لإله يعقوب (مز 4:132-5)[12]. العلامة أوريجينوس القديس إسطفانوس الطيبي مارتيريوس - Sahdona القديس مار إسحق السرياني القديس يوحنا الذهبي الفم 2. نزول الكلمة ليسكن بيننا هُوَذَا قَدْ سَمِعْنَا بِهِ فِي أَفْرَاتَةَ. وَجَدْنَاهُ فِي حُقُولِ الْوَعْرِ [6]. هذه ربما كانت كلمات داود النبي وأصدقائه الأتقياء الذين سمعوا عن تابوت العهد حين كانوا في أفراتة أو بيت لحم ووجدوه في قرية يعاريم (1 صم 7: 1؛ 2 صم 6: 3-4)، ومن هناك ُأصعد إلى صهيون. تشير الآيتان 6-7 إلى التابوت فعلًا الذي أُخذ من إسرائيل وسقط المنتصرين في قرية يعاريم، وظل هناك عشرين سنة (1 صم 7). يفسر البعض "أفراته" أنها بيت لحم، لكن لم يكن التابوت هناك أبدًا. غير أنه من المحتمل أن أفراته هو اسم منطقة "قرية يعاريم"، ومما يؤكد هذا الرأي أن هذا الموضع كان يخص كالب أفراته (1أي 2: 24). * يمكننا أن نفهم ببساطة أن أفراته تُقال عن بيت لحم. وقد وُلد المسيح في بيت لحم. مبارك بالحق الموضع الذي فيه تم الاحتفال به زمانًا طويلًا بهذا المزمور الذي للأنبياء قبل حلول وقت (تجسده). حقًا كل الأماكن مقدسة ومكرمة حيث وُلد المسيح، وحيث صلب. لكن هذا الموضع بالحق له كرامة أعظم. تأملوا رأفة الله الحانية! هناك وُلد طفل فقير صغير، ووُضع الطفل في مزود، لأنه لم يكن لهما موضع في المنزل (لو 2: 7)[15]. القديس جيروم يرى القديس أغسطينوس أن كلمة أفراتة تعني مرآة، وكأننا قد سمعنا عنه في نبوات الأنبياء كما في مرآة، لكننا وجدناه في حقول الوعر، أي في الأمم التي تركت الوثنية وآمنت به. لقد قدَّم الأنبياء السيد المسيح كما في مرآة، أما الأمم فحلَّ بالإيمان في قلوبهم. * يقول: "هوذا قد سمعنا به في أفراته" ، أي أخبرنا آباؤنا بهذا. تعلمنا هذا بسماع الأذن، أنه كان يتحرك هناك في الحقول والسهول، وأخيرًا جاء إلى الراحة. ليحدث هذا الآن أيضًا[16]. القديس يوحنا الذهبي الفم لِنَسْجُدْ عِنْدَ مَوْطِئِ قَدَمَيْهِ [7]. لقد اشتهى الابن الضال أن يترك بيت أبيه ولا يسكن فيه، وظن في ذلك أنه يتمتع بالحرية، ويكون سيدًا لنفسه، فبدَّد ماله. أما المرتل فاشتهى أن يدخل إلى مسكن أبيه السماوي، ويعمل حسب إرادة أبيه. السجود عند قدمي الرب علامة التسليم الكامل بفرحٍ، ليعمل إرادة المخلص لا إرادته الذاتية * ألا ترون عظمة دقة التعبير الذي يستخدمه بخصوص مسكن الله: الموضع الذي تطأه قدماه. هذا كله يشير إلى موضع التابوت حيث كانت أصوات مرعبة تصدر لليهود تحل ألغاز ونبوات مستقبلية[17]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس إكليمنضس السكندري في حديث الأب يوحنا الدمشقي عن السجود وأنواعه، يوضح بصورة قاطعة التمييز بين السجود للعبادة، وهذا خاص بالله وحده، والسجود للتكريم كما سجد يشوع بن نون ودانيال للملاك، وداود أمام تابوت العهد (عند موطئ قدميه) والسجود للاحترام والشكر، كما فعل إبراهيم أمام بني حث، حين قدموا له أرضًا لدفن سارة زوجته. * السجود هو الوسيلة التي عن طريقها نظهر البرّ والتكريم. دعنا نفهم أن هناك درجات مختلفة من السجود. أول شيء يوجد السجود، الذي نقدمه لله المستحق وحدة للعبادة، وبعد ذلك من أجل من هو مستحق للعبادة بطبيعته، نكرم أصحابه وشركاءه، مثلما سجد يشوع بن نون ودانيال للملاك، أو كما بجّل داود أماكن الله المقدّسة، عندما قال: "لندخل إلى مساكنه. لنسجد عند موطئ قدميه" (مز 132: 7). أو مثلما قدم شعب إسرائيل التقدمّه والعبادة في خيمته، أو عندما أحاطوا بالمعبد في أورشليم، مثبتين نظرهم عليه من كل ناحيّة، ومتعبدين كما أمرهم الملك، أو كما سجد يعقوب إلى الأرض أمام عيسو، أخيّة الأكبر، وأمام فرعون صاحب السلطة المعطاة له من الله (تك 47: 7). وإخوة يوسف وقعوا أمامه إلى الأرض (تك50: 18). سجود آخر يُقدّم للتعبير عن الاحترام، كما كان الحال مع إبراهيم وبني حث. فإما أن نلغي السجود بالكامل أو أن نقبله بالأسلوب والاحترام المناسب[19]. القدّيس يوحنا الدمشقي أَنْتَ وَتَابُوتُ عِزِّكَ [8]. استخدم سليمان نفس العبارات عند تدشين الهيكل (2 أي 6: 41-42). تنطبق أيضًا هذه العبارة على اليهود في عودتهم من السبي، واشتهوا بناء الهيكل لكي يعلن الله مجده هناك. إنها أيضًا صرخة كل مؤمنٍ تخرج من أعماق قلبه يوميًا، مشتهيًا أن يعلن الرب مجده فيه، وأن يستريح الرب في أعماقه، فقد سبق فقال السيد المسيح: "ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه". تشير كل الأمور نبويًا إلى ذاك التجديد العظيم الآتي الذي حققه ابن داود الحقيقي، الرب الممسوح يسوع المسيح. "قم أيها الرب": تكرر تسبحة الاحتفال في الموكب المتقدم في (عد 10: 35؛ مز 168: 1). إن كان ثمة لغة عسكرية يتردد صداها في العبارة "تابوت عزك" إنما لتوحي بالثقة المتناهية في الملك داود كما في التابوت المقدس. * أنتم تعرفون مَنْ الذي نام، والذي قام... إنه رأسنا، تابوته هو كنيسته. قام أولًا، وكنيسته ستقوم أيضًا. ما كان يمكن للجسد أن يجسر ويعد نفسه بالقيامة ما لم يقم الرأس أولًا. جسد المسيح الذي وُلد من مريم يفهمه البعض أنه تابوت القدس، وكأن الكلمات تعني: قم بجسدك، حتى لا يُحرم الذين يؤمنون (من القيامة)[20]. القديس أغسطينوس * تعالوا أنتم أيضًا أيها الأحبّاء الأعزّاء نتغنّى بالأنشودة التي تعلّمنا إيّاها قيثارة داود الملهمة قائلة: "قم يا رب إلى راحتك، أنت وتابوت موضع قدسك" (مز 132: 8). فالعذراء القديسة هي بحق تابوت. مغشّى بالذهب من الداخل والخارج، إذ قبلت كنز القداسة الكامل. "قم يا رب إلى راحتك". قم من أحضان الآب (دون أن تنفصل قط عنه) حتى تقيم جنس البشر الساقط (يو 16: 28)[21]. القديس غريغوريوس صانع العجائب * أعطى الله شهادة عن عظمة قوته بهذه الوسيلة، مرة ومرتين وعدة مرات، مثلما حدث عندما أسره شعب أشدود (1 صم 5: 1-8)... الآن ماذا يعني: قم إلى راحتك؟ ضع حدًا للتجول، ولحمل التابوت، فيستقر على الدوام[22]. القديس يوحنا الذهبي الفم وَأَتْقِيَاؤُكَ يَهْتِفُونَ [9]. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما كان يشغل ذهن المرتل ليس إقامة المبنى لبيت الرب، ولا إعداد الأواني الثمينة اللائقة به الخ.، وإنما بالأكثر نقاوة قلب الكهنة والشعب. فيلتحف الكهنة بالبرّ، ويسبح الشعب بروح الهتاف والتهليل الخارج من أعماق القلب. ويرى العلامة أوريجينوس أن البرّ الذي يلتحف به الكهنة هو السيد المسيح الذي صار لنا برًّا، به نقف أمام الآب فنتبرر. إذ يحل المسيح بالإيمان في قلوبنا، تمتلئ نفوسنا فرحًا، وتهتف أعماقنا بالتهليل! يتسربل الكهنة بالثياب الليتورجية أو ملابس الخدمة الكنسية (زك 3: 4-5)، لكن يليق بهم أن يتسربلوا بالبرّ، بالقداسة الشخصية التي هي هبة إلهية للجادين المخلصين، حتى يتأهلوا بقيامهم بالوساطة في تحقيق العهد بين الشعب والله. وقد دُعيت هذه الثياب بثياب الخلاص في (إش 61: 10). يرتدي الكهنة ثياب البرّ، ويقدم الكل - كهنة وشعبًا - ذبيحة التسبيح كأتقياء الرب أو كقديسي الرب الذين لا يكفون عن الهتاف الروحي. يشترك الشعب كله في موكب النصرة في الرب. * العبارة صادرة عمن يصلي، لا عمن يروي أو يطلب اقتناء فضيلة. يعطي اسم "البرّ" هنا للطقس والكهنوت والعبادة والذبائح والتقدمات وطابع الحياة في صحبة هذه كلها، حيث أن هذه طلبة قدمت من أجل الكهنة. "وأتقياؤك يفرحون"، وقد حدث فعلًا. لاحظوا أنه لا يتطلع إلى إنشاءات مباني، ولا إلى وفرة من الأواني، ولا إلى شكل آخر من أشكال الترف، وإنما إلى شكل الهيكل واستقرار التابوت، وكمال عدد الكهنة والطقوس والعبادة والكهنوت[23]. القديس يوحنا الذهبي الفم ولقد ثبتت الأجراس الصغيرة في الملابس. وماذا تعني ملابس الكاهن إلا أعماله الصالحة! يشهد النبي بذلك حينما يقول: "كهنتك يلبسون البرّ، وأتقياؤك يبتهجون" (مز 132: 9). فهذه الأجراس الصغيرة أو الجلاجل كانت تثبت في الملابس لكي ما تعلن عن أعمال الكاهن بصوتٍ عالٍ عن طريق حياته وفي كلامه[24]. الأب غريغوريوس (الكبير) * هذه هي العناصر التي تُصنع منها خيمة الاجتماع، ويكتسي بها الكهنة ويتزين بها رئيس الكهنة. ويتحدث المرنم عن تلك الثياب في موضع آخر قائلًا: "كهنتك يلبسون البّر، وأتقياؤك يهتفون" (مز 131 (132):9)، فكل هذه الثياب هي ثياب العدل. ويقول بولس الرسول "البسوا كمختاري الله أحشاء رأفات" (كو 12:3). وهي أيضًا ثياب الرحمة. ويضيف الرسول قائلًا عن ثياب أكثر عظمة وفخامة: "البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا تدبيرًا للجسد لأجل الشهوات" (رو 14:13)، هذه هي الثياب التي تتحلّى بها الكنيسة[25]". العلامة أوريجينوس القديس أغسطينوس لاَ تَرُدَّ وَجْهَ مَسِيحِكَ [10]. يرى البعض أن سليمان يطلب من الرب أن يستجيب طلبته ولا يرده مخزيًا، متشفعًا بأبيه المحبوب لديه. يرى القديس أغسطينوس أن الحديث موجه لله الآب بخصوص مسيحه، كلمة الله المتجسد، وقد صُلب وهم في ثورة ضده. لكنهم عادوا فرأوا المعجزات تتحقق باسم يسوع المصلوب. يشير المرتل هنا إلى البقية التي آمنت بالسيد المسيح بعد قيامته. * إنه يقول: ليس فقط من أجل فضيلته، ولا غيرته على إقامة الهيكل، وإنما أيضًا لأجل العهد معه. "من أجل داود عبدك، لا ترد وجه مسيحك". أيّ وجه يشير إليه؟ ذاك الذي مُسح في ذلك الوقت كمرشدٍ وقائدٍ للشعب[27]. القديس يوحنا الذهبي الفم 3. يقيمنا ملوكًا أَقْسَمَ الرَّبُّ لِدَاوُدَ بِالْحَقِّ لاَ يَرْجِعُ عَنْهُ: مِنْ ثَمَرَةِ بَطْنِكَ أَجْعَلُ عَلَى كُرْسِيِّكَ [11]. يريد ملك الملوك أن يقيم شعبه ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ 1: 6). هنا يقسم الرب لداود بالوعد أن يقيم من نسله ملوكًا. في قرية يعاريم حلف (أقسم) داود للرب ألا يستريح حتى يجد مسكنًا للرب وسط شعبه [2]. هنا تبدأ الاحتفالات في أورشليم بقسم الرب لإقامة ملك من نسل داود. ورد في الكتاب المقدس ثلاثة أقسام (جمع قسم) هامة: أ. أقسم الرب لإبراهيم أن يكثر نسله (تك 22: 15-18). ب. أقسم الرب لإسرائيل بامتلاك الأرض (خر 6: 8). ج. اقسم لداود ليقيم ملوكًا من نسله، إن حفظوا العهد الإلهي عمليًا. هنا نتذكر صلاة سليمان الطويلة عند تكريس الهيكل، مذكرًا الله بوعوده لداود (1 مل 8: 25-26)، تأكيد تمتع الشعب بالبركات الإلهية إذا "جاء وصلى في هذا البيت" (1 مل 8: 42). وعد الرب داود أن يقيم من ثمرة بطنه من يجلس على كرسيه، وقد تحقق ذلك بتجليس سليمان ملكًا. وإذ جاء كلمة الله متجسدًا من العذراء مريم ابنة داود جلس ملكًا على القلوب، ويجلس في ملكوته أبديًا، فهو ابن داود وربه في نفس الوقت. * ماذا يعني "أقسم"؟ لقد ثبَّت وعده بنفسه. ماذا يعني "لا يرجع"... لقد وعد بهذا على أنه لا يغير ما وعد به. القديس أغسطينوس * لقد ترك متى كل الأسماء ليذكر داود وإبراهيم (مت ١: ١)، لأن الله وعدهما وحدهما (بصراحة) بالمسيح (تك ٢٢: ١٨؛ مز ١٣٢: ١١)[28]. القديس چيروم القديس أغسطينوس القديس غريغوريوس أسقف نيصص * إذ وُهب النبي معرفة مسبَّقة باستنارة علويَّة، قدَّم نبوَّة واضحة عمًّا سيحدث. فقد قيل في وقت معاصر للطوباوي داود بواسطة الله رب الكل: "من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك" (مز 132: 11). إذ يعرف (الله) كل الأشياء غرس في الأنبياء القدِّيسين سابق معرفة لما سيحدث، معلنًا بواسطتهم، أن السرّ يُشهد له من كل الاتجاهات، فيؤمنون بأنَّه حقيقة واقعة. هكذا يقول أن قضيبًا يبرز من أصل يسَّى، وتنبت زهرة. (إش 10: 33-34 LXX)[31]. القديس كيرلس الكبير * عرفنا أن الرب يولد من عذراء، بقي لنا أن نعرف عائلة هذه العذراء. "أقسم الرب لداود بالحق ولن يندم، من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك". وأيضًا "وأجعل إلى الأبد نسله وكرسيه مثل أيام السماوات". وأيضًا "حلفت بقدسي إني لا أكذب لداود. فله إلى الدهر يكون وكرسيه كالشمس والقمر أمامي" (مز 132: 11؛ مز 89: 29؛ مز 89: 35)[32]. القديس كيرلس الأورشليمي إِنْ حَفِظَ بَنُوكَ عَهْدِي وَشَهَادَاتِي الَّتِي أُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهَا، فَبَنُوهُمْ أَيْضًا إِلَى الأَبَدِ يَجْلِسُونَ عَلَى كُرْسِيِّكَ [12]. نال داود عهدًا خاصًا باستمرارية ملكه في عهده وفي عهد أبنائه، لكنه كان عهدًا مشروطًا، ألا وهو حفظ أبنائه للعهد والشهادات التي يعلمهم الرب إياها. لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ صِهْيَوْنَ. اشْتَهَاهَا مَسْكَنًا لَهُ: [13]. شتان ما بين أن يُنقل تابوت العهد من موضع إلى آخر، وبين أن نسمع "الرب قد اختار صهيون، اشتهاها مسكنًا له". إنه اختارها بنفسه واشتهاها ليسكن فيها، وهو خالق السماء والأرض. ما هي صهيون إلا رمز لكنيسة الله الحي عمود الحق وقاعدته (1 تي 3: 15). يا لمحبة الله الفائقة، يريد أن يقيم من كل نفسٍ مدينة له، يسكن فيها ويشتهيها، يجعل منها ملكوته، ويعلن مجده في داخلها! هكذا يليق بكل مؤمنٍ أن يتطلع إلى نفوس إخوته بكل وقارٍ وتقديرٍ، فالله يطلب أن يقيم فيها كمسكنٍ له. 4. راحته في راحتنا ونصرتنا! هَذِهِ هِيَ رَاحَتِي إِلَى الأَبَدِ. هَهُنَا أَسْكُنُ لأَنِّي اشْتَهَيْتُهَا [14]. إن كان الله يشتهي أن يقيم شعبه ملوكًا، فإنه وهو يهب هذه العطية المجانية يجد مسرته كأب يفرح بفرح أولاده، ويستريح براحتهم. هكذا يعلن الله عن شهوته أن يسكن في وسط شعبه، يهبهم شبعًا ومجدًا وتهليلًا وقوةً واستنارةً ونصرةً. يبدأ المزمور بأنين داود الذي كان في مذلة [1]، لكنه ينال الوعد بقسمٍ في ابنه الملك، ليس سليمان بل المسيا ابن داود الذي بشر بمولده رئيس الملائكة جبرائيل: "ها أنتِ ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمينه يسوع... ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (لو 1: 32-33). بهذا الوعد ينتهي المزمور إلى الأفراح والأمجاد على مستوى سماوي. كثيرًا ما نتحدث عن عظمة الله القدير، وأيضًا عن عدله ومحبته لكن لا نجسر على التحدث عن تواضعه. أي تواضع أعظم من قوله عن سكناه في داخلنا: "هذه هي راحتي، ههنا أسكن لأني اشتهيتها". لم نسمع أن يشتهي أن يسكن في أحد الطغمات السماوية المحبوبة جدًا لديه، الطاهرة والنقية، لكنه يشتهي أن يقيم منا مسكنًا له. * هذه هي كلمات الله: "هذه هي راحتي"، إنني أستريح هناك. يا لعظمة محبة الله لنا أيها الإخوة، فحيث نحن نستريح، يقول إنه هو أيضًا يستريح. لأنه لا يضطرب أحيانًا ولا يستريح مثلنا، إنما يقول إنه يستريح هناك، لأننا سنجد راحتنا فيه. "ههنا أسكن، لأني اشتهيتها"[33]. القديس أغسطينوس طَعَامَهَا أُبَارِكُ بَرَكَةً. مَسَاكِينَهَا أُشْبِعُ خُبْزًا [15]. يحل الله في نفس المؤمن فتصير أشبه بفردوس يمتلئ بثمر الروح، وتحل البركة، ويفرح السمائيون. لم يعد بها مساكين، إذ تفيض في داخلها أنهار مياه النعمة الإلهية. * انظروا كيف حل الرخاء في كل الجوانب معًا، ليس من نقصٍ في الضروريات (الخبز)، يعيش الكهنة في أمان، والشعب في سعادة، والملك في قوة. يقصد بالسراج [17] هنا الملك أو الدفاع أو الخلاص أو النور. فإن أفضل شكل للرخاء هو الارتباط بهذه. ما هذا؟ فإن الأعداء يصيرون في خزي [18]، ولا يصيبه الأذى بهذه الأمور[34]. القديس يوحنا الذهبي الفم الله نفسه خبزهم. نزل الخبز إلى الأرض لكي يصير لبنًا لنا، ويقول لخاصته: "أنا هو الخبز الحي النازل من السماء" (يو 6: 15)[35]. القديس أغسطينوس * لماذا تُعتبر الكنيسة أرملة؟ إذ غاب عنها المسيح عريسها. تلك العروس التي يقول عنها الرسول: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح"، "ليحب كل رجلٍ امرأته كما أحب أيضًا المسيح الكنيسة". ولماذا تعد الكنيسة فقيرة؟ إذا لم تضع كل رجائها في كرامة وثروة هذا العالم لا في الرب الإله وحده. عن هذا نقرأ: "طوبى للمسكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات". ولماذا تُشبه الكنيسة باليتامى؟ يقول ربنا ومخلصنا نفسه: "لا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماء". ليت من ليس لهم أب أن يظهروا متواضعين[36]. الأب قيصريوس أسقف آرل كَهَنَتَهَا أُلْبِسُ خَلاَصًا، وَأَتْقِيَاؤُهَا يَهْتِفُونَ هُتَافًا [16]. صورة مبهجة لكنيسة العهد الجديد التي صارت مسكنًا لله، يستريح فيها، ويفيض بنعمته عليها، ويُشبع مساكينها ويزين كهنتها بلباس الخلاص، حيث يلبس المعمدون المسيح ويستترون فيه، وتصير لغتهم هي لغة الفرح والتهليل الذي لا ينقطع. * من هو خلاصنا إلا مسيحنا؟ إذن ماذا يعني: "كهنتها ألبس خلاصًا"؟ ذلك كما أن الكثيرين منكم إذ اعتمدوا في المسيح لبسوا المسيح (غل 3: 27)[37]. القديس أغسطينوس هُنَاكَ أُنْبِتُ قَرْنًا لِدَاوُدَ. رَتَّبْتُ سِرَاجًا لِمَسِيحِي [17]. يشير القرن إلى القوة. وما هي قوة داود التي نبتت إلا تجسد كلمة الله، الذي جاء من نسل داود حسب الجسد. هذا الذي أضاء المسكونة بنور صليبه، معلنًا حبه العملي للعالم. لم يأتِ مجيئه فجأة بلا تهيئة، فقد بعث في كل الأجيال رجال الله والأنبياء يشهدون له، وأخيرًا أرسل القديس يوحنا المعمدان يهيئ له الطريق، ويشهد له علانية. إنه السراج الذي سبق مجيء السيد المسيح مباشرة، وشهد له، قائلًا: "هذا هو حمل الله الذي يحمل خطية العالم". * يوحنا المعمدان كان السراج الذي سبق المسيح. لقد تحدث الله أيضًا عنه بطريقة مشابهة: "رتبت سراجًا لمسيحي" (مز 132: 17)[38]. القديس كيرلس الكبير العلامة ترتليان * كان المعمدان سراجًا يسبق المسيح، للذين هم تحت الناموس، الساكنين في اليهودية. هكذا قال عنه الله قبلًا: "رتبت سراجًا لمسيحي" [17]. أيضًا الناموس يُرمز له بالسراج، الذي أُوصى أن يظل مشتعلًا دائمًا. لكن اليهود بعدما سروا به زمانًا مسرعين إلى معموديته، ومُعجبين بأسلوب حياته، سرعان ما قتلوه، باذلين أقصى ما وسعهم لإطفاء السراج المضطرم أبدًا. لهذا السبب يتحدث المخلص أيضًا عنه إنه كان سراجًا مشتعلًا مضيئًا: "وأنتم أردتم ألا تبتهجوا بنوره زمانًا" (يو 5: 35)[40]. القديس كيرلس الكبير * عندما جاء المسيح رفضه اليهود، بينما اعترفت به الشياطين. داود جده لم يجهله عندما قال: "رتبت سراجًا لمسيحي" (مز 7:132)، هذا السراج الذي فسره البعض أنه بهاء البنوة (2 بط 19:1)، وفسره البعض أنه الجسد الذي أخذه من العذراء... لم يجهل النبي أمر المسيح إذ قال: "وأعلن بين البشر بمسيحه His Anointed" (عا 13:4 الترجمة السبعينية). موسى أيضًا عرفه، وإشعياء، وإرميا. لم يجهله أحد من الأنبياء، بل حتى الشياطين عرفته إذ انتهرها... رئيس الكهنة لم يعرفه، والشياطين اعترفت به. رئيس الكهنة لم يعرفه، والسامرية أعلنت عنه قائلةً: "انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟!" (يو 29:4)[41] القديس كيرلس الأورشليمي القديس أغسطينوس وَعَلَيْهِ يُزْهِرُ إِكْلِيلُهُ [18]. جاءت كلمة "إكليله" في بعض النسخ "عليه تزهر قداستي". يختم المرتل المزمور بصورة مبهجة، فإن كان عدو الخير لا يكف عن المقاومة واضطهاد كنيسة الله، إنما ليمتلئ كأس شره ويرتدي الخزي أبديًا، ويتزكى أولاد الله ويزدهرون بإكليل القداسة خلال النعمة الإلهية. من وحي المزمور 132 لتقم يا رب في داخلي * إلهي، أنت هو حياتي وراحتي وسلامي! لتقم يا رب في أعماقي، فتستريح نفسي بك. مع كل صباح أدعوك أن تعلن ذاتك في أعماقي. وطول النهار ينشغل قلبي وفكري بك. لا يعبر يوم دون أن أتمتع بخبرة جديدة معك. * لا تستريح نفسي إلا في أحضانك. ينام جسمي، لكن نفسي تناجيك. لأسترح أنا في أحضانك، ولتقبل أن تستريح في أعماقي. قم يا رب في أعماقي إلى راحتك، أنت وتابوت عزك. * هب لي مع كل يومٍ خبرة جديدة، حيث تعمل نعمتك فيّ، ولا أكف عن الجهاد المستمر، لكي تتجلى في داخلي. لأحيا في جدية بلا تواكل. فلا يضيع يوم واحد من حياتي. فإن أيامي قليلة، بخار، سرعان ما يضمحل. * لتزين هيكلك فيَّ ببرّك، فالتحف به. ولتهبني مخافتك فأحيا بروح التقوى. حلولك يملأ أعماقي بالبهجة والجمال الروحي. حلولك ينير أعماقي ببهائك. * لن يكف عدو الخير عن المقاومة. لكن كيف يقف أمامك؟ بمقاومته يلبس الخزي، وتتمجد أنت في أبنائك. |
||||
15 - 04 - 2014, 04:52 PM | رقم المشاركة : ( 7 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 133 (132 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير الصداقة الإلهية والحب الأخوي في المزمور السابق كشف المرتل عن الصداقة مع الله، إذ يختارنا الله ليسكن فينا، يستريح حين نستريح نحن فيه. أما في هذا المزمور، فيكشف المرتل عن هذه الصداقة التي لن تحقق ما لم نحمل روح الحب والوحدة الصادقة مع بعضنا البعض. لا يستطيع المؤمن أن يتذوق عذوبة الحب الإلهي ما لم يتسع قلبه بالحب لإخوته. وكما يشتهي الله السكنى في قلوبنا، يليق بنا أن نشتهي السكنى بروح الحب مع إخوتنا. أما سرّ الاتحاد فهو ليس مجرد اللقاء الجسدي، إنما اللقاء معهم في الله خلال نقاوة القلب والحياة الطاهرة المقدسة فيه. 1. عذوبة السكنى معًا غالبًا ما يُدعى "مزمور حكمة"، لا ليعلمنا الحكمة، وإنما ليعلن بروح التسبيح ما بلغنا إليه ببركة الرب ونعمته الفائقة علينا[1]. الآن إذ نأتي إلى المزمور قبل الأخير من مزامير المصاعد، يتحدث عن الحب الأخوي الحامل رائحة المسيح الذكية في هدوء وسكون كالندى العامل في جبل صهيون. 1. 2. وحدة في المسيح 2. 3. الوحدة والحياة الأبدية 3. من وحي المزمور 133 * الحب هو الباب الذي يدخل بنا إلى السماء عينها[2]. القديس يوحنا الذهبي الفم 1. عذوبة السكنى معًا تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ. لِدَاوُدَ هُوَذَا مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ الإِخْوَةُ مَعًا! [1] يرى البعض أن هذا المزمور يتغنى به الكهنة واللاويون حين يجتمعون في الخدمة معًا في بيت الرب. كما يُسر الله بلقاء المؤمن بالله على مستوى شخصي في علاقة حب خفية سرية، يُسر أيضًا باجتماع الكل معًا في وحدة الحب للتسبيح معًا. كم يكون لقاء كل المؤمنين معًا من آدم إلى آخر الدهور على السحاب مع السيد المسيح مبهجًا حتى للسمائيين، الذين طالما ينتظرون هذا اليوم العجيب. * توجد أمور كثيرة حسنة (صالحة)، لكن تنقصها البهجة (الجمال). من جهة أخرى توجد أمور تهب شبعًا، لكن ينقصها الصلاح. إنه ليس بالأمر السهل أن يجتمع الاثنان معًا... لاحظوا أنه لم يشر إلى مجرد السُكنى، ولا المأوى في موضع واحدٍ، إنما السكنى في وحدةٍ، أي في تناغم وحبٍ، هذا يجعل الشعب بروحٍ واحدةٍ[3]. القديس يوحنا الذهبي الفم إن أردتم أن تحفظوا هذا الحب غير المنكسر يجدر بكم أن تكونوا حريصين أولًا أن تتخلصوا من أخطائكم، وتميتوا شهواتكم بغيرةٍ مشتركةٍ وهدفٍ متحدٍ، مجاهدين في تحقيق ما يُبهج النبي على وجه الخصوص القائل: "هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معًا" (مز 1:133). لأنه أي شيء يُظهر وحدة الروح مثل السكنى معًا في مكان واحد؟! غير أن مختلفي الشخصية والهدف عبثًا يحاولون السكنى معًا في سكنٍ واحدٍ، ولا يعوق البعد المكاني الوحدة بين المتأسسين على صلاحٍ متساوٍ. لأن الاتحاد يتم بالله وليس بالمكان.. ولا يمكن للسلام الثابت أن يبقى متى اختلفت الإرادة بين الناس[4]. الأب يوسف القديس برصنوفيوس 2. وحدة في المسيح مِثْلُ الدُّهْنِ الطَّيِّبِ عَلَى الرَّأْسِ، النَّازِلِ عَلَى اللِّحْيَةِ، لِحْيَةِ هرُونَ النَّازِلِ إِلَى طَرَفِ ثِيَابِهِ [2]. لا تتحقق الوحدة المفرحة إلا باتحاد الكل معًا في رئيس الكهنة السماوي، ربنا يسوع المسيح، كأعضاء في جسده، يحملون رائحته الذكية. * "مثل الدهن الطيب على الرأس النازل على اللحْية لحْية هرون النازل إلى طرف ثيابه" (مز 133: 2). ماذا يقصد بهرون...؟ كاهن! ومن هو كاهن غير ذاك الكاهن وحده (السيِّد المسيح) الذي دخل إلى قدس الأقداس؟ من هو هذا الكاهن سوى ذاك الذي هو ذبيحة، وفي نفس الوقت كاهن؟ ذاك الذي لما لم يجد شيئًا طاهرًا في العالم ليقدِّمه قدَّم نفسه؟! إن الدهن الطيب على رأسه، لأن السيِّد المسيح واحد، تتَّحد به الكنيسة، لكن الدهن الطيِّب يأتي من الرأس. رأسنا هو المسيح مصلوبًا ومدفونًا ومُقامًا وصاعدًا إلى السماء، والروح القدس جاء من عند الرأس. إلى من جاء؟ إلى اللحْية. تشير اللحْية إلى الشجعان، الناضجين، الغيورين، العاملين، النشيطين. فعندما نشير إلى مثل هؤلاء نقول عنهم إنهم ذوو لحْية. هكذا نزل الدهن الطيب إلى الرسل أولًا، نزل على أولئك الذين احتملوا أولًا مقاومة العالم. القديس أغسطينوس تأملوا الآن لماذا يحدث هذا، لأن "عيني الحكيم في رأسه" (جا 2: 14). لذلك يفيض الدهن على اللحية، حتى نصير نحن أيضًا جنسًا مختارًا، كهنوتًا، ولنا تقديرنا لأننا قد مُسحنا بالنعمة الروحية لنشارك في ملكوت الله والكهنوت (العام) [5]. القديس أمبروسيوس القديس يوحنا كاسيان الأب نسطور القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم الأب خروماتيس 3. الوحدة والحياة الأبدية مِثْلُ نَدَى حَرْمُونَ النَّازِلِ عَلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ. لأَنَّهُ هُنَاكَ أَمَرَ الرَّبُّ بِالْبَرَكَةِ حَيَاةٍ إِلَى الأَبَدِ [3]. حيث يوجد الحب والاتفاق والوحدة توجد بركة الرب والحياة الأبدية. جبل صهيون هنا ليس الذي في أورشليم بل في حرمون، يتسم بالندى الغزير، يعطيه خصوبة. وكأنه يليق بوحدتنا معًا أن تكون مثمرة بالأعمال الصالحة خلال ندى النعمة الإلهية. * يوجد من يمدح (الحب) بالكلمات: "الحب بين الإخوة والاتفاق بين الإخوة، والتصاق الزوج والزوجة الواحد مع الآخر" (راجع سي 25: 1). يشير آخر بطريقة غامضة إلى قوته بالكلمات: "إن اضطجع اثنان يكون لهما دفء، والخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا" (جا 4: 11، 14). هنا يؤكد كلا من البهجة والقوة... وأيضًا "الأخ الذي يعين أخًا يشبه مدينة منيعة" (راجع أم 18: 19). وقال المسيح: "لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم" (مت 18: 20). الآن، الطبيعة نفسها تتطلب هذا. لذلك حتى في بداية تكوين الجنس البشري، قال الله: "ليس جيدًا أن يكون الإنسان وحده" (راجع تك 2: 18)... "حياة إلى الأبد". جيد أنه أضاف هذا. فحيث توجد المحبة يوجد الأمان العظيم، وتوجد نعمة كثيرة من الله. إنها والدة الخيرات، أصل وينبوع، نهاية للحروب، واختفاء للعداوة. لذلك ليشير إلى هذا أضاف: "حياة إلى الأبد"، فإن الخلاف والعداوة يسببان الموت، الموت قبل الأوان. هكذا أيضًا المحبة والاتفاق يسببان السلام والانسجام. وحيث يوجد السلام والانسجام تُمارس الحياة في أمان وضمان كامل. ولماذا نشير إلى الحاضر، فإنها فوق الكل تهيئنا للسماء والصالحات التي لا توصف، وهي ملكة الفضائل. لنهتم بهذه، ونسعى نحوها باجتهاد فننعم بالصالحات الحاضرة والعتيدة[11]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس كبريانوس من وحي المزمور 133 فيك نجتمع معًا بروح الحب * إذ نلتصق بك نجتمع معًا، تضمنا إليك بروحك القدوس. تقيم منا أعضاءً في جسدك المقدس. فتفوح منا رائحتك الذكية. * تُرى متى تأتي، فتجتمع كل كنيستك معك على السحاب. تجتمع من آدم إلى آخر الدهور. تهتز السماء فرحًا بالعروس السماوية. يدخل بنا السمائيون في موكب عجيب. * نعم، هبنا القلب المتسع بالحب للجميع. هب لنا نعمتك، فنحمل ثمر الروح. لتعمل نعمتك فينا، وتهيئنا للقاء معك! |
||||
15 - 04 - 2014, 04:54 PM | رقم المشاركة : ( 8 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 134 (133 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير الدخول الى المقادس الألهيةالآن وقد بلغنا قمة السلم، أو المزمور الأخير من مزامير المصاعد، يرتفع قلبنا كما إلى السماء عينها، لندخل إلى حضن الآب، ونشترك مع الطغمات السمائية في التسبيح الدائم بفرحٍ وتهليلٍ. كل ما يشغلنا هو التمجيد من أجل بركة الرب الحالة علينا. كأننا نمارس الحياة السماوية المتهللة، في بيت الرب الأبدي. يمكن القول بأن هذا المزمور هو تسبحة كنسية ليتورجية، يقدمها المؤمنون في السماء عينها، كتسبحة شكر لبلوغهم المقادس الإلهية. يرى البعض أنه إذ يبلغ القادمون إلى الهيكل للعيد في آخر النهار وتبدأ خدمة المساء، يترنم رئيس الكهنة طالبًا من الكهنة واللاويين أن يسبحوا الرب مع جميع الشعب [1-2]. إن كان الكهنة واللاويون الذين عليهم حراسة الهيكل حتى لا يحدث أي خلل في النظام، فلا يقترب أحد من موضعٍ غير مسموح له بالاقتراب إليه، ومراعاة نار المذبح ألا تنطفئ، وأيضًا سرج المنارة الخ. لكن الكل من كهنة ولاويين وشعب يلزمهم أن يسبحوا الرب ويمجدوه، إذ فتح لهم بيته كي يدخلوا إليه ويتمتعوا بالحضرة الإلهية. تَرْنِيمَةُ الْمَصَاعِدِ هُوَذَا بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ عَبِيدِ الرَّبِّ الْوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ بِاللَّيَالِي [1]. * بهذا يختم مزامير الدرجات مقدمًا مقاله النهائي الرائع، تسبحته وبركته. الآن يريد من عبيد الرب ألا يحتفظوا فقط بتعاليمه، وإنما أيضًا بنفس طريقة الحياة. لهذا يضيف:"... الواقفين في بيت الرب، في ديار إلهنا". إنه ليس من اللائق للشخص الدنس والنجس أن يدخل الأماكن المقدسة. ومن كان مستحقًا للدخول، يكون مستحقًا للبركة. بيت الرب مثل السماء، وكما أنه لا يجوز للقوات المقاومة أن تدخل هناك، هكذا أيضًا بالنسبة لبيت الرب... الآن كيف يمكنكم أن تظهروا هذه النقاوة؟ إن كنتم تستبعدون كل فكرٍ شريرٍ، إن كنتم تمجدون دخول أعمال الشيطان إلى مواضع في أذهانكم، إن كنتم تستمرون في تزيين أذهانكم كما بالنسبة للهيكل المقدس. فوق هذا كله، إن كان في الهيكل اليهودي لا يفتح كل موضع لكل أحدٍ، إنما توجد أقسام كثيرة متنوعة - مكان للدخلاء وآخر للذين هم يهود منذ البداية، وآخر للكهنة، وآخر لرئيس الكهنة وحده، وهذا ليس في كل الأوقات إنما مرة واحدة في السنة - ضعوا في اعتباركم درجة القداسة المطلوبة من الشخص الذي ينال ما هو أعظم من الرمز، وأعظم من قدس الأقداس في ذلك الحين. ليس لكم الشاروبيم بل رب الشاروبيم نفسه يسكن في الداخل؛ ليس لكم وعاء المن أو لوحا الحجر، أو عصا هرون، بل جسد الرب ودمه، الروح عوض الحرف، والنعمة التي تفوق العقل البشري، وهبة لا تُوصف. الآن أنتم تبدون أكثر استحقاقًا من الرموز العظيمة والأسرار المهوبة، يمكنكم بالأكثر أن تثبتوا قداسة أعظم، كما تنالون عقوبة أخطر إن كسرتم الوصايا[1]. ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ نَحْوَ الْقُدْسِ وَبَارِكُوا الرَّبَّ [2]. رفع الأيادي يشير إلى رفع القلب والفكر إلى الله الساكن في السماء. كما أن الأيادي تشير إلى العمل، وكأنه مع التأمل في محبة الله ونعمته ورعايته يليق بالمؤمنين أن يمارسوا ما يليق بهم، فتتناغم حياتهم مع تأملاتهم وصلواتهم وتسابيحهم. وكما يقول الرسول بولس: "فأريد أن يصلي الرجال في كل مكانٍ رافعين أيادي طاهرة بدون غضبٍ ولا جدالٍ" (1 تي 2: 8). * "بالليالي ارفعوا أيديكم نحو القدس، وباركوا الرب" [2]. لماذا يقول: "بالليالي"؟ ليعلمنا ألا نقضي الليل كله في النوم، بل تظهر أن الصلوات أكثر نقاوة في ذلك الوقت، حيث يكون الذهن أكثر نقاوة، ووقت الفراغ أكثر إمكانية. الآن إذ كان من الضروري أن يجد الشخص طريقًا للقدس بالليل، فكروا ما هو العذر الذي يمكن أن يقدم من ذاك الذي لا يمارس واجب الصلاة في ذلك في الوقت في البيت.؟ أقصد إن الكاتب المُوحى له يقوم من سريره ويسلك الطريق إلى الهيكل متجهًا إلى هناك ليقضي الليل، بينما فلا تفعل هذا وأنت مستريح في البيت[2]. * ليت العريس (السيد المسيح) يجد كل عروس (النفس البشرية) تجدل خيوط الفضيلة الَثمينة، ترفع يديها في الليالي (بالصلاة)، وتدبر عملها، وتزين عاداتها، وتنتظر مجيء عريسها متعجلة بشوق[3]. يُبَارِكُكَ الرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، الصَّانِعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ [3]. يرى البعض أن هذه الآية هي مرد الكهنة واللاويين على رئيس الكهنة الذي حثهم على أن يباركوا الرب في الليالي. ويرى آخرون أنها مرد الكهنة على كل الحاضرين، سائلين بركته على كل الشعب. كما جاء في سفر العدد: "كلم هرون وبنيه قائلًا هكذا: تباركون بني إسرائيل، قائلين لهم: يباركك الرب ويحرسك، يضيء، الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا" (عد 6: 23-26). يرى القديس أغسطينوس أن بركة الرب الصادرة إلى كثيرين تُقدم بصيغة المفرد، أي تصدر إلى واحدٍ، فإن من يرتبط مع إخوته ليصير معهم واحدًا يتمتع ببركة الرب. * بعد أن قدم هذه النصيحة كأمرٍ ضروري، يختم كلماته بالصلاة. هذه كما ترون هي علامة معلمٍ سامٍ، يقوِّم سامعيه بالنصيحة، وينعشهم بالصلوات. ماذا يريد من إشارته بالقول "من صهيون"؟ هذا الاسم كان عزيزًا عليهم، وكل دائرة طقوسهم تتم هناك. لهذا يسألهم أن يتبنوا طريقة حياتهم السابقة وأن ينشغلوا بالطقس، ويتمتعوا بتلك البركة. عندئذ لكي يقودهم إلى فوق نحو التعاليم العلوية، يرشدهم أن الله وإن كان في كل موضع أعطاهم شرائع لبناء الهيكل لأجل محدودياتهم، كما يلزمهم أن يناشدونه في كل موضع، لهذا أضاف: "الصانع السماوات والأرض" مع هذا فإنهم وإن كانوا يناشدونه في ذلك الموضع، فبالنسبة لنا على عكس هذا يلزمنا أن نفعل هذا في كل موضع، وفي كل مكان: في البيت والسوق وعلى ظهر السفينة وفي البرية وأينما وُجدنا. ممارسة الصلاة لا يمكن بحالٍ من الأحوال يعوقها المكان، بشرط أن يكون الوضع لائقًا بالصلاة. بتأكيد هذا لنتوسل إلى الله في كل موضعٍ، وهو يستجيب، يقوم بدوره، فيجعل كل ما هو صعب سهلًا وبسيطًا بالنسبة لنا، ويبهجنا بالخيرات العتيدة[4]. من وحي المزمور 134 هب لي عربون السماء! * وعودك صادقة وأمينة. نزلت إلى أرضنا لتهبنا عربون سماواتك. هب لنا القلب السماوي المملوء حبًا، فتسبحك أعماقنا، وتمجد اسمك. * لنرفع أيادينا إليك نهارًا وليلًا. نشكرك في النهار حيث الفرج، وبالليل وسط الضيق. نسبحك من أجل كل أعمالك معنا. فإنك الحب الكلي الحكمة. لك المجد يا محب البشر! |
||||
22 - 07 - 2014, 06:54 PM | رقم المشاركة : ( 9 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 135 - تفسير سفر المزامير
شخصك العجيب وأعمالك تدفعنا للتسبيح! يُعتبر المزموران 135 و136 مزموري تسبيح، كان اليهود يسبحان بهما في الخدمة الصباحية يوم السبت، وأيضًا في عيد الفصح. وكانا يدعيان "الهلليل العظيم". هذا المزمور هو دعوة للتسبيح لاسم الله العظيم العامل دومًا لحساب شعبه، وذلك مقابل الأوثان الجامدة التي بلا حياة. يرى البعض أن هذا المزمور وإن كان ليس من مجموعة مزامير المصاعد مثل المزمور السابق (مز 134)، غير أنه توجد أفكار مشتركة بينهما، بل وعبارات مشتركة بينهما، والاثنان يحثان على التسبيح. غير أن المزمور السابق يحمل حثًا على التسبيح دون تقديم دوافع هذا الحث، أما هنا فيشير إلى أعمالٍ معينة لله تدفعنا نحو تسبيحه. المزمور السابق موجه إلى اللاويين وحدهم، أما هذا المزمور فموجه إلى الكهنة واللاويين، وإلى كل الشعب، بل وإلى خائفي الرب [20]. 1. دعوة للتسبيح 1-3. 2. دوافع التسبيح 4-18. أ. اختياره لنا شعبًا له 4. ب. إله الخليقة القدير 5-7. ج. إله التاريخ 8-14. د. إله البهجة الأبدية 15-18. 3. ختام تسبيحي 19-21. من وحي مز 135 1. دعوة للتسبيح ما يطلبه الله من شعبه هو التسبيح، ليس لأنه محتاج إليه، ولا لأنه يطلب لنفسه مجدًا، وإنما بالتسبيح يهب سرورًا لشعبه، ويجعلهم أشبه بالملائكة. جاء في 2 أي 5: 13عندما تم بناء الهيكل وأُُحضر تابوت العهد، استجاب الرب لتسبيحهم بحضوره المجيد الذي وهبهم بهجة حقيقية. هذا التسبيح هو من عمل اللاويين وأيضًا الشعب. يفتتح المرتل هذا المزمور بالدعوة للتهليل والتسبيح أربع مرات [1-3]، كما يختمه بدعوة لمباركة الرب أربع مرات [19-20]. ويقدم لنا الدوافع التالية لتسبيحه: 1. من أجل صلاحه: ليس من لسان في هذا العالم أو في الحياة الأبدية يستطيع أن يُعبِّر عن صلاح الله. كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نلمس صلاحه في حياتنا العملية كحقيقة نتمتع بها، فنسبحه بقلوبنا وكلماتنا وسجودنا، بل وبكل حياتنا. إدراك صلاحه يحول حياتنا إلى قيثارة، يعزف عليها روح الله القدوس بلا توقف! 2. اختياره لنا شعبًا له [4]. بحبه الفائق يعتز الله بالإنسان كما بالبشرية ككلٍ، يحسب كل واحدٍٍٍ كما الجماعة كلها كنزه الذي يعتز به ويحفظه له، مع أنه ليس بمحتاجٍ إلينا في شيءٍ! 3. إله الخليقة القدير [5-7]: يعتني بالخليقة لحسابنا، ويحركها لإشباع احتياجاتنا. يتعامل حتى مع الرياح والعواصف التي تثور ضدنا، ليجعلها في خدمتنا لبنياننا. 4. إله التاريخ [8-14]. لن تتحرك أحداث التاريخ جزافًا، بل لتحقيق خطته الخلاصية لأجلنا. 5. إله البهجة الأبدية [15-18] يحوّل البشرية إلى شبه كائنات سماوية، لا تعرف إلا الفرح والتهليل السماوي! هَلِّلُويَا. سَبِّحُوا اسْمَ الرَّبِّ. سَبِّحُوا يَا عَبِيدَ الرَّبِّ [1]. يرى البعض أن الإشارة إلى "اسم الرب" هنا تعني التسبيح لجوهر الله غير المحدود، وإن كان غير مدركٍ، كما لقداسته وصلاحه وبكونه الحق المستحق كل تسبيح. * إذ يقول النبي: "سبحوا"، يعلم اليهود أن الرب لا يُسر بذبائح الحيوانات، لكنه يشاء ذبيحة التسبيح. أما قوله: "اسم الرب" فيدل على أن جوهر الله غير مدرك، إنما يُسبح اسم الرب الذي به يصِّير العظائم. الأب أنسيمُس الأورشليمي * إنكم لا تفعلون شيئًا زائدًا بتسبيحكم ربكم بكونكم عبيدًا. يلزمكم أن تسبحوا الرب إلى الأبد بكونكم عبيدًا له، كم بالأكثر يليق بكم أيها العبيد أن تسبحوا الرب، لكي تقتنوا فيما بعد ميزة الأبناء؟[1] القديس أغسطينوس فِي دِيَارِ بَيْتِ إِلَهِنَا [2]. يرى البعض أن هذه العبارة خاصة بالكهنة واللاويين، وإن كان بيت الرب كان يضم أيضًا الكثير من الشعب، يأتون إليه كل يومٍ. أيضًا يقف الشعب كله تقريبًا في بيت الرب في الأعياد السنوية. جاءت العبارتان 19 و20 تدعوان بيت إسرائيل وخائفي الرب أو الأتقياء أن يباركوا الرب. أما عن قوله: "الواقفين"، فيعني المنتصبين بالاستقامة، والمقربين على أساس الإيمان المستقيم، هؤلاء يستحقون أن يسبحوا الرب. وبقوله: "بيت الرب" و"ديار الرب" يعلم اليهود ألا يصنعوا شيئًا مما يليق بعبادتهم خارج البيت أو الدار التي عيَنها الرب لهم. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل حصر التسبيح باسم الرب على الواقفين في بيت الرب، في دياره، لأن اليهود كانوا سريعي التقلب، وهو بهذا يحفظهم من الشركة في عبادة الأوثان، بمنعهم من تقديم الذبائح والتسابيح في المعابد الوثنية. يريد الله أن يحفظ شعبه من الاشتراك في العبادة مع الوثنيين بأية صورة، الذين كانوا يتعبدون تحت كل شجرة خضراء وعلى الجبال والتلال والمرتفعات الخ.، لهذا حصر العبادة الجماعية في الهيكل، خاصة التسبيح الجماعي وتقديم تقدمات وذبائح. ويرى القديس أغسطينوس أن الله يهبنا بركة التسبيح أينما وجدنا، فكم بالأكثر تُحسب بركته أن يدخل بنا إلى بيته لنسبح له مع ملائكته؟! * مرة أخرى يحثهم على تقديم ذبيحة التسبيح هذه؛ إنها ذبيحة وتقدمة لله. لذلك يقول في موضع آخر: "أسبح اسم الله بتسبيحٍ، وأعظمه بحمدٍ. فيُستطاب عند الرب أكثر من ثورٍ بقرٍ ذي قرنين وأظلاف" (مز 69: 30-31). الآن يشير بطريقة ثابتة إلى البيت والديار، مقيدًا الجماعة بمكانٍ معينٍ، دون أن يسمح لهم أن يجولوا خارجًا. ها أنتم ترون أنه منذ البداية كانت وصيته أن يتعهدوا بناء (خيمة الاجتماع) إلى النهاية، مبطلًا الدنس وعبادة الأصنام التي قد تتأثر بها كل التجمعات في نقطة واحدة، فلا يجولوا في كل مكان بمطلق العنان بطريقةٍ جامحةٍ، ولا يحولون البساتين والينابيع والهضاب والتلال إلى ذرائع للدنس، بتقديم ذبيحة في هذه الأماكن وسكب سكائب على المرتفعات. لهذا السبب كان يحكم بالموت لمن يقدم ذبيحة خارج الهيكل، قائلًا: "من لا يقدم التقدمات ويتمم الذبيحة في الخيمة يرتكب جريمة سفك دم" (راجع لا 17: 4). هذا هو تفسير أن تتم التجمعات في ذلك الموضع، إنما لكي يسمعوا ويسلكوا باعتدال، ويُحفظوا من الأفكار الخاطئة. الآن يأمرهم أن يرتلوا ويسبحوا (في بيت الرب)، لأن التسبيح الموجه لله كان بالنسبة لهم فرصة للتقوى[2]. القديس يوحنا الذهبي الفم هل هذه عطية قليلة أن تقفوا في بيت الرب...؟ إن فكَّر أحد هكذا يكون جاحدًا![3] القديس أغسطينوس رَنِّمُوا لاِسْمِهِ، لأَنَّ ذَاكَ حُلْوٌ [3]. الله هو الصلاح عينه، من جهة يهب الحياة للصالحين الذين يلتصقون به، ويحول حتى الشرور التي تلحق بأتقيائه إلى صلاحهم وبنيانهم. الله نفسه هو مصدر عذوبة ومسرة للخليقة التي تلتصق به، سواء من السمائيين أو البشر. يليق بنا أن نسبح الله، ليس من أجل معاملاته معنا فحسب، بل ومعاملاته مع الآخرين، وفوق هذا نسبحه من أجل شخصه هو، فهو حلو! هو مصدر كل عذوبة حقيقية وسعادة أبدية لمن يلتصق به. كلما قدمنا تسبحه بإخلاصٍ نتمتع بعذوبة الله بالأكثر، ونختبر السعادة الحقيقية. يقول المرتل: "سبحوا الرب، لأن الترنم لإلهنا صالح، لأنه مُلِذ. التسبيح لائق" (مز 147: 1)، وأيضًا: "في يمينك نِعَمٌ إلى الأبد" (مز 16: 11). يبدأ بالحث على التسبيح من أجل المنفعة، فإنه صالح ورحوم وحنان، فالتسبيح يطهر النفس، ويرفع العقل إلى فوق، ويقدم لنا تعليمًا صالحًا خاصًا بمفاهيم سليمة عن الحياة الحاضرة والعتيدة. هذا والتسبيح بلحنه الجميل يدفع النفس إلى الحياة المقدسة، ومن جانب آخر، خلال التسبيح نتلمس حلاوة اسم الله وعذوبته[4]. * الترنم يلذذ المسامع، ويفرح القلوب، ويخشع القلوب، وذلك إذا كان ترتيلها بورعٍ وحسن نظامٍ، وليس بصياحٍ. الأب أنسيمُس الأورشليمي إن كنا نستعذب طعام الجسد فنحسبه حلوًا، ونشكر من صنعه، وأيضًا من قدمه، كم بالحري نشكر من يقدم لنا طعام الملائكة السماوي؟ إن كان الله يرسل طعام الملائكة ليأكله الإنسان (مز 78: 25)، وهو سماوي وحلو، فكيف تكون عذوبة الله نفسه وحلاوته، وعذوبة التسبيح والشكر له. يقدم لنا الدافع للتسبيح وهو "لأن الرب صالح". يقول القديس أغسطينوس إن كلمة "صالح" التي تخص الله تختلف تمامًا عن نفس الكلمة حينما تخص الخليقة. فعندما أتم الخليقة قيل إنه رأى كل شيءٍ حسنًا (صالحًا) جدًا، فماذا يكون الخالق نفسه؟ * إلى أي مدى يمكننا أن نتحدث عن صلاحه؟ من يمكنه إدراك في قلبه أو فهمه كيف يكون الله صالحًا؟ لنرجع إلى أنفسنا وفي داخلنا فنتعرف عليه، ونسبح الخالق على أعماله. على رجاء أننا نستطيع أن نتأمله عندما يتنقى قلبنا بالإيمان وبعد ذلك يفرح في الحق. لنرى أعماله، فلا نعيش دون التسبيح له[5]. القديس أغسطينوس 2. دوافع التسبيح يبدأ المرتل هذه الدوافع باختياره لنا شعبًا له، قبل أن يتحدث عنه كخالقٍ ومدبرٍ للكون وإله التاريخ. فإن الخليقة والتاريخ ورعاية الله الفائقة غايتها الحب الإلهي الذي به تشعر البشرية أنها لله، والله لها. هذا هو شعور كل مؤمنٍ حقيقي: "أنا لحبيبي، وحبيبي لي" (نش 6: 3). أ. اختياره لنا شعبًا له لأَنَّ الرَّبَّ قَدِ اخْتَارَ يَعْقُوبَ لِذَاتِهِ، وَإِسْرَائِيلَ لِخَاصَّتِهِ [4]. في حبه العجيب للبشرية، يود أن يقيم منهم خاصة له، ينسب نفسه إليهم، فيحسب نفسه إله إسرائيل، كما يحسب نفسه إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب. قيل: "لأنك أنت شعب مقدَّس للرب إلهك. إياك قد اختار الرب إلهك، لتكون له شعبًا أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" (تث 7: 6). كما قيل: "فالآن إن سمعتم لصوتي، وحفظتم عهدي، تكونون لي خاصة من بين جميع الشعوب. فإن لي كل الأرض، وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة" (خر 19: 5-6). كثيرًا ما يشير الكتاب المقدس إلى اختيار اليهود كشعبٍ له في العهد القديم (تث 7: 6، 7؛ مز 33: 12؛ عا 3: 2). جاءت كلمة "خاصته" في الترجمة السبعينية: "ميراثًا له"، ويترجمها البعض "كنزه". إنه يعتز بمؤمنيه، ويحسبهم كنزه الثمين. كأعضاءٍ في جسده، ينظر إلينا بكوننا لؤلؤة ثمينة للغاية لا تُقدر بثمنٍ. حقًا، إن من يشتاق إلى الالتصاق به، يدخل كما في قرابة، يقف في دهشةٍ متسائلًا: "ولماذا اختارني أنا؟" هذا الشعور المفرح يجعل من الإنسان متعبدًا لله في مخافةٍ مع فرحٍ عجيبٍ! يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله يُسر بالتسبيح ككنزه، ليس من أجل كثرة عدد المسبحين، وإنما من أجل فضائلهم. * الآن، ما هو معنى: "ككنزٍ له"؟ كثرواتٍ، كفيضٍ من خيرات (خاصة به)، حتى إن كانت الأمة صغيرة في العدد، فإنه يختارها كثروته، ناظرًا لا إلى قلة العدد، بل إلى الفضيلة التي قصد أن يقودهم إليها ويختاروها[6]. القديس يوحنا الذهبي الفم نسبح الله كخالقٍ، لأنه خلق المسكونة من أجل الإنسان محبوبه. هو كلي القدرة، يحرك الطبيعة لأجل بنيان الإنسان وإشباع احتياجاته المادية والروحية والنفسية. لأَنِّي أَنَا قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ الرَّبَّ عَظِيمٌ، وَرَبَّنَا فَوْقَ جَمِيعِ الآلِهَةِ [5]. كل أمة تعتز بإلهها أو آلهتها بالرغم من جمود هذه الآلهة، وعجزها التام عن العمل. أما الله الحي فهو فوق الكل، ليس من مجالٍ للمقارنة بينه وبينهم. قد يعجب الإنسان كيف يتحدث المرتل عن الرب أنه عظيم، ثم يعود فيقارن بينه وبين آلهة الأمم، ويقول إنه فوق جميع الآلهة. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه ليس من مجال للمقارنة، لكن المرتل يستخدم هذا من أجل ضعف عقل المستمعين، فقد ارتبطوا بالعبادة الوثنية وكرّموها، لهذا كان يلزم مقارنة الله الحي بهذه الآلهة الجامدة التي بلا حياة لإنقاذ هذه النفوس الضالة؟ إلهنا عظيم في حبه وفي تواضعه وفي رعايته لنا في الأمور الكبيرة والصغيرة. في تقديرنا لمحبته الفائقة لنا نرتل، قائلين: "كم أنت عظيم يا مخلصي؟!" إنه فوق كل الرؤساء والحكام والقادة والأوثان، "له على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب: ملك الملوك ورب الأرباب" (رؤ 19: 16). كُلَّ مَا شَاءَ الرَّبُّ صَنَعَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَفِي الأَرْضِ، فِي الْبِحَارِ، وَفِي كُلِّ اللُّجَجِ [6]. الله القدير بإرادته وحدها يحقق كل شيءٍ، هو يقول فيكون. ليس من إرادة فوق إرادة الله، هذه الإرادة تعمل لصالح خليقته التي تقبل عمله فيها. إنه ملك السماء والأرض، يجلس على عرش المسكونة كلها. ضابط الكل، يوجه كل شيءٍ، ويفعل كل شيءٍ حسب مسرته. * إنه كلي القدرة، لذا ما يريده يتحقق[7]. * لا تقدر الإرادة البشرية أن تمنع (الله) من أن يعمل ما يشاء، فإنه حتى بالإرادات البشرية يتمم هو إرادته عندما يريد أن يحققها[8]. القديس أغسطينوس * ألا ترون القوة التي فيها كل الكفاية؟ ألا ترون مصدر الحياة؟ ألا ترون القدرة التي لا تُقاوم؟ ألا ترون السمو الذي لا يُقارن؟ السلطان الذي لا يعترض سبيله موضع ما؟ ألا ترون أن كل شيء سهل وبسيط بالنسبة له؟ يقول: صنع ما شاء. أسأل: أين؟ "في السماوات وعلى الأرض"، أي ليس فقط هنا في الأسفل، بل وفي السماء؛ وليس فقط في السماء وإنما على الأرض أيضًا. وليس فقط على الأرض، وإنما أيضًا في البحار وكل الأعماق[10]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب يوحنا الدمشقي * من يقدر أن يعدد أعمال الرب في السماء وعلى الأرض وفي البحر وفي اللجج؟ مع ذلك إذ لا نستطيع إن ندركها بأكملها، يلزمنا أن نقبلها بإيمان دون تساؤل[12]. القديس أغسطينوس لقد كتبتُ ذلك لمحبتك ليس لاحتياجك إلى التعلُّم، لأنك لو بحثتَ في الكتاب المقدس، فإنه ستكون لك رزانة وفطنة أكثر منِّي أضعافًا، لأنني بائسٌ وضعيفٌ، ولي فقط الاسم مع جهالة. ولكنني من وجع القلب والحب المضاعف لله "كتبتُ إليك بدموعٍ كثيرة" (2 كو 2: 4). فلعل الله يثبِّت قلبك في مخافته، ذاك الذي خلق السماء وثبّتها (إش 42: 5 السبعينية). ولعله يؤسِّس بنيانك على الصخرة الثابتة "الذي أسّس الأرض على المياه" (مز 135: 6 السبعينية). ولعله ينتهر التجارب، ذاك الذي "انتهر الرياح والبحر" (مت 8: 26). ولعله يُبعِد عنك نسيان الوصايا، ذاك الذي أبعد المشرق من المغرب (مز 103: 12). لعله يُشفق على نفسك "كما يتراءف الأب على البنين" (مز 103: 13)، ولعله يُنير قلبك ذاك الذي أضاء الأشياء التي كانت مظلمة (اُنظر 2 كو 4: 6). القديس برصنوفيوس الصَّانِعُ بُرُوقًا لِلْمَطَرِ. الْمُخْرِجُ الرِّيحَ مِنْ خَزَائِنِهِ [7]. الله هو واضع القوانين لكل الطبيعة، فإن كانت تسير حسب الناموس الذي وضعه لها الله، فلا يليق أن نتجاهل أن كل الخليقة في يده يحركها حسبما يشاء، سواء حسب النواميس التي وضعها أو ضدها إن أراد. كل الأمور تسير بتدبير إلهي، حتى قطرة واحدة من الأمطار. كما أن قوة الله ليست خارجة عنه، فهي تحمل سماته غير محدودة، أبدية، ولا تُقاوم، ولا يمكن فهمها بفكرنا البشري[13]. كثيرًا ما يشير السحاب إلى النفوس المقدسة لله، لأنها تحظى بالتخلص من ثقل الخطايا، فتصير خفيفة كالسحاب، تحلق في السماويات، أما الأشرار فبسبب ثقل الخطايا يصيرون كالرصاص الذي يغوص في عمق المياه. تشير البروق إلى روح الاستنارة التي يهبها إيانا روح الله القدوس. ويشير الريح إلى الروح. وكأننا نشكر الله ونسبحه، لأنه يقيم منا نحن الذين نسلك على الأرض سحابًا مقدسًا ينعم بعربون السماء، ويفتح بصيرتنا الداخلية، فتتعرف على أسراره، كما يهبنا روحه القدوس عاملًا فينا، كما من خزائنه الإلهية. هذا هو موضوع تسبيحنا له، إنه ينزع عنا خطايانا، ويهبنا برَّه، ويقيمنا كملائكته المنيرين، ويجعلنا هيكلًا له وروحه القدوس ساكنًا فينا. * يُقال عن الرسل إنهم سحاب، لأنهم بحرارة شمس البرّ الذي هو ربنا يسوع المسيح، رُفعوا من الأرضيات إلى السماويات. كما قال بنفسه له المجد: أنتم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم. أما البروق فهي التعاليم التي أضاءت المسكونة، وجلبت علينا رحمة الله مثل مطرٍ. الأب أنسيمُس الأورشليمي * يرى المرتل كأن الله يبعث بالرياح من مخازنها لصالح الإنسان[15]. القديس يوحنا الذهبي الفم من الذي أوجد الهواء بهذه الغزارة، ووزعه ليس حسب المرتبة أو الثروة، فإنه ليس هناك حدود تحتجز الهواء وتكتنزها داخلها. ولا يخضع توزيعه للسن، لا بل توزيعه مثل توزيع المن والسلوى، يوجد ما يكفي الجميع، وأنصبة الجميع متساوية (خر 16: 14-16). تمتطي جميع المخلوقات ذات الأجنحة الهواء، وتتخذه الرياح عرشًا لها. هو الذي يعطي فصول السنة توقيتها، ويعطي الحياة للحيوانات، أو بالأحرى يحفظ الحياة في أجسادها. تعيش أجسادنا في الهواء، وينتقل الكلام عن طريقه. والضوء وما يظهره الضوء لنا موجود في الهواء، كما أن تيار البصر يسري فيه. لننظر إلى ما يأتي بعد الهواء، فليس للهواء السيطرة على كل ما يُعتقد أنه تابع له، ماذا عن مخازن الرياح (مز 135: 7)، وخزائن الثلج "البَرد" (أي 38: 22)؟ ومن ولد قطرات الندى؟ (أي 38: 28) ومِنْ بطن مَن خرج الثلج؟ (أي 38: 29) من يَصر (يربط) المياه في السحب؟ (أي 26: 8) المعجزة هنا أنه يربط شيئًا طبيعته التدفق بكلمته في السحب، ومع ذلك فهو يصب بعضه على وجه الأرض كلها للجميع (مت 5: 45) في الفصل المناسب، وهو لا يطلق مخزون الماء كله، فقد كان التطهير الذي تم في أيام نوح كافيًا، وحقًا فإن الله لا ينسى وعده بعدم تكرار الطوفان (تك 9: 8-17). وفي نفس الوقت لا يمنع الماء، وبهذا الشكل فإنه لا يجعلنا نحتاج لإيليا ثانٍ لينهي الجفاف (1 مل 17: 1-18: 45). "فإذا أغلق السماء، من ذا الذي يمكنه أن يفتحها" يقول الكتاب (أي 12: 14، 2 أي 7: 13). وإذا فتح كوى السماء، من ذا الذي يغلقها؟ (مل 3: 10) من الذي يستطيع أن يتحمل شدة الجفاف والطوفان لو لم يتحكم الرب في الكون كله بضوابطه وموازينه (أي 28: 25)؟ أيها الفيلسوف إنك تهدر كالرعد هنا على الأرض، مع أنك لا تملك البريق الذي يمكن أن تعطيه لك بضع شرارات من الحق؟ كيف تفسر البرق والرعد؟[16] القديس غريغوريوس النزينزي * "من هو أب للمطر؟! ومن ولد قطرات الندى؟!" (أي 38: 28) من اكتنز الهواء في السحب، وربطها لتحمل مياه الأمطار، فتأتي ذهبية اللون (أي 37: 22) من الجنوب، بنظامٍ واحدٍ تارة، وفي شكل دوائر متعددة وأشكال متباينة تارة أخرى؟! من يحصي الغيوم بالحكمة (أي 38 :37)، إذ قيل في أيوب: "من يعرف انفصال السحاب؟!" (أي 37: 16 LXX) من هو "المخرج الريح من خزائنه" (مز 135: 7)، وكما قلنا قبل: "من ولد قطرات الندى؟ ومن بطن من خرج الثلج؟!" (راجع مز 135: 7؛ أي 38: 28) فإن مادتها ماء، وقوتها كالحجر! في وقت ما يصير الماء ثلجًا كالصوف (راجع مز 147: 16)، وأخرى يذريه صقيعًا كالرماد، وثالثة يصير مادة حجرية. إنه يحكم الماء كما يريد. طبيعة الماء واحدة، لكن عمله متعدد في القوة، فيعمل في الكرمة خمرًا يفرح قلب الإنسان، وفي الزيتونة زيتًا يلمع وجهه، وفي الخبز يسند قلب الإنسان (مز 104: 15)، ويوجد في كل أنواع الفاكهة التي خلقها الله[17]. القديس كيرلس الأورشليمي ج. إله التاريخ نسبح الله، لأنه إله التاريخ، لا يحدث شيء ما مصادفة، إنما هو ضابط التاريخ، سواء على المستوى الجماعي أو الكنسي، أو الشخصي لكل مؤمنٍ. يشهد التاريخ عن التدخل الإلهي في حياة الكنيسة كما المؤمن، ليطمئن الإنسان من جهة المستقبل أنه في يد الله. اختار المرتل من بين أحداث التاريخ ثلاثة أحداث هامة، وهي: أ. الضربات العشر، ليؤكد أن الله، وإن سمح بالشر، لكنه لن يترك مؤمنيه في قبضة الشر أو الأشرار الطغاة. ب. وهزيمة الملكين سيحون وعوج في بداية المعارك التي دخل فيها الشعب قديمًا. ج. وأخيرًا دخول أرض الموعد إشارة إلى التمتع بكنعان السماوية. الَّذِي ضَرَبَ أَبْكَارَ مِصْرَ مِنَ النَّاسِ إِلَى الْبَهَائِمِ [8]. بعد أن سبح المرتل الله لأجل أعماله العجيبة الخاصة بالطبيعة التي من صنع يديه، وتسير حسب رعايته الإلهية، الآن يسبح الله من أجل معاملاته في التاريخ. تبرز قوة الله في معاملاته مع شعبه في العهد القديم خلال الضربات العشر، وتبلغ القمة في الضربة الأخيرة الخاصة بقتل الأبكار، وعبور البحر الأحمر. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في ضرب أبكار المصريين يعلن الله لطفه ومحبته لشعبه كما أيضًا للمصريين أنفسهم ولكل الأمم: أ. كما أن الأب يحمل أحد أطفاله على ركبتيه أو على ذراعيه لكي يدفع بقية أولاده أن يجروا إليه، فيقدم لهم نفس الرعاية كما مع هذا الطفل، هكذا اهتم الله بشعبه المتألم من مرارة العبودية، فسمح بضرب أبكار المصريين الذين سخروا شعبه في مذلة، ليعلن الله حبه لكل البشرية. كل من يلتصق به يتمتع بهذا الحنو الإلهي الذي قدمه لشعبه. ب. في هذا التصرف أيضًا أعلن اهتمام الله بالمصريين، فقد بدأ بتأديبهم بضربات خفيفة، وإذ أصروا على عنادهم سمح بتأديبات أقسى فأقسى، لعلهم يتوبون. ومن جانب آخر ليكونوا درسًا وعبرة لمن يُصر على العناد. لم يبدأ الله الضربات بموت الأبكار، إنما بالخلائق الأخرى كالحيوانات، لعلهم يرتدعون. ج. أكد لهم الله بكل الطرق أن هذه الضربات لم تحدث مصادفة كما يظن البعض، إنما هي تأديب من قبل الله لإصلاحهم. د. لم يقتل كل أبناء المصريين تاركًا لهم الآخرين ليعطيهم رجاءً التوبة. و. سمح بضرب أبكار البهائم مع أبكار المصريين ليؤكد لهم أن هذه البهائم عطية من الله للإنسان، فإن فسد الإنسان، فما الحاجة لهذه البهائم التي خلقها الله لخدمة الإنسان؟ أَرْسَلَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ فِي وَسَطِكِ يَا مِصْرُ، عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَى كُلِّ عَبِيدِهِ [9]. الله الذي صنع آيات وعجائب في وسط مصر ليخلص شعبه من عبودية فرعون، لا يزال يعمل بلا انقطاع من أجل خلاص نفوسنا من عبودية إبليس، ليدخل بنا لا إلى أرض الموعد، بل إلى السماء عينها. "في وسطك يا مصر": يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه يقصد بذلك وسط مصر مكانيًا، وربما يعني أنها في وسط المصريين لكي يتحير كل المصريين، فيقف الكل في حيرة ودهشة متسائلين: ماذا وراء هذا الحدث؟ فيدرك الكل أنه لتأديبهم. * إن قلت إن فرعون هو الذي كان عاصيًا على الإسرائيليين، ومانعًا لخروجهم، فلماذا ضرب الله جميع أبكار المصريين؟ نقول: لولا أن جميعهم كانوا متفقين في الرأي وفي مسلكهم، لقاموا على ملكهم، وألزموه على أطلاقهم. هذا قد ظهرت حقيقته أخيرًا عندما مات أبكارهم، إذ قاموا كلهم بساقٍ واحدة، وألزموا فرعون على أطلاقهم. إذن كان يمكن حدوث هذا قبل امتحانهم. الأب أنسيمُس الأورشليمي وَقَتَلَ مُلُوكًا أَعِزَّاءَ [10] كان الشعب في مواجهة أمام أممٍ كثيرة وملوكٍ عظماء. انتصر عليهم شعب الله دون خبرة عسكرية، لأنهم لم يكونوا طرفًا في المعركة، إنما كان الرب نفسه طرفًا فيها. أبرز قوته في رعايته للمؤمنين، فهو سلاحهم الذي لا يُقهر، يهزم الأعداء بكونهم رمزًا لإبليس المقاوم للحق. سِيحُونَ مَلِكَ الأَمُورِيِّينَ، وَعُوجَ مَلِكَ بَاشَانَ، وَكُلَّ مَمَالِكِ كَنْعَانَ [11]. لماذا أشار إلى النصرة على سيحون ملك الأموريين وعوج ملك باشان، مع أن الشعب انتصر على ممالك أخرى أيضًا؟ 1. كانا في مدخل كنعان، يمثلان أول مقاومة قوية ضد إسرائيل (عد 21: 21-25). 2. كانا على رأس الأمم والقبائل القوية. 3. اتسم هذان الملكان وجنودهما بأنهم عمالقة من جهة قامتهم الجسمية وبنيانهم (تث 3: 11؛ عا 2: 9). وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثًا، مِيرَاثًا لإِسْرَائِيلَ شَعْبِهِ [12]. صارت الأرض ميراثًا للشعب ليس باستسلام الوثنيين وهزيمتهم، وإنما كعطية مجانية للهاربين من مصر (كرمزٍ للفساد في ذلك الحين) من قبل الله، سبق فوهبها لآبائهم (تك 17: 8؛ 28: 13؛ 35: 12). يَا رَبُّ اسْمُكَ إِلَى الدَّهْرِ. يَا رَبُّ ذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ [13]. أعمال الله مع شعبه لا يقدر الزمن أن يمحوها، إنما تبقى شهادة دهرية لاسم الله القدير الصالح (مز 30: 4؛ 102: 12). اسم الله هنا يمثل الله نفسه. * "يا رب اسمك إلى الدهر. يا رب ذكرك إلى جيل فجيل". بمعنى أن مجدك لا ينقطع. لا شيء يسيء إليه، لا شيء يعترضه، بل بالحري هو أبدي، لا يتغير ولا يتزعزع، دائم الازدهار. الآن ما هو معنى: "ذكرك إلى جيل فجيلٍ"؟ ذكرك هو بلا نهاية ولا حدود[18]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي * "من جيل إلى جيلٍ آخر". الجيل الذي فيه صرنا مؤمنين، مولودين ثانية بالمعمودية، والجيل الذي سنقوم فيه من الأموات ونعيش مع الملائكة إلى الأبد. ذكرك يا رب هو فوق هذا الجيل، وفوق ذاك الجيل القادم، فإننا لا ننسى أنه يدعونا الآن، ولا ننسى أنه يكللنا هناك[19]. القديس أغسطينوس وَعَلَى عَبِيدِهِ يُشْفِقُ [14]. هذه العبارة مقتبسة من تثنية 32: 36. جاءت الكلمة العبرية المترجمة هنا "يدين" تعبر عما يخص العدل الإلهي، فالله عادل ورءوف، مملوء حنوًا. فهو يبرئ شعبه إن التصق به بالحق وكان مخلصًا في عهده معه. يترفق بعبيده، لكنه لا يهادن الخطية. إنه لا يحابي! يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله يدين شعبه فيؤدبهم، وإذ يستجيبون للتأديب يعود فيكافئهم ويعزيهم. ربما يعني أنه يدين الأشرار حتى وإن كانوا من شعبه، ما داموا مصرين على عنادهم، ويعزي من يلتصقون به. * أعني أن الرب يقاصص شعبه، ويدينه على جرمه، ويلحق به جريرة خطاياه، ثم يعفو عنه، ولكن ليس من أجل استحقاقه، بل من أجل أنه شعبه وعبده. وأيضًا بمعنى أن الرب يجازي ظالميه (ظالمي شعبه) ويشفق على عبيده. الأب أنسيمُس الأورشليمي * نسبح الله، لأنه بالفعل يدين شعبه الآن، إذ يقول: "لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم، حتى يُبصر الذين لا يبصرون، ويعمي الذين يبصرون" (يو 9: 39). يصير المتكبرون عميانًا، والمتواضعون مستنيرين. لذلك "يدين شعبه". لقد تحدث إشعياء عن الدينونة: "يا بيت يعقوب، هُلمَّ فنسلك في نور الرَّب" (إش 2: 5) [20]. القديس أغسطينوس أَصْنَامُ الأُمَمِ فِضَّةٌ وَذَهَبٌ، عَمَلُ أَيْدِي النَّاسِ [15]. بعد أن تحدث عن سلطان الله، وأشار إلى عمله في السماوات وعلى الأرض وفي البحار وكل الأعماق، وعن اهتمامه بشعبه وكل الأمم، أظهر أن الله هو إله الكل ويعتني بالعالم، عاد ليسخر بالأصنام. إنه يهاجم طبيعتها ذاتها، فالأصنام لا تعني شيئًا سوى أنها بلا حياة وجامدة، ومع هذا فمن السخافة أن يضع الإنسان رجاءه فيها. شتان ما بين الله خالق الإنسان من العدم، وبين الأصنام التي هي من صنع يدي الإنسان، فهي أقل منه. إنها من الفضة والذهب، قابلة للضياع والدمار. * لذلك اقبلوا تعليم الكتاب المقدّس. لو قال الكتاب: "أصنام الأمم فضة وذهب، عمل أيدي الناس" (مز 135: 15)، فهو لا يحرم السجود أمام الأشياء الغير متحركة، ولا عمل أيدي الإنسان، ولكن فقط أمام هذه الصور التي هي عمل الشيطان. لقد رأينا أن الأنبياء سجدوا أمام ملائكة، ورجال، وملوك، وهؤلاء الذين لم يعرفوا الله، وحتى أمام عصا. داود يقول"ونسجد عند موضع قدميه" (مز 99: 5) وإشعياء يتكلّم عن اسم الله "السماء هي عرشي، والأرض موضع قدمي". (إش 66: 1) إنّه من الواضح للجميع أن السماء والأرض من المخلوقات. موسى وهارون وكل الشعب تعبدوا أمام أشياء مصنوعة بالأيدي. بولس صوت الكنيسة الذهبي قال في الرسالة إلى العبرانيّين: "لأن المسيح لم يدخل إلي أقداس مصنوعة بيد أشباه الحقيقة، بل إلي السماء عيّنها" (عب 9: 24) بمعني أن الأشياء المقدّسة القديمة، الخيمة، وكل شيء فيها كانت مصنوعة بأيدٍ، ولا يمكن لأحد أن ينكر أنّها كانت مبجّلة[21]. القدّيس يوحنا الدمشقي لَهَا أَعْيُنٌ وَلاَ تُبْصِرُ [16]. لَهَا آذَانٌ وَلاَ تَسْمَعُ. كَذَلِكَ لَيْسَ فِي أَفْوَاهِهَا نَفَسٌ! [17] سبق أن أشير إلى الأصنام وسماتها في المزمور 115: 4-8 إنها تعجز حتى عن أن تتنفس، فكيف يمكنها أن تعين من يتعبد لها؟! * بما أن الشياطين كانت تدخل في الأصنام وتحركها، وتخاطب الناس من داخلها، لذلك قال النبي: لا تظنوا أنها ذات نفس وكلام، بل هي مصنوعة من ذهبٍ وفضةٍ وعديمة النفس والحس، وهي عمل أيدي الناس. الأب أنسيمُس الأورشليمي وَكُلُّ مَنْ يَتَّكِلُ عَلَيْهَا [18]. الذين يصنعون الأصنام يصيرون مثلها عميان روحيًا وصم وبكم بل وأموات. يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن التماثيل في العبادة الوثنية حملت صورًا شنيعة غير لائقة تكشف عما في قلب صانعيها وأفكارهم، وفي نفس الوقت يستخدمها الشيطان لحث العابدين لها على ممارسة هذه الرجاسات، فيصيرون على مثال التماثيل نفسها. حقًا لكل فئة عملها الخاص فالشعب غير الكهنة غير اللاويين، والكل معًا يسبحون الله ويمجدونه. * غاية تعبنا ونهاية قصدنا أن نتشبه بإلهنا على قدر إمكاننا، وأما الذين يعبدون الأصنام، فيكونون مثل منحوتاتهم التي هي عمل أيادٍ بشرية. لأنها صور بشائع وقبائح التي فعلها المصورون وعديمة النمو والحواس. بهذه الأقوال يهجو النبي حماقة عابديها والمتكلين عليها. أما الشيطان فكان يتكلم من داخلها ليحثهم على صنع بشائع. الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس يوحنا الذهبي الفم 3. ختام تسبيحي يختتم هذا المزمور التسبيحي بالقول عن الرب "الساكن في أورشليم". سرّ تسبيحنا سكنى الله في أورشليم الجديدة، في كنيسة المسيح كما في قلب المؤمن. يقول حزقيال النبي: "يهوه شاما Shamma"، أي الرب هناك. يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ بَارِكُوا الرَّبَّ. يَا بَيْتَ هَارُونَ بَارِكُوا الرَّبَّ [19]. مباركة الرب أو التسبيح له هو عمل عظيم، خلاله تتحقق الوحدة بين الفئات من كهنة ولاويين وأتقياء، وكل بيت إسرائيل الروحي الجديد. * بقوله بيت إسرائيل وبيت هرون وبيت لاوي وخائفي الرب يدل على أن التبريك للرب ليس على نسقٍ واحدٍ من الكافة. الأب أنسيمُس الأورشليمي يَا خَائِفِي الرَّبِّ بَارِكُوا الرَّبَّ [20]. يقودنا التأمل في عظمة الله وعظمة معاملاته معنا إلى الاشتياق الداخلي الملتهب بالحب نحو التسبيح له. نباركه بمعنى أننا نكرَّمه ونسبحه ونخضع له ونسجد له. مُبَارَكٌ الرَّبُّ مِنْ صِهْيَوْنَ، السَّاكِنُ فِي أُورُشَلِيمَ. هَلِّلُويَا [21]. كما بدأ المزمور بهللويا، هكذا أيضًا انتهى. فالتهليل هي بداية عملنا ونهايته؛ بل يمثل كل حياتنا. من وحي مز 135 تسبيحك حلو يا مخلصي العجيب! * لك الشكر يا خالقي المحب. نفسي تغوص في لجة أعمال محبتك. لم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك! تبقى نفسي متهللة بخالقها وراعيها العجيب. كعبدٍ لك تتهلل نفسي، فماذا وأنت تهبني روح التبني؟ تحملني في أحضانك كابنٍ لك! * إذ أقف عند أعتاب بيتك، تمتلئ نفسي سرورًا، فماذا وأنت تدخل بي إلى مقدسك السماوي؟! في ديارك الأبدية تشترك أعماقي مع طغماتك في التسبيح! في ديارك أسمر عيني على بهاء مجدك. في ديارك أنعم بما لم تره عين، ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على قلب بشر! حقًا، صالح أنت يا الله، وحلو! * تسبحك نفسي، لأنك اخترتني لك! أنت لي وأنا لك يا حبيب. أذوب في حبك العجيب، ولا أطلب معك سوى أحضانك! * تسبحك نفسي يا أيها الأب الحكيم القدير. كل ما تشاء تفعله. وما هي مشيئتك إلا أن تخلص نفسي، وانعم بشركة الأمجاد السماوية؟ قدير في أعمالك، حكيم في تدبيرك، حلو في أبوتك. ماذا أطلب بعد؟ * من أجلي تُصعد السحاب من أقاصي الأرض. وتصنع البروق للمطر وتخرج الريح من خزائنه. أنت وحدك تقيم من الترابيين الأرضيين سحابًا مقدسًا. بروحك تبرق في داخلي، فأعاين نور مجدك. تفتح خزائن حبك، فيعمل روحك القدوس في بني البشر لكِ التسبيح من أجل أعمالك اليومية معنا. لك التسبيح من أجل الأمجاد التي تعدها لنا. لك المجد من جيل إلى جيل. نمجدك يا من أقمتنا أبناء لك. لك المجد يا من تقوُدنا إلى سماواتك لنكون مع ملائكتك! |
||||
22 - 07 - 2014, 07:04 PM | رقم المشاركة : ( 10 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 136 - تفسير سفر المزامير تسبيح محبة الله الحانيةهذا المزمور هو قطعة تسبيح رائعة تنعش النفس وتلهبها بنيران محبة الله وحنانه نحو كل الخليقة، خاصة الإنسان. يدعوه بعض اليهود "الشكر بالعظيم" أو "الهلليل العظيم"، وذلك من أجل طابعه المُفرح والتهليلي الفريد في كل سفر المزامير. يفتح هذا المزمور باب الرجاء أمام المؤمن، فلا يشك في مراحم الله، بل يشعر أن الخلاص ليس ببعيدٍ عنه. ليس من شيء نقدمه لمجد الله، وينزع عنا اليأس المحطم للنفس البشرية سوى الشكر الدائم لله على مراحمه الأبدية. هذا وإن كانت الصلاة لازمة مادام فينا نَفَس، فإن الشكر الدائم يسكب مسحة من الفرح السماوي على الصلاة. كان التسبيح بهذا المزمور يمثل جزءًا من العبادة اليهودية اليومية، كما كان يستخدم في الاحتفال التعبدي في السنة الجديدة، وأيضًا في عيد الفصح اليهودي إذ يشير إلى الخروج[1]. يقوم خورسان بتسبيح هذا المزمور، الأول يرنم الجزء الأول من كل عبارة، والثاني يجاوبه: "لأن إلى الأبد رحمته". ليس في هذا التكرار الباطل الذي حذرنا منه السيد المسيح (مت 6: 7). إنما علته الشعور بالعجز الكامل للتعبير عن حقيقة رحمة رب الأرباب والدخول إلى أعماقها. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم في هذا التكرار أن النفس تشبه الأرض التي تحتاج إلى سقي مستمر، لتأتي بثمار البرّ والقداسة. يتم هذا السقي بمياه التسبيح المتكرر. إنه ليس بالتكرار الممل، إنما هو دعوة للتعرف على مراحم الله التي يجب أن تكون أمام أعيننا على الدوام، وأن تكرار الترنم بها غير مضنٍ. حنوه وأمانته ومراحمه لن تنقطع ولا تفتر. يرى الدارسون للتلمود أن تكرار العبارة "لأن إلى الأبد رحمته" 26 مرة يطابق الـ26 جيلًا من الخليقة إلى استلام الشريعة في سيناء[2]. اعتادت الكنيسة الأولى الصلاة بهذا المزمور، ولا تزال تسبح به الكنيسة في التسبحة اليومية (الهوس الثاني). فقد جاء في سيرة البابا أثناسيوس الرسول إذ كان الشعب يقضي سهرة في الصلاة والتسبيح تحت قيادة البابا، حاصر الجند الكنيسة، وقاموا بالهجوم عليها، لكن الشعب كان يردد هذا المزمور بصوتٍ كالرعد، مكررين "لأن إلى الأبد رحمته" 26 مرة. بقي البابا على كرسيه حتى انصرف الشعب، واختفى البابا وسط الظلام، ولجأ إلى أصدقائه دون أن يصيبه ضرر. تتجلّى رحمة الله في الآتي: 1. إنه الإله الفريد العجيب [1-3]. 2. خالق كل شيء من أجل الإنسان [4-9]. 3. المعتني بمؤمنيه بيدٍ شديدةٍ [10-24]. واهب النصرة على قوات الظلمة؛ وهو في السماء مشغول بنا ونحن بعد على الأرض. 4. رعايته تحتضن الأرض والسماء [25-26]، إذ هو محب لكل خليقته، خاصة العاقلة. 1. رب الأرباب الصالح 1-3. 2. الخالق المُبدع 4-9. 3. المنقذ 10-15. 4. القائد 16. 5. المحارب 17-22. 6. المعين 23. 7. المخلص 23. 8. المعتني بنا 24. 9. السماوي 26. من وحي مز 136 1. رب الأرباب الصالح احْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [1]. افتتح المرتل هذه التسبحة بإبراز أن موضوع التسبيح والشكر هو الله نفسه، بكونه الصالح. وصلاحه فريد ومطلق. إنه يهوه الحاضر في وسط شعبه، الحافظ العهد، القائد الحقيقي، أعظم وأقدر من كل القادة البشريين، وكل الطغمات السماوية . صالح كخالقٍ أوجدنا من العدم، وخلق كل ما نحتاج إليه. صالح كمخلصٍ، فإن أصابنا ضرر أو فساد بسبب خطايانا يبقى الصالح الذي يُصلح ما أفسدناه. صالح كقائدٍ، يبعث قادة، بل ويود أن يقيم من كل إنسانٍ قائدًا، ويبقى هو القائد الخفي القادر أن يدخل بنا إلى أحضانه. صالح كمحاربٍ، فهو نصير الضعفاء والمظلومين والذين ليس لهم من يسندهم. صالح كمعينٍ، يرعى خليقته، ويهتم بكل كبيرةٍ وصغيرةٍ في حياتنا، حتى بكسرة الخبز التي نحتاج إليها. صالح كسماويٍ، يسكن في السماء لا ليعتزل الأرضيين، إنما يود أن يجعل منهم أشبه بطغمة شبه سماوية، ويُعد لهم أماكن في السماء، لكي يأتي ويأخذهم، ويهبهم شركة أمجاد سماوية. يعلق القديس أغسطينوس على تعبير: "لأن إلى الأبد رحمته"، قائلًا بأن الله يهب رحمته لقديسيه ومؤمنيه، أما كونها أبدية فلا يعني أنهم سيكونون بائسين، وينقلهم من البؤس إلى السعادة الأبدية. إنما برحمته ينقلهم هنا على الأرض من البؤس إلى السعادة. يبدأون أن يكونوا سعداء هنا، هذه السعادة لا تتوقف ولا تنتهي، بل تستمر أبديًا. فإننا نصير أتقياء بعد أن كنا أشرارًا، وأصحاء بعد أن كنا فاسدين، نصير أحياء بعد أن كنا أموات، خالدين بعد أن كنا هالكين، سعداء بعد أن كنا بائسين، هذا من فضل رحمته. * إنه صالح، لا يهبنا صلاحًا مؤقتًا، بل رحمته دائمة إلى الأبد. بمعنى أن النفع الذي يقدمه لكم، إنما يمنحه برحمته أبديًا[3]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم احْمَدُوا إِلَهَ الآلِهَةِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمتَهُ [2]. يرى القديس أغسطينوس أن الكتاب المقدس يستخدم أحيانًا تعبير "إله" أو "رب" عن بعض المخلوقات مثل الإنسان. كما يستخدم الوثنيون مثل هذين التعبيرين عن الأصنام، لهذا يميز المرتل الله بكونه إله الآلهة ورب الأرباب. غالبًا ما تُستخدم كلمة "إله" أو الله للتعبير عنه بكونه القدير والقوي صاحب السلطان المطلق، وكلمة "رب" للتعبير عنه بكونه حاضرًا وسط شعبه، يحتضنهم كأبناء له، ويسكب فيض حبه فيهم لبنيانهم أبديًا. * يُقال آلهة عن الصديقين والأبرار، لأنهم آلهة بالوضع (التبني) والتمتع... وهو الإله الواحد بالطبيعة (وليس بالوضع) خالق كافة الآلهة. الأب أنسيمُس الأورشليمي "اشكروا إله الآلهة". يشير النبي إلى هؤلاء الآلهة الذين قيل عنهم: "أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم" (مز 82: 6)[5]. القديس جيروم لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [3]. * يُقال "أرباب" على القوات السماوية الملائكية، لكن الرب الحقيقي هو رب الأرباب. الأب أنسيمُس الأورشليمي أيضًا دُعي الملائكة آلهة[6]. القديس أغسطينوس 2. الخالق المُبدع الصَّانِعَ الْعَجَائِبَ الْعِظَامَ وَحْدَهُ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [4]. هنا يؤكد الكتاب أن الله وحده هو خالق السماء والأرض، بكونه الخالق المُبدع. تكشف الخليقة عن حكمته وقدرته ورعايته الإلهية. يكشف لنا المرتل في العبارات التالية هذه العجائب العظام التي صانعها الله وحده. وهي خلقة السماء والأرض، ورعايته لخليقته خاصة الإنسان، مع طول أناته يؤدب ويذل المتكبرين، ويسند الضعفاء والمظلومين. يهتم بالأمور حتى تقديم خبزٍ لكل إنسانٍ، ويدبر أمور السمائيين. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يشكر الله على العجائب التي صنعها بنفسه وحده، بكونه الخالق، وبعد ذلك يشكره على الأعمال التي صنعها خلال الملائكة والبشر مثل ضرب مصر وأبكارها [10] وما ورد بعد ذلك. * لم يقل "الذي صنع العجائب" بل "الصانع"، مظهرًا أنه يقدم هبات بلا توقف، صانعًا عجائب ومحققًا أمورًا محيَّرة...! هذه العجائب تتحقق ليس فقط بسلطانه، وإنما أيضًا برأفته[7]. القديس يوحنا الذهبي الفم لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [5]. مسكين الإنسان الذي يؤله نفسه، ويقيم من عقله ناقدًا لأعمال الله. يقول القديس أغسطينوسإن كلمة "بفهمٍ" إما تعني أن الله خلق السماوات التي نحن ندركها ونفهمها قدر استطاعتنا، أو أن الله بحكمته وفهمه خلق السماوات كما جاء في المزمور 104: 24. كما يقول لقد ذكر كلمة "بفهمٍ" هنا فقط، لكنها تُفهم ضمنًا بالنسبة لكل ما صنعه الله بالنسبة للمخلوقات الأخرى. * هؤلاء هم السماوات، الذين يعلنون مجد الله (مز 19: 1)؛ يلتحفون في صورة السماوي، لا في صورة الأرضي (راجع 1 كو 15: 49)[8]. القديس جيروم ولكي يوحي لنا بذلك أكثر، ختم كل عبارة: "لأن إلى الأبد رحمته". ما هو بحق مدهش أنه خلقها في البداية، وعندما عصاه البشر، لم يحرمهم من هذه الأشياء. فما أعطاه لهم عندما لم يخطئوا تركه لهم حتى بعد أن أخطأوا، ولم يوقف عملها بعد الخطية. لم يخلق سماءً واحدة بل وأخرى مظهرًا من البداية أنه لا يتركنا على الأرض، بل سينقلنا إلى هناك... لقد أعدَّ لنا المساكن. كان النبي مدركًا هذا، لذلك أضاف إلى كل عبارة: "إلى الأبد رحمته"، متأثرًا برأفته الحانية[9]. القديس يوحنا الذهبي الفم لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [6]. يدعي بعض الملحدين أنه لم يكن وقت ما كانت فيه المياه تغطي كل الأرض، غير أن الكتاب المقدس والعلم السليم يؤكدان أنه ما كان يُمكن أن توجد يابسة يعيش عليها الإنسان دون تدخل مراحم الله[10]. أحد العجائب العظمى لمراحم الله أن يظهر سطح الأرض، وإن تنحصر المياه في المحيطات والبحار. يرى القديس أغسطينوس أن تعبير المرتل عن الأرض المبسوطة على المياه يشير إلى الأرض أو اليابسة وقد أحاطت بها المحيطات في العالم. وذلك مثل وجود مدينة تحيط بها المياه من كل جانب، فنقول إنها مبنية على المياه، لأنها هي أعلى في المستوى من المياه، وذلك يختلف عن التعبير بخصوص مركبٍ مثلًا فوق المياه. يرى القديس جيروم أن هذه العبارة تشير إلى المعمودية. * "الذي يثبت الأرض على المياه" (راجع مز 136: 6). إن كان قد قيل عن الأرض إنها تستقر على المياه، تحفظ اتزانها على البحار، إلا أنه قد أسس أرضنا وثبتها في المعمودية. لم يقل المرتل أنه أصعد أو رفع أرضنا، أو جعلها تصعد إلى السماء. فإن المعمودية تغفر الخطية، كمن تحرر النفس من السجن. إنها لا تستطيع أن تمنح ملكوت السماوات، فإن لم يقبل الإنسان الإيمان والأعمال الصالحة لا يستطيع أن يتأكد من الخلاص[11]. القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [7]. الأنوار العظيمة هي الشمس والقمر والكواكب، هذه التي كان كثير من الأمم يعبدونها بسبب ضيائها. هنا يظهرها النبي كخليقة الله العظيمة وهبها لنا من أجل رحمته. الشَّمْسَ لِحُكْمِ النَّهَارِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [8]. الْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ لِحُكْمِ اللَّيْلِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [9]. * كيف تكون الشمس لحكم النهار؟ لأنه حيثما تحمل الشمس النور حولها، وهي فوق الأفق، تضع نهاية للظلمة وتجلب النهار... والقمر إذ يكمل دورانه 12 مرة يتمم مرور عام، وإن كان يحتاج أحيانًا إلى شهرٍ أضافي ليضبط توقيت المواسم، كما كان اليهود وقدماء اليونانيين يقيسون السنة قديمًا[13]. القديس باسيليوس الكبير 3. المنقذ الخالق العجيب لم يخلق لنا كل شيء ويتركنا، لكنه هو أيضًا المخلص القدير. لكي يخلص شعبه من عبودية فرعون استخدم كل وسيلة لكي يتوقف فرعون ورجاله عن العنف والقسوة، وأخيرًا سمح بقتل أبكارهم، وامسك بيد قوية شعبه، وقادهم إلى الحرية. لتحقيق ذلك شقّ لهم البحر، وجعل لهم أرضًا يابسة في وسطه ليعبروا. عبروا في إيمان، وأما جيش فرعون فغرق إذ عادت المياه إلى وضعها الطبيعي. هذا الحدث هزّ العالم إلى أجيال طويلة، أما الخلاص الذي قدمه لنا بتحريرنا من عبودية إبليس لنعبر إلى الفردوس، فهزّ السماء والأرض، ويبقى موضوع تسبيحنا وتسبيح الطغمات السمائية المُحبة لنا أبديًا. الَّذِي ضَرَبَ مِصْرَ مَعَ أَبْكَارِهَا، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [10]. كثيرًا ما يشير الكتاب المقدس إلى الضربات التي حلت على مصر لتحرير شعب الله من العبودية، والعبور بهم إلى أرض الموعد، لتأكيد اهتمام الله بالشئون البشرية في الوقت المناسب، وبحكمة إلهية فائقة، ولما حمل ذلك من رمزٍ لعمل السيد المسيح الخلاصي والعبور بنا إلى كنعان السماوية. * يكرر على الدوام الأعجوبة التي حدثت في مصر، وذلك بسبب جحودهم ونسيانهم لها، بالرغم من سماعهم عنها مرارًا وتكرارًا. فإن الرحمة لم تكن بعلامة تافهة، إنما حررتهم من السبي والعبودية، وقدمت أسسًا ثابتة عن معرفة الله للأمور المستقبلية[14]. القديس يوحنا الذهبي الفم مصر في الحقيقة ترمز هنا إلى العالم الذي نمارس فيه شقاءنا بالحياة الشريرة التي نعيشها، والشعب هم الذين يستنيرون (يعتمدون)، والماء هو واسطة الخلاص للشعب يمثل المعمودية. فرعون وجنوده رمز للشيطان وأعوانه[15]. القديس ديديموس الضرير من يقدر أن يقسم البحر بالعصا، ما عدا موسى الذي حمل سرّ ابن الله؟ شقَّ البحر، وبرهن كيف يشق ابن الله أبواب الهاوية، وصار جسرًا للموتى وعاشوا. عبر العبرانيون، وصُورت صورة للعبور العظيم، لأن الابن يجذب ويعبّر الناسَ عند أبيه. غرق المصريون، وصاروا نمطًا للشياطين الدنسين عندما غرّقهم ابن الله في اللجة. صوّر فرعونَ الذي كان يتجبر كلوياثان، وجعله شبهًا للعدو الذي رضّه بصليبه. صعد من البحر، وقاد القطيع الذي مات ذئبه، ورسم الراعي الذي جلب قطيعه من السالبين[16]. القديس مار يعقوب السروجي لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [11]. لم يتحقق تحرير بني إسرائيل من عبودية فرعون بأحداث طبيعية، إنما بتدخل يد الله العجيبة بقوة ومراحمه الفائقة. بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَذِرَاعٍ مَمْدُودَةٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [12]. * تقال يد الله عن فعله، وذراع الله عن قدرته الإلهية. الأب أنسيمُس الأورشليمي لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [13]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الذي شق البحر الأحمر إلي أقسام". يرى القديس يوحنا الذهبي الفم والأب أنسيمُس الأورشليمي أن الله فتح لا طريقًا واحدًا بل اثني عشر طريقًا، كما وهبهم شجاعة أن يسيروا في هذه الطرق، وقد صارت المياه كحوائط مرتفعة، حاجزة. ويرى الآباء أن ما حدث قديمًا مع شعب بني إسرائيل يحدث الآن في المعمودية. * إنه شقَّ أيضًا بحكمة هكذا، فإن نفس المعمودية تكون للبعض حياة، ولآخرين موتًا... أخرج شعبه المتجدد خلال جرن التجديد. "ودفع فرعون وقوته في البحر الأحمر". بسرعة يحطم خطايا شعبه وجرمه هناك بالعماد[17]. القديس أغسطينوس * عندما ترك الشعب مصر بإرادته، وهربوا من سلطان ملك مصر بعبورهم الماء، أهلك الماء الملك وكل جيشه. أي شيء أكثر وضوحًا من هذا كرمز للمعمودية؟! فالشعوب تخلص من العالم بواسطة الماء، إذ يتركون الشيطان الذي كان يطغي عليهم، فيهلك في الماء[18]. العلامة ترتليان * يريد (فرعون وجنوده) أن يصلوا إليك، لكنك إذ تنزل في المياه تخرج منها إنسانًا صحيحًا سليمًا، حيث تغتسل فيها من نجاسات الخطيئة لتصعد إنسانًا جديدًا مستعدًا للتسبيح بالنشيد الجديد (إش 42: 10)[19]. العلامة أوريجينوس لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [14]. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن من مراحم الله أنه شق لهم طريقًا أو طرقًا في البحر، وهنا تظهر أيضًا قوة الله وسلطانه. لكن هذا لا يكفي. إنما من مراحمه إنه وهبهم ثقة للعبور دون تخَّوفٍ وارتباكٍ لئلا ترجع المياه إلى وضعها الأصلي أثناء عبورهم هذا الطريق غير المعتاد والغريب. كانوا في حاجة إلى روح عالية وسامية لتحقيق العبور. وَدَفَعَ فِرْعَوْنَ وَقُوَّتَهُ فِي بَحْرِ سُوفٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [15]. إن كان الله من أجل رحمته أراد أن يحرر شعبه من مذلة العبودية، فسمح بسلسلة من الضربات تزداد حزمًا وشدة، مع هذا لم يرجع فرعون ورجاله عن العنف، لذلك سمح لجيشه بالغرق في البحر الأحمر الذي هو نفسه وسيلة خلاص لشعبه. هذا التأديب حتى وأن بلغ إلى الموت، فإن الله يبقى ينتظر أن يأخذ العالم درسًا، فلا يسقط فيما سقط فيه فرعون ورجاله. فالله لا يشاء موت الخطاة، بل أن يرجعوا إليه ويحيوا. * ليس بدون سبب عوقب الجيش، بل بالحري إذا اشتركوا في الخطايا، وسعوا وراءهم، نالوا عقوبة وجزاءً[20]. القديس يوحنا الذهبي الفم 4. القائد الَّذِي سَارَ بِشَعْبِهِ فِي الْبَرِّيَّةِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [16]. رحلة البرية التي دامت قرابة أربعين عامًا فريدة ومذهلة. إن كان الله قد أرسل موسى لقيادة شعبه ومعه هرون، فإن القائد الحقيقي الذي سار بالشعب في البرية هو الله. إنه القائد الفريد، قاد شعبه في البرية لمدة أربعين عامًا. لم تكن لهم طرق مرصوفة ولا خرائط، ولا مظلات تحميهم من حرارة الشمس، ولا طعامًا يعدونه، كان هو كل شيءٍ بالنسبة لهم. لم يعوزهم شيئًا. أما رحلتنا إلى السماء خلال عبورنا هذه الحياة، فهي موضوع رعايته الفائقة، حتى يحملنا من وادي الدموع، ويدخل بنا إلى الأحضان الأبدية. * "الذي سار بشعبه في البرية" هكذا يقودنا نحن أيضًا خلال قحط هذا العالم القفر حتى لا نهلك فيه[21]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم 5. المحارب قام أيضًا بقيادتهم في الحروب، كقائد للمعركة، ليدخل بهم إلى أرض الموعد، ويقدمها لهم ميراثًا. إنه يقودنا كل أيام غربتنا، يحارب عنا عدو الخير ويحطم كل خططه، ليكللنا ويهبنا السماء ميراثًا أبديًا، حيث نحيا معه وبه، وننعم بالشركة مع الطغمات السماوية أشبه بطغمة من طغماتهم، يُسرون بنا، ونحن نُسر بهمّ. الَّذِي ضَرَبَ مُلُوكًا عُظَمَاءَ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [17]. * "الذي ضرب ملوكًا عظماء"، أولًا ضرب فرعون الذي هو رمز إبليس، وبنفس الطريقة ضرب جيشه[23]. القديس جيروم لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ: [18] * "الذي ضرب ملوكًا عظماء"، "وقتل ملوكًا مشهورين". وهو أيضًا يضرب ويقتل قوات الشيطان المميتة لأجلنا[24]. القديس أغسطينوس لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [19]. من بين الملوك ذكر سيحون وعوج، لأنهما كانا مشهورين بالقوة وحصانة مدنهما. هذا ويرى البعض في الملكين وبلديهما إشارة إلى القوات الشريرة التي تهاجم المؤمنين. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل اختار الملكين سيحون وعوج، لأنهما يحملان معانٍ رمزية تكشف عن حماية الله لنا. فسيحون يشير إلى تصويب سهام عدو الخير التي لن تصيبنا مادمنا نحتمي تحت جناحي الله، كما يشير إلى المرارة التي يود عدو الخير أن يسكبها في نفوسنا، لكن الله يحول المرارة إلى عذوبة النصرة. أما عوج فمعناه "كومة معًا" وباشان معناها ارتباك. هذا هو عمل عدو الخير أن يجمع فينا أكوامًا من الارتباك، الأمر الذي يزيله الله من قلوب أولاده! * "سيحون ملك الأموريين" "الانطلاقة غير الصائبة" للسهم، "والتجربة النارية" يبطلهما، لأن هذا هو معنى "سيحون. وهو ملك أولئك الذين يسببون مرارة، لأن هذا هو معنى الأموريين[25]. القديس أغسطينوس لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [20]. وَأَعْطَى أَرْضَهُمْ مِيرَاثًا، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [21]. مِيرَاثًا لإِسْرَائِيلَ عَبْدِهِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [22]. * يعطي أولئك الذين ملك عليهم إبليس ميراثًا لنسل إبراهيم، أي للمسيح[26]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم 6. المعين الَّذِي فِي مَذَلَّتِنَا ذَكَرَنَا، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [23]. يقدم لنا المرتل صورة للرب المعين لنا في وسط الشدة. لقد ذكر شعبه حين كانوا قلة في العدد، بلا قدرة على الدفاع عن أنفسهم، وبلا خبرات. كثيرًا ما كان الشعب ينسى الله ويلتصق بالشر، فيفقد سلامه وحريته ويسقط تحت مذلة المستعمرين لهم. وعندما يرجع الشعب بالتوبة إلى الله يجده منتظرًا إياه ليخلصه برحمته. ولعل فترة القضاة تقدم لنا صورة حيَّة متكررة لهذا الموقف. * "الذي في مذلتنا ذكرنا". لم يقل المرتل إنه ذكرنا في حكمتنا، أو في غنانا، أو في تعليمنا، إنما ذكرنا في تواضعنا. إنه يهب مصادر قوة للممتازين، ومع هذا ما لم يقتنِ الإنسان التواضع لا يكون مقبولًا لدى الله. يقاوم الله المستكبرين، ويعطي نعمة للمتواضعين (يع 4: 6)[28]. القديس جيروم القديس يوحنا سابا 7. المخلص وَنَجَّانَا مِنْ أَعْدَائِنَا، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [24]. مادمنا في الجسد لن يتوقف عدو الخير عن محاربتنا بكل وسيلة، إذ بطبيعته التي أفسدها يحمل عداوة وحسدًا نحو الإنسان. يود العدو أن يشاركه الإنسان مصيره الأبدي، أي الهلاك، لكن الرب لا يترك الإنسان محبوبه، باذلًا حياته لأجل خلاصه. الله لا يريد مذلة الإنسان، لكن الإنسان في غباوته وتهاونه يلتصق بالشر، فيدخل تحت ضغوط كثيرة، ويسوده الأعداء من الداخل والخارج. مع هذا فإن الله يطلب فرصة لخلاصهم من هؤلاء الأعداء. * عصا موسى كان بها يرعى غنم حميّه، وبها جعله الله يضرب فرعون وكل المصريين المضادين لأمته، وهي تشير إلى التواضع (مذلتنا) الذي به يمكننا أن نغلب الشيطان عدوّنا وجميع جنوده المصريين العقليين، وذلك أن الضدّ بضده أبدًا يُغلب. لأن البرد بالحر الذي هو ضده يُغلب، والحرّ كذلك بالبرد. ولما كان الشيطان متعظمًا، فبالتواضع يُغلب. بالتواضع غلبه الرب الذي لبس صورة العبد، وسلك كل طريق التواضع حتى قهر المتعظّم؛ وعلمنا أنه هكذا تقهره. بالتواضع تخلص منه ومن جنوده أعدائنا، كما يقول النبي داود: "إنه بتواضعنا ذكرنا الرب، وخلصنا من أعدائنا" (مز 136: 23-24). وفي مزمور آخر يقول: "حافظ الأطفال هو الرب. اتضعت وخلصني" (مز 115: 6). يعني أن الذي يتواضع ويجعل نفسه كالطفل، لا معرفة له بإفراز الخير من الشر، ويستشير في كل ما يعمل، هو بالحقيقة يخلص من حيل الشرير[30]. القديس مار أفرام السرياني 8. المعتني بنا الَّذِي يُعْطِي خُبْزًا لِكُلِّ بَشَرٍ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [25]. الله الذي يهتم بفراخ الغربان وطيور السماء وحيوانات البرية، لا يكف عن أن يقدم للإنسان حتى خبزه اليومي. هنا يبرز النبي أن الله ليس عنده محاباة، هو محب لكل البشر، يهتم حتى بالخبز لكل إنسان! وكما يقول المرتل: "الرب صالح للكل، ومراحمه على كل أعماله" (مز 145: 9). يرى القديس جيروم أن المرتل هنا يسبح الله، لأنه يهب الإنسان اليوم الخبز النازل من السماء، خبز الغد. أي يختبر الإنسان عربون الشبع الروحي الذي نناله بصورة كاملة غدًا أو في الحياة الأبدية[31]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الذي يعطي طعامًا لكل ذي جسد". ويرى الأب قيصريوس أسقف آرل، أن المرتل هنا يشير ليس للبشر فقط، وإنما لكل ذي جسد، في البشر والحيوانات والطيور. ويعلق على تقديم الطعام حتى لذوي الجسد الروحي مثل الملائكة والشياطين. فللملائكة طعامهم، وللشياطين أيضًا طعامهم الخاص بهم. * "الذي يعطي طعامًا لكل ذي جسد". إن كان كل مخلوق يطلب طعامًا له، أليست الحيوانات الروحية تطلب طعامًا لها؟ ما هي الحيوانات الروحية، إلا الذي سبق أن أشرنا إليهم، أي الشيطان وملائكتهم؟ وأي طعام يطلبونه من الرب سوى الناس المهملين والفاترين والمتعطشين لسفك الدماء، والمتكبرين والشهوانيين والطماعين؟ هؤلاء بالحق هم طعام الحيوانات المفترسة الروحية، لأنهم بأعمالهم الشريرة يعوضون الشيطان عن خسارته لنفسه. كما أن حياة القديسين تنعش المسيح، هكذا على العكس فإن أعمال الأشرار تُطعم الشرير. لماذا تطلب الحيوانات المفترسة الروحية طعامًا لها من الله؟ لأن آدم عندما أخطأ قيل له: "أنت تراب وإلى تراب تعود"، كما قيل للشيطان (الحية): "ترابًا تأكلين". هل الأرض التي نسير عليها يأكلها الشيطان يا إخوة؟ لا، إنما البشر ذوي الفكر الأرضي والشهواني والمتكبر، الذين يحبون الأرض، ويضعون كل رجائهم فيها. وإنهم يتعبون بكل طاقاتهم من أجل منافع جسدانية، لا بل من أجل مثل هذه الملذات، ونادرًا ما يفكرون في خلاص نفوسهم، بل ويفكرون في ذلك تمامًا. البشر الذين مثل هؤلاء هم يبحث عنهم الشيطان![32] الأب قيصريوس أسقف آرل القديس أغسطينوس 9. السماوي احْمَدُوا إِلَهَ السَّمَاوَاتِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [26]. أعماله العجيبة التي استعرضها المرتل، تشغل فكر الله بكونه إله السماوات المحب للإنسان الأرضي، حتى يرفعه إلى سماواته. في بداية المزمور يدعو الله "إله الآلهة" و"رب الأرباب"، وهنا يدعوه "إله السماوات"، فهو ينسب نفسه لمؤمنيه الحقيقيين السالكين بالروح، فيدعوهم تارة آلهة، وأخرى أرباب، وثالثة سماوات. يرى البعض أن هذه العبارة الختامية للمزمور تعتبر ملخصًا وافيًا ورائعًا لكل المزمور، تعبرِّ عن روح المزمور ومنهجه. من وحي مز 136 يا لعذوبة مراحمك الأبدية! * مع كل صباح مراحمك جديدة يا إلهي المحبوب! نصيبي هو الرب، قالت نفسي الملتصقة بمراحمك. * شخصك يا إلهي يسحب كل أعماقي. قلبي وفكري وعواطفي وكل كياني تسبحك. صالح أنت يا رب في كل أعمالك ومعاملاتك معي! * أنت إله الآلهة ورب الأرباب. المطلق في قدرته وحكمته ومحبته. أوجدتني من العدم لأحمل صورتك. تبقى في سماواتك ترعاني، أتلامس معك، فأجدك قريبًا جدًا مني! * بحكمتك أوجدت لي الشمس تنير لي، فأرى أعمالك العجيبة. أنت هو شمس البرّ تشرق في داخلي، فتقيم من قلبي سماءً جديدة. يرف روحك القدوس على قلبي، فتقيم من بريتي فردوسًا سماويًا! * تفتح لي طريقًا وسط البحر، فأسير كما على اليابسة. تحوط حوّلي كسورٍ، فلا يتسلل إبليس إليّ. تحميني من أعدائي المرئيين وغير المرئيين. * تقودني في برية هذا العالم كل أيام غربتي. تُشبع كل احتياجاتي فلا أعتاز إلى شيءٍ. لا احتاج إلى علامات في الطريق، ولا إلى خرائط ترشدني، ولا إلى مظالٍ تحميني من حرارة الشمس، ولا إلى نور يكشف لي الطريق. أنت هو الطريق الحق يقودني إلى الاتحاد بك. أنت هو أكلي وشربي وزادي في الطريق. أنت هو حصني، تظللني بصليبك من شمس التجارب. أنت هو النور الحقيقي، فلا يكون للظلمة موضع في طريقي! * لن يكف إبليس وكل قواته عن المقاومة. في حسده لا يطيق أن أصير أيقونة لك. من يدافع عني سواك، أيها الجبار محطم قوات الظلمة. أنت قائد المعركة وواهب النصرة. أنت تعد لي الأكاليل، وتُسر بخلاصي ومجدي. * إلهي ماذا أقول عن مراحمك اليومية. تقودني دومًا لأنعم بالأبدية. تعد لي مكانًا لتأتي وتأخذني معك. قلبي وفكري وكل طاقاتي تصرخ إليك: تعالَ أيها الرحوم الحبيب! ليس لي من يشغل قلبي سواك! |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|