04 - 04 - 2024, 03:05 PM | رقم المشاركة : ( 156491 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
مشاركة في الآلام ولماذا نال تيموتاوس هذه الهبة؟ لكي يفعل ما سبقه بولس إليه. بولس أدَّى الشهادة التامَّة للربّ، ومثله يفعل تيموتاوس. منذ بداية الرسالة، نبَّه يسوع التلاميذ: »تكونون لي شهودًا« (أع 1: 8). والشهود ليسوا الرسل فقط، بل أولئك الذين حلُّوا بعدهم. حدَّثتنا الرسالة إلى العبرانيّين عن »المدبِّرين« الأوَّلين الذين خاطبوا الجماعة »بكلام الله«. أمّا اليوم فأنهوا حياتهم بموتهم (عب 13: 7). هو كلام عن بطرس وبولس في رسالة تتوجَّه إلى جماعات رومة، وتدعوهم لا إلى الاقتداء »بإيمان« بطرس وبولس فقط، بل أيضًا بإيمان الذين جاؤوا بعدهم: »أطيعوا مدبِّريكم واخضعوا لهم« (آ17). والشهود ليسوا التلاميذ فقط. فإذا قرأنا النصوص قراءة حرفيَّة، نعتبر مثلاً أنَّ إسطفانس لم يكن من السبعين الذين أرسلهم يسوع أمامه »اثنين اثنين إلى كلِّ مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه« (لو 10: 1). ومع ذلك كان أوَّل شاهد في العالم اليونانيّ وأوَّل شهيد حيث قال: »أرى السماوات مفتوحة وابن الإنسان واقفًا عن يمين الله« (أع 7: 56). فالشاهد هو الذي شهد، رأى. كان حاضرًا حين حصل أمرٌ من الأمور أو حين وُقِّع عهد من العهود. وبالتالي يستطيع أن يشهد، أي أن يؤكِّد على ما رأى وما سمع. الإنسان يكون »شاهدًا«، وفي شهادته يمكن أن يَتَّهم. ذاك ما فعله الشيخان بسوسنة: »نشهد عليك...« (دا 13: 31). وفي الواقع كانت شهادتهما كاذبة. والله نفسه يكون الشاهد ولاسيَّما على شعبه: »فأنا من اليوم أُشهد عليكم السماء والأرض بأنَّكم تبيدون سريعًا...« (تث 4: 26). شهد الربُّ واتَّهم. والإنسان يستطيع أن يأخذ الربَّ شاهدًا. قال صموئيل: »يشهد الربُّ وملكه« (1 صم 12: 5). وهدَّد إرميا باسم الربّ: »يا ساكنة لبنان، يا من صنعتْ أرزه عشٌّا لها، كم تئنّين حين يأتيك الوجع في مخاض كالتي تلد« (إر 22: 23). والمؤمنون سوف يقولون لإرميا التي تعب فما استطاع أن ينال من الشعب ثمر التوبة. قالوا: »ليكن الربُّ إلهك شاهدًا علينا أنَّنا نعمل بكلِّ الكلام الذي يرسلُه إلينا« (إر 42: 5). والشهادة لا تكون فقط للاتِّهام، بل للدفاع، ولاسيَّما عن عمل الربّ (إش 43). 9 اجتمعوا يا كلَّ الأمم، واحتشدوا يا جميع الشعوب، أين شهودهم يبرِّرون دعواهم فنسمع ونقول: هذا حقّ. ظنَّت الأممُ أنَّ آلهتها أقوى من الربِّ الإله. 10 أنتم شهودي يقول الربُّ ذرِّيَّة عبدي الذي اخترتُه لأنَّكم علمتهم وآمنتم بي وفهمتم أنّي أنا هو ما كان من قبلي إله ولن يكونَ من بعدي. 11 أنا، أنا الربُّ ولا مخلِّص غيري. هل يستعدُّ المؤمن أن يؤدّي الشهادة، ويقف في وجه الجمع مهما كلَّفته هذه الشهادة من آلام؟ ذاك كان وضع إيليّا على جبل الكرمل. أمامه الملك آخاب وأنبياء البعل »الأربعمئة والخمسون« (1 مل 18: 22). هل يجسر أن يقف ويشهد أنَّ الربَّ وحده هو الإله؟ فشهد ونادى الربّ. فردَّ الربُّ عليه في رمز النار (آ38)، بانتظار أن ينزل المطر (آ45). ولكن هذه الشهادة كلَّفته غاليًا بعد أن انتقم الشعب من أنبياء البعل. قالت الملكة إيزابيل مهدِّدة إيليّا بالموت: »ويل لي من الآلهة إن لم أجعلك في مثل هذه الساعة غدًا كواحدٍ منهم« (1 مل 19: 2). وكانت ردَّة فعل إيليّا الأولى الخوف ثمَّ الهرب. ولكنَّ الربَّ أعاده: »ارجع في طريقك« (آ15). فرجع وسلَّم المشعل إلى إليشع. وميخا بن يملة وجب عليه أن يشهد لكلام الربِّ في وجه الأنبياء الكذبة. جميعهم تنبَّأوا بصوت واحد: يكون النصر لك (1 مل 22: 12). ولكنَّ ملك يهوذا سأل: »أما من نبيٍّ للربّ؟« (آ7). فنبيُّ الربِّ يتكلَّم باسمِ الربِّ، ونبيُّ الملك يتكلَّم باسم الملك. أجل، قيل له: ميخا بن يملة (آ9). ولكنَّ الملك يخاف منه ولا يريد أن يسمع له. قال: »أُبغضُه« (آ8). فالشاهد الحقيقيُّ هو »مزعج«، ولهذا لا تكون له راحة. ذاك ما حصل لميخا الذي رفض أن يكون كلامه مثل كلام هؤلاء الأنبياء الكذبة (آ13). قال الحقيقة، فتقدَّم صدقيّا بن كنعنة (أحد الأنبياء) ولطمه على فكِّه (آ24). وأمر الملك فوُضع النبيُّ الحقيقيّ في السجن مع قليل من الخبز والماء (آ27). لا، لا يكون النبيّ مثل »أنبياء« هذا العالم. ولا يكون المؤمن خروفًا في قطيع من الغنم، يسير حيث يسير الآخرون ويخضع للملك ولمن وراءه. تعذَّب ميخا، وهُدِّد إيليّا، وإرميا عرف من الآلام أقصاها: السجن أوَّلاً مع رغيف من الخبز كلَّ يوم (إر 37: 21). ثمَّ جعلوه في جبٍّ موحل لا ماء فيه »فغاص إرميا في الوحل« (إر 38: 6). لهذا نسمعه يتذمَّر. فأهله أنفسهم هم ضدَّه. ولكن هل خفَّف الله الحمل عنه؟ بل أراد أن يعدَّه لآلام قاسية. »تجري مع المشاة فتتعب، فكيف تسابق الفرسان؟« (إر 12: 5أ). يعني: أمور سهلة وتعبتَ فيها، فماذا تفعل حين تُجبَر على جهاد أكبر؟ لهذا تواصل كلام الربّ: »إن كنت تتعب في أرض آمنة (لا أشجار فيها ولا أشواك)، فكيف تفعل في غور الأردنّ؟« (آ5ب) وفيه الأسود (الصغيرة) وسائر الحيوانات المفترسة. * * * من أين قوَّة »النبيّ«؟ وقوَّة الرسول؟ وقوَّة تيموتاوس الذي »وعده« بولس بالآلام؟ قال له مرَّة أولى: »اشترك في الآلام« (2 تم 1: 8). ومرَّة ثانية، »شاركْ في الآلام كجنديٍّ صالح للمسيح يسوع« (2 تم 2: 3). أجل، ذاك ما ينتظر الرسول إذا هو أراد أن يكون أمينًا للرسالة. أمّا إذا مالق وداهن وأراد أن يرضي الناس (غل 1: 10)، فحياته تكون مرتاحة بحيث يسمع كلام الربّ: »الويل لكم إذا مدحكم جميعُ الناس، فهكذا فعل آباؤهم بالأنبياء الكذّابين« (لو 6: 26). »كلمة الله سيف ذو حدَّين« (عب 4: 12). فمن يحتملها وبالتالي من يحتمل الشاهد الذي يعلنها؟ ولكن إذا صار هذا السيف ناعمًا! وإذا سار المؤمن بحسب حكمة هذا العالم! أمّا الرسول فينادي »بالمسيح مصلوبًا« (1 كو 1: 23) ومثله يفعل تيموتاوس. من خلال الآلام ومن خلال الصعوبات يؤدّي تيموتاوس الشهادة. أوَّلاً لربِّنا. فهو الشاهد الأوَّل. وهو الشاهد الأمين الثابت. قيل لتيموتاوس عنه: »المسيح يسوع الذي شهد أحسن شهادة لدى بيلاطس البنطيّ« (1 تم 6: 13). ونحن نعرف إلى أين أدَّت الشهادة بيسوع: »أسلمه إليهم ليصلبوه« (يو 19: 16). قالت لنا الرسالة إلى العبرانيّين إنَّ المسيح تألَّم (مات) »في خارج باب المدينة ليقدِّس الشعب بدمه« (عب 13: 12). فما يكون موقف »الشاهد«؟ هل يبقى في أورشليم مع عظماء الكهنة والكتبة؟ بل »نخرج خارج المحلَّة حاملين عاره« (آ13) كان له عار الصليب، فهل نبحث عن شيء آخر مثل يعقوب ويوحنّا: »واحدٌ عن يمينك وواحد عن شمالك في مجدك« (مر 10: 37). غير أنَّ مجد الربِّ مرَّ عبر الآلام على ما قال الربُّ لتلميذَيْ عمّاوس: »أما كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده؟« (لو 24: 24). في هذا الإطار قال يسوع: »ما من تلميذ أفضل من معلِّمه، ولا عبد أفضل من سيِّده« (يو 15: 20). إذًا، ما حصل للمعلِّم يحصل للتلميذ، إلاَّ إذا بحثنا عن معلِّم آخر. ويواصل يسوع كلامه: »إذا اضطهدوني يضطهدونكم«. فإن كان العالم لا يُبغض المؤمن، فلأنَّ هذا المؤمن هو من العالم، والعالم يحبُّ ما يشبهه. لهذا قال الربُّ: »إن أبغضكم العالم، فتذكَّروا أنَّه أبغضني قبل أن يبغضكم. لو كنتم من العالم، لأحبَّكم العالم كأهله. ولأنّي اخترتكم من هذا العالم وما أنتم منه، لذلك أبغضكم العالم« (آ18-19). وهناك شهادة أخرى، بالإضافة إلى الشهادة لربِّنا. يقول بولس: »فلا تخجل بالشهادة لربِّنا وبي أنا أسيره« (2 تم 1: 8). قال الربُّ: »من ينكرني قدَّام الناس أنكره قدَّام أبي الذي في السماوات. ومن يعترف بي قدَّام الناس أعترف به قدَّام أبي الذي في السماوات« (مت 10: 32). أترى الأمر سهلاً؟ كلاّ. فالربُّ أرسل تلاميذه »كالخراف بين الذئاب« (آ16). ونبَّههم: »الناسُ يسلمونكم إلى المحاكم وفي مجامعهم يجلدونكم« (آ17). ذاك ما حصل لبولس. فهل يتبرَّأ منه تلميذه تيموتاوس؟ هل يستحي بمعلِّمه الذي هو في القيود؟ ديماس تركه (2 تم 4: 9). ويواصل الرسول: »ما وقف أحد معي عندما دافعتُ عن نفسي لأوَّل مرَّة، بل تركوني كلُّهم. صفح الله عنهم!« (آ16). نحسُّ هنا بالألم يحزُّ في قلب بولس. فهو يحتاج إلى ابنه تيموتاوس: »تعالَ إليَّ عاجلاً« (آ9). الحمد لله أنَّه بقي أونيسيفورس. قال عنه بولس: »شجَّعني كثيرًا وما استحى من قيودي« (آ16). فكان مختلفًا عن »فيجلُّس وهرموجينيس وجميع الذين في آسية« (آ15). »كلُّهم تخلُّوا عنّي«. أمّا أونيسيفورس فكان بإمكانه أن يتجاهل بولس، ولكنَّه لم يفعل. فقال عنه الرسول: »أخذ يبحث عنّي عند وصوله إلى رومة حتّى وجدني« (آ17). نكتشف هنا قلب الرسول في وجهه البشريّ، وننسى أنَّه ذلك القويّ الذي همُّه أن يكون للمسيح. هو»سجين« ولكنَّه »حرّ« في منطق الإنجيل. قال في 1 كو 7: 22: »فمن دعاه الربُّ وهو عبد كان للربِّ حرٌّا. وكذلك من دعاه المسيح وهو حرّ كان للمسيح عبدًا«. وفي أيِّ حال، حين كان بولس في السجن، يقول عنه سفر الأعمال، كان الإنجيل حرٌّا، وكان الرسول يكرز به بكلِّ جرأة (أع 28: 30-31). أمّا الآلام فهي نعمة من عند الربّ. فالرسول قال إلى كنيسة فيلبّي، ساعة كان في سجن أفسس مهدَّدًا بالموت: أُعطيَتْ لنا نعمة، لا أن نؤمن به فقط بل أن نتألَّم لأجله (فل 1: 29). والكلمة الأخيرة لا تكون الآلام، بل المجد. والموت ليس الهدف. فالمسيح »قضى على الموت« (2 تم 1: 10) وأعدَّ لنا القيامة. وهو كلام ورد مرارًا في الرسائل البولسيَّة. فالرسول كتب إلى تلميذه تيطس عن »رجاء الحياة الأبديَّة التي وعد الله الصادقُ بها منذ الأزل، فأظهر كلمته في حينها بالبشارة التي أؤتمنتُ عليها بأمر الله مخلِّصنا« (تي 1: 2-3). هو السرُّ دخل فيه الرسول وإن كان »سجين المسيح« (أف 3: 1). ويطلب من تيموتاوس أن يتبعه فيه من أجل الإنجيل الذي هو أمانة في عنق بولس وتيموتاوس. فهل يتخلّى التلميذ عن الأمانة؟ الخاتمة كلام الرسول إلى تلميذه، فيه القوَّة وإن كان الخوف يتربَّص به. فيه المحبَّة وإن هو أحسَّ أنَّ لا أحد بقربه وشعر بعاطفة بشريَّة تدفعه إلى تيموتاوس ابنه الحبيب. فكأنّي به يستنجد. وكلام فيه الفطنة، والوضعُ حرجٌ بحيث يجب أن يتعلَّم بولس الصبر في خطِّ العالم الرواقيّ حيث يسود الإنسان على نفسه وعلى مخاوفه وعلى أموره اليوميَّة مهما كانت صعبة. وبالرغم من ذلك، نسمع كلامًا ينظر فيه الرسول إلى تلميذه ويجعل أمامه كلمة الخلاص، كلمة الحياة، ويذكِّره، وينبِّهه. هو الأب مع ابنه: أين هي الحرارة الأولى؟ والموهبة التي نالها، ما زال مؤتمنًا عليها. أمّا الطريق التي تنتظره فلن تكون مفروشة بالورود: فالآلام تنتظره، وكذلك المشقّات. فهو شابّ بعد، وعليه أن »يفرض« نفسه في كنيسة تكمن فيها الصعوبات الكثيرة. فما يبقى عليه أن يقول سوى ما قاله معلِّمه: »أنا أعرف بمن آمنت، وأنا عارفٌ أنَّه قادر أن يحفظ وديعتي إلى يومِ ربِّنا.« |
||||
04 - 04 - 2024, 03:06 PM | رقم المشاركة : ( 156492 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
كونوا فرحين في الرجاء بعد أن قدَّم بولس الرسول اللاهوت في الرسالة إلى رومة مُبرزًا التبرير بالإيمان، والحياة المعطاة في المسيح، وخلاص جميع البشر من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين أو الأمم الوثنيَّة، بعد أن قدَّم توسُّعًا أوَّل يبيِّن أمانة الله لمواعيده، وتوسُّعًا ثانيًا يبيِّن كيف »يُصاب« المؤمن بمحبَّة الله وتوسُّعًا ثالثًا يعلن النجاح التامّ لمخطَّط الخلاص الشامل على أساس حكمة الله. بعد أن صوَّر الرسول شقاء الإنسان الذي يستند إلى قواه الخاصَّة فيعي ضعفه ويتقبَّل عون الله، وشقاءه على المستوى البشريّ حيث يصبح عبدًا للخطيئة، بعد هذا التوسُّع اللاهوتيّ، يعود بنا بولس إلى القسم الأخلاقيّ فيحدِّثنا عن الحياة الجديدة في المسيح التي تعلِّمنا أوَّل ما تعلِّمنا المحبَّة الأخويَّة في تفاصيل الحياة اليوميَّة. هنا يعطي الرسول جماعة رومة، وبالتالي كلَّ جماعة من جماعاتنا، توصيات من أجل الحياة الروحيَّة في الكنيسة، حول الصلاة والمحبَّة والضيافة، مع عبارة مفصليَّة في هذه السلسلة: »كونوا فرحين في الرجاء« (رو 12: 12). عن الرجاء في الرسائل البولسيَّة يكون كلامنا. فنتعرَّف إلى الرجاء على أنَّها فضيلة من الفضائل تُذكر مع الإيمان والمحبَّة أوَّل ما تُذكر في المراسلة مع أهل تسالونيكي. نتوقَّف عند مكوِّناتها: ماذا ينتظر الإنسان؟ البرّ والخلاص في يسوع المسيح، المجد الآتي لا للبشر فقط، بل للخليقة كلِّها »التي تئنُّ حتّى اليوم« (رو 8: 22)، منتظرة أن »تتحرَّر من عبوديَّة الفساد لتشارك أبناء الله في حرِّيَّتهم ومجدهم« (آ21). في هذا الرجاء عاش بولس في خطى إبراهيم، والمسيحيّون بشكل عامّ والجماعات المنتشرة التي يكتب إليها الرسول، لأنَّ الحياة بالنسبة إلى الإنسان هي الرجاء. فحين يمضي الرجاء لا يبقى شيء كما يقول سفرُ الجامعة (9: 4)، فيتفوَّق حينئذٍ الميتُ على الحيّ. هنا يُعلن أيّوب بقلبٍ جاوره اليأس (ف 17): 13 ما رجائي والقبر أصبح بيتي، وفي الظلام فرشتُ مضجعًا لي؟ 14 أقولُ للقبر: »أنت أبي!« وللديدان: »أنتِ أمّي وأختي!« 15 فقولوا لي: »أين إذًا رجائي؟ سعادتي من يا ترى يراها؟ 1. فضيلة الرجاء الفضيلة هي الدرجة الرفيعة في الفضل، في أن يزيد الإنسان على قريبه في البرِّ والإحسان. الفضيلة تقابل النقيصة، وحيث ينقص الرجاء لن يبقى للإنسان من طريق سوى القنوط واليأس. والفضيلة ترافق المزيَّة التي هي التمام في ما يعيشه الإنسان، ما يتميَّز به الإنسان. فالرجاء لا يُولَد مع الإنسان وكأنَّه جزء من طبيعته، بل هو صفة يتحلّى بها الإنسان المؤمن، فيختلف عن الذين لا رجاء لهم (1 تس 4: 13). ولاسيَّما عند ساعة الموت، فعلى المؤمن أن »يضيفها«، »يزيدها« على ما عنده من صفات بشريَّة، بسبب سموِّها ورفعتها. فهي ثابتة كما يقول الرسول تجاه الأمور العابرة: »والآن يبقى الإيمان والرجاء والمحبَّة« (1 كو 13: 13). من أجل هذا يهنّئ الرسول أهل تسالونيكي: »نشكر الله كلَّ حين من أجلكم جميعًا، ونذكركم دائمًا في صلواتنا. ونذكر أمام إلهنا وأبينا ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح، من نشاط في الإيمان، وجهاد في المحبَّة، وثبات في الرجاء« (1 تس 1: 2-3). فهذه الفضائل الثلاث لا تأتي بالطريق السهلة، بل هي تفترض مجهودًا كبيرًا ربَّما يعرِّضنا للخطر، إن لم يكن للهزء، كما حصل لبولس حين كان في أثينة فحدَّث أهلها عن »قيامة الأموات« (أع 17: 32). من هنا قال الفلاسفة عن الفضيلة: »هي تجعل الإنسان قادرًا على العمل كما يجب، بحيث تكون نفسه عائشة في توازن تام«. مثل هذه الفضيلة هي عطيَّة من لدن الله. أمّا الرجاء فهو ضدُّ اليأس والقنوط ورفيق الأمل أو النظر إلى البعيد. في الرجاء نعتبر أنَّ ما نرغب فيه يمكن أن يتحقَّق. لهذا ننتظر بملء الثقة عطيَّة من العطايا، أو نتَّكل على شخص قدير بأن يمنحنا ما نصبو إليه من خير. هذا يعني أنَّنا حين نتكلَّم عن الرجاء نشير إلى المكانة التي يحتلُّها المستقبل في الحياة الدينيَّة لدى شعب الله. وهو مستقبل من السعادة يُدعى إليه البشرُ جميعًا، »فالله يريد أن يخلص جميعُ الناس ويبلغوا إلى معرفة الحق« (1 تم 2: 4). ومواعيد الله كشفت لشعبه، مرحلةً بعد مرحلة، عظمة هذا المستقبل الذي لن يكون »واقعًا« من هذا العالم، بل »وطنًا أفضل، الوطن السماوي« (عب 11: 16) بل »ما وُعدنا به، أي الحياة الأبديَّة« (1 يو 2: 25). وما يُسند هذا المستقبل الذي وعد به الله والمتطلِّبات التي يفترض، هو الإيمان الذي هو »الوثوق بما نرجوه، وتصديق ما لا نراه« (عب 11: 1). فالإنسان الواثق يستند إلى الله الذي به يرتبط هذا المستقبل. وحين يتجذَّر الرجاء في الإيمان والثقة، يستطيع أن يتحدَّد نحو المستقبل ويحرِّكُ بديناميَّته حياة المؤمن كلَّها. والرجاء يحافظ على الصبر والأمانة اللذين يعبِّر عنهما العهد الجديد بالمحبَّة. وهذا ما يجعلنا أمام المثلَّث الذي أطلقه الرسول، الإيمان والرجاء والمحبَّة، أو ما يُدعى في اللاهوت المسيحيّ: الفضائل الإلهيَّة. فهي تربطنا بالله مباشرة قبل أن توجِّهنا إلى القريب: »أمّا نحن، فننتظر على رجاء أن يبرِّرنا الله بالإيمان بقدرة الروح. ففي المسيح يسوع، لا الختان ولا عدمُه ينفعُ شيئًا، بل الإيمان العامل بالمحبَّة« (غل 5: 5-6). في قراءة للإناجيل الأربعة، لا نجد لفظ »رجاء« كاسم، بل كفعل، وفي معنى دنيويّ لا في معنى دينيّ. في لو 6: 34 هو الرجاء بأن ينال الإنسان مالاً (ترجون أن تستردُّوا منه قرضكم). وفي لو 23: 8 نعرف أنَّ هيرودس كان »يرجو أن يشهد آية تتمُّ على يده«، على يد يسوع. وفي المعنى الدينيّ نقرأ الفعل »ترجّى« ثلاث مرّات في خطِّ العهد القديم. في مت 12: 21، يرد نصّ إش 42: 4: »وعلى اسمه تترجّى الأمم« (رج رو 15: 12). في لو 23: 21، ترجَّى تلميذَيْ عمّاوس من يسوع أن يخلِّص إسرائيل. وفي يو 5: 45، جعل اليهود رجاءهم في موسى. لهذا كانت أفعال أخرى: انتظر (1 تس 1: 10: وتنتظروا ابنه من السماء). توقَّع (رو 8: 19، 23: متوقِّعين التبنّي؟ رو 8: 25؛ 1 كو 1: 7؛ غل 5: 5؛ فل 3: 20؛ عب 9: 28). سهر (1 كو 16: 13؛ كو 4: ..2.). تمسَّك (فل 2: 16: متمسِّكين بكلمة الحياة؛ 1 تم 4: 16). صبر، احتمل (رو 2: 12: صابرين في الضيق؛ 1 كو 13: 7؛ 2 تم 2: 10، 12؛ عب 10: 22؛ 12: 2، 3، 7). هذا ما يقابل الأفعال العبريَّة كما ترجمت في السبعينيَّة: »ب ط ح«، وثق به، اطمأنَّ. »ق و ه« انتظر، ترجّى. »ي ح ل« انتظر إنسانًا. »ح ك ه« انتظر بثقة ويقين. »ح س ه« التجأ إليه، وجد فيه الحماية، جعل اتِّكاله عليه. هذه الأفعال بما تحمل من معانٍ وُجدت في الأدب اليونانيّ السابق للعهد الجديد، ولاسيَّما الرسائل البولسيَّة. فاستعملها الرسول. نشير هنا إلى أنَّ الرومان تعبَّدوا »للرجاء« وبنوا له المعابد الكثيرة، واعتبروا أنَّ هذه العبادة تشدِّد العزيمة. ففي خلال الحرب بين رومة وقرطاجة، مثلاً، بُنيَ هيكل »للرجاء«. في القرن الأوَّل المسيحيّ، ترجَّت بعض النفوس الخلاص بواسطة آلهتها، ولكن سيطر الحزن بشكل إجماليّ مع اليأس والقنوط. فقال أحدهم: »لا نستطيع بعدُ أن نتحمَّل رذائلنا ولا علاجاتنا«. وبكى آخر على الأبناء الذين يسيرون وسط الشرور المختلفة، كما حسدَ الأمواتَ الذين تركوا الحياة فوجدوا في الموت الدواء لشقاءاتهم. هنا نلتقي مع أيّوب البارّ الذي هتف بعد أن أصابه ما أصابه من شرور (ف 3): 11 لماذا لم أمُتْ من الرحم أو فاضتْ روحي عندما خرجتُ. 12 لماذا قبلتني الركبتان، أو الثديان حتّى أرضع؟ 13 إذًا لكنتُ الآن أرقُدُ في سلام غارقًا في سباتٍ مريح. بل قال أحدهم: »لم أكن موجودًا وصرتُ موجودًا. لم أعُدْ موجودًا، لا بأس«. مثل هؤلاء الناس احتاجوا إلى من يحرِّك فيهم الرجاء. قال الرسول لهم: »إذا كنّا نؤمن بأنَّ يسوع مات ثمَّ قام، فكذلك نؤمن بأنَّ الذين رقدوا في يسوع سينقلهم الله إليه في يسوع« (1 تس 4: 14). وكلَّم الوثنيّين في الرسالة إلى أفسس »لا رجاء لكم ولا إله في هذا العالم« (أف 2: 12). لماذا؟ لأنَّكم »كنتم بعيدين«. »أمّا الآن، ففي المسيح يسوع صرتم قريبين بدمِ المسيح« (آ13). ويتواصل الكلام في هذه الرسالة: »فأنتم جسدٌ واحد وروح واحد، مثلما دعاكم الله إلى رجاء واحد« (أف 4: 4). أجل، هناك رجاء واحد، لأنَّ الله واحد. فلا ندهش بعد اليوم: »نحن بيته (بيت الله) إن تمسَّكنا بالثقة والفخر بما لنا من رجاء« (عب 3: 6). لهذا قيل: »الرجاء واحد والباقي انتظار«. لهذا كانت الحياة نداء مثل نداء ذاك المكدونيّ الذي جاء في الليل إلى بولس وقال له: »اعبُر إلى مكدونية وأغثنا« (أع 16: 9). وهكذا توجَّهت كرازة الخلاص شيئًا فشيئًا نحو كرازة الرجاء، وصار الإعلان الإيمانيّ »تمسُّكًا بالرجاء... لأنَّ الله الذي وعد أمين« (عب 10: 23). 2. مكوِّنات الرجاء حدَّد أفلاطون الرجاء بأنَّه »انتظار خيرٍ من الخيرات«. أمّا الخيرات التي ننتظر فهي عديدة. قال ابن سيراخ (ف 2): 7 يا من تخاف الربّ، انتظر رحمته، وحين تسقط لا تمِل عنه. 8 يا من تخاف الربّ آمنْ به وأجرك لن يضيع. 9 يا من تخاف الربّ انتظرْ خيرًا وسرورًا أبديٌّا ورحمة. فالمؤمن ينتظر العودة إلى أرضه (إر 44: 14). والحرِّيَّة (إش 25: 9؛ مز 112: 7)، كما ينتظر أن ينال التعليم (إش 42: 4) أو المال (أع 24: 26) أو الغلَّة الوافرة (1 كو 9: 10). وجاء الكلام عن الرجاء على لسان بولس: أن يزور الجماعة، أن يطيل إقامته في موضع ما، أن يكون حرٌّا بحيث يلتقي أحد التلاميذ. قال لجماعة رومة: »أرجو أن أراكم عند مروري بكم في طريقي إلى إسبانية« (رو 5: 24). ولجماعة كورنتوس: »فأنا لا أريد أن أراكم هذه المرَّة رؤية عابرة، بل أرجو أن أقيم بينكم مدَّة طويلة بإذن الرب« (1 طو 16: 7). وقال لأهل فيلبّي: »أرجو في الربِّ يسوع أن أُرسل إليكم تيموتاوس« (فل 2: 19). ثمَّ: »ولي ثقة بالربّ أن أجيء إليكم أنا أيضًا بعد قليل« (آ23). وكتب الرسول إلى تلميذه تيموتاوس: »أكتبُ إليك هذه الرسالة راجيًا أن أجيء إليك بعد قليل« (1 تم 3: 14). فالرسول يعيش في الرجاء وينتظر من الله أن يسهِّل له طريقه، إذا شاء. كما ينتظر أن تكون عواطف قرَّائه كما يُرام. كان خلاف مع كنيسة كورنتوس، فترجّى بولس »أن يفهموه« (2 كو 1: 13). »أن يعرفوه« (2 كو 5: 11). وترجّى لهم »أن يزداد إيمانهم« (2 كو 10: 15). وأوجز الرسول كلامه بهذه العبارة: »رجاؤنا فيكم ثابت، لأنَّنا نعرف أنَّكم تشاركوننا في العزاء كما تشاركوننا في الآلام« (2 كو 1: 7). موضوع الرجاء في العهد القديم كان الإقامة في أرض الموعد (تك 15: 7؛ 17: 8؛ خر 3: 8؛ 6: 4). ولمّا أقام الشعب في الأرض، ترجُّوا من الربِّ الحماية تجاه الأخطار المحدقة بهم. وتطلَّعوا إلى يوم الربِّ حيث ينجون من كلِّ شر وينعمون بعهد من السعادة والازدهار. كلُّها انتظارت مادِّيَّة. وتجاه الخطيئة التي ندَّد بها الأنبياء، ترجَّى الشعب خلاصه أو أقلَّه خلاص البقيَّة الباقية، إن لم يكن الآن، ففي نهاية العالم: »أعاهدكم عهدًا أبديٌّا. الأمم يعرفون نسلكم، وذرِّيَّتكم بين شعوب الأرض« (إش 61: 8-9). في امتداد العهد القديم نرافق بولس الرسول، ذاك الذي تعلَّم عند قدمَي غملائيل (أع 22: 3). فالرجاء عنده هم أكثر من رغبة، أكثر من احتمال مؤسَّس على الواقع. فالرجاء يتضمَّن الثبات، التي هي إمكانيَّة تحمُّل الصعوبات بدون ارتخاء، والوقوف مهما كانت الرياح مضادَّة. مثل هذا الرجاء ذكره الرسول (1 تس 1: 3)، الذي يتضمَّن اليقين والتأكيد، والحرارة والثقة التامَّة، وإن كان الرجاء ينبوعًا يحرِّك الصبر والجلد والمثابرة، فالصبر من جهته يستطيع أن يُولِّد الرجاء، بمعنى أنَّه الطريق الذي يقود إلى الرجاء. وهذا الرجاء يدلُّ على نفسه في المثابرة، لا في اندفاع ينطلق سريعًا ليتوقَّف أسرع، مثل النار في القشّ، أو حبَّة الحنطة التي وقعت على أرض قليلة التراب: أفرخَت حالاً وما عتَّمت أن يبست. قال متّى عن تلك الحبَّة: »ووقع بعضه على أرض صخريَّة قليلة التراب. فنبتَ في الحال لأنَّ ترابه كان بلا عمق، فلمّا أشرقت الشمس احترق وكان بلا جذور فيبس« (مت 13: 5-6). هنا نقرأ الرسالة إلى رومة: »نحن نفتخر بها (= بالنعمة) في الشدائد لعلمنا أنَّ الشدَّة تلد الصبر، والصبر امتحانٌ لنا. والامتحان يلد الرجاء، ورجاؤنا لا يخيب، لأنَّ الله سكب محبَّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا« (رو 5: 3-5). نحن أبعد ما يكون عن انتظار الأمور المادِّيَّة، وإن كان الربُّ لا يستثنيها من عطاءاته. وسندُنا هو الله الذي يوجِّه حياتنا من أجل الخير بسبب المحبَّة المسكوبة فينا. مثل هذا الرجاء يرافقه الفرح الذي يعمُر به قلبُ الرسول، حين يكلِّم الجماعة في تسالونيكي: »فمن يكون رجاءنا وفرحنا وإكليل افتخارنا أمام ربِّنا يسوع المسيح يوم مجيئه؟« (1 تس 2: 19). هو تطلَّع إلى المستقبل البعيد أو القريب: »مجيء ربِّنا«. والربّ يأتي في المجد. ونحن ننتظره »صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة« (رو 12: 12). وما قاله بولس للتسالونيكيّين ها هو يقوله لجماعة رومة: »فليحِّرركم إلهُ الرجاء بالفرح والسلام في الإيمان، حتّى يفيض رجاؤكم بالروح القدس« (رو 15: 13). وماذا يرجو المؤمن؟ أوَّل أمر يرجوه هو البرّ. هو لا يتَّكل على أعمال الناموس مهما سمت كرامتها، بل على الله وحده الذي يُتمُّ مواعيده بنعمة من لدنه، الذي يؤمن بالإنسان ويطلب منه أن يؤمن، الذي يحفظ أمانته لكلِّ واحد منّا ويطلب منّا أن نردَّ على الأمانة بالأمانة. ذاك هو معنى مقال بولس في بداية توسُّعه في القسم العقائديّ من الرسالة إلى رومة: »لأنَّ فيه كُشف برُّ الله بالإيمان وللإيمان كما هو مكتوب: البارُّ بالإيمان يحيا« (رو 1: 17). من أعطاه هذه الصفة، من اعتبره بارٌّا؟ الله وحده. وحين يعتبر الإنسان نفسه بارٌّا يُشبه ذاك الفرّيسيّ الذي جاء إلى الهيكل يصلّي مشدِّدًا على برارته الخاصَّة. غير أنَّه عاد صفر اليدين. قام بطقس خارجيّ »فما كان مقبولاً عند الله« (لو 18: 14). فالمؤمن ينتظر بلا ملل وفي هدوء تامّ ذاك »البر« الذي يحصل عليه بالروح القدس. هذا ما يقودنا إلى الرسالة إلى غلاطية مع ذروة في هذه العبارة: »أمّا نحن فالروح يجعلنا ننتظر، بالإيمان، الخيرات التي يرجوها البر« (غل 5: 5). تبرَّرنا، صرنا أحرارًا، فيُطلَب منّا أن لا نعود إلى العبوديَّة (آ1) من أيِّ جهة أتت. لأنَّ من يصنع الخطيئة يكون عبدًا للخطيئة، كما قال الربّ (يو 8: 34). والمال يجعلنا أيضًا عبيدًا ويقودنا إلى الحزن لأنَّنا ننغلق على عالم نعيش فيه، وهكذا لا نستطيع »الدخول إلى ملكوت الله« (مر 10: 25). ذاك ما حصل لذلك الرجل الذي سأل الربَّ ماذا يعمل ليرث الحياة الأبديَّة (آ17). فالإنسان المبرَّر لا يستند إلى نفسه ولا إلى كفالات يجدها في هذا العالم، بل إلى محبَّة الله. وهو يُقيم في رجاء موجَّه نحو المستقبل الإسكاتولوجيّ في موقف ناشط، حارّ، قويّ. »فالذي يفلح الأرض والذي يدرس الحبوب يقومان بعملهما هذا على رجاء أن ينال كلٌّ منهما نصيبه« (1 كو 9: 10). ومع أنَّ الخلاص الذي حمله يسوع المسيح هو حاضر منذ الآن، فإحدى تجلَّياته تكون المشاركة والمقاسمة بين الرسول والمؤمنين (2 كو 1: 7). ومع أنَّ المسيحيّ يمتلك منذ الآن جوهر ما يكون له من سعادة، إلاَّ أنَّ هذا الخلاص يُمنَح له في الرجاء بواسطة الروح. وهذا الرجاء لا يمكن أن يخيب لأنَّه يتأسَّس على حبِّ الله الذي تجلّى في المسيح، وأفيض في قلوبٍ كانت من قبلُ خطأة. فالخلاص في تحقيقه التامّ والنهائيّ، يبقى بعيدًا لأنَّنا لا ندركه وجهًا لوجه. فالرؤية تدخلنا في الأشياء منذ الساعة الحاضرة، وتقيم علاقة عابرة. أمّا الرجاء، الموجَّه نحو المستقبل، فيقيم علاقة مع اللامنظور، مع الأمور الأبديَّة التي لم تحصل بعد. هو يستند إلى أمانة الله الثابتة لمواعيده، وإلى قدرته التي تكفل الخيرات الآتية، الإسكاتولوجيَّة واللامنظورة. ويرتكز على إيمان واثق به يؤمن الإنسان بالله، بما يقوله وبما يفعله. قال الرسول: »فلمّا برَّرنا الله بالإيمان نعمنا بسلام معه بربِّنا يسوع المسيح، وبه دخلنا بالإيمان إلى هذه النعمة التي نُقيم فيها ونفتخر على رجاء المشاركة في مجد الله« (رو 5: 1-2). ويواصل الرسول كلامه في الرسالة عينها: »في الرجاء كان خلاصنا. ولكنَّ الرجاء المنظور لا يكون رجاء. وكيف يرجو الإنسان ما ينظره؟ أمّا إذا كنّا نرجو ما لا ننظره، فبالصبر (أو: بالثقة) ننتظره« (رو 8: 24-25). ودعا الرسولُ التسالونيكيّين لئلاّ يتبلبلوا، فذكَّرهم بمكوِّنات الحياة المسيحيَّة: هم بالرجاء ينتظرون في مجيء الربّ، تتمَّةَ الخلاص الذي أدركوه منذ الآن بالإيمان. »أمّا نحن أبناء النهار فلنكن صاحين، لابسين درع الإيمان والمحبَّة، وخوذة رجاء الخلاص، لأنَّ الله جعلنا لا لغضبه، بل للخلاص بربِّنا يسوع المسيح« (1 تس 5: 8-9)؟ وجاء امتدادُ هذا الكلام في الرسالة إلى رومة: حيث المصالحة مع الله تتغلَّب على الغضب الذي هو عمليٌّا العقاب الأبديّ. »ولكنَّ الله برهن على محبَّته لنا بأنَّ المسيح مات من أجلنا ونحن بعدُ خاطئون. فكم بالأولى الآن بعدما تبرَّرْنا بدمه أن نخلص به من غضب الله. وإذا كان الله صالحنا بموت ابنه ونحن أعداؤه، فكم بالأولى أن نخلص بحياته ونحن متصالحون« (رو 5: 8-10). 3. ترجّى إبراهيم على خلاف الرجاء في الرسالة إلى رومة، توقَّف بولس بشكل خاصّ عند شخص إبراهيم مع هذه العبارة اللافتة: »وآمن إبراهيم بالله راجيًا حيث لا رجاء، فصار أبًا لأمم كثيرة« (رو 4: 18). يروي سفر التكوين كيف دعا الله إبراهيم فانتقل من مدينة يمكن العيش فيها بسلام ورفاه، هي أور الكلدانيّين، إلى المجهول من الوجهة البشريَّة. إلى أين يمضي إبراهيم؟ هو لا يعرف. قيل له: »اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الموضع الذي أريك« (تك 12: 1). كلُّ الضمانات البشريّة هي هنا، ومع ذلك تخلّى عنها إبراهيم لأنَّ الربَّ طلب منه. ووعده بأن يعطيه »هذه الأرض كلَّها« (تك 13: 15) أي أرض كنعان، بين نهر الأردنّ والبحر. ولكن كيف ينال إبراهيم هذه الأرض »فيما الكنعانيّون والفرزيّون مقيمون هنا« (آ7). أمر مستحيل! ومع ذلك آمن إبراهيم وترجّى »على خلاف الرجاء«. إبراهيم لا يرى. ولكنَّ الله يرى ويزرع في قلبه الرجاء. قالت عنه الرسالة إلى العبرانيّين: »بالإيمان لبّى إبراهيم دعوة الله فخرج إلى بلدٍ وعده الله به ميراثًا، خرج وهو لا يعرف إلى أين يذهب وبالإيمان نزل في أرض الميعاد كأنَّه في أرض غريبة وأقام في الخيام... لأنَّه كان ينتظر المدينة الثابتة على أُسس، واللهُ مهندسُها وبانيها« (عب 11: 8-10). في الخيمة إقامة موقَّتة، سريعة العطب، تهدِّدها الرياح. هذا في المنظور البشريّ. أمّا المؤمن فيتطلَّع إلى »المدينة الثابتة«، أورشليم السماويَّة، التي أسَّسها الله فجاءت أقوى من كلِّ بناء بشريّ. إلى هناك امتدَّ نظرُ إبراهيم. آمن وما شكَّ »فبرَّره الربُّ لإيمانه« (تك 15: 6). في هذا المجال قال الرسول: »وماذا نقول في إبراهيم أبينا في الجسد وما جرى له؟ فلو أنَّ الله برَّره لأعماله لحقَّ له أن يفتخر، ولكن لا عند الله. فالكتاب يقول: آمن إبراهيم بكلام الله فبرَّره الله لإيمانه« (رو 4: 1-3). فيبقى على المؤمنين »أن يقتدوا بأبينا براهيم في إيمانه« (آ12). وعد الله إبراهيم بأرض، فوثق بوعد الله. ووعده بنسل منذ دعاه: »أجعلك أمَّة عظيمة، وأباركك، وأعظِّم اسمك، وتكون بركة« (تك 12: 2). أين هي هذه الأمَّة التي تخرجُ من صلب إبراهيم، وتتذكَّرُ اسمَه بعد موته؟ صار كبيرًا في السنّ، وسارة »امتنع أن يكون لها عادة كما للنساء« (تك 18: 11). وإبراهيم نفسه سوف يقول للربّ: »أنا سأموت عقيمًا« (تك 15: 2). الربُّ يَعِدُ ولكن أين البرهان؟ كلام الربِّ يكفي: »انظرْ إلى السماء وعُدَّ النجوم إن قدرتَ أن تعدَّها... هكذا يكون نسلك« (آ5). وترجّى إبراهيم على خلاف الرجاء. والربُّ أتى إليه في الوقت الذي حدَّده: »سأرجع إليك في هذا الوقت من السنة المقبلة، ويكون لسارة امرأتك ابن« (تك 18: 10). ضحكت سارة. هذا غير معقول. ولكنَّ الرجاء يتعدَّى المفهوم البشريّ. »أيصعبُ على الربِّ شيء؟« (آ14). ويواصل الكتاب: »وافتقد الربُّ سارة كما قال، وفعل لها كما وعد«. »فحملت سارة وولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته، في الوقت الذي تكلَّم الله عنه« (تك 21: 1-2). تلك هي ثمرة الرجاء. استعاد بولس نصَّ سفر التكوين لكي يتكلَّم عن الإيمان والوعد، فانطلق من العبارة التي ذكرنا: »آمن إبراهيم راجيًا حيث لا رجاء، فصار أبًا لأمم كثيرة، على ما قال الكتاب: هكذا يكون نسلك« (رو 4: 18). كيف بان إيمان إبراهيم؟ »كان إبراهيم في نحو المئة من العمر، فما ضعُف إيمانه حين رأى أن بدنه مات وأنَّ رحم امرأته سارة مات أيضًا. وما شكَّ في وعد الله، بل قوّاه إيمانُه فمجَّد الله واثقًا بأنَّ الله قادر على أن يفي بوعده« (آ19-21). الخاتمة الرجاء هو انتظار أكيد للسعادة، يرتبط في اللاهوت البولسيّ بالإيمان والمحبَّة (1 كو 13: 13). وهو لا يُفهَم إلاَّ في إطار تحتلُّ فيه مقولة الوعد مكانة مميَّزة. كان العالم الوثنيّ ينظر إلى الزمن على أنَّه حلقة، ندور فيها لنعود إلى المكان الذي انطلقنا منه. أمّا الكتاب المقدَّس فنظرته إلى الزمن نظرة خطوطيَّة مرتَّبة في تاريخ. لا عودة إلى وراء، بل انطلاقة وانطلاقة في رفقة الربِّ إلى أن نصل إلى »الأرض الجديدة والسماء الجديدة«. في هذا التاريخ يتجلّى الله كسيِّد المستقبل ويُعدُّ الإنسان لهذا المستقبل. في هذا الإطار رافقنا القدّيس بولس في كلامه عن الرجاء المسيحيّ. مستقبل ننظر إليه. تمَّ كلُّه في يسوع المسيح وننتظر تتمَّته في الكنيسة وفي كلِّ مؤمن من المؤمنين. كان لنا مثالٌ بعيد في مسيرة إبراهيم وجدت كمالها في شخص المسيح معه انطلق بولس تاركًا ما وراءه منبطحًا إلى أمامه. »فجرى إلى الهدف ليفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويَّة في المسيح يسوع« (فل 3: 14). ومعه تسير الكنيسة إلى مجيئه ومنتهى الدهر، بل الخليقة كلُّها التي »ستتحرَّر من عبوديَّة الفساد لتشارك أبناء الله في حرِّيَّتهم ومجدهم« (رو 8: 21). |
||||
04 - 04 - 2024, 03:08 PM | رقم المشاركة : ( 156493 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
كونوا فرحين في الرجاء بعد أن قدَّم بولس الرسول اللاهوت في الرسالة إلى رومة مُبرزًا التبرير بالإيمان، والحياة المعطاة في المسيح، وخلاص جميع البشر من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين أو الأمم الوثنيَّة، بعد أن قدَّم توسُّعًا أوَّل يبيِّن أمانة الله لمواعيده، وتوسُّعًا ثانيًا يبيِّن كيف »يُصاب« المؤمن بمحبَّة الله وتوسُّعًا ثالثًا يعلن النجاح التامّ لمخطَّط الخلاص الشامل على أساس حكمة الله. بعد أن صوَّر الرسول شقاء الإنسان الذي يستند إلى قواه الخاصَّة فيعي ضعفه ويتقبَّل عون الله، وشقاءه على المستوى البشريّ حيث يصبح عبدًا للخطيئة، بعد هذا التوسُّع اللاهوتيّ، يعود بنا بولس إلى القسم الأخلاقيّ فيحدِّثنا عن الحياة الجديدة في المسيح التي تعلِّمنا أوَّل ما تعلِّمنا المحبَّة الأخويَّة في تفاصيل الحياة اليوميَّة. هنا يعطي الرسول جماعة رومة، وبالتالي كلَّ جماعة من جماعاتنا، توصيات من أجل الحياة الروحيَّة في الكنيسة، حول الصلاة والمحبَّة والضيافة، مع عبارة مفصليَّة في هذه السلسلة: »كونوا فرحين في الرجاء« (رو 12: 12). عن الرجاء في الرسائل البولسيَّة يكون كلامنا. فنتعرَّف إلى الرجاء على أنَّها فضيلة من الفضائل تُذكر مع الإيمان والمحبَّة أوَّل ما تُذكر في المراسلة مع أهل تسالونيكي. نتوقَّف عند مكوِّناتها: ماذا ينتظر الإنسان؟ البرّ والخلاص في يسوع المسيح، المجد الآتي لا للبشر فقط، بل للخليقة كلِّها »التي تئنُّ حتّى اليوم« (رو 8: 22)، منتظرة أن »تتحرَّر من عبوديَّة الفساد لتشارك أبناء الله في حرِّيَّتهم ومجدهم« (آ21). في هذا الرجاء عاش بولس في خطى إبراهيم، والمسيحيّون بشكل عامّ والجماعات المنتشرة التي يكتب إليها الرسول، لأنَّ الحياة بالنسبة إلى الإنسان هي الرجاء. فحين يمضي الرجاء لا يبقى شيء كما يقول سفرُ الجامعة (9: 4)، فيتفوَّق حينئذٍ الميتُ على الحيّ. هنا يُعلن أيّوب بقلبٍ جاوره اليأس (ف 17): 13 ما رجائي والقبر أصبح بيتي، وفي الظلام فرشتُ مضجعًا لي؟ 14 أقولُ للقبر: »أنت أبي!« وللديدان: »أنتِ أمّي وأختي!« 15 فقولوا لي: »أين إذًا رجائي؟ سعادتي من يا ترى يراها؟ |
||||
04 - 04 - 2024, 03:10 PM | رقم المشاركة : ( 156494 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
بولس الرسول وفضيلة الرجاء الفضيلة هي الدرجة الرفيعة في الفضل، في أن يزيد الإنسان على قريبه في البرِّ والإحسان. الفضيلة تقابل النقيصة، وحيث ينقص الرجاء لن يبقى للإنسان من طريق سوى القنوط واليأس. والفضيلة ترافق المزيَّة التي هي التمام في ما يعيشه الإنسان، ما يتميَّز به الإنسان. فالرجاء لا يُولَد مع الإنسان وكأنَّه جزء من طبيعته، بل هو صفة يتحلّى بها الإنسان المؤمن، فيختلف عن الذين لا رجاء لهم (1 تس 4: 13). ولاسيَّما عند ساعة الموت، فعلى المؤمن أن »يضيفها«، »يزيدها« على ما عنده من صفات بشريَّة، بسبب سموِّها ورفعتها. فهي ثابتة كما يقول الرسول تجاه الأمور العابرة: »والآن يبقى الإيمان والرجاء والمحبَّة« (1 كو 13: 13). من أجل هذا يهنّئ الرسول أهل تسالونيكي: »نشكر الله كلَّ حين من أجلكم جميعًا، ونذكركم دائمًا في صلواتنا. ونذكر أمام إلهنا وأبينا ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح، من نشاط في الإيمان، وجهاد في المحبَّة، وثبات في الرجاء« (1 تس 1: 2-3). فهذه الفضائل الثلاث لا تأتي بالطريق السهلة، بل هي تفترض مجهودًا كبيرًا ربَّما يعرِّضنا للخطر، إن لم يكن للهزء، كما حصل لبولس حين كان في أثينة فحدَّث أهلها عن »قيامة الأموات« (أع 17: 32). من هنا قال الفلاسفة عن الفضيلة: »هي تجعل الإنسان قادرًا على العمل كما يجب، بحيث تكون نفسه عائشة في توازن تام«. مثل هذه الفضيلة هي عطيَّة من لدن الله. أمّا الرجاء فهو ضدُّ اليأس والقنوط ورفيق الأمل أو النظر إلى البعيد. في الرجاء نعتبر أنَّ ما نرغب فيه يمكن أن يتحقَّق. لهذا ننتظر بملء الثقة عطيَّة من العطايا، أو نتَّكل على شخص قدير بأن يمنحنا ما نصبو إليه من خير. هذا يعني أنَّنا حين نتكلَّم عن الرجاء نشير إلى المكانة التي يحتلُّها المستقبل في الحياة الدينيَّة لدى شعب الله. وهو مستقبل من السعادة يُدعى إليه البشرُ جميعًا، »فالله يريد أن يخلص جميعُ الناس ويبلغوا إلى معرفة الحق« (1 تم 2: 4). ومواعيد الله كشفت لشعبه، مرحلةً بعد مرحلة، عظمة هذا المستقبل الذي لن يكون »واقعًا« من هذا العالم، بل »وطنًا أفضل، الوطن السماوي« (عب 11: 16) بل »ما وُعدنا به، أي الحياة الأبديَّة« (1 يو 2: 25). وما يُسند هذا المستقبل الذي وعد به الله والمتطلِّبات التي يفترض، هو الإيمان الذي هو »الوثوق بما نرجوه، وتصديق ما لا نراه« (عب 11: 1). فالإنسان الواثق يستند إلى الله الذي به يرتبط هذا المستقبل. وحين يتجذَّر الرجاء في الإيمان والثقة، يستطيع أن يتحدَّد نحو المستقبل ويحرِّكُ بديناميَّته حياة المؤمن كلَّها. والرجاء يحافظ على الصبر والأمانة اللذين يعبِّر عنهما العهد الجديد بالمحبَّة. وهذا ما يجعلنا أمام المثلَّث الذي أطلقه الرسول، الإيمان والرجاء والمحبَّة، أو ما يُدعى في اللاهوت المسيحيّ: الفضائل الإلهيَّة. فهي تربطنا بالله مباشرة قبل أن توجِّهنا إلى القريب: »أمّا نحن، فننتظر على رجاء أن يبرِّرنا الله بالإيمان بقدرة الروح. ففي المسيح يسوع، لا الختان ولا عدمُه ينفعُ شيئًا، بل الإيمان العامل بالمحبَّة« (غل 5: 5-6). في قراءة للإناجيل الأربعة، لا نجد لفظ »رجاء« كاسم، بل كفعل، وفي معنى دنيويّ لا في معنى دينيّ. في لو 6: 34 هو الرجاء بأن ينال الإنسان مالاً (ترجون أن تستردُّوا منه قرضكم). وفي لو 23: 8 نعرف أنَّ هيرودس كان »يرجو أن يشهد آية تتمُّ على يده«، على يد يسوع. وفي المعنى الدينيّ نقرأ الفعل »ترجّى« ثلاث مرّات في خطِّ العهد القديم. في مت 12: 21، يرد نصّ إش 42: 4: »وعلى اسمه تترجّى الأمم« (رج رو 15: 12). في لو 23: 21، ترجَّى تلميذَيْ عمّاوس من يسوع أن يخلِّص إسرائيل. وفي يو 5: 45، جعل اليهود رجاءهم في موسى. لهذا كانت أفعال أخرى: انتظر (1 تس 1: 10: وتنتظروا ابنه من السماء). توقَّع (رو 8: 19، 23: متوقِّعين التبنّي؟ رو 8: 25؛ 1 كو 1: 7؛ غل 5: 5؛ فل 3: 20؛ عب 9: 28). سهر (1 كو 16: 13؛ كو 4: ..2.). تمسَّك (فل 2: 16: متمسِّكين بكلمة الحياة؛ 1 تم 4: 16). صبر، احتمل (رو 2: 12: صابرين في الضيق؛ 1 كو 13: 7؛ 2 تم 2: 10، 12؛ عب 10: 22؛ 12: 2، 3، 7). هذا ما يقابل الأفعال العبريَّة كما ترجمت في السبعينيَّة: »ب ط ح«، وثق به، اطمأنَّ. »ق و ه« انتظر، ترجّى. »ي ح ل« انتظر إنسانًا. »ح ك ه« انتظر بثقة ويقين. »ح س ه« التجأ إليه، وجد فيه الحماية، جعل اتِّكاله عليه. هذه الأفعال بما تحمل من معانٍ وُجدت في الأدب اليونانيّ السابق للعهد الجديد، ولاسيَّما الرسائل البولسيَّة. فاستعملها الرسول. نشير هنا إلى أنَّ الرومان تعبَّدوا »للرجاء« وبنوا له المعابد الكثيرة، واعتبروا أنَّ هذه العبادة تشدِّد العزيمة. ففي خلال الحرب بين رومة وقرطاجة، مثلاً، بُنيَ هيكل »للرجاء«. في القرن الأوَّل المسيحيّ، ترجَّت بعض النفوس الخلاص بواسطة آلهتها، ولكن سيطر الحزن بشكل إجماليّ مع اليأس والقنوط. فقال أحدهم: »لا نستطيع بعدُ أن نتحمَّل رذائلنا ولا علاجاتنا«. وبكى آخر على الأبناء الذين يسيرون وسط الشرور المختلفة، كما حسدَ الأمواتَ الذين تركوا الحياة فوجدوا في الموت الدواء لشقاءاتهم. هنا نلتقي مع أيّوب البارّ الذي هتف بعد أن أصابه ما أصابه من شرور (ف 3): 11 لماذا لم أمُتْ من الرحم أو فاضتْ روحي عندما خرجتُ. 12 لماذا قبلتني الركبتان، أو الثديان حتّى أرضع؟ 13 إذًا لكنتُ الآن أرقُدُ في سلام غارقًا في سباتٍ مريح. بل قال أحدهم: »لم أكن موجودًا وصرتُ موجودًا. لم أعُدْ موجودًا، لا بأس«. مثل هؤلاء الناس احتاجوا إلى من يحرِّك فيهم الرجاء. قال الرسول لهم: »إذا كنّا نؤمن بأنَّ يسوع مات ثمَّ قام، فكذلك نؤمن بأنَّ الذين رقدوا في يسوع سينقلهم الله إليه في يسوع« (1 تس 4: 14). وكلَّم الوثنيّين في الرسالة إلى أفسس »لا رجاء لكم ولا إله في هذا العالم« (أف 2: 12). لماذا؟ لأنَّكم »كنتم بعيدين«. »أمّا الآن، ففي المسيح يسوع صرتم قريبين بدمِ المسيح« (آ13). ويتواصل الكلام في هذه الرسالة: »فأنتم جسدٌ واحد وروح واحد، مثلما دعاكم الله إلى رجاء واحد« (أف 4: 4). أجل، هناك رجاء واحد، لأنَّ الله واحد. فلا ندهش بعد اليوم: »نحن بيته (بيت الله) إن تمسَّكنا بالثقة والفخر بما لنا من رجاء« (عب 3: 6). لهذا قيل: »الرجاء واحد والباقي انتظار«. لهذا كانت الحياة نداء مثل نداء ذاك المكدونيّ الذي جاء في الليل إلى بولس وقال له: »اعبُر إلى مكدونية وأغثنا« (أع 16: 9). وهكذا توجَّهت كرازة الخلاص شيئًا فشيئًا نحو كرازة الرجاء، وصار الإعلان الإيمانيّ »تمسُّكًا بالرجاء... لأنَّ الله الذي وعد أمين« (عب 10: 23). |
||||
04 - 04 - 2024, 03:12 PM | رقم المشاركة : ( 156495 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
مكوِّنات الرجاء حدَّد أفلاطون الرجاء بأنَّه »انتظار خيرٍ من الخيرات«. أمّا الخيرات التي ننتظر فهي عديدة. قال ابن سيراخ (ف 2): 7 يا من تخاف الربّ، انتظر رحمته، وحين تسقط لا تمِل عنه. 8 يا من تخاف الربّ آمنْ به وأجرك لن يضيع. 9 يا من تخاف الربّ انتظرْ خيرًا وسرورًا أبديٌّا ورحمة. فالمؤمن ينتظر العودة إلى أرضه (إر 44: 14). والحرِّيَّة (إش 25: 9؛ مز 112: 7)، كما ينتظر أن ينال التعليم (إش 42: 4) أو المال (أع 24: 26) أو الغلَّة الوافرة (1 كو 9: 10). وجاء الكلام عن الرجاء على لسان بولس: أن يزور الجماعة، أن يطيل إقامته في موضع ما، أن يكون حرٌّا بحيث يلتقي أحد التلاميذ. قال لجماعة رومة: »أرجو أن أراكم عند مروري بكم في طريقي إلى إسبانية« (رو 5: 24). ولجماعة كورنتوس: »فأنا لا أريد أن أراكم هذه المرَّة رؤية عابرة، بل أرجو أن أقيم بينكم مدَّة طويلة بإذن الرب« (1 طو 16: 7). وقال لأهل فيلبّي: »أرجو في الربِّ يسوع أن أُرسل إليكم تيموتاوس« (فل 2: 19). ثمَّ: »ولي ثقة بالربّ أن أجيء إليكم أنا أيضًا بعد قليل« (آ23). وكتب الرسول إلى تلميذه تيموتاوس: »أكتبُ إليك هذه الرسالة راجيًا أن أجيء إليك بعد قليل« (1 تم 3: 14). فالرسول يعيش في الرجاء وينتظر من الله أن يسهِّل له طريقه، إذا شاء. كما ينتظر أن تكون عواطف قرَّائه كما يُرام. كان خلاف مع كنيسة كورنتوس، فترجّى بولس »أن يفهموه« (2 كو 1: 13). »أن يعرفوه« (2 كو 5: 11). وترجّى لهم »أن يزداد إيمانهم« (2 كو 10: 15). وأوجز الرسول كلامه بهذه العبارة: »رجاؤنا فيكم ثابت، لأنَّنا نعرف أنَّكم تشاركوننا في العزاء كما تشاركوننا في الآلام« (2 كو 1: 7). موضوع الرجاء في العهد القديم كان الإقامة في أرض الموعد (تك 15: 7؛ 17: 8؛ خر 3: 8؛ 6: 4). ولمّا أقام الشعب في الأرض، ترجُّوا من الربِّ الحماية تجاه الأخطار المحدقة بهم. وتطلَّعوا إلى يوم الربِّ حيث ينجون من كلِّ شر وينعمون بعهد من السعادة والازدهار. كلُّها انتظارت مادِّيَّة. وتجاه الخطيئة التي ندَّد بها الأنبياء، ترجَّى الشعب خلاصه أو أقلَّه خلاص البقيَّة الباقية، إن لم يكن الآن، ففي نهاية العالم: »أعاهدكم عهدًا أبديٌّا. الأمم يعرفون نسلكم، وذرِّيَّتكم بين شعوب الأرض« (إش 61: 8-9). في امتداد العهد القديم نرافق بولس الرسول، ذاك الذي تعلَّم عند قدمَي غملائيل (أع 22: 3). فالرجاء عنده هم أكثر من رغبة، أكثر من احتمال مؤسَّس على الواقع. فالرجاء يتضمَّن الثبات، التي هي إمكانيَّة تحمُّل الصعوبات بدون ارتخاء، والوقوف مهما كانت الرياح مضادَّة. مثل هذا الرجاء ذكره الرسول (1 تس 1: 3)، الذي يتضمَّن اليقين والتأكيد، والحرارة والثقة التامَّة، وإن كان الرجاء ينبوعًا يحرِّك الصبر والجلد والمثابرة، فالصبر من جهته يستطيع أن يُولِّد الرجاء، بمعنى أنَّه الطريق الذي يقود إلى الرجاء. وهذا الرجاء يدلُّ على نفسه في المثابرة، لا في اندفاع ينطلق سريعًا ليتوقَّف أسرع، مثل النار في القشّ، أو حبَّة الحنطة التي وقعت على أرض قليلة التراب: أفرخَت حالاً وما عتَّمت أن يبست. قال متّى عن تلك الحبَّة: »ووقع بعضه على أرض صخريَّة قليلة التراب. فنبتَ في الحال لأنَّ ترابه كان بلا عمق، فلمّا أشرقت الشمس احترق وكان بلا جذور فيبس« (مت 13: 5-6). هنا نقرأ الرسالة إلى رومة: »نحن نفتخر بها (= بالنعمة) في الشدائد لعلمنا أنَّ الشدَّة تلد الصبر، والصبر امتحانٌ لنا. والامتحان يلد الرجاء، ورجاؤنا لا يخيب، لأنَّ الله سكب محبَّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا« (رو 5: 3-5). نحن أبعد ما يكون عن انتظار الأمور المادِّيَّة، وإن كان الربُّ لا يستثنيها من عطاءاته. وسندُنا هو الله الذي يوجِّه حياتنا من أجل الخير بسبب المحبَّة المسكوبة فينا. مثل هذا الرجاء يرافقه الفرح الذي يعمُر به قلبُ الرسول، حين يكلِّم الجماعة في تسالونيكي: »فمن يكون رجاءنا وفرحنا وإكليل افتخارنا أمام ربِّنا يسوع المسيح يوم مجيئه؟« (1 تس 2: 19). هو تطلَّع إلى المستقبل البعيد أو القريب: »مجيء ربِّنا«. والربّ يأتي في المجد. ونحن ننتظره »صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة« (رو 12: 12). وما قاله بولس للتسالونيكيّين ها هو يقوله لجماعة رومة: »فليحِّرركم إلهُ الرجاء بالفرح والسلام في الإيمان، حتّى يفيض رجاؤكم بالروح القدس« (رو 15: 13). وماذا يرجو المؤمن؟ أوَّل أمر يرجوه هو البرّ. هو لا يتَّكل على أعمال الناموس مهما سمت كرامتها، بل على الله وحده الذي يُتمُّ مواعيده بنعمة من لدنه، الذي يؤمن بالإنسان ويطلب منه أن يؤمن، الذي يحفظ أمانته لكلِّ واحد منّا ويطلب منّا أن نردَّ على الأمانة بالأمانة. ذاك هو معنى مقال بولس في بداية توسُّعه في القسم العقائديّ من الرسالة إلى رومة: »لأنَّ فيه كُشف برُّ الله بالإيمان وللإيمان كما هو مكتوب: البارُّ بالإيمان يحيا« (رو 1: 17). من أعطاه هذه الصفة، من اعتبره بارٌّا؟ الله وحده. وحين يعتبر الإنسان نفسه بارٌّا يُشبه ذاك الفرّيسيّ الذي جاء إلى الهيكل يصلّي مشدِّدًا على برارته الخاصَّة. غير أنَّه عاد صفر اليدين. قام بطقس خارجيّ »فما كان مقبولاً عند الله« (لو 18: 14). فالمؤمن ينتظر بلا ملل وفي هدوء تامّ ذاك »البر« الذي يحصل عليه بالروح القدس. هذا ما يقودنا إلى الرسالة إلى غلاطية مع ذروة في هذه العبارة: »أمّا نحن فالروح يجعلنا ننتظر، بالإيمان، الخيرات التي يرجوها البر« (غل 5: 5). تبرَّرنا، صرنا أحرارًا، فيُطلَب منّا أن لا نعود إلى العبوديَّة (آ1) من أيِّ جهة أتت. لأنَّ من يصنع الخطيئة يكون عبدًا للخطيئة، كما قال الربّ (يو 8: 34). والمال يجعلنا أيضًا عبيدًا ويقودنا إلى الحزن لأنَّنا ننغلق على عالم نعيش فيه، وهكذا لا نستطيع »الدخول إلى ملكوت الله« (مر 10: 25). ذاك ما حصل لذلك الرجل الذي سأل الربَّ ماذا يعمل ليرث الحياة الأبديَّة (آ17). فالإنسان المبرَّر لا يستند إلى نفسه ولا إلى كفالات يجدها في هذا العالم، بل إلى محبَّة الله. وهو يُقيم في رجاء موجَّه نحو المستقبل الإسكاتولوجيّ في موقف ناشط، حارّ، قويّ. »فالذي يفلح الأرض والذي يدرس الحبوب يقومان بعملهما هذا على رجاء أن ينال كلٌّ منهما نصيبه« (1 كو 9: 10). ومع أنَّ الخلاص الذي حمله يسوع المسيح هو حاضر منذ الآن، فإحدى تجلَّياته تكون المشاركة والمقاسمة بين الرسول والمؤمنين (2 كو 1: 7). ومع أنَّ المسيحيّ يمتلك منذ الآن جوهر ما يكون له من سعادة، إلاَّ أنَّ هذا الخلاص يُمنَح له في الرجاء بواسطة الروح. وهذا الرجاء لا يمكن أن يخيب لأنَّه يتأسَّس على حبِّ الله الذي تجلّى في المسيح، وأفيض في قلوبٍ كانت من قبلُ خطأة. فالخلاص في تحقيقه التامّ والنهائيّ، يبقى بعيدًا لأنَّنا لا ندركه وجهًا لوجه. فالرؤية تدخلنا في الأشياء منذ الساعة الحاضرة، وتقيم علاقة عابرة. أمّا الرجاء، الموجَّه نحو المستقبل، فيقيم علاقة مع اللامنظور، مع الأمور الأبديَّة التي لم تحصل بعد. هو يستند إلى أمانة الله الثابتة لمواعيده، وإلى قدرته التي تكفل الخيرات الآتية، الإسكاتولوجيَّة واللامنظورة. ويرتكز على إيمان واثق به يؤمن الإنسان بالله، بما يقوله وبما يفعله. قال الرسول: »فلمّا برَّرنا الله بالإيمان نعمنا بسلام معه بربِّنا يسوع المسيح، وبه دخلنا بالإيمان إلى هذه النعمة التي نُقيم فيها ونفتخر على رجاء المشاركة في مجد الله« (رو 5: 1-2). ويواصل الرسول كلامه في الرسالة عينها: »في الرجاء كان خلاصنا. ولكنَّ الرجاء المنظور لا يكون رجاء. وكيف يرجو الإنسان ما ينظره؟ أمّا إذا كنّا نرجو ما لا ننظره، فبالصبر (أو: بالثقة) ننتظره« (رو 8: 24-25). ودعا الرسولُ التسالونيكيّين لئلاّ يتبلبلوا، فذكَّرهم بمكوِّنات الحياة المسيحيَّة: هم بالرجاء ينتظرون في مجيء الربّ، تتمَّةَ الخلاص الذي أدركوه منذ الآن بالإيمان. »أمّا نحن أبناء النهار فلنكن صاحين، لابسين درع الإيمان والمحبَّة، وخوذة رجاء الخلاص، لأنَّ الله جعلنا لا لغضبه، بل للخلاص بربِّنا يسوع المسيح« (1 تس 5: 8-9)؟ وجاء امتدادُ هذا الكلام في الرسالة إلى رومة: حيث المصالحة مع الله تتغلَّب على الغضب الذي هو عمليٌّا العقاب الأبديّ. »ولكنَّ الله برهن على محبَّته لنا بأنَّ المسيح مات من أجلنا ونحن بعدُ خاطئون. فكم بالأولى الآن بعدما تبرَّرْنا بدمه أن نخلص به من غضب الله. وإذا كان الله صالحنا بموت ابنه ونحن أعداؤه، فكم بالأولى أن نخلص بحياته ونحن متصالحون« (رو 5: 8-10). |
||||
04 - 04 - 2024, 03:13 PM | رقم المشاركة : ( 156496 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
ترجّى إبراهيم على خلاف الرجاء في الرسالة إلى رومة، توقَّف بولس بشكل خاصّ عند شخص إبراهيم مع هذه العبارة اللافتة: »وآمن إبراهيم بالله راجيًا حيث لا رجاء، فصار أبًا لأمم كثيرة« (رو 4: 18). يروي سفر التكوين كيف دعا الله إبراهيم فانتقل من مدينة يمكن العيش فيها بسلام ورفاه، هي أور الكلدانيّين، إلى المجهول من الوجهة البشريَّة. إلى أين يمضي إبراهيم؟ هو لا يعرف. قيل له: »اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الموضع الذي أريك« (تك 12: 1). كلُّ الضمانات البشريّة هي هنا، ومع ذلك تخلّى عنها إبراهيم لأنَّ الربَّ طلب منه. ووعده بأن يعطيه »هذه الأرض كلَّها« (تك 13: 15) أي أرض كنعان، بين نهر الأردنّ والبحر. ولكن كيف ينال إبراهيم هذه الأرض »فيما الكنعانيّون والفرزيّون مقيمون هنا« (آ7). أمر مستحيل! ومع ذلك آمن إبراهيم وترجّى »على خلاف الرجاء«. إبراهيم لا يرى. ولكنَّ الله يرى ويزرع في قلبه الرجاء. قالت عنه الرسالة إلى العبرانيّين: »بالإيمان لبّى إبراهيم دعوة الله فخرج إلى بلدٍ وعده الله به ميراثًا، خرج وهو لا يعرف إلى أين يذهب وبالإيمان نزل في أرض الميعاد كأنَّه في أرض غريبة وأقام في الخيام... لأنَّه كان ينتظر المدينة الثابتة على أُسس، واللهُ مهندسُها وبانيها« (عب 11: 8-10). في الخيمة إقامة موقَّتة، سريعة العطب، تهدِّدها الرياح. هذا في المنظور البشريّ. أمّا المؤمن فيتطلَّع إلى »المدينة الثابتة«، أورشليم السماويَّة، التي أسَّسها الله فجاءت أقوى من كلِّ بناء بشريّ. إلى هناك امتدَّ نظرُ إبراهيم. آمن وما شكَّ »فبرَّره الربُّ لإيمانه« (تك 15: 6). في هذا المجال قال الرسول: »وماذا نقول في إبراهيم أبينا في الجسد وما جرى له؟ فلو أنَّ الله برَّره لأعماله لحقَّ له أن يفتخر، ولكن لا عند الله. فالكتاب يقول: آمن إبراهيم بكلام الله فبرَّره الله لإيمانه« (رو 4: 1-3). فيبقى على المؤمنين »أن يقتدوا بأبينا براهيم في إيمانه« (آ12). وعد الله إبراهيم بأرض، فوثق بوعد الله. ووعده بنسل منذ دعاه: »أجعلك أمَّة عظيمة، وأباركك، وأعظِّم اسمك، وتكون بركة« (تك 12: 2). أين هي هذه الأمَّة التي تخرجُ من صلب إبراهيم، وتتذكَّرُ اسمَه بعد موته؟ صار كبيرًا في السنّ، وسارة »امتنع أن يكون لها عادة كما للنساء« (تك 18: 11). وإبراهيم نفسه سوف يقول للربّ: »أنا سأموت عقيمًا« (تك 15: 2). الربُّ يَعِدُ ولكن أين البرهان؟ كلام الربِّ يكفي: »انظرْ إلى السماء وعُدَّ النجوم إن قدرتَ أن تعدَّها... هكذا يكون نسلك« (آ5). وترجّى إبراهيم على خلاف الرجاء. والربُّ أتى إليه في الوقت الذي حدَّده: »سأرجع إليك في هذا الوقت من السنة المقبلة، ويكون لسارة امرأتك ابن« (تك 18: 10). ضحكت سارة. هذا غير معقول. ولكنَّ الرجاء يتعدَّى المفهوم البشريّ. »أيصعبُ على الربِّ شيء؟« (آ14). ويواصل الكتاب: »وافتقد الربُّ سارة كما قال، وفعل لها كما وعد«. »فحملت سارة وولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته، في الوقت الذي تكلَّم الله عنه« (تك 21: 1-2). تلك هي ثمرة الرجاء. استعاد بولس نصَّ سفر التكوين لكي يتكلَّم عن الإيمان والوعد، فانطلق من العبارة التي ذكرنا: »آمن إبراهيم راجيًا حيث لا رجاء، فصار أبًا لأمم كثيرة، على ما قال الكتاب: هكذا يكون نسلك« (رو 4: 18). كيف بان إيمان إبراهيم؟ »كان إبراهيم في نحو المئة من العمر، فما ضعُف إيمانه حين رأى أن بدنه مات وأنَّ رحم امرأته سارة مات أيضًا. وما شكَّ في وعد الله، بل قوّاه إيمانُه فمجَّد الله واثقًا بأنَّ الله قادر على أن يفي بوعده« (آ19-21). الخاتمة الرجاء هو انتظار أكيد للسعادة، يرتبط في اللاهوت البولسيّ بالإيمان والمحبَّة (1 كو 13: 13). وهو لا يُفهَم إلاَّ في إطار تحتلُّ فيه مقولة الوعد مكانة مميَّزة. كان العالم الوثنيّ ينظر إلى الزمن على أنَّه حلقة، ندور فيها لنعود إلى المكان الذي انطلقنا منه. أمّا الكتاب المقدَّس فنظرته إلى الزمن نظرة خطوطيَّة مرتَّبة في تاريخ. لا عودة إلى وراء، بل انطلاقة وانطلاقة في رفقة الربِّ إلى أن نصل إلى »الأرض الجديدة والسماء الجديدة«. في هذا التاريخ يتجلّى الله كسيِّد المستقبل ويُعدُّ الإنسان لهذا المستقبل. في هذا الإطار رافقنا القدّيس بولس في كلامه عن الرجاء المسيحيّ. مستقبل ننظر إليه. تمَّ كلُّه في يسوع المسيح وننتظر تتمَّته في الكنيسة وفي كلِّ مؤمن من المؤمنين. كان لنا مثالٌ بعيد في مسيرة إبراهيم وجدت كمالها في شخص المسيح معه انطلق بولس تاركًا ما وراءه منبطحًا إلى أمامه. »فجرى إلى الهدف ليفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويَّة في المسيح يسوع« (فل 3: 14). ومعه تسير الكنيسة إلى مجيئه ومنتهى الدهر، بل الخليقة كلُّها التي »ستتحرَّر من عبوديَّة الفساد لتشارك أبناء الله في حرِّيَّتهم ومجدهم« (رو 8: 21). |
||||
04 - 04 - 2024, 03:16 PM | رقم المشاركة : ( 156497 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
أطيعوا مدبِّريكم بهذه الكلمات كانت نهاية الرسالة البولسيَّة إلى العبرانيّين، إلى هؤلاء المسيحيّين العائشين في رومة والمتحسِّرين على دمار الهيكل وغياب الكهنة وأبَّهة الاحتفالات الليتورجيَّة. الاضطهاد يلاحقهم كما يلاحق إخوتهم. وكما لاحق آباء العهد القديم. فماذا يفعلون في هذه الظروف الصعبة؟ الطاعة لمدبِّريهم اليوم كما كانت الطاعة لبطرس وبولس اللذين أنهيا حياتهما. والقبول بهذا الوضع الذي قد يقودنا إلى الصليب على مثال الربِّ يسوع الذي صار طائعًا حتّى الموت والموت على الصليب. والطاعة في الكنيسة تدعو العيال المسيحيَّة إلى الطاعة اليوميَّة التي تعلِّمنا كيف نتوافق بعضنا مع بعض من أجل حياة فيها الفرح والسلام والأمانة والوداعة. 1- الطاعة الكاملة صعوبات كثيرة في كنيسة كورنتوس، تلك الجماعات التي أحبَّها بولس وما أراد أن يتساوى فيها مع المعلِّمين المدبِّرين. قال لهم: »فلو كان لكم في المسيح ربوة من المرشدين، فما لكم آباء كثيرون، لأنّي أنا الذي ولدكم في المسيح يسوع بالبشارة التي حملتها إليكم« (2 كو 4: 15) ذاك هو أساس الطاعة الكاملة في المسيحيَّة: الأبوَّة الروحيَّة وهي أعمق من الأبوَّة الجسديَّة بأشواط. فالأبوَّة بحسب الجسد يمكن أن تكون عرضيَّة، بشريَّة محضة وكأنّ الوالد ما كان ينتظر ولدًا. أمّا الأبوَّة الروحيَّة فلا تتمُّ بسرعة بل هي ثمرة عمل طويل. ونلاحظ أنَّ القدّيس بولس لم يتحدَّث عن المعموديَّة، بل عن البشارة، عن الإنجيل. يروي لنا سفر الأعمال أنَّ الرسول لبث سنة وستَّة أشهر في كورنتوس »يعلِّم الناس كلام الله« (أع 18: 11). عارضه اليهود، شتموه (آ6) وكاد يترك المدينة، لكنَّ الربَّ قال له »ليلاً في رؤيا: لا تخف! بل تكلَّمْ ولا تسكت، فأنا معك، ولن يؤذيك أحد، فلي شعب كبير في هذه المدينة« (آ9-10). الأبوَّة الروحيَّة تشبه الأمومة. فالأمُّ تحبل بأولادها تسعة أشهر، ويوم الولادة تتألَّم ولكنَّها تنسى ألمها لأنَّه وُلد إنسان في العالم (يو 16: 21). أخذ بولس هذه الصورة وطبَّقها على نفسه بالنسبة إلى أهل غلاطية، وكان من الممكن أن يطبِّقها على أهل كورنتوس: »فيا أبنائي الذين أتوجَّع بهم مرَّة أخرى في مثل وجع الولادة حتّى تتكوَّن فيهم صورة المسيح« (غل 4: 19). هل نسيتم »أمَّكم«؟ هل نسيتم أباكم؟ لماذا تذهبون إلى »معلِّمين« آخرين وتتنكَّرون لمن ولدكم؟ وعاتب الرسول أهل غلاطية الذين تحوَّلوا عن »أبيهم في المسيح«. قال: »كم كنت أتمنّى لو كنتُ عندكم الآن لأغيِّر لهجتي، لأنّي تحيَّرتُ في أمركم« (آ20). فالانتقال من معلِّم إلى معلِّم يريح المؤمن، فلا يُجبَر على المسيرة في طريق واحدة توصل إلى المسيح. هكذا كانت الجماعة في كورنتوس حين تبع المؤمنون هذا الإنسان أو ذاك. أبلُّوس خطيب »مصقع« ونحن نتبعه وننسى في النهاية أنَّنا نتبع المسيح. بولس رسول الحرِّيَّة، نسير وراءه »بحرِّيَّة« هي في الحقيقة فلتان، لا حرِّيَّة في المسيح. ونتبع بطرس لمِا في رفقته من منفعة: هو يمثِّل أهل الختان وبالتالي اليهود الذين اعترفت بهم الدولة الرومانيَّة، فنجوا من الاضطهاد. والأمر لا يختلف كثيرًا في وقتنا حين نطيع هذا الرئيس أو ذاك. حين نتبع هذا الكاهن أو ذاك. فصاح فيهم الرسول: هل اعتمدتم باسمي أم باسم يسوع المسيح؟ هل أنا الذي صُلبتُ من أجلكم أم المسيح؟ لهذا قال بولس: »في المسيح«. هو وحده الهدف الذي تصبو إليه حياتنا. فالتوقُّف عند الأشخاص البشريّين يجعلنا في »عبادة« الأوثان. عبد الأقدمون الشمس وتوقَّفوا عندها، فما وصلوا إلى خالق الشمس. صارت الشمس صنمًا. قال لهم سفر الحكمة: إذا كانت جميلة، فانظروا كم ربُّنا أجمل منها (حك 13: 3). وكذا حدَّثنا عن النجوم والنار والهواء والريح، قال: »هم عندما ظنُّوا أنَّ هذه آلهة فلأنَّهم فُتنوا بجمالها غير عالمين أنَّ لها سيِّدًا أعظم منها هو الذي خلقها وهو مصدر كلِّ ما فيها من جمال«. ونحن نؤلِّه البشر ونعتبر خلاصنا بيدهم. وسعادتنا أن نلتصق بهم. وفي النهاية، يحسبون نفوسهم آلهة. فقال لهم سفر المزامير: »لا إله غير الربّ، ولا خالق سوى إلهنا« (مز 18: 32). وفي المزامير أيضًا حسب الحكّام أو القضاةُ أنفسهم »آلهة« (مز 58: 2: إ ل م في العبريَّة)، فقيل لهم: »مثل البشر تموتون ومثل أيِّ عظيم تسقطون« (مز 82: 7). فالطاعة لا تتوجَّه أوَّلاً إلى الإنسان، بل إلى الله، وفي قلب الله يُعرَف المعنى الحقيقيّ للطاعة. لهذا حين حدَّث الرسول المؤمنين على الاقتداء به، لم يجعل نفسه الهدف الأخير، فقال: »اقتدوا بي كما أنا أقتدي بالمسيح«. فالاقتداء بالمسيح هو الذي يسمح لبولس أن يدعو المؤمنين إلى الاقتداء به. وكذا نقول عن الطاعة التي هي في الأساس »طاعة الإيمان« (رو 1: 5). هنا تأتي صورة رائعة في الرسالة الثانية إلى كورنتوس: بولس هو ذلك الذي يأخذ العروس إلى عريسها، يأخذ جماعة كورنتوس إلى المسيح. قال: »أغار عليكم غيرة الله لأنّي خطبتُكم لرجل واحد هو المسيح، لأقدِّمكم إليه عذراء طاهرة« (2 كو 11: 2). الطاهرة تعارض النجسة، الزانية، التي تنظر إلى الأوثان لا إلى الربّ. هي خائنة. هي مثل عجلة شموس لا ترضى أن تكون تحت النير، أن تخضع (إر 31: 18)، هكذا بدت جماعة كورنتوس: تركت الصدق والولاء للمسيح (2 كو 11: 3). وكيف بدا ذلك؟ حين رفضت الطاعة لرسولها وفضَّلت عليه أناسًا حسبوا نفوسهم رسلاً من الدرجة الأولى. ويبيِّن الرسول اهتمامه بكنيسته اهتمام الأمِّ بأولادها: ما ثقَّلت على أحد منكم. حملتُ إليكم إنجيل الله مجّانًا (آ9، 7). وهو الذي طبع فيهم صورة المسيح. فما عليهم سوى أن يقتدوا بالمسيح، أن يعملوا أعمال المسيح. في هذا المجال نميِّز بين طاعة وطاعة. وقد قال لنا تعليم الكنيسة: نحن نخضع للرسول إذا كان طلبه يقود إلى القداسة، لا إلى الخطيئة لا سمح الله. في هذه الحال، رفضُ الطاعة أمرٌ واجب. هذا ما نفهمه في إطار القدّيس بولس حين يشدِّد على الطاعة التي تقود إلى البرّ (رو 6: 19). في الماضي »كنتم عبيدًا للخطيئة« (آ20). إذًا، أطعتم الخطيئة ومن يقودكم إليها، وأوَّل قائد لكم هو إبليس والحيَّة الجهنَّميَّة. مثل هذه الطاعة قادتكم إلى الموت (آ16). ويعلن الرسول بفرح كبير: »ولكن شكرًا لله! فمع أنَّكم كنتم عبيدًا (خاضعين) للخطيئة، أطعتم بكلِّ قلوبكم تلك التعاليم التي تسلَّمتموها، فتحرَّرتم من الخطيئة وأصبحتم عبيدًا للبر« (آ17-18). صرتم في خدمة القداسة، تطلَّعتم إلى ما علَّمنا الربّ في الصلاة: أن نقدِّس اسمه، ونعمل مشيئته، ونطيعه في كلِّ ما يطلب منّا. ونعود هنا إلى عنوان المقال: أطيعوا مدبِّريكم واخضعوا لهم« (عب 13: 17). لفظ »مدبِّر أو مرشد« يقابل في اليونانيَّة »الهيجومين« أو رئيس الدير. كان عادة شخصًا كبيرًا في السنّ. دعاه التقليد العبرانيّ: الشيخ. والتقليد السريانيّ: قسّيس (قشيشا). أمّا الطاعة فهي الانقياد. الأكبر »يقود« الأصغر. الوالد (والوالدة) يقود ابنه إلى المدرسة، والطاعة تعني التوافق من أجل عمل معًا. عندئذٍ يُصبح سهلاً. هنا نفهم كلام القدّيسين الذين كانوا يفضِّلون الطاعة على إعطاء الأوامر و«الحكم« في الدير. من نطيعه هو مسؤول عنّا، ويحاسَب على تصرُّفاته. من نطيعه يسهر علينا، على نفوسنا. وهنيئًا له إن نحن سهَّلنا له مهمَّته فيقوم بها بفرح. أمّا إذا غابت الطاعة، »فالرئيس« يتحسَّر، يبكي إذا كانت عنده مخافة الله. وفي أيِّ حال، لا يكون الرفض لمنفعتنا بل خسرانًا لنا. ذاك ما قالته الرسالة إلى العبرانيّين: مدبِّروكم »يسهرون على نفوسكم كأنَّ الله يحاسبهم عليها. فيعملون عملهم بفرح، لا بحسرة يكون لكم فيها خسارة« (آ17). عن هذه المسؤوليَّة حدَّثنا سفر صموئيل الأوَّل، فذكر لنا بني عالي. ضعفَ الوالدُ في تأديبهم، فكانت النتيجة وخيمة عليه وعليهم: »علم أنَّ بنيه أثموا، ولم يردعهم« (1 صم 3: 13). أمّا الخضوع فيعني أوَّلاً التواضع. رفض آدم الخضوع لأنَّه أراد أن يصير مثل الله، عارفًا الخير والشرّ. تلك كانت التجربة في الماضي. وهي ترافقنا اليوم. فمن يرفض الخضوع يحسب نفسه أفضل من الرئيس. ربَّما على المستوى البشريّ. ولكن لا في المسيح. فالطاعة الحقَّة هي الطاعة لله، لا للناس. من أجل هذا قال لنا الرسول: »اتَّضعوا تحت يد الله القديرة ليرفعكم عندما يحين الوقت« (1 بط 5: 6). ويعقوب أخو الربّ: »اتَّضعوا أمام الربِّ فيرفعكم الرب« (يع 4: 10). والخضوع يرتبط بالسكون والطمأنينة. بما أنَّ يدًا تمسك بيدنا، فنحن لا نقلق ولا نضطرب. وإذا كانت هذه اليد امتدادًا ليد الربّ، فماذا ينقصنا بعد؟ ولكن ما حيلتنا والإنسان يريد أن يقود نفسه بنفسه، فيسمِّيه أفلاطون »مجنونًا«، لأنَّ الإنسان قلَّما يعرف نفسه. على ما يقول لنا يعقوب أيضًا: »ينظر في المرآة وجهه، وحين يمضي ينسى كيف كان وجهه« (يع 1: 23-24). والمسؤولون في كنيسة كورنتوس: استفاناس، فرتوناتوس، أخائيكوس (1 كو 16: 17) حملوا الأخبار إلى بولس الموجود في أفسس. »اعرفوا كيف تكرمون أمثالهم« (آ18). والإكرام شكل من أشكال الطاعة. قال عنهم الرسول: »قاموا مقامكم في غيابكم«. ثمَّ إنَّ عائلة استفاناس هي الباكورة، »هم أوَّل من آمن بالمسيح في أخائية، وأنَّهم كرَّسوا أنفسهم لخدمة القدّيسين. فأناشدكم، أيُّها الإخوة، أن تسمعوا لهم ولكلِّ من يعمل ويتعب معهم« (آ15-16). السماع هو الطاعة. ونلاحظ التعابير: كرَّسوا أنفسهم. لم يعودوا لأنفسهم بل للمؤمنين الذين أوكلوا بهم، وهذا يعني التضحية والعطاء. ثمَّ عمله هو الخدمة لا الترؤُّس والرئاسة على ما قال الرسول لمن أراد له ولأبلّوس أن يكونا »زعيمين« في الكنيسة: »فمن هو أبلُّوس ومن هو بولس. هما خادمان بهما اهتديتم إلى الإيمان بقدر ما أعطاهما الرب« (1 كو 3: 5). وهذه الخدمة هي عمل وتعب، وأبعد ما تكون عن »الراحة« وإتعاب الآخرين. وما قاله الرسول لأهل كورنتوس، سبق وقاله لأهل تسالونيكي، لأنَّه رأى أنَّ كلَّ كنيسة وكلَّ جماعة تحتاج إلى مثل هذا التنبيه، وإلاَّ لما كانت الطاعة واحدة من النذور الثلاثة التي ترافق الفقر والعفَّة. قال: »ونطلب منكم، أيُّها الإخوة، أن تكرِّموا الذين يتعبون بينكم، ويرعونكم في الربّ، ويرشدونكم«. فالمسؤول هو الراعي ومثاله الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن أحبّائه. هو يعرف الخراف والخراف تعرفه، ومثل هذه المعرفة تجعل الكلَّ في حياة حميمة كالأعضاء في الجسد الواحد أو كالكرمة مع أغصانها حيث الماويَّة تنطلق من المسيح وتصل إلى آخر غصن في الشجرة. 2- تواضع وأطاع حتّى الموت حين كتب بولس إلى أهل فيلبّي دعاهم إلى الطاعة، لا له وحده، بل للذين جاؤوا بعده على »رئاسة« الكنيسة. فالذين اختارهم المسيح ليرشدوا المؤمنين، يشبهون الذين اختارهم الرسل ومن بعدهم كلّ »هيجومين« (رئيس دير) أو »إبيسكوبّس، أسقف« (مراقب ومناظر) في الكنيسة. ونحن لا ننسى الدياكونوس (الخادم) أي »مشمشنا« في السريانيَّة (شمّاس). والكلام واضح في الرسالة إلى العبرانيّين ولا يقبل أيَّ شكّ. فحين تحدَّث الكاتب عن بطرس وبولس اللذين ماتا شهيدين في زمن نيرون، دعاهما »هيجومين«. قال: »اذكروا مدبِّريكم الذين خاطبوكم بكلام الله، واعتبروا بحياتهم وموتهم واقتدوا بإيمانهم« (عب 13: 7). وحين تحدَّث عن الذين خلفوا الرسولين في رومة، ونحن لا نعرف أسماءهم، دعاهم الكاتب أيضًا »مدبِّرين« (هيجومين) باسم الرسولين كما باسم الرسل. هذا ما ندعوه التسلسل في الرسالة. فلا انقطاع منذ المسيح إلى الآن. والطاعة للمسؤول الآن تشبه الطاعة للرسل، بل للمسيح، بل لله. قال الربّ: »من سمع منكم سمع منّي، ومن رفضكم رفضني، ومن رفضني رفض الذي أرسلني« (لو 10: 16). أو كما في إنجيل متّى: »من قبلكم قبلني، ومن قبلني قبل الذي أرسلني« (مت 10: 40). قال الرسول: »فكما أطعتم كلَّ حين، أيُّها الأحبّاء، أطيعوني الآن في غيابي، أكثر ممّا أطعتموني في حضوري، واعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة« (فل 2: 12). تلك هي طريق الخلاص. في الطاعة. وعمليٌّا، البشريَّةُ كلُّها تعيش في الطاعة. فمن لا يخضع للآخر في أمر من الأمور؟ الملك نفسه يخضع للحلاّق. والوزير ترتبط حياته بخبز يقدِّمه الخبّاز... أمّا المخافة فتكون في الربّ، لا مخافة العبيد، بل مخافة الأبناء، بل مخافة العابدين كما يكونون في حضرة الله. فالله يدعونا إلى مثل هذه الطاعة. وما قال بولس هذا الكلام وكأنَّه تعليم خارج عنه، فهو أيضًا عاش الطاعة قبل أن يتحدَّث عنها. قال لأهل فيلبّي: »اقتدوا بي أيُّها الإخوة، وانظروا الذين يسيرون على مثالنا« (فل 3: 17). وقال لهم أيضًا: »واعملوا بما تعلَّمتموه منّي وأخذتموه عنّي وسمعتموه فيَّ ورأيتموه فيَّ، وإله السلام يكون معكم« (فل 4: 9). أربعة أفعال متلاحقة. أطاع بولس وهم يتعلَّمون منه الطاعة. أخذ عن المسيح الذي أطاع مشيئة الآب، فوجب أن يأخذوا منه. والسماع يصل إلى الأذن، والرؤية إلى العين. يكفي التلاميذ أن ينظروا إلى الرسول لكي يتعلَّموا ما هي الطاعة الحقيقيَّة، ولاسيَّما في وقت المحنة. قال الرسول لأهل كورنتوس: »كتبتُ إليكم لأختبركم وأرى هل تطيعونني في كلِّ شيء« (2 كو 2: 9). طلب منهم الرسول أن »يصفحوا« عمَّن أذنب إليهم. هل يطيعونه؟ طلب منهم أن يطردوا الزاني من جماعتهم بسبب الشكوك التي يتركها وراءه. (1 كو 5: 1ي). هل يتقبَّلون ما يعرضه عليهم؟ حذَّرهم من الذهاب إلى المحاكم ودعاهم إلى التوافق والتصالح (1 كو 6: 1ي). ماذا كان جوابهم؟ واستفاد الكورنثيّون من غياب رسولهم لكي يفتروا عليه. قالوا: »رسائل بولس قاسية عنيفة، ولكنَّه متى حضر بنفسه، كان شخصًا ضعيفًا وكلامه سخيفًا« (2 كو 10: 10). دافع بولس عن نفسه. بلا شكّ، وقال لهم: »ما نكتبه في رسائلنا ونحن غائبون نفعله ونحن حاضرون« (آ11). وسبق له وقال في الرسالة الأولى: »أيُّها تفضِّلون؟ أن أجيء إليكم بالعصا أم بالمحبَّة وروح الوداعة؟« (1 كو 5: 21). ولماذا قال هذا الكلام القاسي؟ لأنَّ البعض اعتبروا أنَّه لن يأتي إلى كورنتوس وبالتالي يستطيعون أن يفعلوا كما يشاؤون على مثال الخادم الشرّير الذي اعتبر أنَّ »سيِّده يتأخَّر، فأخذ يضرب رفاقه ويأكل ويشرب مع السكّيرين« (مت 24: 48-49). لماذا الكلام؟ هو يبقى كلامًا. فلا بدَّ من العمل. والطاعة لا تكون حين يرانا الناس، بل حين يرانا الله الذي يعرف ما في أعماق قلوبنا. فلماذا التحايل والتظاهر على ما قال الربُّ عن الكتبة والفرّيسيّين: »يقولون ولا يفعلون« (مت 23: 3)، فيبدون كالقبور المبيَّضة (آ27)؟ أمّا المثال الأعلى للطاعة فهو يسوع المسيح، فقال عنه الرسول: »ارتسم المسيح أمام عيونكم مصلوبًا« (غل 3: 1). عند الصليب تجلَّت طاعةُ المسيح في أبهى مظاهرها. في معرض الكلام عن تواضع يسود عظمته، قدَّم لنا بولس نشيدًا اعتادت أن تنشده الجماعة في كنيسة فيلبّي. أمّا النشيد فانطلق من »صورة«، إلى »صورة« (مورفي في اليونانيَّة)، من »صورة الله« إلى »صورة العبد«. نلاحظ هذا التنازل العجيب، هذا التواضع الذي لا يجاريه تواضع على الأرض. وحين نرى القدّيسين يتركون الغنى والعظمة والمُلك ليكونوا بجانب الفقراء والمرضى، نندهش منهم. هذا ما لا شكَّ فيه. شارل ده فوكو، ذاك الشابّ الذي كان من عائلة كبيرة وصاحب ثروة طائلة، صار خادمًا يكنِّس الدير عند الراهبات في فلسطين، قبل أن يمضي إلى الصحراء الجزائريَّة ويموت هناك ميتة يمكن أن يحسبها الناس »تافهة«. وفرنسيس الأسِّيزيّ الذي تخلّى عن كلِّ شيء فاستطاع أن يدعو الله »أباه« بدل الأب الذي حرمه من كلِّ شيء. ونقول الشيء عينه عن »مؤسِّسي« الرهبنات في لبنان، كانوا في حلب »المدينة العامرة وصاحبة الثقافة« فأتوا إلى الجبل اللبنانيّ يفتِّتون الصخور مع إخوتهم ويعيشون عيشة الفقر والامِّحاء. ولكن ما هذا بجانب ما فعله يسوع الذي ما اكتفى بأن يصير بشرًا، أن يظهر في »صورة إنسان« (فل 2: 7)، بل أخذ »المقعد الأخير« في القاعة، لا المقام الأوَّل مثل الكتبة والفرّيسيّين الذين »يحبّون مقاعد الشرف في الولائم ومقاعد الصدارة في المجامع، والتحيّات في الأسواق« (مت 23: 6-7). فمن تواضع إلى هذا الحدِّ، لا يستصعب الطاعة حتّى لمن هو أصغر منه. أما كان هكذا القدّيس شربل؟ فكما تجرَّد من المال فما نظر إليه، كذلك تجرَّد عن إرادته ورافق الربَّ يسوع حين رفعه على الصليب »يا أبا الحق«، التي بدأها على الأرض وأكملها في السماء. وما كانت طاعة يسوع لفترة معيَّنة، أو لبعض الأعمال المحدَّدة. فكما أحبَّ إلى الغاية (يو 13: 1)، أطاع حتّى الغاية، حتّى الموت. ما توقَّف في الطريق وما وضع شروطًا. هو الذي تخلّى عن إرادته كلِّيٌّا، فكيف يستعيد ما قدَّمه لأبيه السماويّ. قال لتلاميذه الذين حدَّثوه عن الطعام: »طعامي أن أعمل بمشيئة أبي الذي أرسلني وأتمِّم عمله« (يو 4: 34). إذا كان أرسل التلاميذ وقال لهم: »كما أرسلني الآب أنا أرسلكم أيضًا« (يو 20: 21)، فأيّ نوع من الرسالة يقوم بها، في اتِّحاد تامّ مع الآب، وهو الذي قال: »ما جئت لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني« (يو 6: 38). ويتواصل النشيد الذي أنشدته كنيسة فيلبّي، وقد يكون من تأليف الرسول نفسه: »أطاع حتّى الموت والموت على الصليب« (فل 2: 8). هذا ما نكتشفه في النزاع في جبل الزيتون. قال في صلاته: »يا أبي، إذا كان لا يمكن أن تعبر عنّي هذه الكأس، إلاَّ أن أشربها، فلتكن مشيئتك« (مت 26: 42). وسبق هذه الصلاة طلبة أخرى: »إن أمكن يا أبي، فلتعبر عنّي هذه الكأس، ولكن، لا كما أنا أريد، بل كما أنت تريد« (آ39). وكانت الصعوبة كبيرة. ما عرق الربُّ في نزاعه فقط، بل »كان عرقه مثل قطرات دم تتساقط على الأرض« (لو 22: 44). ومع ذلك فهو لم يتراجع: »لتكن إرادتك لا إرادتي« (آ42). وسيبقى طائعًا لمشيئة الآب حتّى النهاية. فقال وهو على الصليب: »تمَّ كلُّ شيء« (يو 19: 30). ما بقي شيء يقوم به في مشروع الآب الخلاصيّ. عندئذٍ أسلم الروح. هنا نقرأ في الرسالة إلى العبرانيّين ملخَّصًا عن حياة يسوع وموته. »وهو الذي في أيّام حياته البشريَّة، رفع الصلوات والتضرُّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر، ولمّا بلغ الكمال صار مصدر خلاص أبديّ لجميع الذين يطيعونه« (عب 5: 7-9). ذاك هو الابن في انحداره، ساعة أخلى ذاته، لاشى ذاته، صار أقلَّ من إنسان. وبما أنَّه أطاع، حمل الخلاص للبشر فقابل »آدم« الذي عصى، الذي خطئ، »فسادَ الموتُ البشر بخطيئة إنسان واحد« (رو 5: 15). وواصل الرسول كلامه: »فكما أنَّ خطيئة إنسان واحد قادت البشر إلى الهلاك، فكذلك برُّ إنسان واحد يبرِّر البشر جميعًا فينالون الحياة. وكما أنَّه بمعصية إنسان واحد صار البشر خاطئين، فكذلك بطاعة إنسان واحد يصير البشر أبرارًا« (آ18-19). فما أعظم الطاعة، وأيَّة نتيجة تقدِّم للبشريَّة. وإذا كان يسوع رضي أن يكون طائعًا حتّى الموت، فما يكون موقف التلميذ، مع العلم أنَّ ذاك الذي أطاع »رفعه الله جدٌّا وأعطاه اسمًا فوق كلِّ اسم« (فل 2: 19) بحسب مبدأ الإنجيل: »من اتَّضع ارتفع، ومن ارتفع اتَّضع« (لو 14: 11). لا طريق إلاَّ هذه، وهنيئًا لمن يأخذها ولو كانت ضيِّقة، صاعدة... فالنور ينتظرنا في النهاية. 3- أيُّها الأبناء أطيعوا والديكم وننتقل من الإطار الكنسيّ الذي أضاء عليه موقف يسوع، لنصل إلى البيت بما فيه من والدين وأولاد، من أسياد وعبيد. من جهة، واجب الأبناء تجاه الوالدين، ومن جهة ثانية، واجب الوالدين تجاه أولادهم. لأنَّ الطاعة لا تكون من جهة واحدة، وكأن الأصغر أو الأضعف يحمل كلَّ الواجبات ولا يكون له حقٌّ واحد. في الطاعة، لا يكون الهدف الخضوع كخضوع. يجب أن يركع الولد. وبالأحرى العبد. لا يحقُّ لهؤلاء الضعفاء أن يناقشوا ولا أن يسألوا. والولد في العالم الرومانيّ لا يفترق عن العبد، بل العبد هو الذي يقوده إلى المدرسة. لا شكَّ نحن أبناء الله، ولكن يتابع الرسول: »الوارث لا فرق بينه وبين العبد ما دام قاصرًا، مع أنَّه صاحب المال كلِّه. لكنَّه يبقى في حكم الأوصياء والوكلاء إلى الوقت الذي حدَّده أبوه« (غل 4: 1-2). وفي عالمنا الشرقيّ، الولد هو مُلك الرجل يفعل به ما يشاء، يرسله إلى العمل، يطلب منه ما هو في طاقته وما هو فوق طاقته. ولكن هذا لا يمكن أن يكون في تعليم القدّيس بولس. بدأ فطلب من الأبناء الطاعة. وأضاف: »هذا عين الصواب« (أف 6: 1). هذا ما يجب على الأولاد أن يقوموا به. عاد الرسول إلى الوصايا وتلك التي تقول: »أكرم أباك وأمَّك« وتلك أوَّل وصيَّة يرتبط بها وعد وهو: »لتنال خيرًا وتطول أيّامك على الأرض«. الأمثال عديدة في هذا المجال. قيل عن يعقوب »سمع لأبيه وأمِّه وذهب إلى سهل آرام« (تك 28: 7). أطاع فافترق عن أخيه عيسو: تزوَّج امرأة أولى من بني حثّ ثمَّ امرأة ثانية »فكانتا لإسحق ورفقة خيبة مرَّة« (تك 26: 35). وسوف تقول رفقه لإسحق: »سئمتُ حياتي من امرأتَي عيسو الحثّيَّتين. فإن تزوَّج يعقوب من بنات حثّ مثل هاتين أو من بنات سائر أهل الأرض، فما لي والحياة؟« (تك 28: 46). نحن لا ننسى أنَّ هذه الشعوب لا تعبد الإله الواحد، فكيف الزواج من امرأة لا تؤمن إيمان زوجها، فمن يربّي الأولاد التربية الصحيحة. سمع يعقوب. أمّا عيسو فتزوَّج مرَّة أولى ومرَّة ثانية كأنَّه يضيف عصيانًا على عصيان. بل هو عصى أمر الله نفسه الذي قال عن »الحثّيّين« وغيرهم: »لا تصاهروهم فتعطوا بناتكم لبنيهم وتأخذوا بناتهم لبنيكم، لأنَّهم يردُّون بنيكم عن اتِّباع الربّ، فيعبدون آلهة أخرى« (تث 7: 3-4). أمّا عقاب العصيان فيكون قاسيًا. قال سفر التثنية: »وإذا كان لرجل ابنٌ عقوق لا يسمع لكلام أبيه ولا لكلام أمِّه، ويؤدِّبانه ولا يصغي إليهما، يمسكه أبوه وأمّه ويخرجانه إلى شيوخ المدينة التي يقيم بها... فيرجمه جميع رجال مدينته حتّى يموت« (تث 21: 18ي). تدبير قاس. ربَّما لم يُعمَل به إلاَّ نادرًا نادرًا، ولكن هذا يبيِّن أهمِّيَّة الطاعة للوالدين. ويوسف أطاع أباه، فذهب إلى الإخوة مع أنَّه عارف أنَّ الخطر يتهدَّده (تك 37: 13-14). وطوبيّا أيضًا هو ابن الطاعة: »كلّ ما أمرتَ به أفعلُه« (طو 5: 1). وماذا قال طوبيت لابنه؟ »إذا متُّ يا ابني فادفنّي بكرامة. كذلك أكرِمْ والدتك، ولا تتركها في ضيق كلّ أيّام حياتها. أطعْها في كلِّ ما تعمل ولا تحزنها« (طو 4: 3). في هذا المجال قال سفر الأمثال: »الابنُ الحكيم يفرح أباه، والابن البليد حسرة لأمِّه« (أم 10: 1). تلك واجبات الأبناء (والبنات). وما هي واجبات الآباء (والأمَّهات)؟ »لا تُثيروا غضب أبنائكم، بل ربُّوهم حسب وصايا الربّ وتأديبه« (أف 6: 4). حين حدَّث الرسول الأبناء طلب منهم الطاعة »في الرب«. فالربُّ هو شاهد على هذه الطاعة. ومن عصى والديه عصى الله. قال الرسول: »أيُّها البنون، أطيعوا والديكم في كلِّ شيء، لأنَّ هذا يرضي الرب« (كو 3: 20). وفي الربِّ يهتمُّ الآباء بأولادهم. يسيِّرونهم »بحسب وصايا الرب«. دورهم هو دور الله، وتأديبهم يكون تأديب الله. لا بالغضب و»فشَّة الخلق« القريب من الانتقام. إن كان الأمر هكذا، فالأولاد يثورون ويرفضون، وفي النهاية ييأسون. كيف يؤدِّب الوالدون أولادهم؟ مثل الربّ. قال سفر الأمثال: »لا ترفض مشورة الربِّ ولا تكره توبيخه لك. فمن يحبُّه الربُّ يوبِّخه ويرضى به كأبٍ بابنه« (أم 3: 11-12). المحبَّة تسيطر في عمل الربّ، وبالتالي في عمل الوالدين. ومعاملة الله تشبه معاملة الأب، بحيث إنَّ الإنسان يكتشف تعامل الله معه انطلاقًا من تعامل والديه معه. هذا يعني واجبًا كبيرًا على الوالدين ومسؤوليَّة خطيرة في مجال التربية. استعادت الرسالة إلى العبرانيّين كلام سفر الأمثال هذا، وأضاف كاتبها: »فتحمَّلوا التأديب، والله إنَّما يعاملكم معاملة البنين، وأيُّ ابن لا يؤدِّبه أبوه؟« (عب 12: 7). ويواصل: إذا رفضنا التأديب لا نكون أبناء شرعيّين، بل أبناء زنى. وينهي الكلام في هذا الموضوع: »ولكن كلُّ تأديب يبدو في ساعته باعثًا على الحزن، لا على الفرح، إلاَّ أنَّه يعود فيما بعد على الذين عانوه بثمر البرِّ والسلام« (آ11). وفي هذا الإطار من الطاعة التي تسيطر في البيت، نتعرَّف إلى العلاقة بين الرجل والمرأة. الخضوع متبادل. الرجل يخضع للمرأة والمرأة تخضع للرجل. ذاك ما قال الرسول في معرض كلامه عن الزواج: »ليخضع بعضكم لبعض في مخافة المسيح« (أف 5: 21). أمّا الطريقتان فهما الخضوع والمحبَّة في تقابل متوازٍ. ارتبط الخضوع بالمرأة والمحبَّة بالرجل، وكأنَّ المرأة لا تقدر أن تحبَّ ولا الرجل أن يخضع. أمّا المثال الأعلى فهو خضوع الكنيسة للمسيح. قال: »وكما تخضع الكنيسة للمسيح، فلتخضع النساء لأزواجهنَّ في كلِّ شيء« (آ24). أمّا طاعة العبيد فتكون »بخوف ورهبة وقلبٍ نقيّ كما تطيعون المسيح« (أف 6: 5) والأسياد يعرفون أنَّ سيِّد العبيد هو سيِّد الأسياد وهو لا يحابي أحدًا (آ9). كيف تكون المعاملة؟ »بالعدل والمساواة« (كو 4: 1). فالدينونة تنتظر السيِّد والعبد، وكلُّ وحد يجازى بحسب أعماله. الخاتمة تلك كانت مسيرتنا لكي نتعلَّم ما هي الطاعة في أديارنا، في رعايانا، في الجماعات الكبيرة أو الصغيرة، في بيوتنا. كلُّ شيء يكون تحت نظر الربِّ وفي المسيح. والمثال الأعلى يبقى يسوع الذي تعلَّم الطاعة في بداية مجيئه إلى العالم، الذي كان طائعًا لوالديه (لو 2: 51)، مع أنَّه ابن الله. في خطِّه سار الرسول، ومثله فعل القدّيسون فتقدَّسوا بالطاعة المستندة إلى التواضع والمحبَّة من أجل بناء الكنيسة. في هذا المجال نُنهي ببعض ما قال الرهبان: »إنَّ الطاعة فخر الراهب، فمن اقتناها يسمع الله صوته، ويقف أمام المصلوب ربّ المجد بدالَّة، لأنَّ إلهنا من أجل طاعته لأبيه صُلب عنّا«. وقال أنطونيوس: »النسك والفقر يُخضعان الوحوش لنا«. وقال أيضًا للآتي إليه: »لا تكن قليل السمع لئلاّ تكون وعاء لجميع الأشرار. فضع في قلبك أن تسمع لأبيك (مرشدك الروحيّ) فتحلّ بركة الله عليك«. أمّا باخوميوس الذي رأى أربع مراتب في السماء فرأى أرفعها تلميذًا ملازمًا لطاعة أبيه من أجل الله. »فالطاعة لأجل الله أفضل الفضائل«. |
||||
04 - 04 - 2024, 03:18 PM | رقم المشاركة : ( 156498 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
أطيعوا مدبِّريكم بهذه الكلمات كانت نهاية الرسالة البولسيَّة إلى العبرانيّين، إلى هؤلاء المسيحيّين العائشين في رومة والمتحسِّرين على دمار الهيكل وغياب الكهنة وأبَّهة الاحتفالات الليتورجيَّة. الاضطهاد يلاحقهم كما يلاحق إخوتهم. وكما لاحق آباء العهد القديم. فماذا يفعلون في هذه الظروف الصعبة؟ الطاعة لمدبِّريهم اليوم كما كانت الطاعة لبطرس وبولس اللذين أنهيا حياتهما. والقبول بهذا الوضع الذي قد يقودنا إلى الصليب على مثال الربِّ يسوع الذي صار طائعًا حتّى الموت والموت على الصليب. والطاعة في الكنيسة تدعو العيال المسيحيَّة إلى الطاعة اليوميَّة التي تعلِّمنا كيف نتوافق بعضنا مع بعض من أجل حياة فيها الفرح والسلام والأمانة والوداعة. الطاعة الكاملة صعوبات كثيرة في كنيسة كورنتوس، تلك الجماعات التي أحبَّها بولس وما أراد أن يتساوى فيها مع المعلِّمين المدبِّرين. قال لهم: »فلو كان لكم في المسيح ربوة من المرشدين، فما لكم آباء كثيرون، لأنّي أنا الذي ولدكم في المسيح يسوع بالبشارة التي حملتها إليكم« (2 كو 4: 15) ذاك هو أساس الطاعة الكاملة في المسيحيَّة: الأبوَّة الروحيَّة وهي أعمق من الأبوَّة الجسديَّة بأشواط. فالأبوَّة بحسب الجسد يمكن أن تكون عرضيَّة، بشريَّة محضة وكأنّ الوالد ما كان ينتظر ولدًا. أمّا الأبوَّة الروحيَّة فلا تتمُّ بسرعة بل هي ثمرة عمل طويل. ونلاحظ أنَّ القدّيس بولس لم يتحدَّث عن المعموديَّة، بل عن البشارة، عن الإنجيل. يروي لنا سفر الأعمال أنَّ الرسول لبث سنة وستَّة أشهر في كورنتوس »يعلِّم الناس كلام الله« (أع 18: 11). عارضه اليهود، شتموه (آ6) وكاد يترك المدينة، لكنَّ الربَّ قال له »ليلاً في رؤيا: لا تخف! بل تكلَّمْ ولا تسكت، فأنا معك، ولن يؤذيك أحد، فلي شعب كبير في هذه المدينة« (آ9-10). الأبوَّة الروحيَّة تشبه الأمومة. فالأمُّ تحبل بأولادها تسعة أشهر، ويوم الولادة تتألَّم ولكنَّها تنسى ألمها لأنَّه وُلد إنسان في العالم (يو 16: 21). أخذ بولس هذه الصورة وطبَّقها على نفسه بالنسبة إلى أهل غلاطية، وكان من الممكن أن يطبِّقها على أهل كورنتوس: »فيا أبنائي الذين أتوجَّع بهم مرَّة أخرى في مثل وجع الولادة حتّى تتكوَّن فيهم صورة المسيح« (غل 4: 19). هل نسيتم »أمَّكم«؟ هل نسيتم أباكم؟ لماذا تذهبون إلى »معلِّمين« آخرين وتتنكَّرون لمن ولدكم؟ وعاتب الرسول أهل غلاطية الذين تحوَّلوا عن »أبيهم في المسيح«. قال: »كم كنت أتمنّى لو كنتُ عندكم الآن لأغيِّر لهجتي، لأنّي تحيَّرتُ في أمركم« (آ20). فالانتقال من معلِّم إلى معلِّم يريح المؤمن، فلا يُجبَر على المسيرة في طريق واحدة توصل إلى المسيح. هكذا كانت الجماعة في كورنتوس حين تبع المؤمنون هذا الإنسان أو ذاك. أبلُّوس خطيب »مصقع« ونحن نتبعه وننسى في النهاية أنَّنا نتبع المسيح. بولس رسول الحرِّيَّة، نسير وراءه »بحرِّيَّة« هي في الحقيقة فلتان، لا حرِّيَّة في المسيح. ونتبع بطرس لمِا في رفقته من منفعة: هو يمثِّل أهل الختان وبالتالي اليهود الذين اعترفت بهم الدولة الرومانيَّة، فنجوا من الاضطهاد. والأمر لا يختلف كثيرًا في وقتنا حين نطيع هذا الرئيس أو ذاك. حين نتبع هذا الكاهن أو ذاك. فصاح فيهم الرسول: هل اعتمدتم باسمي أم باسم يسوع المسيح؟ هل أنا الذي صُلبتُ من أجلكم أم المسيح؟ لهذا قال بولس: »في المسيح«. هو وحده الهدف الذي تصبو إليه حياتنا. فالتوقُّف عند الأشخاص البشريّين يجعلنا في »عبادة« الأوثان. عبد الأقدمون الشمس وتوقَّفوا عندها، فما وصلوا إلى خالق الشمس. صارت الشمس صنمًا. قال لهم سفر الحكمة: إذا كانت جميلة، فانظروا كم ربُّنا أجمل منها (حك 13: 3). وكذا حدَّثنا عن النجوم والنار والهواء والريح، قال: »هم عندما ظنُّوا أنَّ هذه آلهة فلأنَّهم فُتنوا بجمالها غير عالمين أنَّ لها سيِّدًا أعظم منها هو الذي خلقها وهو مصدر كلِّ ما فيها من جمال«. ونحن نؤلِّه البشر ونعتبر خلاصنا بيدهم. وسعادتنا أن نلتصق بهم. وفي النهاية، يحسبون نفوسهم آلهة. فقال لهم سفر المزامير: »لا إله غير الربّ، ولا خالق سوى إلهنا« (مز 18: 32). وفي المزامير أيضًا حسب الحكّام أو القضاةُ أنفسهم »آلهة« (مز 58: 2: إ ل م في العبريَّة)، فقيل لهم: »مثل البشر تموتون ومثل أيِّ عظيم تسقطون« (مز 82: 7). فالطاعة لا تتوجَّه أوَّلاً إلى الإنسان، بل إلى الله، وفي قلب الله يُعرَف المعنى الحقيقيّ للطاعة. لهذا حين حدَّث الرسول المؤمنين على الاقتداء به، لم يجعل نفسه الهدف الأخير، فقال: »اقتدوا بي كما أنا أقتدي بالمسيح«. فالاقتداء بالمسيح هو الذي يسمح لبولس أن يدعو المؤمنين إلى الاقتداء به. وكذا نقول عن الطاعة التي هي في الأساس »طاعة الإيمان« (رو 1: 5). هنا تأتي صورة رائعة في الرسالة الثانية إلى كورنتوس: بولس هو ذلك الذي يأخذ العروس إلى عريسها، يأخذ جماعة كورنتوس إلى المسيح. قال: »أغار عليكم غيرة الله لأنّي خطبتُكم لرجل واحد هو المسيح، لأقدِّمكم إليه عذراء طاهرة« (2 كو 11: 2). الطاهرة تعارض النجسة، الزانية، التي تنظر إلى الأوثان لا إلى الربّ. هي خائنة. هي مثل عجلة شموس لا ترضى أن تكون تحت النير، أن تخضع (إر 31: 18)، هكذا بدت جماعة كورنتوس: تركت الصدق والولاء للمسيح (2 كو 11: 3). وكيف بدا ذلك؟ حين رفضت الطاعة لرسولها وفضَّلت عليه أناسًا حسبوا نفوسهم رسلاً من الدرجة الأولى. ويبيِّن بولس الرسول اهتمامه بكنيسته اهتمام الأمِّ بأولادها: ما ثقَّلت على أحد منكم. حملتُ إليكم إنجيل الله مجّانًا (آ9، 7). وهو الذي طبع فيهم صورة المسيح. فما عليهم سوى أن يقتدوا بالمسيح، أن يعملوا أعمال المسيح. في هذا المجال نميِّز بين طاعة وطاعة. وقد قال لنا تعليم الكنيسة: نحن نخضع للرسول إذا كان طلبه يقود إلى القداسة، لا إلى الخطيئة لا سمح الله. في هذه الحال، رفضُ الطاعة أمرٌ واجب. هذا ما نفهمه في إطار القدّيس بولس حين يشدِّد على الطاعة التي تقود إلى البرّ (رو 6: 19). في الماضي »كنتم عبيدًا للخطيئة« (آ20). إذًا، أطعتم الخطيئة ومن يقودكم إليها، وأوَّل قائد لكم هو إبليس والحيَّة الجهنَّميَّة. مثل هذه الطاعة قادتكم إلى الموت (آ16). ويعلن الرسول بفرح كبير: »ولكن شكرًا لله! فمع أنَّكم كنتم عبيدًا (خاضعين) للخطيئة، أطعتم بكلِّ قلوبكم تلك التعاليم التي تسلَّمتموها، فتحرَّرتم من الخطيئة وأصبحتم عبيدًا للبر« (آ17-18). صرتم في خدمة القداسة، تطلَّعتم إلى ما علَّمنا الربّ في الصلاة: أن نقدِّس اسمه، ونعمل مشيئته، ونطيعه في كلِّ ما يطلب منّا. ونعود هنا إلى عنوان المقال: أطيعوا مدبِّريكم واخضعوا لهم« (عب 13: 17). لفظ »مدبِّر أو مرشد« يقابل في اليونانيَّة »الهيجومين« أو رئيس الدير. كان عادة شخصًا كبيرًا في السنّ. دعاه التقليد العبرانيّ: الشيخ. والتقليد السريانيّ: قسّيس (قشيشا). أمّا الطاعة فهي الانقياد. الأكبر »يقود« الأصغر. الوالد (والوالدة) يقود ابنه إلى المدرسة، والطاعة تعني التوافق من أجل عمل معًا. عندئذٍ يُصبح سهلاً. هنا نفهم كلام القدّيسين الذين كانوا يفضِّلون الطاعة على إعطاء الأوامر و«الحكم« في الدير. من نطيعه هو مسؤول عنّا، ويحاسَب على تصرُّفاته. من نطيعه يسهر علينا، على نفوسنا. وهنيئًا له إن نحن سهَّلنا له مهمَّته فيقوم بها بفرح. أمّا إذا غابت الطاعة، »فالرئيس« يتحسَّر، يبكي إذا كانت عنده مخافة الله. وفي أيِّ حال، لا يكون الرفض لمنفعتنا بل خسرانًا لنا. ذاك ما قالته الرسالة إلى العبرانيّين: مدبِّروكم »يسهرون على نفوسكم كأنَّ الله يحاسبهم عليها. فيعملون عملهم بفرح، لا بحسرة يكون لكم فيها خسارة« (آ17). عن هذه المسؤوليَّة حدَّثنا سفر صموئيل الأوَّل، فذكر لنا بني عالي. ضعفَ الوالدُ في تأديبهم، فكانت النتيجة وخيمة عليه وعليهم: »علم أنَّ بنيه أثموا، ولم يردعهم« (1 صم 3: 13). أمّا الخضوع فيعني أوَّلاً التواضع. رفض آدم الخضوع لأنَّه أراد أن يصير مثل الله، عارفًا الخير والشرّ. تلك كانت التجربة في الماضي. وهي ترافقنا اليوم. فمن يرفض الخضوع يحسب نفسه أفضل من الرئيس. ربَّما على المستوى البشريّ. ولكن لا في المسيح. فالطاعة الحقَّة هي الطاعة لله، لا للناس. من أجل هذا قال لنا الرسول: »اتَّضعوا تحت يد الله القديرة ليرفعكم عندما يحين الوقت« (1 بط 5: 6). ويعقوب أخو الربّ: »اتَّضعوا أمام الربِّ فيرفعكم الرب« (يع 4: 10). والخضوع يرتبط بالسكون والطمأنينة. بما أنَّ يدًا تمسك بيدنا، فنحن لا نقلق ولا نضطرب. وإذا كانت هذه اليد امتدادًا ليد الربّ، فماذا ينقصنا بعد؟ ولكن ما حيلتنا والإنسان يريد أن يقود نفسه بنفسه، فيسمِّيه أفلاطون »مجنونًا«، لأنَّ الإنسان قلَّما يعرف نفسه. على ما يقول لنا يعقوب أيضًا: »ينظر في المرآة وجهه، وحين يمضي ينسى كيف كان وجهه« (يع 1: 23-24). والمسؤولون في كنيسة كورنتوس: استفاناس، فرتوناتوس، أخائيكوس (1 كو 16: 17) حملوا الأخبار إلى بولس الموجود في أفسس. »اعرفوا كيف تكرمون أمثالهم« (آ18). والإكرام شكل من أشكال الطاعة. قال عنهم الرسول: »قاموا مقامكم في غيابكم«. ثمَّ إنَّ عائلة استفاناس هي الباكورة، »هم أوَّل من آمن بالمسيح في أخائية، وأنَّهم كرَّسوا أنفسهم لخدمة القدّيسين. فأناشدكم، أيُّها الإخوة، أن تسمعوا لهم ولكلِّ من يعمل ويتعب معهم« (آ15-16). السماع هو الطاعة. ونلاحظ التعابير: كرَّسوا أنفسهم. لم يعودوا لأنفسهم بل للمؤمنين الذين أوكلوا بهم، وهذا يعني التضحية والعطاء. ثمَّ عمله هو الخدمة لا الترؤُّس والرئاسة على ما قال الرسول لمن أراد له ولأبلّوس أن يكونا »زعيمين« في الكنيسة: »فمن هو أبلُّوس ومن هو بولس. هما خادمان بهما اهتديتم إلى الإيمان بقدر ما أعطاهما الرب« (1 كو 3: 5). وهذه الخدمة هي عمل وتعب، وأبعد ما تكون عن »الراحة« وإتعاب الآخرين. وما قاله الرسول لأهل كورنتوس، سبق وقاله لأهل تسالونيكي، لأنَّه رأى أنَّ كلَّ كنيسة وكلَّ جماعة تحتاج إلى مثل هذا التنبيه، وإلاَّ لما كانت الطاعة واحدة من النذور الثلاثة التي ترافق الفقر والعفَّة. قال: »ونطلب منكم، أيُّها الإخوة، أن تكرِّموا الذين يتعبون بينكم، ويرعونكم في الربّ، ويرشدونكم«. فالمسؤول هو الراعي ومثاله الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن أحبّائه. هو يعرف الخراف والخراف تعرفه، ومثل هذه المعرفة تجعل الكلَّ في حياة حميمة كالأعضاء في الجسد الواحد أو كالكرمة مع أغصانها حيث الماويَّة تنطلق من المسيح وتصل إلى آخر غصن في الشجرة. |
||||
04 - 04 - 2024, 03:19 PM | رقم المشاركة : ( 156499 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
تواضع وأطاع حتّى الموت حين كتب بولس إلى أهل فيلبّي دعاهم إلى الطاعة، لا له وحده، بل للذين جاؤوا بعده على »رئاسة« الكنيسة. فالذين اختارهم المسيح ليرشدوا المؤمنين، يشبهون الذين اختارهم الرسل ومن بعدهم كلّ »هيجومين« (رئيس دير) أو »إبيسكوبّس، أسقف« (مراقب ومناظر) في الكنيسة. ونحن لا ننسى الدياكونوس (الخادم) أي »مشمشنا« في السريانيَّة (شمّاس). والكلام واضح في الرسالة إلى العبرانيّين ولا يقبل أيَّ شكّ. فحين تحدَّث الكاتب عن بطرس وبولس اللذين ماتا شهيدين في زمن نيرون، دعاهما »هيجومين«. قال: »اذكروا مدبِّريكم الذين خاطبوكم بكلام الله، واعتبروا بحياتهم وموتهم واقتدوا بإيمانهم« (عب 13: 7). وحين تحدَّث عن الذين خلفوا الرسولين في رومة، ونحن لا نعرف أسماءهم، دعاهم الكاتب أيضًا »مدبِّرين« (هيجومين) باسم الرسولين كما باسم الرسل. هذا ما ندعوه التسلسل في الرسالة. فلا انقطاع منذ المسيح إلى الآن. والطاعة للمسؤول الآن تشبه الطاعة للرسل، بل للمسيح، بل لله. قال الربّ: »من سمع منكم سمع منّي، ومن رفضكم رفضني، ومن رفضني رفض الذي أرسلني« (لو 10: 16). أو كما في إنجيل متّى: »من قبلكم قبلني، ومن قبلني قبل الذي أرسلني« (مت 10: 40). قال الرسول: »فكما أطعتم كلَّ حين، أيُّها الأحبّاء، أطيعوني الآن في غيابي، أكثر ممّا أطعتموني في حضوري، واعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة« (فل 2: 12). تلك هي طريق الخلاص. في الطاعة. وعمليٌّا، البشريَّةُ كلُّها تعيش في الطاعة. فمن لا يخضع للآخر في أمر من الأمور؟ الملك نفسه يخضع للحلاّق. والوزير ترتبط حياته بخبز يقدِّمه الخبّاز... أمّا المخافة فتكون في الربّ، لا مخافة العبيد، بل مخافة الأبناء، بل مخافة العابدين كما يكونون في حضرة الله. فالله يدعونا إلى مثل هذه الطاعة. وما قال بولس هذا الكلام وكأنَّه تعليم خارج عنه، فهو أيضًا عاش الطاعة قبل أن يتحدَّث عنها. قال لأهل فيلبّي: »اقتدوا بي أيُّها الإخوة، وانظروا الذين يسيرون على مثالنا« (فل 3: 17). وقال لهم أيضًا: »واعملوا بما تعلَّمتموه منّي وأخذتموه عنّي وسمعتموه فيَّ ورأيتموه فيَّ، وإله السلام يكون معكم« (فل 4: 9). أربعة أفعال متلاحقة. أطاع بولس وهم يتعلَّمون منه الطاعة. أخذ عن المسيح الذي أطاع مشيئة الآب، فوجب أن يأخذوا منه. والسماع يصل إلى الأذن، والرؤية إلى العين. يكفي التلاميذ أن ينظروا إلى الرسول لكي يتعلَّموا ما هي الطاعة الحقيقيَّة، ولاسيَّما في وقت المحنة. قال الرسول لأهل كورنتوس: »كتبتُ إليكم لأختبركم وأرى هل تطيعونني في كلِّ شيء« (2 كو 2: 9). طلب منهم الرسول أن »يصفحوا« عمَّن أذنب إليهم. هل يطيعونه؟ طلب منهم أن يطردوا الزاني من جماعتهم بسبب الشكوك التي يتركها وراءه. (1 كو 5: 1ي). هل يتقبَّلون ما يعرضه عليهم؟ حذَّرهم من الذهاب إلى المحاكم ودعاهم إلى التوافق والتصالح (1 كو 6: 1ي). ماذا كان جوابهم؟ واستفاد الكورنثيّون من غياب رسولهم لكي يفتروا عليه. قالوا: »رسائل بولس قاسية عنيفة، ولكنَّه متى حضر بنفسه، كان شخصًا ضعيفًا وكلامه سخيفًا« (2 كو 10: 10). دافع بولس عن نفسه. بلا شكّ، وقال لهم: »ما نكتبه في رسائلنا ونحن غائبون نفعله ونحن حاضرون« (آ11). وسبق له وقال في الرسالة الأولى: »أيُّها تفضِّلون؟ أن أجيء إليكم بالعصا أم بالمحبَّة وروح الوداعة؟« (1 كو 5: 21). ولماذا قال هذا الكلام القاسي؟ لأنَّ البعض اعتبروا أنَّه لن يأتي إلى كورنتوس وبالتالي يستطيعون أن يفعلوا كما يشاؤون على مثال الخادم الشرّير الذي اعتبر أنَّ »سيِّده يتأخَّر، فأخذ يضرب رفاقه ويأكل ويشرب مع السكّيرين« (مت 24: 48-49). لماذا الكلام؟ هو يبقى كلامًا. فلا بدَّ من العمل. والطاعة لا تكون حين يرانا الناس، بل حين يرانا الله الذي يعرف ما في أعماق قلوبنا. فلماذا التحايل والتظاهر على ما قال الربُّ عن الكتبة والفرّيسيّين: »يقولون ولا يفعلون« (مت 23: 3)، فيبدون كالقبور المبيَّضة (آ27)؟ أمّا المثال الأعلى للطاعة فهو يسوع المسيح، فقال عنه الرسول: »ارتسم المسيح أمام عيونكم مصلوبًا« (غل 3: 1). عند الصليب تجلَّت طاعةُ المسيح في أبهى مظاهرها. في معرض الكلام عن تواضع يسود عظمته، قدَّم لنا بولس نشيدًا اعتادت أن تنشده الجماعة في كنيسة فيلبّي. أمّا النشيد فانطلق من »صورة«، إلى »صورة« (مورفي في اليونانيَّة)، من »صورة الله« إلى »صورة العبد«. نلاحظ هذا التنازل العجيب، هذا التواضع الذي لا يجاريه تواضع على الأرض. وحين نرى القدّيسين يتركون الغنى والعظمة والمُلك ليكونوا بجانب الفقراء والمرضى، نندهش منهم. هذا ما لا شكَّ فيه. شارل ده فوكو، ذاك الشابّ الذي كان من عائلة كبيرة وصاحب ثروة طائلة، صار خادمًا يكنِّس الدير عند الراهبات في فلسطين، قبل أن يمضي إلى الصحراء الجزائريَّة ويموت هناك ميتة يمكن أن يحسبها الناس »تافهة«. وفرنسيس الأسِّيزيّ الذي تخلّى عن كلِّ شيء فاستطاع أن يدعو الله »أباه« بدل الأب الذي حرمه من كلِّ شيء. ونقول الشيء عينه عن »مؤسِّسي« الرهبنات في لبنان، كانوا في حلب »المدينة العامرة وصاحبة الثقافة« فأتوا إلى الجبل اللبنانيّ يفتِّتون الصخور مع إخوتهم ويعيشون عيشة الفقر والامِّحاء. ولكن ما هذا بجانب ما فعله يسوع الذي ما اكتفى بأن يصير بشرًا، أن يظهر في »صورة إنسان« (فل 2: 7)، بل أخذ »المقعد الأخير« في القاعة، لا المقام الأوَّل مثل الكتبة والفرّيسيّين الذين »يحبّون مقاعد الشرف في الولائم ومقاعد الصدارة في المجامع، والتحيّات في الأسواق« (مت 23: 6-7). فمن تواضع إلى هذا الحدِّ، لا يستصعب الطاعة حتّى لمن هو أصغر منه. أما كان هكذا القدّيس شربل؟ فكما تجرَّد من المال فما نظر إليه، كذلك تجرَّد عن إرادته ورافق الربَّ يسوع حين رفعه على الصليب »يا أبا الحق«، التي بدأها على الأرض وأكملها في السماء. وما كانت طاعة يسوع لفترة معيَّنة، أو لبعض الأعمال المحدَّدة. فكما أحبَّ إلى الغاية (يو 13: 1)، أطاع حتّى الغاية، حتّى الموت. ما توقَّف في الطريق وما وضع شروطًا. هو الذي تخلّى عن إرادته كلِّيٌّا، فكيف يستعيد ما قدَّمه لأبيه السماويّ. قال لتلاميذه الذين حدَّثوه عن الطعام: »طعامي أن أعمل بمشيئة أبي الذي أرسلني وأتمِّم عمله« (يو 4: 34). إذا كان أرسل التلاميذ وقال لهم: »كما أرسلني الآب أنا أرسلكم أيضًا« (يو 20: 21)، فأيّ نوع من الرسالة يقوم بها، في اتِّحاد تامّ مع الآب، وهو الذي قال: »ما جئت لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني« (يو 6: 38). ويتواصل النشيد الذي أنشدته كنيسة فيلبّي، وقد يكون من تأليف الرسول نفسه: »أطاع حتّى الموت والموت على الصليب« (فل 2: 8). هذا ما نكتشفه في النزاع في جبل الزيتون. قال في صلاته: »يا أبي، إذا كان لا يمكن أن تعبر عنّي هذه الكأس، إلاَّ أن أشربها، فلتكن مشيئتك« (مت 26: 42). وسبق هذه الصلاة طلبة أخرى: »إن أمكن يا أبي، فلتعبر عنّي هذه الكأس، ولكن، لا كما أنا أريد، بل كما أنت تريد« (آ39). وكانت الصعوبة كبيرة. ما عرق الربُّ في نزاعه فقط، بل »كان عرقه مثل قطرات دم تتساقط على الأرض« (لو 22: 44). ومع ذلك فهو لم يتراجع: »لتكن إرادتك لا إرادتي« (آ42). وسيبقى طائعًا لمشيئة الآب حتّى النهاية. فقال وهو على الصليب: »تمَّ كلُّ شيء« (يو 19: 30). ما بقي شيء يقوم به في مشروع الآب الخلاصيّ. عندئذٍ أسلم الروح. هنا نقرأ في الرسالة إلى العبرانيّين ملخَّصًا عن حياة يسوع وموته. »وهو الذي في أيّام حياته البشريَّة، رفع الصلوات والتضرُّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر، ولمّا بلغ الكمال صار مصدر خلاص أبديّ لجميع الذين يطيعونه« (عب 5: 7-9). ذاك هو الابن في انحداره، ساعة أخلى ذاته، لاشى ذاته، صار أقلَّ من إنسان. وبما أنَّه أطاع، حمل الخلاص للبشر فقابل »آدم« الذي عصى، الذي خطئ، »فسادَ الموتُ البشر بخطيئة إنسان واحد« (رو 5: 15). وواصل الرسول كلامه: »فكما أنَّ خطيئة إنسان واحد قادت البشر إلى الهلاك، فكذلك برُّ إنسان واحد يبرِّر البشر جميعًا فينالون الحياة. وكما أنَّه بمعصية إنسان واحد صار البشر خاطئين، فكذلك بطاعة إنسان واحد يصير البشر أبرارًا« (آ18-19). فما أعظم الطاعة، وأيَّة نتيجة تقدِّم للبشريَّة. وإذا كان يسوع رضي أن يكون طائعًا حتّى الموت، فما يكون موقف التلميذ، مع العلم أنَّ ذاك الذي أطاع »رفعه الله جدٌّا وأعطاه اسمًا فوق كلِّ اسم« (فل 2: 19) بحسب مبدأ الإنجيل: »من اتَّضع ارتفع، ومن ارتفع اتَّضع« (لو 14: 11). لا طريق إلاَّ هذه، وهنيئًا لمن يأخذها ولو كانت ضيِّقة، صاعدة... فالنور ينتظرنا في النهاية. |
||||
04 - 04 - 2024, 03:37 PM | رقم المشاركة : ( 156500 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
أيُّها الأبناء أطيعوا والديكم ننتقل من الإطار الكنسيّ الذي أضاء عليه موقف يسوع، لنصل إلى البيت بما فيه من والدين وأولاد، من أسياد وعبيد. من جهة، واجب الأبناء تجاه الوالدين، ومن جهة ثانية، واجب الوالدين تجاه أولادهم. لأنَّ الطاعة لا تكون من جهة واحدة، وكأن الأصغر أو الأضعف يحمل كلَّ الواجبات ولا يكون له حقٌّ واحد. في الطاعة، لا يكون الهدف الخضوع كخضوع. يجب أن يركع الولد. وبالأحرى العبد. لا يحقُّ لهؤلاء الضعفاء أن يناقشوا ولا أن يسألوا. والولد في العالم الرومانيّ لا يفترق عن العبد، بل العبد هو الذي يقوده إلى المدرسة. لا شكَّ نحن أبناء الله، ولكن يتابع الرسول: »الوارث لا فرق بينه وبين العبد ما دام قاصرًا، مع أنَّه صاحب المال كلِّه. لكنَّه يبقى في حكم الأوصياء والوكلاء إلى الوقت الذي حدَّده أبوه« (غل 4: 1-2). وفي عالمنا الشرقيّ، الولد هو مُلك الرجل يفعل به ما يشاء، يرسله إلى العمل، يطلب منه ما هو في طاقته وما هو فوق طاقته. ولكن هذا لا يمكن أن يكون في تعليم القدّيس بولس. بدأ فطلب من الأبناء الطاعة. وأضاف: »هذا عين الصواب« (أف 6: 1). هذا ما يجب على الأولاد أن يقوموا به. عاد الرسول إلى الوصايا وتلك التي تقول: »أكرم أباك وأمَّك« وتلك أوَّل وصيَّة يرتبط بها وعد وهو: »لتنال خيرًا وتطول أيّامك على الأرض«. الأمثال عديدة في هذا المجال. قيل عن يعقوب »سمع لأبيه وأمِّه وذهب إلى سهل آرام« (تك 28: 7). أطاع فافترق عن أخيه عيسو: تزوَّج امرأة أولى من بني حثّ ثمَّ امرأة ثانية »فكانتا لإسحق ورفقة خيبة مرَّة« (تك 26: 35). وسوف تقول رفقه لإسحق: »سئمتُ حياتي من امرأتَي عيسو الحثّيَّتين. فإن تزوَّج يعقوب من بنات حثّ مثل هاتين أو من بنات سائر أهل الأرض، فما لي والحياة؟« (تك 28: 46). نحن لا ننسى أنَّ هذه الشعوب لا تعبد الإله الواحد، فكيف الزواج من امرأة لا تؤمن إيمان زوجها، فمن يربّي الأولاد التربية الصحيحة. سمع يعقوب. أمّا عيسو فتزوَّج مرَّة أولى ومرَّة ثانية كأنَّه يضيف عصيانًا على عصيان. بل هو عصى أمر الله نفسه الذي قال عن »الحثّيّين« وغيرهم: »لا تصاهروهم فتعطوا بناتكم لبنيهم وتأخذوا بناتهم لبنيكم، لأنَّهم يردُّون بنيكم عن اتِّباع الربّ، فيعبدون آلهة أخرى« (تث 7: 3-4). أمّا عقاب العصيان فيكون قاسيًا. قال سفر التثنية: »وإذا كان لرجل ابنٌ عقوق لا يسمع لكلام أبيه ولا لكلام أمِّه، ويؤدِّبانه ولا يصغي إليهما، يمسكه أبوه وأمّه ويخرجانه إلى شيوخ المدينة التي يقيم بها... فيرجمه جميع رجال مدينته حتّى يموت« (تث 21: 18ي). تدبير قاس. ربَّما لم يُعمَل به إلاَّ نادرًا نادرًا، ولكن هذا يبيِّن أهمِّيَّة الطاعة للوالدين. ويوسف أطاع أباه، فذهب إلى الإخوة مع أنَّه عارف أنَّ الخطر يتهدَّده (تك 37: 13-14). وطوبيّا أيضًا هو ابن الطاعة: »كلّ ما أمرتَ به أفعلُه« (طو 5: 1). وماذا قال طوبيت لابنه؟ »إذا متُّ يا ابني فادفنّي بكرامة. كذلك أكرِمْ والدتك، ولا تتركها في ضيق كلّ أيّام حياتها. أطعْها في كلِّ ما تعمل ولا تحزنها« (طو 4: 3). في هذا المجال قال سفر الأمثال: »الابنُ الحكيم يفرح أباه، والابن البليد حسرة لأمِّه« (أم 10: 1). تلك واجبات الأبناء (والبنات). وما هي واجبات الآباء (والأمَّهات)؟ »لا تُثيروا غضب أبنائكم، بل ربُّوهم حسب وصايا الربّ وتأديبه« (أف 6: 4). حين حدَّث الرسول الأبناء طلب منهم الطاعة »في الرب«. فالربُّ هو شاهد على هذه الطاعة. ومن عصى والديه عصى الله. قال الرسول: »أيُّها البنون، أطيعوا والديكم في كلِّ شيء، لأنَّ هذا يرضي الرب« (كو 3: 20). وفي الربِّ يهتمُّ الآباء بأولادهم. يسيِّرونهم »بحسب وصايا الرب«. دورهم هو دور الله، وتأديبهم يكون تأديب الله. لا بالغضب و»فشَّة الخلق« القريب من الانتقام. إن كان الأمر هكذا، فالأولاد يثورون ويرفضون، وفي النهاية ييأسون. كيف يؤدِّب الوالدون أولادهم؟ مثل الربّ. قال سفر الأمثال: »لا ترفض مشورة الربِّ ولا تكره توبيخه لك. فمن يحبُّه الربُّ يوبِّخه ويرضى به كأبٍ بابنه« (أم 3: 11-12). المحبَّة تسيطر في عمل الربّ، وبالتالي في عمل الوالدين. ومعاملة الله تشبه معاملة الأب، بحيث إنَّ الإنسان يكتشف تعامل الله معه انطلاقًا من تعامل والديه معه. هذا يعني واجبًا كبيرًا على الوالدين ومسؤوليَّة خطيرة في مجال التربية. استعادت الرسالة إلى العبرانيّين كلام سفر الأمثال هذا، وأضاف كاتبها: »فتحمَّلوا التأديب، والله إنَّما يعاملكم معاملة البنين، وأيُّ ابن لا يؤدِّبه أبوه؟« (عب 12: 7). ويواصل: إذا رفضنا التأديب لا نكون أبناء شرعيّين، بل أبناء زنى. وينهي الكلام في هذا الموضوع: »ولكن كلُّ تأديب يبدو في ساعته باعثًا على الحزن، لا على الفرح، إلاَّ أنَّه يعود فيما بعد على الذين عانوه بثمر البرِّ والسلام« (آ11). وفي هذا الإطار من الطاعة التي تسيطر في البيت، نتعرَّف إلى العلاقة بين الرجل والمرأة. الخضوع متبادل. الرجل يخضع للمرأة والمرأة تخضع للرجل. ذاك ما قال الرسول في معرض كلامه عن الزواج: »ليخضع بعضكم لبعض في مخافة المسيح« (أف 5: 21). أمّا الطريقتان فهما الخضوع والمحبَّة في تقابل متوازٍ. ارتبط الخضوع بالمرأة والمحبَّة بالرجل، وكأنَّ المرأة لا تقدر أن تحبَّ ولا الرجل أن يخضع. أمّا المثال الأعلى فهو خضوع الكنيسة للمسيح. قال: »وكما تخضع الكنيسة للمسيح، فلتخضع النساء لأزواجهنَّ في كلِّ شيء« (آ24). أمّا طاعة العبيد فتكون »بخوف ورهبة وقلبٍ نقيّ كما تطيعون المسيح« (أف 6: 5) والأسياد يعرفون أنَّ سيِّد العبيد هو سيِّد الأسياد وهو لا يحابي أحدًا (آ9). كيف تكون المعاملة؟ »بالعدل والمساواة« (كو 4: 1). فالدينونة تنتظر السيِّد والعبد، وكلُّ وحد يجازى بحسب أعماله. الخاتمة تلك كانت مسيرتنا لكي نتعلَّم ما هي الطاعة في أديارنا، في رعايانا، في الجماعات الكبيرة أو الصغيرة، في بيوتنا. كلُّ شيء يكون تحت نظر الربِّ وفي المسيح. والمثال الأعلى يبقى يسوع الذي تعلَّم الطاعة في بداية مجيئه إلى العالم، الذي كان طائعًا لوالديه (لو 2: 51)، مع أنَّه ابن الله. في خطِّه سار الرسول، ومثله فعل القدّيسون فتقدَّسوا بالطاعة المستندة إلى التواضع والمحبَّة من أجل بناء الكنيسة. في هذا المجال نُنهي ببعض ما قال الرهبان: »إنَّ الطاعة فخر الراهب، فمن اقتناها يسمع الله صوته، ويقف أمام المصلوب ربّ المجد بدالَّة، لأنَّ إلهنا من أجل طاعته لأبيه صُلب عنّا«. وقال أنطونيوس: »النسك والفقر يُخضعان الوحوش لنا«. وقال أيضًا للآتي إليه: »لا تكن قليل السمع لئلاّ تكون وعاء لجميع الأشرار. فضع في قلبك أن تسمع لأبيك (مرشدك الروحيّ) فتحلّ بركة الله عليك«. أمّا باخوميوس الذي رأى أربع مراتب في السماء فرأى أرفعها تلميذًا ملازمًا لطاعة أبيه من أجل الله. »فالطاعة لأجل الله أفضل الفضائل«. |
||||