16 - 07 - 2016, 05:24 PM | رقم المشاركة : ( 13531 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
إننا نحبه لأجل شخصه، لا لأجل مكافأته أو عطاياه
سفر نشيد الأنشاد
[يرى القديس غريغوريوس أن إدراك أسرار هذا السفر – سفر العرس السماوي – هو موهبة يقدمها العريس السماوي لعروسه التي تختفي فيه، كما في ثوب ملوكي مقدس… لهذا لاق بالنفس أن تخلع عنها ثوب الأفكار الجسدانية حتى ترتفع بروح الرب إلى حجال عريسها وتتأهل للتمتع بأسراره.] أنتم يا من – حسب نصيحة القديس بولس – قد تجرّدتم من الإنسان العتيق بأعماله وشهواته كما من رداء قذر، وارتديتم بطهارة حياتكم ملابس الرب اللامعة التي ظهر بها على جبل التجلي. يا من لبستم الرب يسوع المسيح بثوبه المقدس، وتغيرتم معه إلى التحرر من الأهواء، وتبعتم الإلهيات. استمعوا الآن إلى أسرار نشيد الأناشيد. ادخلوا إلى حجال العريس الطاهر، والبسوا الثياب البيضاء التي للأفكار الطاهرة النقية. لا يكن لأحد شهوات وأفكار جسدية وثوب ضمير غير لائق بالعرس الإلهي. ليتخلص كل أحد من أفكاره الشخصية، ولا يربط أقوال العريس والعروس بالأهواء الجسدية الحيوانية. كل من يظهر أنه مرتبط بهذه الأفكار المشينة يلزم طرده من صحبة المتمتعين بأفراح العرس إلى موضع النحيب (مت 22: 10-13). حياة الحب لا الخوف! [بعد أن طلب القديس منا أن نخلع ثوب الأفكار الجسدانية ونرتدي مسيحنا ثوبًا مقدسًا، طالبنا أن نلتقي بعريسنا على مستوى الحب الحقيقي، لا الخوف. نطلبه لأجل حبنا له، وليس خوفًا من أن نفقد المكافأة. إننا نحبه لأجل شخصه، لا لأجل مكافأته أو عطاياه.] قدمت هذا التحذير قبل أن أورد التفسير السري لنشيد الأناشيد، حيث تحيط كلماته النقية الروحية غير الجسدانية بالنفس وتوحِّدها مع الله. لأن الله الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4)، يظهر هنا طريق الخلاص الأكمل والمطوَّب، أقصد طريق الحب. فبالنسبة للبعض يتم الخلاص بالخوف: الخوف من العقاب في جهنم، وبهذا يبتعدون عن الشرور. والبعض الآخر يسلكون في طريق الفضيلة مترجين المكافأة من أجل الحياة التقوية. هؤلاء لا يعملون الخير من أجل الحب بل انتظارًا للإثابة. على الجانب الآخر نجد أن الشخص الذي يُسرع إلى الكمال الروحي يرفض الخوف (لأن الخوف هو عبودية؛ ومثل هذا الشخص الخائف لا يبقى مع سيده من أجل الحب. فإنه لا يهرب لئلا يُجلد). بينما الشخص الذي يطلب الكمال هو الذي يستخف حتى بالمكافأة، فإنه لا يرغب في أن يُشار إليه بأنه يفضل الهدية على مهديها. أنه يحب “من كل قلبه ونفسه وقوته” (تث 6: 5)، ليس من أجل الأشياء التي يهبها الله له، بل يحب الله مصدر كل الصالحات. هذا هو ما يأمر به الله كل النفوس التي تصغي إليه، فإنه يأمرنا أن نشاركه حياته. بين السيد المسيح وسليمان سليمان هو الذي أسس هذا القانون (1 مل3: 12 ؛ 5: 9-14). فبحسب الشهادة الإلهية، فاقت حكمته كل المقاييس، ولم يكن لها مثيل في كل من سبقوه وكل من أتوا بعده. كان ثاقب الفكر، لا تخفي عنه خافية. لا تظن أنني أقصد سليمان الذي من بئر سبع، والذي قدم آلاف الذبائح على الجبال (1 مل 11: 6-8)، والذي أخطأ بعد أن أغوته المرأة التي من صيدا (1 مل 11: 1-2). كلاَّ، أنه سليمان الآخر (المسيح) هو المُعنى به هنا، ذاك الذي جاء من نسل داود حسب الجسد، واسمه يعني سلامًا، الملك الحقيقي لإسرائيل وباني هيكل الله. سليمان الآخر هذا عنده معرفة كاملة بكل شيء. حكمته غير محدودة، وجوهره هو حكمة وحق، واسمه ممجد وإلهي وأيضًا فكره. استخدم المسيح سليمان كأداة وكلمنا خلال فمه أولاً في الأمثال ثم في الجامعة. وبعد هذين السفرين تكلم خلال الفلسفة التي تضمنها نشيد الأناشيد موضحًا لنا كيف يكون التدريج إلى الكمال بترتيب. بين الأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد [يقدم القديس عرضًا رائعًا لهذه الأسفار الثلاثة بكونها الأسفار التي تسند المؤمن عبر كل حياته. يسنده سفر الأمثال كما من طفولته الروحية، ويسلمه إلى سفر الجامعة كإنسان عبر إلى نوع من النضوج، وهذا يسلمه إلى سفر نشيد الأناشيد، سفر العروس الكاملة المتحدة بعريسها، تتعرف على أسراره الإلهية.] الإنسان غير قادر في كل مرحلة من مراحل حياته على إنجاز كل نوع من العمل. وأيضًا نجد أن حياتنا لا تتقدم بنفس الأسلوب في مراحل حياتنا المختلفة. (فالطفل لا يستطيع أن يقوم بأعمال الإنسان الناضج، والناضج أيضًا لا يُحمَل بين يديّ مرضعته. إذًا فلكل مرحلة من العمر نشاطها الذي يناسبها.) إذًا نجد أن النفس تنمو كالجسد أيضًا بترتيب خاص وتدرُّج يؤدي بها إلى حياة الفضيلة. فسفر الأمثال له أسلوبه المميز في تعاليمه، وسفر الجامعة له أسلوب آخر، بينما فلسفة نشيد الأناشيد تسمو على كليهما بتعاليمها الفائقة. إن تعاليم سفر الأمثال تناسب الشخص الحديث السن، حيث أن كلماته تحث على أعمال تتلائم مع هذه المرحلة من العمر. “اسمع يا ابني تأديب أبيك ولا ترفض شريعة أمك” (أم 1: 8). نرى هنا أن النفس في هذه المرحلة من العمر تتميز بليونة حيث يسهل تشكيلها، وأيضًا تكون بعد في احتياج للإرشاد والتشجيع الأبوي. يجب على الآباء (والأمهات) أن يتفهموا كيف يشجعوا أطفالهم ليكونوا أكثر حرصًا في استذكار دروسهم وأيضًا في الإصغاء بأكثر اهتمامٍ لنصائح والديهم، ربما عن طريق الوعود بتقديم هدايا لطيفة من وقت لآخر، مثل تقديم سلسلة ذهبية براقة حول عنقه أو تاج مزين بورود جميلة. على الوالدين تفهم مثل هذه الأمور تمامًا إذا ما كانت نيتهم وراء ذلك هو تقدُّم أولادهم. هكذا فإن سفر الأمثال يبدأ بوصف الحكمة للطفل بطرق متنوعة، ويشرح الجمال الذي يفوق الوصف بحيث لا يوحي بأي خوف أو ارتباك بل بالأحرى يجذب الطفل إلى الشوق والرغبة في عمل الصلاح. إن وصف أوجه الجمال يجذب الشاب بطريقة ما للرغبة فيما يشاهده من هذا الجمال، وبالتالي يثير رغبته للمشاركة فيه. ثم يزيِّن سليمان جمال الحكمة بتمجيدها، وذلك حتى يزداد حبنا للحكمة بعدما تحولت ميولنا المادية إلى أخرى غير مادية. ليس أن سليمان يصور جمالها بالكلمات فحسب بل أنه أيضًا يذكر مقدار الغنى المذخَّر في الحكمة، حكمة الله التي تقطن معنا حتميًا. حينئذ نشاهد هذا الغنى في الحكمة الرائعة الزينة. إن الزينة على يمينها طول الأيام، إذ أن كلمات الحكيم تقول: “في يمينها طول الأيام” (أم 3: 16). وتلبس على يسارها ثروة الفضيلة الثمينة وعظمة المجد معًا؛ “وفي يسارها الغنى والمجد” (أم 3: 16). ثم يتحدث سليمان عن العبير الذي يفوح من فم العروس، نسيم الرائحة الذكية التي للفضيلة: “من فمها يخرج كلام البرّ” (3: 16). وبدلاً من اللون الأحمر الطبيعي لشفتيّ العروس يقول إن الشريعة والرحمة تخرج من شفتيها. وحتى يكمل جمالها يمدح أيضًا خطواتها فيقول “في طريق العدل اتمشَّى في وسط سبل الحق” (أم 8: 20). في مدحه لجمالها يمدح سليمان أيضًا ضخامة حجمها الذي يشبه شجرة مورقة عظيمة. وهذه الشجرة التي يبلغ ارتفاعها ارتفاع قامة عروسه، هي شجرة الحياة على حد قوله، وهي تغذي من يلتجئ إليها، وهي دعامة قوية وراسخة لمن يتكئ عليها كما على الرب، فهي بالمثل ثابتة. وتُمتدح قوتها أيضًا حتى يكون تمجيد جمال الحكمة كاملاً، مشتملة على كل ما هو صالح. “الرب بالحكمة أسس الأرض. أثبت السموات بالفهم” (أم 3: 19). ينسب سليمان جميع عناصر الخليقة إلى قوة الحكمة ويصفها بأسماء كثيرة، كلٍ يحمل المعنى ذاته للحكمة مثل التعقل، الإدراك الحسن، المعرفة، الفهم وما شابه ذلك. ثم يرافق سليمان الشاب إلى محل إقامة خاص ويحثه ليتفرس في حجرة العرس. “لا تتركها فتحفظك، اَحببها فتصونك. الحكمة هي الرأس. فاقتنِ الحكمة وبكل مقتنياك اقتن الفهم. ارفعها فتُعلِّيك. تمجدك إذا اعتنقتها. تعطي رأسك إكليل نعمة. تاج جمال تمنحك”. والآن فإن الشاب المزيَّن بتاج العرس يحثه العريس على عدم ترك الحكمة “إذا ذهبت تهديك، إذا نمت تحرسك، وإذا استيقظت فهي تحدثك” (أم 5: 22). بتلك الطرق وبأخرى حث سليمان الشاب بحسب الإنسان الباطن وأشعل رغبته للتمسك بالحكمة، إذ الحكمة تصف نفسها. بذلك انتزع سليمان حب كل من استمع إليه. إلى جانب ذلك فالحكمة تقول: “أنا أحب الذين يحبونني” (أم 8: 17)، إذ أن اشتياق المحب هو إن يُرَدَ له الحب بالحب، يؤدي به إلى رغبة شديدة بالأكثر. أضاف سليمان إلى هذه الكلمات نصائح آخرى بتصريحات أكثر وضوحًا وسلاسة. وقد قاد سليمان الشباب إلى المثالية في أروع صورها في الآيات الأخيرة من سفر الأمثال، حيث يقول “مبارك” هو اتحاد الحب، في هذا الجزء الذي يخص مدح المرأة الفاضلة. يضيف سليمان فلسفة سفر الجامعة إلى الشخص الذي أخذ قسطًا تمهيديًا وافيًا من التدريبات المشتمل عليها سفر الأمثال، وصار مشتاقًا إلى الفضيلة. بعد أن وبخ سليمان في سفر الجامعة سلوك الإنسان تجاه المظاهر الخارجية، وبعد أن قال إن كل ما هو غير ثابت هو باطل وعابر “كل ما يأتي باطل” (جا 11: 8). نجد سليمان بعد ذلك قد ارتفع فوق كل الأشياء المحسوسة، أي حركة الحب التي توجه نفوسنا تجاه الجمال غير منظور. وهكذا إذ غسل القلب من الأمور الخارجية بدأ سليمان يمهد النفس للدخول إلى قدس الأقداس خلال نشيد الأناشيد. إن نشيد الأناشيد يصف عرسًا إنما ما يفهم ضمنًا هو اتحاد النفس البشرية مع الله. لذلك فإن الابن الشاب في سفر الأمثال يسمَّى العروس وتتخد الحكمة دور العريس، حتى أن الإنسان يستطيع أن يتحد بالله إذ يصير عذراء طاهرة بدلاً من كونه العريس. بالتصاقه مع الرب يصير الإنسان روحًا واحدًا معه (1 كو 6: 17) من خلال الوحدة، مع ما هو طاهر ونقي ذهنيًا بدلاً من التثقل بالجسد وأهوائه. ليلتهب قلبك حبًا نحو العريس السماوي! بما أن الحكمة هي التي تتكلم، إذًا فلتُحب قدر ما تستطيع بكل قلبك وكل قوتك (تث 6: 5)؛ لتكن فيك هذه الرغبة قدر استطاعتك. وإنني اتجاسر فأضيف لهذه الكلمات: “لتكن توَّاقًا لذلك”. هذا الشعور تجاه الأمور غير الجسدية، إنما هو فوق الشبهات وخالي من الشهوة، كما تقول الحكمة في سفر الأمثال عند وصفها للحب المتقد للجمال الإلهي. لكن النص أمامنا الآن يحثنا بالمثل. أنه لا يقدم لنا مجرد نصيحة بخصوص الحب، لكن من خلال الأسرار التي لا يُنطق بها يفلسف صورة مباهج الحياة، مقدمًا لنا إياها كاستعداد لإرشاداتها. إن الصورة هي إحدى صور الزفاف حيث الرغبة في الجمال تمثل الوسيط. لا يبدأ العريس بإظهار رغبته حسب العادة البشرية الطبيعية، لكن العروس هي التي تبادر بإظهار مشاعرها بلا خجل وتتوسل أن تحظى بقبلات العريس. إن الذين يخدمون الخطيبة البكر ويلازمونها هم البطاركة والأنبياء ومعلمي الناموس. إنهم يقدمون للعروس هدايا العرس، كما كانت. (من أمثلة هذه الهدايا: غفران المعاصي، نسيان الأعمال الشريرة، غسل الخطايا، تغيير الطبيعة، أي تصير الطبيعة الفاسدة طاهرة، التمتع بالفردوس، وكرامة ملكوت الله، والفرح اللانهائي.) عندما تتقبل العروس كل هذه الهدايا من النبلاء الحاملين لها والذين يقدمونها خلال تعاليمهم النبوية حينئذ تعترف باشتياقاتها ثم تسرع لتتمتع بامتياز جمال الواحد طالما اشتاقت إليه. يصغي خدام البتول ومرافقوها إليها ويحثونها بالأكثر لاشتياق متزايد. ثم يصل العريس قائدًا جوقة من المغنين فيما بينهم أصدقاؤه والذين يترجون خيره. هؤلاء يمثلون الأرواح الخادمة التي تنقذ الإنسان أو الأنبياء الأطهار. عند سماع صوت العريس يفرحون (يو 3: 29)، عندما يتحقق الاتحاد الطاهر حيث تصير النفس الملتصقة بالرب روحًا واحدًا معه كما يقول الرسول (1 كو 6: 17). الإعداد لفهم السفر سأعود ثانيًا إلى ما سبق إن قلته في بداية هذه العظة: لا تدع أي شخص شهواني أو جسداني تنبعث منه رائحة الإنسان العتيق الكريهة (2 كو 2: 16) أن يقلل من أهمية الأفكار والكلمات المقدسة، ويستبدلها بأخرى شهوانية حيوانية، بل بالأحرى ليخرج كل إنسان من الأنا ويعتزل العالم المادي. ليصعد إلى الفردوس خلال قطع رباطات العالم إذ صار مثل الله خلال النقاوة. ثم نقول ليدخل كل منا إلى قدس أقداس الأسرار المعلنة في هذا الكتاب (سفر نشيد الأناشيد). إذ ما كانت النفس غير مستعدة لسماع ذلك فلتنصت لموسى النبى الذي يمنعنا من الصعود على الجبل الروحي قبلما نغسل ثياب قلوبنا وأيضًا ننقى نفوسنا برش الماء المقدس اللائق لتنقية أفكارنا أولاً وبالتالي نفوسنا. وحينما نتكرس لمثل هذه التأملات علينا إن نلقي جانبًا فكرة الزواج كما أمر موسى (خر 19: 15) حينما أمر الذين بدأوا بغسل ثيابهم بألاَّ يقربوا امرأة. علينا أن نتبع إرشاداته حينما نكون على وشك الاقتراب من الجبل الروحي لمعرفة الله: إذ أن الأفكار عن النساء وما يصاحبها من حب اقتناء الماديات يجب أن يُترك جانبًا مع اعتزال الحياة السفلية. إذا ما قامت أي نزوة غير منطقية عند سفح الجبل يجب إن تُحطم بقوة مضادة من أفكار أكثر حزمًا كما لو كانت تُرجم بالحجارة. وإلا فسوف يصعب علينا أن نسمع صوت البوق الذي يتردد بصوتٍ عالٍ وعظيم يفوق طاقه السامعين. يصدر هذا الصوت من مكان وجود الله الخفي، والذي يحرق كل ما هو مادي فوق هذا الجبل. يتبع….. القديس غريغوريوسالنيصي |
||||
16 - 07 - 2016, 05:27 PM | رقم المشاركة : ( 13532 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
“اَخبرني يا من تحبه نفسي”.
سفر نشيد الأنشاد السهر في الشر! [تشعر العروس بمرارة حينما تجد النفس التي كان يلزمها أن تحرس الفردوس الذي وهبها الله إياه، إذا بها تسهر على تحطيمه. عوض حراسة الصلاح الذي وهبها الله إياه، إذا بها تصير حارسة للشر لئلا تفقده!] هكذا كان كرم سدوم، وأيضًا عمورة التي أدينت؛ خلالهما قد بث غضب الحيات المميت وقد انسكب في معصرة سدوم المملوءة شرورًا (يؤ 3: 14). وإلى يومنا هذا يوجد كثير ممن يسهرون بحماس على شهواتهم، خشية أن يفقدونها. لاحظ الإنسان الشرير الذي يسهر على الزنى متمثلاً في الشر والجشع. مثل هؤلاء الذين يسهرون على الشر يعتبرون أن الحرمان من الخطية خسارة. وفي حالات أخرى يمكن للإنسان بالمثل أن يلاحظ الذين يستمتعون بالشهوات والتفاهات أو ما شابه ذلك، قد أحاطهم دائمًا أناس من كل نوع يسهرون على مثل هذه الشرور وقد اعتبروه امتيازًا ألا يُحرموا من الشهوات أبدًا. تعبِّر العروس عن مرثاتها قائلة: قد صرتُ سوداء لأنني كنت أحرس وأرعى زوان العدو (مت 13: 25) وسهامه الشريرة، “أما كرمي فلم أنطره.” كم تشعر العروس بالأسى حينما تجد من حولها يرددون “أما كرمي فلم أنطره!” إن صدى هذه الكلمات لهو حقًا مرثاةً تجعل الأنطره ينوح بكل وجدانه كيف صارت صهيون المدينة الأمينة المملوءة عدلاً عاهرة؟ كيف تركت ابنة صهيون كخيمة في الكرم؟ كيف تُركت المدينة التي كانت يومًا ما عامرة بالناس، مهجورة؟ كيف صارت المدينة التي كانت متسلطة على المناطق المجاورة لها، تحت الجزية؟ كيف اِكدرَّ الذهب وتغير الإبريز الجيد (مرا 4: 1)؟ كيف صارت سوداء، هذه العروس التي كانت تشع بالنور الحقيقي في البدء؟ “كل هذا قد حدث لي” تقول العروس “لأن كرمي لم أنطره”. الخلود هو الكرم، هو حالة تحرر من الشهوات، تشبه بالله وتغرب عن الشر. إن ثمرة هذا الكروم هي النقاوة. هذا هو عنقود العنب الناضج البرَّاق الذي يدفئ حواس النفس ويعطيها عذوبة في طهارة. محلاق العنب هو الاتحاد والنسب للحياة الأبدية. إن النباتات التي تنمو ما هي إلا الفضائل السماوية التي ترتفع إلى قامة الملائكة. إن الأوراق تنبت وتتحرك برقة على الأغصان مع النسيم الهادئ، وزينة الفضائل المقدسة المتعددة الوجوه التي تنبت مع النفس كلاهما معًا. تقول العروس إنه رغم أنها امتلكت كل ذلك وقد أثمرت إلا أنها قد صارت سوداء: “أما كرمي فلم أنطره”، إذ نبذت الطهارة صارت في صورة مظلمة. هذا الجلد هو رداء أو الشكل الخارجي الأسود (تك 3: 21). لكن البر قد أحبني. فإنني أتقبل نصيبي السعيد إذ صرت جميلة ومضيئة. لن أفقد جمالي مرة أخرى، إذ فشلت قبلاً بسبب جهلي أن أحافظ على كرمي وأحرسه”. صرخة إلى الراعي إذ أخفقت العروس في حراسة كرمها، أحجمت عن التحدث مع بنات أورشليم. بدأت تنادي عريسها خلال الصلاة وتكشف لحبيبها عن أفكارها القلبية. ماذا تقول؟ “أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟ لماذا أكون كمقنَّعة عند قطعان أصحابك” (نش 1: 7). “أين ترعى أيها الراعي الصالح، يا من تحمل القطيع كله على كتفيك؟ لأنك إنما حملت خروفًا واحدًا على كتفيك ألا وهو طبيعتنا البشرية. أرني المراعي الخضراء. عرفني مياه الراحة (مز 22: 2). قدني إلى العشب المشبع. ادعني باسمي (يو 10: 16)، حتى أسمع صوتك، أنا خروفك، اَعطني حياة أبدية. “اَخبرني يا من تحبه نفسي“. إنني أدعوك هكذا لأن اسمك فوق كل اسم (في 2: 9). أنه لا يوصف، وغير مدرك بالعقل البشري. لذلك فإن اسمك يكشف عن صلاحك، علاقتي بك روحية. كيف لا أحبك يا من أحببتني بشدة؟ رغم أني سوداء، فقد وضعت حياتك من أجل خرافك (يو 15: 13)، أنت راعيهم. ليس لأحد حب أعظم من هذا، لأنك بذلت حياتك لتمنحني الخلاص. قل لي إذًا أين ترعى؟ عندما أجد مرعى خلاصك حينئذ أشبع بالطعام السماوي؛ الذي بدونه لا يدخل أحد إلى الحياة الأبدية. وحين أجري إليك أيها الينبوع سوف أشرب من الينبوع الإلهي الذي جعلته يتدفق ليروي كل من يعطش إليك. إذ ضُرِب جنبك بالحربة للوقت خرج دم وماء (يو 19: 34). ومن يشرب منه يصبح ينبوع ماء حيّ للحياة الأبدية (يو 4: 14). إذا رعيتني ستجعلني أستريح بسلام خلال منتصف النهار في الضوء الخالي من الظلال. لأنه لا توجد ظلال في منتصف النهار، عندما ترسل الشمس أشعتها عمودية فوق الرأس. وستجعل ضوء منتصف النهار يُريح كل من أطعمته وتأخذ أطفالك معك في فراشك (لو 11: 7). لا يستحق أحد أن يأخذ راحة منتصف النهار إلا ابن النور والنهار (1 تس 5:5). الشخص الذي فصل نفسه من ظلمة الليل إلى الفجر، سوف يستريح في منتصف النهار مع شمس البرّ (ملا 4: 2). اَخبرني، قالت العروس، أين استريح؟ أرني مكان الراحة في منتصف النهار لئلا اَبتعد وأضل بجهلي عن قيادتك الحنونة، فأعرف أين أرجع لبقية قطيع غنمك. تتكلم العروس هذا الكلام بروح الرجاء إلى الله وتكافح لكي تتعلم وتفكر كيف تحتفظ بجمالها إلى الأبد. ولكنها ليست متأكدة بعد، إنها مستحقة لصوت العريس. ولأن الله يتنبأ لها بشيء أفضل محجوز لها، وهذا هو أن مقدمة فرحها ومتعتها قد تلهب رغبتها إلى شيء أقوى. وهكذا تسبب رغبتها إلى زيادة فرحها. اِعرف نفسك! ولكن يتكلم أصدقاء العريس مع العروس عن مستقبلها الأبدي العظيم. وكانت نصيحتهم غامضة، وعبروا عنها كالآتي: “إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء، فاُخرجي على آثار الغنم واِرعي جداءك عند خيام الرعاة” [ع8]. ويظهر الغرض من هذه الكلمات مما أسلفنا شرحه. ولكن الترتيب في النص غير واضح. فما معنى “الخيمة؟ فأسلم طريقة للفهم هي ألا يجهل الشخص نفسه. يجب على كل إنسان أن يعرف نفسه كما هو، وأن يميز نفسه عن ما لا يخصه، حتى لا يجد نفسه يحتفظ بما هو غريب عنه دون وعي. ويحدث هذا للأشخاص المهملين الذين لا يراعون أنفسهم، فإنهم يهتمون بالقوة والجمال والعظمة والمركز وفائدة الثروة والغرور وضخامة الجسم ورشاقة الشكل أو أي شيء مادي يخصهم. ويتصف مثل هؤلاء الأشخاص بأنهم حراس مهملون، لأنهم ينجذبون نحو الخطأ فلا يحرسون ما هو صالح لهم. كيف يتمكن أي شخص من أن يعتني بما لا يعرفه؟ أحسن وسيلة للحفاظ على ما عندنا من خير هو أن نعرف أنفسنا. كل شخص يلزم أن يعرف من هو، وأن يقدر إمكانياته بدقة، ويُميز بين ما هو عرضي وما هو حقيقي حتى لا يجري وراء الأوهام. الشخص الذي يُعلي قدر الحياة في هذه الدنيا، ويحسب قيمتها كأمر يجب الحفاظ عليه لا يعرف أن يحدد ما له مما هو غريب عنه. كل ما هو مؤقت لا نملكه. كيف نحتفظ بما هو عابر ومؤقت؟ يوجد واحد فقط في هذا العالم ليست له طبيعة مادية وهو الله الأبدي. فكل العالم المادي يفنى من خلال تغيرات سريعة ومتتابعة. الشخص الذي يفصل نفسه عن الله الدائم إلى الأبد يضيع بعيدًا في الهاوية. من يفصل نفسه عن الله سوف يُحمل بالضرورة إلى اتباع الشيطان. ومن يملك ويهتم بالأشياء المؤقتة ويبحث عن الله يصل في النهاية إلى خيبة الأمل، ويفصل نفسه عن الله، ولا يتمكَّن من الوصول إلى أي هدف. يعطي أصدقاء العريس النصيحة الآتية: “إن لم تعرفي نفسك، أيتها الجميلة بين النساء فاُخرجي على آثار الغنم واِرعي جداءك عند خيام الرعاة“ ما معنى هذا؟ الشخص الجاهل لا يعرف قيمة نفسه، يترك قطيع الغنم ويرعى مع الجداء التي رفضها السيد المسيح ووضعها عن يساره (مت 25: 23). لذلك فالراعيا لصالح يضع غنمه على يمينه ويفصل الجداء من القطيع الجيد ويضعها على يساره. لنتعلم من أصدقاء العريس أن نكون واعين لطبيعة الأشياء ولا نحيد عن الحق بحفظ خطواتنا ناحيته. تحتاج هذه النقطة إلى دراسة متعمقة. كثير من الناس لا يعرفون موقفهم من الحقيقة. لذلك يقتنعون بالطريق التي سلكها من سبقوهم، وينقصهم الحكم الصحيح على الحق، وينقصهم المنطق السليم. ويخطئون عندما تتاح لهم فرصة الحكم على الصلاح، والنتيجة أنهم يختارون لأنفسهم القوة والمركز العالي والمادة في هذا العالم: إنهم يهتمون بما يمتلكونه من مادة بينما لا يعرفون ماذا يستفيدون بها بعد مماتهم. إن العادات البشرية ليست تأمينًا جيدًا للمستقبل لأنها غالبًا ما تقودنا إلى قطيع الجداء بدلاً من الغنم. يعطي الإنجيل فكرة واضحة عن موضوع الغنم. الشخص الذي يبحث فيما يخص الطبيعة البشرية سوف يحتقر العادات الغير منطقية، ويعتبر كل ما يُسيء للنفس أنه خطية، لذلك لا يفيدنا أن نتبع آثار أقدام الماشية التي ترمز إلى حياة من سبقونا على الأرض. وذلك لأن اختيارنا لما نعمله من الأشياء الظاهرة يظل غير واضح إلى أن نرحل من هذه الحياة، وهناك سوف نعرف من الذي تبعناه. فالشخص الذي يتبع خطوات من سبقوه ويعتبر العادات السارية في هذا العالم دليلاً له، ولا يُميز الخير من الشر إلاّ على أساس الأمر الواقع، غالبًا ما يقع في الخطأ. ويُصبح من فريق الجداء في اليوم الأخير بدلاً من فريق الخراف. لذلك يلزم أن نسمع إلى أصدقاء العروس: أيتها النفس الطيبة، بالرغم أنك كنت سابقًا سوداء، لكن إذا أردت أن تحتفظي بشكلك الجميل على الدوام فلا تقتفي آثار أقدام الذين سبقوك في الحياة. لأنك لا تعرفين إذا كانت آثار الأقدام التي تتبعينها هي مسار للجداء أو للغنم. لذلك يجب الاحتراس لئلا نوضع بعد الموت مع القطعان التي اقتفينا آثار خطواتها بجهل أثناء الحياة. “إذن لم تعرفي نفسك أيتها الجميلة بين النساء، فاُخرجي على آثار الغنم، واِرعي جداءك عند خيام الرعاة” (نش 1: 8). يمكن فهم هذه الفقرة بسهولة أكثر إذا رتبت كلماتها كالآتي: “إذا كنت لا تعرفين نفسك أيتها الجميلة بين النساء فلقد اقتفيتِ أثر خطوات القطعان، وأطعمتِ الجداء أمام خيام الرعاة”. وهنا يتوافق المعنى بالضبط مع تفسير النص كما سبق. ولكي لا تعاني من سوء الحظ، راقبي نفسك كما يُشير بذلك النص. لأن هذا هو الطريق المؤكد لحماية نفسكِ، ويمكن التحقق من أن الله قد وضعنا في مستوى أعلى بكثير من بقية المخلوقات. فلم يصنع السموات على هيئته ولا القمر أو الشمس أو النجوم الجميلة أو أي شيء آخر تراه في الخليقة. أنت وحدك قد خُلقت على مثال هذه الطبيعة التي تعلو فوق أي إدراك، على هيئة الجمال الأبدي وصورته، كما استقبلت البركات الإلهية الحقيقية، وختم النور الحقيقي، وستصيرين مثله عندما تنظر إليه. وعندما تقتدين به هذا الذي يشرق في داخلك (2 كو 4: 6) وينعكس نوره بواسطة طهارتك. أنت أعظم ما في الخليقة! لا يوجد في الخليقة ما يُقارن بعظمتك، فكل ما في السموات تحتويها يد الله، والأرض والبحر تمتلكها راحة يده، وأما أنتِ فيمكنك أن تحتوي الله العظيم. فبالرغم من أنه يمسك كل الخليقة في راحة يده إلا أنه يمكنك أن تحتوي الله. فالله يسكن فيك، ويخترقك وهو ليس محصور داخلك. إنه يقول إني سأسكن فيهم وأسير بينهم (2 كو 6: 16). إذا وعيت ذلك لا تنظر عينك إلى أي شيء مادي أرضي، لا تفتكر أن السموات عجيبة جدًا وفوق الإدراك. كيف تنظر بتعجب إلى السموات أيها الإنسان إذا كنت ترى أنك أكثر منها بقاءً؟ فالسموات سوف تزول (مت 24: 35)، وأنت تبقى في الأبدية مع ذاك الذي يبقى على الدوام. لا تتعجب من ضخامة الأرض أو اتساع المحيط فلقد عُينت سائقًا لهما كما على زوج من الخيل، وهى على ضخامتها واتساعها طيّعة لإرادتك. فالأرض تمدك بما تريده، والبحر يعطيك ظهره كحصان أليف لكي تركبه إلى حيث تريد. “إن لم تعرفي نفسك أيتها الجميلة بين النساء” فإنك سوف تنظرين بازدراء للكون كله. وباستمرارية النظر إلى الخير الروحي فسوف لا تهتمين بخطوات هذه الحياة التائهة. اِفحصي نفسك باستمرار، ولا تُخدعي بواسطة قطيع الجداء. وفي النهاية سوف لا تُعزَلي مثل الجداء، بل كالخراف في يوم الحساب وسوف توضعي عن يمين العريس، وتسمعي الصوت العذب الذي يقول للخراف الطيبة المغطاة بالصوف: “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم” (مت 25: 34). ليتنا نكون مستحقين لهذا الملكوت في المسيح يسوع ربنا له المجد إلى دهر الدهور أمين. يتبع….. القديس غريغوريوسالنيصي |
||||
16 - 07 - 2016, 05:30 PM | رقم المشاركة : ( 13533 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
بحب المسيح لها تغيرت طبيعتها من السواد
إلى الجمال الروحي السماوى سفر نشيد الأنشاد 5 . أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار كشقق (جلود) سليمان. 6 . لا تنظرن إليَّ لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني (تتطلع إليَّ بغضب). بنو أمي غضبوا عليَّ، جعلوني ناطورة (حارسة) الكروم؛ أما كرمي فلم أنطره (أحرسه). 7 . اَخبرني يا من تحبه نفسي، أين ترعى تربض عند الظهيرة. لماذا أنا أكون كمقنَّعة عند قطعان أصحابك؟! 8 . إن لم تعرفي نفسك، أيتها الجميلة بين النساء، فاُخرجي على آثار الغنم، واِرعي جداءك عند خيام الرعاة. جمال الخيمة الداخلي [منظر خيمة الاجتماع عجيب، من الخارج مغطاة بجلود ماعز وكباش، أما من الداخل مملوء بهاءً. هكذا سفر النشيد، الذي فيه يجتمع الله بكنيسته، كما في حجال العرس. من الخارج كلمات لا يدرك الأطفال في الإيمان أسرارها، أما في أعماقها فتسبحة حب زيجي لا يُعبر عنها! سفر النشيد يمثل حياة المؤمن الحقيقي، من الخارج ضعفات وألآم مُرة، ومن الداخل بهجة ونور سماوي عجيب.] المنظر الخارجي لخيمة الاجتماع المقدسة لا يُقارن بمدى كرامة الجمال الخفي داخلها. كان الغطاء الخارجي للخيمة مصنوعًا من نسيج الكتان ومن شعر الماعز (خر 26: 7)، وأيضًا لفائف حمراء (جلود) وقد أُضيفت إلى زينة الخيمة الخارجية. لم يُرَ أي شيء آخر خلاف ذلك ذو قيمة ثمينة بالنسبة للمنظر الخارجي للخيمة. أما عن داخل خيمة الشهادة فقد تلألأت بالذهب والفضة والأحجار الكريمة (عب 9: 2-5). كان هناك أعمدة وقواعد وتيجان للأعمدة، مبخرة، مذبح، سرج، تابوت، منارة، كرس الرحمة، المرحضة، والستائر في الداخل. كانت الستائر الجميلة مصنوعة من ألوان متنوعة من الصباغة الفنية: ونسيج ذهبي مطرز بأناقة بأيدي صنَّاع مهرة باللون بالاسمانجوني والأرجوان والكتَّان والقُرمز وممزوجة بكل مادة لتجعل الفسيح يلمع مثل شرائط قوس قزح. إن سبب هذه البداية (أي وصف خيمة الاجتماع) سوف يصير جليًا عندما تواصل قراءة الآتي. مرة أخرى نجد في سفر النشيد مرشدًا لنا لكل نوع من الفلسفة والمعرفة لله. نشيد الأناشيد هو خيمة الاجتماع الحقيقية حيث نجد أن ستائرها، وجلودها، وأغطية فنائها الخارجي ما هي إلا تعبيرات حب. إنها توضح الموقف بالنسبة للشيء المشتهى فيما يتعلق بالوصف الجمالي، وذكر الأعضاء الجسدية الظاهرة خارجيًا والتي تحجبها الأغطية عن العين. حقًا إن المحتويات الداخلية للخيمة لها بريق فائق ومملوءة بالأسرار. هناك رائحة البخور الذكية، التكفير عن الخطية، ومذبح الذهب الصلب الذي للتقوى، والستائر الجميلة المنسوجة بأناقة من ألوان الفضيلة المملوءة صلاحًا، أعمدة الحكمة الراسخة، وقواعد العقيدة التي لا تتزعزع، روعة الأكاليل التي تشير إلى النعمة في التدبير الروحي، والمرحضة الروحية وكل ما يمت بصلة للحياة السماوية غير الجسدية. مثل هذه الأشياء يستخدمها الناموس كمثل من خلال رموز غامضة. كل هذه الأشياء يمكن أن نجدها بطريقة ملموسة إذا ما أعددنا أنفسنا بمثابرة للدخول إلى قدس الأقداس بعد أن نتطهر من دنس الأفكار المخزية بالغسل خلال الكلمة. وإلا فإننا نحرم من رؤية الروائع التي بداخل الخيمة، لأننا قد لمسنا أفكار فاسدة على خلاف وصية الناموس أو قد قبلنا أفكارًا غير طاهرة (ا بط 3: 21). إذ أن ناموس الروح يمنع دخول مثل هذه الأشياء وأمر بأن الشخص الذي يسمح بدخول أفكار مقيتة ودنسة إلى قلبه عليه أن يغسل ضميره منها بحسب وصية موسى (عد 19: 11). أنا سوداء وجميلة ما قلناه بشأن خيمة الاجتماع يقودنا إلى التأمل في كلمات العروس التي وجهتها للعذارى: “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان” [ع5]. يليق بالمدرس أن يبدأ بداية حسنة بشرح ما هو صالح لتلاميذه. مثل هذه النفوس التي تأهلت أن تتفهم مثل هذه الرموز تتكلم مجازيًا عن الخمر. إنهم يفضلون أن يروه متدفقًا من ثدييّ العريس الروحيين كنعمة إلهية. وهكذا يقولون، “نذكر حبك أكثر من الخمر، بالحق يحبونك“. ثم تسترسل العروس في حديثها مع تلاميذها، فتتحدث عن حقيقة مدهشة عن نفسها حتى نستطيع أن نعلم مدى عظمة حب العريس لبني البشر الذي أضفى جمالاً على العروس المحبوبة من خلال مثل هذا الحب. تقول: “لا تتعجبوا أن الحق أحبني”. بالرغم من أني صرت سوداء بسبب الخطية ومكثت في الظلال بسبب أعمالي، فإن العريس قد جعلني جميلة من خلال حبه، إذ استبدل جماله بعاري (إش 53: 2-3؛ في 2: 7). بعد أن حمل دنس خطيتي، سمح لي أن أشاركه في طهارته وأضفي على جماله. حوّل منظري المنفر إلى جمالٍ، أظهر لي حبه. العروس كمثال للعذارى [تطلب العروس كأم من العذارى كبنات لها أن يتشبهن بها، فقد كانت كخيام قيدار وقد تحولت إلى ستائر هيكل سليمان العظيم… تطلب ألا ييأسن بسبب فساد حياتهن، فقد كانت مثلهن لكن بحب الحق (المسيح) لها تغيرت طبيعتها من السواد إلى الجمال الروحي السماوى.] بعد هذه الكلمات تحث العروس بنات أورشليم أن يكن جميلات مثلها. إنها تظهر جمالها بنفس أسلوب بولس الرسول الذي يقول: “لأني أريد أن يكون جميع الناس كما أنا” (1 كو 7:7). وأيضًا “فأطلب إليكم أن تكونوا متمثلين بي” (1 كو 4: 16). لذلك تعمل العروس على ألا تقع نفوس العذارى اللآتي التزمت بهن في اليأس من أن يصرن جميلات بسبب فساد حياتهن الأولى؛ بل بالأحرى يتعلمن باتباع مثل العروس فإن حياتهن الحالية إذا ما كانت بلا لوم تصير ساترًا لأسلوب حياتهم السابق (إش 65: 17؛ 2 كو 5: 17). تقول العروس إنه بالرغم من أنها الآن تشع جمالاً بسبب حب الحق لها، إلا أنها لا تنسى كم كانت سوداء في بداية حياتها بسبب فساد حياتها حينذاك. بالرغم من أني كنت سوداء فإنني الآن جميلة المنظر إذ تحولت صورة الظلام إلى جمال. يا بنات أورشليم اُنظرن إلى أمكنَّ، أورشليم العليا. إذ ما كنتن يومًا ما خيام قيدار بسبب سكنى رؤساء قوات الظلمة فيكن (كلمة “قيدار” تشير إلى الظلمة)، سوف تصرن “شقق سليمان”، أي تصرن هيكل الملك (1 كو 3: 16) وسليمان الملك يسكن فيكنَّ. نور بعد ظلام سليمان الذي يعني اسمه “سلامًا”، هو مملوء سلامًا. إن خيمة سليمان تشير جزئيًا إلى الغطاء الكلي للخيمة الملوكية. أظن إن بولس الرسول العظيم (5: 8) يحب مثل هذا التفسير حيث أنه في رسالته إلى رومية يوصينا بحب الله. بالرغم من إننا صرنا ظلمة بسبب الخطية فإن الله قد أضفى علينا جمالاً وبهاءً من خلال نعمته الفائقة. عندما يسود الليل ويكتنف الظلام كل شيءٍ نجد أنه رغم أن بعض الأشياء تصير مضيئة بالطبيعة إذ حلّ النهار فإن مقارنتها بالظلمة لا تنطبق على الأشياء التي كانت معتمة قبلاً بالسواد. وهكذا تعبُر النفس من الخطأ إلى الحق، وتتبدل صورة حياتها المظلمة إلى نعمة فائقة. انتقل بولس الرسول عروس المسيح من الظلمة إلى النور، إذ يقول لتلميذه تيموثاوس (1 تي 1: 13)، كما العروس لوصيفتها، أنه قد صار مستحقًا أن يكون جميلاً، لأنه كان قبلاً مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا ومظلمًا. ويقول بولس الرسول أيضًا إن المسيح جاء إلى العالم لينير للذين في الظلمة. إن المسيح لم يدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة، الذي جعلهم يضيئون كأنوار في العالم (في 2: 15)، بحميم الميلاد الثاني الذي غسلهم من صورتهم السوداء الأولى. نظر داود إلى العلا وبدهشة شاهد منظر المدينة المدهش (مز 86: 5) بابل مدينة الله التي قيل عنها أمور مجيدة؛ ذكرت راحاب الزانية والقبائل الأممية وصور وأثيوبيا أيضًا في أورشليم السمائية. لن يقترب أحد بعد من أهل هذه المدينة المهجورين البؤساء، قائلاً: “ولصهيون يقال هذا الإنسان وهذا الإنسان وُلد فيها” (مز 86: 5). صار البابليون من أهل أورشليم، والزانية صارت عذراء، الأثيوبيون صاروا لونهم أبيض عوض السواد وصارت صور المدينة العليا. وهكذا فإن العروس تشجع بنات أورشليم بحماس إذ تصف لهم صلاح العريس الذي يستلم النفس السوداء ويردها إلى صورة الجمال الأول بالشركة معه. إذن من كان “كخيام قيدار” يصير مسكنًا مضيئًا لسليمان الحقيقي، أي يسكن فيه ملك السلام. لذلك يقول النص: “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم“. وجميعكم الذين تنظرونني تصيرون كشقق سليمان حتى وإن كنتم قبلاً “كخيام قيدار”. أنا سبب سوادي! ثم يضيف النص بعض الكلمات الأخرى ليقوِّي أذهان الدارسين. إن سبب سوادها لا ينسب إلى الخالق، بل منبعه هو الإرادة الحرة لكل إنسان. “لا تنظرن إليّ لكوني سوداء“؛ فلم أكن هكذا منذ البدء، لأنه لا يُعقل إن العروس التي شُكلت بأيدي الله تكون سوداء. “لذلك لم أكن سوداء” تقول العروس، “لكنني صرت هكذا”. لست سوداء بالطبيعة لكن قد لحقني العار، إذ أن الشمس قد لوَّحتني فتغير لوني من اللون الأبيض البرَّاق إلى السواد: “لأن الشمس قد لوَّحتني“. ماذا نتعلم من هذا؟ يقول الرب للجموع في المثل (مت 14: 3-7) إن الزارع الذي يزرع كلمة الله لا يزرعها في القلوب الجيدة فقط بل أيضًا في الحجرية والمليئة بالأشواك؛ حتى وإن كان هذا القلب على الطريق ويداس بالأقدام فإن الرب يلقي بذار الكلمة للجميع بسبب محبته للبشرية. في شرحه لخاصية كل نفس، يقول السيد المسيح إن نفس الأمر يحدث في النفس الحجرية، حيث لا تجد البذرة لها عمق أرض وإذ تنبت حالاً تنبئ بالأثمار، ولكن إذ تشرق الشمس تحترق إذ لم يكن لها أصل تجف. تمثل الشمس التجربة. وهكذا نتعلم من السيد المسيح الآتي: الطبيعة البشرية كانت صورة من النور الحقيقي، بعيدة كل البعد عن الظلمة، وكانت مضيئة كمثل الجمال الأصلي، أي الإلهي (تك 1: 27). هكذا فإن التجربة المحرقة المخادعة تعصف بالنبتة الأولى الرقيقة التي ليس لها جذور بعد. وذلك قبل أن تبلغ هذه النبتة أيّ حالة جيدة، وقبل أن يكون لها الفرصة أن تمتد بجذورها في عمق الأرض نتيجة لرعاية الفلاح لها، يأتي العصيان سريعًا فتجف البرعمة الخضراء في الحال. إن التجربة قد جعلتها سوداء بسبب الشمس المحرقة. فإذا ما قلنا أن التجربة هي الشمس فلا يُخدع أحد إذن حيث أن الكتب الإلهية الموحاة تُعلمنا ذلك في عدة مواضع. يقدم المزمور الثاني للمصاعد (مز 120: 2) تطويبًا للرجل الذي يأخذ معونة من الرب صانع السموات والأرض، فلن تضربه الشمس في النهار (عدد 6)، وإشعياء التي إذ يتنبأ بإقامة الكنيسة (إش 60: 4؛ 66: 12) يصفها بموكب خاص. وتزداد القصة إشراقًا إذ يقول إن البنات يُحملن على الأيدي، والأطفال في مركبات مغطاة، وتحميهم مظلات من حرارة الشمس المحرقة. خلال هذه الرموز يصف إشعياء السلوك في حياة الفضيلة. يشير بحداثة السن إلى المولود حديثًا والبريء؛ أما بالمظلات فإن إشعياء يصف حاله الوقاية من حرارة الشمس التي تليق بالأرواح النقية التي تتميز بضبط النفس. تعلمنا هذه الأمثال أن الأرواح المخطوبة لله يجب أن تُحمل على الأكتاف، لا يمتطيها الجسد، بل هي تمتطي الجسد. عندما نسمع تعبير “مركبات مغطاة” نتذكر النعمة التي تمنح الاستنارة التي بها نصير أطفالاً. لا نمشي على الأرض بعد، بل نُحمل ونعيش حياة سماوية. عندما تطفأ الحرارة بمظلة الفضيلة تصير حياتنا مظللة وتصير مثل الندى. حينما لا تظلله سحابة الروح لتقيه من الحر (إش 4: 5-6). إن شمس التجارب هذه تحرق بشرة الإنسان فتصير سوداء، بغيضة المنظر، بسبب انقضاض تجربة ما على هذا الإنسان. حارسة الكروم ثم يحدثنا عن تحولنا من اللون الحسن إلى السواد: “بنو أمي غضبوا عليَّ. جعلوني ناطوره الكروم. أما كرمي فلم أنطره” [ع6]. دعني أحذر القارئ هنا ألا يأخذ هذه الكلمات بالمعنى الحرفي، بل يحاول أن يفهم المعنى الرمزي. إذا ما كان الفكر قاصرًا عن توضيح المعنى المقصود فذلك يرجع إلى ضعف الترجمة اليونانية من الأصل العبري. إن الذين يدرسون اللغة العبرية لا تواجههم مثل هذه المشكلة. إن التركيبة النحوية للُّغة اليونانية لا تقارن بأناقة العبرية، بل إنها تسبب مشاكل لأولئك الذين يتبعون القيمة السطحية للمفهوم الحرفي. هذا هو المفهوم الذي ينجلي أمامنا لهذه الكلمات على قدر فهمنا لمعانيها: إن الإنسان لم ينقصه منذ البدء شيئًا من الهبات الإلهية؛ وقد كان دوره هو أن يحافظ على كل ما أخذه من هبات الله الصالحة لا أن يجاهد ليكتسبها. ولكن خطة عدو الخير الخطيرة قد عرَّت الإنسان إذ لم يحافظ على نصيبه من الطبيعة الصالحة التي منحها له الله. إن الكلمات هنا بها شيء من الغموض إذ تقول: “بنو أمي غضبوا عليَّ. جعلوني ناطورة الكروم. أما كرمي فلم أنطره“. يعلمنا النص الكثير خلال هذه الكلمات القليلة. أول ما يعلنه القديس بولس الرسول أن جميع الأشياء من الله، ورب واحد هو الآب الذي به جميع الأشياء (1 كو 8: 6). ليس لموجود ما كيان إلا خلاله ومنه. “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 3). بما أن الله هو صانع جميع الأشياء فإذًا الكل “حسن جدًا” (تك 1: 31)، لأنه قد عمل كل الأشياء بحكمة. أعطى الله الطبيعة العاقلة نعمة حرية الإرادة، وأنعم على الإنسان القدرة على تحديد ما يريده حتى يسكن الصلاح في حياته، ليس قسرًا ولا لا إراديًا بل نتيجة للاختيار الحر. إن تمتعنا بحرية الإرادة يؤدي بنا إلى اكتشاف حقائق جلية. في طبيعة الأمور، إذا ما أساء أحد استخدام مثل هذه الإرادة الحرة فإنه بحسب كلمات الرسول يصير مثل هذا الشخص مخترعًا لأعمال شريرة (رو 1: 30). كل من هو من الله يُعد أخًا لنا، أما الذي يرفض الاشتراك في أعمال الصلاح بكامل إرادته إنما هو يبث الشر. إذ يصير “أبو الكذَّاب” (يو 8: 44)، فقد أعدَّ نفسه لمحاربة كل من اِختار أن يعيش في الصلاح. حيث كان هذا السقوط من الصلاح بداية الشر لبقية بني البشر (هذا ما حدث للطبيعة البشرية)، هكذا نجد إن من كان ذات يوم أسود اللون قد صار الآن جميلاً، ناسبًا سبب هذا السواد الظاهري إلى “بني أمهاتهم”؛ نحن نعلم أن كل شيء كان له أم واحدة هي سبب وجوده. وهكذا ما هو مدرك حسيًا في الوجود يُنسب إلى شيء آخر. إن الاختيار الحر يقسم الطبيعة البشرية إلى صداقة وعداوة، إذ أن أولئك الذين تركوا السلوك الصالح قد أعطوا مكانًا للشر بابتعادهم عن الصلاح (إن الشر منفصل تمامًا عن الخير). مثل هؤلاء يسرعون لإقامة شركة مع آخرين في الشر (إذ تقول العروس “بنو” بصيغة الجمع، فهي بذلك تشير إلى تعدد طرق الشر). إن “بني أمي” قد جعلوا الحرب في داخلي، وذلك ليس بالهجمات الخارجية ولكن عن طريق جعل النفس أرضًا للمعركة الداخلية. مثل هذه المعركة تدور في داخل كل إنسان كما يقول الرسول: “ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي” (رو 7: 23). وتضيف العروس قائلة: “إن إخوتي هم الذين شنوا عليَّ هذه الحرب الأهلية، وقد صرت سوداء بيد أعداء خلاصي؛ لقد قهرني الأعداء وأما كرمي فلم أنطره.” علينا أن نحسب الكرم فردوسًا، وقد أمر الإنسان إن يحرسه. إهماله في حراسته جعله يُطرد منه، وصار مقيمًا حيث تغرب الشمس بدلاً من مكان شروقها، لذلك فإن شروق الشمس يظهر في غروبها. “غنوا لله رنموا لاسمه. أعدوا طريقًا للراكب في القفار باسمه ياه، واهتفوا أمامه” (مز 67: 4)، حتى أنه عندما يشع النور في الظلام يتحول الظلام إلى إشعاعات مضيئة، وتعود العروس السوداء إلى جمالها الأول. إن التباين في المعنى الحرفي للنص يمكن إصلاحه إذا ما تطلعنا إلى المعنى الحقيقي: “جعلوني ناطورة الكروم” مثلما قيل: “جعلوا أورشليم أكوامًا” (مز 78: 1). والواضح في مفهوم النص هنا أن الله وليس الأبناء قد جعل العروس حارسة للكرم المقدس. إن الأبناء غضبوا على العروس، وضعوها كمظلة في كرم، كخيمة في مقثأة (إش 1: 8). وقد حرمت من الفاكهة المحروسة وذلك من خلال العصيان، فصار الناظر إليها يرثي لها، حيث إن الشيء الذي كان محروسًا بداخلها لم يعد موجودًا. وضع الله آدم في جنة عدن ليعملها ويحفظها (تك 2: 15)، قالت العروس: حينما نفخ في الله نفخة الحياة (إذ تمتع الإنسان بالحياة في الفردوس حيث أقامه الله هناك ليعملها ويحفظها)، وحولني الأعداء من حراسة الفردوس إلى حراسة كرمهم حيث عناقيده مملوءة مرارة وشجيراته تخرج غضبًا. يتبع….. القديس غريغوريوسالنيصي |
||||
16 - 07 - 2016, 05:44 PM | رقم المشاركة : ( 13534 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الفردانيّة وضلالة الكاريزماتيك
أجيبُ اليوم على سؤالَين طرحَهما صديق لي مُستفسِرًا: أوّلاً، لماذا يدعو المسيحيّون التقليديون الكاهنَ بالأب؟ وثانيًا، لماذا نُصلّي للقدّيسين (أي لماذا لا نتوجّه بأنفسنا إلى الله)؟ إنّ صديقي مُطَّلعٌ على البروتستانتيّة المواهبيّة المعاصرة (الكاريزماتيك)، لذا أجيبه بالتالي: يرتبط السؤالان بعضهما ببعض بأشكالٍ عدّة. لقد أصبحنا اليوم فردانيّين، فصار من الصعب أن نفهم ما يقوله بولس الرسول حين يَصِفُ الكنيسةَ بأنّها جسدٌ واحدٌ، يَعتمدُ كلُّ عضوٍ فيه على الآخر بالكلّية. نظنّ أنّ جميع الناس (الأصحّاء والطبيعيّين) قد وَصلوا إلى الدرجة ذاتها من معرفة الله والأمور الروحيّة، وأنّنا لا نحتاج إلى الاعتماد على غيرنا لنعرف الله جيّدًا. ثقافتنا علّمتنا أن نفكّر على هذا النحو، ويمكننا أن نُرجِع التطوّر الفلسفي لهذا الفكر إلى شخصٍ اسمه “ايمانويل كانت Kant” (توفي 1804). فبالنسبة له، إذا كان أمرٌ ما صائبًا ومنطقيًّا وحقيقيًّا، يكون صائبًا ومنطقيًّا وحقيقيًّا بالنسبة للجميع. ويُسمّى هذا الفكر بـ“الحديث“، ما يعني أنّه من نتاج مفكّري عصر الأنوار في أوروبا. أمّا وقد دخلنا في عصر “ما بعد الحداثة“، فقد بدأ المجتمع بالاعتراض على بعض هذه الافتراضات المتعلّقة بالمعرفة، بخاصّة المعرفة الروحيّة. إلاّ أنّ الإنجيليّة والبروتستانتيّة منطبعتان بعصر الأنوار، وبالتالي مقاربةُ البروتستانتيين لله فردانيّةٌ للغاية، مقارنةً بمسيحيّة ما قبل الحداثة التي كانت أكثرَ شراكةً في هذه المقاربة. لنأخذ مثلاً القدّيس بولس الذي يعتبر علاقته بأولاده الروحيّين بمثابة علاقة أبٍ وأبناء، ويدعو القدّيس تيموثاوس بولده (2 تيم 1: 2)، ويقول للكورنثيّين إنّه أبوهم لأنّه “وَلدَهُم” في الإيمان، ولهذا وَجبَ أن يصغوا إليه (1 كو 4: 15). إضافةً إلى ذلك، يطلب بولس الرسول باستمرارٍ صلواتِ مَن يكتب إليهم، ويؤكّد لهم بتواترٍ أنّه يصلّي من أجلهم. وكان هذا الفعلُ ذا قيمةٍ عند مسيحيّي عصرِ ما قبل الحداثة، فقد كان من المهمّ أن يصلّي الأبُ الروحيُّ (أو الأم الروحيّة) من أجل الشخص، إذ إنّ هذا الأخير لا يمكنه أن ينمو أو يُحفَظ من الأعداء الروحيّين من دون تلك الصلوات. وانطلاقًا من هذا الفكر، فإننا عندما ندعو أحدَهم بالأب، نعلن أنّ هذا الشخصَ أيقونةٌ عن الآب أو ممثّلٌ عنه، أو أنّه شخصٌ يحمل إلينا الآبَ السماويَّ و/أو يحملنا إليه. وينطبق المبدأ ذاته على لقب “المعلّم” أو “السيّد” أو “الطبيب” (والذي يعني المعلّم باللاتينية). هناك معلّمٌ واحدٌ فقط، وهو الله (وهو أيضًا الأب وحده، والسيّد وحده). لكنّ الله بنى جسدَه، أي الكنيسة، على هذا النحو، ليعلّمَ بواسطة معلّمين بَشَر. إذًا، عندما ندعو إنسانًا بالمعلّم، فإننا نعلن أنّ هذا المعلّم البشريّ يأتينا بتعليمٍ من المعلّم السماوي، أو يحملنا إليه بطريقةٍ ما. وبما أنّ الله لا يتراجع عن عطاياه ودعواته (أي أنّه لا يسحبها)، وبما أنّ لا أحد يموت في المسيح، حتى ولو مات، لأنّ الجميع يعيشون في المسيح، فقد اعتاد الأبناء والبنات الروحيّون في الكنيسة اللجوءَ إلى آبائهم وأمهاتهم ومعلّميهم الروحيّين، طالبين إرشادهم ومساعدتهم وصلواتهم. يمكننا طبعًا أن نتوجّه إلى الله بأنفسنا، لكن لمَ لا نطلب أيضًا صلوات هؤلاء الرجال والنساء القدّيسين الذين أثبتوا، عبر قداسة حياتهم وتجلّيات النعمة فيها، أنّهم موهوبون، ومختارون من الله ليعملوا ويشفوا ويرشدوا، ويساعدوا بسبلٍ متنوّعة المبتدئين في الحياة الروحية؟ في الواقع، عندما نعتقد أننا ذاهبين إلى المسيح بمفردنا، قد نقع في نوعٍ من الضلالة من دون أن نعيَ ذلك، وهذا ما يجعلها ضلالة. تكمن الضلالة في ظنّي أنني قادرٌ بمفردي على تمييز ما يقوله لي الله أو ما يصنعه من حولي. إنها ضلالةٌ لأنّنا ننسى أنّنا سبق وكنّا على خطأ في مواقفَ كثيرة؛ إنها ضلالةٌ لأنّنا نقيس مدى كوننا على حقّ ومدى سماعنا الله استنادًا إلى خبرتنا غير الموضوعية، حتى وإن تضمّنت هذه الخبرة بعض الأحداث العجائبية أو الاستعلانات أو الخبرات. يعطي يسوع تحذيرًا مخيفًا عندما يقول في الأناجيل (أكثر من مرّة) إنّ الكثيرين سيدَّعون في دينونةِ اليوم الأخير أنّهم عرفوه، لأنهم تنبّأوا أو صنعوا “أعمالاً عظيمةً” باسمه، بينما هو سيقول إنّه لا يعرفهم. ويحذّرنا آباء الكنيسة وأمّهاتها مرارًا وتكرارًا من أخطار الروحانيّة القائمة على الإرشاد الذاتي. وقد قيل إنّ مَن يكون المرشدَ الروحيَّ لنفسه فهو يملك أحمقًا كمرشدٍ روحيّ. وهناك وجهٌ آخرٌ لهذه المسألة: التواضع. من الصعب أن نقتني التواضع عندما نتّخذ قراراتٍ روحيّةً بمفردنا. أقول إنّ “الروح يقودني“، بينما أكون أنا مَن يقرّر ما يقوله الروحُ وكيف أفهمه وأطبّقه: أي ما زلتُ أنا المسؤول. وإذا ما اختبرتُ، بنعمة الله، إرشادًا عجائبيًّا أو استعلانًا قويًّا، قد أقول إنّ هذا كلّه من عمل الله، لكن يختبئ في عقلي اعتقادٌ بأنّ “عمل الله” يتوّقف كثيرًا عليّ، أي على ما أميّز وأحسّ وأرى وأشعر. ولهذا لا يرتاح الكثير من المسيحيّين التقليديّين إلى أسلوب الكاريزماتيك في التكلّم عن العطايا الروحية، والتعليم عن كيفية اختبارها وعملها فيهم. أعي أنّ العديد من أتباع الكاريزماتيك أشخاصٌ جيّدون، حتى إنهم أشخاصٌ قدّيسون يبذلون أقصى جهدهم ليعلّموا استنادًا إلى خبراتهم الخاصّة وفهمهم للكتاب المقدس. إلاّ أنّ ذلك يبدو، انطلاقًا من منظور المسيحيّة في عصر ما قبل الحداثة، وصفةً من شأنها التلاعب والضلالة، ما يؤدي إلى الكبرياء الروحي أو الاكتفاء الذاتي، وكأنّه لا حاجة سوى “إليّ أنا وإلى الروح القدس“. وهذا يُخالف تعليم العهد الجديد والمسيحية برمّتها حتى وقت قريب (من الناحية التاريخية). كلاّ، نحن نحتاج إلى صلواتِ الجسد كلّه وإرشاده وتعليمه، وإذا ما اختبرتُ نجاحًا شخصيًّا أو إرشادًا أو كشفًا عجائبيًا، فهذا بفضل صلوات أبي الروحي، وأولادي الروحيّين، وملاكي الحارس، وجميع القدّيسين الذين يشاهدونني ويصلّون من أجلي. أمّا عندما أسقط، أو تفوتني الإشارة، أو أعتقد أنّ الله يقول شيئًا هو في الواقع لا يقوله، فهذا لأنني اتّكلت على تمييزي الخاصّ، وعلى قدرتي على الإصغاء والمعرفة والفهم. يَصعُب كثيرًا على الإنجيليّين والكاريزماتيك المعاصرين أن يفهموا هذه الفكرة، لكنّ النزعة الثقافيّة الحاليّة إلى فكرِ ما بعد الحداثة تساعد قليلاً. سمعتُم مثلاً عن النظريّة القائلة إنّ الفراشة عندما تخفق جناحيها في ناحيةٍ من العالم، قد تسبّب عاصفةً في الناحية الأخرى (أي أنّ العالم متّصل بطريقةٍ لا يمكننا إدراكها). ويعلّموننا أيضًا أنّ الكائنات الحيّة مرتبطةٌ بعضها ببعض بأشكالٍ لا يستطيع علمُ الأحياء وحده أن يفسّرها، وأنّ الأجزاء الأصغر حجمًا (الذرّات) والأجزاء الأكبر حجمًا (الكواكب) تعمل وفق قوانين لا تنطبق على الأجزاء الفيزيائية التي فيما بينها. لقد أدّى فكرُ عصرِ ما بعد الحداثة إلى إعادة اعتبار حكمة “الشيوخ” التي كانت في مجتمعاتِ ما قبل الحداثة، وإلى الوعي أنّ مقاربة الواقع بطريقةٍ فردانيّةٍ علميّةٍ منطقيّةٍ بحتة، لا تنطبق على العديد من المجالات، بخاصّةٍ مجالَي العلاقات الإنسانيّة والروحانيّة. وهناك بالطبع جانبٌ سلبيٌّ لهذه العودة، يكمُن في اعتبار المسيحيّة “الحديثة” شرًّا، لأنها مرتبطةٌ بما تسبَّب به التوسّع والاستعمار الأوروبي من قبائح وحماقات، في آخر 300 أو 400 سنة.* إلاّ أنّ الأرثوذكسية ليست المسيحيّة الحديثة، بل هي مسيحيّة ما قبل الحداثة. وهي تعتبر أنّنا نحتاج إلى “قريةٍ” لتنشئةِ إنسانٍ مسيحيّ، لا مجرّد قرية أشخاصٍ يعيشون في الزمان والمكان ذاتهما، إنّما قرية تضمّ جميع آبائنا وأمّهاتنا الذين سبقونا. عندما نذهب إلى الله، نذهب مع الكلّ، لا بمفردنا. وهنا يفيدنا أن نطّلع على تصوير الملكوت في كتاب الرؤيا. الملكوت مكانٌ مكتظٌّ. في الملكوت، لست وحدي مع يسوع، بل هناك طغماتُ الملائكة والشهداء والشيوخ و“بحرٌ” من كلّ قبيلةٍ ولغة. أظنّ أنّ فهمنا لله، كنتيجةٍ للحداثة، بات ضيّقًا، فإننا لا نستطيع أن نتخيّل إلهًا يكون على علاقةٍ مباشرةٍ مع الشخص كجزءٍ من الكلّ. نخاف أن نضيع إن كنّا من ضمن الكلّ، عضوًا منهم، وبحاجةٍ إليهم. وأظنّ أنّنا نخاف أن نخسر شخصيّتنا إذا كنا جزءًا من الجماعة. إلاّ أنّ الأمر ليس كما نعتقده، فكما أنّ الله كائنٌ في ثلاثة أقانيم، كذلك خُلقنا نحن البشر ليكتمل شخصنا فقط عندما نكون واحدًا مع جسد الجماعة في المسيح. الله هو أبونا، ونحن أولاده. الله هو الزوج ونحن الزوجة. الله رأسنا ونحن جسده. إنّ علاقة الله بكلّ واحدٍ منّا حميمةٌ وشخصيّة، لكنها كذلك مع الإنسان الذي يعتمدُ على الكلّ ويرتبط عضويًا بهم. نحن متّصلين، بالله وبعضنا ببعض. تكتمل علاقتي مع الله عندما أكون جزءًا من الجماعة، لا جزءًا مستقلاً (كالبرغي في الآلة)، بل جزءًا عضويًّا (كالكِلية في الجسد)، حيث حياة كلّ عضوٍ تسري أيضًا في الأعضاء الأخرى. ولذلك، دعوتُنا أحدهم بالأب أو بالمعلّم هي إقرارٌ بأنّ الأبَ والمعلّمَ الوحيد يأتي إلينا في رجالٍ ونساءٍ ومن خلالهم، هؤلاء هم آباؤنا وأمّهاتنا ومعلّمونا، يحملوننا إلى الأب والمعلّم الوحيد. كذلك، إنّ صلاتنا للقدّيسين ومعهم هي إقرارٌ بأننا لسنا وحدنا، وبأننا لا نستطيع أن نبقى بمفردنا ونكون في الله في الوقت عينه. إنّ الأمهات والآباء والمعلّمين الذين يعيشون في هذه الحياة الوقتيّة، يصلّون لي ويساعدونني ويرشدونني إلى المسيح، وهم يستمرّون بالصلاة لي وبمساعدتي وإرشادي إلى المسيح بعد أن يتركوا هذا العالم الساقط. الفرق الوحيد هو أنّهم يصيرون في الملكوت، لا ينهكهم الجسد أو تشتّتهم الأهواء أو يحدّهم نقصُهم. يكونون في المسيح بالكلّية، وحيثما يكون المسيح يوجدون، ومهما يفعل يفعلون فيه. * الجدير بالذكر أنّ المسيحيّة (الحديثة) تسبّبت بكلّ قباحات هذه الحقبة وحماقاتها. والأهمّ من ذلك هو أنّ العديد من التطوّرات في حقول الطبّ وحقوق الإنسان والاهتمام بالمهمَّشين، والتي كانت من نتاج الفكر المسيحي وتحفيزه، يتمّ نزع جذورها المسيحيّة عندما يتم التكلّم حاليًّا عن أصولها. المتقدّم في الكهنة مايكل جيليس |
||||
16 - 07 - 2016, 05:45 PM | رقم المشاركة : ( 13535 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الــمــال
لا شك في أن المال يشكّل في عصرنا الحاضر عنصراً أساسيًّا. هذا إلى حدّ قياس الإنسان وفقاً لمقتنيّاته الماديّة. أليس نافذو السياسة والحكم من المتمولّين أوّلاً. هذا ما يخلق الثورات في النهاية. لماذا؟ لأن المال سلطة ونفوذ، ما يغذي شهوات البشر. المال يُستخدم كوسيلة ولا يعبد. الله وحده معبودٌ. نعم، الإنسان بحاجة إلى المال من أجل تأمين عيش كريم. هذا أمرٌ شرعيّ. لكنه لا يمنعنا من أن “نطلب أوّلاً ملكوت الله”. لماذا هذا الجشع اليوم ليس فقط وراء المال بل أيضًا وراء الأكل والشراب واللباس؟ هل قيمة الإنسان هي فقط في ظواهره؟ غالباً ما نرضخ لمتطلّبات المجتمع فتصبح هكذا عبوديّة ما العمل؟ أن نؤمن بالله ونحيا بحسب إيماننا بأن الله هو ضمانتنا لا المال ولا الضمان الصحيّ ولا الضمان الإجتماعي. شركة الضمان لا تكفل حياتنا بل شركتنا مع الله في تطبيق وصاياه. “ليس ملكوت الله أكلاً وشراباً بل هو برّ وسلامٌ وفرحٌ في الروح القدس” (رومية 14: 16). * * * ” لا تهتموا لأنفسكم…” هذا لا يعني لا تعملوا، لا تشتغلوا. يقول الرسول بولس إلى تيموثاوس “ان كان أحدٌ لا يعتني بخاصته ولا سيّما أهل بيته فقد أنكر الإيمان وهو شرّ من غير المؤمن” (1 تيموثاوس 5: 8). القصد من كلام السيّد هو أن نركز على العمل الداخلي. الكنز الحقيقي هو في الداخل، هو في القلب. الإنسان قيمته في قلبه. أنت مالك في داخلك محبّة الله لذا تسعى، على الرغم من أعمالك الماديّة والمهنيّة، لا بل من خلالها أيضًا تسعى إلى محبّة الآخرين. * * * الإنسان يتأرجح بين محبّة الله ومحبّة المال. هذا جهاد الحياة كلّها عند المؤمن. أنت إنسان يملكك روح الله، “الإنسان الروحي يحكم في كلّ شيء ولا شيء يحكم فيه” (1 كور 2: 15). تهتمّ بكلّ شؤون العالم، تأكل تشرب تقتني المال، لكنك تبقى متطلّعاً على الدوام إلى وجه المسيح، آمين. أفرام، مطران طرابلس والكورة وتوابعهما |
||||
16 - 07 - 2016, 05:47 PM | رقم المشاركة : ( 13536 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
عودة البصر للمكفوفين الصهيونية المسيحية بعيون فلسطينية
تنويه: الصهيونية المسيحية تتمثل بالجماعات المتجددة والبروتستانتية. كيف ينظر الفلسطينيون إلى الصهيونية المسيحية؟ سوف أظهر في هذه المقالة أن المسيحية الصهيونية هي أكثر من مجرد معتقدات لاهوتية حول إسرائيل واليهود – إنها لاهوت إمبراطوري. وهي اليوم أيضا – شاءت أم أبت – حركة سياسية. اسمحوا لي أن أبدأ بتعريف قصير للصهيونية المسيحية كما يحدده روبرت سميث: “الصهيونية المسيحية هي عمل سياسي، يتم من خلال التزامات مسيحية واعية، للمحافظة على سيطرة اليهود على منطقة جغرافية تضم الآن إسرائيل وفلسطين.” أريد أن أثبت أن المسيحية الصهيونية هي لاهوت إمبراطوري. وإن الأفكار التي سأعرضها هنا، هي نتيجة سنوات من التعامل مع المسيحيين الإنجيليين حول قضية فلسطين وإسرائيل. وتمثل الاقتباسات التي سأستخدمها، ما سمعته منهم على مر السنين. وإني لا أهدف إلى مهاجمة الأفراد، وإنما إلى تحليل المعتقدات والمواقف. الدولة المختارة! يؤكد المسيحيون الصهاينة أن اليهود هم شعب الله المختار اليوم، ويصحب هذا الاختيار الأهلية والحق الخاص؛ وهذا ليس مجرد اعتقاد لاهوتي حول الشعب اليهودي. وإن المزج الذي يجري بين دولة إسرائيل الحديثة وبين اليهود وإسرائيل التوراتية، يعتبر أي معارضة لدولة إسرائيل أو الاحتلال معاديا لليهود، وتصبح ضمنا معاديا لله! ويرى جويل روزنبرغ، -وهو أحد المحللين الذين يظهرون بصورة دائمة على شاشة محطة “فوكس نيوز”، ويعتبر من الكتاب “الأكثر مبيعا” حسب جريدة نيويورك تايمز،- أنه إذا تحولت الولايات المتحدة ضد إسرائيل، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تهديد وجودي لمستقبل الولايات المتحدة. ويعتمد روزنبرغ في ذلك مثل العديد من الآخرين على سفر التكوين: وَقَالَ الرَّبُّ لإبْرَاهيمَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ.” (تكوين 12: 1-3). وما يدهشني هو أن هذه الآيات من سفر التكوين لا تذكر إسرائيل في الواقع، وإنما تذكر إبراهيم. وتأتي هذه الآية في وسط الوصاية المجيدة لإبراهيم لكي يصبح نعمة للأمم – وهي الوصاية التي تحققت في نهاية المطاف في يسوع المسيح – الذي هو من نسل إبراهيم وفقا للقديس بولس الرسول- عندما مات على الصليب. فكيف تحول هذا الوعد المجيد إلى وصفة للسياسة الخارجية اليوم نحو دولة علمانية؟ العدالة النسبية تصبح العدالة الإلهية في مثل هذا المنطق نسبية أو يمكن تأهيلها – وهي نسبية حسب افتراضات المسيحيين الصهاينة. وعلى هذا النحو، يقول دانيال جستر، وهو رجل دين يهودي مسياني: “إن رفض الفلسطينيين الاعتراف بما يقوله الله عن الشعب اليهودي، وعلاقتهم بأرض إسرائيل، سينتج عنه المعاناة. وتتطلب العدالة في ما يخص الأرض، أن يكون هناك خضوع لما أعلنه الله عنها. فإذا كان الفلسطينيون لا يعترفون بوعد الله، فهم غير عادلين بصورة أساسية ورسمية، ويقاومون الله، ويفقدون بذلك حقوقهم في الأرض.” ولا شك أن هذا الاقتباس يتحدث عن نفسه. السيطرة على الرواية إن الصهيونية المسيحية قوية وفعالة في السيطرة على الرواية. وتأخذ اللغة التي تستخدم هنا أهمية خاصة. فالفكرة التي تقول أن اليهود “قد عادوا” إلى “أرضهم” تمثل خير مثال على ذلك. وبناء على ذلك، اذا كان هناك من ولد في روسيا اليوم، ويمكن أن يثبت أن جدته يهودية، سيكون لديه الحق في العيش في هذه الأرض؛ أكثر من اللاجئين الفلسطينيين الذين ولدوا هنا، والذين يمكن أن نتتبع جذورهم في هذه الأرض منذ مئات، إن لم يكن آلاف السنين. يمكننا أيضا أن نتحدث هنا عن دور علم الآثار والتاريخ، حيث يتم تصوير فلسطين “بأنها أرض جرداء، خربة، وخالية تقريبا، وتنظر أن تتحول إلى أرض يسكنها شعب إسرائيل”. وهناك أيضا معايير مزدوجة عندما يتعلق الأمر بالواقع المعاصر. ففي كل مرة تقريبا أتحدث فيها إلى مجموعة مسيحية صهيونية، يتم توجيه السؤال التالي لي: “هل تعترف بحق إسرائيل في الوجود؟” ومن المدهش جدا بالنسبة لي، أن يطلب مني أنا الذي تم احتلال أرضه، أن اعترف بحق المحتل في الوجود! فهل تعترف إسرائيل بحقي في الوجود؟ وهل أنتم كمسيحيين تسعون للدفاع عن إسرائيل، تعترفون بحقي في الوجود، والحق في تقرير المصير؟ وينطبق الشيء نفسه في حق الدفاع عن النفس. إذ يصر المسيحيون الصهاينة على أن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها. ولكن هل يحق للفلسطينيين الدفاع عن أنفسهم عندما تتم مصادرة أراضيهم، أو عندما يقوم المستوطنون بحرق حقولهم أو منازلهم؟ نزع الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين إن اللاهوت الذي يعطي امتيازات لمجموعة من الناس، يؤدي إلى التحيز وحتى التعصب. وكثيرا ما ينظر لاهوت المسيحية الصهيونية إلى الفلسطينيين باعتبارهم غير ذات صلة، ويحتلون مرتبة ثانوية بالنسبة لمصلحة إسرائيل. ومنذ البداية، وحتى قبل ولادة الصهيونية، قال اللورد شافتسبري الذي كان رئيسا لجمعية لندن لترويج المسيحية بين اليهود (تعرف الآن باسم : (CMJ “إن دولة بدون شعب هي لشعب بدون دولة”. وكثيرا ما كنت أتساءل، ألم يكن اللورد يعرف أن هذه البلاد فيها شعب؟ أنا متأكد من أنه كان يعلم. ولكن كما ترون، إن الأمور هنا تصبح غير ذات صلة. وهناك أمر أكثر أهمية، وأعتقد أن ذلك يعكس عقلية استعمارية نموذجية –وأجرؤ على القول بأنه يعكس عقلية مسيحية؛ وهو أن هناك شعب يعيش على هذه الأرض ولكن يمكن إزالته بسهولة. الخوف إن موقف التهميش هذا يصبح لاإنسانيا – ويستخدم هذا التهميش اللاإنساني من أجل خلق الخوف. إن الصهيونية المسيحية تغرس الخوف فينا اليوم! فقد أصبح من السهل جدا تصوير العرب والمسلمين بأنهم “العدو”؛ نحن جميعا بحاجة إلى الوحدة من أجل القتال ضد هذا العدو. وينقسم العالم إلى “الأخيار” و” الأشرار”. وقد أظهر الاضطهاد المأساوي للمسيحيين في الشرق الأوسط، فرصة مثالية للبعض من أجل تحقيق بعض المكاسب السياسية. ولهذا السبب يناسب الكثير من الناس في الغرب توصيف الصراع في فلسطين باعتباره صراعا دينيا، حيث يصبح الأخيار هم أصحاب التقليد اليهودي المسيحي (نحن)، والأشرار هم المسلمون (ومنهم الفلسطينيون). ويبرر هذا في المقابل أفعال إسرائيل على أنها حرب ضد الإرهاب، لا بل أنها حرب من أجل الله! التقليد اليهودي المسيحي والتفوق الثقافي واحدة من العبارات التي نسمعها كثيرا اليوم في العديد من الدوائر المسيحية، هي الإشارة إلى التقليد “اليهودي المسيحي” أو القيم اليهودية المسيحية. ليس هناك ما يكفي من الوقت للنظر في أساس هذه العبارة، ولكنها تبدو للوهلة الأولى بأنها تأكيد على الجذور المشتركة للمسيحية واليهودية. ومن الواضح أن مثل هذا التأكيد، كان حاجة من أجل الرد على سنين من العداء لليهودية. لكن المشكلة، هي أن يستخدم هذا المصطلح اليوم في مثل هذه الطريقة التي تشير إلى التفوق والتحيز. أنا مقتنع بصورة كبيرة بأن استخدام هذا المصطلح اليوم، قد جاء من أجل الإشارة إلى التفوق الثقافي. لا بل كما يقول القس متري الراهب “يستخدم هذا المصطلح لاهوتيا وضمنا ضد الشعب الفلسطيني، وضمن سياق صراع الحضارات ضد الإسلام”. اللاهوت “السليم” لا يوجد لدى الصهيونية المسيحية مكان لوجهات نظر معارضة. فإما أن تكون مسيحيا صهيونيا أو معاديا للسامية! ليس هناك أرضية مشتركة. ونتيجة لذلك، يجب على المسيحيين الفلسطينيين أن يوافقوا على اللاهوت المسيحي الصهيوني، وإلا فإنهم يعتبرون زنادقة أو معادين للسامية! ويعكس هذا مرة أخرى، عقلية التفوق والعقلية الاستعمارية. وأرجو أن لا أفهم بصورة خاطئة. نحن نرفض وندين أي لاهوت يعلم أن الله يرفض الشعب اليهودي اليوم، أو أن هذا الشعب ملعون، أو أن يلام يهود اليوم عن موت السيد المسيح؛ ولكن أن يطلب منا أن نصادق على معتقدات المسيحية الصهيونية عن الشعب اليهودي والأرض، من أجل الحصول على الحق في الاحتجاج على 68 عاما من المأساة، فهذا غير مقبول! نظرة بديلة: مملكة الوداعة إن موضوع “مؤتمر المسيح على الحاجز” هو “الإنجيل في مواجهة التطرف الديني”. ولهذا يجب علينا أن نعطي جوابا من الإنجيل ورسالة من الإنجيل. إن لاهوت المسيح – ومملكته اللاهوتية – هي التضامن مع المهمشين! من هم أصدقاء السيد المسيح؟ من كان يحترم منهم؟ أين كان يعظ غالبا؟ إن هذا الأمر مهم! لم يترك المسيح الخوف يمنعه من الاجتماع مع الناس – حتى المرفوضين والمحتقرين. إن ما أدعو إليه المسيحين اليوم، هو أن يستعيدوا أسلوب حياة السيد المسيح وأخلاقه. إذا كان لنا أن ندعي أنه هو الرب – وأن نعيش ونعلن ما أسميه “مملكة الوداعة”. ربما كان أفضل مكان يمكن أن نجد هذا، هو في العظة على الجبل، وفي التطويبات على وجه الخصوص. وأقترح أن نقرأ تطويبات السيد المسيح كوسيلة في تحدي الإمبراطورية. أنظروا على سبيل المثال الصفات التي يقوم يسوع بتقديمها لشعب المملكة، وكيف أن هذه الصفات تختلف جذريا عن صفات الإمبراطورية: “الفقراء في الروح غير المستكبرين. الحزانى وليس أولئك الذين يعيشون في رخاء. الودعاء وليس الأقوياء وبناة الإمبراطورية. أولئك الجياع والعطاش إلى العدالة وليس إلى المال والراحة والقوة أو الشهرة. للرحماء وليس الأقوياء أو قساة القلوب. أصحاب القلوب النقية وليس أولئك الذين يسعون إلى مجتمع “نقي”. لصانعي السلام وليس إلى غير مبالين للمعاناة! للمضطهدين من أجل العدالة وليس الذين يقيمون في أماكن مريحة ولا يقولون الحقيقة.” تختلف طريقة يسوع، وطريقه مملكته جذريا عن طريقة الإمبراطورية وطريقة الصهيونية المسيحية. قال يسوع: “طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض”. الودعاء – الضعفاء – يناصرهم الحق والمحبة – يرثون الأرض – أي أرض. هذا هو الإنجيل في وجه السلطة والتطرف. آمين. بقلم الدكتور منذر اسحق |
||||
16 - 07 - 2016, 05:49 PM | رقم المشاركة : ( 13537 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
الهراطقة: شفاة غير مشفيّين
ليست الهرطقةُ مجرّدَ خطأ فكريّ، وليس الهراطقةُ مجرّد مخطئين في إيجاد الحقيقة، فما يحصل في حالتهم أكثر عمقًا وأهميّة. هُم يعرفون الكتاب المقدّس حرفيًّا، وغالبًا بشكلٍ باهر، لكنّهم يفتقدون إلى أمرٍ أساسيّ، وهذا ما يميّزهم بشكلٍ جوهريٍّ عن الآباء: فَهُم يفتقدون إلى خبرة الروح القدس التي يملكها الآباء، وإلى الاستنارة الداخلية للروح، وذلك لأنّهم لم يسلكوا في مسيرة الكنيسة الشفائيّة. خارجيًّا، قد يكونون بلا عيبٍ من الناحية الأخلاقية، لكنهم لا يملكون الروح في داخلهم. لذلك لا يعاينون ما يعاينه الآباء في الروح، ولو كانوا متقدّمين بشكلٍ مدهشٍ من الناحية الفكرية. في الواقع، لا يخفى على أحدٍ أنّ جميع الهراطقة العظماء أبهروا العالم بمعرفتهم الواسعة و“حكمتهم“، وما زالوا يفعلون ذلك اليوم! إلاّ أنهم لا يملكون قلبًا نقيًّا، ولم يتحوّلوا إلى هياكلَ للروح القدس. إنّ الهرطقة تفترض غيابًا للعلاج الشفائي أو ضعفًا فيه. ولهذا السبب، لاهوتُ الهراطقة عقلانيٌّ، هو فرضيّة علميّة منطقيّة ولعبة قياسيّة. ما يفتقد إليه الهراطقة هو خبرة التألّه التي زيّنت الآباء. لهذا لا يستطيعون أن يميّزوا الحقّ من الخداع في المواقف الدقيقة، إذ ليسوا قادرين على رؤية الحقّ في داخلهم، ولا يعرفونه في قلوبهم. من دون مركبةِ “الصلاة الذهنية“، لا يمكنهم الوصول إلى “التمجيد“، الذي هو كشف “الحقّ كلّه” عبر الروح القدس. وهنا تظهر مأساة الهراطقة كلّهم، بخاصّة رجال الدين الهراطقة. فهؤلاء يريدون أن ينيروا وهم غير مستنيرين، يريدون أن يشفوا وهم غير مشفيّين، يريدون التكلّم باللاهوت وهم ملحدين (أي يعيشون بعيدًا عن الله الحقيقيّ). يمكننا تشبيه الهراطقة بالدجّالين والنصّابين المملوئين غشًّا. إلاّ أنهم أسوأ منهم: إنّهم أطباء يقدّمون علاجًا شفائيًّا مميتًا، ويقتلون الناس من الأبدية.هم صيادلة يبيعون أدويةً مسمَّمةً وفاسدةً وخطيرةً على الصحّة العامّة، لا على المستوى الجسديّ، بل على المستوى الروحيّ والأبديّ. المتقدّم في الكهنة الأب جورج ميتالينوس |
||||
16 - 07 - 2016, 05:50 PM | رقم المشاركة : ( 13538 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
في الحقيقة: هل يوجد أكثر من واحدة؟ عندما كنت مراهقًا، علّمني كاهنٌ ميثودي أنّ هناك، إضافةً إلى المسيحية، طرقًا عديدة تؤدي إلى الله. كان يشبّهها بالطرقات التي نتسلّق عبرها الجبل: فبينما يدور بعضها حول الجبل بشكلٍ متعرّج، يؤدّي الطريق المسيحي مباشرةً إلى القمّة. وقد اعتقدتُ بهذه الفكرة لفترةٍ طويلة، من دون أن أدرك كم كانت تُضعف إيماني. أما الآن، فألاحظ كيف جعلتني أجول في سعيي الروحي باحثًا عن الطريق القويم. فطريقة التفكير هذه، إضافةً إلى القول إنّ الديانات كلّها واحدةٌ وتعلّم قيمًا متشابهة، تنتقص من إيمانك بحقيقة يسوع المسيح، لأنّك إن ظننتَ أنّ ما تؤمن به هو واحد بين خياراتٍ عدّة، لن تستطيع الاعتقاد به بشكلٍ وثيق. غالبًا ما يعلّموننا أنّه من التكبّر القول إنّ إيماننا هو الحقيقة المطلقة. بالنتيجة، يقول الآخرون الأمر ذاته عن إيمانهم. إلاّ أنه من الكبرياء أيضًا أن يدّعي أحدُهم وجود سبلٍ عديدة، فهو بذلك يحسب أنّ رؤيته أكبر وأرفع من رؤيتك، والحقّ في إيمانه أعظم وأسمى. لا يجب أن نخجل من المجاهرة بأنّ ما نعرفه هو الحقّ. يسوع المسيح هو واقعٌ تاريخي، وطبيعته الإنسانية الحقيقية يصعبُ استيعابها والإيمان بها، فقد اختلفوا حولها على مدى سبعة مجامع مسكونية، وكان التشديد دومًا على أنّه الله المتجسّد. هو في الوقت ذاته إنسانٌ كاملٌ وإلهٌ كامل، لا مجرّد إنسانٍ تقي أو نبيٍّ موقّر، والمسيحيّون وحدهم يؤمنون بهذه الحقيقة. وإننا، عبر فهمنا لهذا السرّ الذي كشفه لنا الله، نحصل على الفرصة الأفضل لإيجاد الفرح الحقيقي، والخلاص ممّا نواجهه في هذه الحياة الأرضيّة من اضطرابٍ وعذابٍ وموت. وإذ يدّعي الكثيرون معرفة الحقّ، ويسعون إلى فرضه على الآخرين، نرى الأديان المختلفة تتسبّب بنشوء صراعٍ في العالم.ولا يكمن الحلّ في إدانة الدين أو قمعه، فهذا يُنشئ عذابًا أعظم. يحتاج الإنسان إلى الدين، وما يُثبت ذلك هو النمو المتواصل للأديان. إلاّ أنّ الحقيقة المسيحية هي التي تمنح الأمل الأكبر بالسلام والتناغم في العالم. كوننا مسيحيين، نؤمن أنّ الناس كلّهم مخلوقون على صورة الله ومثاله، ونعلَم أنّ الجميع يملكون القدرة على ممارسة الفضيلة، ونعي أنّنا بأجمعنا خطأة. نحن عمليًّا لم نبلغ التحوّل الذي يمنحنا إيّاه إيماننا الأرثوذكسي. ورغم أننا خطأة، نعلم أنّ الله ما زال يحبّنا. وإذ يحبنا نحن الخطأة، فهو بالطبع يحبّ الآخرين الذين لم يفهموا الحق الذي في المسيحية. يقول القديس سلوان: “عندما كنتُ صغيرًا كنتُ أصلّي من أجل الذين يهينونني. كنت أقول: “يا رب، لا تحسب لهم خطايا بسببي“. إلاّ أنني، ورغم حبّي للصلاة، لم أنفصل عن الخطيئة، لكنّ الرب لم يذكر خطاياي وأعطاني أن أحب الناس، وروحي تتوق إلى أن يخلص الناس كلّهم ويسكنوا في ملكوت الله، ويعاينوا مجد الرب، ويبتهجوا في محبة الله. وأنا أحكم بحسب حالتي: فإذا كان الله يحبّني بهذا المقدار، هذا يعني أنه يحبّ الخطأة كلّهم بقدر ما يحبّني“. قد يكون الآخرون أخلاقيّين أكثر منّا، لكن هل تضمن لنا السيرة الأخلاقية الخلاص؟ كلاّ، يعتمد خلاصنا على إيماننا بالله ومحبّتنا له، وعلى حياةٍ في التوبة نَنشد فيها نعمته لتساعدنا على الاتّحاد به، وذلك باتّباعنا تعاليمه لأننا نحبّه ونؤمن به.وهذا يقتضي من الأرثوذكسي الممارِس تواضعًا كبيرًا. يجب أن ندرك مدى ميلنا نحو الخطيئة، وأن نعي ضعفاتنا وسقطاتنا، بسبب محبّتنا ليسوع المسيح وبفضل ما علّمنا إياه. نحن نعلم أنّ تعاليمه حقيقيّة لأنها دُوّنت لنا بلا خطأ في الأناجيل، وحفظتها لنا الكنيسةُ نقيّة. تنشأ الخلافات في العالم عندما يشعر فريقٌ ما بأنه أهمٌّ من الآخرين. ويؤدي هذا التعالي إلى التهميش وحتى إلى الاضطهاد.يَعلَم المسيحيّون أنّ هذا الموقف المتعالي كبرياءٌ، والكبرياءُ من أعظم الخطايا إذ إنّها خطيئةُ آدم وحواء، وهي تعترض علاقتنا بالله. لا يجب أن يقبل المسيحيُّ الممارِس أنه أعظمُ من الآخرين، بل عليه بالأحرى أن يشدّد على أنه أكبر الخطأة. لقد تعلّمنا أن نحبّ أقرباءنا، مهما كان دينهم أو معتقدهم، وأن نعيش بتواضعٍ متفهّمين طبيعة البشر. نحن مدعوون إلى أن نتجاوز سقطاتنا ونعلّم الآخرين أن يفعلوا المثل. هذه هي دعوة الكنيسة، فالكنيسة مكانٌ نأتي إليه لنتلقّى الشفاء ونتّحد بالمسيح. يساعدنا إيماننا على تنمية علاقة محبّة مع الآخرين، بغضّ النظر عن معتقداتهم. وهذا أمرٌ يمكننا ملاحظته منذ بدء المسيحية، فالمسيحيون الأوائل تنوّعت تركيبتهم، ما كان مشينًا في ذلك الوقت، لكنّهم كانوا غير أنانيين ومساعدين كرماء للآخرين، وقد وهب العديدون حياتهم لمساعدة المرضى في الأوبئة، حتى إنهم واجهوا الاضطهاد بسكينة. المسيحيون الحقيقيون هم مَن يصنعون السلام ويجودون على البشر كلّهم. على المسيحي أن يتمسّك بإيمانه بقوة. لا يجب أن نرضى بأن ينتقص بعضُهم من شأن المسيحية بقولهم إنّها واحدةٌ من سبلٍ عدّة. المسيحية طريقٌ يمنح الأملَ الأفضلَ من أجل سلام العالم والخلاص الشامل الكلّ. وتعاليم يسوع المسيح لا تنمّي فينا التكبّر بل التواضع، فاتّباعنا المسيح يمنعنا من ظلم الآخرين أو اضطهادهم. كونوا حذرين ممّن يدّعون عدمَ وجودِ حقيقةٍ مطلقة، وأنّ الأديان كلَّها متشابهة أو مجرّد طرقٍ مختلفة. فهم بالطبع سيضعضعون إيمانكم. اعلموا، بذهنٍ متواضعٍ وإدراكٍ لخطيئتكم، أنّ لديكم الإيمان الصحيح الذي كُشف لنا بالله المتجسّد يسوع المسيح، مَن حُبل به من الروح القدس، ووُلد من العذراء، وعاش حياةً بلا خطيئة، وقُتل ظلمًا بالصلب، وقام وصعد إلى السماء فاتحًا أبواب الفردوس للبشرية بأسرها، ثم أرسل الروح القدس لتأسيس كنيسته لنتمكّن كلّنا من العيش كجماعاتِ محبّةٍ تسير نحو الاتحاد به. هذه هي حقيقة الإيمان الأرثوذكسي. لا تكونوا مسيحيين فاترين. كتب أوغسطينوس مطران فلورينا الراقد: “تبحث الروح عن الحقّ. الحقّ هو البيئة التي تعيش فيها الأرواح وترتاح. هي الماء الحيّ، والخبز السماوي. إلاّ أنّ وحده يسوع المسيح لديه هذا الخبز. لقد أعلن أنه الحقّ، الحقّ المتجسّد: “أنا الطريق، والحق والحياة” (يو 14: 6). الشماس خرالمبوس جوينر |
||||
16 - 07 - 2016, 05:53 PM | رقم المشاركة : ( 13539 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
هل ما زال اﻵباء يلائمون هذه اﻷيام؟
على مدى السنوات القليلة الماضية كان هناك الكثير من الحديث عن “التوليف النيو آبائي“، “اللاهوت ما بعد الآبائي“،“لاهوت الملائمة السياقية” وغيرها من الاجتهادات الطموحة المختالة والمؤسفة، التي يرنو أصحابها إلى أن تنتشر، وأن تبدو أصيلة ومختلفة. كل هذه اﻷمور تخلق المفاجآت والألغاز والمنطق والفكر المنحرفَين. في ما يلي سنعمل على تقديم بعض هذه الأفكار بطريقة موجزة ومتواضعة، بعد أن نعيد تأكيد بعض المواقف الكنسية المعروفة. إقليمندوس المعلّم الإسكندري كان أول من تحدث عن “اللاهوت الصحيح” وعن “الفلسفة الحقيقية واللاهوت الحقيقي.”يشير يوسابيوس القيصري في عمله عن اللاهوت الكنسي إلى “جوقين سلّما للبشرية لاهوت مخلصنا، الأول كان اﻷنبياء والثاني كان الرسل وتلاميذ الرب“. اللاهوتي الأول هو يوحنا الإنجيلي، والثاني هو غريغوريوس النزينزي والثالث هو سمعان الجديد. القديس غريغوريوس اللاهوتي، من خلال مواعظه الشهيرة، يؤلف نظام حقائق الإيمان المسيحي، يعلن ثالوثية اﻷلوهة، يصف الكائن الذي لا يُدنى منه والقوى غير المخلوقة، والتكامل بين الأقانيم الإلهية الثلاثة ومعرفتهم … اللاهوت يعني الكلمة الدقيقة عن الله، حقيقة الإيمان، طريقة الاقتراب من الله، تأليه الإنسان، تكميل المؤمن بالنعمة والمشاركة، خبرة الله الحي، استعلان الله في حياتنا، وتجديد الإنسان الساقط وتحوّله. هناك عدة طرق لمقاربة الله وكل مؤمن يختار الأنسب. كل هذه الطرق، يميزها التواضع والمحبة. اللاهوتيون الأوائل هم الرسل، من ثمّ المدافعون، آباء الكنيسة الكبار وجميع القديسين. اللاهوت المسيحي هو الفلسفة الحقيقية التي تشمل العقائد الحقيقية عن الله. أثناسيوس الكبير في الإسكندرية ويوحنا الذهبي الفم في أنطاكية والقسطنطينية يقدّمان لاهوتاً مباشراً حصيفاً ورصيناً محوره المسيح. الآباء الكبادوكيون أكّدوا بشكل أساسي على التمييز بين الجوهر الإلهي والقوة الإلهية. ومن بعدهم القديس يوحنا الدمشقي، وفي وقت لاحق القديس غريغوريوس بالاماس، شكّلا خلاصة حقيقية ومنهجية للروح الآبائية بأكملها. للاهوت النسكي وتيار الهدوئيين القديسسن ممثلون رائعون من ديونيسيوس الأريوباغي إلى سمعان اللاهوتي الحديث وغيرهما ممن تبعوهما. إن الميل للعودة إلى الآباء الذي ساد في السنوات الأخيرة من خلال عمل الأب اللاهوتي العظيم جورج فلوروفسكي قد أثمر الكثير، وها نحن نتمتع به حتى يومنا هذا. بنأيه عن اللاهوت الغربي القانوني والتقوي، أكد اللاهوت الأرثوذكسي تجديد الإنسان وتحوّله في المسيح من خلال معاينة الله والاشتراك فيه ضمن جسد الكنيسة عن طريق اليقظة والنسك والصلاة والحياة الأسرارية، والتطهّر والاستنارة والتقديس. تحوّلت المدرسية الغربية إلى مضجرة ومملّة. إن الأفكار التحررية الجديدة المبتكرة عند بعض اللاهوتيين الشرقيين تطرح إشكالية. أصرّت البروتستانتية على “الإيمان وحده“، وليس على العقائد الكنيسة ولاهوتها. يسمّي القديس ذيوذوخوس فوتيكي اللاهوت على أنّه السعي إلى الله والشركة معه، من خلال الدراسة والصلاة. ثيوغنوسطوس، يعتبر الحياة النقية والفكر الواضح شرطين مسبقين للاهوت والمعاينة النقية. إن المعاينة تسمو على اللاهوت والمعاين يسمو على اللاهوتي.الله. إن آباء الكنيسة الكبار هم لاهوتيوها العظماء. هم المتوشحون بالله، العاملين بوحيه، المحرَّكون به، المستنيرون، الذين يقطعون كلمة الحق باستقامة في حياتهم وتعليمهم وأعمالهم. إن نبرة ارتقائهم اللاهوتي هي على هذه الحال، ليس فقط بسبب دراسة الكتاب المقدس المستمرة، ولكن أيضاً بسبب تجاربهم، لأن كلمة الكتاب المقدس صارت عربون قبول قلوبهم. يتميز جميع آباء الكنيسة بقداسة حياتهم وعقيدتهم الأرثوذكسية. هناك حاجة عظيمة للعودة إلى المصادر الآبائية المقدسة، التي تحيي ولا تنضب دائماً. الآباء الكبار ليسوا فقط القدماء منهم ولكن أيضاً اللاحقون الذين يتابعون على درب مَن لديهم خبرة أكبر من ماضي الكنيسة المفيد. اللاهوتيون المعاصرون بحاجة إلى أن يدرسوا أعمال آبائنا القديسين بأمانة. إنّ تشويه التقليد المقدس أو الجهل به، وإنشاء لاهوت جديد يتجاوز الآباء واعتبار أنّ الزمن عفا عليهم، بلغة من المألوف الثقافي والمصطلحات أكثر تعقيداً، غير مفهومة في بعض الأحيان حتى لمستعمليها محدِثة لاهوتياً، معادية للنسك، غير مبلورة ولا موثّقة، سهلة، بهيجة وسعيدة جداً، ولكن أيضاً ضحلة فاترة وروتينية. ما معنى “اللاهوت السياقي الصلة (Theology of contextual relevance)؟” أولا كلمة “السياقي” تعني علاقة الأمور ذات العناصر المشتركة وشبهها ووظيفتها وارتباطها. يبدو أن هذا المصطلح غامضاً للغاية. لقد ظهر في اجتماعات الحوار المسيحي كوحدة تسوية، كي لا ينكشف انقسام المسيحيين أمام أتباع الديانات الأخرى. وضع المسيحيون خلافاتهم العقائدية الأساسية جانباً وقدموا أنفسهم على أنهم أصدقاء وشركاء في اﻹحسان، والبيئة، والمسالمة وagapetism. لقد أعطوا الأفضلية للفكر المتعلّق بالعدالة الاجتماعية والإنسانوية، وليس لحقائق الإنجيل المقدس العظيمة. في الكنيسة الأرثوذكسية الثابتة لا نلتقي “الكنائس” المختلفة لأن الكنيسة واحدة، مقدسة، ورسولية. ليست الكنيسة مشروعاً مشتركاً أو رابطة أو نادٍ، بل هي الكنيسة التي تخلّص، تفتدي، تقدّس، تؤلّه، وتكمّل. ما لا يمكن تصوّره ولا قبوله هو أن يُصار إلى تشويه المحتوى الفدائي العميق للإكليسيولوجيا الأرثوذكسية على يد لاهوتيين أرثوذكس وخاصةً من اﻹكليريكيين. إن آباء الكنيسة لم يتقدّموا في العمر، ولم يعفُ عليهم الزمن، ولا انتهت صلاحيتهم، أو تم تمديدها. لاهوت ما بعد الآباء ليس موجوداً، بل هناك اللاهوت مع الآباء. ويستند الآباء إلى الكتاب المقدس ويحرّكهم الروح القدس. أنهم “أواني الروح“،“أبواق الله“، “الأفواه الكليّة التذهّب“، “قيثارات الروح“، “ألواح النعمة“، و“أزهار الجنة.” اللاهوت الأرثوذكسي من دون جهاد شخصي ونسك ويقظة (νήψη) واستنارة إلهية لا وجود له، وعلى المنوال نفسه لا يوجد لاهوت من دون آباء متوشّحين بالله. إن الآباء القديسين ومعلمي المسكونة لا يخالجهم الشوق لأن يكونوا مبدعين، أو ﻷن يثيروا انطباع أحد أو لأن يقدّموا شيئاً جديداً من شأنه أن يمنحهم المجد. لقد كتب الآباء وتكلّموا، عندما كانت حاجة الكنيسة كبيرة ولم تكن غايتهم تطوير نظريات شخصية وآراء فلسفية جديدة. إذ غمرهم ضوء معاينة الله، وضعوا بتواضع الحقائق السامية، مفسرين إياها بالاستنارة الإلهية، والحقائق الخلاصية التي كشفها المسيح نفسه للعالم. لا ينتمي الآباء إلى ماضي الكنيسة بل إلى حاضرها. لا يمكننا الحديث عن قبل الآباء وبعدهم. الأمر قد يبدو كما لو أننا تخطيناهم، أو أنهم قدموا لنا ما كان ينبغي عليهم تقديمه، وأنه ما من حاجة من بعد إليهم وأننا قادرون على المضي قدما من دونهم، وأننا أيضاً آباء ولا ينقصنا أيّ شيء … كل هذه الاعتبارات تذكّر بالآراء البروتستانتية عن الكرامة والسلطة والتحرر. لقد سار الآباء على خطى الرسل وخطى الرب، والآباء الأصغر ساروا خطى الآباء الذين سبقوهم. التعسف هو بدعة بالنسبة للأرثوذكسية. لقد قيل الكثير في المؤتمر اللاهوتي في حزيران من العام الماضي (المقال اﻷصلي نُشِر في 17 كانون اﻷول 2010 في الأكاديمية اللاهوتية في أبرشيةديميترياس Demetrias المقدسة حول موضوع “التأليف الآبائي الجديد، أو اللاهوت ما بعد اﻵبائي: إن السعي إلى لاهوت سياقي الصلة في العقيدة” أمر غير مقبول. هناك مَن يثير تساؤلات ضد مساهمة الأب جورج فلوروفسكي “حقيقة الأرثوذكسية الفريدة”. وقد تمّ اقتراح أنّ اﻵباء ينتمون إلى الماضي، وأنّ التقليد لا يأخذ قدره. لاهوتنا مُتَّهَم بأنه يحتوي على الأساطير، وأنه ليس أصلياً، أن يتم تخطي الآباء وتُعاد صياغة العقائد… لا يمكن لأكاديمية ﻻهوتية أرثوذكسية دعوة متحدثين يقدمون ما يتخيلونه وما يحلو لهم … أليس النقد الذاتي حاجة هنا بدلاً من توجيه الانتقادات للآباء؟ أليست دراسة الآباء بشكل أعمق أجدى من إهمالهم؟ إن اللاهوت الذي ينفي من غير مقابل مساهمة الآباء هو بروتستاني بشكل واضح.إن لاهوتاً المنشق يخلق المشاكل بدلاً من حلِّها. ينبغي أن ينمو اللاهوت من دون معرفة متغطرسة ونكات أصلية، وتفسيرات تعسفية وأفكار متولدة، ولكن في جو من التواضع والاتّزان، والزهد، وتقليد كنيستنا. إن كنيستنا تلد القديسين وتحفظ النفوس. نحن بحاجة إلى لاهوتيين قديسين. إن اللاهوت الأرثوذكسي يصير رائعاً بنعمة الروح القدس المحيي وشفاعة القديسين، معلمين المسكونة الرائدين. الشيخ موسى اﻷثوسي |
||||
16 - 07 - 2016, 05:54 PM | رقم المشاركة : ( 13540 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: وجبـــــــة روحيـــــ(†)ــــــــــة يوميـــــــــة
لماذا الخطيئة ليست مشكلة أخلاقية؟
لم يسبق للعديد من القرّاء أن سمعوا بالتقدّم الأخلاقي، لذلك لم أُفاجأ عندما طُلب مني الكتابة بعمق عن هذا الموضوع. سوف أتناول موضوع الخطيئة، فإذا فهمنا بشكل صحيح طبيعتها ومظهرها الحقيقي، ستتّضح تباعًا فكرة الأخلاق. سأُظهر أولاً الفرق بين مفهوم الأخلاق والمفهوم اللاهوتي للخطيئة، فهما عالمان مختلفان لفظة “أخلاق” هي مصطلح شامل يصف عامّة مدى الالتزام (أو عدمه) بمجموعة المعايير السلوكية. ونلاحظ، انطلاقًا من هذا المفهوم، أنّ الجميع يلتزم بشكلٍ من أشكال الأخلاق. فالملحد الذي لا يؤمن بالله يبقى عنده حسّ داخلي يميّز الصواب من الخطأ، ويضع لنفسه وللآخرين مجموعة توقعات. لكن لا يوجد مجموعة معايير أخلاقية متفق عليها عمومًا. فالشعوب المختلفة والثقافات المتباينة عندها مفاهيم أخلاقية متنوّعة، وأساليب مختلفة لمناقشة ما يعنيه مصطلح “أخلاق” لقد لاحظت وكتبت أنّ معظم الناس لن يتقدّموا على المستوى الأخلاقي. هذا لأقول إنّنا لا نصبح أفضل عبر الالتزام بالمعايير والممارسات التي نعتقدها صائبة من الناحية الأخلاقيّة، فنحن مستقيمون أخلاقيًّا بالقدر الذي سنكونه أبدًا وهذا يختلف جوهريًّا عن ما يسمّى “خطيئة” من الناحية اللاهوتية. فعدم الالتزام بمعايير أخلاقية معيّنة قد يخفي بعض ملامح الخطيئة، لكنّ السقوط الأخلاقي ليس كالخطيئة. كذلك، الاستقامة الأخلاقية ليست هي “الاستقامة”. يستطيع الإنسان أن يكون مستقيمًا على المستوى الأخلاقي خلال حياته كلّها (نظريًّا) وأن يكون في الوقت عينه غارقًا في الخطيئة. وفهم ماهيّة الخطيئة سيوضّح هذا “الخطيئة” لفظة تُستعمل غالبًا بأسلوب خاطئ. فهي مستخدمة شعبيًّا للتعبير عن التجاوزات الأخلاقية (كسر القوانين)، أو دينيًّا عن مخالفة قواعد الله. لذلك فعندما يسأل أحدهم: “هل خطيئة أن نفعل كذا وكذا وكذا؟”، فهذا يعني “هل فِعل كذا وكذا وكذا هو ضدّ قواعد الله؟” وهذا التفكير غير صحيح، فالخطيئة تختلف عن مخالفة القواعد، ويتكلّم عنها الرسول بولس بمعنى مغاير: “فإني أعلم أنه ليس ساكن فيّ، أي في جسدي، شيء صالح. لأنّ الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد. لأنّي لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشرّ الذي لست أريده فإياه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل، فلست بعد أفعله أنا، بل الخطيئة الساكنة فيّ” رو 7: 18-20 “الخطيئة الساكنة فيّ”؟ يبدو أنّ “مخالفة القواعد” تعبير لا يناسب هذه الصيغة، فللخطيئة معنى مختلف كليًّا. ونرجع مجدّدًا إلى بولس الرسول لفهم هذا المعنى: “لأنكم لما كنتم عبيد الخطيئة، كنتم أحراراً من البرّ. فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحون بها الآن؟ لأن نهاية تلك الأمور هي الموت. وأما الآن إذ أُعتقتم من الخطيئة، وصرتم عبيدا لله، فلكم ثمركم للقداسة، والنهاية حياة أبدية. لأنّ أجرة الخطيئة هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا” (رو 6: 20-23) وهنا تبدو الخطيئة شيئًا يستعبدنا، ونهايته الموت. فما هي الخطيئة؟ الخطيئة كلمة تعبّر عن حالة، أو بشكل أصحّ، عن حالة (أو عن عملية) عدم وجود. هي حركة ابتعاد عن وجودنا الصحيح، أي عن نعمة الله لخليقته. الله فقط عنده الوجود الحق، هو وحده قائم بذاته. وكل شيء آخر متعلّق بالله، ومعتمد في كل لحظة عليه ليوجَد. فعندما خلقنا الله، بحسب الآباء، أعطانا الوجود. وعندما ننمو في الشركة معه، نتحرّك نحو الوجود الحسن. أما عطيّته النهائية لنا، أي الاتحاد الذي نصبو إليه، هو الوجود الأبدي لكن هناك فعل معاكس لحياة النعمة. إنها حركة نحو عدم الوجود، حركة ابتعاد عن الله ورفض للوجود الحسن. تُدعى هذه الحركة “خطيئة”. وقد نُستعبد لها مثل الورقة العالقة في تيار المياه. الخطيئة ليست قائمة بحدّ ذاتها (لأنّ اللاوجود لا وجود له)، إنما يصفها الكتاب المقدس بكلمات كـ”الموت” و”الفساد”. و”الفساد” أو “العفن” (φθορά) كلمة ممتازة لوصف الخطيئة، لأنها الذوبان التدريجي (حركة ديناميكية أو عملية) لشيء كان حيًّا، أي تحلّله التدريجي إلى تراب وهذا يختلف، على نحو مدهش، عن مخالفة القواعد الأخلاقية. فكسر القاعدة يُنتج خطأً ظاهريًّا فقط، أي مجرّد خرق قانوني أو قضائي، بينما لا شيء يتغيّر في الجوهر. لكنّ الكتاب المقدس يتكلّم عن الخطيئة بعمق أكبر، لأنها بحدّ ذاتها تغيير في الجوهر وتَحلُّل لوجودنا وهنا يبدو ضروريًّا أن نعيد التفكير بأسلوب مبدع. فعادات ثقافتنا تعالج الخطيئة من الناحية الأخلاقية. وهذا فعل بسيط، يتطلّب جهدًا قليلاً، ويرضي الجميع من حولنا. لكنّ هذه المعالجة خاطئة لاهوتيًّا، ولا نجد معالجات أخلاقية مشابهة ضمن كتابات الكنيسة، بخاصة ضمن كتابات القرون الماضية القليلة. وعندما يتم أسر لاهوت الكنيسة في إطار الأخلاق، فهذا يُعدّ عبودية حقّة لا تعبّر عن الفكر الأرثوذكسي إذًا كيف نفهم الفرق بين الصواب والخطأ، كيف نفهم النمو الروحي والخلاص بحدّ ذاته، إذا لم تكن الخطيئة مشكلة أخلاقية؟ لا ينبغي أن نتغاضى عن خياراتنا الخاطئة وأهوائنا المضطربة (العادات السلوكية)، بل أن نعتبرها عوارضَ ومظاهر لعمليةٍ أعمق تجري. فرائحة الجثّة ليست المشكلة الحقيقية، ومعالجة الرائحة ليست كالقيامة عمل المسيح هو عمل القيامة. حياتنا في المسيح ليست مسألة تقدّم أخلاقي، إنما حياة من الموت. نحن مدفونون في موته، وهو موت حقيقي، بكل ما للموت من معنى. لكنّ موته ليس لفساد، لأنه دمّر الفساد. معموديتنا في موت المسيح هي معمودية لعدم الفساد، وإعادة الشركة المقطوعة مع الله. إذًا، ما هو مظهر الشفاء؟ أخطأ أن ننتظر حصول بعض التقدّم؟ استنادًا إلى خبرتي في الحياة (وأنا كاهن منذ 34 سنة)، وإلى قراءة الآباء والتقليد، تبدو هذه التوقعات في غير مكانها. لقد حيّرني ذلك على مدى سنين، وقد استنتجت أنّ خلاصنا مشابهٌ لحقيقة الأسرار. ماذا ترى في القداس الإلهي؟ هل يتحوّل الخبز والخمر في عملية تطوّرية؟ هل نرى تحوّلاً أمام أعيننا؟ يبدو أنّ خلاصنا مستتر، حتى عن أنفسنا أحيانًا. الإيمان المسيحي رؤيوي بطبيعته، هو “إظهار لما هو مستتر”. والأمثال مليئة بصور المفاجأة: كنز مكشوف،… للخلاص طريقته في الظهور. غالباً ما أفكّر في أن الليتورجيا هي تصوير لهذا الأمر … السعي إلى خلاصنا يقتضي الابتعاد عن مظاهر الأشياء. فهو يتطلّب إعادة توجيه عميق وأساسي لحياتنا، كما يتطلّب عملاً داخليًّا للتوبة. أما الحياة الأخلاقية فهي حياة نعيشها في الظاهر، إذ إنّ الملحدين أنفسهم يتصرّفون بأسلوب أخلاقي. لكن عندما نتحوّل نحو المسيح الذي في داخلنا، نتحرّك أبعد من الظاهر، ونبدأ بملاحظة كم أنّ أعمالنا زائلة ومرتبكة هذه بالأحرى أعمال الذات المزيّفة، أي الأنا المحطّمة الخازية التي تجاهد بشكل محموم “لتصير أفضل”. لكنّ بلوغ مركز الحياة الروحيّة المسيحية لا يتم عن طريق تحسين الأنا، بل عن طريق “الموت عن الذات”، حيث نخسر وجودًا لا يمتّ بصلة إلى ذاتنا الحقيقية، ونكتشف وجودًا آخر هو وجودنا في المسيح. بيد أنّ ما نراه مختلفٌ غالبًا، لأنّنا وبينما نجد الحقيقة، يبقى الآخر متمسّكًا بوجوده المزيّف، وهذا ما نراه وما يراه الآخرون. ويبقى عمل الخلاص المستتر غير مرئيّ ليس غريبًا في حياة القديسين أن تبقى حياة أحدهم مستترة إلى حين موته. كانت هذه حالة القديس نكتاريوس الذي من آيينا، فقد كان مرفوضًا من الكثيرين ومقدَّرًا من القليلين. لكن عند موته، بدأ بإجراء العجائب وبدأت القصص تظهر على العلن وبشكل سرّي، يبدو أنّ هذه الحياة تبقى مستترة عن القديس نفسه (تمامًا كما تبقى حياتنا الحقيقية مخفيّة عنّا). أظنّ أنّ الله يحفظنا من ثقل هذه المعرفة بما يخدم خلاصنا “اهتموا بما فوق لا بما على الأرض. لأنكم قد متّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تظهرون أنتم أيضا معه في المجد” كول 3: 2-4 وهنا يظهر مجدّدًا طابع الحياة المسيحية الأخروي. نحن أموات وحياتنا الحقيقية مستترة مع المسيح في الله، وستظهر عندما سيظهر إذًا، ماذا نرى في هذه الحياة؟ الإجابة البسيطة واضحة: المسيح. نحن لا نسعى وراء تقدّمنا الذاتي بل نحو المسيح. ويتوقّف تقدّمنا عن أن يكون مهمًّا عندما نجد المسيح. وكلّما وجدناه أكثر، كلّما اتّضحت لنا الطبيعة المزيّفة لأنانيّتنا، فعندها نستطيع القول: “أنا أسوأ الخطأة” الأب ستيفن فريمان |
||||