13 - 03 - 2014, 03:35 PM | رقم المشاركة : ( 121 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
المسيح في الطريق إلى الصليب ها نحن أخيرًا، في انبهار، نقترب بالتأمل من أحداث الصليب المجيدة حيث يبقى العقل هناك.. لكي تتخشع الروح وتتعبد في حجال الملك. مثال الطاعة كانت خطية الشيطان هي الكبرياء، التي دفعت به إلى العصيان، والتمرد، وعدم الطاعة لله. أما السيد المسيح فمع كونه الابن الوحيد الجنس المساوي لأبيه في كل صفات الجوهر الإلهي، فإنه أراد أن يقدم المثل والقدوة للملائكة والبشر-أي لكل خليقة عاقلة- في الطاعة والخضوع الناشئ عن المحبة، ولهذا فقد أخلى ذاته، آخذًا صورة عبد ليمارس الطاعة كإنسان، مظهرًا أن الخضوع للآب السماوي ليس فيه ضياع، بل هو المجد الحقيقي.. وبهذا أظهر السيد المسيح بطلان دعاوى الشيطان، هو ومن تبعه من الملائكة الذين سقطوا معه. ووضع الابن الوحيد ناموسًا للمعرفة الحقيقية في ملكوت الله.. جوهره التحرر من الكبرياء والغطرسة. |
||||
13 - 03 - 2014, 03:37 PM | رقم المشاركة : ( 122 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
طريق الصليب بدأ السيد المسيح مسيرته نحو الصليب، مثبتًا وجهه نحو أورشليم مدينة الملك العظيم.. الموضع الذي سُر الرب أن يُدعى اسمه فيه.. أورشليم التي كانت رمزًا لملكوت الله. أظهر السيد المسيح أن الصليب والطريق إلى الملكوت هما شيء واحد، وقال لتلاميذه: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يُسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة فيحكمون عليه بالموت، ويسلّمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به، ويجلدوه، ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم" (مت20: 18، 19). فالصعود إلى أورشليم (رمز الملكوت)، معناه الدخول في طريق الصليب (الاتضاع، والطاعة الكاملة). من الموت إلى الحياة كانت خدمة الصليب هي البرهان الحقيقي على اتضاع السيد المسيح الكامل. فهو لم يقبل المحقرة والآلام فقط، بل قَبِل أيضًا أن يبدو مهزومًا أمام الموت.. مع أنه هو الذي هزم الموت الحقيقي بتواضعه.. هزم موت الخطية بطاعته الكاملة للآب. قيل عن السيد المسيح "الذي في أيام جسده إذ قدّم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يُخلّصه من الموت. وسُمع له من أجل تقواه" (عب5: 7). حقًا لقد سمع الآب لابنه الحبيب المتجسد -كممثل للجنس البشرى- وأقامه حيًا من الأموات ظافرًا بالموت. وهو الذي قال بفم النبي مخاطبًا الآب: "لأنك لا تترك نفسي في الجحيم. ولا تدع قدوسك يرى فسادًا" (مز15: 10). نحن نؤمن بالطبع أن السيد المسيح قد قام بقوة لاهوته، لأنه قال لليهود: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه.. وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده" (يو2: 19، 21). ولكن الكتاب من جهة أخرى يؤكد دور الآب السماوي في نصرة الابن الوحيد المتجسد على الموت، لأنه سرّ به لتواضعه وأقامه من الأموات "هذا أقامه الله" (أع2: 32). وهنا نتذكر قول السيد المسيح: "مهما عمل ذاك (الآب) فهذا يعمله الابن كذلك" (يو5: 19). من بيت عنيا إلى الجلجثة تبدأ أحداث الصلب بوصول السيد المسيح إلى بيت عنيا، وإقامته لعازر من الأموات، وتآمر اليهود عليه ليقتلوه، وسكب الطيب الناردين الكثير الثمن، على جسده والذي قال عنه إنه سُكِب على جسده لتكفينه، أو أنه ليوم دفنه قد حُفِظ،ودخوله أورشليم وديعًا راكبًا على أتان وجحش بن اتان كملك للسلام. ثم تناوله طعام الفصح مع تلاميذه وغسله لأرجلهم. وحديثه عن تسليم يهوذا الإسخريوطي له، وخروج يهوذا، وإعطائه جسده ودمه لتلاميذه. وجهاده وصلاته في البستان، والقبض عليه بإيعاذ من يهوذا، ومحاكمته، وإهانته، وجلده، ووقوفه أمام بيلاطس. وخروجه حاملًا الصليب إلى الجلجثة حيث صلب بين لصين، وما أحاطه من تعييرات اليهود، واقتسام ثيابه، وتسليمه الروح في يدي الآب بعد أن طلب الغفران لصالبيه. |
||||
13 - 03 - 2014, 03:38 PM | رقم المشاركة : ( 123 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
أحداث بيت عنيا بدأت أحداث الصلب بذهاب السيد المسيح إلى بيت عنيا، لإقامة لعازر من الموت. وقد احتمل السيد المسيح -في تواضعه- العتاب الذي وجهته إليه مرثا أخت لعازر مع أختها مريم لسبب تأخره عن الحضور إلى بيت عنيا لشفاء لعازر. كانت الأختان قد أرسلتا إليه قائلتين في عشم كبير: "يا سيد هوذا الذي تحبه مريض" (يو11: 3). "وكان يسوع يحب مرثا وأختها ولعازر. فلما سمع أنه مريض مكث حينئذ في الموضع الذي كان فيه يومين. ثم بعد ذلك قال لتلاميذه: لنذهب إلى اليهودية أيضًا" (يو11: 5-7). تباطأ السيد المسيح في الذهاب لشفاء لعازر، واحتمل أن يبدو مقصّرًا في واجبه نحو شخص يحبه. كما احتمل العتاب المؤثر من الأختين الحزينتين.. كل ذلك لكي تُنَفذ مشيئة الآب السماوي في إقامة لعازر من الموت. أبعاد الموقف كانت معجزة إقامة لعازر من الموت هي السبب الذي جعل رؤساء كهنة اليهود والفريسيين يتآمرون فيما بينهم أن يقتلوا السيد المسيح "فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه. فلم يكن يسوع أيضًا يمشى بين اليهود علانية.. وكان فصح اليهود قريبًا.. وكان أيضًا رؤساء الكهنة والفريسيون قد أصدروا أمرًا أنه إن عرف أحد أين هو، فليدل عليه لكي يمسكوه" (يو11: 53-57). ما أعجب اتضاع الرب المخلّص..! إذ أنه من أجل محبته لتلاميذه وللعازر، احتمل كل ذلك العناء، واحتمل أن يضطر للمشي في الخفاء، كما لو كان خائفًا من اليهود.. بالطبع هو لم يكن خائفًا منهم، ولكنه كان قد وضع في نفسه أن لا يمسكوه قبل عيد الفصح.. لكي يُذبح في يوم الفصح نفسه، إذ هو فصحنا الحقيقي. كذلك كان أمامه الكثير ليعمله من أجل كنيسته المحبوبة، قبل أن يسلّم نفسه لصالبيه. لقد دفع السيد المسيح حياته ثمنًا لإقامة لعازر من الموت، كما دفعها ثمنًا لفداء كل أحبائه، مانحًا الحياة لكل من يؤمن بخلاصه العجيب. لهذا يقول الكتاب "لأنكم قد اشتريتم بثمن، فمجدوا الله في أجسادكم، وفي أرواحكم التي هي لله" (1كو6: 20). |
||||
13 - 03 - 2014, 03:39 PM | رقم المشاركة : ( 124 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
لعازر حبيبنا قد نام (يو11: 11) في حديث السيد المسيح مع تلاميذه عن إقامة لعازر.. تكلّم بأسلوب غاية في البساطة والاتضاع. إذ قال: "لعازر حبيبنا قد نام. لكنى أذهب لأوقظه. فقال تلاميذه: يا سيد إن كان قد نام فهو يُشفى. وكان يسوع يقول عن موته. وهم ظنوا أنه يقول عن رقاد النوم. فقال لهم يسوع حينئذٍ علانية لعازر مات" (يو11: 11-14). تكلّم السيد المسيح عن إقامته للعازر من الموت بلغة بسيطة متواضعة، كأنه سوف يقيم من النوم شخصًا قد رقد. ولم يذكر للتلاميذ أن لعازر قد مات.. لم يحاول أن يتكلم بأسلوب الافتخار بعظيم الأعمال.. فالأعمال العظيمة تتكلم عن نفسها، ولا تحتاج إلى تفخيم وتعظيم. ومن جهة أخرى، فإن السيد المسيح كان يريد أن يؤكد أن الأبرار لن يموتوا، ولكنهم سوف يرقدون، طالما أن المخلّص مانح الحياة سوف يعيدهم إلى الحياة مرة أخرى، بعد نوالهم الفداء بدمه الثمين. لهذا قال: "أنا هو القيامة والحياة" (يو11: 25). والكنيسة تبرز هذا المعنى في أوشية الراقدين، وتقول في صلواتها للرب (لأنه لا يكون موت لعبيدك بل هو انتقال). أفرح لأجلكم وحينما أعلن السيد المسيح موت لعازر باللغة التي يفهمها التلاميذ، قال لهم: "أنا أفرح لأجلكم إني لم أكن هناك، لتؤمنوا، ولكن لنذهب إليه" (يو11: 15). كان السيد المسيح منشغلًا بإيمان التلاميذ.. لم يفكر فيما يخصه، بل فيما يخص غيره. لأن المحبة "لا تطلب ما لنفسها" (1كو13: 5). لم يصنع السيد المسيح معجزة إقامة لعازر من الموت ليرضى نفسه، بل من أجل خير التلاميذ والبشرية.. ليقود البشر إلى الإيمان بالقيامة والحياة، التي جاء ليهبها للمؤمنين بموته وقيامته وفدائه للبشرية. خرج من عند الآب أمام القبر، وقف ذاك الذي أخلى ذاته من أجل خلاصنا، ليصلّى إلى الآب، في ضراعة وخشوع، وثقة واتضاع: "أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي. وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي. ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني" (يو11: 41، 42). أراد السيد المسيح أن يصلى قبل إتمام المعجزة، بصوت مسموع، ليبرز علاقته الجوهرية بالآب كمولود منه، وكيف أن الآب قد أرسله لخلاص العالم. وليؤكد أن ما سيفعله هو عطية من الآب. لهذا قال السيد المسيح بحق في صلاته قبل الصلب: "أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته.. أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم.. والآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك.. وهم قَبِلوا وعَلِموا يقينًا أنى خرجت من عندك. وآمنوا أنك أنت أرسلتني" (يو17: 4-8). إن كل عطايا الآب هيعطايا الابن أيضًا، وكل عطايا الابن هي عطايا الآب،كما قال السيد المسيح مخاطبًا الآب: "كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي" (يو17: 10). "بكى يسوع" (يو 11: 35) السيد المسيح في تواضعه بكى عند قبر لعازر، حتى قال اليهود: "انظروا كيف كان يحبه. وقال بعض منهم: ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضًا لا يموت" (يو11: 36، 37). لم يكتم السيد المسيح عواطفه البشرية، لأنه شابهنا في كل شيء ماخلا الخطية وحدها. وقد بكى ليس فقط لتأثر عاطفته البشرية ببكاء مريم أخت لعازر والذين معها، ولكن إشفاقًا على حياة الإنسان الذي سقط صريعًا أمام الموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس. ظهرت محبة الله للإنسان في بكاء السيد المسيح على موت لعازر، ورغبة الله الصادقة في إعادة الحياة للبشر مرة أخرى. وما فعله السيد المسيح هو الترجمة المنظورة لمشاعر الرب الخفية من نحونا. احتمل السيد المسيح في اتضاع عجيب تهكم بعض من اليهود عليه بقولهم: "ألم يقدر هذا الذي فتح عيني الأعمى أن يجعل هذا أيضًا لا يموت" (يو11: 37). وكان السيد المسيح قد تباطأ خصيصًا في الحضور إلى بيت عنيا حيث كان لعازر المريض، لتظهر محبة الله للإنسان ورغبته في إقامته من الموت. لم يكن السيد المسيح يهتم برأي الناس وأقاويلهم، بل كان يهتم بتنفيذ مشيئة الآب السماوي.. ومن خلال الاتضاع حقق أعظم الأمجاد. فهكذا دائمًا "من يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفع" (مت23: 12). هكذا علّم السيد المسيح وهكذا فعل. لقد شاركنا السيد المسيح أحزاننا وآلامنا، وبكى معنا ومن أجلنا وعلى حالنا، كما هو مكتوب عنه: "محتقر ومخذول من الناس. رجل أوجاع ومختبر الحزن.. لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها" (إش53: 3، 4). هنا نحس اقتراب الله الشديد من نحو الإنسان، ليس وهو يشاركه آلامه فقط (من خلال التجسد)، بل وهو يحمل عنه هذه الآلام.. لأنه هكذا يليق بالقلب الكبير أن يحمل أحزان الغير وآلامهم "لأنه لاقَ بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آتٍ بأبناءٍ كثيرين إلى المجد، أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام" (عب2: 10). |
||||
13 - 03 - 2014, 03:41 PM | رقم المشاركة : ( 125 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
ناردين خالص (يو12: 3) اقترب الصليب "ثم قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر الميت الذي أقامه من الأموات. فصنعوا له هناك عشاء. وكانت مرثا تخدم، وأما لعازر فكان أحد المتكئين معه. فأخذت مريم منًا من طيب ناردين خالص كثير الثمن، ودهنت قدمي يسوع، ومسحت قدميه بشعرها. فامتلأ البيت من رائحة الطيب" (يو12: 1-3). هذه الرائحة العطرة هي رائحة موت السيد المسيح رائحة حياة لحياة في الذين يخلصون ورائحة موت لموت في الذين يهلكون (انظر2كو2: 15، 16). موت المسيح هو موت محيى، خالٍ من الفساد. لأنه قدوس بلا خطية. فالموت الذي ماته، قد ماته عن آخرين. وفاحت رائحة محبته بموته فداءً عنا. لهذا قالت عروس النشيد "مادام الملك في مجلسه، أفاح نارديني رائحته" (نش1: 12). وقالت أيضًا "لرائحة أدهانك الطيبة، اسمك دهن مهراق. لذلك أحبتك العذارى" (نش1: 3). لقد تصور يهوذا الإسخريوطي أن سكب الطيب على جسد السيد المسيح، هو نوع من الرفاهية، وانتقد هذا الوضع (انظر يو12: 4، 5). ولكن السيد المسيح في تواضعه كشف أن هذا الطيب هو لتكفينه، وهو علامة قبوله الموت ودخوله القبر بإرادته. فقبوله لتكفينه وهو حى قبل الموت، هو منتهى الاتضاع.. وقال السيد المسيح دفاعًا عن مريم التي سكبت الطيب: "اتركوها. إنها ليوم تكفيني قد حفظته" (يو12: 7). لقد حققت مريم أخت لعازر بمحبتها للسيد المسيح وبإرشاد من روح الله، تلك النبوءات الرائعة عن رائحة الناردين في مجلس الملك "أفاح نارديني رائحته" (نش1: 12)،وما أثمن تحقيق النبوءات في نشر الإنجيل والبشارة المفرحة بالخلاص لكل العالم. إنه أثمن شيء في الوجود أن يصدق البشر كلام الإنجيل. وقد ظلت رائحة الناردين الخالص الكثير الثمن عالقة بجسد السيد المسيح حتى وهو على الصليب. لأن اسم المخلص هو دهن مهراق يجتذب بالحب إليه جميع شعوب الأرض الباحثة عن خلاص الله. |
||||
13 - 03 - 2014, 03:42 PM | رقم المشاركة : ( 126 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
هوذا ملكك يأتيك وديعًا تعوَّد الملوك أن يمتطوا الجياد المطهمة، أي أن يعتزوا بركوب الخيل عند دخولهم إلى مدينة ملكهم. خاصة حينما يدخل الملك دخولًا انتصاريًا، ويحتفل الشعب بدخوله المنتصر.. هكذا دخل الملك المسيح إلى مدينة ملكه أورشليم في يوم أحد الشعانين، وهو يستعد للفصح الحقيقي بتقديم نفسه ذبيحة عن حياة العالم، ليعبر المفديون من الموت إلى الحياة. ولكنه لم يدخل راكبًا على فرس أو على حصان، بل دخل راكبًا على أتان وعلى جحش ابن أتان، كما هو مكتوب "ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون، اهتفى يا بنت أورشليم، هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان. وأقطع المركبة من أفرايم والفرس من أورشليم، وتُقطع قوس الحرب. ويتكلم بالسلام للأمم وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك9: 9، 10). دخل السيد المسيح راكبًا على الأتان وليس الفرس، لأنه رئيس السلام لا الحرب. ولأنه ملك وديع ومتواضع القلب، فلا يهتم بمظاهر العظمة الخارجية، بل بالانتصار على العدو الحقيقي للإنسان الذي هو الموت، الذي جاء السيد المسيح ليحررنا من سلطانه. كان الفرس يرمز إلى الحرب، مثلما قيل في سفر الأمثال "الفرس معد ليوم الحرب. أما النصرة فمن الرب" (أم21: 31). ولهذا شبه الرب النفس المجاهدة بقوة الفرس "لقد شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون" (نش1: 9). والسيد المسيح قد حارب الشيطان روحيًا بقوة، وانتصر عليه حينما تجسد لأجل خلاصنا. ولكنه حاربه وهو متشح بالاتضاع. فلم تكن عظمة السيد المسيح هي العظمة الظاهرة بل الخفية "ثم رأيت السماء مفتوحة وإذا فرس أبيض، والجالس عليه يدعى أمينًا وصادقًا وبالعدل يحكم ويحارب. وعيناه كلهيب نار، وعلى رأسه تيجان كثيرة، وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو. وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويدعى اسمه كلمة الله" (رؤ19: 11-13). وأيضًا جنود السيد المسيح الذين يتبعونه، رآهم يوحنا الإنجيلي في رؤياه وقال عنهم "والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض، لابسين بزًا أبيض ونقيًا" (رؤ19: 14). هكذا فمن الناحية المنظورة دخل السيد المسيح أورشليم راكبًا على أتان وجحش ابن أتان، ولكنه من الناحية الروحية فقد كان يمتطى فرس الغلبة والانتصار على إبليس، في أعظم معركة سجلتها البشرية، وخرجت منها منتصرة غالبة بدم الحمل كلمة الله المتجسد. أوصنّا في الأعالي قال داود النبي في المزمور: "من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سُبحًا، من أجل أعدائك لتُسكت عدوًا ومنتقمًا" (مز8: 2). وقد ردد الأطفال في الهيكل تسبيحًا للرب يسوع المسيح في يوم دخوله إلى أورشليم كملك مثلما سبحه التلاميذ والجموع "أوصنا لابن داود. مبارك الآتي باسم الرب أوصنا في الأعالي" (مت21: 9). "فلما رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التي صنع والأولاد يصرخون في الهيكل ويقولون أوصنا لابن داود غضبوا. وقالوا له: أتسمع ما يقول هؤلاء؟ فقال لهم يسوع: نعم، أما قرأتم قط من أفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحًا" (مت21: 15، 16). فما معنى هذا التسبيح الذي تنبأ عنه داود النبي في المزمور والذي رددته الجموع مع التلاميذ والأطفال في يوم دخول السيد المسيح إلى مدينة أورشليم؟ إن كلمة "أوصنا"هي في اللغة العبرية "هوشعنا" ومعناها "خلّصنا" وقد وردت أيضًا في المزمور "يا رب خلصنا يا رب سهل طرقنا. مبارك الآتي باسم الرب. باركناكم من بيت الرب. الله الرب أضاء علينا. رتّبوا عيدًا في الواصلين إلى قرون المذبح" (مز117: 25-27). ومن كلمة "هوشعنا" הושענות جاءت تسمية أحد الشعانين. ويلاحظ أيضًا أن اسم الرب يسوع في اللغة العبرية هو يهوشع أي "يهوه خلّص"كما قال الملاك: "تدعو اسمه يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21). خلّصنا في الأعالي ولكن العجيب في التسبيح الذي أودعه الروح القدس في أفواه الأطفال في ذلك اليوم حسب النبوة "من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سُبحًا" (مز8: 2)، هو أنهم تكلموا عن خلاص في الأعالي وليس على الأرض. والمقصود أنهم اعترفوا بالملك الآتي باسم الرب ملكًا سمائيًا وليس أرضيًا مثلما قال السيد المسيح لبيلاطس: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو18: 36). فحينما هتف الجميع "مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم الرب" (مر11: 10)، كانوا يقصدون أن هذه المملكة هي مملكة سمائية. وهذا يختلف عما أراده ذوى النظرة المادية من اليهود أن يقيموا السيد المسيح ملكًا أرضيًا. بالإضافة إلى ذلك فإن عبارة "خلّصنا في الأعالي" تعنى أن الخلاص المقصود ليس هو خلاصًا أرضيًا من الاستعمار الروماني في ذلك الحين بل خلاصًا سمائيًا. "خلصنا في الأعالي" تعنى أعطنا قبولًا أمام أبيك السماوي. وتعنى أعطنا مجدًا وتسبيحًا في وسط ملائكتك القديسين. أي خلّصنا من العار الذي لحق بنا بين السمائيين لسبب سقوط الجنس البشرى. "خلّصنا في الأعالي" تعنى أن يكون لنا غفرانٌ لخطايانا عند الآب السماوي، وأن يكون لنا ميراثٌ في ملكوته الأبدي. عن هذا الغفران قال معلمنا يوحنا الرسول: "إن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار. وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا" (1يو2: 1، 2). "خلّصنا في الأعالي" تعنى أن نولد من فوق وأن تُكتَب أسماؤنا في سفر الحياة الأبدية. "خلّصنا في الأعالي"تعنى أن تأتى ربوات من القوات السمائية لتساعدنا وتحارب معنا "فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف6: 12). إن القوات الجوية والمظليين هم الذين يحسمون معارك الجيوش المتحاربة. والقوات الجوية والدفاع الجوى هم الذين يقومون بحماية سماء المعركة. وبنفس الأسلوب نحتاج نحن إلى خلاص الله الروحي في الأعالي في معركتنا مع أجناد الشر الروحية في السماويات. لذلك نهتف من أعماق قلوبنا "خلصنا في الأعالي". "خلصنا في الأعالي"تحمل ضمنًا نبوءة عن موت السيد المسيح معلقًا على خشبة الصليب أعلى الجلجثة. فهو بالفعل قد خلّصنا على قمة جبل أورشليم مدينة الله. وقال بفمه الإلهي: "أنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلىّ الجميع" (يو12: 32). وقال أيضًا لليهود: "متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون أنى أنا هو" (يو8: 28). "خلّصنا في الأعالي"تحمل أيضًا نبوءة عن صعود السيد المسيح إلى السماء بعد قيامته المجيدة كما هو مكتوب في المزمور "صعد الله بالتهليل، والرب بصوت البوق" (مز46: 5). ونبوءة عن دخوله الانتصاري كسابق لنا إلى المقادس العلوية في السماء "ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد. من هو هذا ملك المجد؟ الرب العزيز القدير، الرب القوى في الحروب.. هذا هو ملك المجد" (مز23: 7-10) لقد صعد الرب وجلس عن يمين أبيه،وبهذا دخل إلى مجده. ويتغنى بذلك الكاهن في القداس الغريغوري (أصعدت باكورتي إلى السماء). بالطبع لم يكن ممكنًا للأطفال والتلاميذ والجموع أن ينطقوا بهذا التسبيح الفائق في معانيه إن لم يكن هذا بوحي من الروح القدس الذي نطق على أفواههم بهذه العبارة العجيبة. " نريد أن نرى يسوع" (يو12: 21) دخل يسوع إلى أورشليم في يوم أحد الشعانين "وكان الجمع الذي معه يشهد أنه دعا لعازر من القبر وأقامه منالأموات. لهذا أيضًا لاقاه الجمع لأنهم سمعوا أنه كان قد صنع هذه الآية" (يو12: 17، 18). بعد ذلك جاء أناس يونانيون من الذين صعدوا ليسجدوا في العيد "فتقدم هؤلاء إلى فيلبس الذي من بيت صيدا الجليل، وسألوه قائلين يا سيد نريد أن نرى يسوع. فأتى فيلبس وقال لأندراوس، ثم قال أندراوس وفيلبس ليسوع" (يو12: 21، 22). ربما فرح التلاميذ في ذلك الحين بأن شهرة معلمهم سوف تنتشر في العالم كله، وأنه سوف يلتقي بالحجاج الذين جاءوا من بلاد اليونان.. وكان السيد المسيح قد دخل إلى أورشليم ليقدّم نفسه ذبيحة عن حياة العالم. لهذا أجاب السيد المسيح تلاميذه وقال لهم: "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان، الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت، فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت، تأتى بثمر كثير" (يو12: 23، 24). لم يكن السيد المسيح يسعى نحو الشهرة، بل ثبت وجهه نحو الصليب.. هناك حيث يكون الفداء والخلاص للبشر. لو انشغل السيد بنفسه، لما وُجدت الفرصة لينشغل بغيره، لهذا أعطى مثل حبة الحنطة التي إن ماتت فهي تأتى بثمر كثير.. لم يقبل السيد المسيح أن يبقى وحده.. لهذا مات فداءً عن كثيرين.. وأعطى جسده للتلاميذ قائلًا: "هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم" (لو22: 19). أعطاهم جسده المقدس الذي تألّم لأجلهم وهو حياة لهم، إذ قال: "من يأكلني فهو يحيا بي" (يو6: 57). بهذا أعطت حبة الحنطة نفسها للموت، فأثمرت للحياة قديسين كثيرين. |
||||
13 - 03 - 2014, 03:43 PM | رقم المشاركة : ( 127 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
إن كان أحد يخدمني فليتبعني (يو12: 26) بعد أن تحدث السيد المسيح عن حبة الحنطة وموتها لكي تثمر، خيَّر التلاميذ بين أحد طريقين: الأول: هو طريق الشهرة، والارتباط بمجد العالم والاستناد إلى سلطانه. الثاني: هو طريق الصليب والموت عن العالم.. لهذا خاطبهم قائلًا: "من يحب نفسه يهلكها، ومن يبغض نفسه في هذا العالم، يحفظها إلى حياة أبدية. إن كان أحد يخدمني فليتبعني، وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي" (يو12: 25، 26). أراد السيد المسيح لخدامه أن يسلكوا نفس الدرب الذي سلكه هو، أي طريق الصليب، مرتفعين بقلوبهم نحو الجلجثة. لا يمكن أن تنجح الخدمة بعيدًا عن الصليب: فالصبر صليب، والاحتمال صليب، والشهادة بكلمة الحق صليب، والسلوك في طريق البر والفضيلة صليب، والطاعة والخضوع صليب، وإنكار الذات صليب، وممارسة المحبة الباذلة الحقة صليب، والسهر على الرعاية صليب.. الصليب هو العلامة، وهو الختم، وهو الجسر، وهو الملتقى، وهو سلاح الغلبة، وهو قوة الله للخلاص.. المسيحية ليس لها وجود بدون الصليب، بل هي بدون الصليب كالعُرس بلا عريس، وكالوليمة بلا ذبيح.. أهمية الصليب لخدام السيد المسيح الصليب في حياة خادم المسيح، هو التحرر من الأنا التي تستعبد الإنسان وتذله وتمنعه من أن يحب غيره.. الصليب هو الانفتاح على الآخرين بدافع الحب المقدس، والخروج من سجن الذات البغيض إلى حرية المحبة، التي تعرف كيف تقود غيرها نحو حياة القداسة.. الصليب هو الطريق إلى المجد الحقيقي.. وهذا يقودنا إلى تكملة حديث السيد المسيح: "إن كان أحد يخدمني يكرمه الآب" (يو12: 26). الخادم الذي يتبع السيد المسيح في طريق الصليب، يمنحه الآب السماوي الكرامة الحقيقية. وهذه الكرامة هي نعمة الروح القدس الذي يمسح كلام الخادم، حتى يصير لكلامه سلطان أن يغيّر قلوب سامعيه.. الروح القدس يشفع بأنات لا ينطق بها في صلوات الخادم، حتى تأتى صلاته إلى حضرة رب الجنود. فتكون صلاته مستجابة في كل زمان ومكان حتى بعد تركه لهذا العالم، يستطيع أن يقدم الشفاعة التوسلية أمام الله عن كثيرين. الروح القدس الذي يرافق كلام الخادم، ويتكلم في قلبه، لينطق بحسب مشيئة الله، فتتحقق جميع كلماته، مثلما قيل عن صموئيل النبي "كان الرب معه ولم يدع شيئًا من جميع كلامه يسقط إلى الأرض" (1صم3: 19). ما أجمل أن ينال الخادم الكرامة الحقيقية من الآب السماوي، مثلما فعل السيد المسيح الذي رفض مجد الناس، واحتمل الآلام بسرور في طاعة كاملة لله أبيه. اختار تلاميذ السيد المسيح الأوفياء أن يتبعوا السيد المسيح كما أوصاهم، وحملوا الصليب من خلفه، وبذلوا حياتهم بفرح لأجل اسمه، فاستحقوا أكاليل المجد السماوي في عملهم الرسولي العجيب. ومن الجانب الآخر يحدثنا الإنجيل عن كثير من رؤساء اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح "غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به، لئلا يصيروا خارج المجمع، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لأنهم أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله" (يو12: 42، 43). |
||||
13 - 03 - 2014, 03:45 PM | رقم المشاركة : ( 128 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
غسل الأرجل رأينا السيد المسيح وسمعناه يتصرف باتضاع عجيب في كل المواقف. وها نحن نراه الآن وهو يغسل أرجل تلاميذه. كان الصليب بالنسبة للسيد المسيح، هو طريقه في بناء الملكوت.. وكان الاتضاع هو طريقه نحو الصليب، وطريقه في الصليب. فقبل الصليب مباشرة، وضع السيد المسيح خدمة غسل الأرجل، كما سجلها لنا إنجيل القديس يوحنا: "أما يسوع قبل عيد الفصح، وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إلى الآب. إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم أحبهم إلى المنتهى. فحين كان العشاء، وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلمه. يسوع وهو عالم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، وأنه من عند الله خرج، وإلى الله يمضى. قام عن العشاء وخلع ثيابه، وأخذ منشفة واتزر بها. ثم صب ماء في مغسل، وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة التي كان متزرًا بها" (يو13: 1-5). أراد السيد المسيح أن يوضح أن الهدف من صلبه هو غسل أرجل تلاميذه. بمعنى أن خدمة التطهير وغسل الخطايا، هي مسئوليته باعتباره الفادي والمخلص. وقد ربط الوحي بشكل عجيب في بشارة يوحنا بين الحب والاتضاع "إذ كان قد أحب خاصته.. إلى المنتهى.. قام عن العشاء.. وابتدأ يغسل أرجل التلاميذ" (يو 13: 1-5). المحبة الحقيقية تتحقق بالاتضاع.. والاتضاع يتألق بالمحبة، وكلاهما يلتقيان معًا في بذل الذات وإنكارها. سر التوبة والاعتراف في غسل الأرجل أسس السيد المسيح سر التوبة والاعتراف، الذي يسبق التناول من جسد الرب ودمه. ولكي يستفيدالإنسان من هذا السر، ينبغي أن يكون قلبه تائبًا. وبهذا يتأهل للتناول باستحقاق من الجسد والدم الأقدسين. لهذا قال لبطرس وهو يغسل رجليه: "أنتم طاهرون، ولكن ليس كلكم. لأنه عرف مسلمه. لذلك قال: لستم كلكم طاهرين" (يو13: 10، 11). قال هذا عن يهوذا الإسخريوطي الذي كان حاضرًا غسل الأرجل ولكنه لم يتناول من جسد الرب ودمه. وضع السيد المسيح لنا مثالًا لكي نقتفى أثر خطواته. وصنع لنا ما لا يخطر على البال. وقال للتلاميذ: "أعطيتكم مثالًا، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضًا" (يو13: 15). في تواضعه العجيب انحنى وغسل أرجل تلاميذه.. وهو الذي يغطى الشاروبيم والسارافيم أرجلهم أمام بهاء عظمة مجده. * ماذا رأيت أيها الساراف وماذا أبصرت؟.. وكيف افتكرت أيها الكاروب الممتلئ أعينًا وفهمًا ومعرفة، حينما انحنى السيد المسيح نحو أرجل التلاميذ ليغسلها..؟! * هل غطيت وجهك بجناحيك مما رأيته من المجد البهي، أم من الانسحاق؟ أم رأيت مجد التواضع باهرًا يخطف العقل والبصر معًا، فهتفت قائلًا: إن السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس. * وأنت يا سيدي يسوع المسيح: كنت تغسل أرجل تلاميذك في وسط تسابيح الملائكة، تلك التي لم تشغلك إلى لحظة واحدة عن إتمام قصد محبتك،مقدّمًا الطاعة الكاملة لأبيك السماوي، الذي فرح قلبه بطاعتك الكاملة في الجسد كخادم للخلاص.. "فلما كان قد غسل أرجلهم، وأخذ ثيابه واتكأ أيضًا قال لهم أتفهمون ما قد صنعت بكم. أنتم تدعونني معلمًا وسيدًا، وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض" (يو13: 12-14). الكاهن يغسل أرجل المعترفين في سر التوبة والاعتراف. وهو يحتمل ضعفاتهم ويصلى عنهم، وينسحق أمام الرب بدموع لأجلهم.. وبدموع خدمته الكهنوتية يغسل أقدامهم من وسخ الخطية. والخادم يغسل أرجل المخدومين بتعبه من أجل تطهير حياتهم.. بتعليمه.. بعظاته الممسوحة بالروح القدس. كما قال السيد المسيح: "أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به" (يو15: 3). والإنسان المسيحي يغسل أرجل إخوته بتعامله معهم بمحبة واتضاع.. باحتمال ضعفاتهم.. بأن ينسب إلى نفسه خطاياهم.. لأن من يحمل خطايا غيره باتضاع ومحبة، يكون كمن ينحني ويغسل أقدامهم. |
||||
13 - 03 - 2014, 03:49 PM | رقم المشاركة : ( 129 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
السيد المسيح يواجهه خيانة يهوذا كان شيئًا قاسيًا جدًا على قلب المخلص الرقيق الممتلئ بالحب، والممتلئ بأسمى معاني النُبل والإخلاص والوفاء، أن يواجه الخيانة من قِبَل أحد تلاميذه الأخصاء المقربين. في ذلك نتذكر قول الشاعر: وظلم ذوى القُربى أشدّ غضاضةً على النفس من وقع الحسامِ المهنَّدِ ولكن السيد المسيح بالرغم من ذلك تعامل مع يهوذا بمنتهى الرفق، وبمنتهى الاتضاع. * "أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي" (مز55: 13) عاش يهوذا مع السيد المسيح أكثر من ثلاثة أعوام متصلة، بعد أن اختاره السيد المسيح ضمن الاثني عشر، ليكون معه، وليكون تلميذًا له، ولتصير له وظيفة رسولية. تلامس يهوذا مثل سائر التلاميذ مع السيد المسيح عن قرب، حسبما قال معلمنا يوحنا الإنجيلي؛ التلميذ الذي كان يسوع يحبه "الذي سمعناه. الذي رأيناه بعيوننا. الذي شاهدناه ولمسته أيدينا" (1يو1: 1). استمع يهوذا إلى عظات السيد المسيح الممتلئة بالنعمة والحكمة والحياة، تلك التي شهدت لها الجموع، إذ كانوا يتعجبون من كلامه المؤثر العميق كقول المزمور عنه "انسكبت النعمة على شفتيك" (مز44: 2). رأى يهوذا ما في السيد المسيح من صفات روحية جميلة، تلك التي عبّر عنها القديس يوحنا في إنجيله: "ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمةً وحقًا" (يو1: 14). رأى معجزاته الفائقة للطبيعة، واستجابة الآب السماوي التلقائية له في كل ما يطلبه، مثلما قال السيد المسيح مخاطبًا الآب: "وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي" (يو11: 42). رأى التفاف الناس حوله، ومحبتهم الجارفة له، وتجاوبهم مع تعليمه.. خاصة الخطاة الذين تركوا حياة الخطية.. حينما سمعوا مناداته بالتوبة لاقتراب ملكوت الله. اختبر يهوذا عن قرب محبة السيد المسيح الفياضة نحوه ونحو الآخرين، ولمس وداعته ولطفه وعطفه وترفقه بالضعفاء. كانت هناك عشرة وصداقة عجيبة بين السيد المسيح وتلاميذه الاثني عشر. فكان يأكل معهم ويقيم معهم، ويأخذهم معه إلى الهيكل كما إلى الجبال والوديان، والحقول، وضفاف الأنهار والبحيرات، وفي السفن في المياه. اصطحبهم معه في خلوات روحية بعيدًا عن الجموع، يعلّمهم الصلاة، ويفسّر لهم الأمثال، ويقول لهم "قد أعطى لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات" (مت13: 11) كما اصطحبهم في ترحاله؛ في جولاته مناديًا وكارزًا بملكوت الله. بل أكثر من ذلك أعطاهم سلطانًا أن يصنعوا الأشفية والآيات والعجائب باسمه المبارك. وحتى الشياطين صارت تخضع لهم باسمه. وكان يقول لهم الأعمال التي أنا أعملها سوف تعملونها بل وأكثر منها. # "الذي معه كانت تحلو لنا العشرة" (مز 55: 14) أمام كلهذه العلاقة الوثيقة، والصداقة العميقة، اختلج قلب السيد المسيح في أسى، وهو ينظر إلى خيانة التلميذ الذي باعه بثلاثين من الفضة.. بأبخس ثمن يمكن أن يُباع به إنسان. وهنا نتذكر كلمات داود النبي في المزمور التي كتبها بروح النبوة يصف بها مشاعر وأفكار مخلصنا الصالح وهو يواجه هذا الموقف المؤلم: "لأنه ليس عدوٌّ يعيِّرني فأحتمل، ليس مبغضي تعظّم علىّ فأختبئ منه. بل أنت إنسان عديلي إلفي وصديقي. الذي معه كانت تحلو لنا العشرة. إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور.. ألقى يديه على مسالميه. نقض عهده. أنعم من الزبدة فمه وقلبه قتال. ألين من الزيت كلماته وهى سيوف مسلولة" (مز55: 12-14، 20، 21). كيف تصرف السيد المسيح باتضاع؟ بمنتهى الحب، وطول الأناة، وبمنتهى الصبر والاتضاع تعامل السيد المسيح مع تلميذه الخائن يهوذا الإسخريوطي.. لم يكن السيد المسيح يرغب في هلاك ذلك الصديق الذي كانت تحلو له العشرة معه.. دعنا إذن نبدأ القصة من أولها: ·كان يهوذا ميالًا نحو المال. وأراد السيد المسيح أن يعوِّضه عن هذا الميل بطريقة سليمة، فسمح له أن يكون أمينًا للصندوق "كان الصندوق عنده" (يو12: 6). ·وبالرغم من ذلك، فقد أعمى الشيطان قلبه، وكان يسرق أموالًا من الصندوق. ولكن السيد المسيح أطال أناته عليه، ولم يفضحه في وسط التلاميذ، مع أنه "كان سارقًا وكان الصندوق عنده، وكان يحمل ما يُلقى فيه" (يو12: 6). ·وقد تطاول يهوذا بفكره وبكلامه على السيد المسيح، حينما سكبت المرأة طيبًا من ناردين خالص كثير الثمن عليه، إذ قال: "لماذا هذا الإتلاف، لأنه كان يمكن أن يُباع هذا الطيب بكثير (بأكثر من ثلثمائة دينار -حسب إنجيل معلمنا مرقس الرسول) ويعطى للفقراء" (مت26: 8، 9، انظر مر14: 5). "قال هذا ليس لأنه كان يُبالى بالفقراء. بل لأنه كان سارقًا، وكان الصندوق عنده وكان يحمل ما يلقى فيه" (يو12: 6). وبالرغم من هذا التذمر وهذا التطاول، فقد أجاب السيد المسيح باتضاع وأناة عجيبين وقال: "لماذا تزعجون المرأة، فإنها قد عملت بي عملًا حسنًا.. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي، إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني" (مت26: 10، 12). وأعلن الرب محبته الزكية من خلال قبوله الموت والتكفين.. لم يعيّر السيد المسيح يهوذا بأنه سارق للصندوق، ولأموال الفقراء.. بل قال: "الفقراء معكم في كل حين. وأما أنا فلست معكم في كل حين" (يو12: 8، مت26: 11). والعجيب أن هذا الموقف قد تكرر في الأسبوع الأخير، مرة قبل الفصح بستة أيام (في يوم السبت السابق للفصح)، ومرة قبل الفصح بيومين (في يوم الأربعاء السابق للفصح). وفي المرة الثانية وصل تذمر يهوذا إلى ذروته. كان يهوذا هو المذنب، وقام بقلب الحقائق.. ولكن السيد المسيح احتمل تطاوله عليه، وأجاب بطريقة موضوعية، دون أن يشهره أو يفضحه، وحتى لم يعاتبه فيما بعد على ما بدر منه، ولا ما هو فيه من طمع وجسارة.. بل أراد أن يعطيه الفرصة ليراجع نفسه في ضوء الحقيقة التي كان هو أول من يعرفها. أراد السيد المسيح أن يغلب الشر بالخير وأن يقدّم الإحسان للمسيئين إليه.. وحتى لم يحاول أن يفضحهم.. بل تركهم لعل ضمائرهم تبكتهم نتيجة لِما أظهره نحوهم من حب في مقابل إساءتهم. عجيب أنت يا رب في اتضاعك، وفي احتمالك لأخطاء من أساءوا إليك يا قدوس!! سلّم يهوذا نفسه للشيطان في الأسبوع الأخير أصيب التلاميذ بالقلق، لسبب ما سبق السيد المسيح فأنبأهم به، وهم صاعدون إلى أورشليم عن تسليمه إلى أيدي أناس خطاة فيجلدونه، ويصلبونه، ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم (انظر مت20: 18، 19)، وقبل الفصح بيومين أخبرهم بموعد صلبه (انظر مت26: 1، 2). ولكن للأسف فقد كانت مشاعر حزن التلاميذ في جانب، بينما كانت مشاعر يهوذا الإسخريوطي في جانب آخر.. كانت محبة المال قد سيطرت تمامًا على قلبه، وأعمى الشيطان بصيرته، وشعر أنه بصلب السيد المسيح سيفقد الصندوق الذي كان معه وسيتوقف عن الحصول على المال المسروق. ضاعت آماله وأحلامه في المجد والغنى والمملكة الأرضية، ولم ينظر بإيمان إلى القيامة المجيدة التي أنبأ بها السيد المسيحتلاميذه، ولا إلى الملكوت الروحي، ولا إلى ملكوت السماوات، وأمجاده الأبدية. فقرر أن يبيع سيده ليربح من وراء موته مالًا، ويعوّض جزءًا مما سوف يفقده. كانت الأرض والمسائل الأرضية هي شاغله، وليست الأبدية والسماويات. ولعل في هذا ما يبكّت السبتيين وشهود يهوه وكل أصحاب عقيدة الملكوت الأرضي للسيد المسيح. عنيف هو الشيطان في تأثيره على قلب من يقبل مشورته ونصائحه "وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلّمه" (يو13: 2). الشيطان يتآمر كان للشيطان دور واضح في التآمر على صلب السيد المسيح، وقد أخفى السيد المسيح لاهوته عن الشيطان لكي يتركه في حماقته يتآمر ولكي يفضح شره وتآمره وعداوته لله وللإنسان بالصليب. وقف حب الله وحكمته في مواجهة كراهية الشيطان وحماقته،وانتصر الحب وانتصرت الحكمة، وافتضح الشيطان أمام الخليقة العاقلة من الملائكة والبشر القديسين. عن هذا كتب معلمنا بولس الرسول مبينًا عمل السيد المسيح في خلاصنا وفي الانتصار على الشيطان بالصليب "إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمّرًا إياه بالصليب. إذ جردّ الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه" (كو2: 14، 15). والمقصود طبعًا بالرياسات والسلاطين أي الشيطان وكل قواته الشريرة كما كتب أيضًا "فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف6: 12). إذن لقد أشهر السيد المسيح الشيطان جهارًا وجرّده من سلطته ظافرًا به في الصليب. ولكن يلزمنا أن نفحص جانبًا من مؤامرة الشيطان التي أدّت إلى صلب مخلصنا الصالح، والدور الذي لعبه في هذه المؤامرة. مؤامرة الخيانة أوعز الشيطان إلى رؤساء اليهود أن يتآمروا على صلب السيد المسيح ولكن وقفت أمامهم بعض العقبات فكان الشيطان معينًا لهم في تذليلها. تكلّم إنجيل معلمنا لوقا البشير عن هذا الأمر فقال: "وقرب عيد الفطير الذي يُقال له الفصح. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه، لأنهم خافوا الشعب. فدخل الشيطان في يهوذا الذي يُدعى الإسخريوطي وهو من جملة الاثني عشر. فمضى وتكلّم مع رؤساء الكهنة وقواد الجند كيف يسلّمه إليهم. ففرحوا وعاهدوه أن يعطوه فضة. فواعدهم. وكان يطلب فرصة ليسلّمه إليهم خلوًا من جمع" (لو22: 1-6). هنا يظهر تدخل الشيطان واضحًا، حتى أنه دخل في يهوذا الإسخريوطي حتى يُقَسِّى قلبه ويجعله يتورط في هذه المؤامرة الشنيعة ويفرح أعداء السيد المسيح ويعدهم بتسليمه إليهم في مكان خالٍ من الجماهير لأنه يعرف الأماكن الخاصة التي يذهب إليها مع تلاميذه. ولكن دور الشيطان لم ينته عند هذا الحد لأنه لابد أن يكمل الطريق إلى النهاية، لئلا يتراجع يهوذا عن نيته الشريرة. لهذا استمر الشيطان يتعامل مع يهوذا في كل مراحل المؤامرة. ويوضح معلمنا يوحنا البشير ذلك عندما تحدث عن العشاء الأخير قبل صلب السيد المسيح حينما أكل الفصح مع تلاميذه فقال: "فحين كان العشاء، وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلّمه" (يو13: 2). في هذه المرحلة كان السيد المسيح سيوجّه تحذيرات وإنذارات ليهوذا لكي لا يرتكب خطيته الفظيعة. وكان الأمر يحتاج إلى تقسية إضافية لقلبه من الشيطان لئلا يلين أمام الإنذارات المرعبة "كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد" (مت26: 24) هكذا فعل الشيطان فاستمر في ترغيب يهوذا في ارتكاب فعلته الشنعاء. وعندما ابتدأ السيد المسيح يحدد من هو الذي سيسلمه كان الأمر محرجًا جدًا بالنسبة ليهوذا الإسخريوطي أمام السيد المسيح وأمام التلميذ الذي كان يسوع يحبه. إذ أن يوحنا الحبيب حينما سأله: يا سيد من هو؟ "أجاب يسوع: هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي. فبعد اللقمة دخله الشيطان.. فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت وكان ليلًا" (يو13: 26، 27، 30). شيء عجيب جدًا أن السيد المسيح حينما غمس لقمة الفصح اليهودي في المرق حسب طقس الفصح وأعطاها ليهوذا ليأكلها؛ دخله الشيطان!! لقد خشى الشيطان أن يتراجع يهوذا أمام إنذارات السيد المسيح وأيضًا أمام موّدته كصديق لأنه أطعمه بيده الطاهرة "ليتم الكتاب الذي يأكل معي الخبز رفع علىّ عقبه" (يو13: 18). لهذا لم يكتفِ الشيطان بأنه دخل في يهوذا حينما ذهب وتواعد مع رؤساء الكهنة والكتبة أن يسلّم السيد المسيح إليهم خلوًا من جمع في مقابل ثلاثين من الفضة، ولا اكتفى الشيطان بأنه ألقى في قلب يهوذا وقت العشاء أن يسلّم المسيح، بل دخله مرة ثانية حينما أعطاه السيد المسيح اللقمة. وحينئذ صمم يهوذا أن يتمم فعل الخيانة الرهيب. إن المشكلة ليست في اللقمة التي أعطاها له السيد المسيح، ولكن المشكلة هي في أنه قد فتح قلبه للشيطان ليدخل فيه مرارًا وتكرارًا وأن يضع فيه ما شاء من أفكار الطمع والتآمر والخيانة. وهكذا فعل الشيطان أيضًا مع اليهود الذين لم يؤمنوا بالسيد المسيح كما كتب يوحنا الإنجيلي عنهم "ومع أنه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها لم يؤمنوا به. ليتم قول إشعياء النبي الذي قاله يا رب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب. لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا لأن إشعياء قال أيضًا: قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم" (يو12: 37-40). فمن الذي أعمى عيونهم؟ إنه الشيطان الملقب بإله هذا الدهر كما كتب القديس بولس الرسول "الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضئ لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله" (2كو4: 4). التآمر على تسليم السيد المسيح كان رؤساء الكهنة يبحثون عن شخص يصير دليلًا لهم، ليلقوا القبض على السيد المسيح بعيدًا عن الجموع، خوفًا من الشعب الذي استقبل السيد المسيح كملك عند دخوله إلى أورشليم في يوم أحد الشعانين. وقد سجّلت لنا الأناجيل هذه الأحداث كما يلي: ·"حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب إلى دار رئيس الكهنة الذي يدعى قيافا. وتشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه. ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب" (مت26: 3، 4). ·"وقرب عيد الفطير الذي يقال له الفصح. وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يقتلونه. لأنهم خافوا الشعب. فدخل الشيطان في يهوذا.. وكان يطلب فرصة ليسلمه إليهم خلوًا من جمع" (لو22: 3-6). ·"وكان.. رؤساء الكهنة والفريسيون قد أصدروا أمرًا أنه إن عرف أحد أين هو، فليدل عليه لكي يمسكوه" (يو11: 57). ·"وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان، دخله هو وتلاميذه. وكان يهوذا مسلمه يعرف الموضع. لأن يسوع اجتمع هناك كثيرًا مع تلاميذه" (يو18: 1، 2). ولخّص القديس بطرس الرسول هذا الأمر بقوله المدوّن في سفر أعمال الرسل: "كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا الذي صار دليلًا للذين قبضوا على يسوع إذ كان معدودًا بيننا" (أع1: 16، 17). كانت المسألة تحتاج إلى شخص يعرف جيدًا تحركات السيد المسيح، ويحدد للذين يريدون أن يمسكوه المكان والزمان بعيدًا عن الجموع. ولم يكن الأعداء يحلمون بأن يأتيهم واحد من تلاميذه ليكون دليلًا لهم. ولهذا فقد فرحوا جدًا حينما وجدوا ضالتهم المنشودة في شخص يهوذا الخائن. والعجيب جدًا أن قمة التصعيد في نفسية يهوذا قد حدثت حينما ضاعت فرصته في أن يحصل على ثمن الطيب الكثير الثمن الذي سكبته المرأة على السيد المسيح. ولهذا فبمجرد أن نطق السيد المسيح بعبارته عن المرأة ساكبة الطيب: "الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها" (مت26: 13). ذهب يهوذا بعدها مباشرة إلى رؤساء كهنة اليهود "حينئذ ذهب واحد من الاثني عشر الذي يُدعى يهوذا الإسخريوطي إلى رؤساء الكهنة. وقال ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم. فجعلوا له ثلاثين من الفضة. ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه" (مت26: 14-16). لم يخرج يهوذا مندفعًا فقط من العلية في ليلة العشاء الرباني من وسط التلاميذ، ولكن أيضًا في اليوم السابق خرج من بيت سمعان الأبرص في بيت عنيا.. وقد تركه السيد المسيح يذهب ولم يكشف تآمره لأحد مع أنه كان يعلم بكل تحركات يهوذا وبخيانته له و"بكل ما يأتي عليه" (يو18: 4). وفى العشاء الأخير قال السيد المسيح لتلاميذه على مائدة الفصح: "شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم. لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد، حتى يكمل في ملكوت الله" (لو22: 15، 16). لهذا حرص السيد المسيح جدًا أن لا يعلم يهوذا بمكان إعداد الفصح وتأسيس سر العشاء الرباني، الذي أمر السيد تلاميذه أن يصنعوه لذكره إلى مجيئه الثاني، في اليوم الأخير. لم يرغب السيد المسيح في أن يحرج يهوذا، أو أن يكشف أمره لباقي التلاميذ، أو أن يطرده بعيدًا.. بل تركه حتى خرج مسرعًا قبيل تقديس الخبز والخمر في سر القربان المقدس. أخفى السيد المسيح مكان اجتماعه ليأكل الفصح مع تلاميذه عن جميع التلاميذ.. "فأرسل بطرس ويوحنا قائلًا: اذهبا وأعدا لنا الفصح لنأكل. فقالا له أين تريد أن نعد؟ فقال لهما إذا دخلتما المدينة يستقبلكما إنسان حامل جرة ماء. اتبعاه إلى البيت حيث يدخل. وقولا لرب البيت يقول لك المعلم أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي. فذاك يريكما علية كبيرة مفروشة، هناك أعدّا. فانطلقا ووجدا كما قال لهما. فأعدا الفصح" (لو22: 8-13). حتى التلاميذ الذين أرسلهم لإعداد الفصح لم يكن معلومًا لهم المكان، وإنما أعطاهم علامة عجيبة لا يستطيع أي إنسان أن يستنتج منها شيئًا. وذهب التلميذان ووجدا كما قال لهما المعلم، وبقيا هناك حتى وصل السيد المسيح مع تلاميذه الباقين دون أن يلاحظ أحد لماذا فعل المعلم هكذا. كان السيد المسيح يريد أن يمنح يهوذا فرصته الأخيرة ليأكل معه طعام عيد الفصح.. وأن يغسل له السيد المسيح رجليه مع باقي التلاميذ، وأن يوجه إليه التحذيرات الأخيرة، قبل أن يرتكب الخائن فعلته الشنعاء. أراد السيد المسيح أن يؤجل خطية يهوذا إلى آخر فرصة ممكنة، فأخذه معه إلى العلية.. وغمس اللقمة بيده وأعطاه، لعله يشعر بالمودة والحب ولطف معاملة السيد المسيح له، الذي لم يحرمه من أن يأكل معه، بالرغم من تآمره عليه واتفاقه مع رؤساء الكهنة على تسليمه إليهم. كيف لم تشعر يا يهوذا بترفق السيد المسيح بك، ورغبته الأكيدة في خلاصك مثل الباقين، حينما قال لك إن "ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه" (مر14: 21)؟!! بدأ السيد المسيح يوبخ يهوذا على ما أضمره في قلبه من الشر، فقال لبطرس عند غسل الأرجل: "أنتم طاهرون ولكن ليس كلكم، لأنه عرف مسلمه. لذلك قال لستم كلكم طاهرين" (يو13: 10، 11). وقال أيضًا لتلاميذه ويهوذا في وسطهم: "لست أقول عن جميعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم. لكن ليتم الكتاب، الذي يأكل معي الخبز رفع علىَّ عقبه" (يو13: 18). وحينما تذكر اللحظة الحاسمة، التي سوف تأتى حينما تصل خيانة يهوذا إلى قمتها، "اضطرب بالروح، وشهد وقال الحق الحق أقول لكم إن واحدًا منكم سيسلمني" (يو13: 21). في كل ذلك لم يشأ السيد المسيح أن يكشف يهوذا شخصيًا لسائر التلاميذ، فقال: "واحد منكم".. وقال: "أقول لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون أنى أنا هو" (يو13: 19). كان ينبغي أن يخبرهم ليعلموا أنه سلّم نفسه للموت بإرادته وسلطانه، ولم يباغته شيء. لأن هذا هو دليل محبته، إذ بذل ذاته فداءً عن العالم. كان ينبغي أن يفهموا بعد أن يتم الفداء أنه هو الله الظاهر في الجسد (انظر 1تى3: 16). لهذا أخبرهم ولكنه لم يعرِّض يهوذا للخطر في وسط التلاميذ، ولم يخبرهم عن اسمه علانية، حتى "حزنوا جدًا وابتدأ كل واحد منهم يقول له هل أنا هو يا رب" (مت26: 22). و"كان التلاميذ ينظرون بعضهم إلى بعض، وهم محتارون في من قال عنه" (يو13: 22). وحتى حينما سأل يوحنا السيد المسيح سرًا، لم يجبه بالاسم، لكي لا يلاحظ أحد.. بل أعطاه علامة فقط، وغالبًا لم توجد فرصة لكي يخبر يوحنا أحدًا بإجابة السيد المسيح قبل خروج يهوذا. لأنه خرج فورًا بعد إتمام تلك العلامة، وهذا ما أوضحه يوحنا في إنجيله: "وكان متكئًا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه. فأومأ إليه سمعان بطرس أن يسأل من عسى أن يكون الذي قال عنه. فاتكأ ذاك على صدر يسوع، وقال له يا سيد من هو؟ أجاب يسوع هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأعطيه. فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي. فبعد اللقمة دخله الشيطان. فقال له يسوع ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة. وأما هذا فلم يفهم أحد من المتكئين لماذا كلّمه به. لأن قومًا إذ كان الصندوق مع يهوذا، ظنوا أن يسوع قال له: اشتر ما نحتاج إليه للعيد، أو أن يُعطى شيئًا للفقراء. فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت. وكان ليلًا. فلما خرج قال يسوع الآن تمجّد ابن الإنسان، وتمجّد الله فيه" (يو13: 23-31). لو كان بطرس قد علم بالأمر قبل خروج يهوذا، لما كان قد سمح له أن يخرج. ولكن المرجح أنه علم من يوحنا بعد خروج يهوذا، وبعد مرور وقت كاف لا يسمح لبطرس بتتبعه.. "ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة" (يو13: 27) الملاحظ هنا أن السيد المسيح قال هذه العبارة ليهوذا، على سبيل التوبيخ والإنذار للتوبة. لأن يهوذا هو الذي كان يتعجل أي فرصة مواتية، ليذهب سريعًا إلى رؤساء الكهنة الذين كانوا ينتظرون مجيئه بفارغ الصبر. لم يقل له السيد المسيح "اذهب بسرعة لتسلمني لليهود". ولكن قال: "ما أنت تعمله" تاركًا له حرية الاختيار بين أحد أمرين: ·إما أن يعمل عمل التوبة بسرعة فيتأهل للتناول من جسد الرب ودمه، إذ يترك عنه الخيانة ويبقى مع التلاميذ. ·أو أن يخرج سريعًا ويخلى المجال، ليتمكن السيد المسيح في العلية من تأسيس سر العشاء الرباني، الذي لا يستحق يهوذا أن يشترك فيه، وبحيث يتم ذلك قبل القبض على السيد المسيح في البستان. وقد اختار يهوذا -كما سبق السيد المسيح وأنبأ- الخيار الثاني. وخرج للوقت لأنه كان قد سلّم قلبه بالكامل للشيطان.. وبعد خروجه ومعه شيطان قلبه، بدأ السيد المسيح في تقديس القربان إذ قال "الآن تمجّد ابن الإنسان وتمجّد الله فيه" (يو13: 31). لم تكن لقمة الفصح اليهودي التي أعطاها السيد المسيح ليهوذا قبل خروجه هي السبب في دخول الشيطان فيه. أما قول الكتاب "بعد اللقمة دخله الشيطان" (يو13: 27)، فهو مرتبط بقوله السابق لهذا الأمر "وقد ألقى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلِّمه" (يو13: 2). كان السبب الحقيقي لدخول الشيطان في يهوذا، هو إصراره على الخيانة، بالرغم من محبة السيد المسيح وتحذيراته له. وتخلى النعمة عنه في نهاية الأمر لأنه لم يستحقها، بل رفضها وبإصرار.. والنعمة لا تفرض وجودها على أحد.. أليس هذا هو ما حذر منه السيد المسيح من التجديف على الروح القدس؟.. وهو ما ينتج عن رفض التوبة وبإصرار إلى النهاية؟! حسن التدبير عامل السيد المسيح يهوذا الإسخريوطي بمنتهى الرفق والرقة، في مقابل خيانته الشنيعة، وحتى حينما حرمه السيد المسيح من التناول من الأسرار المقدسة، فقد فعل ذلك بطريقة حسن التدبير، وحسن اختيار الزمان والمكان. فبسابق علمه كان يعرف أن يهوذا يتحيّن الفرصة للذهاب لرؤساء الكهنة، ولا يرغب في البقاء بعد انتهاء الفصح اليهودي، بل كان كل همه أن يعرف خط سير السيد المسيح. أثناء الفصح اليهودي حذَّره السيد المسيح من الخيانة بقوله: "إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان. كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد" (مت26: 24). كان التحذير شديدًا وعميقًا ومؤثرًا.. ولكن يهوذا لم يبالِ.. وحينما سأل يهوذا السيد المسيح "هل أنا هو يا سيدي" (مت26: 25). أجاب السيد المسيح وقال له: "أنت قلت" (مت26: 25). بعد هذه التحذيرات قال السيد المسيح ليهوذا: "ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة" (يو13: 27). وبهذا ترك له حرية الاختيار بين البقاء والتراجع عن الخيانة، وبين الخروج الذي كان يهوذا يتعجله. وكما رأينا، اختار يهوذا أن يخرج مسرعًا.. وهنا بدأ السيد المسيح في تأسيس سر الشكر، وتقديس القربان والكأس التي للعهد الجديد. وذلك بعد أن خرج الذي أضمر خطية في قلبه. بكل هذا التدبير العجيب صنع السيد المسيح العشاء الرباني بعد خروج يهوذا.. وغالبًا ظن يهوذا أن الفصح اليهودي لم يكن باقيًا بعده سوى الختام والتسبيح. كانت أقدس اللحظات قد أوشكت.. وخرج الخائن.. غير الطاهر (انظر يو13: 10، 11)، وأصبح الجو مهيئًا ليمنح السيد المسيح أعظم عطية في الوجود لتلاميذه.. وهو ما تقول عنه الترنيمة: هذا عشا العريس قدّم للعروس والوعد بالفردوس لحافظ العهد في بساطة واتضاع عجيبين أعطى السيد المسيح جسده لتلاميذه قائلًا: "خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم. اصنعوا هذا لذكرى" (لو22: 19، انظر مت26: 26). وسبق أن قال لهم: "من يأكل جسدي ويشرب دمى يثبت في وأنا فيه" (يو6: 56). هؤلاء التلاميذ الضعفاء المساكين.. وهم قوم بسطاء وأغلبهم من الصيادين.. أعطاهم السيد المسيح سر حبه الأمين.. في ليلة آلامه.. جسده الذي يقسم عنهم، ودمه الزكى الثمين الذي يسفك لأجل كثيرين.. وهو فرح جميع القديسين. أعطاهم السيد المسيح عربون الحياة الأبدية، بيده الطاهرة الطوباوية، حين لم تعد للخيانة في الحاضرين بقية.. مترفقًا بضعف الباقين الذين كانت محبتهم حقيقية، ولكنها كانت تنتظر قيامته القوية. وهنا نتذكر ما كتبه قداسة البابا شنودة الثالث -أطال الرب حياة قداسته- عن القوة التي تمنحها القيامة في أبيات ذهبية (نظمت سنة 1951 م.): قم حطم الشيطان لا تُبق لدولته بقية قم بشر الموتى وقل غفرت لكم تلك الخطية قم قو إيمان الرعاة ولِمّ أشتات الرعية واغفر لبطرس ضعفه وامسح دموع المجدلية واكشف جراحك مقنعًا توما فريبته قوية كانت خطية يهوذا في خيانته هي عدم المحبة. أما باقي التلاميذ في ضعفهم أثناء آلام السيد المسيح وصلبه، فكانت محبتهم تنتظر قوة وفاعلية الروح القدس، لكي تكون قادرة على هدم كل محاربات الشيطان.. هناك فرق بين الهزيمة والخيانة.. فالجندي الأمين في الميدان من الممكن أن ينهزم وقتيًا، ولكنه ليس من الممكن أن يخون.. مثل هذا الجندي يحتاج إلى معونة من قيادته القوية، سواء بالأجناد أو بالسلاح والعتاد. وهذا ما يفعله الله مع أولاده المخلصين الأمناء، إن انهزموا وقتيًا في ضعف، وصرخوا إليه طالبين المعونة لخلاصهم. لماذا خان سيده اختار السيد المسيح يهوذا الإسخريوطي وهو يعلم مسبقًا أنه سوف يخونه ويسلّمه لأعدائه من اليهود. ولكن بالرغم من ذلك فإن السيد المسيح حاول أن يثنيه عن خيانته وأنذره بعواقبها. ولكن يهوذا أصر على الخيانة ولم تنفع معه النصائح والإنذارات ولم يؤثر فيه العتاب والتوبيخ. إن الرب يظل أمينًا وفيًا حتى ولو خانه أصدقاؤه. وقد تألم السيد المسيح كثيرًا لسبب خيانة أحد تلاميذه له. وكان هذا من الأسباب التي جعلت نفسه حزينة جدًا حتى الموت في ليلة آلامه. ولكن بالرغم من ذلك فإنه قد اختار يهوذا الإسخريوطي ليكون واحدًا من الاثني عشر، ويؤدى دوره في تسليم السيد المسيح وبهذا يصير وسيلة لتحذير كل تلاميذ الرب من الخيانة وبشاعتها. وفى أسبوع الآلام تركِّز الكنيسة في الخميس الكبير وقراءاته على واقعة خيانة يهوذا، وتمنع التقبيل لعدة أيام في هذا الأسبوع المقدس استنكارًا للقبلة الغاشة التي سلّم بها يهوذا سيده ومعلمه إلى اليهود، الذين حكموا عليه بالموت وأسلموه إلى الرومان ليصلبوه. وينبغي علينا أن نتنبه في طقس البصخة المقدسة أن يهوذا لم يتناول من جسد الرب ودمه، بل أكل فقط من عشاء الفصح اليهودي وحينما غمس السيد المسيح اللقمة في المرق وأعطاه، خرج للوقت. وبعدها بدأ السيد المسيح في تقديس الخبز والخمر وتأسيس سر الافخارستيا أي التناول المقدس. وقد سبق أن نشرت مجلة الكرازة مقالًا تفصيليًا بهذا الخصوص استنادًا إلى ما ورد في الأناجيل الأربعة. كما أن قداسة البابا شنودة الثالث أطال الرب حياته قد نبّه مرارًا وتكرارًا أن يهوذا لم يتناول من جسد الرب ودمه. وكذلك فإن المجمع المقدس في جلسته في عيد العنصرة (يونيو 2002م) قد نبّه إلى تصحيح قراءات عظات قطمارس البصخة المقدسة katameooc واستبعاد العبارات التي تشير إلى تناول يهوذا من جسد الرب ودمه الأقدسين. نبوات عن خيانة يهوذا وردت نبوة عن يهوذا في المزمور المائة والتاسع (مز109: 8) واقتبسها القديس بطرس الرسول في حديثه عنه بعد انتحاره وعند اختيار متياس الرسول بدلًا منه والمذكور في سفر أعمال الرسل (أع1: 20) "لتصر داره خرابًا ولا يكن فيها ساكن وليأخذ وظيفته آخر"وهذا المزمور يحوى كلامًا كثيرًا عن يهوذا الإسخريوطي ويبدأ بعبارة "يا إله تسبيحي لا تسكت. لأنه قد انفتح علىّ فم الشرير وفم الغش.." (مز109:1، 2). ويستطرد المزمور فيقول "فأقم أنت عليه شريرًا وليقف شيطان عن يمينه. إذا حوكم فليخرج مذنبًا وصلاته فلتكن خطية. لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر.. من أجل أنه لم يذكر أن يصنع رحمة بل طرد إنسانًا مسكينًا وفقيرًا والمنسحق القلب ليميته. وأحب اللعنة فأتته ولم يسر بالبركة فتباعدت عنه" (مز109: 6-8، 16، 17). وهنا يكشف المزمور سر هلاك يهوذا الإسخريوطي في عبارة "وأحب اللعنة فأتته ولم يسر بالبركة فتباعدت عنه" (مز109: 17). أحيانًا يحاول البعض أن يدافعوا عن يهوذا الإسخريوطي ويقولون إن يهوذا قد قدّم خدمة للبشرية بتسليمه السيد المسيح لليهود لكي يتم الفداء والخلاص. وأن السيد المسيح قد اختاره لهذا الغرض. ولكن السيد المسيح أنذر يهوذا بأن الخلاص سيتم؛ من خلال خيانة يهوذا أو بدونها. ولكن ويل لمن يقوم بهذه الخيانة. وقد سجلت الأناجيل قول السيد المسيح هذا بحضور يهوذا: "إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه. ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان. كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد" (مت 26: 24). وها هو أيضًا المزمور يوضح أن يهوذا قد "أحب اللعنة فأتته، ولم يسر بالبركة فتباعدت عنه" (مز109: 17). وقد كشف المزمور بهذا مشاعر قلب يهوذا الداخلية أنه أحب اللعنة، ولذلك جاءته هذه اللعنة. أحب أجرة الظلم، وجاءت معها اللعنة. أحب الخيانة، وجاءت معها اللعنة. أحب مشورة الشياطين، وجاءت معها اللعنة. أحب مؤامرة الأشرار، وجاءت معها اللعنة. كذلك فإنه لم يسر بالبركة فتباعدت عنه. لم يسر برفقة السيد المسيح، فتباعدت عنه البركة. لم يسر برفقة التلاميذ المخلصين، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بحضور القداس الإلهي الأول، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بمرافقة السيد المسيح ومشاركته في ليلة آلامه، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بحديث السيد المسيح عن صلبه وقيامته، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بوظيفته الرسولية، فتباعدت عنه البركة. لم يسر بأن يصنع رحمةً بل طرد المنسحق القلب ليميته، فتباعدت عنه البركة. ماذا نقول عنك يا يهوذا؟ لقد صرت نذيرًا وتحذيرًا لكل من تسول له نفسه الخيانة. لقد أحزنت قلب سيدك الذي قدّم لك الحب وصار يقول: "بدل محبتي يخاصمونني. أما أنا فصلاة. وضعوا علىّ شرًا بدل خيرٍ، وبغضًا بدل حبي" (مز109: 4، 5). نهاية الخائن بعد تسليم السيد المسيح، وصدور حكم مجمع اليهود عليه بالموت، لم يحتمل يهوذا الإسخريوطي أسلوب الرقة والمحبة التي عامله بها السيد المسيح من قبل.. ووضع الشيطان في قلبه أن يمضى ويقتل نفسه. وبالفعل إذ لم تكن في قلبه محبة ولا اتضاع، لم يلجأ إلى السيد المسيح تائبًا معتذرًا عما بدر منه، بل مضى وشنق نفسه.. وهكذا نرى أن لطف الله وأناته الذي يقتادنا إلى التوبة، هو نفسه يصير سبب دينونة لنا، إن لم نتراجع عن خطايانا بقلوب ملؤها الحب والثقة في الله. عن ذلك قال معلمنا بولس الرسول: "غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك، وقلبك غير التائب، تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة" (رو2: 4، 5). كثير من الدروس نستطيع أن نتعلمها من خيانة يهوذا، وموقف الرب منه، ومعاملاته الممتلئة حنوًا من نحوه، ومصيره الذي اختاره لنفسه وذهب إليه بإرادته.. أيها الرب يسوع المسيح، ليتنا نفهم شيئًا من سرك العجيب، فنتأملك بالدهش.. وتعجز كلماتنا عن أن تصف فضائلك يا ملك القديسين. |
||||
13 - 03 - 2014, 03:52 PM | رقم المشاركة : ( 130 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: كتاب المسيح مشتهى الأجيال: منظور أرثوذكسي الأنبا بيشوي
أرنا الآب وكفانا (يو14: 8) بعد العشاء الرباني، تكلّم السيد المسيح عن بيت الآب السماوي والطريق إليه. فسأله توما الرسول: "يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق؟" (يو14: 5). فقال له يسوع: "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي. لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبى أيضًا. ومن الآن تعرفونه، وقد رأيتموه" (يو14: 6، 7). وحينما تكلّم السيد المسيح عن معرفة التلاميذ للآب ورؤيتهم له، وهى تلك التي تحققت من خلال الابن الوحيد الله الكلمة المتجسد، بدأ فيلبس يطلب رؤية الله، متجاهلًا حضور السيد المسيح الذي قيل عنه "الله ظهر في الجسد" (1تى3: 16)، وقال متعجلًا: "يا سيد أرنا الآب وكفانا" (يو14: 8). جاء طلب فيلبس منافيًا تمامًا لكلمات السيد المسيح عن الله الآب: "ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه" (يو14: 7)، ومنافيًا لحضور السيد المسيح باعتباره الله الظاهر في الجسد (انظر 1تى3: 16). ولكن عمانوئيل لم يغضب من هذا التجاهل لكلامه ولحضوره "الله معنا" (مت1: 23) بل أجاب في اتضاع وفي عتاب قائلًا: "أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس؟! الذي رآني فقد رأى الآب. فكيف تقول أنت أرنا الآب؟! ألست تؤمن أنى أنا في الآب والآب فيَّ.." (يو14: 9، 10). ما قصده فيلبس بقوله: "أرنا الآب وكفانا" هو "أرنا الله وكفانا". وكأنه يجعل هناك فرقًا، أو فاصلًا بين السيد المسيح والله. أو أن الآب وحده هو الله، والسيد المسيح هو شاهد عن الله.. ولكن السيد المسيح أوضح له وللتلاميذ، أن الذي يرى المسيح فقد رأى الله الكلمة، الابن الأزلي.. والابن هو "صورة الله غير المنظور" (كو1: 15). والمقصود أنه صورة الله الآب غير المنظور. فالذي يرى الله الكلمة الظاهر في الجسد، يكون قد رأى الصورة الحقيقية لله الآب مثلما نقول أن الكلمة صورة العقل غير المنظور. وبهذا يكون قد رأى الله الآب. وقد قال أحد الفلاسفة: "كلّمني فأراك". وهذا ما عبّر عنه القديس يوحنا في بداية إنجيله بقوله: "الله لم يره أحد قط. الإله الوحيد الجنس الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يو1: 18). أيقونة الثالوث أشار قداسة البابا شنودة الثالث عدة مرات إلى الخطأ الذي أستُحدث في القرون الأخيرة، ووقع فيه بعض الفنانين الغربيين، حينما رسموا أيقونة للثالوث القدوس، استخدمتها بعض الكنائس في الغرب، يظهرون فيها الآب في صورة إنسان كبير السن ذي لحية بيضاء، وعن يمينه الابن في صورة شاب ذي لحية سوداء، والروح القدس في هيئة حمامة بيضاء مضيئة. وأوضح قداسته أن الابن باعتباره صورة الله الآب غير المنظور؛ فليس من الصواب أن يتم تصوير الآب بهذا الشكل! إن الآب "لم يره أحد قط" (يو1: 18). ولم نره إلاَّ في ابنه الذي هو صورته. كما أن اللحية البيضاء للآب، مع لحية سوداء للابن، قد تعطى انطباعًا بأن هناك فارقًا زمنيًا في الوجود بين الآب والابن، وهو ما ابتدعه أريوس الهرطوقي مدعيًا أن الأزلية هي للآب وحده. بينما نرى الكتاب المقدس يورد وصفًا للسيد المسيح في السماء في رؤيا يوحنا اللاهوتي: "وفى وسط السبع المناير شبه ابن إنسان متسربلًا بثوب إلى الرجلين، ومتمنطقًا عند ثدييه بمنطقة من ذهب. وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصوف الأبيض كالثلج. وعيناه كلهيب نار. ورجلاه شبه النحاس النقي كأنهما محميتان في أتون. وصوته كصوت مياه كثيرة. ومعه في يده اليمنى سبعة كواكب. وسيف ماض ذو حدين يخرج من فمه ووجهه كالشمس وهى تضئ في قوتها،فلما رأيته سقطت عند رجليه كميت فوضع يده اليمنى علىَّ قائلًا لي: لا تخف أنا هو الأول والآخر، والحي وكنت ميتًا وها أنا حي إلى أبد الآبدين آمين. ولى مفاتيح الهاوية والموت" (رؤ1: 13-18). الذي رآه يوحنا هو السيد المسيح الذي مات حسب الجسد، وقام من الأموات، وصعد إلى السماوات حيث "رفع في المجد" (1تى3: 16). وقد رأى يوحنا شعر رأس السيد المسيح وشعر لحيته وهما أبيضان كالصوف الأبيض كالثلج، علامة أنه قديم الأيام وأزلي مثل الآب تمامًا، لأنه هو كلمة الله الذي له نفس الجوهر الذي للآب، والمولود منه قبل كل الدهور والأزمان. وليس من الممكن أن يوجد الله الآب بغير الكلمة الأزلي، إذ هو "قوة الله، وحكمة الله" (1كو1: 24)، "الكائن على الكل إلهًا مباركًا إلى الأبد آمين" (رو9: 5). إن أجمل أيقونة للثالوث هي أيقونة عماد السيد المسيح حيث نرى السماوات مفتوحة، والروح القدس يحل على السيد المسيح بهيئة حمامة، والآب يشهد بصوته قائلًا "هذا هو ابني الحبيب" (مت3: 17). السيد المسيح كمعلم لللاهوت لم يغضب السيد المسيح من كلام فيلبس. بل كمعلم سأله بطول أناة واتضاع: "الذي رآني فقد رأى الآب. فكيف تقول أنت أرنا الآب؟!" (يو14: 9). كان هدف السيد المسيح من كلامه هو أن يُصحح إيمان فيلبس وعقيدته اللاهوتية، حتى يمكنه أن يعرف الحق المؤدى إلى الحياة. فخاطبه بعدها قائلًا: "ألست تؤمن أنى أنا في الآب والآب فيَّ؟" (يو14: 10). ما أعجب السيد المسيح كمعلم لللاهوت، وهو يدعو تلاميذه إلى المعتقد القويم والإيمان الحق ويقول متوسلًا في حب واتضاع: "صدقوني أنى في الآب والآب فيَّ" (يو14: 11). |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
من كتاب مشتهى الأجيال: صعود المسيح |
من كتاب مشتهى الأجيال: من القدس إلى قدس الأقداس |
من كتاب مشتهى الأجيال: التجربة على الجبل |
من كتاب مشتهى الأجيال: مصير العالم يتأرجح |
من كتاب مشتهى الأجيال: يأس المخلص |