منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18 - 02 - 2014, 04:37 PM   رقم المشاركة : ( 101 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 100 (99 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
موكب الشاكرين


هذا المزمور الليتورجي هو تسبحة شكر، يقدمها القادمون إلى هيكل الرب والداخلين إلى دياره. غالبًا ما كان يُقدم مع خدمة ذبائح الشكر لله، وهو مزمور تجاوبي antiphonal، يقدمه الشعب أو الجماعة مع خورس المسبحين. هو نشيد أو قصيدة قصيرة لكنها مفعّمة بالحيوية، يستعذبها القلب التقي.
مفتاح المزمور أن الفرح في الرب هو الدافع الحقيقي للإيمان والعبادة، خلاله ترتفع قلوب البشر إلى الله.
هذا المزمور مسياني، يدعو البشرية كي تختبر الفرح بإنجيل المسيح، وتتمتع بحياة النصرة، وتدخل بدالة إلى هيكل الرب بروح التهليل والهتاف.
* العبارات قليلة، لكنها ضخمة بمواضيعها العظيمة. ليت البذار تنبت داخل قلوبكم، والمخازن تُعد لحصاد الرب[1].
القديس أغسطينوس

1. دعوة البشرية للهتاف
1-3.
2. دعوة البشرية للتمتع بالحضرة الإلهية
4-5.
من وحي مز 100
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

"مَزْمُورُ حَمْدٍ"
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لداود في الاعتراف"، وفي تفسير القديس أغسطينوس: "مزمور اعتراف".
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. دعوة البشرية للهتاف

اِهْتِفِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ [1].
مع أن هذا المزمور يخص العبادة في الهيكل أثناء خدمة ذبائح الشكر، لكن العابد الحقيقي وهو يشكر الله على عطاياه الكثيرة، ينفتح قلبه على كل البشرية، فيشتهي أن تتحول الأرض إلى خورسٍ واحدٍ متهلل، يهتف بكل قوةٍ، ويعبد الرب بفرحٍ لا يُنطق به.
يقول المرتل: "طوبى للشعب الذي يعرف الهتاف"، وهنا يدعو الأرض كلها أن تهتف للرب. كأن الرب قد خلق البشرية كلها لكي لا يُحرم أحد منها ليس من الفرح فحسب، بل ومن الهتاف الذي لا يُعبر عنه.
الخليقة السماوية والأرضية، وخلقة الإنسان نفسه إنما تدعونا للهتاف للرب بلا توقف. أما وقد وعدنا برؤية الخالق نفسه فهذا يفوق كل عطية. لقد كلفه ذلك خلاصًا هذا مقداره وهذه تكلفته!
* "اِهْتِفِي لِلرَّبِّ يَا كُلَّ الأَرْضِ" (مز 100: 1)يحثنا هذا المزمور على الهتاف للرب. لا يحدث هذا كمن يحث ركنًا معينًا من الأرض، أو موضع سكنى لمجموعة من البشر، بل لندرك أنها تزرع بركات في كل جانب، في كل موضع توجد بهجة عظيمة.
هل كل الأرض تسمع صوتي؟ ومع ذلك فإن كل الأرض بالفعل تسمع هذا الصوت.
كل الأرض تبتهج بشدة فعلًا في الرب... لأن البركة ممتدة من كل جانب، حيث بدأت الكنيسة تمتد من أورشليم إلى كل الأمم (لو 24: 27).
في كل موضع يهتدي الأشرار، في كل موضع تُبنى التقوى، الصالحون ممتزجون مع الأشرار في كل الأرض. كل موقع مملوء من الساخطين المتمرمرين من الأشرار، وأيضًا من البهجة العظيمة التي للصالحين.
ماذا إذن يعني "اهتفي"؟ لأن عنوان المزمور الحاضر يجعلنا ننتبه لهذه الكلمة على وجه الخصوص: "مزمور اعتراف".
ماذا يعني الهتاف مع الاعتراف؟ هذا المعنى عُبِّر عنه في مزمور آخر: "طوبي للشعب الذي يعرف الهتاف"...
من يهتف لا ينطق بكلمات، إنما هو تعبير للذهن يفيض بالفرح، يعَّبر قدر المستطاع عن مشاعر لا تُحد...
متى إذن نهتف؟ عندما نحمد بما لا يمكن أن ننطق به.
فإننا نلاحظ كل الخليقة: الأرض والبحر وكل ما فيها، نلاحظ أن كل شيء له مصادره وأسبابه، يحمل قوة الإنتاج، نظام الميلاد، ووجود حد للوجود... الأجيال تتسلسل دون ارتباك، والكواكب تتحرك كما من الشرق إلى الغرب، ويتم نظام السنوات... إني ألاحظ كل الخليقة قدر ما استطيع... متى يمكنني أن أدرك ذاتي في داخلي؟ كيف يمكنني أن أدرك ما هو أعلى مني؟
ومع ذلك فإن رؤية الله قد وُعد بها للقلب البشري، وأن عملًا معينًا لنقاوة القلب يتحقق. هذه هي مشورة الكتاب المقدس...!
تأمل ذاتك، وأنظر من أنت؟ ماذا ترى؟ إنسان يرى الله!
أنا أدرك أن هذا ليس عن استحقاق الإنسان، بل من رحمة الله. أحمد الله من أجل رحمته![2]
القديس أغسطينوس
* لست أتجاسر فأحدّ قدرة الله الكلية أو أقيّدها بشريحة ضيّقة من الأرض، هذا الذي الأرض والسماء لا تسعانه. كل مؤمن يُدان ليس حسب مسكنه هنا أو هناك، وإنما حسب براري إيمانه.
العابدون الحقيقيون يعبدون الآب، لا في أورشليم، ولا على جبل جرزيم[3].
القديس جيروم
* قول النبي: "كل الأرض" معناه جميع سكان الأرض. هللوا له بتسبحة الغلبة، لأنه غلب عدونا، واعبدوا للرب بفرحٍ.
بما أن سيادته حليمة، ونيره طيب، وحمله خفيف، فلا نعمل بضجرٍ وكآبة، لأنه هو الذي صنعنا، واخترعنا من العدم إلى الوجود. ولسنا نحن خلقنا بعضنا بعضًا، لأن الوالدين ليسا هما السبب بميلادنا، بل الله هو الذي يأمر بتصور الطفل في البطن.
الأب أنسيمُوس الأورشليمي
اعْبُدُوا الرَّبَّ بِفَرَحٍ.
ادْخُلُوا إِلَى حَضْرَتِهِ بِتَرَنُّمٍ [2].
كأن الله يدعو البشرية للعبادة له، لا كواجبٍ نلتزم به، وإنما لكي ما ننعم بحضرته، فتتهلل قلوبنا بالفرح. نُسر به، ويقبل هو عبادتنا، إذ يُسر بسرورنا وفرحنا.
* "اعبدوا الرب بفرحٍ". كل عبودية مملوءة مرارة. كل من يرتبط بنصيب من العبودية هم عبيد ساخطون.
لا تخافوا من عبودية هذا الرب، فإنه لا يوجد تنهد هناك، ولا سخط ولا نقمة. لا يوجد من يطلب أن يُباع لسيد آخر، إذ هي خدمة عذبة، لأننا جميعًا مخلَّصون.
إنها أيها الإخوة سعادة عظيمة أن تكون عبدًا في هذا البيت العظيم، وأن كنت في قيود.
لا تخافوا أيها العبيد المقيدون، اعترفوا للرب، انسبوا هذه القيود لاستحقاقكم، اعترفوا في سلاسلكم، إن أردتم أن تحولوها إلى حلي... فأنت عبد وحر، عبد، لأنك خُلقت هكذا. وحر، لأنك محبوب من الله الذي خلقك.
نعم أنت حر، لأنك تحب الذي صنعك.
لا تخدم بقنوطٍ، فإن تذمرك لا يحررك من الخدمة، بل يجعلك عبدًا شريرًا.
أنت عبد للرب، أنت حر في الرب.
لا تطلب أن تُعتق فتترك بين من يحررك[4].
* عندما تنام على سريرك، تذكر بركات الله، وعنايته بك، وأشكره على هذا، فإذ تمتلئ بهذه الأفكار تفرح في الروح. وعندئذ يكون في نوم الجسد سموًا لنفسك، وإغلاق عينيك بمثابة معرفة حقيقة للّه، وصمتك وأنت مشحون بمشاعر صالحة هو تمجيد لله القدير من كل القلب وكل القوة، مقدما لله تسبيحًا يرتفع إلى الأعالي. لأنه عندما لا يوجد شر في الإنسان، فإن الشكر وحده يرضي الله أكثر من تقدمات ثمينة، هذا الذي له المجد إلى دهر الدهور. آمين.
القديس أنطونيوس الكبير
* "ادخلوا إلى حضرته بترنمٍ". يسهل أن تخرجوا خارجًا، افرحوا أمام حضرة الله.
لا تجعلوا ألسنتكم تفرح جدًا، بل دعوا ضمائركم أن تفرح. "ادخلوا إلى حضرته بترنمٍ"[5].
القديس أغسطينوس
اعْلَمُوا أَنَّ الرَّبَّ هُوَ اللهُ.
هُوَ صَنَعَنَا وَلَهُ نَحْنُ شَعْبُهُ وَغَنَمُ مَرْعَاهُ [3].
* من لا يعرف أن الرب هو الله؟ إنما يتكلم هنا عن الرب الذي ظن البشر أنه ليس الله. "اعلموا أن الرب هو الله".
لا تجعلوا الرب أن يكون مُستهانًا به في نظركم.
لقد صلبتموه، وجلدتموه، وبصقتم عليه، وكللتموه بالشوك، وألبستموه ثوبًا للسخرية، ورفعتموه على الصليب، ووضعتم فيه مسامير، وطعنتموه بالحربة، وأقمتم حراسًا على قبره.
إنه الله "هو صنعنا، ولم نصنع أنفسنا"...
لقد رفعتم ذواتكم، ومجدتم أنفسكم كما لو كنتم قد خلقتم أنفسكم.
كان الأفضل لكم أن الذي صنعكم يجعلكم كاملين...
وله نحن شعبه وغنم مرعاه"... لقد ترك التسعة وتسعين ونزل يبحث عن الواحد. لقد رده على منكبيه، وخلصه بدمه.
هذا الراعي مات دون خوف من أجل القطيع، هذا الذي بقيامته اقتنى قطيعه[6].
القديس أغسطينوس
* نسألك أيّها الرب. كن معيننا وحافظنا (مز ١١٩ : ١١٤).
خلص الذين في أحزان،
ارحم المتواضعين.
أقم الساقطين.
اظهر ذاتك للمحتاجين.
المرضى اشفهم؛
الضالين من شعبك ردّهم؛
الجياع أشبعهم؛
المأسورين اعتقهم؛
الضعفاء أنعشهم؛
صغيري القلوب عزّهم،
فلتعرفك كل الشعوب أنك أنت هو الله (١ مل ٨ : ٦٠) ويسوع المسيح هو ابنك، ونحن شعبك وغنم رعيتك (مز ١٠٠ : ٣)[7].
القدِّيس إكليمنضس الروماني

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. دعوة البشرية للتمتع بالحضرة الإلهية

ادْخُلُوا أَبْوَابَهُ بِحَمْدٍ،
دِيَارَهُ بِالتَّسْبِيحِ.
احْمَدُوهُ، بَارِكُوا اسْمَهُ [4].
* "ادخلوا أبوابه بالاعتراف". عند الباب تكون البداية، ابتدئوا بالاعتراف...
اعترفوا أنكم لم تصنعوا أنفسكم بأنفسكم، احمدوا ذاك الذي صنعكم. ليأتِ صلاحكم من عنده. باعتزاله يحل بكم شركم.
"أدخلوا أبوابه بالاعتراف". ليدخل القطيع من الأبواب، ولا يبقى خارجًا فريسة للذئاب.
ليكن الباب، الذي هو البداية لكم، هو الاعتراف. فقد قيل في مزمور آخر: "ابدأوا للرب بالاعتراف" (راجع مز 147: 7)...
حتى عندما تدخلون دياره اعترفوا.
متى لا يكون بعد هناك اعتراف عن الخطايا؟ في تلك الراحة حين تكونون في شبه الملائكة.
لكن لاحظوا ماذا أقول. هناك لا يكون اعتراف عن خطايا، لكن لم أقل لا يوجد اعتراف، إذ يوجد هناك اعتراف بالحمد. ستعترفون إلى الأبد، أنه هو الله، وأنتم مخلوقاته أنه حاميكم وأنتم محميون.
القديس أغسطينوس
* أبوابه هي أعمال التوبة التي تُدخلنا إليه، لأجل ذلك قال النبي: "ادخلوا أبوابه بالاعتراف"، وأما دياره التي هي هياكله المقدسة، فبالتسبيح أعني سبيلنا أولًا أن نطهر أنفسنا بالاعتراف وأعمال التوبة، وبعد ذلك نتجاسر على الدخول إلى دياره ونباشر التسابيح.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّ الرَّبَّ صَالِحٌ.
إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتُهُ،
وَإِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ أَمَانَتُهُ [5].
* لا تظنوا أنكم ستملون من تسبيحه.
تسبيحكم له يشبه طعامًا، كلما قمتم بتسبيحه، تنالون بالأكثر قوة، والذي تسبحونه يصير أكثر عذوبة بالنسبة لكم.
"إلى الأبد رحمته". فإنه لا يكف عن أن يكون رحيمًا، بعد أن يحرركم.
إنه أمر يخص رحمته أن يحميكم حتى في الحياة الأبدية "إلى الأبد رحمته، وإلى دور فدور أمانته". لتفهموا "إلى دورٍ فدورٍ"، إما في كل جيل (دورٍ) أو في جيلين: جيل أرضي وجيل سماوي. هنا جيل ينجب من هم قابلين للموت، وآخر ينجب الأبديين. حقه (أمانته) هنا وهناك[8].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
صرخة للثالوث القدوس للتمتع بالتسبيح

نختم هذا المزمور الذي يدعونا للتسبيح في هذا العالم كما في الحياة الأبدية بصرخة تخرج من قلب القديس مار يعقوب السروجيمنأعماق قلبه يطلب منالثالوث القدوس لكي يتمتع بالتسبيح.
* أيها الآب الرحوم، الذي خلصنا بدم وحيده، منك آخذ القوة لوصف وحيدك.
أيها الابن الحقيقي، الذي جاء عندنا ليحررنا، بك ولأجلك أتكلم عن تجليك.
أيها الروح القدس، معلم الجهلة والبسطاء، بك أفقه وأثير ميمرًا كله عجب.
أيها الآب الوالد، أعطني كلمة لأجل ابنك لأتحدث عن خبره بمحبة وبإسهاب.
أيها الابن المولود، أعلن في جمالك لأجل أبيك، ليتحدث فمي وصوته عال بتسبيح جديد.
أيها الروح الشفيع، الذي به تُزمر كل البشارة، بك يتقلب لساني الضعيف على تسبيحك.
أيها الآب، الذي أرسل ابنه الحبيب ليصير أخا لنا، افتح شفتي للتحدث عن وحيدك (مز 51: 17).
أيها الوحيد، الذي أعطانا كل ثروة أبيه، لتتحرك كلمتي بغنى أسرارك نحو السامعين.
أيها الروح، الذي خرج ومهد الصعاب أمام التلاميذ، مهد السبيل للميمر العجيب الذي هاج ليشرق من قبلي.
أيها الآب، الذي منه الكل، وكل ما صار هو لأجله، منك آخذ حجة للميمر غير المحدود.
أيها الابن، الذي الكل في يده، وبدونه لا يوجد شيء، بك أزمر لأبيك تسبيحًا مليئًا تمييزًا (يو 1: 3).
أيها الروح، يا كنز النبوة والرسل، اعطني غنى من خزائنك لأوزعه.
أيها الآب، الذي بمحبته أسلم ابنه لأجل الخطاة، تكلم عوضي مع السامعين لأجل ابنك.
أيها الابن، الذي تنازل ليصير منا وهو ربنا، أشرق في بعجب فيشرق نورك من عباراتي.
أيها الروح، الذي خفض كل الأعالي الهمجية، أنت هيئ دربًا لكلماتي الوهنة[9].
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 100

لتهتف أعماقي لك!


* خلقتني كسائر البشر،
لكي تهتف أعماقي متهللة بك.
أتأمل الخليقة، فأذوب أمام حكمتك ورعايتك وحبك!
كل ما في الخليقة يشهد لعظمتك وعنايتك!
* اعترف لك أنني أقف في دهشة،
فإنني لا أعرف حتى أسرار جسدي ونفسي وكل أعماقي!
إن كنت أدهش لأسراري التي هي صنع يديك،
فكيف أعبر عن دهشتي لعظمتك وحكمتك.
* اعترف لك إنني لا أرى حتى نفسي التي هي في جسدي،
هي سرّ لا أعرفه أنا نفسي.
لكنك وعدتني أن أراك.
هيأت لي قلبًا يتنقى،
فيبصرك يا خالق الكل!
قدمت لي دمك كفارة عن خطاياي،
تغسل بصيرتي الداخلية،
فأنعم برؤية بهائك!
* تدعوني أن أتعبد لك،
وأنت لست محتاجًا إلى خدمة السمائيين والأرضيين.
لست تصدر أمرًا كواجبٍ نلتزم به.
لكن في حبك العجيب لنا،
تود أن ننعم بحضرتك مصدر الفرح والبهجة.
أعبدك فألتقي بك.
تترنم أعماقي، ويبتهج قلبي،
وتذوب عواطفي بالحب،
وينطق لساني بالتسبيح.
أصير أشبه ببوقٍ لا يكف عن الهتاف.
وعودٍ يعزف روحك القدوس على أوتاره.
يُخرج لحنًا عجيبًا هو من عمل روحك القدوس.
* بإرادتك تركت السمائيين، ونزلت تبحث عن الخروف الضال.
أخليت ذاتك، وأخذت شكل العبد.
قبلت الخزي والعار لكي تردني إلى المجد!
احتملت الآلام حتى الصلب،
لكي تحررني، وترفعني إلى السماء.
اعترف لك أنك أنت هو الله.
أنت هو الباب،
بدونك كيف أدخل إلى سماواتك؟!
اعترف لك أنك خالقي.
بدونك لم يكن لي وجود.
أنت هو مخلصي،
وحدك تهبني الكمال.
بدونك لا انعم بالصلاح،
بل يلتصق بي شري.
* تسبيحك سند لنفسي.
هو طعامها في الأبدية.
به تتقوى وتنمو.
كلما تذوقته زادت حلاوته!
  رد مع اقتباس
قديم 06 - 03 - 2014, 02:20 PM   رقم المشاركة : ( 102 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 101 (100 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
نذور الملك

سجَّل داود الملك هذا المزمور في بداية حكمه، حيث قدَّم لله نذرًا مصِيريًا، ألا وهو الإرادة المقدسة في الرب. لكن في دراستنا لحياة داود الملك لا نجد الصورة الكاملة لشخصيته كما اشتهى المرتل هنا، لهذا فهو مزمور خاص بالسيد المسيح ملك الملوك الكلي الكمال.
غالبًا ما كان يتغنى المرتل بهذا المزمور في كل احتفال بتجليسه ملكًا، حتى يتذكر دومًا ما نذر به للرب.
لغته تُظْهِرُ أن الكاتب صاحب سلطان ملوكي، يشعر بالالتزام بالسلوك بروحي ملوكي مقدس ولائق به.
قديمًا كان البعض يدعو هذا المزمور "مزمور رب البيت" كملك وقائد ملتزم بخط إيماني روحي ملوكي.
منذ القرن السابع عشر، وربما قبل ذلك كان البعض في الغرب يستمعون إلى عظة عن هذا المزمور عند إقامة أسرة جديدة، وأيضًا عند إقامة مسكن جديد.
يرى البعض أن هذا المزمور يحمل خطيْن متكامليْن؟
أ. القائد، سواء كان ملكًا أو رب بيت، يُقَدٍّم قلبه مسكنًا لملك الملوك الذي يتمشى في أعماقه.
ب. القيادة الحقيقية أو الملوكية تحمل روح الأبوة الحانية.
1. مقدمة للمزمور
1.
2. السلوك الملوكي اللائق
2-7.
أ. التعقل بسكنى حكمة الله في أعماقه
2.
ب. الهروب من الشر
3.
3. الهروب من الأشرار
4-5.
4. الالتصاق بالقديسين
6.
5. بيته كنيسة مقدسة
7.
6. ختام
8.
من وحي مز 101
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. مقدمة للمزمور

لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ
رَحْمَةً وَحُكْمًا أُغَنِّي.
لَكَ يَا رَبُّ أُرَنِّمُ [1].
كثيرًا ما يردد المرتل تعبير "رحمة وحكمًا"، فإن الرحمة تسبق الحكم؛ إذ يكشف لنا عن رحمته، فيفتح لنا باب الرجاء، وينزع عنا اليأس. وفي رجائنا لا نكون متهاونين ومستهترين، متطلعين إلى حكم الله وعدله. بالرحمة نرتمي في أحضان الله متهللين، وبالحكم نلتزم أن نسلك بما يليق بنا كأولاد الله. خلال هذه الرحمة وهذا الحكم يتجاسر المرتل ويُسَبِّح الله الذي يطلب خلاص نفسه، ويسنده ليسلك كابن الله.
يرى القديس أغسطينوس أنه خلال رحمة الله يتمتع المؤمن في هذا العالم بالقيامة الأولى التي هي قيامة النفس، فيتأهل المؤمن للمجد الأبدي بكل كيانه الروحي والجسدي، حيث ينعم في يوم الرب بالجسد المقام والمُمَجَّد. أما خلال الحكم أو الدينونة فكل البشرية تقوم، لكن الذين نالوا القيامة الأولى يتمجدون، والذين استخفوا بها يسقطون تحت الدينونة التي بلا رحمة.
* يمكننا أن نبلغ إلى القيامة الأولى وهي الآن، لأنه لا يشترك أحد في هذه القيامة الأولى إلا الذين سينالون الغبطة إلى الأبد. أما في القيامة الثانية، فسيشترك فيها كما سنرى، جميع الناس، السعداء والأشقياء. إحداهما قيامة الرحمة، والأخرى قيامة الدينونة، ولهذا كُتب في المزمور: "رحمة وحكمًا (دينونة) أغنى لك يا رب أرنم" (مز 101 :1)[1].
* الرحمة تُطلب أولًا، والحكم يأتي بعد ذلك. فسيتم الفصل (بين الأبرار والأشرار) عند الحكم... ليتنا نعبر من صيد السمك حيث تمتزج الأفراح بالدموع، أفراح بسبب السمك الصالح الذي نجمعه، والدموع بسبب السمك غير الصالح[2].
* ليته لا يخدع إنسان نفسه بأنه لن يُعاقب خلال رحمة الله، فإنه يوجد أيضًا الحكم (العدل). وليته لا يرتعب أحد من حكم الله مادام يتحول إلى ما هو أفضل، متطلعًا إلى أن رحمة الله تتقدم الحكم[3].
* لا يفقد الله صرامة الحكم خلال فيض الرحمة، ولا فيض الرحمة حين يحكم بحزمٍ.
* ما لم يعمل الله أولًا خلال الرحمة، لا يجد أولئك الذين يكللهم خلال الحكم.
* يوجد وقت للرحمة حيث تدعو طول أناة الله الخطاة للتوبة.
القديس أغسطينوس
* "رحمة وحكمًا أغني لك يا رب". ليت الخطاة الذين ييأسون من خلاصهم، هؤلاء المتواضعون والمنكسرون بسبب خطاياهم يسمعون أغنية الرحمة! وليت المتعجرفون الذين يقولون: "الرب رحوم، إذن فلنخطئ، لأنه يسامحنا"، يسمعون لأغنية العدل (الحكم)[4].
القديس جيروم
* سُئل القديس مكسيموس: "كيف تتحقق النفس أن الله غفر لها خطاياها؟" فأجاب: "إذا رأتْ أنها في درجة ذاك القائل: "أبغضتُ الظلم ورذلته، أما ناموسك فأحببته" (مز 119: 163)، لأنه يقول: "لرحمتك وعدلك أسبحك يا رب" (مز 101: 1). فلنصنع أعمال التوبة لكي نُظهر حكم الله العادل، ويُكمّل رحمته علينا، إذ يغفر لنا خطايانا".
فردوس الآباء
* أهلني يا رب أن أُسَبِّحَك على رحمتك الصائرة لنا، وحُكمك وانتقامك من أعدائنا. فإنني إذا حظيت بهذه النعمة أترنم شاكرًا إحساناتك، وأتمسك بسيرة نقية بريئة من العيب.
* أُسَبِّحَك يا رب، وأشبع ناشدًا برحمتك وحكمتك، لأنك لا تجازي الناس بذنوبهم، لكن رحمتك وتحننك يسبقان حكمك.
في هذا الدهر تعاملنا برحمتك، وأما في الدهر العتيد فتعاملنا بحكمك.
قال القديس كيرلس إن قوله أُسَبِّحَك يا رب، لأنك رحمتنا، وأرسلت ابنك إلى العالم، وغفر لنا ذنوبنا برحمته، وانتقم من عدونا (إبليس) بحكمٍ عادلٍ.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. السلوك الملوكي اللائق

أ. التعقل بسكنى حكمة الله في أعماقه

أَتَعَقَّلُ فِي طَرِيقٍ كَامِلٍ.
مَتَى تَأْتِي إِلَيَّ؟
أَسْلُكُ فِي كَمَالِ قَلْبِي فِي وَسَطِ بَيْتِي [2].
إن كانت رحمة الله تَهِبُ النفس فرحًا داخليًا، فلا يكف المؤمن عن التسبيح لله، ومن جانب آخر ينعم بالحكمة الإلهية والتمييز والتعقل، فيسلك بالنعمة في طريق الكمال. إنه يصرخ إلى الله أن ينزل بنعمته إليه، ليُقَدِّس قلبه ويقيم منه هيكلًا له.
لا يدفع الكمال المؤمن الحقيقي إلى التشامخ، بل إلى الشعور بفضل الله عليه، فيسلك بكمال قلبه، أي بروح الوداعة في وسط بيته، أي الجماعة المقدسة.
ويرى القديس أمبروسيوس في حديث المرتل عن السالك في كمال قلبه في وسط بيته هو السيد المسيح. إذ يتمشى في صدر الإنسان الحكيم والمتعقل [في داخلنا بيت الله، لدينا قاعات وأيضًا أروقة وديارات؛ مكتوب "تفيض مياهك في خارج ديارك" (راجع أم 5: 16). إذن لتفتح رواق قلبك لكلمة الله، هذا الذي يقول لك: "افتح فاك وأنا أملأه" (راجع مز 81: 10)[5].]
* ليس شيء يسر الله مثل البساطة ونقاوة القلب. بالحقيقة لا يجد مسرة في طائر أعظم مما في الحمامة لبساطتها، ولا في حيوان ذي أربع أرجل أكثر من الحمل لوداعته[6].
القديس جيروم
* يعاني كل شرٍ من الضيق narrowness، أما برّ القلب فوحده يهب اتساعًا للتمشي فيه: "أسير في براءة قلبي، في وسط بيتي". يُقصَد بوسط بيته الكنيسة نفسها، لأن المسيح يمشي فيها؛ أو يقصد قلبه، لأن بيتنا الداخلي هو قلبنا[7].
القديس أغسطينوس
* إن كنتم مشتاقين إلى الحصول على نور المعرفة الروحية، معرفة ليست خاطئة لأجل كبرياء فارغ لتكونوا رجالًا فارغين. يجدر بكم أولًا أن تلتهبوا بالشوق نحو هذا التطويب الذي نقرأ عنه: "طوبى للأَنْقِياءِ القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 8:5). بهذا تنالون ما قاله الملاك لدانيال: "والفاهمون يضيئُون كضياءِ الجلد، والذين ردُّوا كثيرين إلي البرّ كالكواكب إلي أبد الدهور" (دا 3:12). ويقول نبي آخر: "ازرعوا لأنفسكم بالبرّ (حيث يوجد وقت)" (هو 12:10).
هكذا يلزمنا المثابرة بجهادٍ في القراءة، الأمر الذي أراكم تصنعونه، مع السعي بكل اشتياق لنوال المعرفة العملية الاختبارية أولًا، أي المعرفة السلوكية. لأنه بغيرها لا يمكن اقتناء النقاوة النظرية التي نتكلم عنها، وبهذا لا ينطقون بكلمات غيرهم معلمين بها، إنما بالسمو في العمل والتنفيذ. فبعدما يبذلون جهودًا وأتعابًا كثيرة يستطيعون أن ينالوا المعرفة الروحية كمكافأة لهم من أجلها. وإذ يقتنون المعرفة، لا من مجرد التأمل في الشريعة، بل كثمرة لتعبهم، يتغنون مع المرتل قائلين: "من وصاياك تفهمت" (مز 104:119). وإذ يقهرون كل شهواتهم، يقولون بكل ثقة: "لك يا ربِّ أرنم. أتعقل في طريقٍ كامل" (مز 1:101-2). فمن يجاهد في طريق كامل بقلبٍ نقيٍ يترنم بالمزمور ويتعقل (يتفهم) الكلمات التي يسبح بها.
إن أردتم أن تعدوا قلوبكم هيكلًا للمعرفة الروحية، فنقُّوا أنفسكم من آثار كل الخطايا، وتخلَّصوا من اهتمامات هذا العالم، لأن هناك استحالة على النفس التي ترتبك باهتمامات العالم - ولو إلي درجة بسيطة - أن تقتني عطية المعرفة، أو تصير مصدرًا للتفسير الروحي، وتجاهد في قراءة الأمور المقدسة[8].
الأب نسطور
* متى تأتي يا سيدي بمعونتك، وتمنحني ما أتمناه، لكوني من بعد أسير بدعة قلبي بين جماعتي.
* أما عن قول النبي: "في وسط بيتي"، فيقول يوسابيوس: إن كثير من الخبثاء يخفون خبثهم بين الملأ في الأسواق والشوارع وفي عشرتهم مع الناس، ولكن في بيوتهم تظهَر سوء نياتهم. أما الذي يسلك في بيته مؤدبًا، فذاك بالحقيقة جيد الأخلاق.
وقال ديديموس: إن المولع بالأشياء التي هي خلاف الشريعة، فهذا يُقال عنه إنه خارج بيته، بما أن بيت الفاضل فضيلته، والذي يلازمها يكون في وسط بيته وديعًا.
جاء في الأصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين عن يعقوب أنه كان رجلًا كاملًا، ساكنًا في البيت، أما عن عيسو فيقول الكتاب إنه كان يعرف الصيد إنسان البرية (تك 25: 27). ومثل ذلك يقول الإنجيل المقدس عن ذاك الذي كانت فيه الشياطين، إنه لم يكن يأوي في مسكنٍ.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
ب. الهروب من الشر

لاَ أَضَعُ قُدَّامَ عَيْنَيَّ أَمْرًا رَدِيئًا.
عَمَلَ الزَّيَغَانِ أَبْغَضْتُ.
لاَ يَلْصَقُ بِي [3].
كيف يقول المرتل إنه لم يصنع قدام عينيه أمرًا رديًا، بينما يردد في موضع آخر: "من يتبرر أمامك؟" وأيضًا: الجميع زاغوا وفسدوا وأعوزهم مجد الله.
الله وحده البار بلا خطية، أما الإنسان فخاطئ. لكن شتان بين من يتلذذ بالخطية ويبحث عنها، ويذهب بنفسه إليها، فيستعبد نفسه لها، وبين من يقاومها ويحاول الهروب منها، وإن سقط فيها يسرع بطلب نعمة الله لكي ترفعه، وتحرره من التلذذ بها.
تكشف هذهالعبارة والعبارة السابقة عن موقف داود النبي وهو في قصر شاول الملك، كما عن موقف المؤمن الحقيقي في وسط جيلٍ شرير مظلمٍ وملتوٍ.
لقد نال النبي في صباه خبرة مُرّة في قصر شاول الملك، إذ كان يحاول كثير من المنحرفين والفاسدين أن يتملقوا الملك ويلتصقوا به. أما داود فعانى من هذا الجو الشرير، ولم يضع قدام عينيه أمرًا رديئًا، حتى وإن كان هذا هو طريق الوصول إلى قلب الملك والصداقة معه.
لقد أحب البرّ وأبغض كل انحرافٍ، مفضلًا الالتصاق بالله القدوس، مهما كلفه من ثمنٍ عوض الالتصاق بشاول الملك من خلال الخداع.
* "صانعي المعصية أبغضت" [3 LXX]. سواء كان أبي أو أمي أو أخي أو أختي أو صديقي، فإن من ينسحب عن مخافة الرب، فإنني أبغضه، ولا ألتصق به (في شره). لا أضع القرابة أو الصداقة فوق محبتي لله وإخلاصي له[9].
القديس جيروم
* ليس معنى قول النبي إنه لم يسقط في أمرٍ يخالف الناموس، بل معناه أنه لم يرد ذلك، ولا سعى لفعل شيءٍ يخالف الناموس. كأنه يقول: إني لم أتعمد بإرادتي أن أسعى على مخالفة الشريعة، بل وأبغضت صانعي المعاصي. لكن إن سقط في أمرٍ غير لائقٍ، إنما يحدث هذا عن هبوب عاصفٍ شديدِ.
أما قوله: "لا أضع قدام عيني"، فمعناه إني لم أفكر ولا تفرست فيما يخالف الشريعة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. الهروب من الأشرار

قَلْبٌ مُعَوَّجٌ يَبْعُدُ عَنِّي.
الشِّرِّيرُ لاَ أَعْرِفُهُ. [4].
إن كان داود قد صار ملكًا، ففي أعماقه يشعر أن هذا المركز ناله لا من أجل مواهبِ خاصةٍ، ولا عن برًّ ذاتي، ولا لفضلٍ له عن غيره، إنما هو عطية الله المجانية له. لهذا يليق به أن يسلك بقلبٍ نقيٍ، وأن يعتزل الأشرار، لا عن كراهية من جانبه. وإنما عن رغبة في عدم الانحراف عن الاستقامة التي وهبه الله إياها.
هذا ما يليق بكل مؤمنٍ التصق بملك الملوك، مخلصه يسوع المسيح، ليحيا معه في حياة ملوكية بلا انحراف. هكذا يلزمنا أن نقتدي بدانيال النبي والثلاثة فتية القديسين، الذين سُبوا في أرض يسودها رجاسات الوثنية، لكنهم اعتزوا بإيمانهم والتصاقهم بالله القدوس الحقيقي. ورفضوا التعرف العملي على الملك الشرير بعدم مشاركتهم له في فساده. في اختصار مع محبتنا لكل البشرية والتزامنا بالطاعة للرؤساء والقادة، يليق بنا أن ندرك أن أولاد الله ظاهرون وأولاد إبليس.
يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا باسم الله نفسه، فإنه إذ يبتعد عنه صاحب القلب المعوج يصير غير أهل ليكون موضع معرفة الله، [ماذا يعني: "لا أعرفه؟" ليس إنني أجهله، إنما لستُ أستحسنه.]
* سواء كان صديقي أو قريبي أسقفًا أو كاهنًا، أيا كان مركزه ومكانته، إن أفسد نفسه بوسيلة ما، أبتعد عنه تمامًا، ولا أعود أذكره قط[10].
القديس جيروم
* استقامة العقل مثل استقامة السبيل الذي ليس فيه التواءات. هكذا كانت شخصية المرتل الإلهي، هذا الذي يئن: "قلب معوج يبعد عني" (مز 101: 4). ويحث يشوع بن نون الشعب، قائلًا: "لتكن قلوبكم مستقيمة لإله إسرائيل"، بينما يصرخ يوحنا: "اصنعوا سبله مستقيمة" (مر 1: 3). هذا يعني أن النفس يلزمها أن تكون مستقيمة، طبيعتها البديهية التي خُلقت عليها، فقد خُلقت جميلة ومستقيمة تمامًا. لكنها إذ تنحرف وتميل حالتها الطبيعية، فهذا يُدعى شرًا وانحرافًا للنفس[11].
القديس كيرلس الكبير
* جاء في سفر الجامعة: الله صنع الإنسان مستقيمًا (جا 7: 29). فالذي يفعل بخلاف الغريزة التي خُلق بها، حاد وتعوّج عن استوائه، ولا يطابق المستقيم. يقول النبي: كل من كان معوجًا لا يوافقني، وإذا كان من أصدقائي، ويحيد عني لعدم ملائمة رأيه لرأيي لم أكن أعاتبه بذلك ولا أبالي، عالمًا بأن العشرة الرديئة تفسد العادات الصالحة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* أمر الملك (البابلي) أن يكفوا عن أعياد آبائهم، ويتبعوا الطقوس الدينية للكلدانيين، ويهملوا ناموس الله، وأصَّر عليه. لكن دانيالَ قرَّر في قلبه أن يتحاشى التلوثَ بمائدةِ الملك (قابل دا 1 :8-16)، لهذا كان من اللائق والصواب أن يقول إنه لم يعرف علاماتِ الغرباء (الأشرار).
أُمر أن يَعبدَ شبانُ العبرانيين تمثال الملك، لكنهم أجابوه: "لن نسجد لتمثالك" (دا 3 :18). لهذا كان من اللائق بكل منهم أن يقول: "وضعوا شاراتٍ كعلاماتٍ، وأنا لم أعرفها"، أي لم أحاول حتى تجربتها، ولم أقبلها بأية صورة، ولم أرتبط بها أبدًا. ومن ثم نقرأ أيضًا فيما يختص بابن الله أنه لم يعرف خطية (قابل 2 كو 5: 21).
وتجدون في نصٍ آخر: "لأن الذي يحفظ الوصية، لا يعرف الكلمة الشريرة" (جا 8 :5)، حيث يتضح أن معرفة الشر ليست ملومة، بل الارتباط بالشر هو الملوم.
ويقول داود نفسه أيضًا في نص آخر: "لكن الشرير (الخبيث) يبعد عني، لا أعرفه" (مز 101 :4).
وأيضًا حينما يحاول الخصوم وضعَ علاماتهم يصَّرح قائلًا: "كأنه في الطريق على القمة العالية، كأنه بمعاول (فئوس) في غابة أشجار، قطَعَوا في الحال البواباتِ هناك، بفأسِ ذات حدين فكسَّروها" (مز 74 :5-6 LXX)، فما معنى هذا؟ إنها تكشف بالتأكيد عن أن إيماننا، ينبغي ألا يكون "في الطريق" حقًا، وإلا حَطِّتْ طيور الجو وخطفته. مثل تلك الكلمة التي نقرأ عنها في الإنجيل، والتي لا ينبغي أن تبذر بين الطرق والمسالك (قابل لو 8 :5)[12].
القديس أمبروسيوس
الَّذِي يَغْتَابُ صَاحِبَهُ سِرًّا، هَذَا أَقْطَعُهُ.
مُسْتَكْبِرُ الْعَيْنِ، وَمُنْتَفِخُ الْقَلْبِ، لاَ أَحْتَمِلُهُ [5].
جاء عند اليهود أن الذي يغتاب صاحبه يسبب أذيةً على الأقل لثلاثة أشخاص: أولًا يؤذي نفسه، والمستمع إليه، ومن تحدث عنه من الوراء.
إن سمع الإنسان المحب عن صاحبه شيئًا يليق به أولًا أن يتحقق من سلامة قلبه، يحبه ويود خلاصه. ثانيًا: إن وجد الفرصة لائقة للحديث معه مباشرة بنيةٍ صادقةٍ لبنيانه، ودون أن يجرح مشاعره، كما يختار الوقت المناسب. أما إذا أدرك أن الحديث معه قد لا يجدي، فيمكن الاهتمام ببنيانه مع إنسانٍ حكيم مسئول مثل والديه أو أب اعترافه، ولكن بهدوءٍ وحكمةٍ وتعقلٍ، في غير انفعال، وبروح التواضع دون إدانة.
يرى القديس أغسطينوس أن المقاطعة هنا أو عدم الأكل معه هو نوع من التوبيخ، لكي يخجل الشرير ويتوب. هذا لا يعني أننا نقاطع الغرباء فقد أكل السيد المسيح مع الخطاة والعشارين، بل ومع بعض الفريسيين. إنما المقاطعة هنا خاصة بالذين في الداخل، أعضاء الكنيسة الذين لا يسلكون كما يليق بهم كأولاد لله.
هذا أيضًا ما نادى به الرسول بولس، إذ طلب عزل الذين في الداخل، أما غير المؤمنين فلا سلطان لنا عليهم. حتى الذين في الداخل ففي مقاطعتهم أو تأديبهم لا نتعامل معهم كأعداء لنا، بل كإخوة (2 تس 3: 14).
* لست فقط أنصح الذين يتكلمون بالشر، وإنما أيضًا الذين يسمعون الغير وهم يتكلمون بالشر. إنني أحثهم أن يسدوا أذانهم ويتمثلوا بالنبي القائل: "الذي يغتاب صاحبه سرًا هذا أعاقبه". قل لصاحبك: "هل لك من تمدحه أو تمجده؟ إنني أفتح أذنيّ لكي تستقبلا الدهن المملوء عطرًا، أما إن كان لك شيء شرير تقوله، فإني أغلق المدخل، إنني لست اسمح بالروث والقذارة[13].
* يليق بالبشر أن يصدقوا ما يسمعونه فقط بعد فحص دقيق، وأن يأخذوا القرار الصادق على ضوء الحقائق. هذا هو السبب أن الله قال في عبارة كتابية أخرى: "لا تصدقوا كل كلمة" (سيراخ 19: 15). فإنه ليس شيء مخَّرب لحياة البشر مثل الشخص الذي يأخذ قرارًا سريعًا لكل ما يقوله الناس[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إذ توجد أكاذيب فهم يقتلونني، فالفم الذي يكذب يقتل النفس[15].
القديس أثناسيوس الرسولي
* الذي ينم ويغتاب أصحابه بقصد التشهير وليس إصلاحهم، فهذا أبلغ الشرور. ويكون شبيهًا بإبليس المحتال الذي اغتاب الله عند حواء وخدعها.
أما الاستكبار أشر الشرور، لاسيما إذا كان مقرونًا بطمع المكسب. يقول النبي إنه لم يكن يصاحب مثل هؤلاء... لأن مصاحبتهم فيها مضرة عظيمة للنفوس.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* سُئل أنبا إشعياء: "ما هي خطية الوقيعة؟" فأجاب: "خطية الوقيعة لا تدع صاحبها يوجد في حضرة الله، لأنه مكتوبٌ: "كنتُ أطرد مَنْ كان يغتاب صديقه سرًّا" (مز 101: 5)".
فردوس الآباء
* علينا أن نحرس ألسنتنا وآذاننا من الكلام أو الاستماع إراديًّا لأيٍّ من مثل تلك الأمور، لأنه مكتوبٌ: "لا تقبل خبرًا كاذبًا" (خر 23: 1)، وأيضًا: "الذي يغتاب صاحبه سرًّا هذا أقطعه" (مز 101: 5). كذلك يقول المرتل: "لعل فمي لا يتكلم عن أعمال المائتين" (راجع مز 17: 4). ولكننا نتكلم أيضًا عن أعمال لم تتم! فيجب ألاّ نصدِّق الأمور التي تُقال، ولا ندين المتكلمين، بل علينا أن نتصرّف ونتكلم حسب الكتاب المقدس: "وأمّا أنا فكأصمّ لا يسمع، وكأبكم لا يفتح فاه" (مز 38: 13).
القديسة الأم سنكليتيكي
* ذاك الذي كان عاليًا قويًا سقط بتشامخه، حتى صار ينسحب على الأرض، ويطأه الأرضيون (لو 10: 19). والإنسان الذي كان على الأرض ضعيفًا ارتفع بتواضعه، حتى أُعدتْ له السماء أرضًا، ووطأ قوة ذاك الذي كان عاليًا... لقد قال الكتاب: "إنه يقاوم المستكبرين (يع 4: 6)، ويعطي نعمة للمتواضعين (أم 3: 34). وقال الله: "إلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2)... فالمتكبر يُعاقَب مع الشيطان.
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. الالتصاق بالقديسين

عَيْنَايَ عَلَى أُمَنَاءِ الأَرْضِ،
لِكَيْ أُجْلِسَهُمْ مَعِي.
السَّالِكُ طَرِيقًا كَامِلًا هُوَ يَخْدِمُنِي [6].
كان مسيحنا القدوس يستريح في بيت مريم ومرثا ولعازر، وكان الرسول بولس يجد راحته في العمل والحوار والعبادة مع أكيلا وبريسكلا، كما مع تلاميذه الأخصاء المؤمنين مثل تيموثاوس وتيطس وفليمون وأنسيمُس، فمعاشرة المؤمنين المخلصين في حياتهم تسند النفس وتفرح القلب.
* لم يقل المرتل: على الأغنياء والأباطرة، أو الأساقفة، أو الكهنة أو الشمامسة، بل على الأمناء اسكن معهم. يحق للأسقف المقَّدس أن ينطق بهذه الكلمات: لم اسمه كاهنًا من كان مدللًا لدى، أو قريبًا لي؛ بل أقوم بسيامة من هو أمين[16].
القديس جيروم
* يقول النبي: "أمناء الأرض" عن الصديقين الذين كان يشتهي مجالسهم واستشارتهم، وأن الأبرياء بلا عيب كانوا يخدمونه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* يحمل الكتاب المقدس شهادة ضد الشيطان أنه خرج من حضرة الله، وضرب أيوب بقروح (أي 7:2). لأنه هكذا تكون صفات الذين يخرجون من حضرة الله، يضربون رجالًا ويؤذونهم. وهكذا أيضًا تكون صفات الخارجين عن الإيمان (الأريوسيين) يضطهدون الإيمان ويضرون به.
وعلى العكس نجد القديسين، إذ يقترب منهم (رجال الله) ينظرون إليهم كأصدقاء، كما فعل داود متحدثًا بأسلوب صريح قائلًا: "عيناي على أمناء الأرض لكي أجلسهم معي" (مز 6:101)[17].
البابا الأنبا أثناسيوس الرسولي
* الذين زُرعوا في الأرض الجيدة يتواضعون أمام كل الناس، لأنه توجد أرض مرتفعة وأرض منخفضة، وعينا الرب تلتفتان نحو هؤلاء.
القديس إسطفانوس الطيبي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
5. بيته كنيسة مقدسة

لاَ يَسْكُنُ وَسَطَ بَيْتِي عَامِلُ غِشّ.
الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَذِبِ لاَ يَثْبُتُ أَمَامَ عَيْنَيَّ [7].
لا نعجب إن لاحظنا في شخصية أبينا إبراهيم أنه يسكن مع سارة المؤمنة، ورجاله الثلاثة مئة وثمانية عشر يحملون روحه، روح الاستقامة.
لعل الشرير بخبثه يستطيع أن يتسلل إلى بيت داود، ولكنه لا يقدر أن يسكن فيه، حيث لا تقدر الظلمة أن تتحد مع النور؛ ولا يجد مجالًا للحديث مع ذاك الحريص على كل كلمة تخرج من فمه، وأخيرًا لا يثبت أمام عيني داود البار، إذ لا يجد له موضعًا في قلب داود ليمارس فيه شره.
لنحرص من معاشرة الأشرار وفخاخهم التي ينصبونها لنا، مستخدمين ثلاث وسائل خطيرة:
1. يحاولون التسلل إلى بيوتنا الداخلية، أي قلوبنا ليسكنوا فيها كأصحاب بيت.
2. أن سمحنا لهم بالدخول يبدأون الحوار، متكلمين بالكذب، كما فعلت الحية مع حواء.
3. أن دخلنا في الحوار يحاولون أن يثبتوا في أعيننا، فنظن في ظلمتهم نورًا، وفي خداعهم حكمة. بهذا يسيطرون على قلوبنا كسادة لهم حق توجيهنا إلى حيث يريدون.
* كان يطرد المستكبرين من بيت قلبه وعقله وفكره، ويبغض النمامين والظالمين.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
6. ختام

بَاكِرًا أُبِيدُ جَمِيعَ أَشْرَارِ الأَرْضِ،
لأَقْطَعَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّبِّ كُلَّ فَاعِلِي الإِثْمِ [8].
انشغل داود النبي بأمريْن، الأول أن حياته ثمينة للغاية، ولكل لحظة من لحظات عمره لها ثمنها. لهذا كان يبكر بإبادة كل شرٍ يحاول التسلل إلى قلبه، حتى لا يُثَبِّت الشر رجليه، وتصير له جذور عميقة في داخله. أما الأمر الثاني فإن قلبه هو "مدينة الرب المقدسة"، لن يسمح لدنسٍ ما أن يتسلل إليها. وكما دعونا السيد المسيح: "ملكوت الله داخلكم". وأيضًا قال: "رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء" (لو 10: 18).
يرى القديس جيرومأنه لا يليق التهاون مع الأشرار الذين في الكنيسة -بيت الرب- إنما يلزم حثهم وتوبيخهم على شرورهم لأجل توبتهم.
* المدينة هي النفس، كل الأفكار الشريرة هي "فاعلو الإثم" (مز 101: 8)، فإن كنا نهلكها تزدهر ميولنا الصالحة[18].
القديس غريغوريوس النيسي
* في اليوم الذي فيه يزول كل الأعداء (الخطايا) يتمجَّد الله كما في يوم عيدٍ، وأمام فشل أعدائنا نبتهج بفرحٍ جليلٍ. هذا على ما أظن ما قصده النبي عندما قال في مزموره: "باكرًا أبيد جميع أشرار الأرض، لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم" (مز 101: 8)، أي يقطع العدو الشيطان الذي يدفع البشريَّة إلى فعل الإثم.
عندما نسمع "مدينة الرب" نذكر نفس كل واحدٍ منَّا بكوننا حجارة حيَّة (١ بط ٢: ٥)، تُبنى بفضائل من كل نوع[19].
* إذا حدث ورأيت من يضطهدك في حالة غضبٍ شديدٍ، فلتعلم أنه مدفوع بواسطة شيطان يمتطيه، مما يجعله بهذا العنف وهذه القسوة.
"تطردون أعداءكم" (لا 26: 7). أي أعداء غير الشيطان ذاته، هو وكل ملائكته الأشرار، وأرواح الشياطين النجسة (لو 4: 33)؟
لن نطردهم من أنفسنا فقط، بل أيضًا من الآخرين من ضحاياهم. هذا إذا حفظنا الوصايا التي تقول: "تطردون أعداءكم، فيسقطون أمامكم بالسيف" (لا 26: 7). فإذا سَحَق الله الشيطان تحت أرجلنا سريعًا (رو 16: 5)، يسقط أعداؤنا أمامنا (لا 26: 7).
العلامة أوريجينوس
* يقول القديس باسيليوس الكبير إن مدينة الرب هي الإنسان، لأن الله خلقه على صورته ومثاله. وأما أشرار الأرض وفاعلو الإثم فهم الأفكار الشريرة الخارجة من القلب مثل القتل والفجور والزنا والسرقة وشهادة الزور والتجديف وما إلى ذلك. يجب علينا قتلها وإبادتها من مدينة الرب باكرًا، أي في بداياتها أو في حداثة عمرنا، ولا ندعها تنمو فينا بالأكثر.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* تنال الفضيلة ضربة قوية عندما ينتصر الشر. لذلك ننال الخير إذا تحمسنا لكلمة النبي، وهي أن نبيد كل صانعي الشر الموجودين في الأرض، في الصباح الباكر، ونُبعد كل الأفكار الشريرة عن مدينة الله (التي هي النفس) (مز 8:101). فينتعش فينا النشاط الخيّر بعد إزالة الشرور من نفوسنا. بذلك يمكننا أن نعيش بعد الموت، لأن واحدًا مما بداخلنا يموت، بينما يحيا الآخر، أي كلمة الله. كما يقول النبي: "أنا أُميت وأُحيي" (تث 39:32). لذلك عاش بولس بعد أن مات، وتقوى في الضعف، واستمر في جهاده وهو مربوط بالسلاسل، وكانت له ثروة في الفقر، وكان غنيًا وهو لا يملك شيئًا، وكان حاملًا في جسده كل حين إماتة الرب يسوع المسيح (2 كو 10:4)[20].
القديس غريغوريوس النيسي

في اختصار بدأ المرتل بالعمل البنّاء الإيجابي، وختمه بالجانب السلبي. بدأ بالإعلان عن قلبه أنه بيت الرب المملوء ترنمًا وتسبيحًا. وختم بطرد كل أثر للشر منه، لأنه مقدس للرب!
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 101

لتملك يا رب في أعماقي

* كيف أدعوك أن تسكن في قلبي،
وهو من عمل يديك؟
أقمت منه بيتًا مقدسًا لك،
يُسمع فيه صوت الترنم والتسبيح.
أقمت منه سماءً،
لا يقدر إبليس بكل قواته أن يقتحمها!
* ماذا أدعو قلبي؟
إنه بيتك المقدس المتهلل.
إنه سماواتك السامية التي يقودها روحك القدوس!
* لتسكب رحمتك على أعماقي،
ولتفض مياه حبك بنعمتك الغزيرة.
أغني لك كل أيام عمري.
وأترقب مجيئك على السحاب بروح التهليل.
* تتمشى في داخلي،
لا كرواق سليمان،
وإنما كما في سماواتك.
تسكب برِّك عليّ،
فاختفى فيك أيها البار.
* لا يقدر الانحراف أن يتسلل إليّ قسرًا.
لأن روحك القدوس مقيم في داخلي.
ولا يطلب الأشرار الالتصاق بيّ،
ما لم يرجعوا إليك بالتوبة.
* لن تستريح نفسي لكلمات النميمة،
ولا أجد لذة في روح المتكبر والمتشامخ عليك!
* أجد سعادتي في أولادك.
وحيث أنت تستريح،
أجد لنفسي مسرة فائقة.
* بكلمتك تقطع كما بسيفٍ كل شر يتسلل إليّ.
تبيد كل فساد في أعماقي.
بالحق تقيم مني مدينة خاصة يُدعى عليها اسمك القدوس.
  رد مع اقتباس
قديم 06 - 03 - 2014, 02:23 PM   رقم المشاركة : ( 103 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 102 - تفسير سفر المزامير
مسكين يعاني من العزلة

هذا المزمور وهو يُمَثِّل صلاة تخْرج من قلب إنسانٍ ما يئن من الشعور بالوحدة أو من ألم المرض [5، 23]، يناسب المؤمن في جهاده الروحي، طالبًا العون الإلهي. ويرى آخرون أنه مزمور مسياني يتنبأ عن السيد المسيح المتألم، وعن كنيسته الحاملة للصليب في هذا العالم. وقد اقتبس الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين (1: 10-12) ما ورد هنا في العبارات 25-27.
يحمل الكاتب غالبًا شعورًا شخصيًا بالألم، وإن كان ينتقل من الجانب الشخصي إلى الجانب الجماعي، كما ينتقل من النوح إلى النبوة بروح الرجاء.
يُنظَر إليه كمزمور غَنِي بالجانب التقليدي من جهة: الصلوات [1-6]، والتسابيح [12، 25-27]، والرجاء النبوي [13، 22، 28]، والحكمة [28].
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مناسبته[1]

اختلفت آراء الدارسين في مناسبة تسجيل هذه الصلاة أو هذا المزمور:
1. يرى البعض أنه سُجِّل بعد عودة عزرا ومعه تفويض بإعادة بناء الهيكل (نح 1: 3-11). في هذه الحالة يكون الكاتب عزرا أو نحميا أو أحد المعاصرين لهما.
2. كُتبتْ هذه الصلاة في نهاية السبي البابلي. تُمَثِّل صرخات بعض المؤمنين بعد أن طالت فترة السبي. كادوا يفقدون الرجاء في العودة، فطلبوا من الله تحقيق وعده.
3. صلاة لداود النبي، لا تخص مناسبة معينة، وإنما قدَّمها بروح النبوة. تقليديًا يُنظَر إلي هذا المزمور أنه الخامس من بين مزامير التوبة السبعة، وإن كان لا يحتوي على أية إشارة عن خطية معينة بسببها حدث ضيق. إنه صرخة تخرج من قلب كل إنسان يعاني من مرارة في حياته، طالبًا أن يعلن الله ملكوته له ويخلصه.
1. نحيب شخصي
1-11.
2. نحيب جماعي
12-22.
3. نحيب شخصي
23-24.
4. تسبحة ختامية
25-28.
من وحي مز 102
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

صَلاَةٌ لِمِسْكِينٍ إِذَا أَعْيَا وَسَكَبَ شَكْوَاهُ قُدَّامَ اللهِ
من هو هذا المسكين إلا الإنسان حين يسقط في ضيق، ويشعر كأن أقرب من له عاجز عن مساندته بل وعن مشاركته مشاعره.
إذ رأى كلمةُ الله ما بَلَغَه الإنسان من بؤسٍ وتعبٍ، قَبِلَ من أجل محبته للبشرية أن يتأنس ويحل في وسطنا كمسكينٍ، حتى بمسكنته يهبنا من فيض بركاته وتعزياته وغناه السماوي. إنه وحدَه قادر أن يحتضن كل نفسٍ ليرفعها إلى أمجاده عِوَض المذلة والضيق.
يرى القديس أغسطينوس أن هذه الصلاة يُقَدِّمها السيد المسيح مع كنيسته بكونه رأسها، يقول: [لذلك فلنسمعْ المسيح، المسكين داخلنا، ومعنا، ولأجلنا.]
* انظروا، فإن مسكينًا يصلي، ولا يصلي في صمت. لهذا فلنسمعه، وننظر من هو هذا. أليس ذاك الذي يقول عنه الرسول: "إنه من أجلكم افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2 كو 8: 9).
إن كان هو، فكيف يكون مسكينًا...؟ من هو أغنى من ذاك الذي به صُنعت كل الثروات، حتى تلك التي هي ليست بالحقيقة ثروات؟ به صارت لنا تلك الثروات والقدرات، والذاكرة، والشخصية، وصحة الجسد، والحواس وكل بنية أعضائنا، فإنه حين تكون هذه سليمة يكون حتى الفقير غنيًا. به أيضًا تُصنع الثروات الأعظم من إيمانٍ وتقوى وعدالة وحب وطهارة وسلوك حسن، فإنه ليس أحد له هذه الأمور إلا به، ذلك الذي يبرر الفجَّار... انظروا كم يكون غناه...! لكن لتمتحنوا كيف أنه هو ذاك المسكين، إذ "الكلمة صار جسدًا، وحلّ بيننا" (يو 1: 14)... لقد أخذ شكل العبد، والتحف بفقرنا، فجعل نفسه مسكينًا، وجعلنا نحن أغنياء[2].
القديس أغسطينوس
* يتحدث المزمور عن الإنسان المسكين، لا بخصوص المعوز إلى هذا العالم، بل ذاك الذي كُتِبَ عنه: "طوبى للمساكين بالروح" (مت 5: 3). عندما يشعر بالهزل؛ عندما يتذكر خطاياه السابقة والحاضرة، "يسكب" ألمه بكل قلبه، وليس بشفتيه. من هو هذا الذي بالحقيقة الإنسان القادر أن يسكب ألمه المبرح في حضرة الرب؟ من هو هذا الذي لا يشعر بنخس ضميره؟[3]
القديس جيروم
* الإنسان وإن كان ملكًا وأغنى الناس، يقال عنه إنه مسكين، لأنه مُفْتَقِر إلى الله، وليس لديه شيء، ما لم يكن ممنوحًا من قبل الله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. نحيب شخصي

يَا رَبُّ اسْتَمِعْ صَلاَتِي،
وَلْيَدْخُلْ إِلَيْكَ صُرَاخِي [1].
دُعِي الله "سامع الصلوات"، يميل بإذنه إلى قلب الإنسان، لأن تنهداته وصرخاته عاجزة عن الصعود إليه. بحبه ينزل إلى الإنسان ليسمع همسات قلبه الخفية، ويستجيب لها إن كانت تُقدَّم بما يليق أن يمنحه الله للبشرية.
يستغيث المرتل بالله مخلصه ليسمع صلاته ويسمع لصرخاته أن تدخل إلى عرش نعمته. جاء التعبيران هنا "الصلاة"، و"الصراخ" كل منهما يُكَمِّل الآخر، ويكشفان معًا عن الجدية وحالة الاستعجال والخطورة التي لحقتْ بالمؤمن. هذه الحالة في الحقيقة ليست طارئة، لكنها هي نصيب المؤمن الحقيقي، الذي يُصلَب مع المسيح المصلوب. إنها لا تمس عصرًا معينًا دون غيره، ولا ظروف خاصة، ولا هي بالأمر الجديد في حياة القديسين.
* يسمع الله صلاة من يسأله ما يليق أن يمنحه الله للمُصَلِّين.أما الصراخ هنا فهو ليس إعلاء الصوت واجهاره، إنما الحرص والنشاط وشدة العزيمة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فِي يَوْمِ ضِيقِي.
أَمِلْ إِلَيَّ أُذُنَكَ فِي يَوْمِ أَدْعُوكَ. اسْتَجِبْ لِي سَرِيعًا [2].
ما ورد في هذه العبارة من تعبيرات كثيرًا ما جاءت في مزامير أخرى مثل مز 17: 6؛ 31: 2؛ 45: 10؛ 71: 2؛ 86: 1؛ 88: 2، 69: 17؛ 79: 8.
* "لا تحجب وجهك عني". الإنسان الذي يصلي بقلبٍ طاهرٍ وضميرٍ بلا لوم، وحده قادر أن ينطق بهذه الصلاة. من الجانب الآخر، لا يجسر الخاطي أن يقول: "لا تحجب وجهك عني"، بل يقول بالصواب: "اصرف وجهك عن خطاياي" (مز 51: 11)[4].
القديس جيروم
* من كان ضميره طاهرًا ولا يبصر في ذاته فعلًا منكرًا، فذاك يقول عند صلاته: "لا تحجب وجهك عني". أما قوله: "أمل إليّ أذنك" فمعناه، إنه من حزني صار صوتي منخفضًا، وأما أنت يا رب فمرتفع جدًا. تنازل برحمتك إليّ، وأنصت إلى تضرعي.
وقوله "استجب لي سريعًا" فمعناه قبل أن يدركني الموت.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّ أَيَّامِي قَدْ فَنِيَتْ فِي دُخَانٍ،
وَعِظَامِي مِثْلُ وَقِيدٍ قَدْ يَبِسَتْ [3].
كثيرًا ما يشعر الإنسان في وقت ضيقة أن أيامه عبرتْ سريعًا وبلا نفع، أشبه بالدخان الذي يفسد البصر، ويزول دون فائدة. في وسط الضيق يشعر الإنسان أن عظامه لا تسنده بل تزيد لهيب قلبه، فتشتعل النيران في داخله، لتقضي على حياته باطلًا. يشعر المرتل أن عظامه مثل وقود يُلقَى في موقد نار، سرعان ما ينتهي. إن كانت العظام هي الهيكل الذي يسند بقية الجسم فبدماره يتدمر الجسم، ولا يحمل قوة للعمل أو الحياة.
* ترمز العظام إلى القوة. فإن كان الجزء القوي فيَّ يصير يابسًا وواهنًا، كم بالأكثر يكون جسمي الوهن بطبعه يكون مضنيًا[5].
القديس جيروم
* إذ تتغذى عين النفس على مروج الأقوال الروحية، تصير نقية وحادة البصر، لكنها إذا رحلت إلى دخان أمور هذه الحياة، فإنها تبكي بلا حدود، وتبقى في عويل هنا وفيما بعد. لهذا قال أحدهم: "فنيت أيامي كالدخان"[6].
* هكذا هي قوة هذه الكارثة، أظهرت أن إنسانًا عظيمًا ومشهورًا كان أكثر الناس تفاهة. لذلك إن دخل غني في هذا الاجتماع ينتفع كثيرًا من هذا المنظر، إذ يرى (أتروبيوس) الإنسان الذي كان يهز العالم قد انسحب من علو تشامخ سلطته، راكضًا على ركبتيه في خوف، أكثر رعبًا من الأرنب البرّي أو الضفدعة، مسمرًا على عمود هناك بلا ربط، لأن خوفه يقوم بما تقوم به القيود، فيرتعب الغني، وينكسر تعاليه، ويتنازل عن كبريائه، طالبًا الحكمة الخاصة بالأعمال البشرية، مستخلصًا تعليمًا من مثلٍ عمليٍ، عن درس يعلمنا إياه الكتاب المقدس موصيًا: "كل جسد عشب، وكل جماله كزهر الحقل. يبس العشب ذبل الزهر" (إش ٤٠: ٦). أو "إنهم مثل الحشيش سريعًا يقطعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون" (مز 37: ٢). أو "أيامي قد فنيت في دخان" (مز ١٠٢: 3)[7].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يقول القديس أثناسيوس إن هذا القول نبوة عن ضياع المفاخر التي كانت للعبرانيين، ليقيموا بها عبادة الشريعة القديمة، وهي كهنوتهم وذبائحهم... هذه وما على شاكلتها قد فُقدتْ منهم وفنيت كالدخان. كانت تشددهم كما تشدد العظام الجسد، لكنها احترقت.
أيضًا العظام هي آراء النفس بالله ومعتقداتها به، وهي بيضاء ومخفية ومشددة للنفس مثل العظام. هذه تلتهب عند اضطرام القلب من التلهف.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
مَلْفُوحٌ كَالْعُشْبِ، وَيَابِسٌ قَلْبِي،
حَتَّى سَهَوْتُ عَنْ أَكْلِ خُبْزِي [4].
يرى المرتل قلبه أشبه بعشب قد جُزَّ، تلفحه الشمس فسرعان ما يجف.إن كان الإنسان قد نسى أن يأكل خبزه، فقد جاء السيد المسيح، خبز الحياة، لكي نتناوله.
* هكذا هي حياة الإنسان، اليوم قوي ونشيط، غدًا يذبل "نسيت أن آكل خبزي" لم يقل المرتل: "ليست لي رغبة في الأكل، أو ازدريت بالطعام. لا، بل كانت ذكرى الخطية عظيمة اندفعت عليّ، فانكسرت في ندامة، حتى نسيت أن آكل. صار شوقي الوحيد هو في الله. لقد حُملت بالتمام في التأمل فيه[8].
القديس جيروم
* لقد نسيتم أن تأكلوا خبزكم، لكن بعد صلبه، فإن كل أقاصي الأرض تتذكر وتتحول إلى الرب (مز 22: 27). بعد النسيان يأتي التذكر. ليت الخبز يؤكل من السماء، حتى نحيا؛ لا نأكل المن مثل أولئك الذين أكلوا وماتوا (يو 6: 49)، إنما الخبز الذي قيل عنه: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ" (مت 5: 6)[9].
القديس أغسطينوس
* كما أن الجسد يقوته الخبز الأرضي، كذلك النفس يقوتها الخبز الذي نزل من السماء، وهو ربنا يسوع المسيح الذي علَّمنا أن نطلب في صلواتنا الخبز المشدد لجوهرنا. لقد أمرنا، قائلًا: "أعطوا لا للطعام الفاني، بل للطعام الباقي، فهو يضمر ويسقط زهره ونوره، ويجف كالعشب. وكما تيبس الأرض من عدم المطر ولا تثمر كذلك يبس قلبه (قلب كل إسرائيلي) ولا يثمر ثمر الفضيلة لانقطاع مطر الكلام الإلهي عنه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* إذا كان الجسد يأخذ كل يوم غذاءه ثم يسترخي، فهذا يأتي من الشياطين، إلاّ في حالة المرض، فيلزم الاعتدال، وهذا يكون بالقيام من على المائدة قبل الشبع بقليلٍ، وذلك حسبما عيّن الشيوخ للمبتدئين. وعندما يبلغ الإنسان إلى قياس قول الرسول: "إننا لا نجهل أفكاره" (2 كو 2: 11)، لا يمكنه أن يسهو عن الكمية التي يجب أن يأكلها، لأنه يكون قد تدرّب (أو اعتاد) على ذلك... ولعل إله آبائنا يقودك إلى هذه المسرة، لأن هذا نور يفوق الوصف ومتألِّقٌ وحلو. إنه لا يذكر الغذاء الجسدي، لأنه يسهو عن أكل خبزه (مز 102: 4). روحه تكون في مكانٍ آخر، فهو يبحث عن السماويات ويفكر فيها، ويتأمل فيها.
القديس برصنوفيوس
* سؤال من الأب نفسه إلى الشيخ نفسه: كيف يحدث أنه عندما أريد أن أسيطر على بطني، وأُنقص من الطعام إلى الحد الضروري، لا أستطيع ذلك؟ فإذا تناولتُ في أحد الأيام قليلًا من الطعام الأقل قيمة، فإنني أعود بعد ذلك بطريقة غير محسوسة إلى مقداري السابق، وهكذا أيضًا في الشرب.
جواب الأب يوحنا: إن محبتك لَتذكِّرني، يا أخي، أن كل ما تقوله لي قد جرّبته بنفسي، وعانيتُ منه أنا أيضًا. ولا يوجد مَنْ هو مستثنى إلاّ الذي بلغ إلى درجة المرتل الذي قال: "سهوتُ عن أكل خبزي، من صوت تنهُّدي، لصق عظمي بلحمي" (مز 102: 4-5). إنه وصل إلى نظام أقل في الطعام والشراب، لأن دموعه صارت خبزه، وبدأ منذ ذلك الوقت يتغذّى بالروح (القدس). صدقني يا أخي، إنني أعرف إنسانًا يعرفه الرب كانت له هذه الدرجة: أنه مرةً أو مرتين في الأسبوع وأكثر، كان يأسره الطعام الروحاني حتى أن حلاوته تُنسيه الطعام المحسوس، وعندما يحين ميعاد الأكل يشعر مثل هذا الإنسان بالشبع والاشمئزاز من الطعام ولا يريد أن يأكل.
فردوس الآباء
مِنْ صَوْتِ تَنَهُّدِي،
لَصِقَ عَظْمِي بِلَحْمِي [5].
صار المرتل في حالة هزال شديد بسبب القلق أو الأرق، مُنهَك القوة تمامًا. فَقَدَ كل عضلات جسمه فصارت عظامه مغطاة بالجلد وحده.
* كثيرون يتنهدون، وأنا أيضًا أتنهد، فإنني أتنهد لأنهم يتنهدون بسبب خاطئ. هذا الإنسان فَقَدَ قطعة مال، إنه يتنهد... إنه يرتكب غشًا ويفرح... إننا نود إصلاحهم، وإذ لا نستطيع نتنهد، وعندما نتنهد لا ننفصل عنهم[10].
القديس أغسطينوس
شْبَهْتُ قُوقَ الْبَرِّيَّةِ.
صِرْتُ مِثْلَ بُومَةِ الْخِرَبِ [6].
يرى البعض أن القوق هنا يعني به "الواق"، وهو طائر من فصيلة مالك الحزين، دائم الصراخ في البرية، خاصة وهو يطير في الغروب. صوته مزعج ومؤلم. ويرى البعض أنه يوجد نوعان من القوق (البجع) نوع يعيش في البراري، وآخر على المياه.
* يقولون إنه يوجد نوعان من هذا النوع من الطيور. واحد مائي طعامه السمك، والآخر يعيش في أماكن مهجورة يتغذى على المخلوقات السامة مثل الحيات والتماسيح والسحالي. هذه الطيور تدعى في اللاتينية onocrotali. حسنًا، لقد صرتُ مثل الطائر الذي في البرية، يتغذى على الكائنات الحية السامة، هكذا صار طعامي بالنسبة لي كالسم.
"صرت مثل غراب الليل بين الخرائب"... إن كان الغراب أسود في ضوء النهار، كم يكون سواده بالأكثر في الليل؟ لهذا صرت في عيني نفسي بسبب كثرة خطاياي[11].
القديس جيروم
أسَهِدْتُ وَصِرْتُ كَعُصْفُورٍ مُنْفَرِدٍ عَلَى السَّطْحِ [7].
في ضيقه صار كعصفورٍ لا حول له ولا قوة، يسهر بسبب الألم والحيرة، لا يستطيع أن ينام. وينفرد على سطح البيوت، لأنه يريد أن يكون في عزلة، لا يود الالتقاء بأحدٍ لشعوره بعدم مشاركتهم له وسط آلامه.
يرى القديس أغسطينوس في هذه الطيور الثلاثة: القوق والبومة والعصفور، تشير إلى اهتمام السيد المسيح بثلاث فئات من البشرية:
أ. فئة مثل القوق في البرية، وهم غير المؤمنين، يعيشون في عزلة عن بيت الرب.
ب. فئة البوم التي تعيش في الأماكن الخربة، وهم المرتدين، يعيشون في الظلمة.
ج. فئة الساكنين في بيت (المسيحيين بالاسم) دون التمتع بالحياة الإيمانية الصالحة. فيقف السيد المسيح كعصفورٍ على السطح يدعوهم للحياة المقدسة المرضية.
يليق بسفراء المسيح أن يتشبهوا به، فيبحثون عن كل إنسان أينما وُجِدَ، ومهما كان حاله: سواء كان غير مؤمنٍ أو مرتد أو مسيحي بالاسم.
* هكذا الله الخالق وشافي الكل، الذي يعرف أن الكبرياء هي السبب، والمصدر الرئيسي لكل الشرور، أعطى اهتمامًا أن يشفي الضد بالضد، هذه الأمور التي تتحطم بواسطة الكبرياء يجب أن تُشفَى بواسطة التواضع (إش 13:14)...
مقابل الذي قال: "جميع ممالك المسكونة ومجدهن هي لي، وأعطيها لمن أريد" (لو6:4)، قيل عن الآخر: "وهو غني افتقر، لكي نغتني نحن بفقره" (2 كو 9:8).
لأجل الذي قال: "وكما يُجمع بيض مهجور جمعت أنا كل الأرض، ولم يكن مرفرف جناح، ولا فاتح فم، ولا مصفصف" (إش 14:10)، قال الآخر: "صرت مثل بومة الخرب، سهدت، وصرت كعصفور منفرد على السطح" (مز 102: 6-7)[12].
القديس يوحنا كاسيان
* بالحقيقة الهدف من حياة المجمع أن يصلب الراهب جميع رغباته ويتمثل بالكمال... ولا يهتم بالغد. وواضح تمامًا أن هذا الكمال لا يبلغه الجميع، بل راهب الشركة... ولكن كمال المتوحدين هو أن يُخلي ذهنه عن كل الأشياء الأرضية، وأن يربطه بالمسيح قدر ما يسمح ضعف الإنسان. ويصف النبي إرميا مثل هذا الرجل قائلًا: "جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ، يجلس وحدهُ ويسكت، لأنهُ قد وضعهُ عليهِ" (مرا 27:3-28). ويقول داود أيضًا: "سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح" (مز 7:102)[13].
الأب يوحنا
الْيَوْمَ كُلَّهُ عَيَّرَنِي أَعْدَائِيَ.
الْحَانِقُونَ عَلَيَّ حَلَفُوا عَلَيَّ [8].
جاء عن الترجمة السبعينية وأيضًا القبطية: "النهار كله كان يعيرني أعدائي. والذين يمدحونني يتحالفون علي".
يجد الأعداء فرصتهم للسخرية بمن يعادونه، فيزيدون ضيقه ضيقًا.
* يمدحونني بأفواههم، وبقلوبهم ينصبون لي فخاخًا. اسمعوا مديحهم: "يا معلم، نعلم أنك صادق، وتعلم طريق الله بالحق، ولا تبالي بأحدٍ، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس. فقل لنا ماذا تظن. أيجوز أن تُعطَي جزية لقيصر أم لا؟" (مت 22: 16-17)[14]
القديس أغسطينوس
إِنِّي قَدْ أَكَلْتُ الرَّمَادَ مِثْلَ الْخُبْز،ِ
وَمَزَجْتُ شَرَابِي بِدُمُوع [9].
من العادات القديمة أن يكف الإنسان في حزنه عن الطعام، خاصة في حالة وفاة أحد أقربائه أو أصدقائه، ويلبس مسوحًا. هنا يُعَّبر المرتل عن أقسى حالات الحزن، فلا يكف عن الطعام والشراب فحسب، إنما يكون كمن يأكل رمادًا يُحَطِّم جسمه، ويزيده عطشًا، وتنسكب دموعه بغزارة، وتتسلل إلى فمه كأنها شراب له.
كان الحزانى يضعون رمادًا على رؤوسهم وثيابهم، فإن اضطروا حتى إلى الأكل بسبب شدة الجوع، يتلوث طعامهم بالرماد المتطاير من جسمهم وثيابهم. أما المرتل فيأكل الرماد نفسه!
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن المصائب لتي وردت في هذا المزمور تشير إلى ما أصاب اليهود بعد صلبهم المسيح الإله. صارت معيشتهم كالرماد الذي يفضُل عن الذبائح التي كانوا يحرقونها، وامتزج شراب سرورهم بدموعهم. وصارت أيامهم كالظل، لأنهم يخدمون الشريعة التي هي ظل ورسم للشريعة الإنجيلية. ويبسوا مثل الحشيش، وصاروا مأكلًا للبهائم ووقودًا للنار.
* كلوا الرماد كخبزٍ، واخرجوا شرابكم بالبكاء، بهذه الوليمة تبلغون إلى مائدة الله[15].
القديس أغسطينوس
* لقد غمست خبزي في الرماد وأكلته هكذا. إن كان هذا ما يقوله النبي، فماذا يكون حالنا نحن؟ "ومزجت شرابي بدموع" لم يعد شيء ما حلو في مذاقي، لا الخبز ولا الشراب، إنما صرت مشتاقًا إلى الخبز السماوي وحده، أي المسيح[16].
القديس جيروم
* بعد تواضع القلب دون حاجة إلى صلوات قوية، وإلى دموعٍ كثيرة، دموعٍ في النهار، ودموع في الليل، إذ يقول: "تعبت في تنهدي. أعوم في كل ليلة سريري بدموعي. أبلل فراشي ببكائي" (مز 6: 6 LXX). مرة أخرى يقول: "إني قد أكلت الرماد مثل الخبز، ومزجت شرابي بدموعٍ" (مز 102: 9)[17].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* عندما كان داود في خطر بعد سقوطه في الزنا اعترف في رماد مع صوم. يخبرنا بأنه أكل الرماد كالخبز، ومزج شرابه ببكائه (مز 102: 9). وأن ركبتيه صارتا ضعيفتين من الصوم (مز 109: 24). مع أنه سمع بالتأكيد من ناثان الكلمات: "الرب قد نقل عنك خطيتك" (2 صم 12: 13)[18].
القديس جيروم
* هكذا إذن أراحه النبي (ناثان)، لكن الطوباوي داود إذ سمعه يقول: "الرب قد نقل عنك خطيتك"، لم يكف عن التوبة. ومع أنه كان ملكًا، لبس المسموح عوض الأرجوان، وجلس في الرماد عوض التاج الملكي... لا بل جعل الرماد طعامه، قائلًا: "إني قد أكلت الرماد مثل الخبز" (مز 102: 9). لقد غسل عينيه الشهوانيتين بالدموع قائلًا: "أعوِّم كل ليلة سريري، وبدموعي أبل فراشي" (مز 6: 6).
وعندما سأله موظفوه أن يأكل خبزًا لم يسمع لهم، بل بقي صائمًا سبعة أيام كاملة.
إن كان الملك قد اعترف هكذا، أفما يليق بك أيها الشخص العادي أن تعترف؟[19]
القديس كيرلس الأورشليمي

* ليست كل الدموع تنبع من مشاعر متشابهة، أو عن فضيلة واحدة.
ا. البكاء المتسبب عن وخزات خطايانا التي تنخس قلوبنا كما قيل: "تعبت في تنهُّدي. أعوّم في كل ليلة سريري، وبدموعي أذوّب فراشي" (مز 6:6)، وأيضًا: "اسكبي الدموع كنهر نهارًا وليلًا. لا تعطي ذاتكِ راحةً. لا تكفَّ حدقةُ عينكِ" (مرا 18:2)، هذه الدموع تصدر بطريقة معينة.
ب. بطريقة أخرى تأتي الدموع الصادرة عن التأمل في الأمور الصالحة، والاشتياق إلى المجد المُقْبِل، إذ تتدفق دموع غزيرة نابعة عن فرح لا يُمكن كتمانه وتهليل بلا حدود. فإذ تتعطش أنفسنا إلى الله الحي القدير تقول: "متى أجيء وأتراءَى قدام الله. صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا" (مز 2:42-3)، معلنة ذلك ببكاء يومي ونحيب قائلة: "ويل لي، فإن غربتي قد طالت" (مز 5:120).
ج. بطريق ثالث تتدفق الدموع، لا عن إحساس بالخطية المهلكة، إنما بسبب الخوف من الجحيم، وتذكر يوم الدينونة المرهب، وذلك مثل رعب النبي القائل: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرر قدامك حي" (مز 2:143).
د. يوجد أيضًا نوع آخر من الدموع، لا ينسكب بسبب معرفة الإنسان لنفسه، إنما بسبب قسوة الآخرين وخطاياهم، فصموئيل كان يبكي لأجل شاول. وجاء في الإنجيل عن الرب أنه بكى من أجل مدينة أورشليم، كما فعل إرميا في الأيام السابقة. إذ يقول الأخير: "يا ليت رأسي ماء، وعينيَّ ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلًا قَتلَى بنت شعبي" (إر 1:9).
هـ. بالتأكيد الدموع المذكورة في المزمور المائة واثنين "إني قد أكلتُ الرماد مثل الخبز، ومزجتُ شرابي بدموعٍ" (مز 9:102)، صادرة عن مشاعر تختلف عن تلك التي وردت في المزمور السادس الخاصة بالإنسان التائب، فهي ناشئة عن متاعب هذه الحياة وضيقتها وخسائرها، التي تضغط على الأبرار العائشين في العالم[20].
الأب إسحق
بِسَبَبِ غَضَبِكَ وَسَخَطِكَ،
لأَنَّكَ حَمَلْتَنِي وَطَرَحْتَنِي [10].
تصوير خطير لمشاعر المتألم! كأن الله يرفعه، لا ليعينه ويسمو به فوق التجربة، إنما ليلقي به من العلو إلى الأرض فيحطمه.
* وُضع الإنسان في كرامة، إذ خُلق على صورة الله. ارتفع إلى هذه الكرامة، ارتفع من التراب، من الأرض، وتقبَّل نفسًا عاقلة، صار له سلطان على الحيوانات والقطيع والطيور والسمك (تك 1: 26). مَنْ مِنْ هؤلاء له عقل لكي يفهم؟ ليس أحد منهم خُلِقَ على صورة الله... لذلك إذ ترفعني تطرحني، إذ تبع ذلك العقوبة، إذ وهبتني حرية الاختيار... وبالحكم عليّ طرحتني[21].
القديس أغسطينوس
* لتكن هذه هي صرخة الذين كانوا مرة قديسين وسقطوا من القداسة. فبعدما ارتفعوا في الفضائل سقطوا من الإيمان. أما صلاة النفس المُتعبة فهي: إذ ترفعني ثبتني![22]
القديس جيروم
أَيَّامِي كَظِلٍّ مَائِلٍ،
وَأَنَا مِثْلُ الْعُشْبِ يَبِسْتُ [11].
كلما بدأت الشمس تغيب يصير الظل أكثر طولًا، لكن ما أن تغيب حتى ينتهي الظل تمامًا ويتلاشى. هكذا يشعر المرتل كأن الشمس قد مالت عنه، فانتهت حياته كالظل الذي يصير بلا وجود.
* إن كانت الأيام (النهار) مثل ظلِ، كم بالأكثر تكون الليالي؟ إن كان هذا هو أمر النور، فماذا عن الظلمة؟[23]
القديس جيروم
* كل الحقائق الحاضرة هي ظلال (حك 5: 9)، تستمد أصولها من الصالحات التي للسماوات، لكنها تبقى مثل الظلال، فقط تماثل الحق للأمور العلوية. لكن ما أن يعبر الليل، ويشرق الفجر، حتى تُرَى طبيعة الأمور العلوية بوضوح، كما لو كانت في نور الشمس. عندئذ يتحقق الشعب: "حياتنا على الأرض ظل" (أي 8: 9). عندئذ يقولون: "أيامي كظلٍ مائلٍ" (مز 102: 11)، مشيرين إلى مدى وهن النجاح الزمني وسرعة بطلانه[24].
نيلس أسقف أنقرا
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. نحيب جماعي

أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ، فَإِلَى الدَّهْرِ جَالِسٌ،
وَذِكْرُكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ [12].
مع شعور المرتل أن حياته صارت كظلٍ سريع الزوال، يعترف بسرمدية الله، وأنه قائم إلى الأبد، يستحق أن يذكره السمائيون والأرضيون على الدوام.
* أنت يا رب ولو أنك صرت إنسانًا، لكنك إلى الأبد ثابت، لتنزهك عن الخطية الجالبة للفساد. وبما أنك إله أيضًا وذكرك لم يزل مؤيدًا إلى جيلٍ وجيلٍ.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
أَنْتَ تَقُومُ وَتَرْحَمُ صِهْيَوْنَ،
لأَنَّهُ وَقْتُ الرَّأْفَةِ،
لأَنَّهُ جَاءَ الْمِيعَادُ [13].
يرى البعض أنه إذ طال وقت السبي واشتدت الظلمة جدًا، فقد حان وقت تحقيق الوعد الإلهي بالعودة. لقد اعتاد الله أن يظهر في الهزيع الأخير حين تفشل كل الأذرع البشرية، ليعلن عن حبه ورحمته ورأفته بخليقته. قال دانيال النبي وهو في أرض السبي: "أنا دانيال، فهمت من الكتب عدد السنين التي كانت عنها كلمة الرب إلى إرميا النبي لكمالة سبعين سنة على خراب أورشليم" (دا 9: 2).
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أنه وإن كان قد تجسد كلمة الله وتألم وصُلب، لكنه إذ قام من الأموات صنع رأفة على صهيون التي هي جماعة المؤمنين.
* "لأنه وقت الرأفة، لأنه جاء الميعاد". وذلك إما بسبب التوبة فهو وقت الرحمة، أو لأن هذه العبارة تشير إلى المجيء الثاني للمخلص. ليت ذاك الذي يتوب يكون له الثقة، لأن وقت الخلاص قد حلّ، الرب رحوم وحنان[25].
القديس جيروم
لأَنَّ عَبِيدَكَ قَدْ سُرُّوا بِحِجَارَتِهَا،
وَحَنُّوا إِلَى تُرَابِهَا [14].
اشتهى بعض المسبيين يوم رجوعهم إلى أورشليم لبناء مدينة الله والهيكل المقدس. إنها صرخة كل قلبٍ ملتهب بحب الله وهو يرى قلوب البشر قد تحطمتْ، مشتهيًا قيام ملكوت الله في كل إنسانٍ بالإيمان الحي العملي.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن صهيون هي كنيسة المسيح، أي جماعة المؤمنين. أما حجارتها فهي الرسل الأطهار والمعلمون الذين شيدوا بنيانها، وترابها هم الذين سيرتهم سفلية ترابية. وأما عبيد الله الذي سُروا بحجارتها فهم الأنبياء الذين يسرون بالرسل الذين جاءوا يحملون ذات آرائهم، وينحنون نحو الترابيين لأجل خلاصهم، كما تنحني الأم نحو أبنائها.
* أفهم بحجارة صهيون كل الأنبياء، فقد كان هناك صوت الكرازة قد بُعث قبله وبعد ذلك خدمة الإنجيل، الذي بكرازتهم عُرِفَ المسيح[26].
القديس أغسطينوس
* الحجارة هي القديسون، والتراب من جانب آخر هم الخطاة الذين يحتاجون إلى مراحم الرب المتحنن[27].
القديس جيروم
فَتَخْشَى الأُمَمُ اسْمَ الرَّبِّ،
وَكُلُّ مُلُوكِ الأَرْضِ مَجْدَكَ [15].
إن كانت قوات الظلمة تظن أنها قادرة لا أن تُحَطِّم كنيسة الله، بل وتبتلعها كنهرٍ جارفٍ يبتلع الكثيرين، فإن النبي إشعياء يصرخ: "حسب الأعمال هكذا يجازي مبغضيه سخطًا، وأعداءه عقابًا، جزاءً يجازي الجزائر. فيخافون من المغرب اسم الرب، ومن مشرق الشمس مجده، عندما يأتي العدو كنهرٍ فنفخة الرب تدفعه" (إش 59: 18-19).
إنه بالحق يحطم عداوتهم، ويعلن مخافته فيهم، فيؤمنون به، ويصيرون أعضاء في كنيسته المقدسة. يريد الله أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4).
لقد حلّ موعد الرأفة بمجيء السيد المسيح مخلص العالم، فانكشفت النبوات بتحقيقها بمجيئه وعمله الخلاصي. بهذا فرح عبيد الرب بالحجارة الحية، التي هي جماعة الأنبياء.
كما خُلق آدم من التراب، تجددتْ الخليقة أيضًا لمجيء المخلص، وإقامة كنيسة العهد الجديد كما من التراب "حنوا إلى ترابها" [14]، وأقيم حائط في بيت الرب، إذ صار التراب حجارة حيَّة مبنية في بيت الرب. الآن انجذب الأمم إلى الإيمان وصار فيها مخافة الرب، وصار حائطًا جديدًا يرتبط بالحائط الأول خلال حجر الزاوية (أف 2: 5).
* الأمم التي لم تكن أولًا تخشى الله الحقيقي، ولا تعرف قدرته، بعد أن تلمذها الرسل، وعرَّفوها به، وعمدوها، صارت تخاف الرب خوفًا خلاصيًا، الذي هو بدء الحكمة.
عرف ملوك الأرض كلهم مجد الله، هؤلاء الذين كانوا يسودون على الممالك. وأيضًا الذين صار لهم سلطان على شهوات الجسد وانفعالات النفس، وضبطوها (عرفوا مجد الله). لكن أن يبقى منهم من لم يعرف حتى الآن مجد إلهنا، ففي حضوره العتيد، لن يكون من لا يعاين مجده.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
إِذَا بَنَى الرَّبُّ صِهْيَوْنَ،
يُرَى بِمَجْدِهِ [16].
جاء الحديث هنا كأمرٍ قد حدث فعلًا. ففي وسط الآلام يعلن المؤمنون أن الخلاص قد تحقق، والعداوة قد زالت، والأشرار يَقْبَلون الإيمان ويصيرون قديسين!
* كما أن العبرانيين الذين أخذهم أهل بابل أسرى، وصاروا يشتاقون إلى أوطانهم، ويشتهون أن يروا الحجارة التي بقيت بعد خراب أورشليم، وكانوا يتضرعون إلى الله، لكي يرجعوا إليها ويبنوها ويرفعوا مجده فيها، هكذا الطبيعة البشرية عندما أسرها المحتال، وخرَّب ما كان يسيجها (كأسوار)، ويحوط بها من نواميس الله وشرائعه وحمايته لها، صارت بواسطة أنبيائه وأتقيائه تتضرع باشتياق زائد وتلتمس الرجوع إلى ما كان عليه بنيانها... فربنا بحضوره إلى العالم بالجسد أعاد قيامتها ورفع بنيانها، وشيّد أركانها، وزيَّنها وأظهر فيها مجده، وحقق كل ما طلب منه أصدقاؤه لأجلها، وما سبق فوعدهم به عنها.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* "سيبني الرب صهيون" (راجع مز 102: 16). هذا العمل يتحقق الآن.
يا أيها الحجارة الحية، اجروا إلى عمل البناء لا الهدم. صهيون تُبنَى، احذروا الأسوار المتهدمة. البرج يُبنَى في صهيون، ماذا يحدث؟ "يُرَى (الرب) بمجده" (مز 102: 16). لكي يبني صهيون، ويضع أساسات صهيون، نُظر في صهيون، ولكن ليس في مجده. "نظر إليه، لا صورة له ولا جمال" (إش 53: 2). ولكن بالحق عندما يأتي مع ملائكته ليدين (مت 25: 31)، ألا يتطلع إليه الذين طعنوه؟ ولكن الوقت متأخر، إذ يكونون في ارتباك، هؤلاء الذين رفضوا الارتباك مبكرًا والتوبة السليمة[28].
القديس أغسطينوس
الْتَفَتَ إِلَى صَلاَةِ الْمُضْطَرِّ،
وَلَمْ يَرْذُلْ دُعَاءَهُمْ [17].
يكتب المرتل بلغة اليقين أن الله قد التفت فعلًا إلى الأعزل، الذي يعاني من الحرمان، واستجاب إلى طلبته وصلاته.
شتان ما بين مشاعر المرتل في بداية صلاته، ومشاعره وهو في وسط الصلاة. في البداية كان يشعر كأن الله قد حجب وجهه عنه، فيصرخ ليميل أذنيه إليه ويستمع إلى صرخات قلبه. أما الآن فيشعر أنه متكئ على صدر الله الذي استجاب له.
* أعني أنه صنع الخلاص للعالم بطلبة أتقيائه القائلين: أسرع وأفتقد الأمم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
يُكْتَبُ هَذَا لِلدَّوْرِ الآخِرِ،
وَشَعْبٌ سَوْفَ يُخْلَقُ يُسَبِّحُ الرَّبَّ [18].
عوض الصراخ إلى الله، الآن يعلن أن ما يشتهيه، ليس تمتعه بالخلاص من الضيق، وإنما أن تسبحه الأجيال المقابلة، وهي تذكر معاملات الله مع كنيسته عبر العصور.
* أعني أن هذا المزمور وسائر نبوات الأنبياء تُحرَّر وتُصان مذخورة ليُخبَر بها الجيل المُقْبِل، ويدل بهذا القول على الجيل الذي آمن بالمسيح، وقد حرَّر بطرس الرسول في رسالته الأولى: "الخلاص الذي فتَّش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم، باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها. الذين ُأعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم (الأنبياء) بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور" (1 بط 1: 10-12)... وهو جيل المؤمنين من ذوي الختان ومن الأمم الذين قد تجددت خلقتهم بالمسيح.
بقوله: الشعب الذي يُخلَق، يدل على إعادة خلقتنا بالمعمودية المقدسة، وانتقالنا من الخلقة الخاصة بالأرضيين إلى الخلقة الروحية العلوية.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّهُ أَشْرَفَ مِنْ عُلْوِ قُدْسِهِ.
الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ نَظَرَ [19].
ما يشغل فكر الله في سماواته هو الإنسان المتألم والمتواضع: "وإلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2).
لِيَسْمَعَ أَنِينَ الأَسِيرِ،
لِيُطْلِقَ بَنِي الْمَوْت [20].
خلق الله الإنسان بإرادة حرة مقدسة، ويود أن يهبه دائمًا الحرية، حتى بعد أن أفسدها الإنسان بإرادته. إنه ينصت إلى أنَّات كل أسير مُكَبَّل بالقلق أو الخطية أو بأسر إبليس أو الموت الأبدي. جاء في إشعياء النبي: "أنا الرب، قد دعوتك بالبرّ، فأمسك بيدك وأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم، لتفتح عيون العمي، لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة" (إش 42: 6-7). "هكذا قال الرب: في وقت القبول استجبتك، وفي يوم الخلاص أعنتك. فأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب لإقامة الأرض، لتمليك أملاك البراري، قائلًا للأسرى اخرجوا. للذين في الظلام اظهروا" (إش 49: 8-9).
* سمع، أي استجاب تنهد وتضرع المقيدين بسلاسل رق الشيطان.
وقوله "ليطلق بني الموت"، أي بني البشر الذين ساد عليهم الموت، لأن الذين آمنوا بالمسيح وانحلوا من أسرهم، كانوا بني الذين ماتوا في عدم إيمانهم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لِكَيْ يُحَدَّثَ فِي صِهْيَوْنَ بِاسْمِ الرَّبِّ،
وَبِتَسْبِيحِهِ فِي أُورُشَلِيمَ [21].
إذ يُكرَز باسم الرب، فإن هذه الكرازة هي لحساب البشرية كي تتهلل وتفرح به "بتسبيحه في أورشليم".
عِنْدَ اجْتِمَاعِ الشُّعُوبِ مَعًا،
وَالْمَمَالِكِ لِعِبَادَةِ الرَّبِّ [22].
بدأ المرتل بالصراخ إلى الرب لكي ينقذه من الضيق الذي حلّ به، لكن إذ سمع الرب صلاته قدَّم له شهوة قلبه، أن تَقْبَل الأمم والشعوب الإيمان بالمخلص. لم يقف الأمر عند تحرير الشعب من السبي البابلي، بل امتد إلى تحرير البشرية من سبي إبليس.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. نحيب شخصي

ضَعَّفَ فِي الطَّرِيقِ قُوَّتِي.
قَصَّرَ أَيَّامِي [23].
كان رجال العهد القديم الأتقياء في شغفٍ شديدٍ نحو مجيء مخلص العالم، حتى حلّ بهم الهزال، أو كما تقول العروس: "إني مجروحة (مريضة) حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8).
أَقُولُ: يَا إِلَهِي لاَ تَقْبِضْنِي فِي نِصْفِ أَيَّامِي.
إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ سِنُوكَ [24].
هذه هي أنَّات الكنيسة ليس من اضطهادها، وإنما لأجل شوقها أن يأتي السيد المسيح ليجد العالم كله قد تقدَّس، لينعم بالأمجاد الأبدية.
يرى العلامة أوريجينوس أن هذه الطلبة لا تحمل شهوة النبي للبقاء إلى زمن طويل في العالم، وإنما تحمل مفهومًا روحيًا ساميًا. فالمرتل يطلب من الله أن تعمل نعمته فيه ليحقق رسالته التي ائتمنه الله عليها، بهذا يكون قد أكمل كل عمره. فالشهداء مثل أطفال بيت لحم، وإن قتلوا في سن مبكرة، لكنهم يُحسَبون أنهم أكملوا أيامهم بسلام، بينما بعض الشيوخ مثل رئيسي الكهنة حنان وقيافا بالرغم من مركزهما السامي وشيخوختهما لكنهما لم يُكَمِّلا أيامهما.
* تُحسَب النهاية (للعمر) هي كمال الأمور وتحقيق الفضائل. لهذا السبب قال قديس: "لا تستدعني في نصف أيامي" (راجع مز 102: 24). مرة أخرى يُقَدِّم الكتاب المقدس شهادة لأب الآباء العظيم إبراهيم: "ومات شبعان أيامًا" (تك 24: 8). في النهاية أقدم لكم هذه الشهادة، وكأنه قال: "لقد جاهدت الجهاد الحسن، وحفظت الإيمان، وأكملت السعي" (2 تي 4: 7)، الآن أستدعيك من هذا العالم إلى البركة العتيدة، إلى كمال الحياة الأبدية، إلى إكليل البرّ الذي يعده الرب في آخر الدهور لكل الذين يحبونه (2 تي 4: 8؛ يع 1: 12)[29].
العلامة أوريجينوس
* كما يعد الله الذين يخدمونه بالحق: "أكمل عدد أيامك" (خر 23: 26)، مات إبراهيم شبعان أيامًا، ودعا داود الله، قائلًا: "لا تأخذني في نصف أيامي" (مز 102: 24). وأليفاز أحد أصدقاء أيوب، إذ تأكد من هذه الحقيقة، قال: "تدخل المدفن... كرفع الكُدس (الحنطة) في أيامه" (أي 5: 26). ويثبت سليمان هذه الكلمات، قائلًا: "أما سنو الأشرار فتقصر" (أم 10: 27). لهذا يحثنا في سفر الجامعة، قائلًا: "لا تكن شريرًا كثيرًا، ولا تكن جاهلًا، لماذا تموت في غير وقتك؟" (جا 7: 17)[30].
البابا أثناسيوس الرسولي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. تسبحة ختامية

مِنْ قِدَمٍ أَسَّسْتَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتُ،
هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ [25].
أدرك الرسول بولس أن هذه العبارات (25-27) إنما تخص ربنا يسوع المسيح (عب 1: 10-12).
* يتحدث عن الابن ما يُقال عن الآب بكونه الخالق، الأمر الذي ما كان يمكن أن يقوله ما لم يكن يعتقد فيه أنه الخالق، ومع هذا فهو لأي واحد[31].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الله نفسه يقول: "كل هذه صنعتها يديَّ" (إش 66: 2). وداود يرتل قائلًا: "منذ البدء أسست الأرض والسماوات هي عمل يديك" (مز 102: 25). ويقول أيضًا في المزمور المئة والثاني والأربعين: "تذكرت أيامًا قديمة، تأملت في جميع أعمالك، بصنائع يديك كنت أتأمل" (مز 142: 5). إذن إن كانت يد الله هي التي صنعت الصنائع، وقد كُتب: طل الأشياء قد صارت بالكلمة، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (أنظر يو 1: 3)، وأيضًا: "رب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء" (1 كو 8: 6)، وأيضًا: "فيه يقوم الكل" (كو 1: 17)، فإنه من الواضح أن الابن لا يمكن أن يكون عملًا، ولكنه هو الله وحكمته[32].
القديس أثناسيوس الرسولي
هِيَ تَبِيدُ وَأَنْتَ تَبْقَى،
وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى،
كَرِدَاءٍ تُغَيِّرُهُنَّ فَتَتَغَيَّرُ [26].
* قال أيضا بولس: "هي تبيد" (عب 1: 11)... وقد أخذ الرسول ذات كلمات داود (مز 102: 25-27). لكن إن كانت كل أعمال الخليقة تبيد تمامًا، فالفردوس الذي لن يبيد، أيضًا يبيد. بالحقيقة، بسبب الفردوس، الذي لا ينتهي، فمن الواضح أن كل أعمال الخليقة ستتجدد من أجلنا، كما يؤكد البعض، ولا تهلك كما يقول آخرون[33].
القديس مار أفرام السرياني
* اسمعوا داود النبي يقول: "أنت يا الله في البدء أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك. هي تبيد وأنت تبقى" (مز 102: 25). اسمعوا بأي معنى يقول: "هي تبيد"؟ إنه يكمل: "كلها كثوبٍ تذوب قِدَمًا، وكرداء تطويها فتتغير" (مز 102: 26)، إنها كالإنسان الذي يُقال عنه إنه "يُباد". إذ مكتوب عنه: "باد الصديق، وليس أحد يضع ذلك في قلبه" (إش 62: 1). هذا بالرغم من انتظار القيامة. هكذا انتظر كما لو أن هناك قيامة للسماوات[34].
القديس كيرلس الأورشليمي

* تحدث هذه التغيرات في المستقبل... فهو يجدد "الذين يتغيرون"، وكأنه أراد لنا أن ندرك أن هذا التغير مستقبلي...
ربما أراد أيضًا أن يُكَلِّمَنا عن القيامة حيث نتغير ولكن للأفضل... في جسدٍ روحانيٍ، لأنه قيل: "يُزرَع في ضعف، ويُقام في قوة، يُزرَع جسمًا حيوانيًا، ويُقام جسمًا روحانيًا" (1 كو 15: 43-44)...
كل الخليقة الجسدية سوف تتغير أيضًا معنا، "لأن السماوات تبيد، وأنت تبقى، ولكنها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير" (مز 102: 26). في ذلك اليوم سيتضاعف نور الشمس إلى سبع مرات، كقول إشعياء: "ويكون نور القمر كنور الشمس. ونور الشمس يكون سبعة أضعاف... كنور سبعة أيام" (إش 30: 26).
القديس باسيليوس الكبير
* غسل يسوع ثوبه، لا يغسل غضنًا خاصًا به، إنما يغسل وصمات خاصة بنا. يكمل يعقوب: "غسل... بدم العنب ثوبه (عباءته)" (تك 49: 11). هذا يعني أنه في آلام جسمه غسل الأمم بدمه. حقًا العباءة تمثل الأمم، كما هو مكتوب: "حي أنا يقول الرب، إني ألبس الكل كما لو كانوا ثوبُا" (راجع إش 49: 18)، وفي موضع آخر: "كرداء تغيرهن فتتغير" (مز 102: 26)[35].
* يمكننا أيضًا أن ننسج ثوبًا، لأن ما هو قديم يُخيط، بينما ما هو جديد يُغتصب. "من أيام يوحنا المعمدان ملكوت السماوات يُغتصب، والذين يغتصبونه يختطفونه"[36].
* بالحقيقة العباءة (الثوب) تمثل الأمم، كما هو مكتوب "حي أنا يقول الرب، التحف بهم جميعًا مثل ثوب". وفي موضع آخر: "مثل ثوب تغيرهم وتغسلهم لا عن خطايا لك، فإنه ليس لك خطايا، وإنما عن المعاصي التي نحن نرتكبها[37].
القديس أمبروسيوس
وَأَنْتَ هُوَ،
وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ [27].
* يسمو الجوهر الإلهي فوق كل تغيير. ليس من هو أفضل منهم يبلغ إليه، يرتقي إليه. لا، لست أقول مساوٍ له، ولا حتى على الأقل يقترب إليه. يبقى أنه لو كان يمكن أن يتغير، يلزم أن يتغير إلى ما هو أقل (لأنه لا يوجد من يسمو عنه)، بهذا لن يكون هو الله[38].
القديس يوحنا الذهبي الفم
أَبْنَاءُ عَبِيدِكَ يَسْكُنُونَ،
وَذُرِّيَّتُهُمْ تُثَبَّتُ أَمَامَكَ [28].
قيل عن هذه الذرية المقدسة: "نسله إلى الدهر يكون، وكرسيه كالشمس أمامي" (مز 89: 36).
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 102

مسكين أنا، ليس لي من يسندني سواك!

* أعماقي تئن في داخلي:
مسكين أنا، ليس لي من يسندني سواك!
من أجلي يا أيها الغني صرت فقيرًا،
لكي بفقرك تغنيني، فلا أعتاز إلى شيء!
* أمل أذنك، واسمع صلاتي.
أنت وحدك تسمع صرخات قلبي!
دخان خطاياي أعمى عيني وأفسد حياتي،
وجفف عظامي، فيبست.
* في وسط آلامي يبس قلبي تمامًا.
نسيت حتى الخبز الضروري.
ضعف كل جسمي، حتى لصق عظمي بجلدي!
أنت الخبز الحي، ترد لي صحتي.
أنت الطبيب وأنت الدواء.
هب لي أن أتمتع بحضورك وسكناك داخلي.
* تركني الكل، فصرت كبرية خربة يسكنها القوق،
وارتفع صوت البوم المزعج في داخلي.
صرت كعصفورٍ منفرد على السطح، ليس لي رفيق.
ليتركني الكل؛ لكن وجودك يملأ كل فراغ فيّ!
ليعيرني الأعداء، تكفيني نعمتك!
* ارفع غضبك عني، فإنني صرت كالعشب اليابس.
ترفق بي، فتدَّب فيَّ الحياة.
* تطلع إلى كنيستك،
فإنني أعترفُ: أخطأتُ أنا وكل بيت آبائي.
لتقم أيها العريس السماوي،
ولتنزع عنا خطايانا ونجاسات قلوبنا،
وتردنا بروحك القدوس إليك.
* تطلع إلى الكرمة التي غرستها يمينك.
تطلع من السماء، فإنها تترقب رحمتك.
لتسمع أنينها الخفي،
ولتحوِّل مراثيها إلى تسابيح مفرحة!
زيِّنها بروحك القدوس فتشهد لك.
تجتذب الكثيرين إلى عذوبة إنجيلك.
فتصير الأرض سماءً تشهد لك!
متى أرى كل البشرٍ يلتصقون بك!
  رد مع اقتباس
قديم 06 - 03 - 2014, 02:27 PM   رقم المشاركة : ( 104 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 103 - تفسير سفر المزامير
مبارك أنت أيها الرب الرحوم!

كتب داود النبي هذا المزمور وهو يُسَبِّح في لُجة محبة الله الفائقة ومراحمه العظيمة. يُسَجِّل لنا خبرته المفرحة مع الله غافر الخطايا، الذي يكلل مؤمنيه بالرحمة والرأفة.
يرى البعض أن هذا المزمور ليس له مثيل كتسبحة للرب في كل الأدب في العالم. يرى كثير من الدارسين أن هذه القصيدة هي قطعة شعرية غاية في الإبداع، مشحونة بمشاعر إيمانية ملتهبة، وتكشف عن قلب مملوء إيمانًا يتلامس مع مراحم الله الفائقة تخص حياتنا الزمنية ومصيرنا الأبدي.
هذا المزمور هو تسبحة شكر يُقَدِّمها المؤمن المُخْلِص في حياته في كل عصر من العصور، والمُخْتَبِر لعذوبة الخلاص.
يدعونا هذا المزمور إلى تقديم ذبيحة التسبيح للرب بكونه الخالق والمُخَلِّص الرحوم، مقدمًا حجج خاصة تدفعنا للتسبيح، بعضها من خبرة الكاتب نفسه أي داود النبي، وبعضها خاصة بمعاملات الله مع شعبه، وأخرى تخص مراحم الله على كل الخليقة. يرى المرتل في الله أنه يستحق كل تسبيح من كل الخليقة، لأنه يفيض بمراحمه على الجميع.
كان اليهود يستخدمون هذا المزمور في عبادتهم. ولا زال اليهود الأرثوذكس يستخدمونه في أيام الأعياد والمناسبات.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مناسبته

جاء في الترجمة السريانية أن داود سجَّل هذا المزمور في شيخوخته، وكأنه يُمَثِّل وصية أبوية يقدمها لمؤمنيه كأولاد له لكي يمارسوا حياة التسبيح لله. وجاء في النسخة الكلدانية أن هذا المزمور نبوي، فهو يوجهنا للتلامس مع عمل المسيح الخلاصي الذي طالما تنبأ عنه الأنبياء واشتهوه بفرحٍ وتهليلٍ.
1. باركي يا نفسي الرب
1-2.
2. خلاص فائق
3-7.
3. الله كلي الرحمة
8-18.
4. العرش الإلهي
19-22.
من وحي مزمور 103
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. باركي يا نفسي الرب

تسبحة شخصية وذبيحة شكر، لكنها ليست خاصة، فإن المرتل يشتهي أن يُقَدِّمها كل مؤمنٍ ليتمتع بحياة التسبيح التي تملأ النفس بالبهجة.
لِدَاوُدَ
بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ،
وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ [1].
جاءت كلمة "باركوا" ومشتقاتها في هذا المزمور ست مرات.
يرى القديس أغسطينوس أن تعبير "كل ما في باطني" إنما هو تكرار لقوله "نفسي"، فالمرتل لا يعني ما في داخل جسده كالرئتين والكبد الخ، إنما ما في نفسه.
* عندما تأتي إلى الكنيسة لكي تتلو تسبحة، فإن صوتك يتلو تسابيح الله. إنك ترنم قدر ما تستطيع. وعندما تترك الكنيسة لتجعل نفسك تتلو تسابيح الله. إنك مشغول في عملك اليومي، لتكن نفسك مُسَبِّحة لله. أنت تتناول طعامك، انظرْ ماذا يقول الرسول: "فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئًا، فافعلوا كل شيء لمجد الله" (1 كو 10: 31). أتجاسر فأقول عندما تنام لتُسَبِّح نفسك الله. لا تكن أفكار الحماقة تثور فيك. لا تكن حيل السرقة تثور فيك، ولا تجعل خطط المعاملات الفاسدة تثور فيك، بل ليكن صوت نفسك حتى وأنت نائم هو البرّ[1].
القديس أغسطينوس
بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ،
وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ [2].
معاملات الله مع الإنسان حتى في لحظات التأديب، تفيض بالمراحم أو الإحسانات. يصعب على الإنسان أن يُقَدِّم قائمة بكل إحسانات الله عليه أو على البشرية.
* لا يمكن أن تكون حسنات الرب قدام عينيك، ما لم تكن خطاياك أمام عينيك. لا تسمح للذة في الخطية الماضية أن تكون قدام عينيك، بل لتكن إدانة الخطية هي أمام عينيك. لتكن الإدانة من جانبك، والغفران من جانب الله. فإنه هكذا يكافئك الله، فتقول: "بماذا أكافئ الرب عن كل حسناته لي؟" (مز 116: 12)[2].
القديس أغسطينوس
* أقول يا لعظمة كل ما نراه، فقد خلق الله لنا! شكَّلنا لكي نولد ونعيش، ونكون قادرين على التَحَرُّك، وأن نتعرَّف على خالقنا. إنه يميزنا عن الحيوانات التي تُستَخدَم لحِمْل الأثقال، فقد خلقها محنية لكي تتطلع إلى الأرض، أما نحن فقد جعلنا منتصبين لنحملق في السماوات. بالحقيقة عظيمة هي كل هذه، ولكن ما هو أعظم منها أنه من أجلنا قد وُلد! كيف وهو بالطبيعة الله لم يحسب نفسه خلسة أن يكون مساويًا لله، إنما أخلى نفسه، وأخذ شكل العبد... وأطاع حتى الموت، موت الصليب (في 2: 6-8). لأننا كنا قابلين للموت، خضعنا له بسبب خطايانا، ورسم لنفسه أن يموت عن القابلين للموت حتى نسترد الحياة خلاله[3].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. خلاص فائق

يبدأ العمل الخلاصي بمغفرة الخطايا، فينعم المؤمن بشفاء النفس من جراحاتها، ولا يتعثر في الطريق، ولا يسقط في فخاخ العدو الخفية، إنما يتمتع بعمل الروح القدس الذي يجدد الأعماق على الدوام، ويسنده الرب في وسط ظلم الأشرار ومقاومتهم.
الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ،
الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ [3].
تبدأ إحسانات الله بطول أناته كغافر للخطايا والذنوب. ومع المغفرة يشفي الجراحات التي تسببها الخطية في حياة الإنسان، خاصة في أعماقه. إنه دائمًا يود تجديد حياتنا الداخلية، ليسكب علينا عدم الفساد، عوض الفساد الذي حلّ بنا. إنه طبيب النفوس والأجساد! يعمل لأجل تمتعنا بالحياة الأبدية المجيدة نفسًا وجسدًا!
* اسمعوا ما هي كل حسناته. "الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك". تطلعوا إلى إحساناته. ماذا يستحق الخاطئ سوى العقوبة؟ ماذا يستحق المُجَدِّف سوى نار جهنم؟ إنه يهبكم هذه الإحسانات حتى لا ترتجفوا بفزع، وتخافوه بدون حب... فإنك خاطئ. ارجع ثانية وتقبَّل إحساناته. إنه "يغفر جميع ذنوبك"... ومع هذا فبعد غفران الخطايا تهتز النفس ذاتها بأهواءٍ معينة، ولا تزال في مخاطر التجربة. إنها لا تزال تُسر ببعض المقترحات، إنها لا تُسر ببعضها، وأحيانًا تقبل البعض وتُسر بها: إنها تنجرف فيها. هذا هو ضعف، لكنه، "يشفي كل أمراضك". تُشفى كل ضعفاتك، فلا تخف! إنها ضعفات خطيرة، لكن الطبيب أعظم. لا يوجد ضعف يوضع أمام الطبيب القدير غير قابل للشفاء. فقط اسمحْ لنفسك أن تُشفَى. لا تقاوم يديه؛ إنه يعرف كيف يتعامل معك. لا تُسر فقط عندما يدللك، وإنما احتمله عندما يمسك السكين. احتملْ ألم العلاج، فإن له تأثيره على مستقبلك[4].
القديس أغسطينوس
* "الذي يشفي كل أمراضك" نفوسنا مُصابة بأمراضٍ كثيرة. توجد أمراض للنفس متعددة قدر ما توجد خطايا. إنه لأجل تعليمنا جاء عن المرأة التي في الإنجيل التي كانت مريضة لمدة ثمانية عشر سنة بسبب روح (شرير)، وانحنت ولم تكن قادرة على التطلع إلى فوق (لو 13: 11).
لاحظوا معنى ما يقوله الإنجيل. عندما يُصاب أحد بمرضٍ بسبب روحٍ، ينحني وينظر إلى أسفل، متطلعًا إلى الأرض، عاجزًا عن التطلع إلى السماء[5].
القديس جيروم
* وجب علينا تذكر خمسة أشياء وعدم نسيانها:
أولًا: مغفرة خطايانا [3]... كما حرر الرسول: "متبررين مجانًا بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه، لإظهار برّه من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله" (رو 3: 25)...
ثانيًا: شفاء أمراضنا الجسدية والروحية [3].
ثالثًا: نجانا من الفساد [4]، وذلك بقيامته من الأموات. بقولنا إنه نجانا من البلاء والفساد، لا يعني أنه خلَّصنا من الموت الذي هو مفارقة النفس من الجسد... لكن ربنا له المجد منحنا سبيلًا أن نبرأ من الموت الذي هو مفارقة النفس من الحياة الأبدية، ومن الانحدار إلى الهلاك والجحيم...
رابعًا: أننا كُللنا بمواهب عظيمة، وهي أن نصير أبناء الله بالتبني. هذا هو الإكليل الذي من أجله كتب الرسول: "قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا قد وضُع لي إكليل البرّ الذي تهبه ليّ في ذلك اليوم الرب الديان العادل، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضًا" (2 تي 4: 7-8). هذا الإكليل مُضَفر من الرحمة والرأفة، لأنه من رحمة الله معطي الرحماء.
خامسًا: ملأنا من الخيرات الروحية التي يشتهيها الصديقون [5]، واشتهاها آدم أيضًا، وهي أن نكون آلهة. لأنه بهذه الشهوة أغواه المحتال إلى أكْلِ الثمرة المُنهَى عنها. إذًا رغمًا عن الشيطان منحنا ربنا الإلوهية، وجعلنا شركاء صورته بنعمة المعمودية المقدسة التي بها تتجدد طبيعة البشر، لنزع الإنسان العتيق البالي، ولبس الإنسان الجديد، مثل النسر الذي ينزع ريشه العتيق، فينبت له ريش جديد. هكذا تحصل النفس مثل النسر أن تكون ملكة على شهوات الجسد وعالية للطيران حتى إلى علو السماوات.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* ربنا ومخلصنا هو الطبيب الحقيقي والكامل، يهب الشفاء للجسم، ويرُد الصحة للنفس[6].
الأب خروماتيوس
* دعنا إذًا نُسْرِع إلى تقبُّل المنّ السماوي، الذي يُعْطِى لكل فم الطَعْمِ الذي يرغب فيه. فلنستمع أيضًا إلى ما يقوله الرب لمن يقترب إليه: "وكما آمنت يكون لك" (مت 8: 13). لذلك، فإن تقبَّلت كلمة الله، التي تسمعها في الكنيسة، بإيمانٍ كاملٍ وورعٍ، فستكون لك هذه الكلمة: "كما تشاء: فعلى سبيل المثال، إن كنتَ حزينًا فسيعزيك قوله: "القلب المنكسر والمنسحق لا يرذله الله" (مز 50: 17).
وإذا فرحتَ آملًا في المستقبل، فسيزيد فرحك عندما تسمع: "افرحوا بالرب، وابتهجوا يا أيها الصديقين" (مز 32: 11).
وإذا كنتَ غاضبًا، فستهدأ عندما تسمع: "كف عن الغضب، واترك السخط" (مز 37: 8).
وإن كنتَ في ألمٍ، فَسَيُبْرِئُك سماع: "الرب يشفي كل أمراضك" (مز 103: 3).
وإن كنتَ منسحقًا بالفقر، فستتعزى حينما تسمع: "الرب المقيم المسكين من التراب، الرافع البائس من المزبلة" (مز 103: 7).
إذًا فالمنّ الذي يعطيه لك كلمة الله، سوف يكون في فمك بالطَعْمِ الذي تشاء.
العلامة أوريجينوس
* في صراع كهذا تكون النصرة عظيمة جدًا، لا إلى حين بل إلى الأبد، حيث ليس فقط ينتهي المرض، إنما لا يعود يظهر مرة أخري (هناك في الأبدية). فليُسمع البار نفسه وهو يقول: "باركي يا نفسي الرب، ولا تنسي كل حسناته، الذي يغفر جميع ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك" (مز 103: 2-3).
إنه غافر ذنوبنا، إذ يسامحنا عن خطايانا، وهو شافي أمراضنا، إذ يضبط الشهوة الشريرة.
غافر ذنوبنا بعطية الغفران، وشافي أمراضنا بالعفة.
الأولى يتمتع بها المعترفون في العماد، والثانية تُنفَّذ في نضال المجاهدين، حيث يَغلبون خلال نعمته.
واحدة تحدث، إذ يصغي إلى قولنا "اغفر لنا ذنوبنا" (مت 6: 12). والأخرى عند سماعه قولنا "لا تدخلنا في تجربة"، إذ يقول الرسول يعقوب: "ولكن كل واحد يُجرَّب إذا انجذب وانخدع من شهوته" (يع 1: 14). ونحن نطلب ضد هذا الخطأ دواءً من الرب، هذا الذي يقدر أن يشفي كل مثل هذه الأمراض.. لذا يلزم علي كل من يسمع هذا أن يصرخ، قائلا:ً "أنا قلت يا رب ارحمني، اشف نفسي، لأني قد أخطأت إليك" (مز 41: 4). فإنه لا تكون هناك حاجة لشفاء النفس ما لم تكن قد فسدت بصنع الخطية.. فتضاد ذاتها، وتكون مريضة في جسدها[7].
* في كل خطية يوجد بلا شك عمل شهوة ضد المسيح، ولكن عندما يقود ذاك الذي "يشفي كل أمراضنا" (مز 103: 3) كنيسته في الشفاء الموعود به، عندئذ سوف لا يكون في أيّ عضو من أعضائنا أيّ غضن أو دنس.
إذن سوف لا يشتهي الجسد ضد الروح قط، وعندئذ لا يكون هناك أيّ داعٍ لكي يشتهي الروح ضد الجسد. سينتهي هذا النـزاع، سيكون هناك اتفاق بين العنصريْن علي أعلي مستوي، وسوف لا يكون هناك أحد جسديًا، حتى أن الجسد نفسه سيكون "روحيًا".
فما يفعله من جهة جسده ذاك الذي يحيا حسب المسيح، إذ يشتهي ضد الشهوة الشريرة ذاتها، مقاومًا إياها لكي يُشفَى، لكنه لم يُشفَ بعد إذ هي فيه، إلا أنه مع هذا يُنعش طبيعة الجسد الصالحة ويلاطفها، حيث "لم يبغض أحد جسده قط" (1 يو 1: 8). هذا أيضًا بذاته يفعله السيد المسيح من جهة كنيسته وذلك إن قارنا الأمور الصغيرة بالأمور الكبيرة. لأن السيد المسيح يضغط عليها بالانتهار، لكي لا تتكبر خلال سموها، ويرفعها بالتعزيات حتى لا تسقط في الهاوية بالضعفات. وهذا ما يقوله الرسول: "لأننا لو حكمنا علي أنفسنا لما حُكم علينا، ولكن إذ قد حُكم علينا نؤدب من الرب لكي لا نُدان مع العالم" (1 كو 11: 31-32) وهذا ما جاء في المزمور: "عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي" (مز 94: 19)[8].
* بالتأكيد لا يتحقق تجديد الإنسان الداخلي في لحظةٍ واحدةٍ عند قبول الإيمان، إنه ليس مثل التجديد الذي يحدث في العماد الروحي الذي يحدث في لحظة قبولنا لمغفرة الخطايا، في اللحظة التي فيها يُنزع عنا كل ما هو ضدنا، ولا يبقى شيء بلا مغفرة (مز 103: 12).
الشفاء من الحمى شيء، واستعادة الإنسان لصحته بعد معاناته من الضعف بسبب المرض شيء آخر.
نزع الحربة من الجسم شيء، والشفاء من الجرح المميت بالعلاج الطويل والرعاية شيء آخر.
إني أخبركم أن إزالة العلة هو مجرد الخطوة الأولى للعلاج، هذه الخطوة الأولى التي فيها تهتم بشفاء نفسك هي اللحظة التي فيها تُغفر خطاياك.
بالإضافة إلى هذا توجد حاجة إلى الشفاء من المرض الروحي نفسه، هذا يتحقق تدريجيًا، يومًا فيومًا، إذ تُمحى تدريجيًا صورة الإنسان الساقط الذي في الداخل، وتتجدد حسب صورة الله.
كل من هاتين العمليتين وُضعت في آية واحدة (مز 103: 3). يشير المرتل:
أولًا: إلى ذاك الذي يغفر كل خطاياك، هذا يتحقق في العماد بمراحم الله.
ثانيًا، نقرأ أنه هو نفسه يشفي أمراضكم، هنا يتحدث عن التقدُّم اليومي الذي فيه تنمو صورة الله بقوة فينا.
القديس أغسطينوس
الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ،
الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ [4].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "المنقذ من الفساد حياتك".
حلّ الفساد بنا بسبب الخطية، وتمتعنا بعدم الفساد والمجد الأبدي خلال الرحمة الإلهية وعمل الله الخلاصي.
* "الذي يفدي من الهلاك حياتك". لقد ُأشتريتم بثمن، فلا تجعلوا أنفسكم عبيدًا للناس (1 كو 7: 23). أي ثمنٍ أعظم من أن يسفك الخالق دمه من أجل الخليقة؟
"الذي يكللكِ بالرحمة والرأفة". إنه يتوجكم. إذ يخلصكم يكللكم.
إنه يهبك تاجًا، ليس عن استحقاقك، وإنما من أجل حنو رأفته. يا رب إنك تتوجنا بدرع إرادتك الصالحة (راجع مز 5: 13).
لاحظوا ماذا يقول؟ يا رب تتوجنا بدرع إرادتك الصالحة. لعلك تسأل: هل بالحقيقة يتوج أحد بدرعٍ؟
بالحقيقة من يتوج، إنما يتوج بالزهور أو الذهب أو بأكاليل أخرى. الآن كيف يُتوج أحد بدرعٍ؟ درع الرب هو تاج، لأنه يحوطنا بحمايته ويدافع عنا، هكذا يتوجنا. الرحمة والرأفة في هذا المزمور يعنيان ما يعنيه الدرع في مزمور آخر. والدرع إذ يحوط بنا ويحمينا هو رحمته ورأفته[9].
القديس جيروم
* "الذي يفدي من الفساد حياتك"... لتُفَكِّرْ في صحتك... إن كان ضعفك ذاته يؤكد أنك مريض فلتهتم بصحتك. المسيح هو صحتك، فلتفَكِّرْ في المسيح. تقبَّل كأس صحته المخلِّصة "الذي يشفي كل ضعفاتك"، فإن أردتَ ذلك تقتني هذه الصحة (السيد المسيح)... فإن حياتك تُفتدَى من الفساد...
"الذي يكللك بالرحمة والرأفة". ربما بدأتَ تتشامخ بنوعٍ ما، لتسمع الكلمات: "الذي يكللك"[10].
القديس أغسطينوس
* إنها تقيم من البشر كهنة!
نعم إنه كهنوت يجلب مكافأة عظيمة!
الرجل الرحوم (الكاهن) لا يرتدي ثوبًا إلى الرجليْن، ولا يحمل أجراسًا، ولا يلبس تاجًا، لكنه يتقمَّط بثوب الحنو المملوء ترفقًا، الذي هو أقدس من الثوب المقدس!
إنه ممسوح بزيتٍ لا يتكون من عناصر مادية بل هو نتاج الروح...! يحمل أكاليل المراحم، إذ قيل: "يتوجك بالمراحم والرأفات" (مز 103: 4).
عوض الصدرية الحاملة اسم الله، يصير هو نفسه مثل الله.
كيف يكون هذا؟ إنه يقول: "لكي تكونوا مثل أبيكم الذي في السماوات"[11].
القديس يوحنا الذهبي الفم
الَّذِي يُشْبِعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ،
فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ [5].
الله هو وحده كلي الصلاح، أو الصلاح غير المتغيِّر، أما صلاح الإنسان فيتغيَّر من شخص إلى آخر، ومن زمانٍ إلى زمانٍ. فإن أردنا أن نشبع بالصلاح الحقيقي أو بالخير الحقيقي يليق بنا أن نقتني الله نفسه مصدر الصلاح.
توجد قصص كثيرة عجيبة بخصوص تجديد النسر لشبابه. منها أنه ككثير من الطيور يتمتع كل عام بريش جديد يجدد طاقاته، لهذا يُقال أنه من أكثر الطيور الطائرة عمرًا، هذا ويتسم بنظره الحاذق، فيرى أصغر الأشياء وهو على بُعد شاهق.
كما أنه لا يعاني من الضعف في شيخوخته كسائر الطيور. يُحسَب ملك الهواء (راجع خر 19: 4؛ تث 28: 49؛ أم 30: 19؛ إش 40: 31؛ إر 4: 13؛ حب 1: 8).
* لأن البار الذي يحيا بالإيمان يرجو الحياة الأبدية دون أدنى شك، وكذلك الإيمان الذي يجعل الجياع والعطاش إلى البرّ يتقدمون به بتجديد الداخل يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). ويرجو أن يشبع به في الحياة الأبدية، حيث يتحقق ما قيل عن الله في المزمور: "الذي يُشبع بالخير عمرك" (مز 103: 5)[12].
القديس أغسطينوس
* لقد دُعوا نسورًا، إذ يتجدد مثل النسر شبابهم، ويَحمِلون أجنحة ليأتوا إلى آلام المسيح[13].
القديس چيروم
* لنصعدْ من هنا، أي من أمور هذا الجيل ومن أمور العالم. إذ يقول الرب: "قوموا ننطلق من ههنا"، معلمًا كل واحدٍ أن ينطلق من الأرض ويرفع نفسه الراقدة على الأرض، يرفعها إلى الأمور العلوية، ويدعوه نسره، هذا الذي يُقال عنه: "يجدد مثل النسر شبابك"[14].
القديس أمبروسيوس
* لهذا فإن لداودَ الحقَ أن يصرخ، كإنسانٍ قد تجدَّد، "سآتي إلى مذبح الله، إلى الله الذي يعطي فرحًا لشبابي" (مز 4: 43). كما قال قبلًا إنه شاخ وسط أعدائه، كما نقرأ في المزمور السادس (قابل مز 8: 6) وهو يقول هنا إنه قد استعاد الشباب بعد طول شيخوخة وسقوط الإنسان. لأننا قد تجددنا بالتجديد الذي نلناه في المعمودية، وتجددنا خلال سكب الروح القدس، وسنتجدد أيضًا بالقيامة، كما يقول في نصٍ آخر: "فيتجدد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5). فاعلموا طريقة تجديدنا: "تنضح عليَّ بزوفاك فأطهر، تغسلني فأبيض أكثر من الثلج" (مز 9: 51) وفي إشعياء: "إن كانت خطاياكم حمراء كالقرمز، تبيض كالثلج" (إش 18: 1). ومن يتغيَّر من الظلمة، ظلمة الخطية، إلى نور الفضيلة وإلى النعمة، إنما قد تجدَّد فعلًا، لهذا فإن ذاك الذي تلطخ قبلًا بالدنس الأحمق، يشرق الآن بسطوع أكثر بياضًا من الثلج[15].
القديس أمبروسيوس

* من المعلوم يا إخوتي أن كل منَّا يطلب راحته وسروره، إلاَّ أنه لا يطلب ذلك كما يجب ولا حيثما يوجد. فالأمر يتوقف على تمييز السرور الحقيقي من السرور الكاذب، وبالعكس فإننا غالبًا ما نُخدَع بخيالات السرور الباطل والخير الكاذب.
فالبخيل والمتجبِّر والشرِه والشهواني، كل منهم يطلب السرور، إلاَّ أن هذا يضع سروره في جمع غِنَى وافر، وذاك في شرف الرُتَب والكرامات. وهذا في المآكل والمشارب اللذيذة، وذاك في إشباع شهواته النجسة. ليس منهم من يطلب سروره كما يجب ولا حيثما يوجد، من ثم لا يجده أحد منهم رغم أن الكل يشتهونه.
فكل ما هو في العالم لا يقدر أن يشبع النفس، ويخول لها سرورًا حقيقيًا، فلماذا إذًا تتعب أيها الإنسان الغبي، وتطوف باطلًا في أماكن كثيرة متوقعًا أن تجد خيرات تملأ بها نفسك وترضي بها جسدك؟!
أحبب خيرًا واحدًا يحوي جميع الخيرات، ففيه وحده تجد الكفاية.
استرح إلى الخير الواحد العظيم العام، ففيه الكفاية عن كل شيء.
وأما أنتِ يا نفسي، فباركي الرب الذي يشبع بالخيرات عمرك (مز 103: 2، 5).
القديس أغسطينوس
* سأل أخ عن هذه الآية: "يتجدّد مثل النسر شبابك" (مز 103: 5). فقال له القديس مقاريوس: "مثل الذهب إذا حُمِّي في النار يتجدّد. هكذا أيضًا النفس إذا كان لها من الفضيلة ما يُنقِّيها من أدناسها ومن كل دناياها، فستتجدّد وتطير إلى الأعالي". فسأله الأخ أيضًا: "ما هو الطيران إلى الأعالي يا أبي؟" فقال له: "مثل النسر إذا طار في أعالي الجو. فهو ينجو من فخاخ الصيّاد. ولكنه إذا هبط إلى الأرض، يسقط في فخاخ الصيّاد. هكذا النفس هي أيضًا إذا كانت غير مباليةٍ، وإذا هبطت من أعالي الفضيلة، فهي تسقط في فخاخ صيّاد الأرواح."
فردوس الآباء
اَلرَّبُّ مُجْرِي الْعَدْلَ وَالْقَضَاءَ لِجَمِيعِ الْمَظْلُومِينَ [6].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الرب صانع الرحمة والقضاء لسائر المظلومين".
إذ يعيش المؤمنون الحقيقيون في كل العصور في متاعب، ويتعرضون للظلم والضيق، يؤكد الكاتب المقدس أن الله يجري الرحمة والقضاء في نفس الوقت. كثيرون يتخيلون وجود تناقض بين الرحمة والقضاء، أو بين الرحمة والعدل، لكن الله كلي الرحمة في عدله، وكلي العدالة في رحمته. بمحبته للبشرية طويل الأناة ومتحنن لعل الكل يرجع إليه، فيتمتعوا بالأكاليل والبركات خلال الحكم والعدل.
يرى القديس أغسطينوس أنه إذ قُدمتْ امرأة زانية للسيد المسيح لكي تُرجَم حسب الناموس(يو 8)، وقفت أمام واضع الناموس. وهو بدوره انحنى ليكتب على الأرض (التراب)، عندئذ اكتشف الممسكون بها ضمائرهم الزانية، فخجلوا وانسحبوا. هكذا يليق بنا أن نتعامل مع الخطاة، ونسندهم لا بكونهم خطاة بل بكونهم بشرًا يحتاجون إلى من يسندهم ضد الخطية. نقبل الخطاة لا باسم الخطاة لئلا نهلك، وإنما باسم مخلص الخطاة، فيتمتعون بالرحمة ويتبررون عند القضاء بذاك الذي غفر لهم وبررهم.
لنُقدِّمْ للخطاة الرحمة الإلهية فننعم نحن أيضًا بها.
عَرَّفَ مُوسَى طُرُقَهُ،
وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَفْعَالَهُ [7].
سلَّم الله الشريعة لموسى، وكشف له خطته الإلهية، لا ليدين ويحكم، إنما لكي يدرك الكل حاجتهم إلى المخلص، الطبيب الإلهي المملوء حبًا!
* "عرَّف موسى طرقه"... فقد أُعطي الناموس بهذا الغرض: أن يقتنع المريض بضعفه، ويطلب الطبيب... لكي يتقبل النعمة[16].
القديس أغسطينوس
* طُرُق الله هي أفعال الرحمة والقضاء لجميع المظلومين، لأنه صنع لشعبه رحمة وقضاءً عندما نجاهم من الفراعنة، وأباد أعداءهم. وقد عرفها لموسى وبواسطته لبني إسرائيل أيضًا. أما مشيئاته (أفعاله) فهي وصاياه: لا تقتل، وتزنِ، لا تسرق، وما تلى ذلك.
أيضًا طُرُقه ومشيئاته هي أعمال تجسده التي صنعها ابن الله لأجل خلاصنا. لأن اجتيازهم البحر كان رسمًا لاصطباغنا بماء المعمودية، والمياه التي انفجرت من الصخرة ورَوَتْ العطاش كانت رسمًا للدم الكريم الذي انفجر من جسد ربنا وأحيانا. والمن كان رسمًا لغذائنا الروحي. هذه كلها صارت سبيلًا لخلاصنا. وقد عرفَّها بالرمز لموسى وبني إسرائيل، أعني للأنبياء الناظرين الله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. الله كلي الرحمة

يحتوي هذا القسم على تأمل في العهد الموسوي (خر 34: 6-7)، والكرازة النبوية (هو 11: 1؛ إش 1: 2-4؛ إر 3: 4، 19؛ 4: 22).
الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَءُوفٌ،
طَوِيلُ الرُّوحِ، وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ [8].
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن الرب عرَّف موسى طرقه، وذلك حينما وقف على رأس جبل سيناء وحده، ونزل الرب في السحاب، واجتاز الرب قدامه ونادى الرب: "الرب إله رحيم ورءوف، بطيء الغضب، وكثير الإحسان والوفاء، حافظ الإحسان إلى ألوفٍ، غافر الإثم والمعصية والخطية... فيرى جميع الشعب الذي أنت في وسطه فعل الرب، أن الذي أنا فاعله معك رهيب" (خر 34). هذا ما عرّف الرب موسى به ليدرك أن الرب يأخذ جسدًا ويصير منظورًا، فيرجع الشعب إليه ولا يهلكون.
يقول القديس أغسطينوس إنه يليق بنا ألا نُسيء فهم طول أناة الله، فنكون مثل الغراب الذي خرج من فلك نوح ولم يرجع. لقد خرج وهو يصرخ "Cras! Cras!"، أي "غدًا، غدًا". لكن متى يأتي غدًا؟ يبقى هكذا يصرخ مؤجلًا رغبته في الرجوع إلى حضن الله، ولا يأتي هذا الغد!
لاَ يُحَاكِمُ إِلَى الأَبَدِ،
وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ [9].
الله ديان الأرض، وأب مملوء حنوًا، يطيل أناته، ويفتح أبواب مراحمه لكي تتهيأ النفوس الأمينة للمجد في يوم الرب العظيم.
لَمْ يَصْنَعْ مَعَنَا حَسَبَ خَطَايَانَا،
وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا [10].
إن كانت خطايانا كثيرة وثقيلة للغاية، فإن الله بطول أناته حتى في تأديبه يطلب راحتنا وسلامنا، لا مجازاتنا.
* شكرًا لله، إذ يهبنا هذا. لا ننال ما كنا نستحقه "لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا حسب آثامنا"[17].
القديس أغسطينوس
لأَنَّهُ مِثْلُ ارْتِفَاعِ السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الأَرْضِ،
قَوِيَتْ رَحْمَتُهُ عَلَى خَائِفِيهِ [11].
يؤكد الكتاب المقدس عظمة لطف الله وحنوه (مز 36: 5؛ 57: 10؛ 108: 4؛ إش 55: 7-9).
هذا التشبيه يكشف عن حنو الله الفائق غير المحدود، وقدرة الله للخلاص عظيمة، ترفع النفس كما من التراب إلى السماء.
* لاحظوا السماء، ففي كل جانب تغطي الأرض. ولا يوجد جزء من الأرض لا تغطيه السماء. يخطئ البشر تحت السماء، يصنعون الأعمال الشريرة تحت السماء، لكن السماء تغطيهم. من تلك السماء تنعم العيون بالنور، ومنها ننال الهواء، والنَفَسْ، والمطر على كل الأرض، من أجل الثمار، ومن السماء ننال الرحمة. انزع معونة السماء عن الأرض، فإن الأخيرة تنهار للحال. كما أن حماية السماء تحل على الأرض، هكذا حماية الرب تحل على الذين يخافونه. أنت تخاف الله، حمايته فوقك. قد تتألم وتظن أن الله ينساك. الله ينساك لو أن حماية السماء تترك الأرض[18].
القديس أغسطينوس
* صار غِنَى الله ظاهرًا عندما أظهر رحمته نحو أولئك الذين رذلهم الناس ووطأوا عليهم، هؤلاء الذين وضعوا رجاءهم لا في غناهم، ولا في قوتهم، بل في الرب[19].
العلامة أوريجينوس
* تحتوي كلمات النشيد المقدسة بعض الأفكار المخفية، وكأن عليها نقاب سميك تختفي وراءه، فتبدو صعبة في الفهم. لذلك يلزم أن نوجه اهتمامًا كبيرًا للنص. وفي الحقيقة نحن نحتاج مساعدة من خلال الصلاة وقيادة الروح القدس، حتى لا تضيع منا المعاني، مثل من يتطلع إلى معرفة أسرار النجوم. فعندما نتطلع إلى جمال النجوم البعيدة لا نعرف كيف خُلقتْ. ولكننا نتمتع بجمالها، ونتعجب للمعانها وأوضاعها في السماء، تضيء بعض النجوم التي ذكرت في الكتاب المقدس وتتلألأ، وتملأ عيني النفس بالضياء، كما يقول النبي: "لأنه مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض" (مز 103: 11). فإذا كان هذا مكان صعود نفوسنا، كما في مثال إيليا، حيث تُخطَف عقولنا إلى أعلى في المركبة النارية (2 مل 2: 11)، وترتفع إلى الجمال السماوي، نحن نفهم أن المركبة النارية هي الروح القدس الذي أتى ليمنحها للساكنين على الأرض، على هيئة ألسنة قُسمتْ على التلاميذ، سوف لا نيأس من الاقتراب من النجوم، أي من البحث في الأمور المقدسة التي تضيء نفوسنا بكلمة الله السماوية الروحية[20].
القديس غريغوريوس النيسي

* يجاوب النبي الذين اكتأبوا مرة، وأتوا قائلين: "قد تركني الرب، وسيِّدي نسيني"، قائلًا: "هل تنسى الأم رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟" (إش 49: 15-14) كأنه يقول: يستحيل على الأم أن تنسى رضيعها، فبالأولى لا ينسى الرب البشرية، وهو بهذا لا يقصد تشبيه حب الله لنا بحب الأم لثمرة بطنها، وإنما لأن حب الأم يفوق كل حبٍ، غير أن حب الله حتمًا أعظم منه... تأمل كيف تفوق محبة الله محبة الأم...؟
يؤكد رب الأنبياء وسيِّد الجميع أن حبه يفوق محبة الأب لأولاده، كما يفوق النور الظلمة، والخير الشر، كاختلاف الخير عن الشر، هكذا تعلو محبة الله عن عواطف الوالدين...
توجد أمثلة أخرى كحُب الحبيب لمحبوبته، ليس أن حب الله لنا يعادل هذا الحب، وإنما هو مثال من قبيل التشبيه مع الفارق..، لهذا يقول داود: "لأن مثل ارتفاع السماوات فوق الأرض، قويت رحمته على خائفيه" (مز 103: 11).
كما أن الإنسان في حبه يراجع كلماته بجنونٍ، خشية أن يكون قد نطق بشيءٍ يجرح مشاعر محبوبته. هكذا يقول الرب: "ما أن تكلمت حتى ندمت على كلامي... رجع قلبي" (هو 11: 8). فلا يستنكف الرب من استخدام هذه الصورة القاسية لإعلان حبه لمحبوبته...
أعمال عناية الله أسطع من الشمس، إذ ذكر مَثَل الأب والأم والعريس... وشبَّه نفسه بالبستاني الذي يتعب من أجل عمل يديه... وبالحبيب الذي يحزن لئلاَّ يُحزن محبوبته ولو بكلمة... مؤكدًا لنا أن محبته مختلفة عن كل أنواع الحب هذه كاختلاف الخير عن الشر[21].
القديس يوحنا الذهبي الفم

كَبُعْدِ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ،
أَبْعَدَ عَنَّا مَعَاصِيَنَا [12].
كما لا يستطيع الإنسان أن يقيس البعد بين المشرق والمغرب، هكذا ينزع الله عنا معاصينا بطريقة يصعب علينا أن نصفها أو نضعها تحت حسابات بشرية.
كما أن المشرق والمغرب لن يلتقيا في نقطة واحدة، هكذا فإن مراحم الله قادرة أن تزيل عنا معاصينا أبديًا، كأن لا علاقة لها بنا، أو نحن بها.
جاء في التقليد الكنسي في الشرق كما في الغرب، أنه عند جحد الشيطان وكل قواته وأعماله الشريرة ينظر طالب العماد (مع اشبينه) نحو الغرب، وعندما يعترف بالثالوث القدوس ينظر نحو الشرق. لهذا يسألنا القديس أغسطينوس أن ننظر دومًا نحو المشارق طالبين نعمة الله أن تشرق علينا وتَثْبت فينا إلى الأبد، ونعطي ظهورنا للغرب، معلنين رفضنا التام لإبليس وأعماله، فتغْرُب عنا خطايانا كما بلا رجعة.
* يليق بك أن تتطلع إلى المشارق، وتترك المغارب. اتركْ خطاياك، وارجع إلى نعمة الله، فحين تسقط خطاياك ترتفع أنت وتنتفع... لتسقط خطايانا إلى الأبد، ولتثبت النعمة إلى الأبد.
القديس أغسطينوس
* لم يجد العقل البشري كيف يُقَدِّر رحمة الله على خائفيه أكثر من ارتفاع السماء عن الأرض، وأكثر من بُعْد المشرق عن المغرب. أيضًا تُشَّبه الفضائل بالسماء وبالمشرق بسبب ارتفاعها ونورها. أما الذنوب فعكس هذا. فكل من يخاف الرب ويتجنب المعاصي، يقترب مرتفعًا إلى السماء، ويبلغ إلى المشرق حيث أقام الله الفردوس، ويتمتع برؤية نور مجد الله، ويحصل على الابن ويتمتع برؤيته.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* ابتعدوا عن المغارب، واتجهوا إلى المشارق. انظروا إنسانًا، شاول وبولس؛ شاول في المغارب، وبولس في المشارق. مُضْطهِد في المغارب، وكارز في المشارق... في المغارب الإنسان العتيق، وفي المشارق الإنسان الجديد[22].
الأب قيصريوس أسقف آرل
كَمَا يَتَرَأَّفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ،
يَتَرَأَّفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ [13].
مخافة الرب لا تدخل بنا إلى حالة من الرعب، بل إلى تذوُّق أبوة الله الحانية، وكما يقول السيد المسيح: "أم أي إنسانٍ منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا، وإن سأله سمكة يعطيه حية. فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه" (مت 7: 9-11).
* ليغضب (الله) كيفما يريد، فإنه أبونا! ليؤدبنا ويسمح لنا بالحزن، ويجرحنا، فإنه أبونا. أيها الابن، إن كنت تولول، فلتفعل هذا تحت (عيني) أبيك. لا تفعل هذا بسخطٍ، لا تفعله بتشامخ الكبرياء. ما تعاني منه وأنت تحزن، إنما هو دواء لا عقوبة. لا ترفض التأديب، إن كنت تود ألا تُحرَم من ميراثك. لا تفكر في العقوبة وأنت تتألم من التأديب، بل في الموضع الذي لك في العهد[23].
القديس أغسطينوس
* يظهر لنا المحبة الأبوية إذ تٌبناه، لأنه يعرف بأنه جبلنا في البداية من التراب، وأنه أخذ على أقنوم لاهوته جبلتنا الترابية، واختبر ضعفنا.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا،
يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ [14].
الله في محبته يتعامل معنا حسب ضعفنا، فهو يعْلم أننا تراب نحتاج إلى من يقيمنا منه.
* فانه يليق به بالأكثر، أن يصلي النبي بهذه الكلمات: "اذكر أننا تراب نحن"، أي تعاطف معنا؛ فإنك تعرف (إذ تألمتَ) بخبرة شخصية المعاناة من ضعف الجسد. لذلك فإن الرب المُعَلِّم صالح للغاية موثوق فيه، ومتعاطف معنا؛ وذلك من قبل عظم محبته للطبيعة الخاصة بكل إنسانٍ[24].
القديس إكليمنضس السكندري
* لقد فعل إرميا نفس الشيء، محاولًا التماس المغفرة للخطاة، فقال: "وإن تكن آثامنا تشهد علينا يا رب، فاعمل لأجل اسمك" (إر 7:14). وأيضًا: "عرفت يا رب أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته" (إر 23:10)، "يذكر أننا تراب نحن" (مز 14:103).
من عادة المتضرعين عن الخطاة، أنهم إذ لا يجدون أمرًا صالحًا يقولونه في حقهم، يبحثون عن أي ظلٍ لعذرٍ لهم حتى وإن كان ليس صحيحًا حرفيًا أو لاهوتيًا. لأن ذلك يُحسَب نوعًا من العزاء للنائحين على عناد الخطاة. إذًا لا تفحص الكلام حرفيًا، لكن ضع في ذهنك أنها كلمات تصدر عن نفسٍ مُرَّة تسعى أن تجد فرصة لإنقاذ الخطاة، وحكمًا عادلًا لحسابهم[25].
القديس يوحنا الذهبي الفم

* "لأنه يعرف جبلتنا"، أي ضعفنا. إنه يعرف ما قد خلقه، كيف يسقط، وكيف يُصلح أمره، وكيف يتبناه، وكيف يغنيه[26].
* يستطيع في رحمته أن ينظر إلى ضعفنا ويرانا، كما قيل: "يذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 14). إنه ذاك الذي صنع الإنسان من التراب وأحياه، من أجل صنعته الخزفية أسلم ابنه إلى الموت، من يستطيع أن يوضح، من يستحق أن يدرك مقدار محبته لنا؟[27]
القديس أغسطينوس
* "لماذا نسيتني؟" (مز 42: 9) ولماذا رفضتني؟ (مز 43: 2)، والله لا ينسى، فمن المستحيل حقًا أن ينسى، لأن كل الأحداث الماضية والمستقبلة حاضرة عنده، لكن خطايانا جعلته يوقع عقوبةَ النسيان، لكي يمحو أولئك الذين يعرف أنهم غير مستحقين لافتقاده، لأن "الرب يعرف خاصته" (2 تى 2: 19). وعندما يقترف البعضُ شرًا، يقول لهم: "أنا لا أعرفكم" (مت 7: 23). فمن إذن يقدر أن يقول لله: "لماذا نسيتني؟" لكن هذا الشعور يشترك فيه القديسون ونحن الضعفاء. فالقديس يتحدث وكأنه واعٍ لاستحقاقه. لكنه كلما ازداد قداسةً، ازداد تواضعًا، لكن إن كان القديس يتحدث بمشقةٍ بالغة، فمن أنا الخاطئ حقًا، إلا أن أعود لتلك الشكوى: لماذا نسيتَ عملك؟ (قابل عب 6: 10). لماذا نسيت افتقادك؟ أجل لماذا نسيتَ ضعفي؟ لأنه من هو الإنسان حتى تفتقده؟" (قابل مز 8: 5 (4)؛ عب 2: 6). لهذا لا تنسَ من هو ضعيف، تذكرْ يا رب أنك خلقتني ضعيفًا، تذكرْ أنك جبلتني ترابًا" (قابل مز 103 :14، أي 10: 9)، فكيف أقوى على الوقوف إن لم تشملني برعايتك دائمًا لتقَّوىَ هذا الطين، متى تأتي قوتي من وجهك؟ "فحين تحجب وجهك يرتاعُ كل شيءٍ!" (مز 104: 29) إن مارستَ عنايتك فالويل لي! فأنت لا ترى فيَّ سوى أدرانَ الخطايا! وما من فائدة أن أُترك، أو يُعتنى بي، لأنه حتى ونحن موضع رعايتك، نقترف الآثام! لكن مع ذلك، لا أزال متيقن أن الله لا يرفض الذين يعتني بهم، لأنه يُطَهِّر الذين يراهم، ونار توقد أمامه تحرق الخطية (قابل يؤ 2:3)[28].
القديس أمبروسيوس
* بينما يُطلب منَّا التعمُّق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه، نجد البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم، فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون أنفسهم، لأن بهم مساوئ ليست بأقل من مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة، لذلك يقول الحكيم بولس: "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها" (رو 2: 1)، فمن الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته الباطلة، وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة.
فلنُصَلِّ عن مثل هؤلاء البائسين القانطين، ولنَمِدْ لهم يدَ العون والمساعدة، ولنَسع ألاَّ نسقط كما سقطوا، فإنَّ "الذي يذم أخاه، ويدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس" (يع 4: 11). وما ذلك إلا لأن واضع الناموس والقاضي بالناموس هو واحد، ولما كان المفروض أن قاضي النفس الشريرة يكون أرفع من هذه النفس بكثير، ولما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاة بسبب خطايانا، وجب علينا أن نتنحَّى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟!
إذن يجب ألا يدين أحد أخاه، فإن حدَّثتك نفسك بمحاكمة الآخرين، فاعلمْ أن الناموس لم يُقِمك قاضيًا ومُحاكمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقِعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حُرمته.
فكل من طاب ذهنه لا يتصيَّد معاصي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه، هذا كان حال المرتل المغبوط وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: "إن كنت تُراقب الآثام يا رب يا سيِّد، فمن يقف" (مز 130: 3). وفي موضع آخر يكشف المرتل عن ضعف الإنسان، ويتلمَّس له الصفح والمغفرة، إذ ورد قوله: "اذكرْ أننا تراب نحن" (مز 103: 14)...
سبق أن بيَّن السيِّد الخطر الذي ينجم عن نهش الآخرين بألسنة حداد فقال: "لا تدينوا لكي لا تدانوا"، والآن أتى السيِّد على أمثلة كثيرة وبراهين دافعة تحضّنا على تجنُّب إدانة الآخرين، والحُكْم عليهم بما نشاء ونهوى، والأجدر بنا أن نفحص قلوبنا، ونُجَرِّدها من النزعات التي تضطرم بين ضلوعنا، سائلين الله أن يطهِّرنا من آثامنا وزلاَّتنا.
فإنَّ السيِّد ينبهنا إلى حقيقة مُرَّة مألوفة، فيخاطبنا بالقول: كيف يمكنك نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم، وفحص أسقامهم وأمراضهم، وأنت شرِّير أثيم ومريض سقيم؟! وكيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين الغير، وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟!
إنك لمتجاسر إذا قمتَ بذلك، فالأوْلى بك أن تنزع عنك مخازيك، وتطفئ جذوة عيوبك، فيمكنك الحكم بعد ذلك على الآخرين، وهم كما سترى مذنبون فيما هو دون جرائمك.
أتريد أن تنجلي بصوتك، فتقف على مبلغٍ ما في اغتياب الآخرين من مقت وشرٍ؟
كان السيِّد يجول يعمل خلال الحقول النضرة، فاقتطف تلاميذه المبارَكون سنابل القمح وفركوها بأيديهم، ثم أكلوا ثمارها طعامًا شهيًا لذيذًا، وما أن وقع نظر الفريسيِّين على التلاميذ حتى اقتربوا من السيِّد وخاطبوه بالقول: انظرْ كيف أن تلاميذك يعملون في السبت ما ليس بمحلَّل مشروع، نطق الفرِّيسيُّون بهذا القول وهم الذين عبثوا بحُرْمَة القدس، وتعدُّوا على وصاياه وأوامره على حد نبوَّة إشعياء عنهم: "كيف صارت القرية الآمنة زانية؟! ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون، صارت فضتك زغْلًا، وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمرِّدون ولُغفاء اللصوص، كل واحدٍ منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم، ودعوى الأرملة لا تصلْ إليهم" (إش 1: 21-23).
بالرغم من هذه المُنكرَات المُخزيات التي ارتكبها هؤلاء الناس، تمادوا في خِزيهم ومكرهم، ودسُّوا لتلاميذ السيِّد المباركين، واتَّهموهم بالتعدِّي على يوم السبت المقدَّس، إلا أن المسيح ردَّ خِزيهم، إذ أجابهم بالقول: "ويلٌ لكم أيها الكتبة والفرِّيسيُّون المراءون، لأنكم تعشِّرون النعنع والشبت والكمُّون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان، أيها القادة العميان الذين يُصفُّون عن البعوضة، ويبلعون الجمل" (مت 23: 23-24).
كان الفرِّيسي كما ترى مرائيًا غادرًا، يحاسب الناس على التعدِّيات الواهية، بينما يسمح لنفسه بارتكاب أشد المخازي نكرانًا، وأعظم الشرور فُجورًا، فلا غرابة أن دعاهم المخلِّص: "قبورًا مبيضَّة تَظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (مت 23: 27).
هذا هو شأن المرائي وهو يدين الآخرين، ويرميهم بأشنع المساوئ والعيوب، وهو عن نفسه أعمى، إذ لا ينظر شيئًا، لأن الخشبة في عينيه تحجب الضوء عنه.
إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصَّة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنَّا في وظيفة المُرشد والمعلِّم، لأنه إذا كان المُربِّي نقي الصفحة، طاهر الذيل، تزيِّنه نعمة الوقار والرزانة، وليس على معرفة بالفضائل السامية فحسب، بل يعمل بها ويسلك بموجبها، فإنَّ مثل هذا الإنسان يَصحُ له أن يكون نموذجًا صالحًا يُحتذَى به، وله عند ذلك حق الحُكْم على الآخرين، إذا حادوا عن جادة الحق والاستقامة.
أما إذا كان المُرشِد مهمِلًا ومرذولًا، فليس له أن يدين غيره، لأن به نفس النقص والضعف الذي يراه في الآخرين، كذلك ينصحنا الرسل الطوباويون بالقول: "لا تكونوا معلِّمين كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم" (يع 3: 1)، ويقول المسيح وهو يكلِّل هامات الأبرار بالتيجان المقدَّسة، ويعاقب الخطاة بشتَّى التأديبات: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يُدعَى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمِل وعلَّم، فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات" (مت 5: 19)[29].
القديس كيرلس الكبير
الإِنْسَانُ مِثْلُ الْعُشْبِ أَيَّامُهُ،
كَزَهْرِ الْحَقْلِ كَذَلِكَ يُزْهِرُ [15].
تشبيه حياة الإنسان على الأرض وقِصَر مدتها بالعشب الذي سرعان ما يظهر وسرعان ما يذبل أمر شائع في الكتاب المقدس (مز 37: 2؛ 90: 5؛ إش 40: 6-8؛ يع 1: 10-11؛ 1 بط 1: 24).
* لماذا يتكبر الشعب، إن كان الآن ينتعش، وفي وقت قصير يجف...؟ حسن لنا أن تحل رحمته علينا، ونتحول من عشب إلى ذهب...
لا تدهش أنك ستشاركه أبديته، فإنه هو نفسه شارك أولًا في كونك عشبًا. هل ذاك الذي أخذ منك ما هو سفلي، يرفض أن يهبك ما هو ممجد؟[30]
القديس أغسطينوس
لأَنَّ رِيحًا تَعْبُرُ عَلَيْهِ فَلاَ يَكُونُ
وَلاَ يَعْرِفُهُ مَوْضِعُهُ بَعْدُ [16].
يرى البعض أن تشبيه حياة الإنسان بالريح هنا، يقصد به الرياح المدمرة المعروفة في آسيا، بهبوبها سرعان ما تُدَمِّر مناطق كثيرة تمامًا، ولا تترك أثرًا للحياة عليها.
* "لأن ريحًا تعبر عليه فلا يكون، ولا يعرفه موضعه بعد" [16]. لا يتكلم عن العشب، وإنما يتكلم عن هؤلاء الذين من أجلهم حتى الكلمة صار عشبًا. أنت إنسان، ولحسابك صار الكلمة إنسانًا. "كل جسد عشب" "والكلمة صار جسدًا" (يو 1: 14). كم يكون الرجاء الذي للعشب عظيمًا مادام الكلمة صار جسدًا؟ هذا الذي يبقى إلى الأبد لم يستخف بأن يكون عشبًا، حتى لا ييأس العشب من ذاته[31].
القديس أغسطينوس
أَمَّا رَحْمَةُ الرَّبِّ فَإِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ عَلَى خَائِفِيه،ِ
وَعَدْلُهُ عَلَى بَنِي الْبَنِين [17].
إن كانت الحياة الزمنية زائلة، بل وسريعة الزوال، وبزوالها تبدو كأنها لم تكن، فإن مراحم الرب بالنسبة لخائفيه الذين يتمتعون بالدخول في عهد معه أبدية وخالدة. يتمتع خائف بها هنا، وتبقى آثارها على بنيه وبني بنيه، كما تُقَدِّم له شركة في الأمجاد الأبدية.
* إذ تتأمل في نفسك فَكِّرْ في وضعك السفلي، فكر في العشب، لا تتشامخ. إن كنت في حالٍ أفضل إنما تبلغ هذا بنعمته، تصير هكذا برحمته... يا من لا تخشاه ستصير عشبًا، وفي حال العشب الأليم، فإن الجسد سيقوم إلى العذاب. ليت الذين يخافونه يفرحون، لأن رحمته عليهم.
"وبرَّه (عدله) على بني البنين" [17]. إنه يتحدث عن المكافأة لبني البنين.
كم من خدام لله ليس لهم بنين، فكم بالأكثر يكون بنو البنين؟ إنه يدعو أعمالنا أبناءً لنا، فمكافأة الأعمال هي بنو البنين[32].
القديس أغسطينوس
* بدون شك تفوق الإلهيات البشريات، وتفوق الروحيات الجسديات، لذلك من يرغب في الحياة الحقيقية ينتظر ذاك الخبز الذي من خلال ممارسته غير الملموسة يقَّوي القلوب البشرية[33].
القديس أمبروسيوس
لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَذَاكِرِي وَصَايَاهُ لِيَعْمَلُوهَا [18].
الله بطبعه رحوم وعادل في نفس الوقت، وهو غير متغير. فإن تمتعنا برحمته يتوقف على قبولنا لمخافته، ورغبتنا في حفظ عهده والطاعة لوصاياه. إنه يُقَدِّم نعمته المجانية لبني البشر، لكنه لا يغصبهم على قبولها قسرًا. "فأعلم أن الرب إلهك هو الله الأمين، الحافظ العهد والإحسان للذين يحسبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيل" (تث 7: 9).
يبدو أن القديس أغسطينوس لم يكن يحفظ الكثير من نصوص الكتاب المقدس عن ظهر قلب بل كان يهتم بالتأمل فيها وممارستها عمليًا. لهذا يقول للمستمعين إليه: [إنك تعتز منتفخًا بأنك تتلو المزمور لي عن ظهر قلب، الأمر الذي لا أفعله أنا، أو من الذاكرة لتتلو كل الناموس. بلا شك أنك أفضل مني من جهة الذاكرة، بل وأفضل من أي إنسان تقي لا يعرف الناموس كلمة بكلمة، بينما أنت تحفظ الوصايا.]
* كيف تحفظ (وصاياه)؟ ليس خلال الذاكرة بل خلال الحياة. هكذا يكون حفظ وصاياه في الذاكرة، لا تلاوتها بل بممارستها[34].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. العرش الإلهي

ختام مجيد حيث يرفع قلوبنا إلى العرش الإلهي، لقد تعرَّف داود النبي منذ صباه أن الله "رب الجنود، إله صفوف إسرائيل" (1 صم 17: 45). وبهذا الإيمان الحي انتصر على معيِّر الله وشعبه.
اَلرَّبُّ فِي السَّمَاوَاتِ ثَبَّتَ كُرْسِيَّهُ،
وَمَمْلَكَتُهُ عَلَى الْكُلِّ تَسُودُ [19].
عرش الله عالٍ في السماء، ليس ما يعلو عليه، ولا ما يُقارَن به، ولا ما يصحبه، ولا ما يعنيه، ولا ما يعوقه عن العمل، ولا ما يخفيه (راجع أي 9: 4؛ إش 44: 28؛ 46: 10؛ أف 1: 5؛ في 2: 13)[35].
ينسب الله كرسيه للسماوات، لأنها أسمى من الأرض بارتباكاتها المستمرة واضطراباتها وعدم ثباتها. قيل عن الأرض: "المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها" (أي 4: 6).
السماوات مرتفعة لا تتسلل إليها خداعات الشياطين، ولا المكر البشري، ولن يلحقها دنس أو نجاسة، إنما هي طاهرة ونقية ومجيدة.
* من هو إلا المسيح الذي يعد عرشه في السماء؟ هذا الذي نزل وصعد، هذا الذي مات وقام من الأموات. هذا الذي رَفَعَ إلى السماء الناسوت الذي أخذه لنفسه، مُعدًا العرش في السماء.
القديس أغسطينوس
* السماء هي أعلى وأجمل من المخلوقات المنظورة، لذلك يخصها الناس كمكانٍ له، كما يخصصون أشرف الأماكن للملك الأرضي. وأيضًا لوجود مراتب الملائكة فيها. ويقال إنه راكب وجالس ومستقر عليهم، وذلك لرضاه عنهم من أجل طهارتهم وقداستهم. وأيضًا لأن نفوس الصديقين تصعد إلى هناك، وإلى هناك صعد بجسده بعد قيامته من الأموات، ومن هناك سيأتي بعد انقضاء الدهر ليدين العالم... ولئلا يُظَن بأنه محصور، وأن سيادته في السماء فقط، ألحق النبي بقوله: "ومملكته على الكل تسود". أما سيادته على الناس فنوعان: قهرًا أو طوعًا. يسود قهرًا على غير المستحقين لملكوته، لأنه مبدع الكافة وسيدها؛ وأما طوعًا، فيسود على الصديقين الذين أعد لهم ملكوت السماوات. لأجل هذا سبيلنا نحن المؤمنين أن نجعل سيرتنا في السماوات التي منها ننتظر الرب يسوع مخلصنا (في 3: 20)، كما كتب الرسول بولس: "إن كنتم قد قُمْتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (كو 3: 1). طوبى للذين يخضعون لسيادة الرب طوعًا.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
بَارِكُوا الرَّبَّ يَا مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً،
الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ [20].
قيل هنا عن الملائكة أربعة أمور[36]:
أ. أنهم منسوبون لله: "ملائكته".
ب. مقتدرون، ليس في الخليقة من يساويهم في سلطانهم وقدرتهم.
ج. يخدمون الله: يُقَدِّم لنا الكتاب المقدس بعهديه الملائكة كمُرسَلين لله وخدام له، يحملون روح الطاعة له، وروح الحب لنا، فإن كانت الملائكة الساقطة وعلى رأسهم إبليس لا يكفون عن مقاومة الحق فينا لكي يسحبوننا إلى البنوة لإبليس والاستعباد له، فبلا شك لا تقف الملائكة في سلبية، بل تصلي وتعمل في شوقٍ حقيقيٍ لكي نتمتع بالبنوة لله، ونتحرر من أسر إبليس وملائكته.
د. مُقَدَّسون، يتممون مشيئة الله، وموضع سروره. يُعَبِّر المرتل عن عمل الملائكة الدائم في طاعة لله وبقوة، قائلًا: "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره، عند سماع صوت كلامه" (مز 20:103).
لم يُقَدِّم المرتل هذه الأغنية بلحن منفرد، لكنه وسط فرقة متناغمة تضم ملائكة الله المقتدرين، وجميع جنوده خدامه العاملين، كما تضم جميع أعماله في كل موضعٍ. كان المرتل يجد سعادته في أن ترافقه كل الخليقة السماوية والأرضية في التسبيح، أو هو يرافقها في هذا العمل المفرح.
هذا ويُعْتَبَر هذا القسم ذات أهمية خاصة عن التطلع إلى العمل، فإن كان الله يعمل لأجل مسرة خليقته، فالقوات السمائية أيضًا تعمل، والإنسان المقدَّس في الرب يجد في العمل مسرة خاصة، ويطلب أن يعمل في شركة مع إخوته كما مع الخليقة، بل ويقول الرسول "العاملان مع الله" (1 كو 3: 9) [37].
* يلزم أن تميز بين كونك تعمل، وبين أن تتعب، فهذا شيء وذاك آخر، لكن هل يوجد عمل بدون تعب؟ هل هذا ممكن؟ نعم، هكذا كانت إرادة الله، لكنك رفضتَ هذه الإرادة. فقد أعدَّك في الجنة لكي تعمل، وحدد لك ما تعمله، وإن كان لم يمزجه بالتعب. لأنه لو كان التعب منذ البداية، لما صار عقابًا بعد ذلك (تك)، إذن كان من الممكن أن يعمل الإنسان بدون تعب مثل الملائكة. فالملائكة تعمل أيضًا، اسمع ماذا يقول؟ "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه" (مز 103: 20)، إن غياب الصحة (الذهنية) هو الذي يسبب التعب الكثير، لكن في البداية لم يكن الأمر هكذا... الله أيضًا ما يزال يعمل كما يؤكد المسيح: "أبي يعمل، وأنا أعمل" (يو 5: 17)[38].
* يمكنك أن تعمل ولا تقلق، كما يعمل الملائكة[39].
* ما هي أكبر العظائم التي نراها (في الملائكة)؟ أليس طاعتها لأوامر الله؟ تلك هي الشهادة التي يقدمها داود من جهة هذه القوات بتعجبٍ: "باركوا الرب يا جميع جنوده، يا خدامه العاملين مرضاته" (مز 103: 20). ما من خير يعادل هذا الخير في تلك الأرواح الطاهرة[40].
* إني أطوَّب القوات غير المرئية، لأنهم يحبون الله، ويخضعون له في كل شيء[41].
* ليتنا لا نقدم التشكرات فقط من أجل البركات التي تحل بنا، وإنما من أجل البركات التي تحل بالآخرين... هذا هو الأمر (الشكر) الذي يحرر الإنسان من الأرض، ويرفعنا إلى السماء، ويجعلنا ملائكة بدلًا من أن نكون بشرًا، فإن الملائكة يُشَكِّلُون طغمة تُقَدِّم التشكرات لله من أجل الصالحات الموهوبة لنا، قائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة (لو 14:2)[42].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* ليس من أمرٍ يعوقنا عن بلوغ كمال القوات العلوية، بسبب سكنانا على الأرض. وإنما يمكننا ونحن نقطن هنا أن نفعل كل شيء، كما لو كنا في العلا. فما يقوله هنا هو هذا: "كما أن كل شيءٍ يتم بلا عائق، والملائكة لا يطيعون (الله) جزئيًا ويعصونه جزئيًا، وإنما في كل شيءٍ يخضعون ويطيعون، إذ يقول "مقتدرين قوة، فاعلين كلمته"، هكذا فلتهبنا نحن البشر (أيضًا) ألا نعمل إرادتك بطريقة جزئية، بل نفعل كل شيءٍ حسبما تريد[43].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الروح القدس الذي يأمر أولًا نفس الصديق أن تبارك الرب، الآن يدعو الملائكة لهذا العمل. يأمرهم أن يباركوا الرب. فكيف إذن يجسر قوم ويقولون أن الروح القدس مساوٍ للملائكة في القدر، وها هو يأمرهم كما يأمر نفس الإنسان. ليعلموا من هذا أن الروح القدس هو رب، خالق مساوٍ للآب والابن في جوهر اللاهوت والقوة والسلطان، وليس في منزلة الملائكة المخلوقين...
حيث أن الملائكة يفرحون لأجل توبة الخطاة، لذلك يحثهم الروح القدس أن يباركوا الرب ويقدموا الشكر له، لأجل توبة الأمم، وخلاصهم بإيمانهم بالمسيح.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* "لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض"، ملائكة الله المقدسون المباركون يصنعون مشيئة الله، كما قال داود: "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوة، الفاعلين أمره" (مز 103: 20)، وعلى هذا نعني بالصلاة: "كما في الملائكة تكون مشيئتك، هكذا لتكن على الأرض فيَّ يا رب"[44].
القديس كيرلس الأورشليمي

* إذ كانوا "مقتدرين قوة" (مز 20:103) في تنفيذ مشيئة الله، وفي السعي لإهلاك العُصاة، ففي هذا برهان على أنهم يقفون قدام الله، ويخدمونه كأنهم يده اليُمنى (لو 19:1)، وذلك بسبب إرادتهم الصالحة[45].
العلامة أوريجينوس
* عندما تستعمل كلمة "قوة" في صيغة المفرد تعني قوة الله، بينما حين تُستعمَل في صيغة الجمع تعني قوة الملائكة، فمثلًا "المسيح" قوة وحكمة الله (1 كو 1: 24)، يوضح هنا استخدام كلمة قوة بصيغة المفرد على ألوهية السيد المسيح. وعلى الجانب الآخر نجد في (مز 103: 21) "باركوا الله في جميع قواته"، هنا توضح صيغة الجمع الطبيعة الروحية للملائكة. إن تعبير "المقدرة" الذي يُستخدَم مع كلمة قوة يُرَكِّز أكثر على المعنى، ويعمل الوحي الإلهي في بعض الأحيان على جعل المعنى أكثر تأكيدًا باستخدام كلمات لها نفس المعنى. كمثال التعبير الآتي: "الرب صخرتي وحصني ومنقذي، إلهي صخرتي به أحتمي، تُرس وقرن خلاصي وملجأي، أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي" (مز 18: 2-3). فكل كلمة تُعَبِّر عن نفس المعنى، ولكن استعمال الكلمتيْن معًا يُعطي تأكيدًا للعبارة، لذلك فاستخدام صيغة الجمع لكلمة قُوة، وكلمة مقدرة بنفس المعنى تشير إلى طبيعة الملائكة[46].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص

بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ جُنُودِهِ،
خُدَّامَهُ الْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ [21].
تستخدم هذه العبارة والسابقة لها للكشف عن كرامة العمل، فهو لا يُمارَس كعقوبةٍ أو تأديبٍ، إنما التأديب هو ارتباط العمل بالتعب: "بعرق وجهك تأكل خبزًا" (تك 3: 19).
فالله الآب يعمل وأيضًا الابن والروح القدس. يقول السيد المسيح: "أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (يو 5: 17). والطغمات السمائية كما نرى هنا تعمل. ووهب للإنسان الأول قبل السقوط أن يعمل، لكن في العمل يتشبه بالله الدائم الحب.
ربما يشير هنا إلى أعمال الله مثل الشمس والقمر والكواكب وبقية الخليقة التي تنضم إلى مصاف السمائيين لتسبيح الله وتباركه بلغتهم الخاصة بهم. كل الخليقة تُسَبِّح الله وتباركه، لكن باللغة التي تناسبها، أحيانًا بلغة الهدوء والسكون.
* هذه القوات المنتظمة في المعركة هي القوى الدائمة إلى الأبد، والتي تمسك بزمام الأمور، وتسيطر على كل شيء، فالعروس ثابتة والسلطات تبقى خالية من العبودية وتُمَجِّد هذه القوى لله دون انقطاع، ولا يبقى السيرافيم الطائرون ثابتون ولا تتغير أماكنهم، ولا يتوقف الشاروبيم عن حمل عرش الله العالي، ويبارك جميع جنوده خدامه العاملين مرضاته (مز 21:103)[47].
القديس غريغوريوس النيسي

بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ أَعْمَالِهِ،
فِي كُلِّ مَوَاضِعِ سُلْطَانِهِ،
بَارِكِي يَا نَفْسِيَ الرَّبَّ [22].
يليق بنفسي أن تتعلم من كل من وما حولها، فتمارس ما يمارسه السمائيون وأيضًا بقية الخليقة الأرضية من تسبيح وشكر لله. هذا هو عملي الأول والرئيسي!
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن الروح القدس لا يدعو الملائكة وحدهم ليباركوا الرب من أجل انفتاح باب الخلاص للأمم خلال الإيمان بالسيد المسيح، وإنما يطلب أيضًا من كل أعمال الرب بما فيها نفوس الصديقين أن تشارك الملائكة هذا العمل.
* لا يقل أحد: لا أستطيع أن أُسَبِّحَ الرب في الشرق، لأنه رحل إلى الغرب. أو لا أستطيع أن أُسَبِّحَه في الغرب، لأنه هو في الشرق... الله في كل موضع، فيمكن أن نفرح به في كل موضع، حيث نحيا حسنًا في كل جانب... العبارة الأخيرة مثلها مثل الأولى، فالتسبيح (التطويب) هو رأس المزمور وهو نهايته. نبدأ ننطلق بالتسبيح، ونرجع أيضًا إلى التسبيح، ليتنا نملك بواسطة التسبيح[48].
القديس أغسطينوس
* ينصت المشاهدون في المسارح لرسائل الإمبراطور في صمتٍ وهدوءٍ - لأنه حينما تُتلَى هذه الرسائل هناك، والولاةحاضرين مع المحافظين، ورجال مجلس الشيوخ، والشعب وقوفًا في صمتٍ مطْبقٍ أمام الكلمات، فإن قفز أحد فجأة وسط هذا السكون الشديد، وصرخ، فإنه يَلقى أشد العقاب؛ إذ أهان الإمبراطور. لكن هنا، فإن الرسائل قادمة من السماء، وبينما تُتلَى تسود فوضى في كل مكان، مع أن مُرسِل هذه الرسائل أعظم بما لا يقاس من ملكنا الأرضي، والحشد المجتمع أكثر وقارًا، فالحاضرون ليسوا من الناس فقط، بل من الملائكة أيضًا، والرسائل تنقِل إلينا أخبار الانتصارات، والأخبار السارة التي تثير فينا رهبة أكثر من أمور الأرض، لهذا لا يحتشد الناس فقط، بل الملائكة ورؤساء الملائكة وكل شعوب السماء وكل سكان الأرض يُؤمَرون بالتسبيح، كالمكتوب: "باركُوا الربَّ يا جميع أعماله" (مز 103: 22).
أجل، فإن أعمال الرب ليست بالإنجازات الهينة، بل تفوق كل حديثٍ، وكل فكرٍ، وكل فهمٍ للإنسان[49].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مزمور 103

لأشترك في خورس مُسَبِّحيك!

* هبْ لي يا مخلصي أن اشترك في خورس مُسَبِّحيك!
نفسي تتهلل باسمك القدوس.
أنت هو القدوس، تقدس أعماقي بروحك القدوس.
تغفر لي ذنوبي،
وتشفي أمراض نفسي وجسدي!
تُخَلِّصني من فخاخ العدو المخفية.
وتنقذني من الحفرة التي أعدها لهلاكي.
تشبعني بك يا أيها الخبز النازل من السماء.
تجدد مثل النسر شبابي.
ماذا أطلب بعد سوى الالتصاق بك أبديًا!
* إن صار الظلم هو قانون العالم،
فأنت وحدك تُعِين المظلومين.
يكتشف لي عن مراحمك،
فلا أخشى المظالم!
تعلن لي عن طول أناتك، فتستريح أعماقي.
تغفر لي ذنوبي، فترفعني من الأرض إلى السماء.
تحملني من المغارب،
وتدخل بي إلى المشارق.
لا يعود لإبليس ولا لقواته ولا لخداعاته سلطان عليّ مادمت في أحضانك!
* خلقتني من التراب، لكنك قبلتني ابنًا لك.
حياتي كالعشب، لكن السماء تنتظرني.
العالم دائم التغيُّر، لكن وعودك ثابتة إلى الأبد.
* اسمح لي أن انضم إلى خورس المُسَبِّحين.
أنعم بالشركة مع الطغمات السماوية.
أتمثل بهم، وأتمتع بحبهم ومسنادتهم لضعفي.
لأباركك معهم إلى أبد الأبد. آمين.
  رد مع اقتباس
قديم 06 - 03 - 2014, 02:34 PM   رقم المشاركة : ( 105 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 104 - تفسير سفر المزامير
المجد للخالق المُبدع



جاء هذا المزمور في بعض النسخ كتكملة للمزمور السابق. وقد نُسِبَ لداود في الترجمات السبعينية والسريانية والفولجاتا والعربية والأثيوبية.
يُعْتَبَر أنشودة خاصة بـ"يهوه"، أي كلمة الله، الخالق، والمدبر للخليقة، والمخلص. لا يتحدث عن طبيعة الله غير المدركة، إنما يمجده، حسبما يعلن الله عن نفسه لأجل بنيان خليقته المحبوبة جدًا لديه، خاصة الإنسان.
كان الشعب اليهودي ينشد هذا المزمور في صباح يوم الكفارة أو اليوم الكبير yom kipper. وهو اليوم الفريد في العام كله حيث كان يُسْمَحُ لرئيس الكهنة أن يخترق الحجاب ويدخل قدس الأقداس مرة واحدة في السنة، كرمزٍ لدخول البشرية المؤمنة السماوات.
هو يوم كفارة وغفران عام للكل لكي يبدأوا حياة جديدة، كما لو كانوا بلا خطية، لذا يتغنون بمزمور الخالق العجيب في حبه واهب الحياة الجديدة.
يرى بعض الدارسين أنه يوجد تشابه أخاذ بين هذا المزمور وتسبحة أخناتون الموجهة للشمس (القرن 14 ق.م.)، خاصة في تصوير خلائق الليل والنهار [20-23]، والعناية بالبهائم والطيور [10 الخ.] والبحار بسفنها [25 الخ]، والحياة والموت واعتماد كل المخلوقات على خالقها [27-30]. غير أنه في غير هذا تنفصل القصيدتان، كل منهما في اتجاه. فمثلًا على نقيض تسبحة أخناتون المتطرفة نحو الشمس: "حينما تشرقين يحيون، وعندما تغربين يموتون"، يتحدث المزمور عن الحقيقة السامية لتدبير الله لكل الحياة[1].
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
بين المزمور 104 وسفر التكوين

يتحدث هذا المزمور عن قصة الخلق البديعة، وهو نسخة شاعرية تُسَجِّل ما ورد في سفر التكوين الأصحاحيْن الأول والثاني، دون تكرارٍ لما ورد في التكوين.
اليوم الأول: النور
[1-2].
اليوم الثاني: الجَلَد
[2-4].
اليوم الثالث: تمييز الأرض عن المياه
[5-9].
اليوم الرابع: النوران كحافظي الزمن
[19-20].
اليوم الخامس: الحيوانات البحرية
[25-26].
اليوم السادس: الحيوانات والبشر
[27-28].
تدبير التغذية للجميع
[29-30].
لم ينسخ المرتل ما ورد في سفر التكوين. بينما يُسَجِّل لنا سفر التكوين ماذا خلق الله، إذا بالمرتل يُرَكِّز على الكيفية، ولماذا؟ كما أعلن عن العلاقة الحميمة بين الخالق والعالم، وهو يركز على الخالق أكثر من الخليقة، كما يُظهِر الله العطوف أكثر منه القدير.
المزمور السابق يُقَدِّم الله سيد التاريخ، هنا يُقَدِّم الله سيد الطبيعة وراعيها.

1. الخالق الإلهي
1-9.
2. العناية الإلهية
10-23.
3. امتلاء الأرض بغناه
24-30.
4. تسبيح المرتل للخالق
31-35.
من وحي المزمور 104
* يجب أن تعلم أيها المؤمن أن هذا المزمور لما يتضمنه من الأسرار والتضرعات، نتلوه نحن الشرقيين في كل مساءٍ. لأنه يخبر عن ما مُنِحَ لنا بتجسد ربنا الذي صار في ملء الزمان، وبانقضاء عمر كل منا.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. الخالق الإلهي

يبدأ المزمور بالدعوة لتسبيح عظمة الرب ومجده في عرشه السماوي. يشير القسم الافتتاحي بشكلٍ واضحٍ إلى العمل الذي تم في اليومين الأول والثاني كما عرضه الأصحاح الاستهلالي في الكتاب القدس (تك 1).
في اليوم الأول جاء في التكوين أن الله قال: ليكن نور، فكان نور. أما هنا فيرى المرتل وراء النور المنظور نور الله غير المنظور. "اللابس النور كثوٍب" [2].
في اليوم الثاني "قال الله: ليكن جلد في وسط المياه" (تك 1: 6)، أما هنا فيرى المرنم الله ينشر السماوات كشقةٍ (قماش الخيمة)، ويسقف علاليه (جمع علية، أي حجرة علوية) بالمياه، ويجعل من السحاب مركبته. يا له من تعبير شاعري جميل!
في اليوم الثالث تجتمع المياه تحت السماء كمحيطات وتظهر اليابسة (القارات). أما هنا فيُصَوِّر الخالق برعدٍ، فتهرب المياه من صوت رعده، وتنزل إلى البقاع التي عينها لها، فقد أقام للمياه حدًا لا تتجاوزه (أي 38: 9-11). إن كان يفعل هذا مع المياه التي هي خليقته الصالحة، فبالأولى يكبح الشر، فيلتزم حدوده (إر 5: 22).
بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ.
يَا رَبُّ إِلَهِي قَدْ عَظُمْتَ جِدًّا.
مَجْدًا وَجَلاَلًا لَبِسْتَ [1].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الاعتراف وعظم الجلال تسربلت".
ماذا يعني: "قد عظمت جدًا"؟ هل يزداد الله في العظمة، وهو المطلق في عظمته لا يزيد ولا ينقص؟
العظمة التي لله هنا لا تعني جوهره الذي لا يَقْدِرُ أحد أن يعاينه في ذاته، إنما ما يعلنه من مجد وجلال لخليقته لأجل مسرتهم وبنيانهم. لذلك يكمل: "مجد وجلالًا لبست". يقول السيد المسيح: "الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر" (يو 1: 18).
* "باركي يا نفسي الرب".ليت نفسنا جميعًاتصير واحدًا في المسيح، وتقول هذا؟ "يا رب إلهي قد عظمت جدًا" أين عظمت؟ "الاعتراف والجمال لبست" اعترفوا لكي ما تصيروا جميلين، فيلبسكم. "اللابس النور كالثوب". إنه يلبس كنيسته، وإذ صارت نورًا فيه، هذه التي كانت ظلمة في ذاتها كما يقول الرسول: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب" (أف 5: 8)[2].
القديس أغسطينوس
* كلمة "الاعتراف" Confissio يُمكن أن تُفهَم بطريقيْن. يمكن أن تُستخدَم في تسبيح الله، كمثال: "بالجلال تسربلت"، وكما يقول المخلص نفسه في الإنجيل: "اعترف لك أيها الآب" (راجع مت 11: 25)، أي "أحمدُ". وأيضًا يمكن تشير إلى الاعتراف بخطايانا للرب، فإننا نُقَدِّم التسبيح والمجد لله عندما نعترف بخطايانا أمامه[3].
القديس جيروم
* هذا المزمور هو عبادة مُقَدَّمة من الخليقة المُسَبِّحة لخالقها وتباركه (تطلب بركته) بالنبي. وهو مزمور مشابه للمزمور الثامن عشر (19)، القائل: "السموات تمجد الله والجَلَدْ يخبر بعمل يديه"[4].
القديس جيروم
* يبارك الله الإنسان عندما يؤيده، ويعطيه الأمان من أعدائه، ويشرفه ويعظم تعقله كما بارك إبراهيم. وأيضًا يبارك الإنسان الله عندما يشكره على كل أمرٍ. وذلك كما كتب الرسول: "وكل ما عملتم بقولٍ أو فعلٍ، فاعملوا الكل باسم الرب يسوع، شاكرين الله والآب به" (كو 3: 17). وفي الحالتيْن يكون الربح للإنسان، أعني إن بارك الله الإنسان، أو بارك الإنسان خالقه، لأن الله لا يحتاج إلى خيراتنا. وذلك مثل الذي يلعن الله، والله يلعنه، فإن المضرة تقع على ذلك الإنسان ولا يُمَس الله بأذى...
قوله: "عظمت جدًا"، لا يعني أن الله قد زادت فيه العظمة بدل أن كان صغيرًا. حاشا لله، الدائم العظمة والجلال، والفائق على كل عظمةٍ. إنما يعني أن الإنسان إذ صنع أعمالًا نجيبة وحميدة يتعظم الله به، أي تتضح عظمته في أتقيائه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* كما أن الملك إذا وجد فتاة لابسة أسمالا بالية لا يستنكف منها، بل يجردها من ثيابها الدنسة (إش 64: 6؛ زك 3: 4؛ مر 1:1)، ويغسل سوادها (نا 2: 10)، ويُلبِسها حُلَّة بهيجة (لو 7: 25)، ويُصَيِّرها أليفته وجليسته في مائدته وحظه، كذلك الرب وجد النفس مجروحة مضروبة، فداواها وجرَّدها من ثيابها المظلمة، ومن دنس الخطية، وألبسها الحُلَّة الملوكية السماوية الإلهية (مز 104: 1) اللامعة المجيدة، ووضع عليها التاج، وصيَّرها جليسته في المائدة الملوكية فرحًا لها وكفاية.
القديس مقاريوس الكبير
اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ،
الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ [2].
غالبًا ما يصاحب إعلان الله عن نفسه النور والنار (تك 15: 17؛ خر 3: 2؛ 19: 18؛ مت 17: 2). فهو نار آكلة (تث 4: 24؛ إش 30: 33؛ إر 21: 12، 14)، ونور لشعبه (مز 27: 1؛ إش 10: 17). يدعوه يعقوب الرسول أبي الأنوار (يع 1: 17).
يرى القديس أغسطينوس أن ثوب السيد المسيح هو الكنيسة، لهذا عندما تجلَّى السيد المسيح أضاءت ثيابه بالنور، لأن شمس البرّ حال في كنيسته.
يتمجد الله في كنيسته، ويتعاظم جدًا حين تصير روحًا واحدًا، وبنفسٍ واحدةٍ تعترف فتلبس الجمال الإلهي.
أما قوله الباسط السماوات كشقةٍ (الغطاء الجلدي للخيمة)، فيرى القديس أغسطينوس أن التفسير الحرفي لها هو كما أن الإنسان يبسط شقة الخيمة بسهولة، هكذا يبسط الرب السماوات. والتفسير الرمزي هو أن الأسفار الإلهية التي تُقَدِّم لنا الحياة السماوية تنتشر في كل أنحاء الأرض، التي تحوي البشر القابلين للموت مثل جلد الحيوانات الميتة والمستخدمة كشقةٍ لخيمة. فكلمة الله تهب الحياة السماوية للقابلين الموت.
* لاحظوا الترتيب، فالشخص يعترف أولًا فيتقبل الجمال والنعمة، وبعد ذلك يتقبل النور. فالكلمات التالية في المزمور هي: "اللابس النور كالثوب" (مز 104: 2)[5].
* أنت هو إله الكل، إلهي أنا على وجه الخصوص، لأنني لستُ عبدًا للخطية. إني أستحق أن أُدعَي عبدك. "عظيمٌ أنت بالحق. عندما أتطلع إلى السماء والأرض والطيور والحيوانات ذوي الأربع أرجل، والحيات وكل خليقتك أتعجب من الخالق وأمجده[6].
القديس جيروم
* نزوله مزدوج، واحد يأتي فيه مختفيًا، "مثل المطر على الجزاز" (مز 72: 6)، والآخر مجيء واحد مُنتظَر.
في مجيئه الأول كان ملفوفًا بقماطات في المذود، وفي ظهوره الثاني يظهر "اللابس النور كثوبٍ" (مز 104: 2).
في مجيئه الأول "احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2)، وفي الثاني تحوطه جيوش الملائكة مُمَجَّدًا[7].
فنحن لا نستند على مجيئه الأول فحسب، وإنما ننتظر مجيئه الثاني أيضًا.
وكما قلنا في مجيئه الأول: "مبارك الآتي باسم الرب" (مت 21: 9؛ 23: 39)، سنردد أيضًا هذا في مجيئه الثاني، فإذ نتقابل مع سيدنا وملائكته، نتعبد له قائلين: "مبارك الآتي باسم الرب".
سيأتي لا ليُحكَم عليه، بل ليدين من حاكموه.
ذاك الذي صمت أثناء محاكمته، يقول للأشرار الذي فعلوا معه هذه الجسارة: "هذه الأشياء صنعتم وسكت" (مز 50: 21).
إذن، قد جاء بتدبير إلهي معلمًا الناس بالإقناع، أما هذه المرة بالضرورة يقبلونه ملكًا حتى الذين لا يريدون![8]
القديس كيرلس الأورشليمي

* يليق بنا أن نضيف أن الثوب الذي نرتديه هو ربنا يسوع المسيح، الذي ينسدل حتى أقدامنا، والألوان المتعددة التي لهذا الثوب هي ألوان زهور الحكمة والأسفار المقدسة والأناجيل المتنوعة التي لا تبهت ولا تضيع ألوانها مع الزمن... كما قيل: "اللابس النور كثوبٍ" (مز 104: 2). لذا يليق بنا عند تفصيل ملابسنا أن نبتعد عن كل ما هو غريب. وعندما نستخدم تلك الملابس نراعي الاقتصاد، وننأى عن الإسراف[9].
القدِّيس إكليمنضس السكندري
* يوجد انفصال بين الذين يسكنون السماء أو الذين يلبسون الإنسان السماوي وبين الشر، لأن الله في بسطه للسماوات فصل الأشياء الفاسدة عن الأشياء الصالحة، حتى لا يتدنس الإنسان البار الذي يُعتَبَر هو نفسه سماء. فلذلك قيل: "وبفهمه بسط السماوات".
كيف إذًا تم بسط السماوات؟ الحكمة هي التي تبسطها. تشير هنا الآية إلى كيفية بسط السماوات بواسطة الحكمة: "لقد بسطت كلامي، وأنتم لم تنتبهوا إليه". فالأمر هنا يتعلق ببسط كلام[10]. بهذه الطريقة تم بسط السماوات. وقد قيل أيضًا في المزمور: "الباسط السماوات كشقةٍ (كخيمةٍ)" (مز 104 :2). كذلك نحن أيضًا، فإن نفوسنا التي كانت قبلًا منكمشة، سوف تُبسَط حتى تستطيع أن تستقبل حكمة الله.
نرجع الآن إلى موضوعنا. فقد قلنا كيف أن السماوات خُلِقَتْ بالفهم. وأن الذين لبسوا الإنسان السماوي هم أيضًا سماوات. في الواقع بما أنه قيل للخاطئ: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، أفلا يمكننا بالأولى أن نقول للبار: "أنت سماء، وإلى السماء تعود"؟
كما يقال أيضًا للإنسان الترابي الذي يحمل صورة الإنسان الترابي: "أنت تراب وإلى التراب تعود"، أفلا يقال لك إذا كنت تحمل صورة الإنسان السماوي: "أنت سماء وإلى السماء تعود؟"
كل إنسانٍ منا له أعمال سماوية وأخرى أرضية. الأعمال الأرضية هي التي تؤدي إلى الأرض، لأنها تحمل الطبيعة الأرضية، مثل ذاك الذي يكنز في الأرض بدلًا من أن يكنز في السماء. وعلى العكس، فإن أعمال الفضيلة تؤدي إلى المواضع التي تحمل نفس طبيعتها أي إلى السماوات، فالإنسان الذي يكنز في السماء هو الذي يحمل صورة السماوي[11].
العلامة أوريجينوس
* النور هنا هو العِلْمُ الواضح البيان، أي معرفة الأشياء جهارًا وبيانًا مثل إيضاح النور. هذه المعرفة يلبسها مثل الثوب، أعني من كل ناحية يبصر، ولا يختفي عليه شيء.
قال آخر: إن ثوب النور هو الجسد الطاهر الذي لبسه ابن الله، فجاع وعطش. ومرارًا كان يذوي الثوب ويظهر لاهوته يسيرًا، وذلك عندما كان يصنع العجائب.
قال آخر: إن هذه الكلمة تدل على النور الذي خلقه الله في أول أيام الخليقة الذي كان ينشره ويعمل النهار قبل إبداع الكواكب، ويضمه فيصير ليلًا. لذلك ألحق النبي لقوله ما قد خلقه الله في اليوم الثاني، وقال: "الباسط السماء مثل الخيمة". وهي السماء الثانية التي جعلها فاصلًا للمياه، أي بين الماء الذي أخذه فوق، وبين الماء الذي أبقاه أسفل. وقد شبهها بخيمةٍ، ليخبر ببهاء عمل الله، أنه مدَّ السماء الجسيمة كما يمد الإنسان خيمة. وأيضًا أننا نحن في هذا العالم كأننا في ظل خيمة.
الأب أنثيموس الأورشليمي
الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ.
الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ.
الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ [3].
عندما يبني الإنسان حجرة أعلى بيته (عليه) يغطيها بسقفٍ من مادة صلده لتحميه من حرارة الشمس ومن الأمطار. أما الله فيغطي عليته - إن صح التعبير - بالسحاب المملوء مياهًا.
إنه يستخدم السحاب كالخيل يُحَرِّك مركبته كيفما شاء، ويقودها حسب مسرته. كأن كل شيء حتى السحاب والرياح يطيعانه.
كثيرًا ما يُقَدِّم لنا المرتل السحاب كرمز للسماء، لهذا يرى في السحاب مركبة إلهية. عند صعود السيد المسيح لم يكن محتاجًا إلى مركبة، لأنه هو خالق السماء، ويحسبها مركبته.
يقدم لنا القديس أغسطينوس تفسيرًا رمزيًا للعبارة: "المسقف علاليه بالمياه"، فيقول إن الحديث هنا عن السماوات التي هي الأسفار الإلهية، أما علاليه فهي وصية الحب، [وصية الحب التي لا يوجد ما هو أعظم منها (مر 12: 31). ولماذا يُقارَن الحب بالمياه؟ "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطَى لنا" (رو 5: 5). من أين الروح القدس هو مياه؟ لأنه "وقف يسوع ونادى، قائلًا إن عطش أحد فليُقْبِلْ إليّ ويشرب، من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو 7: 37-38)... "الماشي على أجنحة الريح"، أي فوق فضائل النفوس؟ الحُب ذاته. ولكنه كيف يمشي فوقه؟ لأن محبة الله نحونا أعظم من محبتنا نحن له[12].]
* لماذا "أخذته سحابة" (أع 2: 9)؟ هذه أيضًا كانت علامة أكيدة أنه صعد إلى السماء. إذ لم تأخذه نار، ولا مركبة نارية كما في حالة إيليا، وإنما "أخذته سحابة"، رمز للسماء. وكما يقول النبي: "الجاعل السحاب مركبته" (مز 104: 3). كما يُقال عن الآب نفسه. لذلك يقول نبي آخر: "الرب جالس على سحابة خفية" (إش 19: 1 LXX) [13].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بهذا القول يخبر النبي أن عناية الله تُدَبِّر المياه والسحاب والرياح، ويمنح منافع من هذه كلِّها للعالم. وأيضًا أن طبيعة الله سريعة الحضور كأنها على أجنحة الرياح. أما علاليه فهي الأسرار الكنسية التي يشيدها ويسقفها بمياه المعمودية.
جعل مركبته السحاب أيضًا عندما ظهر لبني إسرائيل... وأيضًا عندما صعد ربنا من على جبل الزيتون إلى السماء، رفعته سحابة من تحت قدميه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لا بد أن يكون هناك ملائكة مسئولين عن الأعمال المقدسة، يرشدون إلى فهم النور الأزلي، إلى معرفة سرائر الله وعِلْم ألوهيته. الملائكة أيضًا مُبَشِّرون.
الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا،
وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً [4].
يليق بنا أن نعمل تحت قيادة الله، الذي يقيم منا أشبه بملائكة، نتسم بسرعة الحركة كالرياح، لأننا نعمل بنعمته الفائقة. ونحمل روح القوة، فنصير بالحق خدامه الملتهبين نارًا مقدسة.
لم يذكر الكتاب المقدس أن للسمائيين أي نوعٍ من الأجساد، بل قيل عنهم بوجه عام: "الصانع ملائكته أرواحًا، وخدامه لهيب نار" (عب 7:1؛ مز4:104). الملائكة أرواح (حب 7:1، 14؛ رؤ 14:16). يميل رأي آباء الكنيسة إلى القول بأن الملائكة أجسام روحانية، فهم إن قورنوا بالبشر يُحسَبون أرواحًا، لأنهم بلا جسد مادي ملموس مثل البشر، ولا يحتاجون أن يأكلوا أو يشربوا أو يستريحوا أو يتزوجوا الخ. وإن قورنوا بالله "الروح" فيُحسبون أجسادًا روحانية. قرَّر مجمع نيقية Nicea عام 784 م. أن للملائكة أجساد أثيرية أو نورانية، غير أن مجمع اللاتيران عام 1215 م. قرر أن الملائكة بلا أجساد نهائيًا، ومع هذا فإن بعض اللاهوتيين الكاثوليك والأرمن واللوثريين والمصلحين ينسبون للملائكة أجسامًا نقية[14].
يرى القديس غريغوريوس الثيؤلوغوس أن الملائكة أرواح بلا أجسام.
يرد القديس كيرلس الكبير على ديؤدور وثيؤدور، قائلًا: [الملائكة هم أرواح ومن السماء، وليسوا أجسامًا. بما أنهم ليسوا مُجَسَّمين، فقد ظهروا ويظهرون للكاملين بأشباه مختلفة جسمية متخيلة. ظهروا لإليشع شبه مركبة وخيل، ولبلعام كرجلٍ مستلٍ سيفه، ولجدعون كرجلٍ ممسكٍ بعصا، ولدانيال كرجل يلبس ثياب الكرامة ومتمنطق بزنارٍ من ذهب الأوفير وجسمه أبيض اللون، ووجهه كمنظر البرق، وعيناه كمصابيح النار، وذراعاه كالنحاس اللامع، وصوت كلامه كقواتٍ كثيرة. وكان الملائكة يطيرون إلى القبر الإلهي وهم متمنطقون بثيابٍ بيضاءٍ[15].]
"خدامه نار ملتهبة"، هذه هي طبيعة السمائيين الذين يخدمون السماوي، النار الآكلة. فإنهم إذ يلتقون بنا يلهبون حياتنا بالشوق نحو الخالق، خلال عمل نعمته الفائقة، فيحترق ما فينا من خشب أو عشب أو قش، بينما يتلألأ ما فينا من ذهب أو فضة أو حجارة كريمة. هذه هي النار الإلهية العاملة في السمائيين، كما تعمل بنعمته في المؤمنين.
أما بخصوص النار المتواصلة، فقد قيل عن الله نفسه إنه نار آكلة (عب 12: 29)، خدامه أيضًا لهيب نار (مز 4:104). فبظهور المركبة الإلهية خلال نار متواصلة يُعلِن عن حضرة الله النار المتقدة، الذي يحرق الأشواك الخانقة للنفس، وفي نفس الوقت يهبها استنارة داخلية لتضيء كالبرق، فيكون لها "لمعان ومن وسطها كمنظر النحاس اللامع من وسط النار".
نزل الرب علي جبل سيناء كنار آكلة، كان يتحدث مع موسى والجبل يُدَخِّن "وصعد دخانه كدخان أتون، وارتجف كل الجبل جدًا" (خر18:19). يقول المرتل عن الله: "قدامه تذهب نار" (مز 3:79)، إذ هو نفسه نار آكلة، وخدامه حوله ويتقدمونه كنارٍ ملتهبةٍ (مز 4:104) يحرقون من كان خشبًا أو عشبًا أو قشًا، كما ينقون من كان ذهبًا أو فضة أو حجارة كريمة.
* ما لم يبشر الخادم بنارٍ، فانه لا يُلْهِبُ من يكرز لهم[16].
القديس أغسطينوس
* "وخدامه لهيب نار". هذا يشير إلى نقاوتهم وإلى حقيقية أنهم لا يخضعون للخطية. يوجد تفسير آخر: إن كان إنسان مؤمنًا كمثال، فإن ملاكًا صالحًا يُرسَل إليه، ملاك من نور. إن كان خاطئًا يُرسَل إليه ملاك غضب متوهج يعذبه[17].
* هذه هي النار التي اضطرمت في قلوب التلاميذ، فألزمتهم بالقول: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا، إذ كان يكلمنا في الطريق، ويوضح لنا الكتب!" (لو 24: 32)[18]
القديس جيروم
* لا يتحدث عن أحدهم (الملائكة) كابن. "الجاعل ملائكته رياحًا، وخدامه لهيب نار" (مز 104: 4). أما بالنسبة للابن، فيتحدث بما يليق به، ويقول أمورًا كثيرة عنه في الأنبياء[19].
* "لأنه قد عيَّن ملائكته حولك، ليحفظوك في كل طرقك" (مز 91: 11)... فإن البار يحتاج إلى معونة ملائكة الله، حتى لا تطرحه الشياطين، ولا يخترق قلبه "سهم يطير في الظلام"[20].
* يعلن كاتب "الراعي" (هرماس)، قائلًا إن ملاكيْن (واحد صالح والآخر شرير) يلازمان كل إنسانٍ؛ وكلما جاءت أفكار صالحة إلى عقولنا يُقال إنه يُقَدِّمها الملاك الصالح، وإن جاءت أفكار عكسية قيل إنها من تأثير الشرير[21].
* "لأن كل واحدٍ يتأثر بملاكيْن، واحد للبرّ والآخر للدنس. فإن وُجِدَتْ أفكار صالحة في قلوبنا، ما من شك أن ملاك الرب يتحدث إلينا، ولكن أن أتتْ على قلوبنا أفكار شريرة، فإن ملاك الشر هو الذي يخاطبنا![22]
* توجد ملائكة قد وُضِعَ لهم أن يتولوا الأعمال المقدسة، وهم الذين يُعَلِّمون فهم النور الأبدي، ومعرفة أسرار الله وعِلْم الإلهيات[23].
* كان للرسل ملائكة تسندهم في إتمام خدمتهم الكرازية وفي تكميل عملهم الإنجيلي[24].
* إن كان من بين الناس من نالوا كرامة الخدمة كإنجيليين، وإن كان يسوع المسيح نفسه قد جاء بالأخبار الصالحة السارة، وكرز بالإنجيل للمساكين، فإنه بكل تأكيد لن يستثنى خدامه الذين هم ملائكته الرياح وخدامه النار الملتهبة (مز 4:104) من أن يكونوا هم أيضًا مُبَشِّرين.
لذلك جاء الملاك إلى الرعاة، ومعه "مجد الرب الذي أضاء حولهم"، وقال لهم: "لا تخافوا، فها أنا أبشركم بفرحٍ عظيمٍ، يكون لجميع الشعوب. إنه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب" (لو 10:2-11). وفي وقت لم يكن بين الناس معرفة بسرّ الإنجيل، هؤلاء الذين هم أعظم من الناس الساكنين في السماوات، جيش الله، قد سبَّحوا الرب قائلين: "المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة". وإذ سبحوه عادوا إلى السماء، تاركين إيّانا لنتأمل كيف أن الفرح الذي جاء به ميلاد المسيح هو مجد لله في الأعالي. لقد تنازلوا إلى الأرض، ثم عادوا إلى موضع راحتهم، ليُمجدوا الله في الأعالي بيسوع المسيح. يتعجب الملائكة أيضًا للسلام الذي يحل بميلاد المسيح على الأرض مهد الحروب، والتي إليها يسقط إبليس كوكب الصبح من السماء، ليدخل في حربٍ مع يسوع ثم يندحر منها[25].
* عندما تَثْبُتُ في اتحاد مع المؤمنين باسمه، لابد أيضًا أن تَعْبُرَ إلي السموات، مجتازًا إلي ما وراء الأرض ومجاهلها، بل إلي ما فوق السماوات أيضًا وما يخصها، لأن الرب يسوع قد اختزن لنا في الله - كما في كنزٍ - آيات وعجائب أعظم بكثير مما ورد ذكره. ولا يمكن أن نستوعبها ونحن في طبيعةٍ ترتبط بالجسد، بل لابد أن نترك كل ما للجسد. وإني مقتنع أن الله قد ادَّخر لنا في نفسه أشياء تفوق روعتها كل ما رأته العيون كالشمس والقمر والكواكب، بل أكثر وأبهى مما اطلع عليه الملائكة القديسون الذين صنعهم الله أرواحًا ونارًا ملتهبة (مز 4:104؛ عب7:1). وسوف يكشف لنا عن هذه العجائب عندما تخلص الخليقة من عبودية العدو إلي حرية مجد أولاد الله (رو 21:8)[26].
العلامة أوريجينوس
* هو الله نفسه صانع الملائكة وبارئهم ومُخرِجهم من العدم إلى الوجود، وقد خلقهم على صورته الخاصة، طبيعة لا جسمية، على مثال ريح ما ونارٍ لا مادية. كما يقول داود الإلهي: "الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار" (مز 104: 4). وقد صمَّم الله فيهم الخفَّة والتوقد والحرارة وسرعة النفاذ والحدة في تلبية أوامره وخدمته والتسامي بذواتهم ونفوذهم من كل فكرٍ ماديٍ[27].
الأب يوحنا الدمشقي
* بقول النبي أرواح عن الملائكة، لأنهم غير منظورين بأعين جسدية، ولسرعتهم في قضاء أوامر الله. وقوله نار، لأنهم أقوياء مثل النار...
أيضًا الرسل هم ملائكة، لأنهم أخبروا العالم بالعهد الجديد. وهم أرواح لأنهم روحيون، ونار تلتهب، لأنهم أخذوا نعمة الروح القدس التي حلَّت عليهم شبه نار وأحرقوا عدم الإيمان وأضاءوا العالم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* هذه النار الإلهية أشعلتْ عظام الأنبياء، كما قال إرميا: "كان في قلبي كنارٍ محرقة محصورة في عظامي، فمللت من الإمساك، ولم أستطع" (إر 20: 9)[28].
القديس أمبروسيوس

* قوات السماء ليسوا مقدسين بطبيعتهم، لأنه لو كان الأمر هكذا لما اختلفوا عن الروح القدس. لكنهم مقدسون نسبيًا كامتياز لهم من التقديس بالروح القدس. فالحديد المُحَمَّى بالنار نراه كما لو كان نارًا، إلا أنه شيء والنار شيء آخر. هكذا الحال مع القوات السمائية يبدو جوهرهم كأنه ريح في العلا أو نار غير مادية[29].
القديس باسيليوس الكبير

* أول كل شيء قَبلَ الله تقدمة هابيل بسبب نقاوة قلبه، ورُفضتْ تقدمة قايين (تك4: 4). كيف نعرف أن تقدمة هابيل قُبلتْ، بينما رُفضتْ تقدمة قايين؟ وكيف شعر هابيل بقبول تقدمته؟ وكيف تأكَّد قايين من رفض تقدمته؟ سأحاول قدر استطاعتي شرح ذلك.
أنت تعلم يا عزيزي أن علامة التقدمة المقبولة من الله هو نزول نار من السماء وحرق التقدمة. عندما قدَّم هابيل وقايين تقدماتهما معًا، نزلت النار الحيَّة التي تخدم أمام الله (مز 104: 4) والتهمت ذبيحة هابيل النقيَّة، بينما لم تمس ذبيحة قايين غير النقيَّة. وهكذا عرف هابيل قبول تقدمته، وقايين رفْض تقدمته. لقد عُرفتْ ثمار قلب قايين بعد ذلك حين اُختبِر، ووُجِدَ أن قلبه مملوء غشًا، حين قتل شقيقه، وهكذا فما حبل به في فكره ولدته يداه. ولكن نقاوة قلب هابيل كانت أساس صلاته[30].
القديس أفراهاط الحكيم الفارسي
* يبقى لنا أن نقارن بولس بالملائكة. لنترك الأرض ونصعد إلى أبواب السماء. لا يقل أحد إن كلماتنا تحمل جسارة فائقة إن كان الكتاب المقدس يدعو يوحنا ملاكًا وأيضًا الكهنة، فلماذا تتعجب حين نقول إن بولس يستحق أن يُدعَى هكذا لتفوقه في هذه الفضائل؟!
ما هو سبب عظمة الملائكة؟ طاعتهم لله، هذا ما أعجب داود فيهم: "أقوياء في الفضيلة، يطيعون كلمته" (مز 20:102). لكن طاعة بولس لا تُقاَرن حتى بالكثير من الكائنات غير المتجسدين. ما يجعلهم مباركين هو طاعتهم لوصية الله ورفضهم التام لعصيانه. هذا ما فعله بولس بإخلاص تامٍ. لقد تمم كلمة الله ووصاياه أيضًا. ليس فقط وصاياه، بل ما هو أكثر، كما أفصح قائلًا: "إذ وأنا أُبَشِّر أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة" (1 كو 18:9).
ماذا يرى النبي في الملائكة ما يستحق الإعجاب؟ "الصانع ملائكته رياحًا، وخدامه نارًا ملتهبة" (مز 4:103). هذا أيضا نراه في بولس، كنارٍ وريحٍ عبْر الأرض طولًا وعرضًا في ترحاله...
هذا ما يجعل الأمر مميزًا بالأكثر، بينما كان بولس على الأرض في الجسد الفاني أظهر مثل هذه الشجاعة وهزم القوات غير المنظورة.
كم نُحسَب في لومٍ إذًا إن لم نجاهد متمثلين بمثل هذا الإنسان على وجه الخصوص الذي اجتمعتْ فيه كل الصفات الجليلة في إنسانٍ واحدٍ.
لنفكر مليًا في هذه الاعتبارات، فنكون بلا لومٍ.
لنجاهد لكي تكون لنا مثل غيرته، فنشاركه ذات البركات بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته الحانية، الذي له المجد والقوة، الآن وكل أوان، آمين[31].
* "الصانع ملائكته أروحًا، وخدامه لهيب نار" (مز 104: 4). فبولس يُقَدِّم لكم المشهد عينه. فهو كالروح والنار، يطوف الأرض كلها ويُطَهِّرها، حين لم يكن بعد قد اقتنى السماء، وفي ذلك أعجب العجب، من كونه وهو لا يزال حيًا في هذا العالم ولابسًا جسدًا مائتًا، قد ماثل القوات المُجرَدة عن الجسد[32].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إله الكل الذي خلق ملائكته (أرواحًا) هو روح، "وخدامه لهيب نار". لهذا عند الرحيل من مصر أمر الجموع عَدَم لمْس الجبل حيث كان الله يُسَلِّمهم الناموس، لأنهم لم يكونوا قد اتسموا بهذه السمة. لكنه دعا موسى الطوباوي ليتسلمه، إذا كان متقدًا بالروح، وكان ذا نعمة لا تُطفَأ، قائلًا: "يقترب موسى وحده" (خر 24: 2). وقد دخل السحابة أيضًا. وحينما كان الجبل يدخن لم ينله أذى، بل بالحري نزل مُطهرًا من خلال كلمات الرب التي هي "فضة مصفاة في الأرض" (مز 12: 6)...
* عندما رغب بولس الطوباوي ألاَّ تبرد نعمة الروح المعطاة لنا، حذرنا قائلًا: "لا تطفئوا الروح" (1 تس 5: 19)، حتى نبقى شركاء مع المسيح. ذلك إن تمسكنا حتى النهاية بالروح الذي أخذناه، إذ قال: "لا تطفئوا..." ليس من أجل أن الروح موضوع تحت سلطان الإنسان أو أنه يحتمل آلامًا منه، بل لأن الإنسان غير الشاكر يرغب في إطفاء الروح علانية، ويصير كالأشرار الذين يضايقون الروح بأعمال غير مقدسة...
فإذ هم بلا فهم، مخادعين، ومحبين للخطية، وما زالوا سائرين في الظلام، فإنه ليس لهم ذلك النور الذي يضيء لكل إنسان آت إلى العالم (يو 1: 9).
لقد أَمسكت نار كهذه بإرميا النبي عندما كانت الكلمة فيه كنارٍ، قائلًا إنه لا يمكن أن يحتمل هذه النار (إر 20: 9)...
وجاء سيِّدنا يسوع المسيح المحب للإنسان لكي يلقي بهذه النار على الأرض، قائلًا: "ماذا أريد لو اضطرمت؟" (لو 12: 49).
لقد رغب الرب - كما شهد حزقيال (حز 18: 23، 32) - توبة الإنسان أكثر من موته، حتى ينتزع الشر عن الإنسان تمامًا، عندئذ يمكن للنفوس التي تَنَقَّتْ أن تأتي بثمر. فتثمر البذور التي بذرها (الرب) البعض بثلاثين والبعض بستين والآخر بمائة.
وكمثال، أولئك الذين مع كليوباس (لو 24: 32) مع أنهم كانوا ضعفاء في بداية الأمر بسبب نقص معلوماتهم، لكنهم أصبحوا بعد ذلك ملتهبين بكلمات المخلص، وأظهروا ثمار معرفته.
وبولس الطوباوي أيضًا عندما أمسك بهذه النار لم ينسبها إلى دمٍ ولحمٍ، ولكن كمُخْتَبرٍ للنعمة أصبح كارزًا بالكلمة (المسيح)[33].
البابا أثناسيوس الرسولي

* في كهفٍ حجريٍ في القبر الجديد الذي لنيقوديموس وضعوا ابن هذه الطوباوية.
وأيضا هذه الطاهرة أم ابن الله وضعوها في قبر في كهفٍ من الحجر.
كل جموع الرسل اجتمعوا، ووقفوا بجوارها بينما في الواقع سيدهم هو الذي وضعها معهم في القبر.
طغمات وأفواج وفرق من أبناء النور وحشد من الكائنات الملتهبة نارًا (مز 104: 4)،
السيرافيم الناريون بأجنحتهم المغطاة باللهيب، الكاروبيم الذين يحملون العرش تحركوا جميعًا ليُسَبِّحوا أوصنا.
أتباع جبرائيل، الجمع المتوهج نارًا يتحركون بطرق متنوعة بطبيعتهم.
أتباع ميخائيل الذين ينزلون باحتفالٍ وبفرحٍ ويسبحون "هليلويا" من أجل هذا اليوم.
امتلأت السماء والهواء من تسبيح السماويين الذين أتوا ونزلوا إلى موضع الأرض.
امتلأ الجو برائحة بخور عطرة وطاهرة من مباخر الملائكة الذين نزلوا.
القديس مار يعقوب السروجي
* لم تكن الوصية لمجرد أن يعيش الإنسان تلك الحياة الطبيعية التي قدَّمها له الله، بل لكي يحيا الفضيلة، أي في علاقة مع الله ووصيته.
لذلك فقد وهبه أن يعيش عندما شكَّله في نفس حية؛ وأوصاه أن يعيش في حياة الفضيلة عندما أمره بطاعة الوصية.
هكذا يظهر أن الله لم يخلق الإنسان لكي يموت... إنما الإنسان هو الذي جبل الموت لنفسه، ليس عن ضعفٍ أو جهلٍ لئلاَّ يُلام الخالق.
فالذي خدع الإنسان كان من قَبل ملاكًا، ولكن الإنسان - ضحية تلك الغواية - كان حُرًا، له السيادة على نفسه، بكونه على صورة الله ومثاله، فكان أقوى بكثير من أي ملاك، كذلك بكونه نفخة من فم الله كان أعظم من الكيان الروحي الذي للملائكة، إذ يقول: "الصانع ملائكته رياحًا (أرواحًا)، وخدامه نارًا ملتهبة" (مز 104: 4).
فلو كان الإنسان أضعف من الملائكة في السلطان وأقل منهم، ما كان قد جعل كل شيءٍ خاضعًا له، الأمر الذي لم يعطهِ للملائكة. وما كان يضع عليه عبء الوصية، لو لم يكن الإنسان قادرًا على احتمالها بدرجة عظيمة، وما كان يهدد بعقوبة الموت لمخلوقٍ يعرف الله أن لا ذنب له بسبب عجزه.
بالاختصار، لو أن الله خلقه ضعيفًا ما كان قد أعطاه حريةً واستقلالًا لإرادته، بل بالأحرى كان قد نزع عنه حقل هذه المواهب.
العلامة ترتليان

الْمُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا،
فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ [5].
يقف العلماء في دهشة بخصوص الأرض، من جهة تحرُّكها المستمر، وفي نفس الوقت يشعر الساكنون عليها أنها ثابتة ومستقرة، وأيضًا من جهة الجاذبية الأرضية. الله خالق الأرض وهبها قوانين طبيعية لراحة الإنسان وخدمته.
إن كان الإنسان الأول قد خُلِقَ من التراب (الأرض)، فإن الخالق يهتم أن يكرَّمه ويسنده حتى لا يتزعزع.
* ما هو أساس الكنيسة إلا ذاك الذي يقول عنه الرسول: "لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح" (1 كو 3: 11)... لقد أسَّس الكنيسة على المسيح الأساس. تتزعزع الكنيسة إن تزعزع الأساس[34].
القديس أغسطينوس
* بالحقيقة إنه لأمر عجيب كيف ثِقَل الأرض العظيم يستقر على قوة، فلا تتزعزع إلى الأبد. خلال عناية الله تبقى غير مضطربة[35].
القديس جيروم
* يقول النبي عن الإنسان أنه أرض، لأنه قد أسسه على اشتياق الإيمان، ولن يزول إلى دهر الدهور، أي إلى الدهر العتيد.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
كَسَوْتَهَا الْغَمْرَ كَثَوْبٍ.
فَوْقَ الْجِبَالِ تَقِفُ الْمِيَاهُ [6].
يرى البعض أن الحديث هنا يخص الطوفان الذي حلّ بالأرض في أيام نوح، كما ورد في سفر التكوين 7: 18-19. ويرى آخرون أنه يخص ما حلّ بالأرض أثناء الخليقة (تك 1: 9).
إن كانت البحار (المحيطات) عميقة للغاية، وتمثل رعبًا للإنسان الساكن على اليابسة، لكنها تسكب على الأرض نوعًا من الجمال كثوبٍ يزينها ويفيدها.
يرى القديس أغسطينوس أن الكنيسة تغمر بطوفان الاضطهادات في كل المسكونة حتى أن الجبال العالية أو القادة يختفون.
* هذه العبارة تعني تدبير الله غير الموصوف مع العجز عن إدراك حكمته غير المُدْرَكة. فكما أن عيوننا هذه تعجز عن النظر إلى العمق (الغمر) الذي لا يُسبَر غوره، هكذا لا يمكننا أيضًا أن نتأمل في جلال الله وحكمته...
بحسب النص العبري، يلزمنا أن نفهم "الثوب" أنه ثوب الأرض، فيكون المعنى أن الغمر (العمق) يدعونه محيطًا يحيط بالأرض كلها، بمعنى أن المياه تحول كل الأرض، وأن الأرض تشبه جزيرة...
"فوق الجبال تقف المياه". من الجانب الرمزي فإن المياه تشير إلى التعاليم والجبال إلى القديسين[36].
القديس جيروم
* جاء في ترجمة أكيلا وثاودونيون: "جعلت رداءها لجة (غمرًا). فيكون معناه أن مياهًا كثيرة اكتنفت الأرض من جوانبها كثوبٍ تغطيها. ومن شدة هبوب العواطف ترتفع أمواج البحار، وتكبر مثل الجبال، لكنها لا تفوق الأرض لأن أمرك يا رب مثل انتهار وكصوت الرعد يخيفها ويردها.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
مِنِ انْتِهَارِكَ تَهْرُبُ،
مِنْ صَوْتِ رَعْدِكَ تَفِرُّ [7].
يكشف المرتل عن سلطان الله، فإن كان قد خلق المحيطات لخدمة الساكنين على الأرض، وتُمَثِّل زينة جميلة لليابسة، إلا أنها مع أعماقها واتساعها تهرب من انتهار الرب لها. يقول الإنجيلي: "فخافوا خوفًا عظيمًا، وقالوا بعضهم لبعض: من هو هذا، فإن الريح أيضًا والبحر يطيعانه" (مر 4: 41).
إن كان الله يسمح بالضيقات على الكنيسة حتى تغطي الجبال، فإنه إذ ينتهر مياه هذا الطوفان تتراجع إلى الوراء، ولا تعود تضغط على الجبال، أو تُغَطِّيها. كمثال بطرس وبولس العملاقيْن قد غطاهما الطوفان إلى حين لكنهما الآن مُكَرَّمان من الأباطرة.
* الرعد هو صوت الرب، فهو أعطى أمرًا، والمياه أطاعته وانسحبتْ إلى موضوع واحد (تك 1: 9-10)[37].
القديس جيروم
تَصْعَدُ إِلَى الْجِبَالِ.
تَنْزِلُ إِلَى الْبِقَاعِ،
إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَسَّسْتَهُ لَهَا [8].
يظن البعض أن الحديث هنا عن الجبال التي تصعد فوق سطح البحر، والوديان التي تنزل أحيانًا تحت سطح البحر، لكن من الواضح أن الحديث هنا خاص بالمياه. نراها تصعد إلى الجبال، حيث تكتسي بعض الجبال بالثلوج التي تذوب في بعض البلاد، وتتحول إلى بحيرات عند قمم الجبال كما في كاليفورنيا "big Bear"، وتنحدر أحيانًا من الجبال كما في الشلالات مثل نياجرا فول بكندا.
يرى القديس أغسطينوس أن الحديث هنا عن المياه، فإن الأمواج تثور وترتفع كما إلى الجبال ثم تهبط كما إلى الوديان. هكذا مياه الاضطهادات ترتفع لكي تغطي الجبال مثل الرسل والخدام لكنها تعود فتهبط هذه الموجات من الضيق.
* "تصعد إلى الجبال، تنزل إلى البقاع (الوديان)"؛ إشارة إلى قوة المياه، فإنها ترتفع إلى العُلا كما إلى الجبال ثم تغطس إلى أسفل إلى الوديان[38].
القديس جيروم
وَضَعْتَ لَهَا تُخُمًا لاَ تَتَعَدَّاهُ.
لاَ تَرْجِعُ لِتُغَطِّيَ الأَرْضَ [9].
عندما يقف الإنسان أمام هياج أمواج البحار والمحيطات يبدو له أنه ليس من قوة تقف أمام هذا الهياج. لكن الله قد وضع لها حدًا، والعجيب أن هذا الحد يُحَقِّقه بالرمل الذي يبدو تافهًا ولا قدرة له على المقاومة.
لن تتعدى الأمواج حدودها بدون سماح خالقها.
إن كان الله يسمح بالضيقات والاضطهادات أن تثور لتصير الأمواج الهائجة والمرتفعة كالجبال، فيبدو كأنه لا يستطيع أحد أن يقف أمامها، غير أنه يلزمنا ألا نخاف، فإن الله يصنع لها حدودًا لا تتعداها، فتصير كأمواج البحار التي لا تُغَطِّي الأرض.
* "وضعت لها تخمًا لا تتعداه". هذا يسبب بالحقيقة دهشة، أن تسمع هدير البحر وثورته الهائجة واندفاع الأمواج إلى أعلى كما إلى السماء، وتراها مندفعة كما لو كانت ستغرق العالم كله، وبكل قوتها تندفع نحو الشاطئ، وبعد ذلك تنسحب وتقف عند الحدود التي عينها لها الله، أما الناس فلا يحفظون أوامر الله[39].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]2. العناية الإلهية[/FONT]

في القسم السابق [1-9] تغنى المرتل بالخلقة التي تشهد لمجد الله وعظمته حيث نرى خلالها الله اللابس النور، والمقيم السماوات كخيمة، والسحاب كسقفٍ من الماء في العلية، يمتطي السحاب كمركبة إلهية، صوته يرهب المياه، فتلتزم الحدود التي وضعها الله لها. أما في هذا القسم، فيكشف عن عناية الخالق الفائقة. فالخليقة مدينة له، ليس فقط بوجودها ذاته، وإنما باستمرار وجودها الدائم. يُفَجِّر عيون مياه في وفرة، مُقَدِّمًا إياها مجانًا لحيوانات البرية. يُلَبِّي احتياجات خليقته مجانًا في مُنْتهَى العطف! فالطيور بما وُهِبَتْ من حدْسٍ فطري تبني أعشاشها في آماكن آمنة، وحيوانات البرية تجد أوجرة تعيش فيها. "للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه". يا للعجب، يطلب راحة الحيوانات والإنسان وإشباع احتياجاتهم بينما يختار لنفسه الفقر والعوز من أجل حبه لخليقته!
يُحَدِّثنا المرتل عن الماء المجاني [10] والخبز [14] والخمر الذي يُفَرِّح قلب الإنسان [15] والزيت، والسكن المجاني حتى للعصافير [17] والوعول [18] الخ. هذه جميعها تحمل رمزًا لعطايا الله الفائقة للإنسان. يُقَدِّم روحه القدوس ماءً مجانيًا، وجسده المبذول ودمه المسفوك خبزًا، وخمرًا ليُشبع ويُروي ويُفَرِّح قلب الإنسان. يهب زيت نعمته، ويُقَدِّم الأحضان الإلهية مسكنًا لمؤمنيه!
اَلْمُفَجِّرُ عُيُونًا فِي الأَوْدِيَةِ.
بَيْنَ الْجِبَالِ تَجْرِي [10].
يهتم الله حتى بحيوانات البرية، فيُفَجِّر عيونًا في الأودية كما في الجبال.
في مناطق كثيرة في العالم ينعم الإنسان برؤية حركة المياه وسط الجبال، حتى يدعوها البعض بالمياه المتهللة أو الضاحكة أو الراقصة، وكأنها تجرى وسط الجبال تُسَبِّح الله وتُرَنِّم له بأصواتها العذبة غير المُتوقِفة ليلًا ونهارًا.
* ربما يقول أحد: إن كان كل شيء صُنِعَ لخدمة البشرية، فما المنفعة من وجود ماء يفيض في البرية؟ هذا أيضًا قد وُضِعَ بتدبير لأجل نفعنا ولكي يمد الحيوانات بما ينعشهم، وذلك لخدمتنا أو يمكننا القول: الله الذي خلق كل شيء بعنايته، فكل الخليقة هي خليقته، يهتم بأن يمد الحيوانات غير العاقلة باحتياجاتها[40].
القديس جيروم
تَسْقِي كُلَّ حَيَوَانِ الْبَرِّ.
تَكْسِرُ الْفِرَاءُ ظَمَأَهَا [11].
في وسط المناطق القفر نجد ينابيع تفيض ماءً عذبًا كما في دير القديس أنبا انطونيوس وأيضًا دير أنبا صموئيل المعترف، وفي مناطق لا يقطنها إنسانٍ، كأن الله يُعْلِن لنا أنه يهتم حتى بحيوانات البرية حتى تجد ماءً لتشرب في وسط الصحراء. كثيرٌ من هذه الينابيع لم يكتشفها الإنسان على زمن طويل، بينما اكتشفتها الحيوانات غير العاقلة، وعرفتْ الطريق إليها.
إن كان الله يهتم أن يُقَدِّم ماءً لحيوانات البرية، فكم بالأكثر يهتم بتقديم مياه الروح للبشرية.
يرى القديس أغسطينوس في حيوانات البرية رمزًا للأمم الذين لم يتركهم بل قدَّم لهم كلمة الخلاص ليتمتعوا بالإيمان.
فَوْقَهَا طُيُورُ السَّمَاءِ تَسْكُنُ.
مِنْ بَيْنِ الأَغْصَانِ تُسَمِّعُ صَوْتًا [12].
إذ تسكن الطيور بين أغصان الأشجار تشعر كما تحت حماية خالقها، فتُقَدِّم له صوت التسبيح. وكأن الخليقة غير العاقلة، حتى الطيور التي ليس لها بيوت ولا كهوف صلدة تشكر وتُسَبِّح، كم بالأكثر يليق بنا نحن البشر أن نسبحه ونمجده.
يرى القديس أغسطينوس في طيور السماء النفوس الروحية التي تجد مسكنها وراحتها فوق الجبال، أي خلال الأنبياء والرسل والكارزين بكلمة الحق.
* كل منها يُسَبِّح الله بأغنيتها التي لها[41].
القديس جيروم
يُبْدِع المرتل في تصوُّره للخليقة غير العاقلة وهي تُسَبِّح الله، كل حسب لغته وأسلوبه. فإن كان الله قد خلق للإنسان فمًا ليسبحه ويعَّبر به عن بهجة قلبه بالخالق المُعْتَنِي به، كثيرًا ما يقف ليمارس دور الجاحد المتذمر على خالقه، غير أن الأرض الجامدة ترتدي المحيطات كثوب يكسوها بالجمال فتُمَجِّد خالقها. وتحرُّكات المياه على الجبال وبين الجبال وفي الأودية تشبه رقصات متهللة وتسابيح للخالق. وحيوانات البرية تتعرف على ينابيع المياه الخفية وسط الصحراء، والطيور التي ليس لها مخازن تُغَنِّي على أغصان الأشجار. توجد طيور يحلو لها أن تُغَنِّي بصوتٍ عذب في منتصف الليل، وسط الظلمة.
السَّاقِي الْجِبَالَ مِنْ عَلاَلِيهِ.
مِنْ ثَمَرِ أَعْمَالِكَ تَشْبَعُ الأَرْضُ [13].
يستخدم كل وسيلة ليروي ظمأ حتى حيوانات البرية، تارة خلال العيون التي يُفَجِّرها وسط البرية، أو الأمطار التي تسقط على الجبال، فتصير مجاري مياه تشرب منها الحيوانات.
يهتم الله بالجبال فيكسوها بالجمال، تارة بالثلوج التي تغطيها قممها، وأخرى بالغابات أو العشب، وحتى وهي قاحلة. كما يهتم بالأرض لخدمة الإنسان والحيوانات والطيور.
إن كانت الجبال كما رأينا ترمز للأنبياء والرسل والكارزين، وأن الله من الأعالي يُقَدِّم لهم مياه الكلمة لكي يرويهم، وهم بدورهم يقدمونها للأرض، أي للبشرية، فإن الثمر لا من عمل الكارزين أنفسهم، بل هو من عمل الله نفسه. "من ثمر أعمالك تشبع الأرض".
يرى القديس جيروم أن أعمال الله هنا التي تُشْبِع الأرض هي الرسل الذين يُشبعون البشر بكلمة الكرازة.
الْمُنْبِتُ عُشْبًا لِلْبَهَائِمِ،
وَخُضْرَةً لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِ،
لإِخْرَاجِ خُبْزٍ مِنَ الأَرْض [14].
حيث لا يُوجَد بشر يقومون بالزراعة يسمح الله بظهور العشب ليعول الحيوانات، وإن وُجِد البشر، فإنهم يقومون بالزراعة "الخضرة"، لكن حتى هذه المزروعات تتدخل فيها عناية الله ورعايته. ولعله يقصد أن الله يسمح بالعشب ليعول الحيوانات، ويُعطي الإمكانية للبشر للزراعة لكي يجد الإنسان قوته من حنطة وخضروات وفواكه الخ.
حمل الرسل وهم بعد في الجسد السيد المسيح، الخبز النازل من السماء، كقول الرسول بولس: "لنا كنز في أوانٍ خزفية". عملهم أن يُقَدِّموا هذا الخبز لمن يكرزون لهم، لكي يتمتعوا به.
* "لإخراج خبز من الأرض". يشير هذا إلى الرب الذي دبَّر أن يصير إنسانًا، كما هو مكتوب: أنا هو الخبز النازل من السماء" (يو 6: 41)[42].
القديس جيروم
* لم يعطهم الخبز المادي الأرضي، بل الخبز الذي من فوق من السماء[43].
* تقتات النفس العاقلة على الطعام الروحي بكلمة الله (اللوغوس)، لأن الطعام الذي تعطيه الأرض لا يُغَذِّي الروح[44].
القديس كيرلس الكبير

* قَوِّ قلبك، اشتركْ في ذلك الخبز كشيءٍ روحيٍ، وليكن لنفسك وجه مبتهج[45].
القديس كيرلس الأورشليمي


وَخَمْرٍ تُفَرِّحُ قَلْبَ الإِنْسَانِ،
لإِلْمَاعِ وَجْهِهِ أَكْثَرَ مِنَ الزَّيْتِ،
وَخُبْزٍ يُسْنِدُ قَلْبَ الإِنْسَان [15].
العنب من الثمار التي وردت كثيرًا في الكتاب المقدس. عندما أراد يشوع بن نون وكالب أن يُبْرِزا للشعب خصوبة أحضرا لهم زرجونة بعنقود واحد من العنب (عد 13: 23).
كان استخدام الزيت أساسًا في المسحة للتكريس والفرح بالله (خر 30: 22-25). وكان عادةً يُدهَن الضيوف القادمون لمناسبة اجتماعية على جباههم بالزيت علامة البهجة. والمزمور كله أحد التسابيح المُفْرِحة لصلاح الله وحنانه وسخائه العجيب على خليقته.
كلما تطلع المؤمن إلى الله واهب النور ومُعطي الخيرات والمُشرِق بمجده على خليقته يصير هذا زيتًا ومسحة، تهب وجهه لمعانًا، ويشع فرح خلاص الله على أعماقه.
يرى العلامة أوريجينوس أن الخمر هنا تشير إلى نعمة التعليم التي تُفَرِّح قلب الإنسان، بينما تشير كروم الأمم وخمرهم (مز 105: 33) إلى التعاليم السامة الغريبة عن الإيمان بالله.
ما هو هذا الخبز الذي يسند قلب الإنسان، والخمر الذي يفَّرح قلبه لإلماع وجهه، إلا السيد المسيح القائل "أنا هو الخبز النازل من السماء"، وأيضًا: "أنا هو الكرمة الحقيقية" (يو 15: 1). إنه المأكل الحق والمشرب الحق؛ من يتمتع بجسده ودمه، يمتلئ بالقوة الإلهية، وتفرح أعماقه، ويشرق نور شمس البرّ عليه.
يرى القديس مار أفرام السرياني الخبز الذي يسند قلب الإنسان هو حفظ الوصايا. والخمر الذي يُفرح قلبه هو من يلتمس الغفران، والزيت هو التوبة التي تنقي النفس، وتسكب عليها جمالًا وتؤهلها للتناول من جسد الرب ودمه[46].
يرى القديس غريغوريوس النزينزي أن الخمر الذي يفرح قلب الإنسان هو التعليم الصحيح، الذي يَلزم ألا يكون مغشوشًا بخلطه بالماء (إش 1: 22)، أي التعاليم الخاطئة[47].
* "وخمر تفرح قلب الإنسان". هذا هو الخمر الذي وعد به الرب أنه لا يشرب منه إلا بعد القيامة (مت 25: 29؛ مر 14: 22-25؛ لو 22: 18-20).
"لإلماع وجهه أكثر من الزيت". وجه الله يجعل الأبرار يشعون فرحًا. لكنه ليس دهنًا لرأس الخطاة (مز 140: 5).
"وخبز يسند قلب الإنسان"، الخبز الذي نزل من السماء[48].
القديس جيروم
* دعا (ربنا) ذاته حبة حنطة، فإذًا تعليمه يُشَدِّد قلوبنا ويفرحها مثل الخبز والخمر، ويُبهج وجوه نفوسنا مثل الزيت. وأيضًا نفهم أن جسده القدوس هو خبز وخمر، الذي خرج من الأرض الطاهرة البتول، ودمه الكريم. فهما يشددان القلب ويفرحانه. وأما الزيت فهو مواهب الروح القدس.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* لا يمكن للأنفس أن تحيا إلاَّ إذا كانت تولد ثانية في أرض الأحياء (بالمعموديَّة)، وتتربِّى فيها بالروح، وتنمو قدَّام الرب نموًا روحيًا (بالتوبة والاعتراف)، وتكتسي من اللاهوت بحلل الجمال السماوي التي تفوق الوصف كلُّه، وبدون تلك القوَّة لا تستطيع أن تعيش متعزِّية مكتفية. لأن الطبيعة الإلهيَّة فيها خبز الحياة حقًا، هذا الذي قال: "أنا خبز الحياة" (يو ٦: ٣٥) وماء الحياة (يو ٤: ١٠)، والخمر الذي يفرح قلب الإنسان (مز ١٠4: 1٥)، ودهن البهجة (مز ٤٥: ٤). وجميع أصناف طعام الروح السماوي، وحلل النور السمائيَّة التي من الله. بهذه تعيش النفس... وويل للجسد الذي يقف عند قاع طبيعته، فإنَّه يفسد ويموت. وويل للنفس التي اِستندت على قوَّة طبيعتها، ولم تتَّكل إلاَّ على أعمالها، بحيث لا تكون لها شركة الروح الإلهي (١ يو ١: ٢)، فإنَّها تفسد وتموت حقًا بعدم تأهُّلها لحياة اللاهوت الأبديَّة (يو ١٧: ٣).
القديس مقاريوس الكبير
* البيت الذي تسكن فيه الكنيسة هو كتابات الآباء والناموس والأنبياء. لأن هناك توجد غرفة الملك المملوءة بكل غِنَى الحكمة والمعرفة. هناك أيضًا بيت الخمر، التعليم، سواء السري أو الأخلاقي، هذا الذي يفرح قلب الإنسان[49].
العلامة أوريجينوس

* الكنيسة وهي حاملة نعمة عظيمة بهذا المقدار تخص أولادها وأصدقاءها أن يقبلوا إلى الأسرار قائلة: "كلوا يا أصحابي واشربوا واسكروا يا إخوتي" (1 بط 1: 2). إن ما نأكله وما نشربه قد أوضحه الروح القدس في موضوع آخر بواسطة النبي القائل: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب، طوبى للرجل الذي يضع رجاءه فيه" (مز 34: 9). وفي هذا السرّ يوجد المسيح، لأنه جسد المسيح، لذلك فهو ليس طعامًا جسديًا بل روحيًا. لذلك يقول الرسول عن مثال هذا الطعام: "آباؤنا أكلوا طعامًا روحيًا وشربوا شرابًا روحيًا" (1 كو 10: 3)، لأن جسد الله جسد روحي، جسد المسيح هو جسد الروح الإلهي، لأن الروح هو المسيح كما نقرأ: "الروح الذي أمامنا هو مسيح الرب" (مرا 4: 20). وفي رسالة بطرس نقرأ: "المسيح مات عنَّا"، وأخيرًا فهذا الطعام يشدد قلوبنا، وهذا الشراب "يفرح قلب الإنسان" (مز 104: 15)، كما يسجل النبي.
القديس أمبروسيوس
* وهذا أيضًا هو المعنى المقصود من الكرمة المُزدَهِرة، التي يُفرِح خمرها القلب (مز 104: 15)، وفي يوم من الأيام يملأ كوب الحكمة. وسوف يُقَدَّم مجانًا لهؤلاء الذين يشربون من المواعظ العالية، ويستمتعون بها، وكأنهم سكارى منتشين بوعيّ جميل. وأعني به الغيبة التي يمر بها الشخص بثباتٍ من دائرة الماديات إلى الروحانية المقدسة. والآن تزهر الكرمة بواسطة براعمها، ويخرج منها عبير عطر حلو ناعم يملأ الجو ويحيط بنا.
وأنت تعرف هذه الرائحة الزكية من القديس بولس (2 كو 2: 16)، وتعرف كيف تنطبق على كل الذين يُخَلَّصون.
يوضح كلمة الله هذه الأشياء للعروس كتذكار لأيام الربيع الجميلة للنفس. ثم يحثها على التمتع بما يوجد أمامها، ويشجعها قائلًا: "التينة أخرجت فجَّها، وقُعال الكروم تُفيح رائحتها. قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي"[50].
* عندما وصفت ارتقاء العروس في العظات السابقة، ذكرت أنها نالت النعمة. لقد تعرفت على التفاحة ذات المذاق الحلو، وفرَّقت بينها وبين الوعل غير المثمرة. لقد اشتاقت إلى ظل عريسها، واستمتعت بمذاق فاكهته الحلوة، ودخلت إلى الحجرات الداخلية للفرح. ولقَّبت هذا الفرح "بالخمر" الذي يُفرِّح قلوب من يشربونه (مز 104: 15). وبعد ما ثبتت العروس في الحب زادت قوته بدعم الروائح الزكية من التفاح الذي كان يظللها، ثم استقبلت سهم الحب في قلبها وتلا ذلك أيادي مُصَوِّب السهم، وأباحت هي نفسها سهما مُصَوَّبًا إلى معرفة الحق بواسطة الأيادي القوية لمُصَوِّب السهم (مز 127: 4)...
لا تربكوا أنفسكم هكذا كثيرًا بالخبز. لكن قولوا لذاك الذي يُخرج الخبز من الأرض، والذي يطعم الغربان (مز 147: 9)، ويُعطي طعامًا لكل ذي جسدٍ (مز 136: 25)، ويفتح يده فُيشبع كل حي بكل بركة (مز 145: 16): حياتي هي منك، ومنك أيضًا أنال كل احتياجات الحياة[51].
القديس غريغوريوس النيسي

* يكفى الحب ليقتات به الإنسان عوض الطعام والشراب. هذا هو الخمر الذي يبهج قلب الإنسان[52].
القديس مار اسحق السرياني

* إن لم تولد النفس الآن في "أرض الأحياء" (مز 13:27)، وتستمد غذاءً روحيًا منها، وتنمو أمام الرب، وتكتسي من اللاهوت بحلل الجمال السماوي التي تفوق الوصف، فإنها بدون هذا القوت لن تقدر أن تحيا بذاتها في فرحٍ وراحةٍ.
تحوي الطبيعة الإلهية خبز الحياة الذي قال: "أنا هو خبز الحياة" (يو 35:6)، و"الماء الحيّ" (يو 10:4)، و"الخمر الذي يفرح قلب الإنسان" (مز 15:104)، و"زيت الابتهاج" (مز 7:45)، وجميع أصناف طعام الروح السماوي المختلفة، ولباس النور السماوي الذي من عند الله[53].
القديس مقاريوس الكبير
* "صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا، إذ قيل لي كلَ يوم: أين إلهك؟" (مز 42 :3)، وبحق دُعيتْ الدموعُ هنا خبزًا، حيثُ الجوع إلى البرّ. "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يُشبعون" (مت 5 :6)، لهذا توجد دموع بمثابة خبزٍ، تقَّوي وتسند قلبَ الإنسان (قابل مز 104 :15)، ومقولة الجامعة المأثورة تناسب المقامَ هنا أيضًا "الِق خبزك على وجه المياه" (جا 11 :1 LXXلأن خبزَ السماء هناك، حيث مياه النعمة. حقا إن أولئك الذين تتدفق من بطونهم أنهار ماء حَّية (قابل يو 7: 38؛ 4 :10)، سوف ينالون عون الكلمة (الإلهي) وتعضيده، وقوتًا من نوعٍ سري (باطني). أيضًا هناك هذا الخبز الحي، (قابل يو 6 :51)، حيث هنا مياه الدموع والبكاء، بكاء التوبة. لأنه لهذا كُتب: "بالبكاء يأتون، وبالعزاء أعيدهم" (إر 31 : 9LXX ). لهذا طوباهم الذين خبزهم الدموع؛ لأنهم يستحقون أن يضحكوا؛ لأنه "طوبى للباكين" (لو 6 :21)[54].
* لنتعلم أي طعام وإنتاج يُقَدِّمه الله وليمة لمن يجد فيهم مسرته. إنه يجد مسرته في هذا: إن كان أحد يموت عن خطيته، ويمحو معصيته، ويُحَطِّم آثامه ويدفنها. فالمُرّ يمثل دفن الموتى (نش 5: 5)، لكن الخطايا هي موتى، إذ لا تقدر أن تحوي عذوبة الحياة. علاوة على هذا، فإن جراحات الخطاة تُرَطَّب بدهن الكتاب المقدس، والطعام الأقوى الذي للكلمة هو الخبز (مز 104: 15)، وهو يُغمَس بكلمة الله العذبة مثل العسل[55].
القديس أمبروسيوس
* يخبرك أحكم رجل، أي سليمان، قائلًا: "أعطوا مسكرًا لهالكٍ وخمرًا لمرّي النفس، يشرب وينسى فقرهُ ولا يذكر تعبهُ بعدُ" (أم 6:31-7). بمعنى أن أولئك الذين قد صاروا في ضيق الحزن والأسى بسبب أعمالهم الماضية، أسندهم بأفراح المعرفة الروحية بوفرة وذلك مثل "خمرٍ تفرّح قلب الإنسان لإلماع وجههِ أكثر من الزيت، وخبز يسند قلب الإنسان" (مز 15:104). هؤلاء أصلحهم بالشرب القوي لكلمة الخلاص، لئلا يغرقوا في الحزن المستمر، ويسقطوا في اليأس الذي للموت، لئلا يبتلعوا من الحزن المفرط (2 كو 7:2). أما الذين لا يزالون في برود واستهتار، غير مضروبين بالحزن القلبي، هؤلاء نقرأ عنهم "كلام الشفتين إنما هو إلى الفقر" (أم 23:14)[56].
الأب نسطور
* إنني أقول أن هذا هو الناموس المنغرس في أعضاء البشر جميعًا الذي يحارب ناموس أذهاننا ويعوقها عن رؤية الله. إذ بعدما لُعِنَتْ الأرض بأعمالنا بعد معرفتنا للخير والشر، صارت تنبت حسك الأفكار وأشواكها التي تخنق بذور الفضائل الطبيعية، حتى أنه بغير عرق جبيننا لا نستطيع أن نأكل خبزنا "النازل من السماء" (يو 33:6)، والذي "يسند قلب الإنسان" (مز 15:104). لذلك فإن البشر عامة، بغير استثناء، خاضعون لهذا الناموس[57].
الأب ثيوناس
* إذ قد تعلَّمنا هذه الأشياء، وتأكدنا تمامًا أن ما يبدو خبزًا ليس خبزًا، ولو أنه مُساغ في الطعام لكنه جسد المسيح. وأن ما يبدو خمرًا ليس خمرًا ولو أن مذاقه كذلك لكنه دم المسيح. وعن هذا ترنم داود البار قديمًا "لإخراج خبز تفرح قلب الإنسان لإلماع وجه أكثر من الزيت" (مز 104: 15).
"قوِّ قلبك باشتراكك روحيًا، واجعل وجه نفسك يلمع"، ومع جعل وجهك مكشوفًا بضميرٍ طاهرٍ تعكس كمرآة مجد الرب، وتنتقل من مجدٍ إلى مجدٍ في المسيح يسوع ربنا، الذي له المجد والكرامة والقوة من الآن وإلى دهر الدهور. آمين[58].
القديس كيرلس الأورشليمي

* لم يخلق الله الخمر إلا ليفرح قلب الإنسان كما قال النبي، أما السكيرون فيضيعون بهجته.
* يحدث السُكر بالتأكيد ليس من الخمر بل من الإفراط فيه. لقد وُهب الخمر لنا لا يغرض سواء الصحة الجسدية، لكن هذا الهدف أيضًا يُعاق بالاستخدام المفرط[59].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بعد أن انتهت وجبة الفصح الرمزي، وأَكَلَ لحم الفصح مع تلاميذه، أخذ الخبز الذي يقوي القلوب البشرية (مز 104: 15)، وانتقل إلى السرّ الحقيقي للفصح. بكونه مثل ملكي صادق، كاهن الله العلي الذي كان رمزًا للمسيح بتقديم الخبز والخمر (تك 14: 18)، هكذا صبغ هذا بجسده الحقيقي ودمه[60].
* خمر الجسد لا يُبهج قلب الإنسان بل يستبد به ويجلب جنونًا. مكتوب أنه ليس للملوك أن يشربوا خمرًا (أم 31: 4). يكتب أيضًا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا (رو 14: 21)، ومع هذا قيل لنا إن ذاك الخمر يُفَّرح قلب الإنسان (مز 104: 15). هذا يعني الخمر الروحي، الذي إن شربه أحد يصير للحال ثملًا[61].
القديس جيروم
* من يقتات بكلمة المسيح لا يحتاج إلى طعام أرضي، ولا من يقدر أن يقتات بخبز المخلص يشتهي طعام العالم. الرب له خبزه، بالحقيقة الخبز هو المخلص نفسه، كما علَّمنا قائلًا: "أنا هو الخبز النازل من السماء" (يو 6: 41). عن هذا الخبز يقول النبي: "وخبز يسند قلب الإنسان" (مز 104: 15) [62].
الأب مكسيموس أسقف تورين
* بلياقة تُدعَى الدموع خبزًا هناك حيث توجد مجاعة للبرّ. "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يُشبعون" (مت 5: 6). هكذا هناك توجد الدموع التي هي الخبز الذي يقوِّي قلب الإنسان (مز 104: 15). حكمة الجامعة أيضًا تتناسب مع هذا النقاش، "أرم خبزك على وجه المياه" (جا 11: 1). لأن خبز السماء يوجد هناك، حيث توجد مياه النعمة. إنه بحق هؤلاء الذين تفيض من بطونهم مياه حيَّة (يو 7: 38) يتقبلون عون الكلمة ويقتاتون على طعامٍ سري[63].
القديس أمبروسيوس
في مباركة إسحق لابنه يعقوب قال له: "فليُعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر" (تك 27: 28). وجاء تعليق القديس كيرلس الكبير على هذه البركة موضحًا ما تشير إليه الحنطة والخمر.
* هذه الأمور تليق بالمسيح، وأيضًا تليق بالشعب الجديد. "فليُعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر" (تك 27: 28). ندى السماء ودسم الأرض، أي الكلمة قد أُعطي لنا بواسطة الآب، مع شركة الروح. لهذا صرنا شركاء الطبيعة الإلهية خلاله (2 بط 1: 4). وقد تسلمنا كثرة من الحنطة والخمر، أي من القوة والسعادة. بالحقيقة يقال إن الخبز يقوي قلب الإنسان، والخمر يفَّرح قلبه (مز 104: 15). الخبز هو رمز للقوة الروحية، والخمر للقوة الجسمانية. وهما يُعطيان للذين هم في المسيح. بأية طريقة أخرى نصير راسخين وثابتين في التقوى، لا نتزعزع، مدركين التفكير في الأمور الصالحة؟ بالحقيقة وهب لنا السلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19). هذا كما اعتقد معنى الكثير من الحنطة. لكننا تسلمنا أيضًا خمرًا، إذ نفرح في الرجاء (رو 12: 12)، ونصير مبتهجين (مز 126: 3)، حسب الكتاب المقدس. نحن نتوقع المساكن السماوية، الحياة الأبدية في عدم فساد، وأن نملك مع المسيح. بهذا فإن هذه الأمور قيلت لأجلنا[64].
القديس كيرلس الكبير
تَشْبَعُ أَشْجَارُ الرَّبِّ أَرْزُ لُبْنَانَ الَّذِي نَصَبَهُ [16].
يرى القديس أغسطينوس أن خمر السيد المسيح وزيته وخبزه يبلغ إلى رجال الدولة والنبلاء والملوك بكونهم أشجار السهول فيشبعوا. أولًا يشبع المتواضعون وبعد ذلك أشجار أرز لبنان، التي يغرسها (الرب)، الأرز التقي، أي المؤمنين الورعين، لأنه هو الذي يغرسهم، لذلك يقول "الذي نصبه".لأن الأشرار أيضًا يدعون أرز لبنان حيث قيل: "يكسر الرب أرز لبنان" (مز 29: 5).
فمن جهة لبنان هي جبل يوجد عليه أشجار الأرز التي تعيش طويلًا، وهي أشجار رائعة. ومن جهة أخرى فإن "لبنان" تفسيرها "لمعان"، هذا اللمعان يبدو على العالم الحاضر الذي يضيء متألقًا بمعرياته. هذه هي أشجار أرز لبنان.
يدعو المرتل أرز لبنان "أشجار الرب"، تُعتَبر "مجد لبنان" (إش 35: 2؛ 60: 13)، تتسم بالقوة (مز 29: 4-5)، والعلو الشامخ (عا 2: 9)، مع روعة الجمال (نش 5: 15). قيل إن الصديق ينمو "كأرز في لبنان" (مز 92: 12).
مازال السوريون يدعونه إلى اليوم "أرز الرب".
حَيْثُ تُعَشِّشُ هُنَاكَ الْعَصَافِيرُ.
أَمَّا اللَّقْلَقُ فَالسَّرْوُ بَيْتُهُ [17].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية "البلشوم" عوض اللقلق، وجاء في جيروم "مالك الحزين Heron". ويرى القديس جيروم أنه طائر ليس له استقرار في عشٍ معين، وإنما أينما حل الليل ينام في أي موضع. وأنه يدخل عادة في معركة مع النسر، ملك الطيور، ويغلبه. إنه يمثل الراهب الذي ليس له قلاية خاصة به، يحارب الشيطان وينتصر عليه.
إن كان شجر الأرز يشير إلى الصديقين، فإنهم يحتضنون صغار النفوس والضعفاء "العصافير". كما يحتضنا الله ويترفق بضعفنا، هكذا يليق بنا أن نحتضن إخوتنا.
أما السرو في فلسطين، فهو عالٍ ينافس الأرز، وهو دائم الأخضرار.
* بهذا القول يخبر النبي بأن الطيور كما تختلف في مأكولاتها كذلك تختلف في أعشاشها.
أيضًا يقول "عصافير" عن النفوس التي حاول الشيطان أن يصطادها، وكسر الرب فخاخه ونجَّاها من الهلاك. هذه العصافير المعنوية تُعَشِّش على الأشجار العالية التي هي التعاليم الرفيعة، وتقوت فراخها بتناولها ما استفادته لأتباعها.
أما اللقلق (الهيرودي) وهو طير يعشش في أعلى الأشجار، وإذا وقع في شباك الصياد يُمَزِّقها ويهرب، وإذا صار مألوفًا لأحد الناس يتبعه ولا يفارقه. هكذا كان رسما لبطرس الرسول الذي سقط في شرك الأفكار، لكنها مزقها وهرب، فصار رسولًا ملازمًا اتباع المسيح.
الأب أنسيمُس الأورشليمي

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
الْجِبَالُ الْعَالِيَةُ لِلْوُعُولِ.
الصُّخُورُ مَلْجَأٌ لِلْوِبَارِ [18].
الوعول هي ذكور الأيائل.
غالبًا ما يُقَدِّم الله لكل نوع من المخلوقات ما يناسبه فالعصفور الذي يتسم بالضعف وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه يُسكنه في وسط فروع الأشجار، خاصة الأرز بكونه أشجار الرب. وكأن الله خلق الأرز بجماله وإمكانياته الكثير من أجل العصفور الذي ليس له من يدافع عنه. واللقلق يجد بيته غالبًا في شجر السرو. أما الوعول (تيس الجبل Ibex) السريعة الحركة بطريقة عجيبة ذات النشاط القوي فجعل لها الجبال العالية مسكنًا تجري فيه بحرية وقوة، أما الوبار (نوع من الأرانب) إذ تتعرض لهجوم الكثير من الحيوانات المفترسة يجعل الصخور ملجأ لها.
إن كان الله قد أعد للطيور والحيوانات ما يناسبها فكم بالأكثر يهتم بالإنسان، وبكل احتياجاته مع حمايته من الشيطان وقواته وكل من يُسَبِّب له أذى؟!
إنه يُقَدِّم لنا نفسه صخرة الدهور، نختبئ فيه فلا تقدر رياح العالم وعواصفه أن تُحَطِّمنا، مادمنا في داخله مستترين.
يقول القديس جيروم: [على هذه الصخرة أسّس الله كنيسته، ومنها استمدّ الرسول بطرس اسمه: "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" (مت 16: 18). على هذه الصخرة لا يوجد أثر للحيّة، لذا يقول النبي في ثقة: "وأقام على صخرة رجليّ" (مز 40: 2)، وفي موضع آخر يقول: "الصخور ملجأ للوبار" (مز 104: 18). فالوبار يلجأ إلى الصخور بكونه خائفًا... (وموسى النبي إذ كان كالوبار صغيرًا) قال له الرب بعد خروجه من أرض مصر: "إني أضعك في نقرة من الصخرة، وأسترك بيدي حتى أجتاز ثم أرفع يدي فتنظر ورائي" (خر33: 22-23)[65].]
هكذا إذ نشعر أننا صغار في حاجة إلى صخرة نلتجئ إليها نتقدَّم إلى المسيح يسوع صخر الدهور نحتمي فيه، وعليه يقوم بناؤنا الروحي، هاربين من الحيَّة التي لا تقدر أن تجد لها موضعًا في الصخرة الحقيقيّة فلا تقترب إلينا.
* هذا الحيوان (الوعل) يقتل الحيات ويأكلها. لهذا فالجبال هي المسكن اللائق بالذي يقتل الحية الحكيمة، أي في جنة الفردوس، الحيَّة التي كانت أحكم كل الحيوانات، وقد خَدعتْ حواء[66].
القديس جيروم
* إن سُئلتَ: لماذا صارت الجبال ملجأ، تقول إن الله جعلها مهربًا وسترًا للحيوانات الضعيفة متى طاردتها الحيوانات الأقوى منها. الإيل تخاصم الحيات وتهلكها. هكذا رسل المسيح كانوا يخاصمون اليهود الذين قيل عنهم إنهم حيات طائرة وأولاد أفاعي. لذلك شُبَّه الرسل بالإيل الذين بسرعة عدوهم ارتفعوا إلى أعالي التعاليم. وأما من كان ضعيف القوة من المؤمنين وصغير المنزلة، فملجأه الصخرة التي هي ربنا وإلهنا يسوع المسيح.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* لاحظنا فعلًا وحقًا أن الوعول تشير إلى القديسين الذين جاءوا إلى هذا العالم لكي يبيدوا سُم الحيَّة. لكن لنرى ما هي الجبال العالية التي تبدو محفوظة للوعول وحدها، والتي لا يُمكن أن يتسلقها من لا يكون وعلًا. في اعتقادي الشخصي إنها معرفة الثالوث، هي التي تُدعَى بالجبال العالية، فما من أحدٍ يبلغ هذه المعرفة ما لم يكن وعلًا[67].
العلامة أوريجينوس

صَنَعَ الْقَمَرَ لِلْمَوَاقِيتِ.
الشَّمْسُ تَعْرِفُ مَغْرِبَهَا [19].
في سفر التكوين تحدَّث عن خلقة الشمس والقمر في اليوم الرابع، أما هنا فيكشف عن غاية خلقتهما، حيث يقيم الله فصول السنة لخدمة الإنسان. لقد عيَّن الله النهار والليل كما فصول السنة... كلها لنفعنا.
بينما يُكرِم العالم الوثني الشمس، حتى أقام الكثير من الأمم منها إلهًا، كما فعل المصريون، إذ عبدوا الإله رَعْ، وتطلع البعض إلى الليل كما لو كان رمزًا للشر، فإن المرتل يرى في عناية الله عجبًا، فيُقَدِّم القمر عن الشمس حتى لا نستخف به.
هذا وقد اهتم الله أن يجعل عيدًا شهريًا يرتبط برأس الشهر والقمر، فالنهار والليل لخدمتنا، يمكن أن يكونا مُقَدَّسين لله. هذا وبعض الأعياد كالفصح والخمسين (الأسابيع) يحكمها أيضًا القمر.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن القمر يشير إلى اليهود، وقد صُنع لتحديد وقت معين، لأن الديانة اليهودية تقوم بدورها إلى حين مجيء السيد المسيح شمس البرّ. وأن الشمس تعرف غروبها، إذ يعرف السيد المسيح شمس البرّ يوم آلامه وصلبه وموته.
يُقَدِّم لنا الأب أنسيمُس الأورشليمي لماذا ذكر موسى النبي وأيضًا داود النبي هنا الحديث عن الأشجار قبل الحديث عن الشمس والقمر والكواكب. يقول: [إن الجهال من الناس عندما ينظرون النبات ينمو ويزهر من حركة الكواكب يتوهمون أن الكواكب هي التي خلقت الأشجار، لذلك قدَّم النبي إبداع الأشجار على الكواكب ليُعَرِّفهم بأن الله وحده هو خالق كافة الأشياء، وبأمره تُعِين الخلائق بعضها بعضًا وتساعدها.]
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الجبال العالية للآيائل، الصخور ملجأ للأرانب".
* الآيائل هم الأقوياء الروحيون الذين يعبرون في حياتهم فوق كل المناطق المملوءة أشواكًا في الأدغال والغابات. "الذي يجعل قدمي كالإيل، وعلى المرتفعات يقيمني" (مز 18: 33). ليتمسكوا بالجبال العالية، وصايا الله المرتفعة؛ ليفكروا في الأمور العلوية، ليتمسكوا بالأمور التي في الأسفار المقدسة. ليتبرروا في الأعالي، فإن الجبال العالية هي للآيائل.
ماذا بالنسبة للحيوانات المتواضعة؟ ماذا بالنسبة الأرانب البرية؟ ماذا بالنسبة للقنفذ؟ الأرانب البرية صغيرة وضعيف، القنفذ أيضًا مملوء بالأشواك. واحد جبان والآخر مُغَطَّى بالأشواك. ماذا تعني الأشواك إلا الخطاة؟ من يخطئ يوميًا، حتى وإن كانت ليست خطايا عظيمة، مُغَطَّى بأشواك صغيرة. في ضعفه هو أرنب بري وفي تغطيته بالخطايا الصغيرة هو قنفذ، ولا يستطيع يتمسك بتلك الوصايا العالية الكاملة. لأن "الجبال العالية للآيائل". ماذا إذن هل تهلك هذه الحيوانات؟ لا، فإن "الصخرة ملجأ للقناقذ وأرانب البرية". فإن الرب ملجأ المساكين[68].
* "صنع القمر للمواقيت". نفهم روحيًا الكنيسة التي تنمو من الحجم الصغير وتكبر كما من موت هذه الحياة، إذ تقترب نحو الشمس (ربنا يسوع). لستُ أتحدث عن هذا القمر المنظور للعين. وإنما إلى ما يعنيه هذا الاسم.
عندما كانت الكنيسة في الظلمة، عندما لم تكن قد ظهرت بعد، كان البشر في ضلال، وكان يُقال: هذه هي الكنيسة، هنا المسيح. هكذا. عندما كان القمر مظلمًا. فوقوا سهامهم ليرموا الأبرار في قلوبهم" (راجع مز 11: 2). كم يكون أعمى ذاك الذي يضل بينما القمر في كماله؟ "صنع القمر للمواقيت"[69].
القديس أغسطينوس
* ما قاله المرتل: "الشمس تعرف مغربها" ، ألا يُؤخذ عن شمس البّر بأشعته الشافية الذي نقرأ عنه في سليمان أن الأشرار سيقولون: "الشمس لم تشرق لنا!" لهذا فإن المسيح هو شمس البّر الحقيقي، يعرف ساعة مغربه، حينما أسلم ذاته للآلام لأجل خلاصنا، لأنه لما صُلِبَ استبدت الظلمة والليل بنفوس تلاميذه[70].
الأب قيصريوس أسقف آرل


تَجْعَلُ ظُلْمَةً، فَيَصِيرُ لَيْلٌ.
فِيهِ يَدِبُّ كُلُّ حَيَوَانِ الْوَعْرِ [20].
من أهم مبادئ الغنوسيين "الثنائية"، فيحسبون أنه يوجد الله الكائن الأسمى، كما يوجد الخالق للمادة، والتي في نظرهم عنصر ظلمة، لذا فالخالق بالنسبة لهم إله شرير، أو أدنى من الكائن الأسمى. هنا لم يذكر المرتل أن الله خالق الليل أو الظلمة إنما أوجدها بغياب الشمس أو النور. فالظلمة ليس لها كيان في ذاتها، ولا تحتاج إلى خلقة، إنما هي غياب النور.
يتحدث المرتل هنا عن الظلمة والليل بكونهما من عطايا الله. فإنهما ضروريان لحياة الإنسان لأجل راحته، وأيضًا للحيوانات والنباتات. فبعض الحيوانات خاصة حيوانات البرية المفترسة لا تُمَارِس حياتها في النهار، بل غالبًا ما تختبئ في الكهوف والعرين، لتخرج في الليل تبحث عن الفريسة.
يرى القديس أغسطينوس أن شمس البرّ إذ يغرب في حياة الإنسان تحل الظلمة في أعماقه، ويدب كل حيوان الوعر، أي يخرج الشيطان كأسدٍ ليفترس هذه النفس. وكما قال السيد المسيح لبطرس: "سمعان، سمعان، هوذا الشيطان يطلبكم لكي يُغَرْبلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (لو 22: 31-32). عندما أنكر بطرس سيده ثلاث مرات (مت 26: 70-71)، ألم يكن بين أنياب الأسد؟
كثيرًا ما يتحدث الآباء مثل القديس يوحنا الذهبي الفمعن بركات الليل، والسماح بغياب الشمس لأجل راحة الإنسان واسترداد طاقته بالنوم. فيحسبون الليل عطية إلهية نافعة للحياة.
* إذ تُشرق الشمس، ينسحب كل وحشٍ مفترسٍ، ويلجأ إلى عرينه. هكذا أيضًا عندما تشرق الصلاة مثل شعاع الشمس، تشرق من ألسنتنا، وتخرج من أفواهنا، يستنير ذهننا، وتهرب الأهواء المتوحشة التي تحطم عقلنا وتلجأ إلى عرينها. ذلك متى كانت صلاتنا يقظة، وتصدر عن نفس ساهرة وعقلٍ صاحٍ. متى كان الشيطان حاضرًا فإنه ينسحب عندما نصلي[71].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بقوله: "تجعل ظلمة فتصير ليل" [20]، يبكم شيعة مرقيون الذي زعم أن النور خلقه الإله الصالح، وأما الظلمة فخلقها الشيطان...
الظلمة ليست خلقة جوهرية بل هي غياب النور. كما أن الشر هو غياب الخير. لذلك لم يقل "خلق الظلمة"، بل قال "جعل الظلمة"، كما كتب موسى، قائلًا: "فصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلًا" (تك 1: 4-5).
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* بالمعنى الرمزي، عندما يغيب شمس البرّ عنا، نصير في ظلمة تامة، عندئذ تهجم علينا الحيوانات ويزأر الأسد في البرية لكي يخطفنا ويفترسنا[72].
القديس جيروم
* لا يَقِلُ الليل عن النهار في منفعته وخيره للبشرية... فحين نحظى بالكثير من ضوء النهار نحتاج أيضًا إلى سكون الليل. وحين نشبع بهدوء الليل نشتاق إلى نور الصباح وضيائه... يقود الليل الناس إلى بيوتهم، لينعموا بالنوم الحلو اللذيذ، ويسحب أيضًا الحيوانات المُفترِسة للغذاء ويعطيها الحرية والمَرعى[73].
ثيؤدوريت أسقف كورش

* إذا أراد ابن الظلمة أن يجعلنا أبناء الظلمة مثله (1 تس 5: 5) موقعنا في النوم، سوف يضغط علينا بقوه عندما يسود الليل "يجول" (1 بط 5: 8) كما يقول الكتاب كالحيوان المفترس (مز 104: 20) وبكونه ظلمة ومحبًا لها يرانا في نور الصلاة ساهرين مع الرب متمثلين بملائكة النور، "بأغاني روحية مترنمين" (أف 5: 19)، مُعطِين المجد لله خالقنا، الشيطان وهو يحترق بغيرة غاضبة ومملوء حسدًا لمنظر البشريين الذين يتشبهون بسهر الملائكة، سوف يغمرنا بثقل النوم، مشاركًا لنا في ظلمته[74].
مارتيريوس - Sahdona
* الزمن الذي فيه تُهاجَم نفوسنا هو ليل وظلمة دائمة. إنه زمن الليل كما يخبرنا النبي حينما تحاول حيوانات البرية أن تقتات طعامًا دنسُا بافتراسها قطعان الرب[75].
القديس غريغوريوس النيسي

الأَشْبَالُ تُزَمْجِرُ لِتَخْطُفَ،
وَلِتَلْتَمِسَ مِنَ اللهِ طَعَامَهَا [21].
مع ما للأشبال من قوة، إلا أنها تلتمس طعامها كما من الله نفسه.
* يريد ابن الظلمة أن يجعلنا أبناء الظلمة مثله، فنغوص في سُبات عميق، ويفترسنا بشدةِ، خصوصًا وقت الظلمة، حينما يملك الظلام، فيخرج مهرولًا ليفترس خلسة. خصوصًا وكما يقول الكتاب المقدس عن الوحش المفترس (مز 104: 21) إنه هو نفسه الظلمة، محب الظلام، لكنه يرانا في نور الصلاة ساهرين مع ربنا، متشبهين بملائكة النور بتسابيحنا الروحية وأغانينا، نمجد الله خالقنا. إنه يلتهب بغيرة متقدة، ويمتلئ حسدًا، إذ يرى البشر يمارسون سهر الملائكة، فيحاول أن يغمسنا في ثقل النوم لكي نشاركه ظلمته[76].
الأب مرتيروس السرياني[77]
* عند صُلِبَ المسيح، حيث استبدت ظلمة الشك بنفوس رسله، راحت تلك الوحوش الروحية تجول لتفترس النفوس. وبينما هي تجول تشرق الشمس فتنسحب. ما هو معنى هذا؟ ما معنى أن الشمس تشرق فتنسحب تلك الوحوش، إلا أن المسيح قد قام، فاجتمعت الوحوش الروحية معًا؟ "وفي مآويها تربض" [22] حقًا عندما أشرقتْ الشمس بدأ نور الإيمان يسطع شرقًا من جديد في الرسل، أما تلك الوحوش الروحية فقبعت في مآويها، أي في قلوب اليهود[78].
الأب قيصريوس أسقف آرل


تُشْرِقُ الشَّمْسُ فَتَجْتَمِعُ
وَفِي مَآوِيهَا تَرْبِضُ [22].
العجيب في محبة الله أنه إذ تشرق الشمس ينطلق الإنسان للعمل بعد فترة الراحة والسكون أثناء الليل. وعلى العكس فإن الحيوانات المفترسة بشروق الشمس ترجع إلى أماكن سكناها لتجتمع معًا وتستريح وهذا من عناية الله الفائقة، حتى لا تتعرض حياة الإنسان للمخاطر.
إذ يشرق شمس البرّ في حياة المؤمن تجتمع الشياطين معًا وتختفي في جحورها، لأنها تفقد سلطانها على المؤمن الحقيقي.
* الإنسان الذي يسقط في خطية يلزمه ألا يكتئب، بل يتوب. فإن شمس البرّ ستشرق مرة أخرى، وكل الحيوانات المفترسة تهرب، ومعها خطاياه، وسيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل السقوط[79].
القديس جيروم

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
الإِنْسَانُ يَخْرُجُ إِلَى عَمَلِهِ،
وَإِلَى شُغْلِهِ إِلَى الْمَسَاءِ [23].
سمح بحدوث الظلمة لأجل راحة الإنسان ودوائه. ولكي تكون فرصة للوحوش أن تخرج للصيد، ويفزع منها الأشرار ولا يسرقوا. وجعل أيضًا الوحوش تكره نور الشمس حتى لا تخرج في النهار، وتؤذي الإنسان الذي يخرج إلى عمله منذ شروق الشمس إلى المساء.
* ماذا تفعل يا إنسان الله؟ يا كنيسة الله؟ ماذا عنك يا جسد المسيح الذي رأسه في السماء؟ ماذا تفعل يا إنسان في الاتحاد معه؟ لذلك فليعمل الأعمال الصالحة في أمان سلام الكنيسة، ليعمل حتى المنتهى[80].
القديس أغسطينوس
* بعد أن يُشرق شمس البرّ يلزمنا أن نرجع إلى عملنا حتى المساء، أي إلى يوم موتنا بالطبع. إنه لأمر في غاية الأهمية أن نتبع أعمال البرّ في كل دقيقة من حياتنا[81].
القديس جيروم
* بعد هذا يتقدَّم المرتل فيقول: "الإنسان يخرج إلى عمله، وإلى شغله إلى المساء" [23]. هذا الإنسان الذي يخرج إلى عمله يُفهم أنه هو الكنيسة جسد المسيح، الذي كان آنذاك يتكون من التلاميذ وحدهم. قبل قيامة المسيح، إذ سألتْ الجارية بطرس أنكر الرب ثلاث مرات، لكن إذ قامتْ الشمس، أعني عند قيامة الرب، تقوى بطرس، فأراد أن يُجلَد ويُقتَل من أجل اسم المسيح. من ثَمَّ عند قبول نعمة الروح القدس يخرج الإنسان إلى عمله، أي تبدأ كنيسة المسيح في أداء عملها. وهي لا تبدأ فقط بل وتُكَمِّل العمل "إلى شغله إلى المساء"، أي حتى نهاية العالم. ولكي يعزي هذا إلى نعمة الله وليس إلى جهاد الإنسان يذكر فورًا: "ما أعظم أعمالك يا رب!" حقًا إنها أعماله وليست استحقاقاتنا. يكمل المرتل: "كلها بحكمةٍ صُنعت"، أي أكملتَ كل شيء بالمسيح قوتك وحكمتك، وأيضًا: "ملآنة الأرض من خلائقك"[82].
الأب قيصريوس أسقف آرل

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. امتلاء الأرض بغناه [24-30]

الرب هو سيد الحياة والموت، عليه تعتمد الدورة من حياة إلى موت ثم حياة جديدة. ما أعجب حكمته المُعْلَنة في كل خليقته وأعماله. ليس من صدفة عمياء كما يظن الإنسان في ظلمة فكره البشري. كل الخليقة تحمل لمسات خالقٍ قديرٍ مُحبٍ ومُدَبِّر الأمور. فالأرض ملآنة من غناه، تحمل غنى نعمته الفائقة وتكشف عن عظمة مجده. أما عن الإنسان فلماذا يخاف من الشيطان وقد جعله ألعوبة يسخر به، وقد تمتع البشر بروح الله الذي يجدد وجه الأرض[83].
مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ!
كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ.
مَلآنَةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ [24].
* ما أعظم أعمالك يا رب! بحق عظيمة وسامية...! "كلها بحكمة صنعت"؛ لقد صنعتَ هذه كلها في المسيح[84].
القديس أغسطينوس
* يفيض قلب النبي بالامتنان. إذ لا يجد كلمات كافية يُسَبِّح بها الرب يصرخ: "ما أعظم أعمالك يا رب! أعمالك تفوق كل فهمٍ بشري. كلها بحكمةٍ صنعت"؛ في ربنا يسوع المسيح إذ هو حكمة الله. وذلك كقول الرسول، لأن به كل الأشياء خُلقتْ (كو 1: 16). "ملآنة الأرض من خليقتك". بالحقيقة حقًا كل أعمال الرب ترتبط بالحكمة. عندما ندرك أن النملة تعرف أن الشتاء قادم فتخزن طعامها، والناموسة وهي مخلوق تافه لها عينان وبطن وبقية الأعضاء مثلنا، وأيضًا البرغوث وكل المخلوقات الأخرى. وعندما نرى الفيل أيضًا، الحيوان الضخم هكذا بالمثل كما نحن... والنحلة تصنع عسلًا وشمعًا. ألا تستحق هذه العجائب الدهشة، أليست هذه مملوءة حكمة؟[85]
القديس جيروم
* الله هو الينبوع السرمدي لحكمته اللائقة به، إن كان الينبوع سرمديًا، فالحكمة أيضًا يلزم أن تكون سرمدية. فإنه بها خُلقتْ كل الأشياء، كما يقول داود في المزمور بالحكمة صنعت الكل. ويقول سليمان: بالحكمة كوَّن الرب الأرض، وبالفهم له الكلمة. وكما يقول يوحنا: "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان"[86].
القديس أثناسيوس الرسولي
* الحكمة الحقيقية والمشورة - في نظري - ليست إلا الحكمة التي تدرك أنها قبل المسكونة. إنها الحكمة التي بها خلق الله (الآب) كل شيء، كقول النبي: "كلها بحكمةٍ صُنعت" (مز 104: 24)، و"المسيح هو قوة الله وحكمة الله" (1 كو 1: 24)، به صار كل شيء، ووُضع في تدبير[87].
* من هو باني المعبد، الذي وضع أساساته على الجبل المقدس، أي على الأنبياء والرسل؟ هو بناه كما يقول الرسول (أف 2: 20) على أساس الرسل والأنبياء، وهم حجارته الحية. وينسجم محيط الحجارة الدائري مع الجدران حسب ما يقوله النبي زكريا (زك 9: 16). وتوضع بترتيب خاص يجعلها وحدة كوحدة الإيمان وبنموهم في رابطة السلام قد يكوِّنوا معبدًا مقدسًا، مسكنًا للرب في الروح. يشير سليمان في حكمته إلى الحكمة الحقيقية ولا يعارض أي شخص يدرس التاريخ والحق هذه حقيقة. يشهد التاريخ أن سليمان فاق حدود الحكمة البشرية. حيث حفظ المعرفة لكل الأشياء في قلبه. فسبق جميع من عاشوا قبله ولم يماثله أي واحد ممن عاشوا بعده. إلا أن الله هو أصل القوة والحق والحكمة ويقول داود: "ما أعظم أعمالك يا رب. كلها بحكمة صنعت" (مز 104: 24). ويُفَسِّر الرسول المزمور السابق قائلًا: "الكل به وله قد خُلق" (كو 1: 16) أي أنها خُلِقَتْ من خلال حكمة الله[88].
* ذاك الذي جوهره يفوق كل طبيعة، غير المنظور ولا مُدرَك، يمكن رؤيته وإدراكه بالحكمة التي تنعكس في الكون... وحينما نتأمل نظام الخلق لا نُكوِّن صورة عن الجوهر، بل عن حكمة ذاك الذي صنع كل شيء بالحكمة[89].
القديس غريغوريوس النيسي

* كل واحدٍ من الحكماء يشارك في المسيح، قدر ما له القدرة على الحكمة، مادام المسيح هو الحكمة. ذلك كما أن كل واحدٍ له قوة يقتني قوة أعظم قدر ما يشارك المسيح، مادام المسيح هو القوة[90].
العلامة أوريجينوس
* إذ نحني رُكَبنا بوقار صالح أمام صانع العوالم، أقصد عالم الحس والفكر، ما يُرَى وما لا يُرَى، فإنك تُمَجِّد الله بلسان مقدس، يلهج بالمعروف، وشفتيْن لا تسكتان، وقلبٍ لا يَمِّل، قائلًا: "ما أعظم أعمالك يا رب. كلها بحكمة صَنَعْتَ" (مز 104: 24)، يليق بك الإكرام والمجد والجلال من الآن خلال كل الدهور. آمين[91].
القديس كيرلس الأورشليمي

* ما من عمل من أعماله يتم إلا وقد صنعه بالحكمة، لأنه يسوس كل الأمور النافعة، كل في حينه اللائق وبطريقة مناسبة[92].
القديس كيرلس الكبير

* ما هو اللسان الذي يمكنه أن يُرَنِّم بتسابيح الخالق كما يليق؟ أي حديث يمكن بالحق أن يفي وصف خالقنا؟ أي كلمات يمكنها أن تصف بدقة أعضاء النطق؟ من تبلغ به الحكمة أن يدرك بالكامل حكمة الخالق؟[93]
ثيؤدورت أسقف كورش
* أي لغة تليق بالحديث عن عجائب الخالق؟ أي أذنٍ تقوى على سماعها؟ أي وقتٍ يكفي لإدراكها؟ لنَقُلْ إذن مع النبي: "ما أعظم أعمالك يا رب، كلها بحكمةٍ صنعت![94]"
* هل عبر اليوم؟ أشكر ذاك الذي قدَّم لنا الشمس لخدمة عملنا النهاري، ويهبنا نارًا لكي تنير الليل وتخدم احتياجاتنا الأخرى في الحياة. ليت الليل أيضًا يوحي لنا بما يدفعنا للصلاة.
عندما تتطلع إلى السماء وترى جمال النجوم صلِّ إلى رب كل الأشياء المنظورة، خالق المسكونة الذي بحكمة صنع الكل (مز 104 :24).
وعندما ترى كل الطبيعة تغُط في النوم، مرة أخرى أسجد لذاك الذي حتى بغير إرادتنا يعتقنا من ضغط العمل المستمر، وبفترة راحة صغيرة يردنا مرة أخرى إلي نشاط قوتنا.
لا تسمح لليل بأكمله أن يكون للنومِ لا تسمح لنصف عمرك أن ينقضي بلا فائدة في نوم ببلادة وسباتٍ. بل قسم وقت الليل بين النوم والصلاة. وليكن نومك الخفيف ذاته تداريب للتقوى. فإن أحلامنا أثناء النوم غالبًا ما تكون انعكاسات لأفكارنا في النهار[95].
القديس باسيليوس الكبير
* هل هناك جمال يفوق روعة السماء، إذ تتلألأ بأشعة الشمس، كأنها قد تلألأت بقطرة حب ملتهبة، تنير الأرض بعدد لا يُحصَى من النجوم، تقود الربابنة والمسافرين، كأنها تمسك بيدهم[96]...
أيّ شيء يفوق جمال السماء، وقد امتدت فوق رأسك تارة كغطاء طاهر شفاف، وأخرى كسهلٍ منبسطٍ تزينه الورود!
المتعة بجمال الورود نهارًا لا يفوق تأمل جمال السماء ليلًا وقد تلألأتْ بآلاف زهور النجوم التي لا تذبل!
إن كنتَ لا تسأم التأمل تستطيع أن تتطلع إلى عناية الله في شهود كثيرين: السحاب فصول السنة، البحار وما فيها، الأرض وما عليها...
هل يوجد أصغر من الفراشة وأحقر منها؟ أو مثل النمل أو النحل؟ ومع هذا فهذه جميعها تتحدث عن عناية الله وقدرته وحكمته!
من أجل هذا إذ تأهل النبي بالروح للتأمل في الخليقة في كليتها صرخ قائلًا: "ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت!" (مز 104: 24)
حقًا إن أهوية السماء خُلِقَتْ من أجلك... ترطب أجسامنا المُتعَبة وتُجَفِّف المناطق الوحلة، وتُخَفِّف حِدَّة الصيف، وتنمي الزروع، وتساعد على الإبحار الخ...
وإن أردت البحث في الليل فإنك تنظر فيه عناية الله القديرة، فإنه يُعِين جسدك المتعب، ويُهَدِّئ أعصابك المُجْهَدة... ينقذك من آلام النهار، واهتماماته المملوءة قلقًا... فمن يُحرَم من راحة الليل يخسر النهار، ومن لا يعطي لعقله هدوءًا واسترخاء يفسد عمله. هذا كله من أجلك يا إنسان[97]...
الآن وقد فهمتَ عناية الله أنها تفوق أشعتها ضياء نور الحياة، لا تفحصْ بفضول الأمور التي تعلو قامتك ولا تسلك فيما لا ينفعك... فوجودنا ذاته هو هبة معطاة لنا من قبيل حبه الفائق، إذ هو ليس محتاجًا إلى عبوديتنا[98].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هَذَا الْبَحْرُ الْكَبِيرُ الْوَاسِعُ الأَطْرَافِ.
هُنَاكَ دَبَّابَاتٌ بِلاَ عَدَدٍ.
صِغَارُ حَيَوَانٍ مَعَ كِبَارٍ [25].
كلمة "حيوان" هنا معناها "كان حي". فإن كان البحر الكبير أو المحيطات تُرعب الإنسان، فيشعر كأنه مقبرة عن يقتحمه، لكنه يحتضن دبابات صغيرة وكائنات حيَّة كبيرة وصغيرة، لا تُحصَى لا تقدر أن تعيش إلا في مياه البحار والمحيطات.
* يتحدث عن البحر بكونه مرعبًا. الفخاخ تزحف في هذا العالم، وتفاجئ المُهمِلين، إذن من يُحصِي هذه التجارب التي تزحف؟ إنها تزحف، لكن لنحذر لئلا تصطادنا فجأة. لتتطلع إلى الخشبة (الصليب) أيضًا ونحن في المياه وسط الأمواج نحن في أمان. لا نَدَع المسيح ينام، لا نترك الإيمان ينعس، إن نام فلنوقظه. إنه سيأمر الرياح، ويُهَدِّئ البحر (مت 8: 24-26). فستنتهي الرحلة ونفرح في وطننا. لأنني أرى في هذا البحر المُرعِب لا يزال يوجد غير مؤمنين، فإنهم يعيشون في مياه قاحلة ومُرَّة، لكنهم صغار وعظماء. فإننا نعرف هذا، كثير من الصغار في هذا العالم لا يزالوا غير مؤمنين، وأيضًا كثير من العظماء هم هكذا. إنهم مخلوقات حيَّة صغيرة وعظيمة في هذا البحر. أنهم يبغضون الكنيسة، واسم المسيح ثقيل عليهم. أنهم ثائرون لأنه لم يُسمَحْ لهم أن يطلقوا القسوة في أعمالهم التي هي في قلوبهم... لا تخافوا من الخطر![99]
القديس أغسطينوس
* "البحر أيضًا ضخم ومتسع". أليس هذا عن حكمة مدهشة أن يوجد فيه دبابات (زحافات) لا يُحصَى عددها، وأسماك من كل نوعٍ، العظيمة والصغيرة. هذه توجد في الأعماق، وهناك تُجَدَّد حياتها، بينما لو سقط إنسان فيها يموت؛ وعلى العكس إن خرجت هذه إلى الأرض تموت؟[100]
القديس جيروم
* الحكمة التي خلق بها الله كافة الأشياء هي ابنه الوحيد الذي به كان كل شيءٍ. وهو كلمة الله وقوته، وبه خلق الأرض وكل ملئها وسائر المخلوقات. وقد ذكر الأرض، لأن ابن الله طأطأ السماوات ونزل إلى الأرض، وجعل الناس خليقة جديدة، وأعاد خلقتهم بالإيمان الحقيقي والمعمودية المقدسة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* في هذا البحر العظيم المتسع تعيش كائنات بلا عدد (مز 104: 25)، من يقدر أن يصف روعة الأسماك التي تعيش فيه؟! من يقدر أن يتصور عظمة الحيتان وطبيعة الحيوانات البرمائية: كيف تعيش تارة على أرضٍ صماء وتارة أخرى وسط المياه؟!
من يستطيع أن يخبر عن أعماق البحار وسعتها وقوة أمواجها الهائلة؟! ومع هذا فهي تقف عند حدود مرسومة لها، إذ قيل: "إلى هنا تأتي ولا تتعدى، وهنا تتخم كبرياء لُججك" (أي 38: 11) فيُظهِر البحر الطاعة بوضوح، إذ يجري ليقف عند حدود الشاطئ في خطٍ واضح صنعته الأمواج، مُعلِنًا لناظريه أنه لا يتعدى الحدود المرسومة له[101].
القديس كيرلس الأورشليمي

* أضاف النبي كلماته: "هذا البحر الكبير الواسع الأطراف، هناك كائنات حيَّة (دبابات) بلا عدد". يُفهَم البحر بأنه العالم، المملوء بالعواصف والأمواج العاتية الخطرة، بل ومملوء مرارة وملوحة، وفيه أسماك كبيرة لا تكف عن التهام السمك الصغير. وفيه أيضًا العديد من الدبَّابات (التي تزحف على الأرض). لهذا فإن الشهوانيين المغُرَمين جدًا بالعالم، إذ يفكرون في الحياة الحاضرة وحدها، ويلتصقون دومًا بدروبها حبًا فيها، سمعوا عن الدبابات...
كذلك يقول: "هذا البحر الكبير الواسع الأطراف... هناك تجري السفن". لا يُفهَم منها السفن المصنوعة من الأخشاب التي تمخر عباب البحر بقوة الريح، لكنها تعني الكنيسة التي تريد بلوغ شاطئ الفردوس بالأعمال البارة المقدسة. فإن أمواجًا عاتية تلاطمها بالضيقات، ورياح العواصف المختلفة. وبالرغم من ارتطامها بتلك الرياح العاتية الهادرة، توجِّها مجاديف التداريب المُقَدَّسة، وتقودها أنفاس الروح القدس، فتحملها إلى الحياة الأبدية بنفس الخصوم الذين يقفون ضدها.
في هذا البحر أيضًا التنين الذي كُتِبَ عنه: "هذا التنين البحري (لوياثان) الذي خلقته ليلعب فيه". هذا التنين هو الشيطان، يلعب بطريقة ما في الأشرار، لا لكي يخطئوا فحسب، بل ويستخدمهم خدامًا له يضطهدون القديسين والأبرار على الدوام. هذا الوحش كان مخلوقًا كملاك صالح بيدي الله، لكنه حينما رفع ذاته ضد الله بالكبرياء، هوى من تلك الحالة الملائكية المطوَّبة. وإذ يخدع نفسه بالكبرياء يخدع بمكره المستهترين، بسماحٍ من الله وبواسطة قضائه العادل المخفي[102].
الأب قيصريوس أسقف آرل

هُنَاكَ تَجْرِي السُّفُنُ.
لَوِيَاثَانُ هَذَا خَلَقْتَهُ لِيَلْعَبَ فِيهِ [26].
يرى البعض في قصة فلك نوح أن الله هو الذي علَّم الإنسان أن يكون له أسطول بحري.
إن كان البحر بمخاطره كان يُنظَر إليه كمسكن للوياثان، أي للتنين البحري، رمز الشيطان، فإن الله يعطي المؤمنين سلطانًا على قوات الظلمة، فيصيرون أشبه بألعوبة يستخف بها حتى الصبيان الصغار.
البحر الذي يرعب الإنسان بهيجانه وأمواجه ودواماته هو حلقة الصلة بين البلدان خلال السفن أو الأسطول البحري التجاري.
في إحدى رسائل الفصح يُقَدَّم لنا القديس أثناسيوس الرسولي رجل الآلام صورة حيَّة للمؤمن المملوء رجاء في الرب والذي لا يخشى حتى لوياثان - الشيطان. إذ كتب لشعبه بأن العالم يُشبِه بحرًا، ونحن نسير كما في سفينة تحت قيادة الكلمة الإلهي، نسير بكامل حريتنا إلى الميناء بسلام ولا نهاب لويثان الذي خُلِقَ لنلهو به[103].
* هوذا السفن تطفو فوق ما يزعجكم، ولا تغرق. نفهم بالسفن الكنائس. فإنها تبحر وسط العواصف، وسط التجارب الهائجة، وسط أمواج العالم، وسط الوحوش، الصغيرة والكبيرة.
المسيح على خشبة صليبه هو الربان. "هناك تجري السفن". ليت السفن لا تخاف، ليتهم لا يرتكبون أين يبحرون، وإنما يهتمون مَنْ الذي يدير الدفة؟ "هناك تجري السفن". أية رحلة يجدونها مُمِلَّة متى شعروا أن المسيح هو ربانهم؟ إنهم يبحرون في أمان. ليبحروا باجتهاد، فيبلقون ميناءهم الموعود به، سيُقادون إلى أرض الراحة[104].
* هوذا المُجَرِّب يأتيني كجيشٍ قويٍ، لكنه لا يقدر أن يغلبني، لأنك كسرتَ مهابته، وأعطيتني شجاعة أمامه[105].
* يقول كثيرون: "لقد أخذ الشيطان سلطانًا عظيمًا هكذا، حتى يحكم في هذا العالم ويسود كثيرًا، فهل يقدر أن يفعل الكثير؟ إلى أي مدى يسود؟ ماذا يقدر أن يفعل، ما لم يُعطَ له سماح لا يقدر أن يفعل شيئًا. لتعملوا هكذا بحيث لا يُسمَح له أن يُجَرِّبكم، بل يهرب منهزمًا، ولا يقتنيكم. فإنه يُسمَح له أن يُجَرِّب بعض القديسين خدام الله، لكنهم يغلبون لأنهم لا يهربون من الطريق، هؤلاء الذين يلاحظون العقب فلا يسقطون...
يا إخوتي من يرغب أن يلاحظ رأس الحية يعبر هذا البحر في أمان...
إن كنتم تخافون جهنم، وتحبون ملكوت الله، فإنكم ستلاحظون رأس الحية "لأنه ليس سلطان إلا من الله" (رو 13: 1). فمما تخاف؟ ليبق التنين في المياه. ليبق في البحر، وأنتم تعبرون خلاله. لقد جُعِلَ هكذا تلعبون له، لقد دُبِّر له أن يسكن هذا المكان؛ لقد أُعطِيَ له هذا الموضع. أنتم تظنون إن هذا المسكن أمر عظيم بالنسبة له، ذلك لأنكم لا تعرفون أنه سُكنَى للملائكة عندما سقطوا. ما تظنون أنه مجد له، هو إدانة له[106].
* هذه الحية تريد أن تفترس، أما هو (الله) فلا يفترس من يرغب فيه...
* أتريدون ألا تكونوا طعامًا للحية؟ لا تكونوا ترابًا! تجيبون: كيف لا تكون ترابًا؟ إن لم يكن لديكم تذوق للأمور الأرضية. اسمعوا للرسول كي لا تكونوا ترابًا... "اهتموا بما فوق لا بما على الأرض" (كو 3: 2) [107].
القديس أغسطينوس
* إن رآك الشيطان مرتبطًا بالسماء، ساهرًا، فإنه لن يجرؤ قط حتى أن يحدق فيك[108].
* السيرة الطاهرة تسد فم الشيطان نفسه وتبكمه[109].
القديس يوحنا الذهبي الفم

* قال القديس باسيليوس الكبير: إن سفنًا هي نفوس الصديقين الذين بقلوع الفضائل يرتفعون فوق بحر هذا العالم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
كُلُّهَا إِيَّاكَ تَتَرَجَّى لِتَرْزُقَهَا قُوتَهَا فِي حِينِهِ [27].
كل الخليقة السماوية والأرضية تنظر إلى الله بروح الرجاء، فهو الذي خلق الكل، ويعتني بالكل، ويُدَبِّر للكل أمورهم في حينه، أي في الوقت المناسب.
تُعْطِيهَا فَتَلْتَقِطُ.
تَفْتَحُ يَدَكَ فَتَشْبَعُ خَيْرًا [28].
الله من جانبه يُقَدِّم بفيضٍ، ليُشبعنا، ونحن من جانبنا يلزم ألا نقف في سلبية، بل نلتقط مما يُقَدِّمه لننال ونشبع.
يُدعَى الربُ الصلاح ذاته أو الخير ذاته، وهو كلي الصلاح، لهذا إذ يبسط يديه لنا، خاصة على الصليب، يفيض علينا بالخيرات، فنصير به صالحين، وبدونه لن ننعم بالصلاح الحقيقي.
* المسيح هو يده. "لمن أُستعلنتْ ذراع الرب؟" (إش 53: 1). تُستعلَن لمن تُفتَح له، فإن الإعلان هو انفتاح. "تفتح يدك فتشبع خيرًا". عندما تعلن عن مسيحك، يشبعون جميعهم خيرًا. لكن ليس لهم خير من ذواتهم[110].
القديس أغسطينوس
* ما هو صالح من الله، وما هو من الله صالح[111].
القديس أمبروسيوس
* بقوله: تفتح يدك فيمتلئ الكل خيرًا، يدل على سهولة منحه الطعام لها. وأيضًا يشير إلى فتح يدي ربنا على الصليب وامتدادهما، لأن بصلبه امتلأتْ السماء والأرض وكافة الخلائق من خير الله ورحمته.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* لا تخف أيها القطيع الصغير. بقوله: "لا تخفْ" يعني أن أباهم السماوي يهب بكل يقين دون أدنى شك الحياة للذين يحبونه، فهو لن يهمل خاصته، بل بالحري يفتح لهم يده التي تملأ الكون أبدًا بالخير[112].
القديس كيرلس الكبير

تَحْجُبُ وَجْهَكَ فَتَرْتَاعُ.
تَنْزِعُ أَرْوَاحَهَا فَتَمُوتُ،
وَإِلَى تُرَابِهَا تَعُودُ [29].
كل حياة المخلوقات التي على الأرض هي عطية من الله، وتعتمد عليه. متى سُحِبتْ الروح يرجع الجسم إلى أصله، أي تراب.
إذا حجب الرب وجهه عن خليقته، أي نزع رعايته عنها، ترتعب.
* الإنسان الذي يتوب عن خطاياه يكشف نفسه، أنه ليس له قوة من ذاته، ويعترف لله قائلًا إنه تراب ورماد. أيها المتكبرون إنكم تعودون إلى ترابكم، تُنزَع أرواحكم، فلا تعودون تفعلون ما تفتخرون به. ها أنتم ترون أنكم مخلوقون من تراب، وعندما يحجب الرب وجهه، ترجعون إلى ترابكم. لذلك صلوا واعترفوا بترابكم وضعفكم[113].
القديس أغسطينوس
* يتحدث المغبوط داود في موضعٍ آخر من المزامير عن الذين على الأرض: "يأخذ روحهم فيموتون، ويعودون إلى ترابهم، ترسل روحك فيخُلقون، وتجدد وجه الأرض". يقصد بوجه الأرض جمالها، ويفهم من جمال الطبيعة البشرية عدم فسادها[114].
* أولئك الأموات الذين أحياهم المسيح أكبر شاهد على قيامة الأموات... وقد أشار الأنبياء المُقَدَّسون إلى هذه الحقيقة، إذ قيل: "تحيا أمواتك تقوم الجُثَث. استيقظوا ترنموا" (إش 19:26). يُراد بالاستيقاظ حياة المسيح التي يهبها بقوة الروح القدس. وأشار أيضًا المرتل إلى ذلك بعبارات خاطب بها الله مخلص العالم: "تحجب وجهك فترتاع، تنزع أرواحها فتموت وإلى ترابها تعود" (مز 29:104). كانت معصية آدم سببًا في إقصاء وجوهنا عن رؤية الله والتصاقها بتراب الأرض، لأن الله حكم على الطبيعة البشرية بالقول: "لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تك 19:3). ولكن عند نهاية العالم يتجدد سطح الأرض، لأن الله الآب يهب بابنه حياة لجميع ما في الكون. الموت جلب على الناس الشيخوخة والفساد... أما المسيح فهو المحيي والمجدد لأنه هو الحياة[115].]
القديس كيرلس الكبير


تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ.
وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ [30].
كل الخليقة هي من عمل الله، فقد خلق العالم، وهو لا يزال يعتني به كمن يُجَدِّد وجه الأرض.
* ما ورد في الآية 29 يخص الحياة الخاصة بالحواس، أما العبارة 30 فتخص نفوس البشر التي تتمتع بالقيامة الأولى كعربون للتمتع بالقيامة الأخيرة. يقول ايسيشيوس إن الله أرسل الروح القدس، وخلق الأمم بكرازة الرسل القديسين.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* يقول الرسول: "لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة" (أف 2: 10). ننال نعمة من روحه، كي نحيا في البرّ، لأنه هو الذي يُبَرِّر الفجّار (رو 4: 5)... عندما يأخذ أرواحنا نرجع إلى ترابنا، ونتطلع إلى ضعفنا لأجل بنياننا، وعندما نقبل روحه نتجدد[116].
القديس أغسطينوس
* إن كان الخلق هنا يعني إحياء الموتى ثانية، فكيف لا تكون أعمال الروح القدس قديرة، هذا الذي يُعَد بالنسبة لنا واهب الحياة التي بعد القيامة، والذي يناغم نفوسنا مع الحياة الروحية في الدهر الآتي؟ أو إن كان الخلق هنا يعني التغيُّر إلى حالة أفضل للذين سقطوا في الخطية في هذا العالم الحاضر (لأنه كان هكذا تُفهَم بحسب الكتاب المقدس كما جاء في كلمات بولس: "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة"). والتغيُّر الذي يحدث في هذه الحياة، والتحوُّل من حالتنا الأرضية الحسية إلى السيرة السماوية، والذي يحدث فينا بالروح القدس، ومن ثم تُرفَع نفوسنا إلى أعلى حالات الإعجاب[117].
القديس باسيليوس الكبير

* إن كان الآب بالكلمة في الروح القدس يخلق كل الأشياء ويجددها، فأي شبه أو قرابة بين الخالق والمخلوقات؟ إن مثل هذا الكلام الرديء يقود إلى التجديف على الابن، حتى أن أولئك الذين يقولون إن الروح مخلوق، يقولون أيضًا إن الكلمة الذي خُلقتْ به كل الأشياء مخلوق[118].
البابا أثناسيوس الرسولي
* تحدَّث الرسول بولس عن هذا بكلماتٍ واضحةٍ: "إن كان الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا" (2 كو 4: 16). يُخبرنا بأن هذا التجديد يتحقق إذ ننمو في معرفة الله، بمعنى أن نتأمل ونُثَبِّت أفكارنا في شخص الله، الذي هو عادل وقدُّوس (2 كو 4: 17). بممارستنا هذا فإن كل ما هو باطل وزمني يفقد التصاقه بنا، وبالتالي نبدأ نقاوم كل ما يُفسِد صورة الله فينا، ونحتقر هذه الأمور.
هذا هو التغيير الداخلي لنفسك والتقدُّم المستمر نحو الأبدية. توقفْ عن ثقتك في أسس العالم المنظور أكثر من ثقتك في أسس العالم غير المنظور، هذا يكون له أثره على الفكر الروحي المتجدد.
التغيير الداخلي يعني توقُّف تبديد طاقتك والانشغال بالأمور التي تجلب ملذات جسدية، وذلك بالرجاء في أن تُشبِع أعماقك وتجد الفرح الحقيقي الدائم داخلك الصادر عن ينابيع الروح.
خلال الجهاد المستمر يمكننا أن نضبط ونقلل من رغبتنا في الحياة حسب شهوات جسدنا، حسب الأسس الأرضية. هذا يعني أن نرتبط بما هو روحي بحبنا لله، والتصميم على أن نتبعه بالروح.
أخيرًا، يعتمد نجاحنا في هذا كله على العون الإلهي. فإن كلمة الله هي التي تهب راحة وتعلمنا: "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5).
هذا يصف لنا العمل اليومي الذي يتحقق في الذين يتقدمون روحيًا كما ينبغي[119].
القديس أغسطينوس
* يليق بالروح القدس أن يرفرف على الأرض، ليجعلها تأتي بثمرٍ؛ لأنه بعون الروح تأتي ببذور الميلاد الجديد الذي يتجدد حسب كلمات النبي: "ترسل روحك فتخلق، وتجدد وجه الأرض" (مز 104: 30)[120].
القديس أمبروسيوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]4. تسبيح المرتل للخالق[/FONT]

يدعونا التفسير التلمودي والمدراش إلى ملاحظة أننا نجد أول هللويا في سفر المزامير هنا في نهاية هذا المزمور. فهو مزمور مجد الخالق، العامل في الخليقة كلها لحساب الإنسان. يهب الحيوانات والطيور احتياجاتها، ويُجَدَّد وجه الخليقة، ويجعل من الشيطان ألعوبة يسخر منه المؤمن. إنه مزمور التهليل بالله محب البشر. لقد لاق بالمؤمن أن يتغنى بلا انقطاع: "باركي يا نفسي الرب". فإن اكتشاف المؤمن للنور الساكن فيه إلهه والسحاب الذي هو مركبة ربه وخدامه اللهيب النار يُفَرِّح قلب المؤمن. لأنه ينعم بصورة خالقه، فينسكب النور الإلهي عليه بالبهاء، ويحمل قوة فائقة حيث تعمل الطبيعة لحسابه، بل ويصير مع خدام الله السمائيين نارًا متقدة بالحب الإلهي.
يَكُونُ مَجْدُ الرَّبِّ إِلَى الدَّهْرِ.
يَفْرَحُ الرَّبُّ بِأَعْمَالِهِ [31].
كل ما خلقه الله صالح وحسن. إنه يُسَر بعمله، أما الخطية التي ليست من عمله فلا يُسَر بها. يفرح بنا فيما هو صنعه، ولا يسر بما صار دخيلًا إلى الطبيعة التي خلقها.
* "يفرح الرب بأعماله" ليس في أعمالك بكونها لك، لأنه إن كانت أعمالك شريرة، فهي بسبب شرك؛ وإن كانت صالحة، فهي بنعمة الله[121].
القديس أغسطينوس
* كثيرون يَدْعون أنفسهم "رجالًا" (أناسًا)، لكنهم ليسوا بالحق هكذا. فالبعض يعيشون بسلوك بهيمي، بينما آخرون بسلوك الزواحف، يبثون حنقهم كوحوش مفترسة. لهذا يقول داود نفسه: "والإنسان في كرامةٍ لا يبيت يشبه البهائم" (مز 49: 12)...
لكن بالتأكيد تُستخدَم كلمة "إنسان" على من يحمل صورة الله (تك 1: 27) هذا الذي يحمي كرامته بطريقة لائقة، ويعرف الخيار بين الخير والشر، ويهب مجده لخليقته التي تبتهج به، وتجد مسرتها فيه (مز 104: 31).
هكذا "كان رجل في أرض عوص اسمه أيوب". فقد كانت المنطقة قفرًا موحشًا، لكن به غرس أليف (هو أيوب)...
كان أيوب كنزًا لا ينقصه شيء. كان مملوءً من عنب مغروس. كان كاملًا كخليقة الإله الحق، إذ استخدم فضائله لحساب الحق بغير رياء، متممًا وصايا الله... فقد عبد الله حسبما يريد الله[122].
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
النَّاظِرُ إِلَى الأَرْضِ فَتَرْتَعِدُ.
يَمَسُّ الْجِبَالَ فَتُدَخِّنُ [32].
يرى كثير من آباء الكنيسة مثل القديسين أغسطينوس وجيروم إن الله يريد أن يقيم منا سماءً جديدة. فإن قَبِلنا عمله فينا ننعم بنظراته إلينا، ونجد فيها فرحنا وشبعنا. إن صممنا أن نعيش كأرضيين مرتبطين بالزمنيات لا الأبديات فإن نظراته تُرعب ما هو أرضي فينا، وتزلزله لعلنا نرجع إليه ونصير سماءً.
إن تشامختْ نفوسنا، فحسبنا أنفسنا جبالًا، يلمسنا فندخن!
* أيتها الأرض، لقد كنت تفتخر بصلاحك، تنسب لنفسك كمالك وغناك (الروحي). انظرْ، هوذا الرب يتطلع إليك، ويجعلك ترتعب، فإن ارتعاب التواضع أفضل من ثقة الكبرياء... لذا فلتعملْ برعدة. لتسمع مزمور آخر: "اعبدوا الرب بخوفٍ، واهتفوا برعدةٍ" (مز 2: 11)...
"يمس الجبال فتدخن"، ماذا يعني دخان الجبال؟ أنهم يُصَلُّون للرب.. أنه جبل، أنه محتاج أن يلمسه الله لكي يدخن. عندما يبدأ يدخن يقدم صلوات لله، إذ هي ذبيحة قلبه. إنه يدخن نحو الله، عندئذ يقرع قلبه، ويبدأ يبكي، فإن الدخان يسبب دموعًا[123].
القديس أغسطينوس
* يتوقف وضع الأرض على قوة الله. هذا يمكنكم أن تتعلموه من المكتوب: "الناظر إلى الأرض فترتعد" (مز 104: 32). وفي موضع آخر: "مرة أخرى أنا أُحَرِّك الأرض". لهذا تبقى الأرض ثابتة لا بتوازنها، وإنما تتحرك غالبًا بناء على موافقة الله وإرادته الحرة. يقول أيوب أيضًا: "يزعزع الرب الأرض من مقرها" (راجع أي 9: 6)... أقام الرب الأرض بمساندة إرادته، لأن في يديه كل أقاصي الأرض (مز 95: 4)[124].
القديس أمبروسيوس
* أراد النبي أن يُعَرِّفنا عظم قدرة الله فقال: "الناظر إلى الأرض فترتعد". إن جسم الأرض العظيم وثقلها، إذا نظر الله إليها بغضبٍ ترتعد مثل ورقة الشجر أمام هبوب الريح. وإذا مسّ الجبال تلتهب وتدخن، كما حدث مع جبل سيناء، إذ كان يسطع دخانًا عندما كان يشرع الله الشريعة القديمة... قال القديسان أثناسيوس واسيشيوس في يوم القيامة ترتعد جميع الأمم الموجودة على الأرض من خوفهما. وأيضًا الجبال، أعني القوات المضادة تضطرم وتدخن.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
أُغَنِّي لِلرَّبِّ فِي حَيَاتِي.
أُرَنِّمُ لإِلَهِي مَادُمْتُ مَوْجُودًا [33].
من يلتصق بالرب يتمتع بالحياة الجديدة المتهللة، فيتغنى كل كيانه بالرب حياته.
* "أغني للرب في حياتي". بماذا يعني؟ بكل ما يرغب فيه... حياتنا في الوقت الحاضر هي رجاء فقط، حياتنا ستكون أبدية فيما بعد... إذ هو يُحَب إلى الأبد، فإنه يُسَبَّح بواسطتنا أبديًا[125].
القديس أغسطينوس
* أغني أن الذي يردد بعقله إحسانات الله السابقة واللاحقة، وعنايته واهتمامه بتدبير العالم، ويفكر بنظم قدرته وحقه وعدله، ومجازاته في يوم الدينونة لكل واحدٍ حسب أعماله ينخشع ويسبح الله ويرتل له، ليس بالقول فقط، لأن الذهبي الفم قال: إنك يا هذا لو أنفقت نهارك بجملته في التوسل والتضرع، وإن صلَّى من أجلك العالم كله، وكانت سيرتك غير مرضية، فلا تفعل الصلاة شيئًا البتة. وأما إن كان العمل مطابقًا للصلاة، فذاك يلذ لله خطابه، ويرتقي إلى منزلة الملائكة، وينال مطلوبه، ويترجى نوال منح أخرى، ويفرح بالرب.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
فَيَلَذُّ لَهُ نَشِيدِي،
وَأَنَا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ [34].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فيلذ له كلامي (محادثتي).
يُسَر الله بنفوسنا المتهللة به، وتُسَر نفوسنا بالتسبيح له.
* ما هي محادثة الإنسان مع الله سوى الاعتراف بالخطايا؟ اعترفْ لله بما أنت عليه فتدخل في محادثة معه. تحدَّث معه ومارس الأعمال الصالحة، وحاوره.
يقول إشعياء: "اغتسلوا، تنقوا" (إش 1: 16). ما هي المحادثة مع الله؟ اكشفْ نفسك لذاك الذي يعرفك، لكي يكشف نفسه لك يا من لا تعرفه.
انظروا هذه هي محاورتكم التي تلذ الرب: تقدمة التواضع التي لك، تعب قلبك، مُحرَقة حياتك، هذه تلذ الله.
لكن ما هو الذي يرك أنت؟ "وأنا أفرح بالرب". هذه هي المحادثة التي أعنيها التي بين الله وبينك: أظهر ذاتك لذاك الذي يعرفك، وهو يظهر نفسه لك يا من لا تعرفه. ما يسره هو اعترافك: وعذبة لك هي نعمته. أنه يتحدث معك؛ كيف؟ بالكلمة. أية كلمة؟ المسيح![126]
القديس أغسطينوس
* حلو هو صوت النفس حينما تنطق بكلمة الله، حينما تشرح إيمان الحق وتعليمه، حينما تكشف عن معاملات الله وأحكامه[127].
* يقول داود النبي الحكيم العظيم: "يلذّ له نشيدي" (مز 34:103). يصير صوت النفس عذبًا حينما يردد كلمة الله، ويفسر الإيمان وتعاليم الحق، ويكشف عن معاملات الله وأحكامه[128].
* عندما صارت (العروس) أهلًا أن يُقال لها ما قيل أيضًا لموسى: "وموسى يتكلم والله يجيبه" (خر 19: 19)، حينئذ يتحقق فيها ما يقوله: "أسمعيني صوتك" (نش 2: 14). حقًا إنه لمدح عظيم لها يتضح من هذا القول: "صوتكِ حلو" (نش 2: 14). هكذا أيضًا قال النبي العظيم في الحكمة داود: "ليلذ له كلامي" (راجع مز 104: 34). بكون صوت النفس لذيذًا له، عندما تنطق بكلمة الله، وتشرح الإيمان وتعاليم الحق، عندما تكشف معاملات الله وأحكامه[129].
العلامة أوريجينوس

* لتعلموا أن هذه الصلاة هي حديث مع الله، اسمعوا النبي يقول: "فيلذ الله حواري" ، أي ليكن كلامي جالبًا للسرور أمام عيني الله. ألا يستطيع أن يخدمنا قبل أن نسأل؟ إنه ينتظر حتى نُقَدِّم له الفرصة، فيجعلنا أهلًا لعنايته. وسواء نلنا ما طلبناه أم لا، فلنواظبْ على صلواتنا، ولنشكره لا حينما ننال طلبتنا فحسب، بل وحينما لا ننالها. وإذا ما شاء الله ذلك ألا يجيب سؤالنا لأن ذلك فيه خير لنا، نشكره كما لو كنا قد نلنا ما نطلبه في الصلاة. فإننا لا نعرف ما هو الخير بالنسبة لنا كما يَعْلم هو. لهذا يليق بنا أن نشكر، سواء نلنا طلبتنا أو رُفضتْ[130].
القديس يوحنا الذهبي الفم

لِتُبَدِ الْخُطَاةُ مِنَ الأَرْض،
وَالأَشْرَارُ لاَ يَكُونُوا بَعْدُ.
بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. هَلِّلُويَا [35].
يُعْلِن هذا المزمور عن صلاح العَالَم الذي خلقه الله، فلا موضع للخطية فيه، ويُباد الخطاة [35]. فإن روح الله يعطي قوة للتطهير، فيعود الشر إلى التراب الذي منه يصنع الله خليقة جديدة.
يرى القديس جيروم[131] أن المرتل لم يقل: "لتُبد الخطاة أبديًا" وإنما "من الأرض"، فالمرتل لا يطلب هلاكهم في نار جهنم، إنما يطلب رجوعهم عن الشر، مشتهيًا ألا يوجد أشرار على الأرض.
* "لتُبد الخطاة من الأرض". ليُبادوا تمامًا، لتنُزَع روحهم منهم، كي يرسل (الرب) روحه فيتجددوا.
"والأشرار لا يكونوا بعد" كيف لا يكونوا بعد إلا بكونهم أشرارًا؟ ليتبرروا، فلا يكونوا بعد أشرارًا. لقد رأى المرتل ذلك، فامتلأ فرحًا وكرر العبارة الأولى من المزمور: "باركي يا نفسي الرب"[132].
القديس أغسطينوس
* لتبد الخطاة من الأرض". لا يصلي النبي لكي يهلك الخطاة، بل أن تُبطَل الخطية. عندما لا تظهر بعد الخطية، لا يوجد بعد خطاة، ويكون الكل أبرارًا. "الأشرار لا يكونوا بعد"، فلا يكونوا بعد خطاة، بل يصيروا أبرارًا[133].
القديس جيروم
* يضرع المرتل طالبًا إبادة الظلم والخطية، لأن الإنسان ليس عدوًا للإنسان، لكن حركة الشر التي في الإرادة الحرة... يتحدث القديس بولس عن هذا بإسهاب عظيم حينما يقول إن حربنا هي ضد السلاطين، ضد القوات، ضد رؤساء هذا العالم، ضد أرواح الشر في العلويات (أف 6: 12)[134].
القديس غريغوريوس النيسي

* قال يوحنا الذهبي الفم: إن النبي المضبوط بقوله: "لتُبد الخطاة من الأرض، والأثمة حتى لا يوجدوا فيها"، ليس مراده هلاكهم وعدم وجودهم، لأن الله وأتقياءه لا يريدون هلاك الخاطئ، بل خلاصه وإصلاحه. فقوله لتُبد من الأرض، تعني لتبطل رغبتهم في الأرضيات وتُباد، وتصلح سيرتهم، ويُعدم وجودهم في السوء.
وقال ديديموس: إنه في يوم الانقضاء، السماء والأرض تتجددان، وتكونان بريئتيْن من كل فسادٍ وحزنٍ، ومملوءتيْن من الفرح والسرور، وتصيران مسكنًا للصديقين. أما الخطاة والأثمة فيُبادون من الأرض، ويذهبون إلى نار جهنم التي لا تُطفَأ. فإذ عرفتِ هذا يا نفسي باركي الرب، وواظبي على الصلاة مسنودة بسيرة حميدة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 104

عجيب أنت يا خالقي في رعايتك!


* تُسَبِّحك أعماقي، وتشكرك لأجل رعايتك الفائقة.
في تواضعك سمحت لنا أن نتطلع إلى نورك البهي!
لبستَ النور غير المنطوق به،
لكي ننعم بانعكاس بهائك علينا.
حقًا ليس من خليقة في السماء ولا على الأرض تُدْرِك جوهرك.
لكن برعايتك الفائقة تدخل بنا إلى نورك!
* أي ثوب تحتاج إليه، يا أيها الغير مُدْرََك؟
تَقْبَل كنيستك كثوبٍ ترتديه،
فتُشرِق في داخلها بنورك!
وتقيم منها سحابًا خفيفًا بهيًا،
فتجعل منها كرسيًا ومركبة تجلس فيها.
* جعلتَ ملائكتك رياحًا بلا أجساد ثقيلة مادية،
وخدامك لهيب نار لا يقدر العدو أن يُطفئها!
لتضطرم نار روحك القدوس فينا،
فتلتهب قلوبنا بنار حبك،
وتستنير أعيننا،
فندرك أسرارك الإلهية.
* الأرض الدائمة الحركة، ثابتة كما على قواعد قوية،
ينعم الإنسان بالسُكْنَى فيها، كما لو كانت ثابتة لراحته.
خلقتني من تراب،
لكنك وهبتني نسمة حياة من لدنك.
بخطيتي صرت تحت الحكم أن أعود إلى التراب.
لكن بخلاصك رفعتني، لأعود إلى السماء، وأحيا معك!
* تصغر نفسي جدًا أمام الأرض بكل اتساعها،
وأمام الجبال بجبروتها، والمحيطات بأعماقها،
والرياح بقوتها وقدرتها!
لكنني إذ أجد لي موضعًا في أحضانك،
أرى الطبيعة بكل عظمتها تنحني لخدمتي!
أراك يا من تعتني بي تأمر فتطيعك كل الطبيعة،
ولا تتعدى الطبيعة حدودها بدون إذنك.
لك القوة والمجد من أجل عظمة عنايتك بي.
* يا لرعايتك الفائقة بكل خليقتك.
تهتم بحيوانات البرية،
فتفجر لها عيونًا في البرية لتروي ظمأها.
وتهب الطيور مواضع آمنة تعشش فيه!
تنبت عشبًا للبهائم،
ومزروعات لتُقَدَّم طعامًا لبني البشر!
تُقَدِّم لنا الأرض كرومًا لصُنْعِ الخمر.
وهبتنا عقلًا، فلا نسكر ونفقد اتزاننا وسلامنا.
تُقَدِّم لنا الأرض زيتًا للبهجة والفرح.
لم يعوز أجسادنا شيء،
فهل تترك نفوسنا في عوز؟!
تهبنا بروحك القدوس خمر الروح،
فتسكر نفوسنا بحبك!
وتُقَدِّم لنا جسدك ودمك حياةً أبديةً!
نأكل من وليمة السماء، وننعم بخبز الملائكة.
* هيأت للحيوانات والطيور مساكن مختلفة.
تعشش الطيور وسط أغصان الأشجار،
ويجد اللقلق مسكنًا في السرو.
وتأوى الوعول وسط الجبال،
ويلجأ الوبار إلى الصخور.
أنت هو مسكننا الأبدي يا صخر الدهور!
حضنك الإلهي يهبنا استقرارًا دائمًا.
* نبتهج بنور الشمس، فنعمل وسط النهار.
وننتظر الليل، لتستريح أجسادنا إلى حين.
تشرق على نفوسنا بنورك يا شمس البرّ.
وتستريح نفوسنا في أحضانك!
* أتطلع إلى البحار والمحيطات، فأصغر في عيني نفسي!
يظن لوياثان (إبليس) التنين أنه قادر أن يفترسني.
لكنك أنت مُحَطِّم كل قوى الشيطان.
تجعل منه ألعوبة، يسخر به أولادك وبناتك!
نسير في وسط بحار هذا العالم ومحيطاته،
نبحر في سفينة كنيستك المقدسة.
أنت هو قائدها، في وسطها فلن تتزعزع.
تبحر بنا إلى ميناء السلام، أورشليم العليا!
* لن ننشغل بتيارات العالم، ولا نرتبك بدواماته.
ما يشغلنا روحك القدوس الذي يُجَدِّد مثل النسر شبابنا.
يهبنا روح الفرح والتسبيح.
فنُقَدِّم على الدوام ذبائح الشكر.
نُغَنِّي لك ونرتل مع مصاف السمائيين.
* لك المجد يا غافر الخطايا،
لك المجد يا واهب الخيرات،
لك المجد يا مقدِّس حياة أولادك!
  رد مع اقتباس
قديم 06 - 03 - 2014, 02:40 PM   رقم المشاركة : ( 106 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 105 - تفسير سفر المزامير
أمانة الله الدائمة مع شعبه



يُعتبَر هذا المزمور الرابع من بين المزامير التي تتغنى بمعاملات الله مع شعبه عبر التاريخ، أما المزامير الأخرى فهي 78، 106، 136. لا تهدف هذه المزامير نحو تقديم عرض تاريخي، وإنما عن معاملات الله، وإبراز حنو الله وأمانته في تحقيق ميثاقه ووعوده بالرغم من عدم أمانة الإنسان.
يؤكد هذا المزمور أن أرض الموعد هي عطية إلهية.
يُمَثِّل هذا المزمور دعوة للشعب كما لكل مؤمنٍ أن يبحث في أعمال الله العجيبة، سواء كخالقٍ أو مُدَبِّرٍ ومُعتنٍ بشعبه عبر الأجيال. إنه يُرَكِّز أنظارنا على مراحم الله، ويسألنا أن نمتلئ رجاءً من جهة وعود الله الصادقة.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مناسبته [1]

1. يرى البعض أن واضع المزمور هو داود النبي، تغنَّى به عند إحضار تابوت العهد إلى المدينة المقدسة (1 أي 16: 8-22).
2. يوجد شبه إجماع أن كاتب المزمور 104 هو نفسه كاتب هذا المزمور، وهو داود النبي.
3. لا توجد كلمة أو عبارة يُشتَّم منها أنه داود النبي ليس بواضعه.
إن كان إسرائيل يجد مادة خصبة للاحتفال بعمل الله معه، خلال التحرر من عبودية فرعون، بالأكثر يلتهب قلب الإنسان المسيحي بالفرح والتهليل لتمتعه بالخلاص من عبودية إبليس بواسطة الصليب.
1. دعوة للتسبيح وتذكُّر مراحم الله
1-6.
2. ميثاق الله وأرض الموعد
7-15.
3. يوسف في مصر
16-22.
4. الشعب في مصر
23-38.
5. التمتع بالميراث
39- 45.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

جاء العنوان حسب الترجمة السبعينية والقبطية: "مرسوم بالليلويا".
* إن لفظة الليلويا عبرانية، تأويلها "سُبحًا لله". هذا المزمور هو أول المزامير التي عنوانها "الليلويا"، يحث المؤمنين على تسبيح الله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. دعوة للتسبيح وتذكُّر مراحم الله

يُعْتَبَر التأمل في البطاركة ووعد الله لهم فريد في هذا المزمور. العبادة للرب هنا تتركز في "اطلبوا الرب" [4].
اِحْمَدُوا الرَّبَّ.
ادْعُوا بِاسْمِهِ.
عَرِّفُوا بَيْنَ الأُمَمِ بِأَعْمَالِهِ [1].
الكلمة المترجمة هنا "احمدوا"، تترجم أحيانًا "سبِّحوا" وأحيانًا "اعترفوا"، مع انفتاح القلب على كل الأمم.
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "اعترفوا للرب، وادعوا باسمه. نادوا في الأمم بأعماله".
* "اخبروا الشعب (الأممي) بأعماله"، وجاءت الترجمة الحرفية عن اليونانية، كما ورد في بعض النسخ اللاتينية: "اكرزوا بإنجيل أعماله بين الأمم". إلى من يُوجَّه هذا إلا إلى الإنجيليين، خلال النبوة؟[2]
القديس أغسطينوس
* عار على اليهود القائلين أن عجائبه وأعماله تحققتْ في إسرائيل وحدها[3].
القديس جيروم
* قال القديسان يوحنا الذهبي الفم وايسيشيوس: يحث الروح القدس المؤمنين أن يعترفوا بذنوبهم، ثم يدعوا باسم الرب، أعني من قلوب طاهرة وعقولٍ نقية تقدم سُبحًا لله.
قال أثناسيوس الجليل: يأمر الروح القدس الرسل ويحثهم على أخبار الأمم بعجائب الله القديمة والجديدة، لأن اليهود عصوا ولم يقبلوا الإنذار. وأن الأمم الذين لم يسمعوا ولم يعرفوا إحسانات الله القديمة لليهود وإنكارهم حسناته وقصاصهم على ذلك.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
غَنُّوا لَهُ.
رَنِّمُوا لَهُ.
أَنْشِدُوا بِكُلِّ عَجَائِبِهِ [2].
جاءت العبارات 1-5 دعوة للمؤمن لعبادة الرب، بروح التواضع، لكن في فرحٍ وبهجةٍ، بغير مذلةٍ أو يأسٍ.
يدعونا المرتل إلى التسبيح والتوسل والصلاة والاعتراف والغناء والافتخار باسم الرب القدوس والتأمل في أعماله العجيبة والتمتع بالحضرة الإلهية والحوار المفرح معه.
* سبحوه بالكلمة والعمل، فإننا نُغَنِّي بالصوت كما نعزف على آلة، أي بأيادينا[4].
القديس أغسطينوس
* من يفهم الأسفار المقدسة؛ من يتأمل على الدوام في شريعة الرب، ويفكر مليًا في أمور السماء، ذاك يُغَنِّي لله. أضفْ إلى هذا من يقتني كل فضيلة، ويصير ماهرًا في الأعمال الصالحة وأنماطها، كما لو كانت قيثارة للفضائل وأغانٍ تُسَبِّح الرب. يقول المزمور 106 (107): "النازلون إلى البحر في السفن، العاملون عملًا في المياه الكثيرة. هم رأوا أعمال الرب وعجائبه في العمق" (مز 107: 23-24). إن كنا في السفينة الجسدية نُبحِر خلال الحياة غير الفاسدة، ولا تُغرقنا عاصفة، ولا تُحَطِّمنا صخرة، ولا تكسر سفينتنا إلى أجزاء، فإننا نستطيع أن نعلن أعمال الله العجيبة. بالحق المعجزة العظيمة هي أن نُبحر خلال هذا العالم بدون لومٍ[5].
القديس جيروم
افْتَخِرُوا بِاسْمِهِ الْقُدُّوسِ.
لِتَفْرَحْ قُلُوبُ الَّذِينَ يَلْتَمِسُونَ الرَّبَّ [3].
يقول الرسول: "من يفتخر فليفتخر بالرب"، إذ يجد المؤمن في مجد الرب مصدرًا صادقًا وأمينًا لفرح قلبه الداخلي، مع اشتياق حقيقي ومتزايد نحو التماس الرب أو البحث عنه في أعماق النفس.
* "افتخروا باسمه القدوس". هذه نبوة بخصوص الأمم، أننا نوجد، ونُدْعَى مسيحيون على اسم ربنا يسوع المسيح.
"لتفرح قلوب الذين يلتمسون الرب". ليفرح الرهبان، لأن القلوب التي تطلب الرب تفرح. إن كانت قلوب الذين يلتمسون الرب مملوءة فرحًا، فكم بالأكثر تكون قلوب الذين يجدونه؟ حقًا إن الذين يجدونه لن يدعوه يذهب عنهم[6].
القديس جيروم
* لا يكن افتخاركم بكثرة المال والمجد أو أي شيء من أمور هذا العالم الزائل، بل باسم الرب القدوس كما قال المسيح، ولا تلتمسوا شيئًا آخر سواه. يلتمس الرب كل من يعتقد بما يرضيه، ويفكر فيه دائمً، ويخاطبه بالصلاة.
كل من يلتمس الرب بهذا الحال يحصل له من ذلك فرح وسرور لقلبه وروحه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
اُطْلُبُوا الرَّبَّ وَقُدْرَتَهُ.
الْتَمِسُوا وَجْهَهُ دَائِمًا [4].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "ابتغوا الرب واعتزوا (تقوا). اطلبوا وجهه في كل حين".
من يبحث بفرح وبهجة عن الرب ويطلبه ليعلن ذاته له، يختبر قوته وينعم بحضرته الإلهية على الدوام.
إن كان الشعب القديم عند خروجه من مصر شعر بذراع الرب القوية، واختبر عذوبة حضرة الإلهية. وفي أرض الموعد، كان الشعب يترقَّب الأعياد السنوية الثلاثة، حيث ينطلق الكل إلى أورشليم ليحتفل بالأعياد ببهجة قلب، فإن المسيحي الحقيقي يصير هيكلًا مقدسًا للرب يتجلى فيه المخلص مع الآب وروحه القدوس على الدوام.
* بصوابٍ، يجعلنا الإيمان بالفعل نجده، أما الرجاء فيجعلنا نبقى نبحث عنه. أما المحبة فتضم الاثنين معًا. نجده بالإيمان، ونبحث عنه حتى نراه، حيث نجده ويُشبعنا، فلا نعود نبحث عنه. فإنه ما لم يكشف الإيمان عنه في هذه الحياة لا يُقال: "اطلبوا الرب". أيضًا إن كنا نجده بالإيمان ولسنا نبقى نبحث عنه باجتهاد لما قيل: "ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره، فإننا نتوقعه بالصبر" (رو 8: 25)... وهذا بالحق معنى الكلمات: "التمسوا وجهه دائمًا"، بمعنى أن هذا الكشف لا يُنهِي ذاك البحث، الذي به يُختبَر الحب. ولكن بنمو الحب يزداد البحث عن اكتشافه بالأكثر[7].
القديس أغسطينوس
* "انظروا إلى الرب في قوته". قبلما نلتمس الرب كنا ضعفاء ومتقلبين. الآن إذ ارتبطتْ قلوبنا به، فنحن أقوياء وشجعان. كم بالأكثر جدًا يكون كمالنا إن كنا نجده؟ "اطلبوا أن تعبدوه على الدوام". طُلِبَ من اليهود أن يظهروا أمام الرب (خر 23: 17) ثلاث مرات في السنة... على أي الأحوال يحث النبي هنا المؤمنين بالله أن يلتمسوه دائمًا، وذلك كما يأمرنا العهد الجديد أن نصلي بلا انقطاع (1 تس 5: 17؛ لو 18: 1)[8].
القديس جيروم
* تقول الكنيسة للرب في نشيد الأناشيد: "إني مجروحة حبًا" (نش 2: 5). بحق إذ تحمل في قلبها جرح الحب تسعى برغبة ملتهبة لعلها تنال الشفاء برؤيتها للطبيب[9].
البابا غريغوريوس (الكبير)
* اطلبوا الرب أيها الخطاة وتقووا في أفكاركم من أجل الرجاء. اطلبوا وجهه بالتوبة في كل الأوقات (مز 105: 4)، فتتقدسون بقداسة حضرته، وتَتطهرون من إثمكم (حز 36: 25). أسرعوا إلى الرب أيها الخطاة، فإنه يمحو الإثم ويزيل الخطايا. لقد أقسم: "إني لا أُسر بموت الشرير" (حز 33: 11)، بل أن يتوب الخاطئ ويحيا؟ "بسطت يديَّ طول النهار إلى شعبٍ متمرد" (إش 65: 2). و"لماذا تموتون يا بيت يعقوب؟" (حز 33: 11)، "ارجعوا إليّ، فأرجع إليكم" (راجع زك 1: 3)[10].
القديس إسحق السرياني
* الذين يتمسكون بالمعتقدات المستقيمة، ويُفَتِّشون عن الحق، ويلازمون تلاوة الكتب الإلهية مع أعمالهم الصالحة، هؤلاء يبتغون الرب، ويطلبون وجهه، ويرونه بالروح.
أما وجه الرب فيُقال عن المعرفة به.
قال الذهبي الفم: إن وجه الرب يُقال عن ظهوره بعنايته ومعونته ونصرته لأتقيائه.
قال ديديموس: إن وجه الرب هو ابنه الوحيد، لأنه صورة أقنوم الآب، وشعاع مجده. فمن يرى الابن يرى الآب. أولياء الله كل حين يطلبون المسيح، وبرؤيته تفرح قلوبهم، وتتشدد قوتهم في كل عملٍ صالحٍ.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* سؤال من الأب نفسه إلى الشيخ الكبير نفسه: يعلّمنا يسوع الذي يبحث عن الخراف الضالة أيضًا كيف نبحث عن الراعي. أيها الأب، توجد كلمة واحدة أريد أن أسألك عنها: حيث إنه مكتوب: "اطلبوا الرب وقدرته، التمسوا وجهه دائمًا" (مز 105: 4)، فكيف يمكن لإنسانٍ خاطئ أن يلتمس الرب دائمًا؟ علِّمنا ذلك لأجل ذاك الذي جعلك حكيمًا، وذلك لكي نلتمس نحن أيضًا دائمًا وجه الرب. لأنّ له المجد إلى الأبد، آمين.

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
جوابالقديس برصنوفيوس: يا أخ أوثيميوس، أتوسل إلى محبتك أن تتعب معي في الصلاة لله محب البشر، لأنّ محبتك طلبتْ مني أن أكتب لك عن كيف ينبغي أن نبحث عن الراعي. ومن أول يوم حتى الآن أنا أتوسل إلى الله بخصوص هذا السؤال، وهو يقول لي: ”نقِّ قلبك من أفكار الإنسان العتيق، وأنا أعطيك الإجابة على أسئلتك مجانًا، لأنّ عطاياي تجد في الأنقياء مكانًا فتُعطَى لهم. ولكن طالما أنّ قلبك يتحرك بالغضب، وتذكُّر الشر وأهواء الإنسان العتيق المشابهة؛ فإنّ الحكمة لا تدخل فيه. إن كنتَ ترغب في مواهبي بجدِّيّةٍ، فأطرح عنك أواني الغريب (اُنظرْ نح 13: 8)، فتأتيك أوانيَّ من ذاتها. ألم تسمع: "لا يقدر أحدٌ أن يخدم سيِّدين" (مت 6: 24)؟ فإن كنتَ تخدمني حينئذٍ لا تخدم الشيطان، وإن كنتَ تخدم الشيطان فلا تخدمني. وعلى ذلك، فإذا رغب أحدٌ أن يُحسَب مستحقًا لمواهبي، فعليه أن يُراعِي خطواتي، لأنني كحمل بلا عيب قبلتُ جميع الآلام دون أن أقاوم في شيءٍ (اُنظرْ إش53: 7)، وأنا أخبرتك أن تكون لك أُلفة (أو وداعة) مثل الحمام، وبدلًا من كل ذلك فأنت لك شراسة من أهواء الشهوات. فانظر إنني لم أقل لك: "اسلك بنور نارك" (إش 50: 11).
فردوس الآباء
يرى القديس باخوميوس أننا نطلب الرب ونتمتع بقوته، ليس بالشفاه فحسب، وإنما بالعمل:
[اطلبوا الله مثل إبراهيم الذي أطاع الله، وقدَّم ابنه ذبيحة لله الذي دعاه "صديقي".
اطلبوا الله مثل يوسف الذي صارع ضد النجاسة، حتى صار حاكمًا على أعدائه.
اطلبوا الرب مثل موسى، الذي تبع ربه، وجعله الله مُستَلِمًا للشريعة، وجعله يعرف شبه الله.
طلب دانيال الله، وعلَّمه الله أسرارًا عظيمة، وأنقذه من جب الأسود.
طلب الثلاثة قديسين الله، ووجدوه في أتون النار.
التجأ أيوب إلى الله، فشفاه من قروحه.
طلبتْ سوسنة الله، وأنقذها من أيدي الأشرار.
طلبتْ يهوديت الله، ووجدته في خيمة هولوفرينس[11].]
القديس باخوميوس
اذْكُرُوا عَجَائِبَهُ الَّتِي صَنَعَ،
آيَاتِهِ وَأَحْكَامَ فَمِه [5].ِ
يدعونا المرتل أن نعود بذاكرتنا إلى معاملات الله معنا، لا من حيث تفاصيل الأحداث، إنما من جهة عجائبه التي صنعها لأجل خلاصنا، وآياته التي تكشف عن عنايته بنا، وأحكام فمه التي تُعْلِن عن حبه وشوقه للحوار معنا.
في أعماله الإلهية سواء من جهة الخلق أو خلاصه ورعايته الدائمة يبدو كأن ما يشغل فكر الله وقلبه هو الإنسان. إنه دائم العمل لحسابنا، ولا زال في السماء يُعِد لنا مكانًا لكي يأتي ويأخذنا معه.
يَا ذُرِّيَّةَ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِهِ،
يَا بَنِي يَعْقُوبَ مُخْتَارِيهِ [6].
إن كان الله قد قطع عهدًا مع إبراهيم أب الآباء، ويعقوب الذي اختاره، فإن هذا العهد وهذا الاختيار ليسا لإبراهيم ويعقوب وحدهما، بل لنا جميعًا كأبناء روحيين لإبراهيم، وكمختاري الرب لننعم ببرِّه وخلاصه.
* إن كنتم أبناء إبراهيم فلتعملوا أعمال أبيكم (يو 8: 39). لذلك أولئك الذين هم مملوءون كبرياء ليسوا أبناء، وإن كانوا ذرية فهم خدام، يخضعون لناموس الخوف، ليس لهم المحبة الكاملة التي تطرد الخوف خارجًا (1 يو 4: 18). نحن أبناء يعقوب، الذي احتل مكان أخيه وأخذ منه الباكورية، فإن كثيرين دُعوا، وقليلون اُختيروا (مت 20: 16)[12].
القديس جيروم
* هؤلاء الرسل القديسون الذين وُلدوا من ذرية إبراهيم وإسرائيل وآمنوا أيضًا بالمسيح الإله، ويقال عنهم إنهم منتخبون كقوله: "أنا اخترتكم من العالم. فإذًا الروح القدس يحث الرسل أن يذكروا عجائب الله وآياته للأمم، ويجعلوهم بني إبراهيم وإسرائيل حسب الإيمان، وعبيدًا لله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. ميثاق الله وأرض الموعد

لما كانت أرض الموعد تشير إلى كنعان السماوية، فقد صار وعد الله للآباء بخصوصها هو أساس الميثاق في الكتاب المقدس. كل العطايا الإلهية تنبع من هذه العطية المجانية.
أقام الله العهد مع إبراهيم ويعقوب، ليس معهم وحدهم، بل ومع نسلهم بكونهم شعبه.
يؤكد المرتل مبادرة الله بإقامة العهد، فهو الذي يبحث عنا ويختارنا ويقيمنا شعبًا له.
هُوَ الرَّبُّ إِلَهُنَا،
فِي كُلِّ الأَرْضِ أَحْكَامُهُ [7].
لم يقل: "هو الرب في إسرائيل"، إنما "في كل الأرض أحكامه". إن كان قد قطع عهدًا مع إبراهيم واختار يعقوب، فهو رب البشرية كلها ومخلصها، يدعو البشرية كلها لتنعم ببركاته الأبدية في الابن الوحيد الجنس، الذي بدمه الثمين قدَّم عهدًا جديدًا أبديًا.
لم يترك نفسه بلا شاهد في الأرض كلها (أع 14: 17).
* "في كل الأرض أحكامه". هل هو إله اليهود وحدهم (رو 3: 29)؟ حاشا! "هو الرب إلهنا"، لأن الكنيسة التي يُكرَز فيها بأحكامه هي في كل العالم[13].
القديس أغسطينوس
* الله الذي أعطى قديمًا الشريعة لبني إسرائيل فقط هو الذي تجسد ونشر أحكامه في كافة المسكونة بواسطة رسله، إذ قال لهم: تلمذوا كل الأمم وعلموهم ما قد أوصيتكم به.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
ذَكَرَ إِلَى الدَّهْرِ عَهْدَهُ،
كَلاَمًا أَوْصَى بِهِ إِلَى أَلْفِ دَوْرٍ [8].

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
إذ يتحدث عن عهده مع الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، يذكره إلى ألف جيل، فما قدمه للآباء، إنما قدمه لكل الأمم إلى ألف جيل. يرى البعض رقم 1000 يشير إلى الأبدية، وكأن ما قدمه للآباء لا يقف عند وعود زمنية، ولا أرض موعد مادية، إنما تمتد الوعود إلى الوطن السماوي لكل المؤمنين عبر الأجيال.
إن كان الله يطالبنا أن نُذَكِّره أعماله العجيبة معنا، فمن جانبه هو يذكر تعهداته وميثاقه معنا معلنًا أمانته في مواعيده. إنه لن ينساها!
* هذا العمر يُقال عنه ألف جيل كما كتب بطرس الرسول: "إن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة، وألف سنة..." (2 بط 3: 8). ودانيال النبي قال: "ألوف ألوف يخدمونه". فإذًا كلمة "ألف" لا تعني العدد المعروف، بل يعني الكثير.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
الَّذِي عَاهَدَ بِهِ إِبْرَاهِيمَ،
وَقَسَمَهُ لإِسْحَاق [9].
جاء ميثاقه الذي قطعه مع إبراهيم في تكوين 15: 17-18، وقسمه مع إسحق في تك 26: 3. لقد عبّر زكريا الكاهن عن هدف مثل هذه المواثيق والقسم مع الآباء والأنبياء بقوله: "أقام لنا قرن خلاص في بيت داود فتاه، كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر" (لو 1: 69-70).
فَثَبَّتَهُ لِيَعْقُوبَ فَرِيضَةً،
وَلإِسْرَائِيلَ عَهْدًا أَبَدِيًّا [10].
جاء تثبيت العهد مع يعقوب في تك 28: 10-15؛ 35: 9-15. في المناسبة الأخيرة غيّر اسمه من يعقوب إلى إسرائيل.
هذه العهود مع الآباء، وإن كانت تحمل جانبًا شخصيًا وامتيازًا، غير أنها أبدية، لكنها في جوهرها هي عهد مع البشرية في المسيح يسوع لتنعم بالأمجاد والميراث الأبدي في السماوات.
قَائِلًا: لَكَ أُعْطِي أَرْضَ كَنْعَانَ، حَبْلَ مِيرَاثِكُمْ [11].
إن كان هؤلاء الآباء لم ينالوا المواعيد في حياتهم الزمنية، لكن نسلهم دخلوا أرض الموعد، وصارت نصيب ميراثهم. أما ما هو أعظم فبتجسدك قدَّمتَ لنا ملكوتك حالًا فينا، وفتحت لنا أبواب سماواتك، لننعم بها بكونها كنعان السماوية، حبل (نصيب) ميراثنا الأبدي.
إِذْ كَانُوا عَدَدًا يُحْصَى قَلِيلِينَ وَغُرَبَاءَ فِيهَا [12].
عند نزولهم إلى مصر في أيام يوسف كانوا قلة قليلة، وصاروا مُتَغَرِّبين (66 شخصًا تك 46: 26، أو 70 شخصًا بما فيهم عائلة يوسف خر 1: 5).
ذَهَبُوا مِنْ أُمَّةٍ إِلَى أُمَّةٍ،
مِنْ مَمْلَكَةٍ إِلَى شَعْبٍ آخَرَ [13].
إن كان الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب الذين دخلوا في عهود مع الله عاشوا كمُتَجَوِّلين وغرباء، ليس لهم موضع استقرار، فإنه يليق بنسلهم حتى بعد نوالهم أرض الموعد أن يتحققوا من تَغَرُّبهم ماداموا في هذا العالم، كما يليق بنا نحن المؤمنين أن نحمل ذات المشاعر.
* نَعْبُر خلال ممالك كثيرة لنبلغ إلى أرض الموعد[14].
القديس جيروم
فَلَمْ يَدَعْ إِنْسَانًا يَظْلِمُهُمْ،
بَلْ وَبَّخَ مُلُوكًا مِنْ أَجْلِهِم [14].
تُرَنِّم الكنيسة بهذه العبارة في عشية عيدي موسى وزكريا، أي في 8 توت، حيث اضطهد فرعون موسى النبي، وهيرودس زكريا الكاهن، ولم يصب أحد منهما بأذية. فقد نال موسى كرامة خلاص الله خلال الخروج من أرض العبودية، وتمتع زكريا بأن يصير أبًا ليوحنا المعمدان الملاك الذي هيأ الطريق للمسيح الرب.
تتعرض حياة المؤمنين دومًا لمتاعب كثيرة، لكن الله بعنايته يحفظهم من الإصابة بأذية، حتى وإن كان المقاومون لهم أصحاب سلاطين وملوك جبابرة (تك 12: 14-20؛ 20: 1-9؛ 26: 7-11، 26-33؛ 35: 5).
* حُذِّر كل من ملك جيرار وملك المصريين من السماء ألا يؤذيا إبراهيم (تك 12: 17-20؛ 20: 3)، وحُذِّر ملك آخر ألا يؤذي إسحق (تك 26: 8-11)، وآخرون ألا يؤذوا يعقوب (تك 32، 33)، بينما كانوا قلة قليلة جدًا وغرباء[15].
القديس أغسطينوس
قَائِلًا: لاَ تَمَسُّوا مُسَحَائِي،
وَلاَ تُسِيئُوا إِلَى أَنْبِيَائِي [15].
لم نسمعْ عن أحد الآباء الأولين قد مُسِحَ بدهن ملوكي، لكنهم كانوا ممسوحين بروح الله القدوس لرسالة تمس خلاص البشرية.
يتساءل القديس أغسطينوس كيف يمكن دعوة إبراهيم وإسحق ويعقوب مسحاء، مع أنه لم يكن بعد قد عُرفتْ المسحة التي صار الملوك يُمسَحون بها، ويدعون مسحاء. ويجيب أنه سريَّا يُحسبون هكذا، فإنه وإن كان جسد المسيح جاء منهم، فإن المسيح نفسه، أي الكلمة قَبْل التجسد، كان قبلهم. وذلك كما قال لليهود: "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" (يو 8: 58). وقد أعلنوا عن الرب مُقَدَّمًا. فإنه لن يمكن لأحدٍ أن يتصالح مع الله خارج ذاك الإيمان الذي في المسيح يسوع، سواء قبل تجسده أو بعده. وقد أوضح الرسول ذلك بقوله: "لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (1 تي 2: 5)
* يا للعار بالنسبة لليهود الذين يقولون ما لم يُدهَن الشخص بدهن ملوكي لا يمكن أن يُدعَى "مسيحًا". يقولون إن ربنا ليس المسيح، لأنه لم يُمْسَحْ بزيوت ملوكية. لكن قبل الشريعة لم يُدهَن البطاركة بدهن ملوكي، ومع هذا يدعو مسحاء. المسحاء هم الذين يمسحهم الروح القدس، لهذا بحق يُدعَى ربنا المسيح. ينكرون هذا ، وهم في هذا يضادون الأسفار المقدسة[16].
القديس جيروم
* يحمل المستنيرون (المُعَمَّدون) ملامح قوة المسيح وصورته. التشبُّه بشكل الكلمة (المسيح) يُطبَعُ عليهم، وتتحقق فيهم خلال المعرفة الأكيدة والإيمان. هكذا يؤكد المسيح روحيًا في كل أحدٍ. ولهذا فإن الكنيسة تتمخض حتى يتصور المسيح فينا (غل 4: 19)، كأن كل واحدٍ من القديسين، إذ يشترك في المسيح يلد مسيحًا. بهذا المعنى قيل في الكتاب المقدس: "لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي".
هؤلاء الذين يتعمدون في المسيح يصيرون كما لو كانوا مسحاء آخرين، وذلك خلال شركة الروح[17].
الأب ثيؤدوسيوس من فليبي
* "جعلنا لنكون على صورة جسد مجده" (في 3: 21)، حيث أننا نصبح "شركاء المسيح" (عب 3: 14).
وبحق دُعيتم للمسيح، وعنكم قال الله: "لا تمسُّوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي" (مز 105: 15).
جُعلتم مسحاء بقبولكم خِتْم الروح القدس. وكل الأشياء عُمِلتْ فيكم امتثالًا (بالمسيح)، لأنكم صورة المسيح. هو اغتسل في نهر الأردن، ونشر معرفة ألوهيته في الماء، وصعد منه وأضاء عليه الروح القدس في تمام وجوده، وحلّ كذلك عليه. ولكم أنتم فشبه ذلك بعد أن صعدتم من بركة المياه المقدسة صار لكم دهن شبه الذي مُسِحَ به المسيح. وهذا هو الروح القدس الذي قال عنه المطوَّب إشعياء في نبوته عن شخص الرب: "روح السيد الرب عليّ، لأن الرب مسحني" (إش 61: 1)[18].
القديس كيرلس الأورشليمي

* كثيرًا ما يحدث أن يرغب إنسان في الإساءة إلى آخر، ولأن الله لا يسمح له بذلك تُبْطَل مشورته. وهكذا فإن مشيئات الناس توضع فقط تحت الاختبار. فكم من مؤامرة شر دُبرتْ للآباء القديسين، ولأن الله لم يسمحْ بها فلم يقدر أحد أن يسيء إليهم كما هو مكتوب: "لم يدع إنسانًا يظلمهم، بل وبَّخ ملوكًا من أجلهم قائلًا: لا تمسُّوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي" (مز 104: 14-15). وحينما كان يريد أن يُظهِر قدرته كان يحرِّك بالشفقة قلوب الذين لا شفقة عندهم، كما هو مكتوب في سفر دانيال: "وأعطى الله دانيال نعمةً ورحمةً عند رئيس الخصيان" (دا 9:1).
القديس زوسيما
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. يوسف في مصر

دُعي يوسف وهو سجين ليُعَّلم ملوكًا وعظماء غرباء [16-22].
لم يُشر إلى الضربات في مصر لإبراز قسوة قلب فرعون، وإنما قوة الله المتعددة الجوانب، والعاملة لحساب شعب الله.
دَعَا بِالْجُوعِ عَلَى الأَرْضِ.
كَسَرَ قِوَامَ الْخُبْزِ كُلَّهُ [16].
يتحدث هنا عن المجاعة كشخص خادم لله، يستدعيها ليحقق رسالة معينة لحساب مؤمنيه.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن المرتل يشير هنا إلى المجاعة التي حدثت في أيام يوسف، وكان ذلك لتأديبهم حتى يعرفوا الله الحقيقي بمشاهدتهم يوسف الذي كان يبيع لهم الطعام. ويعرفوا الله الذي يعبده يوسف أنه إله حقيقي، يجب العبادة له.
بقوله "قوام الخبز كله" يعني أن الأرض عدمتْ الحنطة وكل ما يقوم مقامه الخبز بسد الرمق من أنواع الحبوب.
* "دعا بالجوع على الأرض". غالبًا يحدث ما يبدو كأنه تناقض ضد العناية الإلهية.
لو أن إخوة يوسف لم يحسدوه ويبيعوه، كيف كان قد نزل إلى مصر؟
لو لم تحدث المجاعة كيف كان يمكن للآباء أن يدخلوا إلى مصر ويتعرف عليهم أخوهم؟
كيف كان يمكن أن يضرب بالعشر ضربات؟ كيف كان يمكن أن يخرج شعب الله من مصر؟
وكيف كانت تخرج مياه من الصخرة في البرية؟
كيف كان يمكن للأسرار أن تتحقق في البرية كرمز (للسيد المسيح المصلوب)؟
لو لم يخن يهوذا الرب كيف كنا نخلص؟
لو لم يصلبه اليهود ويتشككوا كيف كنا نحن نؤمن؟
هكذا حدث أن نزل يوسف إلى مصر ليعد حسن الضيافة والطعام لإخوته[19].
القديس جيروم
جاءت الأحداث الخاصة بيوسف تحمل رمزًا ونبوة عن شخص السيد المسيح من جوانب كثيرة.
* كان يوسف مضطَهدًا، وكان إخوته هم المُضطهِدِين. يوسف تمجَّد، ومُضطِهدوه سجدوا له، فتحققتْ أحلامه ورؤياه.
كان يوسف المُضطَهَد رمزًا ليسوع المُضطَهَد.
يوسف ألبسه والده قميصًا بألوان كثيرة، ويسوع ألبسه أبوه جسدًا من البتول.
يوسف أحب أبوه أكثر من إخوته، ويسوع هو العزيز المحبوب لدي أبيه.
رأي يوسف رؤى وحلم أحلامًا، وتحققت الرؤى والأنبياء في يسوع.
كان يوسف راعيًا مع إخوته، ويسوع هو رئيس الرعاة.
عندما أرسله أبوه ليفتقد إخوته رأوا يوسف قادمًا وخططوا لقتله، وعندما أرسل الآب يسوع ليفتقد إخوته قالوا: "هذا هو الوارث، هلم نقتله" (مت 21: 38).
ألقي إخوة يوسف أخاهم في الجب، ويسوع أنزله إخوته ليسكن بين الموتى.
يوسف صعد من الجب، ويسوع قام من بين الأموات.
يوسف بعد أن قام من الجب صار له سلطان على إخوته، ويسوع بعد أن سكن بين الأموات أعطاه أبوه اسمًا عظيمًا ممجدًا (في 2: 9) ليخدمه إخوته ويخضع أعداؤه تحت قدميه.
يوسف بعد أن عرفه إخوته خجلوا وخافوا واندهشوا أمام عظمته، وعندما يأتي يسوع في آخر الزمان، ويعلن عظمته سيخجل إخوته ويخافون ويرتعبون أمامه لأنهم صلبوه.
علاوة على هذا فإن يوسف بيع إلي مصر بناء على مشورة يهوذا، ويسوع سُلِّم لليهود بيدي يهوذا الإسخريوطي.
عندما باعوا يوسف لم يجب إخوته بكلمة، ويسوع أيضًا لم ينطق ولا أجاب على القضاة الذين حاكموه.
يوسف سلَّمه سيده للسجن ظلمًا، ويسوع أدانه أبناء شعبه ظلمًا.
سلَّم يوسف ثوبيه، واحد في أيدي إخوته، والآخر في يد زوجة سيده، ويسوع سلَّم ثيابه وقسمت بين الجند.
يوسف إذ كان في الثلاثين من عمره وقف أمام فرعون وصار سيد مصر، ويسوع إذ بلغ الثلاثين جاء إلي الأردن ليعتمد وقبل الروح وخرج يكرز.
يوسف عال مصر بالخبز، ويسوع عال العالم كله بخبز الحياة.
يوسف أخذ ابنة الكاهن الشرير النجس زوجة له، ويسوع خطب لنفسه الكنيسة من الأمم النجسين.
مات يوسف ودُفن في مصر، ومات يسوع ودُفن في أورشليم.
عظام يوسف أصعدها إخوته من مصر، ويسوع أقامه أبوه من مسكن الموت ولبس جسده وارتفع به إلي السماء في غير فساد[20].
القدِّيس أفراهاط الحكيم الفارسي
أَرْسَلَ أَمَامَهُمْ رَجُلًا.
بِيعَ يُوسُفُ عَبْدًا [17].
إن كان يوسف قد بيع بسبب حسد إخوته له، لكن الله هو الذي سمح له بذلك، حتى حسب المرتل الله أنه هو الذي بعثه لرسالة هامة، لصالح يوسف وإخوته ونسلهم أيضًا. له الكلي الصلاح يستخدم شرور الناس لعمل الخير والصلاح.
لاحظ القديس أغسطينوس قول المرتل: "أرسل أمامهم رجلًا"، مع أن هذا الرجل، أي يوسف، ذهب إلى مصر بسبب خطية إخوته. لكن الله حوَّل شرهم إلى خير، حتى صار ذهاب يوسف إلى مصر إرسالية من قِبَل الله نفسه. يقول القديس أغسطينوس: [يلزمنا أن نتأمل في هذا الموضوع الهام والضروري. كيف يستخدم أعمال البشر الشريرة بطريقة صالحة، كما من الجانب الآخر هم يستخدمون أعمال الله الصالحة بطريقة شريرة[21].]
آذُوا بِالْقَيْدِ رِجْلَيْهِ.
فِي الْحَدِيدِ دَخَلَتْ نَفْسُه [18].
إذ قُيِّد يوسف في السجن ظُلمًا بسبب ادعاءات امرأة سيده الباطلة، تأذتْ نفسه كما جسده، وكأن القيود الحديدية قد لحقت بكل كيانه.
يقول المرتل: "في الحديد دخلت نفسه" إشارة إلى مرارة القسوة التي حلَّتْ بنفسه، وهي أكثر مرارة من القيود الحديدية التي وُضعتْ في رجليه. هذا التعبير يشبه ما قاله سمعان الشيخ للقديسة مريم: "يجوز في قلبكِ سيف" (لو 2: 35)، ويقصد بالسيف تطلعها إلى آلام الرب، وموقف اليهود خاصة القادة منه.
* لقد أثقلوه بالقيود، لأنه لم يُرِدْ أن يوافق إغراءات المرأة المصرية. لقد أثقلوه بالقيود، لكنهم لم يستطيعوا أن يحطموا العدالة. عندما كان عمره 16 عامًا سقطتْ امرأة في حبه، ومع أنه كان في هذا السن الذي فيه يستسلم الشخص للشهوة بسهولة، رفض أن يخضع للشر،لأنه خشي بالأكثر من الخطر على نفسه.
"في الحديد دخلت نفسه". إنه حديد قيود الخطية التي تقتل النفس. ولعل العبارة تعني أنه كان في خطر، حيث اُتهم بخطية مرعبة بواسطة زوجة سيده. كانت المرأة ملتهبة نحوه، كما هو مكتوب: "كل الزناة بقلوبٍ مثل الأتون". "إلى وَقْتِ مجيء كلمته" [19]، كلمة الرب نفسه الذي خلَّصه[22].
القديس جيروم
إِلَى وَقْتِ مَجِيءِ كَلِمَتِهِ.
قَوْلُ الرَّبِّ امْتَحَنَهُ [19].
بقوله: "إلى وقت مجيء كلمته"، ربما يشير إلى الوقت المُعَيَّن من قِبَل الله لتحقيق الأحلام التي سبق فرآها يوسف وهو في بيت أبيه. أو ربما يقصد بعد مرور عامين حيث نسيه ساقي الملك بعد أن فَسَّر له يوسف الحلم. في كل الحالات إن لكل شيء وقت مُعَيَّن في ذهن الله يحقق فيه وعوده لمؤمنيه.
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "وقول الرب أحماه".
* "وكلمة الرب ألهبته". لو لم يلهبه الروح القدس لما كان يستطيع أن يغلب الشهوة. روح الرب ألهبه، وأحرق نار الشهوة[23].
القديس جيروم
أَرْسَلَ الْمَلِكُ فَحَلَّهُ.
أَرْسَلَ سُلْطَانُ الشَّعْبِ، فَأَطْلَقَهُ [20].
إذ حلّ وقت خلاصه من السجن وتمتعه بالمجد أرسل الملك إلى السجن ليطلقه ويلتقي به.
ما أحوجنا أن نلجأ إلى ملك الملوك، الذي وعد: "إن حرركم الابن بالحقيقة تكونون أحرارًا". هو وحده القادر أن يُحَرِّرَنا من عبودية إبليس وقيود الخطية.
* "أرسل الملك فحلَّه". تاريخيًا أرسل فرعون وحلَّه. وبتفسير آخر، فإن من كان مُجَرَّبًا بشهوة خليعة، لا يقدر أن يهرب من الخطية، ما لم يظهر الرب ويحله[24].
القديس جيروم
أَقَامَهُ سَيِّدًا عَلَى بَيْتِهِ،
وَمُسَلَّطًا عَلَى كُلِّ مُلْكِهِ [21].
سلَّم له فرعون تدبير شئون مملكته، بل وتدبير القصر الملكي نفسه (تك 41: 40-45).
لم ينقذه من الضيق فحسب، وإنما حوَّل ضيقاته إلى أمجاد وكرامات لم تكن تَخْطُر على فكره.
لِيَأْسِرَ رُؤَسَاءَهُ حَسَبَ إِرَادَتِهِ،
وَيُعَلِّمَ مَشَايِخَهُ حِكْمَةً [22].
أُعطِي يوسف سلطانًا لا لتدبير الأمور المادية فحسب كتخزين الحنطة وتوزيعها، وإنما ليكون له أيضًا سلطان على رجال القصر والدولة. الكل يسمع له ويطيعه وإلا يخضعون لعقوبات مشددة.
هنا تبرز شخصيته العجيبة، فمع ما ذاقه من مرارة لسنوات طويلة بسبب حسد إخوته بقي الإنسان المحب للكل، حتى لمشايخ الملك الوثنيين، فعلَّمهم الحكمة، ولم يبخل عليهم بشيءٍ. لم يُخْفِ الحكمة عنهم لتثبيت مركزه في القصر، لكن بقدر عطائه حتى الحكمة للآخرين، تزداد مخازن قلبه وفكره بعطايا الله المجانية.
* غالبًا ما يثير الصبر المتصنع الغضب بأكثر حذاقة مما يثيره الكلام. وبالصمت المؤذي يزيد شتائم الغير بطريقة أكثر مما يثيرها الكلام، وجراحات الأعداء تُحتَمَل بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملوءة مكرًا، والتي قيل عنها حسنًا بالنبي: "ليأسر رؤَساءهُ حسب إرادتهِ" (مز 22:105). وفي موضع آخر قيل: "كلام النَّمام مثل لُقَم حلوة، فينزل إلى مخادع البطن" (أم 22:26). هنا ينطبق القول: "لسانهم سهم قتال، يتكلم بالغش. بفمهِ يكلم صاحبهُ بسلام، وفي قلبهِ يضع لهُ كمينًا" (إر 8:9). وعلى أي الأحوال هو يخدع الغير، إذ "الرجل الذي يطري صاحبهُ يبسط شبكة لرجليهِ" (أم 5:29)[25].
الأب يوسف
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. الشعب في مصر

فَجَاءَ إِسْرَائِيلُ إِلَى مِصْرَ،
وَيَعْقُوبُ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ حَامٍ [23].
* "يعقوب تغرب في أرض حام". الإنسان البار لا يقدر أن يقطن على الدوام على الأرض، إنه مُجَرَّد سائح[26].
القديس جيروم
جَعَلَ شَعْبَهُ مُثْمِرًا جِدًّا،
وَأَعَزَّهُ عَلَى أَعْدَائِهِ [24].
تعرض نسل يعقوب أو إسرائيل للعبودية في مصر، لكن بقدر ما أذلوهم كانوا ينمون جدًا ويثمرون، بل وصاروا أكثر قوة وعزة من أعدائهم، إذ كانت بركة الرب معهم.
* "إنه جعل شعبه مثمرًا". حوالي 75 نفسًا نزلوا إلى مصر، وخرج من مصر 600 شخصًا[27].
القديس جيروم
حَوَّلَ قُلُوبَهُمْ لِيُبْغِضُوا شَعْبَهُ،
لِيَحْتَالُوا عَلَى عَبِيدِهِ [25].
إذ تزايد عددهم من عائلة ضخمة إلى شعب يتزايد وينمو، امتلأ المصريون بالغيرة مع الخوف منهم والحسد، فامتلأ الملك ورجاله كراهية من نحوهم. هذه البغضة كانت بسماح من الله ليطلعهم إلى الأرض الموعد.
إنه لم يبعث فيهم روح البغضة نحو شعبه، إنما رفع يديه عن قلوبهم ليكشف ما في داخلها، ويتركهم يُعَبِّرون عما في داخلهم من كراهية عمليًا.
أَرْسَلَ مُوسَى عَبْدَهُ،
وَهَارُونَ الَّذِي اخْتَارَهُ [26].
يبرز المرتل أن سرّ نجاح موسى وهرون هو دعوة الله لهما، وإن كان لكل منهما دوره الخاص به، لتحقيق خطة الله نحو شعبه.
أَقَامَا بَيْنَهُمْ كَلاَمَ آيَاتِهِ،
وَعَجَائِبَ فِي أَرْضِ حَامٍ [27].
لقد أعلن بتصريحات خاصة لحساب شعبه، مؤكدًا إياها بعجائب لتحقيقها.
أَرْسَلَ ظُلْمَةً فَأَظْلَمَتْ،
وَلَمْ يَعْصُوا كَلاَمَهُ [28].
يبدأ المرتل بالضربة التاسعة الخاصة بحلول الظلمة، وفي هذا يختلف عما ورد في (خر 7-11؛ ومز 78). يرى البعض أن الظلمة تشير بوجه عام إلى أية كارثة يصعب احتمالها، فتُدعَى ظلمة. ويرى آخرون أنه بدأ بهذه الضربة لأنها حرَّكتْ الشعب بكل قوة للامتثال لطلب موسى وهرون مهما كلَّفهم الأمر للخلاص من هذه الكارثة، ولكن فرعون بعد خضوعه لطلب الشعب للخروج من المأزق عاد وتراجع كما حدث مع الضربات السابقة لها.
* لم يأتِ عليهم بأسودٍ ونمورٍ وضباعٍ تأكلهم، ولا بقتلهم مرة واحدة، بل كان يجلدهم رويدًا رويدًا بنكبات تبدأ بأمورٍ خفيفة، وذلك للآتي:
أولًا: ليجلبهم إلى التوبة بوفرة رحمته.
ثانيًا: لتَظْهَر قوته أنه يقدر بالآت بسيطة ودنيئة يحارب جموعًا أقوياء.
ثالثًا: لئلا يبقى عُذْر لمن يقول إنه لو عالجهم الله بوفرة رحمته ولم يهلكهم لكانوا يلينون من قسوتهم.
رابعًا: لكي يعرف الإسرائيليون أيضًا قدرة الله ومحبته لهم ويتذكرون إحسانه. وإذا عدموا المواهب الإلهية يشعرون بذنوبهم ويندمون.
خامسًا: ليعرف الكل إنه إله، وحده خلق العالم، مُسَخِّر العناصر لطاعته. وأيضًا ليصير الأمر مشهورًا في كافة الأمم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
حَوَّلَ مِيَاهَهُمْ إِلَى دَمٍ،
وَقَتَلَ أَسْمَاكَهُمْ [29].
هذه هي الضربة الأولى حيث تحركتْ الطبيعة نفسها لتقف أمام الإنسان المُقاوِم للأمر الإلهي (خر 7: 19-25).
تحوَّلتْ المياه التي في البحر والنهر وفي الآبار والأغادير، حتى التي في أوعيتهم إلى دم، ولئلا يظنوا بأن اللون فقط قد تغيَّر وليس جوهر الماء، لذلك ماتت جميع الحيتان التي في البحر والنهر تأكيدًا للتحوُّل.
أَفَاضَتْ أَرْضُهُمْ ضَفَادِعَ،
حَتَّى فِي مَخَادِعِ مُلُوكِهِمْ [30].
جاء في المزمور 78: 45 "أرسل عليهم... ضفادع فأفسدتهم"، حيث أفسدت الضفادع الميتة الكثيرة الهواء نفسه، فسبب هلاكًا للبعض.
ذكر على وجوه الخصوص دخول الضفادع إلى بيوت الأسرة الملكية، تأكيدًا أن الجند لم يستطيعوا أن يحموا القصر الملكي حتى من الضفادع.
أَمَرَ فَجَاءَ الذُّبَّانُ وَالْبَعُوضُ فِي كُلِّ تُخُومِهِمْ [31].
يتحدث هنا عن الضربتين الثالثة والرابعة.
جَعَلَ أَمْطَارَهُمْ بَرَدًا وَنَارًا مُلْتَهِبَةً فِي أَرْضِهِمْ [32].
يرى البعض أن الله سمح بنوع من البَرَدْ لم تعتده مصر، إذ تعتمد على نهر النيل لا على الأمطار، وإن النار هنا تشير إلى رعود عنيفة وبروق غير معتادة.
جاء في سفر الحكمة (أصحاح 16) أن الطبيعة خالفت قوانينها، فكلما سقط بَرَد لم يكن يطفئ النيران المشتعلة بل يزيدها، وكلما التهبت النيران بالأكثر يزداد البَرَد.
ضَرَبَ كُرُومَهُمْ وَتِينَهُمْ،
وَكَسَّرَ كُلَّ أَشْجَارِ تُخُومِهِمْ [33].
تحولت حدائقهم إلى مناطق برية قاحلة، حيث ضرب الله كل أشجارها.
أَمَرَ فَجَاءَ الْجَرَادُ وَغَوْغَاءُ بِلاَ عَدَدٍ [34].
فَأَكَلَ كُلَّ عُشْبٍ فِي بِلاَدِهِمْ.
وَأَكَلَ أَثْمَارَ أَرْضِهِمْ [35].
هذه هي الضربة الثامنة (خر 10: 12-15).
قَتَلَ كُلَّ بِكْرٍ فِي أَرْضِهِمْ،
أَوَائِلَ كُلِّ قُوَّتِهِمْ [36].
هذه هي الضربة العاشرة والأخيرة (خر 12: 29-30). كانت التجربة غاية في الرعب، لأنها تمت في منتصف الليل، وسط الظلام الدامس.
فَأَخْرَجَهُمْ بِفِضَّةٍ وَذَهَبٍ،
وَلَمْ يَكُنْ فِي أَسْبَاطِهِمْ عَاثِرٌ [37].
لقد أعطاهم الرب نعمة في أعين المصريين، عندما سألوهم فضة وذهبًا قدموهما لهم بغير تردد. هذا ولم يوجد بينهم عاثر أي ضعيف أو مريض يعجز عن القيام برحلة الخروج. هكذا أخرجهم الرب بيدٍ قوية وذراعٍ رفيعة.
* أمرهم أن يستعير كل منهم من جاره المصري أوانٍ ذهبية وفضية، وخرجوا من مصر، بينما كان المصريون يدفنون أبكارهم. خرجوا فرحين من العبودية القاسية. أما الحزن والبكاء، فكان من نصيب المصريين بسبب هلاك أبكارهم. ولذلك قال موسى: "هذه الليلة هي للرب" (خر 12: 42) التي وعد أن يفتدينا فيها. وكل هذه الأشياء إنما هي سرّ النفس التي اُفتديتْ بمجيء المسيح، لأن كلمة "إسرائيل" تُفَسَّر بمعنى العقل الذي يعاين الله، فإنه يتحرر من عبودية الظلمة، أي من المصريين روحيًا[28].
القديس مقاريوس الكبير
* أما ثيابهم وأحذيتهم وأبدانهم فقد فقدت ضعفها الطبيعي. فثيابهم وأحذيتهم لم تبل بعامل الزمن، وأرجلهم لم تتورم رغم كثرة السير. ولم يذكر قط أن بينهم كان أطباء أو دواء أو أي شيء من هذا القبيل. وهكذا قد انتُزِعَ كل ضعفٍ من بينهم. فقد قيل: "فأخرجهم بفضة وذهب، ولم يكن في أسباطهم عاثر (هزيل)" (مز 105: 37)... أشعة الشمس في حرارتها لم تضربهم، لأن السحابة كانت تظللهم، وتحيط بهم كمأوى مُتَحَرِّك يحمي أجساد الشعب كله. ولم يحتاجوا إلى مشعل يبدد ظلام الليل، بل كان لهم عمود النار كمصدر إضاءة لا يُنطَق به يقوم بعمليْن: الإضاءة مع توجيههم في طريق رحلتهم... قائدًا هؤلاء الضيوف الذين بلا عدد في وسط البرية بدقة أفضل من أي مُرشِدٍ بَشَرِي. ولم يرحلوا فقط على البرّ بل وفي البحر كما لو كان أرضًا يابسة... فقد قاموا بتجربة جريئة تخالف قوانين الطبيعة. إذ وطئوا البحر الثائر، سائرين فيه كما على صخرٍ يابسٍ صلبٍ. فإذ وضعوا أقدامهم فيه، صارت مادته كالأرض اليابسة... وإذ وصل إليه الأعداء عاد إلى ما كانت عليه طبيعته، فصارت للأولين مركبة وللأعداء قبرًا... فقام البحر الذي لا يفهم بدور مُحْكَم كأعقل وأذكى إنسان، قام بدور حارس مرة، وبدور منتقم مرة أخرى، مُعْلِنًا هذا العمل المتناقض في يوم واحد[29].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كل من كان فيكم "ثيؤفيلس" (لو 1: 3) فهو "عزيز" (ممتاز) وقوي جدًا. هذا ما تعنيه كلمة θεοφιλος في اليونانية. ليس من ثيؤفليس من هم ضعيف. يقول الكتاب عن شعب إسرائيل عند خروجهم من مصر: "لم يكن في أسباطهم ضعيف" (مز 105: 37). أستطيع في جسارة أن أقول إن كل واحدٍ هو ثيؤفيلس نشيط، لديه غيرة وقوة من عند الله ومن كلمته. يستطيع أن يتعرف على الحق، وعلى تلك الكلمات التي بها يتعلم، ويفهم كلمة الإنجيل في المسيح. الذي له المجد والسلطان إلى دهر الدهور[30].
العلامة أوريجينوس
فَرِحَتْ مِصْرُ بِخُرُوجِهِمْ،
لأَنَّ رُعْبَهُمْ سَقَطَ عَلَيْهِمْ [38].
حوَّط الله حول شعبه، وحفظهم بطرق متعددة عجيبة، حتى فرحتْ مصر بخروجهم.
بقدر ما كان فرعون ورجاله وشعبه يقاومون خروجهم بإصرار، صاروا فرحين بخروجهم. عوض مقاومة الخروج صاروا يسندونهم ويُقَدِّمون لهم التسهيلات برضا ليخرجوا.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
5. التمتع بالميراث

في القسم السابق قدَّم الله لشعبه احتياجات شعبه الجسدية من خبز ولحم وماءٍ. أما هنا فيُقَدِّم لهم طعامًا وشرابًا للنفس ألا وهو الفرح والبهجة والترنم.
بَسَطَ سَحَابًا سَجْفًا،
وَنَارًا لِتُضِيءَ اللَّيْلَ [39].
لم يجعلهم في عوزٍ إلى شيءٍ، فيُرسِل لهم سحابًا كسقفٍ يحميهم، ونارًا لا لتحرقهم بل تضيء لهم في ظلمة الليل. بمعنى آخر يهتم بهم نهارًا وليلًا، ويحميهم من حرارة الشمس ويُنير لهم الطريق (خر 13: 21؛ عد 9: 16؛ 10: 34).
يصير الله لهم ملجأ وحصنًا كما يصير قائدًا في رحلتهم.
* إنه يوقد ناره في نفوسنا، ويظهر عمله فيها إن وجدها نقية من رطوبة الشهوات الزمنية[31].
القديس يوحنا سابا
* صلِّ من أجلي بحق ربنا كي تجتذبني بلده التي بداخلك، فأدخل إليها في الوقت الذي فيه نطلب إليه باشتياق أن يَخرُج إليّ فأراه.
إنه يوقد ناره في نفوسنا، ويظهر عمله فينا، إن وجدها طاهرة من رطوبة الشهوات المادية (مز 39:105)[32].
الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)
سَأَلُوا فَأَتَاهُمْ بِالسَّلْوَى،
وَخُبْزَ السَّمَاءِ أَشْبَعَهُمْ [40].
جعل الله البرية القفر تفيض على شعبه التائه بالخبز واللحم والماء.
إنه الأب السماوي الذي يعرف ما هو لنفعنا، يهتم حتى بطعامنا الجسدي. أما من جانبنا فيلزمنا ألا نشتهي شيئًا، بل نسأله أن يُطعِمنا بما يراه لائقًا بنا ولبنياننا. إنه يود أن يُدَرِّبنا على التمتع بخبز السماء وطعام والملائكة.
شَقَّ الصَّخْرَةَ فَانْفَجَرَتِ الْمِيَاهُ.
جَرَتْ فِي الْيَابِسَةِ نَهْرًا [41].
يُسَجِّل لنا موسى النبي هذا الأمر في (خر 17: 6 و عد 20: 11).
ما هي الصخرة إلا السيد المسيح الذي بصليبه فجرَّ لنا ينابيع مياه الروح القدس، ووهبنا أن نشرب من النهر الذي يُفَرِّح مدينة الله.
"يروون من دسم بيتك، ومن نهر نعمك تسقيهم" (مز 36: 8).
"نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي" (مز 46: 4).
"حول البحر إلى يبس، وفي النهر عبروا بالرجل هناك فرحنا به" (مز 66: 6).
"ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (مز 72: 8).
"مدت قضبانها إلى البحر، وإلى النهر فروعها" (مز 80: 11).
"شق الصخرة فانفجرت المياه، جرت في اليابسة نهرًا" (مز 105: 41).
"من النهر يشرب في الطريق لذلك يرفع الرأس" (مز 110: 7).
* دعنا نتأمل الآن في كلمات الإنجيل التي أمامنا. "فالأردن" يرمز إلى "النزول إلى أسفل". وتقترب كلمة "يارد" (تك 5) من الجانب اللفظي من كلمة "الأردن"، إذا جاز هذا القول. إذ تؤدي إلى نفس معنى "النزول إلى أسفل". "فيارد" وُلِدَ من "مهللئيل"، كما جاء في كتاب "أخنوخ"، إذا تقبَّلنا صِدْق ذلك الكتاب، وذلك في الأيام التي فيها (نزل) أبناء الله، واتخذوا لأنفسهم بنات الناس.
فبالنسبة لهذا النزول افترض البعض أن هناك إشارة مبهمة إلى "نزول" الأنفس إلى الأجساد. ناظرين إلى كلمتي "بنات الناس" كتعبيرٍ مجازي عن ذلك المسكن الأرضي. فإذا كان الأمر كذلك، فأي نهر سيكون إليه نزولهم، حيث لابد من أن يأتي المرء للتطهير، نهر ينحدر، لا من خلال نزوله هو، بل بنزولهم هم، أي الناس، إلا مخلصنا الذي يفرز الذين أخذوا أنصبتهم من موسى عن أولئك الذين حصلوا عليها من خلال يسوع (يشوع). فتيار هذا النهر، الذي يتدفق في مجراه يُفْرِحُ مدينة الله، كما ورد في المزامير (4:46). هذه المدينة التي ليست هي أورشليم المرئية، إذ ليس بجوارها نهر، بل كنيسة الله التي هي بلا لوم، المبنيِّة عل أساس الرسل والأنبياء، مع يسوع المسيح حجر الزاوية الرئيسي فيها.
لا بد أن نفهم كلمة "الأردن" أنه كلمة الله الذي صار جسدًا وهيكلًا بيننا، يسوع حجر زاويتنا الرئيسي الذي يعطينا إنسانيته التي اتخذها كإرث. هذه إذ قد أُصْعِدَت إلى لاهوت ابن الله، قد غُسِلَت، ثم تقبَّلت في ذاتها حمامة الروح النقية والبريئة، وارتبطت بها إذ لا تستطيع الطيران بعيدًا عنها فيما بعد.
العلامة أوريجينوس
لأَنَّهُ ذَكَرَ كَلِمَةَ قُدْسِهِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ عَبْدِهِ [42].
لقد مرت فترة طويلة على الشعب كانوا يشعرون كمن في ظلمة ومرارة مع حيرة، لكن الله وهبهم بهجة عند خرجوهم، فامتلأتْ أعماقهم بالفرح والتسبيح لله من أجل غِنَى نعمته.
فَأَخْرَجَ شَعْبَهُ بِابْتِهَاجٍ،
وَمُخْتَارِيهِ بِتَرَنُّمٍ [43].
وَأَعْطَاهُمْ أَرَاضِيَ الأُمَمِ.
وَتَعَبَ الشُّعُوبِ وَرَثُوهُ [44].
في الوقت المُعَيَّن، إذ امتلأ كيْل الوثنيين، طُرِدوا من أراضيهم، وفقدوا تعب أياديهم، ليرثه المؤمنون المُقَدَّسون له.
* لذلك على الذين يتمتعون بخيرات هذه الحياة أن يفكروا بحكمة أن هذه الخيرات هي في حوزتهم لكي تُحَفِّزهم للحياة الأفضل. لكنها في بعض الأحيان تؤدي بهم إلى لعنة أبدية مريرة. لأجل ذلك وعد الله بأرض كنعان لشعب إسرائيل ليحثهم في الأخير على الرجاء في الأمور الأبدية. ولأن هذا الشعب الذي لم يتعلم بعد قد ذاق شيئًا ما من الأمور الوقتية التي وعدهم بها الله، ووثقوا بتلك الوعود التي كانت في المنظور البعيد. وحتى يتقوى أيضًا رجاءهم بالأبديات، لم يدفعهم هذا فقط إلى الأمور المادية، بل منها إلى الرجاء في السماويات. هذا يشهد به صاحب المزامير بوضوح حينما يقول: "وأعطاهم أراضي الأمم وتعب الشعوب ورثوه. لكي يحفظوا فرائضه ويطيعوا شرائعه" (مز 105: 44-45)[33].
الأب غريغوريوس (الكبير)

لِكَيْ يَحْفَظُوا فَرَائِضَهُ،
وَيُطِيعُوا شَرَائِعَهُ. هَلِّلُويَا [45].
غاية أعمال الله وعجائبه أن يحفظ المؤمنون وصاياه ويطيعوه، فيصيرون أبناء مُقَدَّسين له!
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مزمور 105

لأكشف لك نفسي، يا من تعرف أعماقي

فتكشف لي أسرارك، لأني لا أعرفك كما أنتَ!


* أعترف لك بكل ما في أعماقي،
فإني خاطئ، وضعيف، ومستحق كل تأديب!
ولتكشف لي ذاتك،
فأُدرك أسرار حبك!
أراك غافر الخطايا،
ومُنقِذ نفسي من الفساد!
* لأُخبر كل الأمم بعجائبك.
فإنني أُحب كل البشرية،
وأشتهى خلاص كل إنسانٍ!
يفرح قلبي، وتُغَنِّي لك أعماقي،
وأنا ألتمس حضورك،
وأطلب التَعَرُّف على أسرارك!
كم بالأكثر يتهلل كل كياني حين أجدك حالًا فيّ!
وكم يزداد فرحي حين يتمتع الكل بحضورك!
* أفتخر باسمك يا أيها القدوس.
أحمل الانتساب إليك كمسيحي،
لأنك المسيح مخلص العالم.
تطلبك أعماقي، ليختبر العالم كله قدرتك العجيبة!
* كم كان اليهود يتهللون حين يظهرون أمامك في الأعياد.
في كل عام يصعد الكل إلى هيكلك ثلاث مرات.
يُعَيِّدون ويحسبون أنفسهم كمن هم في السماء!
أما وقد تجسدتَ وصرتَ كواحدٍ منا،
فيتهلل العالم كله بحضورك الدائم في وسط كنيستك!
لا أنتظر عيدًا، فأصعد إلى أورشليم.
بل أحتفل على الدوام بملكوتك في داخلي كما في السماء!
أنت هو عيدي الدائم الذي لا ينقطع.
أصرخ في أعماقي ليختبر العالم كله عذوبة حضورك!
وينعم الكل بالصلاة إليك بغير انقطاع!
ويرتفع قلب كل بشر إلى أورشليم العليا.
* هبْ لي مع التواضع الحقيقي روح الفرح السماوي.
أُسَبِّحك، وأُغَنِّي لك، وأحمدك، وأعترف لك.
أتوسل إليك، وأُصَلِّي بلا انقطاع.
أفتخر باسمك القدوس، وأتأمل في أعمالك.
أختبر دومًا عذوبة حضرتك،
ولا أكف عن الحوار المفتوح معك.
* معاملاتك معي كما مع كل الشعب عجيبة!
عجائبك لا تتوقف، إذ تجعل من شعبك عجبًا!
آياتك هي عنايتك الإلهية التي لا تتوقف!
أحكام فمك تكشف عن حبك الفائق لنا.
ماذا نرد لك من أجل حبك العجيب نحونا؟
كأنه ليس في السماء ولا على الأرض غيرنا.
حبك للبشرية يدهش كل الخليقة!
* قطعتَ عهدًا مع أبينا إبراهيم،
لكي ننعم نحن أبناؤه
بهذا الميثاق الأبدي كأبناء لك.
اخترت أبانا يعقوب، وجعلته بكرًا،
لكي تقيم منا أعضاءً في كنيسة الأبكار السماوية.
في كل المواثيق والعهود والأقسام تشير إلى تجسدك وخلاصك.
* تهلل آباؤنا بهذه العهود المُفْرِحة معك.
وأدركوا أنها في جوهرها كشف عن حبك لكل البشر.
هي عهود أبدية، تتمتع بها كل الأجيال خلال صليبك.
وتَحْمِل الكل لخبرة عربون السماء،
والرجاء في الأمجاد الأبدية.
هي عهود شخصية مع كل أب،
وهي عهود لكل مؤمن عبر الأجيال،
تَحْمِله إلى تذوُّق حبك الفائق.
* لم يعد نصيب ميراثنا أرضًا تفيض عسلًا ولبنًا،
يمكن أن يُنزَع منا، أو نُنزَع نحن منها،
كما نُزع إسرائيل ويهوذا بواسطة أشور وبابل.
إنما صار نصيب ميراثنا في داخلنا،
عربون الميراث السماوي الذي لن يسحبه العدو منا!
* رعايتك لنا في أرض غربتنا وأثناء رحلة هذه الحياة فائقة.
تسمح لنا بالضيقات،
لكنك تحفظنا، فلا تصيبنا أذية.
يقف ضدنا جبابرة قساة،
لكنك توبخهم وتبطل مؤامراتهم!
* أنت كلي الصلاح،
تستخدم حتى شرور الأشرار لخير الكثيرين.
تُخرِج من الآكل أكلًا، ومن الجافي حلاوة.
* وعودك صادقة وأمينة،
ورعايتك فائقة وعجيبة،
لكننا كثيرًا ما نتعجل تحقيقها،
ولا ننتظر الوقت المُعَيَّن حسب خطتك الإلهية.
* تسمح لنا بالضيقات التي تبدو مُرَّة للغاية،
ولا نعلم أنها هي طريق المجد والكرامة المعدة لنا!
عوض المذلة والضعف والحرمان،
تهبنا كرامة وقوة وإمكانيات جبارة.
* تُرسِل على الدوام قادة،
تختارهم لتحقيق خطتك،
وتُقَدِّم لهم آيات ومعجزات تسندهم.
تُحَرِّك الطبيعة غير العاقلة لكي تقف أمام المقاومين لك.
تعمل الطبيعة لحسابنا، بأمرٍ من لدنك.
* تُحَوِّل يا رب حتى المقاومين لنا إلى سَنَدٍ.
يساهمون في تحقيق خطتك معنا بفرح!
عوض المقاومة والعنف، يصيرون عونًا لنا في خلاصنا!
* تقود بنفسك رحلة حياتنا إليك.
تحمينا وتحرسنا من كل ضربة،
وتقودنا بنورك وسط ظلمة العالم!
  رد مع اقتباس
قديم 06 - 03 - 2014, 03:11 PM   رقم المشاركة : ( 107 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 106 - تفسير سفر المزامير
الفرح بغفران خطايانا

يُعْتَبَر هذا المزمور اعتراف عن خطايا الجماعة، بروح الرجاء، فإن الله ليس فقط غافرًا للخطايا، وإنما يعمل دومًا على اتحادنا معه. إنه يوجه أنظارنا نحو كنيسة العهد الجديد القائمة عمل السيد المسيح الخلاصي.
يرى البعض أن واضع هذا المزمور هو نفسه واضع المزموريْن 104 و105، لذلك ينسبونه إلى داود النبي، خاصة وأن بعض العبارات مشتركة مع 1 أي 16. ويرى آخرون أنه كُتِبَ في بابل في فترة السبي، مُعتَمِدين على الآية 47 حيث يصرخ المرتل باسم الجماعة كلها "اجمعنا من بين الأمم".
يعتبر هذا المزمور رفيقًا للمزمور السابق، وهما يغطيان تقريبًا نفس الفترة. غير أن المزمور السابق هو دعوة لتذكر معاملات الله مع شعبه، أما هذا المزمور فيؤكد أمانة الله مع شعبه الذي سرعان ما ينسى مراحم الله الغزيرة عبر الأجيال. المزمور 105 يرفعنا إلى فوق، وهذا المزمور يوبخنا.
إنه أول مزمور يبدأ بالليلويا ويُختم أيضًا بنفس التعبير، وهو أول مزامير الليلويات، التي هي مز 111، 113، 117، 135، 146-150.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 106 و1 أخبار الأيام 16

بعض عبارات هذا المزمور مشتركة مع 1 أي 16، حيث صار داود النبي يحمد الرب بيد آساف وإخوته: [راجع 1 أي 16؛ 34 مقابل مز 106: 1؛ 1 أي 16: 35-36 مقابل مز 106: 47-48.]
1. دعوة للتسبيح لله
1.
2. صلاة عن الجماعة
2-5.
3. اعتراف وطلب خلاص الرب
6-12.
4. تمرد في أيام موسى
13-33.
5. عصيان في أرض الموعد
34-39.
6. تأديبات الرب ورحمته
40-46.
7. توسل وتسبيح
47-48.
من وحي المزمور 106
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. دعوة للتسبيح لله

جاءت هذه الدعوة مطابقة لما ورد في مز 107 و136.
هَلِّلُويَا.
احْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ،
لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [1].
الشعور بالضعف والاعتراف بالخطايا يبعث في المؤمن كما في الجماعة الشعور بالتواضع أمام الله، لكنه لا يُفقِدنا روح الفرح بالله الرحوم غافر الخطايا. لذا يبدأ هذا المزمور بالكلمة "الليلويا"، مع أن المزمور يمثل صرخة إلى الله حيث يطلب الإنسان: "افتقدنا بخلاصك".
تُترجَم الكلمة التي في العربية "احمدوا" تارة "اعترفوا" وأخرى "اشكروا"، فإن ضعف الإنسان مع إدراكه لمراحم الرب يبعث في الإنسان الاعتراف بروح الرجاء مع الشكر للرب غافر الخطايا. وقد تكررت هذه العبارة 26 مرة في المزمور 136. فإنه ليس من موضوع ولا من عمل يناسب المؤمن أكثر من التسبيح بروح الرجاء والفرح للرب مخلصه.
يرى القديس أغسطينوس أن كلمة "احمدوا" هنا تُترجَم "اعترفوا"، سواء يعترف الإنسان بخطيته أو يعترف بمراحم الله.
* يليق بكل من يعترف بخطاياه أن يفعل هذا مع تسبيح الله، فإن الاعتراف بالخطايا ليس بالأمر التقوى ما لم يكن بدون يأس، وأن يرافقه التماس رحمة الله[1].
القديس أغسطينوس
ويرى القديس أغسطينوس أن تعبير "إلى الأبد رحمته" يعني إلى منتهى الدهور أو إلى نهاية العالم. كما يقول بأنه ربما يتجاسر أحد فيقول بأنه حتى في يوم الدينونة وإن كان الأشرار يعاقبون مع الشياطين وملائكته، لكن الله يُظهِر نوعًا من الرحمة بهم، فتظهر رحمته أبدية.
* يا من ارتكبتم خطايا خطيرة وتيأسون من الخلاص، وتفكرون أنه بسبب ضخامة خطاياكم لا تقدرون أن تنالوا الصفح، أنصحكم - بل بالحري ينصحكم النبي أن تشكروا الرب، لأنه صالح. عظيمة هي خطاياكم، ولكن عظيم هو الرب الذي يشفق عليكم. اعترفوا بخطاياكم للرب، واندموا، ولا يتأسوا من خلاصكم، لأن الرب عطوف. اشكروا الرب يا من لكم خطايا عظيمة. لا تتكلوا على قوتكم، بل ثقوا في رحمة الرب[2].
* "لأن إلى الأبد رحمته". يقول المرتل: "في الهاوية من يحمدك؟" (مز 6: 5) فإنه يستحيل بالنسبة لأي أحدٍ في الهاوية أن يندم على خطاياه.
مادمت في هذا عالم؛ أتوسل إليك أن تتوب.
اعترفْ، واحمد الرب، فإن فقط في هذا العالم الرب رحوم. هنا يقدر أن يتعطف على التائب، أما هناك فهو ديان وليس رحوم.
هنا هو رءوف ولطيف، هناك هو ديان.
هنا يبسط يديه للساقطين، هناك يرأس كقاضٍ.
أقول الآن هذا كله لنفع أولئك الذين يظنون أنه توجد ندامة على الخطية في الجحيم[3].
القديس جيروم
* إذا أقر المذنب بذنبه أمام حكام الأرض يعذبونه، أما الله فإنه يغفر لمن يقر بذنبه، وذلك لأنه صالح وإلى الأبد رحمته. وأما الذي لا يقر بذنبه يؤدبه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. صلاة عن الجماعة

يربط المرتل نفسه بالشعب، فإن كان يطلب من الرب أن يتعهده بخلاصه، فإنه لا يفرح ما لم يفرح الشعب، لأنهم موضوع اعتزازه وفخره.
مَنْ يَتَكَلَّمُ بِجَبَرُوتِ الرَّبِّ؟
مَنْ يُخْبِرُ بِكُلِّ تَسَابِيحِهِ؟ [2]
عجز الإنسان عن الحديث عن عجائب الرب والتَرَنُّم بكل تسابيحه، إما بسبب شعوره بخطاياه، كما جاء في المزامير: "وللشرير قال الله: ما لك تُحَدِّث بفرائضي، وتحمل عهدي على فمك" (مز 50: 16)، أو شعوره بعجزه عن التعبير عن أعمال الله خاصة معه شخصيًا، فمهما تكلم أو سبَّح يعجز عن التعبير عن معاملات الله العجيبة معه كما مع الشعب. (راجع سيراخ 43: 28-31).
* "من يقدر أن يُخبِر بأعمال الرب القديرة؟!" لا يستحق أحد أن يخبر بأعمال الآب العظيمة سوى الابن، ولا يقدر أحد أن يُعَبِّر عن قدرة الآب ذاك الذي هو نفسه القدير. ذاك الذي هو كلي القدرة، الذي في حضن الآب، قادر أن يُخبر ويُعْلِن عن الأعمال القدير للكلي القدرة.
"أو من يخبر بكل تسابيحه؟" قبل أن ينشر ربنا تسابيح الآب في الإنجيل كانت تسابيح الآب غير مسموعة في العالم.
بالمفهوم الروحي، كل ما هو كُتِبَ في الشريعة القديمة يُمكِن أن يُفهَم عن الآب[4].
القديس جيروم
* من يخبر عن أعمال الرب القديرة؟ (مز 2:106) من الموت صرنا خالدين، هل فهمتم النصرة، والطريق التي بلغتها؟ تعلَّموا كيف اُقتنيت هذه الغلبة بدون تعب وعرق. لم تتلطخ أسلحتنا بالدماء، ولا وقفنا في خط المعركة، ولا جُرحنا، ولا رأينا المعركة لكننا اقتنينا المعركة. الجهاد هو مسيحنا، وإكليل النصرة هو لنا.
ما دامت النصرة هي لنا، إذن يليق بنا كجنودٍ أن نرتل اليوم بأصوات مفرحة بتسابيح الغلبة. لنُسَبِّح سيدنا قائلين: "قد أُبتلع الموت إلى غلبة. أين غلبتك يا موت؟ أين شوكتك يا هاوية؟" (1 كو 54:15-55)[5].
* "من يعلن عن أعمال الرب القديرة؟ ويخبر بكل تسابيحه؟" أي راعٍ يقوت قطيعه بأعضائه؟ ولماذا أقول راعيًا؟ فإنه توجد أمهات كثيرات بعد الآم مخاض الولادة يرسلن أطفالهن إلى نسوة أخريات يقمن بإرضاعهم أما هو فلم يفعل ذلك، بل يقوتنا بدمه، ويُخَلِّصنا بكل وسيلة بنفسه[6].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* الابن المساوي للآب في الجوهر صار مثلي!كان يسير على الأرض، ويختلط بالبشر، ويصنع عجائبه بينهم، واهبًا خيرات هذا الدهر والدهر الآتي. وما قدَّمه على الأرض، إنما كان لتأكيد ما سيهبه في الدهر الآتي. وهكذا حقق الابن ما سبق
* إعلانه: "من يتكلم بجبروت الرب؟! من يخبر بكل تسابيحه؟!" (مز 106: 2)[7]
القديس يوحنا الذهبي الفم
طُوبَى لِلْحَافِظِينَ الْحَقَّ،
وَلِلصَّانِعِ الْبِرَّ فِي كُلِّ حِينٍ [3].
من الذي يستطيع أن يتكلم بأعمال الرب الجبارة ويخبر بكل تسابيحه إلا ذاك الذي يَقْبل رب يسوع برًّا له، فتعلن أعمال الله وعجائبه في حياته، ويصير هو نفسه شهادة حق لأعمال الله وعجائبه.
حِفْظ الحق الإلهي وصُنْع البرّ أمرٌ واحد متكامل، أما التحوُّل من صيغة الجمع إلى المفرد، فكثيرا ما يتكرر خاصة في سفر المزامير، إذ لا يفصل المؤمن نفسه عن الجماعة، تارة يتحدث عن خبرته الشخصية، وأخرى عن خبرته الجماعية، فالشركة مع الله تقوم على المستوييْن معًا دون انفصال بينهما.
أما القول "في كل حين" أو "دائمًا"، فهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا بالاختفاء في المسيح الذي وحده بلا خطية، يسترنا بنفسه ويصير لنا برًّا وفداءً.
يرى العلامة أوريجينوس أن الفضيلة هي المسيح، فمن يقتني المسيح فيه، إنما يقتني الفضيلة، ويحمل فيه سمات السيد المسيح.
ويرى القديس جيروم أن البرّ هو السيد المسيح، فيليق بنا لكي نكون أبرارًا على الدوام، أو في كل حين أن نقتني المسيح الذي صار لنا برّا، كما يقول الرسول، وأن يتشكل المسيح فينا، فنصير كمن يحمل المسيح في أعماقنا، أي تصير النفس أُمًا وأبًا للبر الذي يتشكل فيها.
* إنه يُسَبِّح ذلك الذي يعمل فينا أن نريد وأن نعمل مسرته (في 2: 13)[8].
* يُدعون مطوبين أولئك الذين يحفظون الحكم (الحق) في الإيمان، ويمارسون البرّ بالعمل[9].
القديس أغسطينوس
* "طوبى للحافظين الحق، وللصانع البرّ في كل حين". يحق لداود أن ينطق بهذه الصلاة. فهو نفسه أطاع وصايا الرب، وصنع ما هو حق. لكن لأنه لم يطع ولا صنع برّ في كل حين سقط. لهذا ماذا يقول؟ "طوبى للحافظين الحق، ولصانع البرّ في كل حين"، لكن كن عالمًا أنه لكي تكون مُطَوَّبًا تصنع الحق في كل حين. فإنه ماذا ينفع الإنسان إن عاش لمدة عشرين عامًا في عفةٍ، وبعد ذلك سقط؟ هذه هي رسالة كلمات الأنبياء التالية: "الفضيلة التي يمارسها إنسان لا تنقذه في اليوم الذي فيه يخطئ، والشر الذي يفعله إنسان لا يعثر في يوم رجوعه عن شره" (راجع حز 33: 12). فلا يكون البار واثقًا (في ذاته) ولا الخاطئ يائسًا من خلاصه، فكل منهما يجب أن يخاف ويرجو.
"الصانع البرّ في كل حين". ربنا هو البرّ... طوبى لذاك الذي يصنع البرّ، أي الذي يلد المسيح. كيف نلد المسيح أو البرّ؟ إن كنا نعيش بالبرّ، نحبل به فينا، ويُولد منا، فنكون أمًا للبرّ. طوبى لذاك الذي هو أب وأم للبرّ[10].
القديس جيروم
* الذين يحفظون الوصايا التي أمر بها الله مع أحكامه، ويداومون على عمل البرّ، هؤلاء يقدرون أن يتكلموا ويخبروا بأعمال قدرته وتماجيده، فطوباهم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* ليكن لكل إنسان تابوت عهد يحتفظ فيه بلوحي الشريعة حتى "يلهج في ناموس الله نهارًا وليلًا" (مز 2:1)، وليصبح فكره كتابوت العهد ومكتبة تضم كتب الله، لأن الأنبياء طوَّبوا الذين يحفظون وصاياه" في ذاكرتهم (مز 106: 3).
ليحفظ الإنسان أيضًا في داخل قلبه قسط المن إشارة إلى جمال وعذوبة فَهْم كلمة الله، وليحفظ أيضًا عصا هرون إشارة إلى التعليم الكهنوتي وقد أزهرت بتأديب مستقيم (العصا للتأديب والتهذيب)[11].
العلامة أوريجينوس
اذْكُرْنِي يَا رَبُّ بِرِضَا شَعْبِكَ.
تَعَهَّدْنِي بِخَلاَصِك [4].
يكشف هذا القول والعبارة التالية عن شهوة قلب رجال الله في العهد القديم، حيث يطلب كل مؤمنٍ أن يتمتع شخصيًا، لكن ليس في عزلةٍ عن شعب الله أو كنيسته. إنه يشتهي رؤية يوم الخلاص على الصليب، فيدعو هذا العمل مسرة الله بشعبه، وتعهده بخلاصه، وفرح للكل كما لكل مؤمنٍ، وخير للمختارين. إنه فيض عجيب من حب الله العملي نحو البشرية.
إن كان المرتل يشتهي أن يكون مطوّبًا بحفظه للحق الإنجيلي وصنعه للبرَّ، فهذا لن يتحقق إلا بانضمامه إلى شعب الله، موضوع سروره، وذلك بافتقاد أو تعهد المخلص له.
هذه الصرخة "اذكرني" قدَّمها اللص اليمين التائب، فتمتع بأبواب الفردوس المفتوحة. وهي لا تقوم على استحقاق شخصي، ولا على افتخار الإنسان بعمل ما، وإنما بالارتماء في أحضان المخلص والالتجاء إلى مراحمه العجيبة.
إنه يطلب من المخلص أن يذكرهن بكونه مشتاقًا أن يكون عضوًا في شعب الله المحبوب وموضع مسرة المخلص.
يرى القديس جيروم أن المرتل وقد وُلِدَ في ظل الناموس بين الشعب القديم اشتهى أن يتمتع بما يناله الشعب الجديد، حين يأتي الرب المخلص ويقيم شعبًا من العالم كله، يكون موضع رضا الرب ومسرته.
"تعهدني بخلاصك"، أي افتقدني بابنك الوحيد مُخَلِّص العالم.
* "تعهدني بخلاصك". هذا هو المُخَلِّص نفسه، الذي منه تُغفَر الخطايا، وتُشفَى النفوس، فتستطيع أن تحفظ الحكم (الحق) وتُمارِس البرّ...
"تعهدنا بخلاصك"، أي بمسيحك[12].
القديس أغسطينوس
* كأن هذا القول من قبل الأنبياء والصديقين الذين قبل المسيح، فإنهم يتضرعون إلى الله (الآب) لكي يؤهلهم لمشاهدة تدبير تجسد ابنه الذي يُدعَى مسرة (رضا)، كما قالت الملائكة عند ميلاده: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة. وأيضًا صوت الآب الذي قال عنه: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. هذه المسرة (الرضا) يُقال عنها "تعهد" (أو افتقدني)، فقد قيل: "افتقدنا المشرق من العلا". ويقال عنها "خلاصًا"، إذ قيل "يبصر كل أحدٍ خلاص الله".
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَرَى خَيْرَ مُخْتَارِيكَ.
لأَفْرَحَ بِفَرَحِ أُمَّتِكَ.
لأَفْتَخِرَ مَعَ مِيرَاثِكَ [5].
إذا يطلب المرتل من الله أن يفتقده بخلاصه، يسأله أن يضمه إلى كنيسته المحبوبة جدًا لديه، فيصير مختارًا، يحق له رؤية الخير أو الصلاح، أي التَمَتُّع به، وفرح الجماعة المقدسة، ونوال هبة الميراث الأبدي. بمعنى آخر يسأله أن يحسبه أحد مختاريه، فينعم عليه بالصلاح، ويتمتع بالعضوية الكنيسة المتهللة، والاعتزاز بالميراث المُعَد له في السماء!
يرى القديس جيروم أن المختارين هنا يعني بهما المرتل الرسل، والذين وإن كانوا يأتون بعده، لكنهم يسبقوه في الروح. وكما أن إبراهيم رأى يومه ففرح (يو 8: 56)، فليسمح الله له أن يفرح معه بميراث الرب.
* "لأرى سعادة مختاريك، وأفرح ببهجة شعبك"، أي افتقدنا بهذا السبب بخلاصك...! جاءت كلمة "سعادة" هنا في بعض النسخ "عذوبة" أو "حلاوة"... فإن الرب يعطي النظر للعميان، لا عن استحقاقهم، وإنما من أجل السعادة التي يهبها لمختاريه[13].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. اعتراف وطلب خلاص الرب

أَخْطَأْنَا مَعَ آبَائِنَا.
أَسَأْنَا وَأَذْنَبْنَا [6].
يشكو المرتل نفسه، فإن كان آباؤه قد اخطأوا وأسأوا وأذنبوا في عصيانٍ لله، فإنه قد اقتضى أثرهم، وسلك على منوالهم، لأن السقوط في الشر سهل. يصرخ دانيال في أرض السبي: "أخطأنا وأثمنا وعملنا الشر وتمردنا وحدنا عن وصاياك وعن أحكامك" (دا 9: 5)، وأيضًا نحميا: "إني أنا وبيت أبي أخطأنا. لقد أفسدنا أمامك..." (نح 1: 6-7).
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن صرخة الاعتراف بالخطايا هنا هي باسم اليهود الذين رفضوا السيد المسيح، فاشتركوا مع آبائهم في أيام موسى النبي وبقية الأنبياء. فمع ما صنعه الله معهم من معجزات، وما قدَّمته لهم من عطايا كانوا دائمي التذمر، وجاحدين للخير.
* "لأنه أعطى صوته فتزلزلت الأرض" (مز 46: 6) ومن يقدر أن يتحمَّل النظر إلى وجهه. لا يستطيع أحد أن ينطق في حضرته. إنساننا الداخلي لا يقوى على النظر إليه (دا 10 :8)، من الخوف أفواهنا تصمت ولا تتكلم. وإذا استعدنا القليل من القوة لنتحدث أمامه توبخنا ضمائرنا، عارفين أننا "أخطأنا مع آبائنا وأسأنا وأذنبنا" (مز 106: 6) في حضرته. وإذا تصورنا أننا صرنا على حالةٍ صالحةٍ، فكل صلاحنا "كنجسٍ وكثوب عدة " (إش 64 : 6). لأن الانتصار هو له، أما نحن فلنا اللوم وخزي الوجوه[14].
مارتيريوس - Sahdona
آبَاؤُنَا فِي مِصْرَ لَمْ يَفْهَمُوا عَجَائِبَكَ.
لَمْ يَذْكُرُوا كَثْرَةَ مَرَاحِمِكَ،
فَتَمَرَّدُوا عِنْدَ الْبَحْرِ عِنْدَ بَحْرِ سُوفٍ [7].
مع كل ما صنعه الله مع شعبه القديم من عجائب، إلا أن طبيعة الإنسان من جحود قد غلبت عليهم. كثيرًا ما تمردوا عليه كما على نبيه موسى (أع 7: 27، 35) وهرون كاهنه.
"بحر سوف" أي "بحر الأعشاب"، ويُدعَى البحر الأحمر في اليونانية. يظن البعض أنه أخذ هذا الاسم من بعض الحشرات الصغيرة التي كانت على سطحه، أو من انعكاس لون أحمر خفيف في بعض المناطق ومن الجبال التي على شاطئه، وآخرون يرون أنه يُدعَى هكذا لأن أرض أدوم (تعني الدم) كانت ما بين البحر وأرض فلسطين.
* "آباؤنا لم يفهموا عجائبك". لقد رأوا ومع ذلك لم يروا. رأوا بأعين الجسد، وليس بأعين الروح. لم يقل النبي أنهم لم يروا، وإنما لم يفهموا. فكما أن آباءنا رأوا العجائب، ولم يدركوا أعماق المعنى السري لها، هكذا أيضًا في قراءة الإنجيل، فإن من ينظر ويسمع بطريقة جسدانية في يقين وبدون بصيرة روحية يُحسَب أعمى روحيًا. لذلك طوبى لنا نحن الذين لم نرَ وآمنا أكثر من الذين رأوا ولم يؤمنوا.
لقد رأوا البحر الأحمر، ونظروا فرعون يغرق، وكل ما فهموه هو ما رأوه. أما نحن الذين لم نرَ فقد أدركنا ما هو أفضل منهم. أدركنا إبليس في فرعون، والشياطين في جيشه، والمعمودية في البحر.
هم يعرفون بالخبرة مياه مارة المُرَّة، ورحلوا خلال مارة. أما نحن فنعرف معمودية الهراطقة في المياه المُرَّة.
هم رفعوا حيَّة نحاسية على عمود في البرية... ونحن أيضًا نعلق الحية القديمة في البرية[15].
القديس جيروم
فَخَلَّصَهُمْ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ،
لِيُعَرِّفَ بِجَبَرُوتِهِ [8].
خلَّصهم الله خلال البحر الأحمر، إشارة إلى المعمودية، لا عن استحقاقهم، وإنما من أجل اسمه القدوس الذي دُعِي عليهم.
وَانْتَهَرَ بَحْرَ سُوفٍ فَيَبِسَ،
وَسَيَّرَهُمْ فِي اللُّجَجِ كَالْبَرِّيَّةِ [9].
بقى هذا العمل، أي عبور البحر الأحمر، رمزًا لعمل الله الخلاصي خلال مياه المعمودية، موضوع اهتمام المؤمنين وإيمانهم بعمل الله (خر 15: 8؛ مز 33: 7؛ 78: 13)، كما قيل: "الذي شقَّ المياه قدامهم، ليصنع لنفسه اسمًا أبديًا" (إش 63: 12).
* لم نقرأ أن صوتًا ما قد صدر من السماء ينتهر البحر، لكنه دعا القوة الإلهية التي كانت لها فاعليتها انتهارًا، وكأن البحر قد أُنتهر سريًا، فسمعتْ المياه ما لم يستطع البشر أن يسمعوه.
السلطان الذي يستخدمه الله عميق وسريّ، السلطان الذي استخدمه جعل ما ليس فيه حس يطيع إرادته.
"وسيَّرهم في اللجج كالبرية". لقد دعا كثرة المياه لججًا (أعماقًا)...
صارت (اللجج) برية بسبب جفافها، هذه التي كانت قبلًا لجج مياه عميقة[16].
القديس أغسطينوس
وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ الْمُبْغِضِ،
وَفَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ [10].
يتحدث هنا عن المُبغِض والعدو بصيغة المفرد، لأنه ليس لنا عدو إلا إبليس، والذي رُمِز له بواسطة فرعون.
* أي ثمنٍ دُفِعَ لهذا الخلاص؟ إنه نبوة حيث كان هذا العمل رمزًا للعماد، به خلصنا من يد الشيطان بثمنٍ عظيمٍ، هذا الثمن هو دم المسيح. إنه مثال متناغم، لم يتحقق بأي بحر، بل بالبحر الأحمر حيث جعله الدم بلون أحمر[17].
القديس أغسطينوس
وَغَطَّتِ الْمِيَاهُ مُضَايِقِيهِمْ.
وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَبْقَ [11].
مع أن العدو واحد، وهو إبليس، لكن المُضايقين كثيرون، إذ هم الجيش الذي أراد إبادتهم بناء على خطة فرعون. هكذا يثير عدو الخير ملائكته الأشرار ضد المؤمنين.
فَآمَنُوا بِكَلاَمِهِ.
غَنُّوا بِتَسْبِيحِهِ [12].
هنا يشير إلى تسبحة التي رنَّم بها الشعب عندما تمتع بالخلاص، بعبوره البحر الأحمر، وهلاك العدو. حينما أنقذهم الرب، وشق لهم طريقًا وسط بحر سوف سبَّحوا الرب (خر 15)، لكنهم عادوا ينكرون أعماله معهم، ويتذمرون عليه.
عبَّروا عن إيمانهم ببطءٍ شديدٍ، ولفترةٍ مؤقتة.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. تمرد في أيام موسى

التمرد ضد موسى النبي وهرون الكاهن موجه ضد الله نفسه الذي اختار موسى قائدًا للشعب وهرون "قدوسه". الأول رمز للسيد المسيح كلمة الله، إذ استلم موسى الشريعة؛ والثاني رمز له بكونه رئيس الكهنة السماوي الشفيع بدمه عنا.
أَسْرَعُوا فَنَسُوا أَعْمَالَهُ.
لَمْ يَنْتَظِرُوا مَشُورَتَهُ [13].
بقدر ما أبطأوا في التعبير عن إيمانهم بعد أتمام خلاصهم خلال عبور بحر سوف، أسرعوا في نسيان عجائبه معهم.
يليق بنا أن نشكر الله ونحن في وسط الضيق، ولا ننتظر حتى نَعْبُرَه كما فعل بنو إسرائيل. ونذكر على الدوام معاملاته معنا في الماضي ولا ننساها، حتى لا نكون جاحدين له.
* كان يليق بهم أن يفكروا أن مثل هذه الأعمال العظيمة نحوهم لم تكن بلا هدف، فإنها تدعوهم إلى سعادة لا تنتهي، لكنهم أسرعوا إلى التَمَتُّع بالسعادة في الأمور الزمنية التي لا تعطي الإنسان سعادة حقيقية، لأنها لا تروي الظمأ الشديد. يقول ربنا: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا" (يو 4: 13)[18].
القديس أغسطينوس
بَلِ اشْتَهُوا شَهْوَةً فِي الْبَرِّيَّةِ،
وَجَرَّبُوا اللهَ فِي الْقَفْرِ [14].
تبدأ الخطية بشهوة في داخل القلب أو الفكر، فتدفع الإنسان إلى عدم الإيمان والجحود، وتدخل به إلى حالة تذمُّر فتمرُّد على الله.
حوَّل لهم الرب اللجج إلى برية أو إلى أرضٍ جافة ليسيروا فيها متهللين، وعندما عبروا إلى البرية عوض الشبع بحُب الله ورعايته لهم جرَّبوا الرب واشتهوا ما لا يليق. استخفوا بالمن النازل من السماء، وطلبوا أن يشتموا رائحة قدور اللحوم كما كانوا عليه وهم في أرض العبودية.
فَأَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ،
وَأَرْسَلَ هُزَالًا فِي أَنْفُسِهِمْ [15].
إذ يُصر الإنسان على شهوته، تحت الإلحاح يعطيه الله سؤل قلبه. حينما أصر الشعب على إقامة ملك عليهم، سمع الله لهم. "وقال جميع الشعب لصموئيل: صلِّ عن عبيدك إلى الرب إلهك حتى لا نموت. لأننا قد أضفنا إلى جميع خطايانا شرًا بطلبنا لأنفسنا ملكًا" (1 صم 12: 19).
اشتهوا اللحم وطلبوه، فأعطاهم إياه، لكن لم ينالوا معه بركة الرب، فصاروا في هزال روحيًا وفكريًا وجسديًا. لقد عانوا الكثير من كل جوانب حياتهم.
وَحَسَدُوا مُوسَى فِي الْمَحَلَّةِ،
وَهَارُونَ قُدُّوسَ الرَّبِّ [16].
* كما يشهد سفر العدد (16: 1-3)، واضح أن هذا حلَّ بالرجال الذين تطلعوا بأسنان الحسد المسمومة إلى العطية السماوية المُقَدَّمة لهرون وموسى. هكذا داثان وأبيرام (ومن معهم) في استهتار طلبوا لأنفسهم الامتياز الذي قدَّمه حنو الرب لهرون وموسى... لقد ابتلعتهم الأرض لأنهم انشغلوا بالأرضيات، فجاءت طبيعة العقوبة التي حلَّتْ بهم هي نفسها تشهد عن أعمالهم الإجرامية[19].
كاسيدروس
فَتَحَتِ الأَرْضُ وَابْتَلَعَتْ دَاثَانَ،
وَطَبَقَتْ عَلَى جَمَاعَةِ أَبِيرَام [17].
وَاشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي جَمَاعَتِهِمْ.
اللهِيبُ أَحْرَقَ الأَشْرَارَ [18].
ورد في سفر العدد عن قورح وداثان وأبيرام وجماعتهما المتمردين: "فتحت الأرض فاها وابتلعتهم وبيوتهم وكل من كان لقورح مع كل الأموال، فنزلوا هم وكل ما كان لهم أحياء إلى الهاوية، وانطبقت عليهم الأرض، فبادوا من بين الجماعة... وخرجت نارٌ من عند الرب وأكلت المئتيْن والخمسين رجلًا الذين قرَّبوا البخور" (عد 16: 32-35).
صَنَعُوا عِجْلًا فِي حُورِيبَ،
وَسَجَدُوا لِتِمْثَالٍ مَسْبُوك [19].
لم يقف الأمر عند جحدهم عطايا الله، وإنكارهم أعماله العجيبة معهم، إنما صنعوا عجلًا وعبدوه. عبدوا حيوانًا مسبوكًا هو من صُنْعِ أياديهم البشرية، وجحدوا الخالق نفسه.
وَأَبْدَلُوا مَجْدَهُمْ بِمِثَالِ ثَوْرٍ آكِلِ عُشْبٍ [20].
لقد حمل اليهود الرغبة في العبادة الوثنية في قلوبهم، لهذا وجدوا في غياب موسى فرصة لتحقيق ما في داخلهم (خر 32).
يدَّعي بعض اليهود المُحْدِثين أن اللفيف من المصريين الذي خرجوا مع اليهود خدعوهم وجذبوهم لعبادة العجل. لكن التاريخ يشهد عن انحرافهم في أرض الموعد، ومشاركتهم الوثنيين العبادة الوثنية والرجاسات.
نَسُوا اللهَ مُخَلِّصَهُمُ
الصَّانِعَ عَظَائِمَ فِي مِصْرَ [21].
لم ينتفع إسرائيل مما قدَّمه الله لهم من أمورٍ عجيبةٍ لحسابهم عند خروجهم من أرض العبودية وعبورهم البحر الأحمر. كان يليق بهم أن يتمتعوا بمهابة الله في وقارٍ مع ثقة فيه بروح التقوى، مع مشاعر متهللة برعايته الفائقة.
وَعَجَائِبَ فِي أَرْضِ حَامٍ،
وَمَخَاوِفَ عَلَى بَحْرِ سُوف [22].
فَقَالَ بِإِهْلاَكِهِمْ.
لَوْلاَ مُوسَى مُخْتَارُهُ وَقَفَ فِي الثَّغْرِ قُدَّامَهُ،
لِيَصْرِفَ غَضَبَهُ عَنْ إِتْلاَفِهِمْ [23].
لن ينسى المرتل موسى النبي الذي بروح الانسحاق صرف غضب الله عن الشعب، مُستعطِفًا الله عليهم. هكذا يعمل القائد التقي، فكم بالأكثر يعمل ابن الله مُحِب البشرية من أجل خلاص الشعب من الموت الأبدي.
* لم يخشَ موسى عدل الله، الذي لا يمكن أن يمحو (اسمه)، طالبًا الرحمة لكي ينزع أسماء أولئك الذين بعدل تُمحَ أسماؤهم. هكذا وقف في الثغر قدامه ليصرف غضبه عن إتلافهم[20].
القديس أغسطينوس
وَرَذَلُوا الأَرْضَ الشَّهِيَّةَ.
لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَلِمَتِهِ [24].
* كيف أمكنهم أن يرذلوا ما لم يروه إلا حسبما أوضحت الكلمات التالي: "لم يؤمنوا بكلمته"... إنه يوبخ عدم إيمانهم، إذ لم يصدقوا كلمات الله، الذي كان يقودهم إلى أمور عظيمة (أورشليم) خلال أمورٍ صغرى (أرض الموعد)، ويسرع بهم ليباركهم بأمورٍ وقتية يتذوقونها جسديًا، ولم ينتظروا مشورته [13]، كما قيل قبلًا[21].
القديس أغسطينوس
بَلْ تَمَرْمَرُوا فِي خِيَامِهِمْ.
لَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ الرَّبِّ [25].
إذ قدَّم الجواسيس تقريرًا عن الشعب الساكن في كنعان (عد 13) "رفعت كل الجماعة صوتها وصرخت، وبكى الشعب تلك الليلة، وتذمر على موسى وعلى هرون جميع بني إسرائيل... فقال بعضهم لبعض: نقيم رئيسًا ونرجع إلى مصر" (عد 14: 1-4).
فَرَفَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ،
لِيُسْقِطَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ [26].
رفع اليد هنا للقسم (عد 14: 21-23، 28).
وَلِيُسْقِطَ نَسْلَهُمْ بَيْنَ الأُمَمِ،
وَلِيُبَدِّدَهُمْ فِي الأَرَاضِي [27].
يقول المرتل: "ترجعنا إلى الوراء عن العدو، ومبغضونا نهبوا لأنفسهم. جعلتنا كالضأن أكلًا. ذريتنا بين الأمم. بعت شعبك بغير مالٍ، وما ربحت بثمنهم. تجعلنا عارًا عند جيراننا. هزأة وسخرية للذين حولنا" (مز 44: 10-13).
وَتَعَلَّقُوا بِبَعْلِ فَغُورَ،
وَأَكَلُوا ذَبَائِحَ الْمَوْتَى [28].
"بعل" اسم شائع لأغلب الآلهة الذكور عند الأمم في الشرق، كما أن "عشاروت" الاسم الشائع للآلهة الرئيسية عندهم للأنثى. يرتبط الاسم بالمكان، فبعل فغور يعني الإله بعل الذي على تل فعور. قدَّم بلعام ذبائح على مذابح هناك (عد 23: 28-30).
:ذَبَائِحَ الْمَوْتَى": يُدْعَى يهوه الإله الحي، أما الأصنام فتُدعَى الآلهة الميتة.
وَأَغَاظُوهُ بِأَعْمَالِهِمْ،
فَاقْتَحَمَهُمُ الْوَبَأُ [29].
وُرد ذلك في عد 25: 1-3، حيث بدأ الشعب يزنون مع بنات موآب، وقامت بنات موآب يجذبهن لعبادة آلهتهن، وتعلَّق إسرائيل ببعل فغور.
فَوَقَفَ فِينَحَاسُ وَدَانَ،
فَامْتَنَعَ الْوَبَأُ [30].
وردت قصة فينحاس في عد 25: 6-13.
تبقى غيرة فينحاس الكاهن على قُدْسية الله في شعبه كما في مُقَدَّساته خالدة، تذكرها الأجيال، وتسجلها الأبدية. ففي وسط الظلمة الحالكة لن يُنسَى العمل المقدس والغيرة المقدسة.
فَحُسِبَ لَهُ ذَلِكَ بِرًّا،
إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ إِلَى الأَبَدِ [31].
ربما يتعجب أحد كيف يُحسَب ما فعله فينحاس برًّا، وقد قتل الكاهن والمرأة المديانية الزانية. كان هذا تحت قيادة روح الله، لأن قبول الكاهن الزواج بالوثنية والانحراف نحو العبادة الوثنية يفسد الجماعة كلها، ويدفعها لرفض الإيمان بالله أو العبادة للأصنام حتى في داخل هيكل الله. لم يُعْنِ هذا أن روح الله أمره بهذا، إنما قَبِلَ ما في قلبه من رغبة في السلوك بروح القداسة.
* حسب الله هذا بالنسبة لكاهنه برًّا، ليس فقط مادام يوجد نسل، وإنما "إلى الأبد"، لأن ذاك الذي يعرف القلب، يعرف كيف يزنه بالحب نحو الشعب الذي فعل هذا[22].
القديس أغسطينوس
* إن كان فينحاس بغيرته قتل صانع الشر، فهدَّأ غضب الله، أليس يسوع الذي لم يذبح آخر بل سلَّم نفسه فدية عن الجميع (1 تي 2: 6) قد رفع غضب الله ضد البشرية؟[23]
القديس كيرلس الأورشليمي
* إن كنا نتشكل بموته، فالخطية التي فينا بالتأكيد تصير جثة (هامدة)، مطعونة برمح المعمودية كما أن الزاني قد طُعِنَ بواسطة غيرة فينحاس[24].
العلامة أوريجينوس
* الآن يقول بالنبي: "هذه هي راحتي، أعطوا راحة المتعبين" (إش 28: 12 LXX). هذه راحة الرب. آه أيها الإنسان سوف لا تحتاج إلى القول: "اِغفر لي"؛ أعطِ راحة للمتعبين، آزر المرضى، وأعطِ الفقراء، فإن هذه الأعمال هي حقيقة صلاة.
كما سأشرح لك يا عزيزي، أنه في كل مرَّة تُمارِس راحة الرب هي صلاة. لأنه مكتوب أنه عندما زنا زمري مع المرأة المديانيَّة فلما رأى ذلك فينحاس بن ألعازار دخل وراء الرجل الإسرائيلي إلى القبَّة وطعن كليهما، الرجل الإسرائيلي والمرأة (عد 25: 6-8). هذا القتل اُعتبر كصلاة، لأن داود قال في المزمور: "فوقف فينحاس وصلَّى، فامتنع الوباء، فحُسب له برًا إلى دورٍ فدورٍ إلى الآن" (مز 106: 30-31)، لأن قتْلَهما كان لأجل الرب اعتُبر ذلك كصلاة له[25].
القديس أفراهاط الحكيم الفارسي
وَأَسْخَطُوهُ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ،
حَتَّى تَأَذَّى مُوسَى بِسَبَبِهِمْ [32].
إن كان الله لا ينسى عمل فينحاس المملوء غيرة، فإنه أيضًا مع محبته العظيمة لموسى وهرون وتكريمه لهما، إذ فقدا حلمهما من شدة مقاومة الشعب لهما، حرمهما من دخول أرض الموعد بالجسد كدرسٍ عن عدم محاباة الله لأحدٍ ما (عد 20: 2-13).
* عندما قاوموا موسى من أجل الماء في البرية، ومن كثرة إلحاحهم فرط بشفتيه، أي نطق بشفتيه بسخطٍ، وقال: "ألعلي من هذه الصخرة الصلبة أخرج لكم ماءً؟!" ولم يخدم ما أمر به الله بسكوتٍ كعادته السابقة، لأنهم أمرُّوا روحه. لأجل ذلك أدَّب الله موسى ووبخه، ومنعه من دخول أرض الموعد، وذلك للأسباب التالية:
أولًا: ليُعَلِّمنا الحلم وعدم الغضب.
ثانيًا: ألا نستصعب شيئًا على قدرة الله.
ثالثًا: ليُعَرِّف ذلك الشعب الأحمق أن الله يقاصص بعدله، حتى يخافه أخص أحبائه.
وأيضًا كان ذلك رمزًا أن الأرض التي هي ملكوت السماوات، لا يدخل إليها الشعب بشريعة موسى، بل بشريعة يسوع المسيح بالمعمودية. لأجل ذلك دبَّر الله أن يأتي بالإسرائيليين إلى أرض فلسطين يشوع بن نون، جائزًا بالأردن. ولذلك قال موسى لهم: أنا لا أدخل أرض الموعد من جراكم، وتوسلت إلى الله، فأجابني كفاك.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّهُمْ أَمَرُّوا رُوحَهُ،
حَتَّى فَرَطَ بِشَفَتَيْهِ [33].
* "لأنهم أمروا روحه حتى تكلم بشفتيه بشكٍ" ماذا قال بشكٍ؟ كما لو كان الله الذي صنع عجائب عظيمة من قبل لا يقدر أن يجعل المياه تفيض من صخرة. فقد لمس الصخرة بشكٍ، وبهذا اختلفت هذه المعجزة عن بقية المعجزات التي لم يشك فيها. بهذا عصى، واستحق أن يسمع أنه يموت بدون الدخول إلى أرض الموعد (تث 32: 49-52). لقد اضطرب بسبب تمرمر الشعب غير المؤمن، ولم يتمسك بالثقة التي اعتاد أن يكون عليها. ومع هذا فإن الله أعطاه كمختاره شهادة حسنة حتى بعد موته، حتى نرى أن هذا التردد في الإيمان قد عوقب عليه بهذا العقاب فقط ألا يُسمَح له بالدخول إلى الأرض مع كونه قائدًا للشعب[26].
القديس أغسطينوس
* ليس من حاجة أن نخبر كيف أغضب موسى وهرون الله عند ماء مريبة، ولم يدخل أرض الميعاد (عد 20: 13). فيروي لنا أيوب الطوباوي أنه حتى الملائكة وكل خليقة يُمكن أن تخطئ[27].
القديس جيروم
* تذمر الشعب لأنه لم يوجد ماء. مجرد قال موسى لشعبه: "أمن هذه الصخرة تخرج لكم ماء" (عد 20: 10) هكذا تردد على خفيف، ولكن من أجل هذا وحده، للحال استلم التهديد أنه لا يدخل أرض الموعد، التي كانت في ذلك الوقت رأس كل الوعود المُعطاة لليهود. عندما أرى هذا الإنسان يسأل ولا ينال صفحًا، عندما أراه لا يتأهل لنوال المغفرة من أجل هذه الكلمات القليلة بجانب أعمال برِّ كثيرة هكذا، بالحق أُدرك في كلمات الرسول صرامة الله (رو 11: 22). أُدرك تمامًا هذه الكلمات حقيقية: "إن كان البار بالجَهد يخلُص، فالفاجر والخاطئ أين يظهران" (1 بط 4: 18)[28].
القديس باسيليوس الكبير
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
5. عصيان في أرض الموعد

حقق الله وعده مع إبراهيم وإسحق ويعقوب، فأدخلَ الشعب أرض الموعد ليرثوها، فإذا بهم عِوَض الطاعة له عصوه، إذ فتحوا الباب للاختلاط بالوثنيين، واشتراكهم معهم في عبادة الأصنام، وتقديم بنيهم وبناتهم ذبائح للشيطان، كما سلكوا في الزنا والنجاسة.
لَمْ يَسْتَأْصِلُوا الأُمَمَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ الرَّبُّ عَنْهُمْ [34].
كان لدى إسرائيل استعداد عجيب للانحراف نحو العبادة الوثنية، فعبدوا العجل الذهبي بعد خروجهم من مصر، وكلما ارتبطوا بشعب ما يشاركونهم عبادة أصنامهم، لهذا كان الأمر صريحًا أن يستأصلوا الأمم في كنعان (تث 7: 1-5، 16، قض 2: 2). ومع هذا فقد أقاموا عهودًا مع الأمم الوثنية (يش 9: 3-15).
* لم يكن هذا عن عدم شفقة منه، بل لئلا يدربوهم على عبادة الأصنام، ولئلا يتزوجوا ببناتهم، فيستميلوهم إلى كفرهن، ولا يذعنوا لأمر الله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
بَلِ اخْتَلَطُوا بِالأُمَمِ،
وَتَعَلَّمُوا أَعْمَالَهُمْ [35].
وَعَبَدُوا أَصْنَامَهُمْ،
فَصَارَتْ لَهُمْ شَرَكًا [36].
إن كانت الخميرة تُخَمِّر العجين كله (1 كو 5: 6) والمعاشرات الرديئة تفسد الأخلاق الجيدة (1 كو 15: 33)، فكم بالأكثر إن دخل الشعب في علاقات زيجية وشركة في الرجاسات الدنسة وفي عبادة الأصنام مع شعب أو شعوب وثنية؟!
وَذَبَحُوا بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ لِلأَوْثَانِ [37].
يرى البعض أن كلمة الأوثان هنا وهي في الجمع يُقصَد به الأرواح الشريرة، التي هي الملائكة الخاضعون للشيطان.
كان بعض الأمم يُقَدِّمون الأطفال ذبائح للآلهة، فيُقَدِّم الأب أو الأم الطفل لكاهن الوثن، وهو بدوره يلقيه على تمثال معدني مُلْتَهِب نارًا كذبيحة، ويُسمى ذلك "الإجازة في النار". وقد جاءت الوصية الإلهية: "لا تُعْطِ من زرعك للإجازة لمولك لئلا تُدَنِّس اسم إلهك" (لا 18: 21). "لا تعمل هكذا للرب إلهك، لأنهم عملوا لآلهتهم كل رجسٍ لدى الرب مما يكرهه، إذ أحرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار لآلتهم" (تث 12: 31).
* تَحوَّل جنس البشر وصاروا يعبدون الشياطين، ويا للأسف فإن ثمار الأرض التي خلقها الله حسنة صارت تُقدَّم للشياطين. فإنهم يضعون على مذابحهم خبزًا وخمرًا وزيتًا، بل ويُقَدِّمون ذبائح الحيوانات أيضًا، وليس ذلك فقط بل صاروا يُقَدِّمون بنيهم وبناتهم ذبائح للشياطين (مز 106: 37)[29].
القديس مقاريوس الكبير
وَأَهْرَقُوا دَمًا زَكِيًّا،
دَمَ بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمِ الَّذِينَ ذَبَحُوهُمْ لأَصْنَامِ كَنْعَانَ،
وَتَدَنَّسَتِ الأَرْضُ بِالدِّمَاء [38].
وَتَنَجَّسُوا بِأَعْمَالِهِمْ،
وَزَنُوا بِأَفْعَالِهِمْ [39].
لما كان الزنا يُعْتَبَر أبشع أنواع الدنس متى ارتَكَبَته ابنة أو زوجة، لهذا يحسب الكتاب المقدس الانحراف عن عبادة الله الحي إلى عبادة الأوثان زنا ونجاسة (مز 73: 27؛ خر 34: 15، 16)
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
6. تأديبات الرب ورحمته

هذه العبارات تَخُص حال الشعب في فترة القضاة، إذ تعرَّضوا من وقت إلى آخر إلى الاستعباد لأمم محيطة بهم. كانوا يصرخون إلى الله، فيُرسِل لهم قضاة يُخَلِّصونهم.
فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى شَعْبِهِ،
وَكَرِهَ مِيرَاثَهُ [40].
* اعتاد الكتاب المقدس أن ينسب إلى الله تعبيرات تبدو كأنها تُشْبِه التعبيرات الخاصة بنا. مثال ذلك: "فحمى غضب الرب..." (مز 106: 40) وأيضًا: "والرب ندم لأنه ملَّك شاول" (1 صم 15: 35)... بجانب هذا يشير إلى جلوسه وقيامه، وتَحَرُّكه وما أشبه ذلك[30].
القديس غريغوريوس النيسي
وَأَسْلَمَهُمْ لِيَدِ الأُمَمِ
وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مُبْغِضُوهُمْ [41].
* كما أن الله لمَّا غضب على اليهود مرة سلَّم أورشليم إلى أعدائها، "وتسلط عليهم مبغضيهم" (مز 106: 41)، ولم يعد فيها بعد ذلك عيد ولا تقدمة. وهكذا أيضًا النفس البشرية التي غضب الله عليها بسبب عصيانها لوصيته، فسلمها لأعدائها، أي للشياطين والشهوات. وهكذا فحينما أغواها هؤلاء الأعداء أفسدوها تمامًا وأهلكوها، ولم يعد فيها أي عيد أو فرح، ولا يرتفع فيها بخور أو تقدمة لله. وعلاماتها وآثارها ضاعت، ونسيت في الشوارع، بينما تسكن فيها الوحوش المرعبة وأرواح الشر الخبيثة[31].
القديس مقاريوس الكبير
* عندما ضُرب جليات بحجر، ضُرب بقوة المسيح. وفي أي جزء من الجسم ضُرب؟ على الجبهة، فإنه عندما ضُرب إنسان مُدَّنس للمقدسات هناك يكون المسيح غائبًا، وعندما تأتي عليه نهايته لا توجد علامة الخلاص. فمع كون جليات محميًا بالأسلحة من كل جانبٍ، لا تزال جبهته مُعَرَّضة للموت، لأنها لا تحمل عليها ختم المخلص، ولذلك ذُبح في الموضع الذي وُجِدَ خاليًا من نعمة الله[32].
مكسيموس أسقف تورين
وَضَغَطَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ،
فَذَلُّوا تَحْتَ يَدِهِمْ [42].
كانت الأمم الوثنية تحت سلطانهم، وكان يمكن عدم الشركة معهم، لكنهم إذ دخلوا في عهود من أجل لذة الشهوات أو المكاسب المادية، صارت هذه الأمم مُستعبِدة لهم وأذلتهم. بهذا ذاقوا مرارة الخطية والتهاون مع الشر.
* كان ذلك بسماح من الله وتدبيره، ليبغضوهم ويكرهوا أوثانهم وأعمالهم، ويرجعوا إلى الله مُخَلِّصهم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
مَرَّاتٍ كَثِيرَةً أَنْقَذَهُمْ.
أَمَّا هُمْ فَعَصُوهُ بِمَشُورَتِهِمْ،
وَانْحَطُّوا بِإِثْمِهِمْ [43].
إذ يتهاون الإنسان مع الشر ويشترك مع الأشرار في شرهم يسمح الله للأشرار أنفسهم أن يقوموا بتأديبه، فإن تأديبهم مرعب وعنيف. هذا ما حدث حين سمح الله لأشور وبابل أن يسبيا إسرائيل ويهوذا. وهذا ما يسمح به حين نتهاون مع الخطية.
* "أما هم فعصوه بمشورتهم". هذا ما قاله قبلًا "لم ينتظروا مشورته" [13]. الآن فإن مشورة الإنسان مُهْلِكة له، عندما يطلب ما هو لنفسه فقط، لا ما هو لله (في 2: 21)[33].
القديس أغسطينوس
فَنَظَرَ إِلَى ضِيقِهِمْ،
إِذْ سَمِعَ صُرَاخَهُمْ [44].
يسمح الله أحيانًا للأشرار بتأديب أولاده، لكن الله كأب يتدخل في الوقت المناسب لينقذ أولاده الذين تحت التأديب.
وَذَكَرَ لَهُمْ عَهْدَهُ،
وَنَدِمَ حَسَبَ كَثْرَةِ رَحْمَتِهِ [45].
* "ندم" هنا تعني أنه كفّ عن ضربهم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
وَأَعْطَاهُمْ نِعْمَةً قُدَّامَ كُلِّ الَّذِينَ سَبُوهُمْ [46].
الله أب حتى حين يُؤَدِّب، يغضب لكي يُصلح، وإذ نستجيب للإصلاح يفتح أبواب مراحمه على مصارعيها.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
7. توسل وتسبيح

جاء التوسل هنا صلاة يُسَر الله بها، فمع الاعتراف بالخطايا تحمل الصلاة روح الرجاء في الخلاص والتسبيح لله كمخلصٍ. ينتهي المزمور بالتسبيح الجماعي لله، يُعتَبَر مجدلة يختم بها المرتل الكتاب الرابع من سفر المزامير.
خَلِّصْنَا أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُنَا،
وَاجْمَعْنَا مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ،
لِنَحْمَدَ اسْمَ قُدْسِكَ،
وَنَتَفَاخَرَ بِتَسْبِيحِكَ [47].
سِر قبول اليهود ضد المسيح هو تفكيرهم المادي وتفسيرهم الحرفي للنبوات. وكما يقول القديس أغسطينوس: [يبدو لي أن الشعب الإسرائيلي الجسداني سيظن أن النبوة تتحقق (في ضد المسيح)، القائلة: "خلِّصنا أيها الرب إلهنا، واجمعنا من بين الأمم" (مز 106: 47). تتحقق تحت قيادته وأمام أعين أعدائهم المنظورين هؤلاء الذين سيأسرهم بطريقة منظورة ويقدم المجد المنظور[34].]
* من يمكنهم أن يُجمَعوا من بين الأمم إن لم يخلصوا؟![35]
القديس أغسطينوس
مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ.
وَيَقُولُ كُلُّ الشَّعْبِ: آمِينَ. هَلِّلُويَا [48].
ليتنا ننتهز كل فرصة لنشكر ونُسَبِّح الله، ونحث الآخرين للشركة معنا في التسبيح.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 106

أُسَبِّحك يا غافر الخطايا

* أعترف لك يا مخلصي بخطاياي،
أكشف لك أعماقي،
يا من تعرفها أكثر مني.
أعترف لك إني خاطئ،
محتاج إليك يا غافر الخطايا!
لتكشف لي ذاتك،
فأتلامس مع مراحمك الغزيرة.
أنعم بها هنا، وأعيشها في السماء إلى الأبد.
* أعمالك قديرة وعجيبة!
تُحَوِّل قلبي من مزبلة إلى ملكوتك المُفْرِح.
تُقيم من أعماقي عجبًا،
فتشهد حياتي لخلاصك الفائق.
وأصير تسبحة، تُنشد ألحان مراحمك.
* حقًا من يقدر أن يشهد لك،
إلا الذي يحفظ الحق الإنجيلي،
ويمارس البرّ في كل حين.
أنت هو الحق والبرّ،
لأقتنيك في أعماقي،
فأصير بالحق شاهدًا لأعمال حبك الإلهي!
* ضمني إلى شعبك،
فأصير عضوًا في جسدك.
تعهدني بخلاصك، فأنت هو المخلص.
أنت غافر الخطايا، وواهب الشفاء للنفوس.
فتحفظ حقك، وتمارس برّك.
* في غِنَى نعمتك تسكب السعادة والعذوبة على شعبك.
تملأهم بالبهجة، فيتهللون.
لستُ أطلب شيئًا عن استحقاق لي،
لكنني أطلب من غِنَى مراحم، يا محبًا لشعبك!
* أعترف لك إنني أخطأت مع بيت آبائي.
هب لي أن ألمس حبك، وأتمتع بمراحمك.
انتهرت البحر الأحمر،
فأوجدت يابسًا وسط المياه،
يَعْبُر به شعبك متهللًا،
ويغرق فيه العدو، فلا يقوم!
قل كلمة، فأعبر إليك وسط مياه العالم.
ويسقط عدو الخير بكل جنوده وخططه.
تتحول الضيقة إلى خلاص عجيب.
عوض الآلام أتمتع بفرح التسبيح لك.
* أمرتَ البحر بلغة لم يسمعها البشر،
ولم يدركها أحد منهم.
سمعتْ المياه صوتك فأطاعت،
أما البشر فلم يسمعوا شيئًا!
المياه التي بلا عقل ولا حِس سمعت وأطاعت.
تحوَّلتْ اللجج العميقة إلى طريقٍ جافٍ.
صارت الأعماق أشبه ببرية يعبر عليها الشعب!
أنت إله المستحيلات، صانع العجائب لمختاريك!
* قدَّمتَ لهم أكثر مما سألوا وفوق ما طلبوا.
لكن في جحودهم تمردوا عليك،
وقاوموا العظيم في الأنبياء موسى، ورئيس الكهنة هارون.
* هب لي فهمًا، فأدرك أسرار حبك.
وأدرك ما وراء معاملاتك مع شعبك.
مبارك أنت يا رب إلى الأبد. آمين.
  رد مع اقتباس
قديم 06 - 03 - 2014, 03:14 PM   رقم المشاركة : ( 108 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 107 - تفسير سفر المزامير
كلمة الله واهب الشفاء



في المُقَدِّمة عن سفر المزامير سبق أن أوضحنا أن الكتاب الخامس من سفر المزامير يقابل السفر الخامس من أسفار موسى، أي سفر التثنية، الذي يعتبر سفر الشريعة، أو سفر كلمة الله.
يبدأ هذا الكتاب بالمزمور 107 الذي يُقَدِّم لنا مفتاح الكتاب الخامس، وهو: "أرسل كلمته فشفاهم" (مز 107: 20).
ضم هذا الكتاب:
1. المزمور الكبير، مزمور 119 يُعْتَبَر مذكرات داود النبي عن كلمة الله التي كان يعشقها ويتلذذ بها ويمارسها.
2. يحوي أيضًا مزامير المصاعد (مز 120-134) التي كان يترنم بها الصاعدون إلى بيت الرب حيث يتمتعون بوعود الله ووصاياه.
3. مزامير هاليل المصرية (مز 113- مز 118).
4. مزامير هلّلويا (146-150).
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
[FONT=""]اَلْمَزْمُورُ الْمِئَةُ وَالسَّابِعُ[/FONT]
كلمة الله واهب الشفاء

يُقَدِّم لنا هذا المزمور صورة حية عن كلمة الله المتجسد، غافر الخطايا، الذي يجمع كنيسته من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها. الطبيب الإلهي واهب الشفاء للنفس والجسد.
1. دعوة للاعتراف والشكر
1-3.
2. خلاص من تيه البرية
4-9.
3. خلاص من العبودية
10-16
4. خلاص من المرض
17-22.
5. خلاص من مخاطر الإبحار في العالم
23-32.
6. العناية الإلهية
33-43.
من وحي المزمور 107
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

* "هلّلويا"، نتغنى بها بالحقيقة في أيام مُعَيَّنة، لكننا نفكر فيها كل يوم. فإن بهذه الكلمة نعني التسبيح لله، وإن كان ليس بفم الجسد، فبالتأكيد بفم القلب. "دائمًا تسبحته في فمي" (مز 34: 1).
أما أن العنوان ليس فيه "هلّلويا" مرة واحدة بل مرتيْن، فهما لا يخصان هذا المزمور وحده، بل هذا المزمور والمزمور السابق له[1].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. دعوة للاعتراف والشكر

يدعو المرتل الجماعة المقدسة أن تُقَدِّم اعترافًا عن الخطايا، وشكر لأمانة الله في عهده معهم، مؤكدًا صلاحه وحبه نحو المفديين. إنه ينقذ المؤمنين به، فقد أوفى ديونهم بدمه الثمين، وحررهم من عبودية إبليس، وجمعهم من كل المسكونة كشعبٍ مقدسٍ له.
اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ،
لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ [1].
جاءت كلمة "احمدوا" هنا بمعنى "اعترفوا"، كما يقول كل من القديسين أغسطينوس ويوحنا الذهبي الفم وغيرهما أنه يلزمنا أن نعترف للرب أولًا من أجل إحساناته معنا، خاصة من أجل نعمته العاملة فينا فنمارِس الصلاح كعطية من عنده، وأيضًا الاعتراف بخطايانا لكي ننال مغفرة الخطايا. والجانبان مُكَمِّلان لبعضهما البعض. يترجمها القديس أغسطينوس"اعترفوا للرب لأنه حلو، لأن إلى الأبد رحمته". ويقول إن من لا يذوق عذوبة الله لا يقدر أن يعترف.
* رحمته ليست إلى حين، كما لو كانت ليست إلى الأبد، فإنه لهذا الهدف رحمته الحالية على البشر هي أن يعيشوا مع الملائكة إلى الأبد[2].
القديس أغسطينوس
* اعترفوا له بخطاياكم لأنه لطيف ويغفر الخطايا. لو كان غير صالح لما نصحكم النبي أن تعترفوا وتشكروه. حنوه أبدي. هنا في هذا العالم هو كلي الرحمة، وفي العالم الآخر عادل... مادمتم في هذا العالم اعترفوا واشكروه[3].
القديس جيروم
* الاعتراف نوعان: الإقرار بذنوبنا، والشكر على الإحسان، وكلاهما ينبغي أداءهما للرب، لأنه صالح وأن رحمته دائمة إلى الأبد.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لِيَقُلْ مَفْدِيُّو الرَّبِّ،
الَّذِينَ فَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ [2].
كان تعبير "مفديي الرب" مُحَبَّبًا جدًا لدى إشعياء النبي (إش 35: 9-10؛ 62: 12؛ 63: 4). فقد انكشف سرّ الصليب لإشعياء، وبالتالي تتطلع إلى كنيسة العهد الجديد التي يجمعها الرب من كل الأمم ككنيسة افتداها بدمه، وخلَّصها من عبودية إبليس. لذا يقول: "لا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد إليها. لا يوجد هناك بل يسلك المفديون فيها. ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنمٍ وفرحٍ أبدي على رؤوسهم. ابتهاج وفرح يدركانهم. ويهرب الحزن والتنهد" (إش 35: 9-10).
* "ليقل مفديو الرب الذين فداهم من يد لعدو." يشير النبي هنا مباشرة إلى دعوة الأمم. نداؤهم يُمَثِّل الفكرة الرئيسية السريَّة للمزمور...
كنا مسبيين في يد إبليس، لذلك جاء الرب وفدانا لكي يُحَرِّرنا من قبضته[4].
* يمسك العدو بنا في قبضته، ليس لأنه يحبنا، وإنما لأنه يبغضنا...
يا لجلال قوة دم الرب وعظمته، فإنه حررنا من قبضة إبليس... أفاض الرب دمه مثل دهن الرحمة، وبدمه حرَّرنا... فقد كانت يد إبليس تمسك بنا في استعباده العالم كله[5].
القديس جيروم
* القول هنا [2-5] عنا نحن المسيحيين، وقد جمعنا له المجد في كنيسته الواحدة من أقطار المسكونة، وضمنا بإيمانٍ واحدٍ به. لأننا أولًا قبل أن نؤمن كنا ضالين وغير منقادين لهداية الله، وتائهين في سيرة قفرة وعديمة النظر نحو الله، وخالية من الفضائل، ولم يكن فيها مياه المعمودية، ولا سبيل يهدينا إلى مدينة سكن الصديقين التي هي ملكوت السماوات. كنا جياعًا بسبب عدم الخبز الذي يُشَدِّد قلب الإنسان، وهو كم التعليم الإلهي، وعطاش لعدم الماء الذي من أجله قال ربنا له المجد: من يؤمن بي تجري من بطنه أنهار ماء الحياة، وكانت نفوسنا في كربٍ.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
وَمِنَ الْبُلْدَانِ جَمَعَهُمْ،
مِنَ الْمَشْرِقِ وَمِنَ الْمَغْرِبِ،
مِنَ الشِّمَالِ وَمِنَ الْبَحْرِ [3].
مفديو الرب القادمون من المشارق والمغارب والشمال هم الأمم الذين قبلوا الإيمان بالسيد المسيح. يقول النبي: "هؤلاء من بعيد يأتون، وهؤلاء من الشمال، ومن المغرب، وهؤلاء من أرض سينيم" (إش 49: 12). ويقول الإنجيلي: "ويأتون من المشارق ومن المغارب ومن الشمال والجنوب، ويتكئون في ملكوت الله" (لو 13: 29).
يرى القديس جيروم أن النبي يذكر الغرب مرتيْن (لأن البحر غرب أورشليم) ولم يذكر الجنوب. وذلك في رأيه أن الجنوب يشير إلى بيت لحم حيث وُلد السيد المسيح فيها، جنوب أورشليم، وقد قيل أن الرب يأتي من الجنوب (حب 3: 3). وللأسف فقد رفض اليهود السيد المسيح، إذ يأتي الأمم من المشارق والمغارب إلى حضن إبراهيم، وأما أبناء هذا الجيل (اليهود) فيكونون في الخارج (مت 8: 10-12).
* كما يظهر من النص، هذا المزمور لا يخُص شعب إسرائيل، بل هو أغنية كنيسة الله الجامعة المُنْتَشِرة في العالم كله[6].
* الآن لنفهم هؤلاء المفديين هم في كل دائرة الأرض. شعب الله هذا يتحرر من مصر العظمى والمتسعة، ويُقادون خلال البحر الأحمر (خر 14: 22)، أي خلال المعمودية ينتهي أعداؤهم. فإنه بالسرّ كما بالبحر الأحمر، أي بالمعمودية المُقَدَّسة بدم المسيح، يقتنون أثر المصريين، أي الخطايا، فتُغسل تمامًا... "هذه الأمور جميعها أصابتهم مثالًا وكُتبتْ لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور" (1 كو 10: 11)[7].
القديس أغسطينوس
* تَمَّ إكرام الأمميين أكثر جدًا من القطيع اليهودي، لأنهم كانوا مُدانين بالعصيان، وبقتلهم للرب، بينما أكرم الأمميون الإيمان بالمسيح، الذي به وله ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين[8].
القديس كيرلس الكبير
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. خلاص من تيه البرية

التيه في البرية في غاية الخطورة، غالبًا ما يؤدي إلى الموت. يتعرض الراحلون في البرية لفقدان الطريق الآمن، كما للجوع والعطش وحالة الإنهاك الشديد. كما لا توجد فيها مدينة آمنة من المخاطر، بل يتعرض المسافرون لوحوش البرية واللصوص. لهذا يتقدَّم الرب نفسه لشعبه بكونه الطريق الذي يحملهم فيه إلى حضن الآب، والخبز السماوي، والماء الحي، وواهب الراحة ومُشْبِع كل الاحتياجات والملجأ الآمن.
تَاهُوا فِي الْبَرِّيَّةِ فِي قَفْرٍ بِلاَ طَرِيقٍ.
لَمْ يَجِدُوا مَدِينَةَ سَكَنٍ [4].
ينطبق هذا القول على اليهود الذين تاهوا في البرية أربعين عامًا، ولم يعبروا إلى أرض الموعد، باستثناء يشوع بن نون وكالب. كما ينطبق على البشرية ككل، فقد عاشت كما في حالة تيه منذ سقوط آدم حتى جاء كلمة متجسدًا ليعبر بهم إلى حضن الآب، ويتمتعوا بأورشليم السماوية كوطنٍ يستقرون فيه أبديًا.
يرى القديس جيروم أن الأمم تاهوا في البرية، ولم يجدوا المدينة. فقد بحث سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم عن المدينة، لكنهم تاهوا كمن في برية قاحلة. فإن تعاليم الفلاسفة دون طلب نعمة الله وعونه لا تُقَدِّم الطعام الحقيقي ولا المياه الحية. إنهم أشبه بالمرأة نازفة الدم التي أنفقت كل معيشتها على الأطباء ولم تُشف (لو 8: 43-49؛ مر 5: 25-35؛ مت 9: 20-23). لكنها عندما صرخت إلى الرب ولمستْ هُدب ثوبه شُفيتْ.
* خرج من نظام الشركة نوع آخر من الساعين وراء الكمال، يُدعون بـ"المتوحدين" أي المنعزلين. وإذ لم يكتفوا بنصرتهم، إذ داسوا حيل إبليس الخفية تحت أقدامهم وهم يعيشون وسط الناس، اشتاقوا أن يدخلوا في حرب علانية ومعركة مكشوفة مع العدو.
هكذا لم يخشوا التوغل في أعماق البرية، مقتفين آثار يوحنا المعمدان الذي قضى كل حياته في الصحراء، كذلك إيليا واليشع، إذ يتحدث الرسول عنهم قائلًا: "طافوا في جلود غنمٍ وجلود معزى معتازين مكروبين مُذَلّين، وهم لم يكن العالم مُستَحِقًا لهم، تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض" (عب 37:11-38).
تكلم عنهم الرب مع أيوب بصورة رمزية قائلًا: "من سرَّح الفراءَ حُرًّا ومن فكَّ رُبُط حمار الوحش، الذي جعلتُ البرية بيته والسباخ مسكنه. يضحك على جمهور القرية. لا يسمع زجر السائق. دائرة الجبال مرعاه وعلى خضرةٍ يفتّش" (أي 5:39-8). أيضًا يقول سفر المزامير: "ليقل مفديو الرب الذين فداهم من يد العدوّ" ثم يكمل قائلًا: "تاهوا في البرية في قفر بلا طريق. لم يجدوا مدينةَ سكنٍ. جِياع عِطاش أيضًا أعيت أنفسهم فيهم. فصرخوا إلى الرب في ضيقهم فأنقذهم من شدائدهم" (مز:107: 4-6). يصفهم إرميا أيضًا قائلًا: "جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ. يجلس وحده ويسكت لأنه قد وضعه عليهِ" (مرا 27:3، 28). وتخرج كلمات المرتل من القلب: "صرت مثل بومة الخِرَب. سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح (مز 6:102-7)[9].
الأب بيامون
جِيَاعٌ عِطَاشٌ أَيْضًا
أَعْيَتْ أَنْفُسُهُمْ فِيهِمْ [5].
كثيرًا ما كان يتعرض المسافرون في البراري للجوع والعطش بسبب نقص الطعام والعطش بسبب نقص الطعام والماء.
يعلن الله رعايته لمؤمنيه وسط برية هذا العالم. قيل بإشعياء النبي: "البائسون والمساكين طالبون ماء ولا يوجد. لسانهم من العطش قد يبس. أنا الرب استجيب لهم، أنا إله إسرائيل لا أتركهم. افتح على الهضاب أنهارًا، وفي وسط البقاع ينابيع. اجعل القفر أجمة ماء والأرض اليابسة مفاجر مياه" (إش 41: 17-18).
إن كان الأمم قد صاروا أشبه بالبراري التي بلا ماء، إذ لم يتمتعوا بالشريعة ولا الآباء ولا النبوات، لكن الله، إله كل البشر، فجَّر في هذه البراري ينابيع الإيمان بالمسيح يسوع، فتحولتْ البراري إلى فردوس الله المُثْمِر.
فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ،
فَأَنْقَذَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ [6].
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن الأمم الوثنية والتي يدعوها العهد الجديد اليونانيين لم يكونوا في العهد القديم يدركون حال الشقاء الذي بلغوا إليه، لهذا لم يصرخوا إلى الله لكي ينجيهم مما هم عليه، فقام الأنبياء والصديقون يصرخون عنهم بمرارةٍ وفي أنين. كما حدث أيضًا حين جاء السيد المسيح، حيث لم يتقدم إليه المجانين ولا طلبوا منه الخلاص، لكن أقرباءهم العقلاء كانوا يأتون إليه ويسألونه عنهم. هكذا يليق بالأتقياء ألا يكفوا عن السؤال والطلبة، بل والصراخ من أجل الهالكين كي يعمل المخلص فيهم.
* كان أتقياء الله يتلهفون في شفقةٍ من أجل هلاك أبناء جنسهم، ويصرخون ويطلبون حضور ابن الله إلى العالم كما أوحي إليهم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
وَهَدَاهُمْ طَرِيقًا مُسْتَقِيمًا،
لِيَذْهَبُوا إِلَى مَدِينَةِ سَكَنٍ [7].
* إذ فشلوا أن يجدوا الطريق إلى مدينة سكن، قادهم (الرب) إلى طريقٍ مستقيم. أظهر لهم الطريق، لأنهم قبلًا وجدوا طرقًا ملتوية غير مستقيمة. "هداهم طريقًا مستقيمًا". قادهم "الطريق" إلى طريق مستقيم. الرب نفسه المخلص قادهم. قادهم الطريق، وجعلهم يسلكون فيه ذاك الذي هو الطريق والقائد في نفس الوقت... حتى يدخلوا المدينة بيتهم، يدخلون كنيسته التي بناها على نفسه الذي هو الصخرة والطريق والمُرْشِد[10].
القديس جيروم
فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ،
وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ [8].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فلنشكرْ الرب، مراحمه وعجائبه لأبناء البشر".
يقف الإنسان في دهشة كيف يُقَدِّم النبي - في العهد القديم- ذبيحة شكر لله من أجل عجائبه مع بني البشر، أي مع الأمم، ما لم يكن قد ابتُلع في محبة الله المُعْلَنة بالصليب، ويرى كلمة الله يبسط يديه لكل البشرية في المشارق والمغارب والشمال والجنوب، خاصة وأن هذه العبارة تكررت أربع مرات في نفس المزمور [ع 8، 15، 22، 31].
لقد كرر المرتل هذا التعبير: فليحمدوا الرب على رحمته لبني آدم" ثلاث مرات [8، 15، 31]، وكما يقول القديس جيروم أن في هذا تكريم للثالوث القدوس كما أعلنته الأناجيل.
يُقدَّم الاعتراف بالحمد والشكر للحق الإنجيلي الذي قدَّم لنا شبعًا حقيقيًا لنفوسنا، وخبزًا سمائيًا [9]، لأنه كسَّر متاريس الهاوية، وحررنا من الجحيم [16]، وأيضًا وهبنا روح التسبيح في جو كنسي مبهج [32].
* يُقال عن ربنا نفسه إنه الطريق، لأنه يهدي المنقادين إليه لمعرفة أبيه، وإلى مدينة عامرة، وهي ملكوته حيث مسكن قديسيه. ويصل إلى هذه المدينة هؤلاء الذين يخرجون من اضطرابات وبلبلة الزمنيات. وكما أن اليهود لما عزموا على الإتيان إلى مدينة الله ساروا طريقًا قفرة ومتعبة وشاقة، كذلك سبيلنا نحن أيضًا أن نسلك طريقًا ضيقة لنصل إلى مدينة الله أورشليم السماوية. فإذًا لنشكره على مراحمه وعجائبه التي يصفها لبني البشر. ونحن نُقَدِّم له الشكر ليقتدي الغير بنا، ويتعلموا منا عجائبه، فينصلحون ويقوِّموا أعمالهم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* إنه يعد الأمم بخمر الفرح، مستخدمًا الظل ليشير إلى سرّ العهد الجديد الذي للمسيح، والمفتوح الآن ليحتفل به الأمم[11].
يوسابيوس القيصري
لأَنَّهُ أَشْبَعَ نَفْسًا مُشْتَهِيَةً،
وَمَلأَ نَفْسًا جَائِعَةً خُبْزًا [9].
يهتم الله بكل احتياجات مؤمنيه، لكي ما يشبعوا ويرتووا، ولا يحتاجون إلى شيء. وكما يقول إرميا النبي: "وأروى نفس الكهنة من الدسم، ويشبع شعبي من جودي يقول الرب" (إر 31: 14). ويقول المرتل: "يروون من دسم بيتك، ومن نهر نعمتك تسقيهم" (مز 36: 8).
* يُقال عن الإنسان العديم الصلاح والخالي من البرّ إنه نفس خاوية وجائعة. هكذا كان اليونانيون (الأمم) قبل إيمانهم بالمسيح، فأشبعهم من خيراته عندما علَّمهم عمل البرّ.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. خلاص من العبودية

تذل الخطية الإنسان وتُفْقِّده حريته، ليعيش كما في سجنٍ مظلمٍ، أبوابه نحاسية من يَقْدِر أن يُحَطِّمها؟ وعوارضه حديدية من يقدر أن يكسرها؟ يعيش الإنسان كمُقيَّدٍ بسلاسل خطيرة ثقيلة على الجسد والنفس.
الْجُلُوسَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ،
مُوثَقِينَ بِالذُّلِّ وَالْحَدِيدِ [10].
في الحديث السابق كان يُشَبِّه البشرية بمسافرين رُحّل في وسط برية قاحلة، بلا طعام ولا شراب، ويقوم الرب نفسه بإعالتهم. الآن يتحدث عنهم كأسرى ومساجين يعيشون في مذلة، مُقَيِّدين بالحديد، وملقون في وسط ظلمة، يحتاجون إلى الله لينير ظلمتهم (مز 18: 28).
يشتاق الله أن يُحَرِّرَ الأسرى ويطلق الذين في السجون، فإن الحرية هي أعظم هبة مُقدَّمة للإنسان. لأن الرب سامع للمساكين، ولا يحتقر أسراه" (مز 69: 33). "ليدخل قدامك أنين الأسير" (مز 79: 11).
* كان واجب على اليونانيين (الأمميين) أن يدركوا بحكمتهم الطبيعية مُكَوِّن الكائنات من جمال المخلوقات ومحتوياتها وتدبيرها، كما كتب الرسول: "لأن أموره غير المنظورة تُرَى منذ خلْق العالم مُدرَكة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته حتى إنهم بلا عذر..." (رو 1: 20 الخ). ولكن ربنا يسوع المسيح لوفرة رحمته قد أشبعهم من الخيرات، وأنار ظلمتهم، ونجَّاهم من ضلال الموت، وفك قيودهم، قائلًا للمأسورين: اخرجوا، وللذين في: الظلمة اظهروا.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّهُمْ عَصُوا كَلاَمَ اللهِ،
وَأَهَانُوا مَشُورَةَ الْعَلِيِّ [11].
ليس من ظلمة تسيطر على الإنسان مثل ظلمة الخطية والعصيان لله، وليس من طريق للأسر والحرمان من الحرية مثل رفض مشورة الله، فإن من ينتهك وصايا المحرر الإلهي يُلقي بنفسه في مرارة الذل والإهانة، ويحرم نفسه من الحرية الداخلية وسلام القلب.
فَأَذَلَّ قُلُوبَهُمْ بِتَعَبٍ.
عَثَرُوا وَلاَ مَعِينَ [12].
لا يستطيع القلب المتكبر والعاصي لإلهه أن يتقبَّل السلام في داخله، إنما يعيش في تعبٍ لا يُعَبَّر عنه. يسقط وليس من يعينه على القيام. فإن الله وحده، إله المتواضعين قادر أن يُعِين ويقيم إلى التمام.
* لتجاهدوا ضد الشهوة، وإن توقف الله عن مساندتكم في جهادكم لا تقدرون أن تنتصروا. وعندما يضغط شركم عليكم تذل قلوبكم بتعبٍ. لهذا تعلَّموا أن تصرخوا بقلبٍ متواضع: "ويحي أنا الإنسان الشقي، من ينقذني من جسد هذا الموت؟!" (رو 7: 24)[12]
القديس أغسطينوس
ثُمَّ صَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ،
فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ [13].
حين يدير الساقط وجهه نحو الله، يجده ينتظره لكي يُخَلِّصَه من شدائده، ويشرق بنوره عليه وينزع عنه الظلمة.
أَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ،
وَقَطَّعَ قُيُودَهُمْ [14].
فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ،
وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ [15].
لأَنَّهُ كَسَّرَ مَصَارِيعَ نُحَاسٍ،
وَقَطَّعَ عَوَارِضَ حَدِيدٍ [16].
إن كانت الخطية والعصيان يدخلان بالإنسان أو بالجماعة كما إلى حبسٍ مغلقٍ بمتاريس نحاسية وعوارض حديدية، فإن الله المحب للبشر يحسب نفسه كمن صار معهم سجينًا، ويود أن يرد لهم الحرية، برجوعهم إليه. عبَّر ميخا النبي عن ذلك بقوله: "يقتحمون ويعبرون الباب، ويخرجون منه، ويجتاز ملكهم أمامهم، والرب في رأسهم" (مي 2: 13). كما قيل بإشعياء النبي: "أنا الرب قد دعوتك بالبرّ، فأمسك بيدك... لتُخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة" (إش 42: 6-7). وقيل في زكريا: "ارجعوا إلى الحصن يا أسرى الرجاء" (زك 9: 12).
* كيف كُسرتْ مصاريع النحاس وقُطعتْ العوارض الحديدية؟ بجسمه، فقد ظهر لأول مرة جسد يخلد ويحطم طغيان الموت[13].
* إن كان هؤلاء الذين جاءوا تحت التدبير القديم، ولم يكن بعد قد قُتِلَ الموت، ولا انكسرت المصاريع النحاسية، ولا قُطعتْ العوارض الحديدية، واجه الجسم نهايتهم، فأي عوز لنا إن كنا نحن بعد أن نلنا نعمة عظيمة هكذا، ولم نأخذ فقط إلى ذات المقياس للفضيلة كما نالوا هم، إنما صار الموت اسمًا مجردًا، لم يعد له حقيقة. فإن الموت لا يزيد عن أن يكون نومًا ورحلة وهجرة وراحة وميناءً هادئًا، وهروب من التعب، وتحرُّر من ارتباكات هذه الحياة الحاضرة[14].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يقول النبي أبواب النحاس وعوارض الحديد عن مداخل الموت العسر الخروج منها، وقد وصفها بالنحاس والحديد لمناعتها وعدم الفرار منها. فهذه قد كسرها ربنا ورضضها عندما انحدر إلى الجحيم، وخلَّص المأسورين.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. خلاص من المرض

الذين يعصون الوصية الإلهية، ويتمردون على الله هم جهلة وأغبياء، أو هم مرضى يحتاجون إلى الطبيب السماوي ليشفي نفوسهم. هذا ما لا يستطيع أحد أن يحققه سوى كلمة الله المتجسد.
وَالْجُهَّالُ مِنْ طَرِيقِ مَعْصِيَتِهِمْ،
وَمِنْ آثَامِهِمْ يُذَلُّونَ [17].
كثيرًا ما يُدعَى الخطاة العصاة جهلة، والأبرار حكماء، إذ يرتبط برّ الله بالحكمة الإلهية، والعصيان بالجهالة.
يدعونا المرتل أن ننظر إلى أعماقنا، فما يحل بنا من مذلةٍ، غالبًا ما يكون السبب الحقيقي هو خطايانا.
* إذ كرَّموا أنفسهم لا الله، وثبتوا برّهم، ولم يعرفوا برّ الله، صاروا في ذلٍ. وجدوا أنفسهم بلا عون بدون معونته، إذ اتكلوا على قوتهم وحدها[15].
القديس أغسطينوس
كَرِهَتْ أَنْفُسُهُمْ كُلَّ طَعَامٍ،
وَاقْتَرَبُوا إِلَى أَبْوَابِ الْمَوْتِ [18].
غالبًا ما يسأم الإنسان في خطاياه الحياة، ولا يشعر بطعم الغذاء، إذ يفقد هدفه الداخلي. هذا يحرم الإنسان من الصحة، فيذبل جسمه كما تذبل نفسه. وعلى العكس، بالرجوع إلى الرب تفرح النفس وتتهلل، كما يستريح الجسم مع النفس.
يرى القديس أغسطينوس أنهم كانوا يأكلون بغير حساب حتى ولو كرهًا، حتى وإن اشمأزت نفوسهم من الطعام، ظانين أن التخمة لن تقتلهم.
* إنهم يعانون من التخمة. إنهم مرضى بالتخمة؛ إنهم في خطر منها. ربما ظنوا أنهم يموتون بسبب الجوع، لكن لن يموتوا بسبب التخمة[16].
القديس أغسطينوس
فَصَرَخُوا إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ،
فَخَلَّصَهُمْ مِنْ شَدَائِدِهِمْ [19].
* هذا الإثم أذلهم وصيّرهم في حقارةٍ، عوض ما كانوا عليه من كرامة، وجعل نفوسهم تكره كل طعامٍ، أي كل تعليمٍ يغذي النفوس. لأن اليونانيين (الأمميين) لم يكونوا يقبلون نصيحةً ما، حتى ولا من علمائهم... لذلك حكموا على سقراط بالموت الشنيع، وأوقعوا على أتباع بيتاغورس، ودقوا أناكسارخوس في هاون، وغيرهم كثيرون عذبوهم وقتلوهم. لأنهم أرادوا أن يمنعوهم عن شنائعهم وإدمانهم في السوء...
أما النبي فيقول هذا لكي يُظهِر قوة ربنا، لأن الذين كانوا لا يَقْبلون حتى ولا تعليم علمائهم، قبلوا بنشاطٍ كرازة الرسل الأميين، وذلك بفعل قدرة الله الذي استجاب صراخ أتقيائه، ونجَّاهم من تلك الشدائد المهلكة لنفوسهم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
أَرْسَلَ كَلِمَتَهُ فَشَفَاهُمْ،
وَنَجَّاهُمْ مِنْ تَهْلُكَاتِهِمْ [20].
كلمة الله الذي خلق كل شيءٍ من العدم هو الطبيب الإلهي، القادر أن يرد النفس كما الجسد إلى الصحة.
تجسد كلمة الله وتأنس لكي بدمه المبذول على الصليب يرد لنا الصورة المفقودة، ويهبنا صلاحه وبرّه.
إن كانت الخطية هي مرض يصيب النفس ويفسدها، فإن كلمة الله هو الطبيب القادر أن يقتلع المرض من جذوره، وعوض الخطية يهب برَّه عاملًا في المؤمن.
* بهذا القول أوضح النبي جهارًا تجسد كلمة الله وحضوره إلى العالم بالجسد، لأن الكلمة الملفوظة لا يُقال عنها "أُرسلت". إذن هي كلمته الجوهرية، تُدعَى كلمة، لأنه يولد من الله الآب دون ألمٍ ولا فسادٍ، كما تولد الكلمة من العقل ولا تفارقه. هذا الابن (أُرسِل إلى العالم وهو مازال كائنًا في حضن الآب)، وبحضوره شفانا من أمراضنا المميتة، ونجَّانا من فسادنا.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* هكذا جاء الطبيب وبمجرد تأكيد صوته سند الإنسان الذي تعب من العلاجات والارتباك من متاعب العلاج. عرف قائد المئة ذلك عندما قال: "قل كلمة فيبرأ غلامي" (مت 8: 8)[17].
الأب بيتر خرستولوجوس
فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ،
وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ [21].
وَلْيَذْبَحُوا لَهُ ذَبَائِحَ الْحَمْدِ،
وَلْيَعُدُّوا أَعْمَالَهُ بِتَرَنُّمٍ [22].
يليق بالمؤمنين لا أن يشكروا الله فحسب، بل ويُقَدِّمون الشكر كذبيحة له، يقدمونها بترنمٍ وتسبيحٍ وفرحٍ.
* يُعَلِّمنا النبي أن نشكره على هذا الخلاص العجيب، ونذبح له لا المواشي المفروضة في شريعة موسى، بل ذبيحة التسبيح الطاهرة البريئة من الدم. ترجمها أكيلا بأوضح قول: "ذبيحة إفخارستيا"، أعني بها الشكر. لأننا نحن أيضًا ندعو القداس الإلهي باليونانية إفخارستيا ευχαριστία، ونتلو فيه الإنجيل المقدس المخبر بأعماله بابتهاجٍ.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
5. خلاص من مخاطر الإبحار في العالم

حياتنا في العالم رحلة خطيرة مثل سفينة تبحر في البحر، تتعرض لعواصف خطيرة وأمواج ثائرة. السيد المسيح وحده له سلطان كملك السلام وخالق المسكونة ومخلص البشرية أن يقود سفينة حياتنا، فتصير رحلة مبهجة مملوءة بالتسابيح.
اَلنَّازِلُونَ إِلَى الْبَحْرِ فِي السُّفُنِ،
الْعَامِلُونَ عَمَلًا فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَة [23].
* بالحقيقة الإيمان ترنح والجسد وبدأ يغرق. فإنه ليس خطأ قيل أن الجسد هو سفينة النفس، كما هو مكتوب: "النازلون إلى البحر في السفن"[18].
القديس أمبروسيوس
* يُقال عن هذا العمر الحاضر بحرًا، وأما السفن فهي كنائس المسيحيين. وأما العاملون أعمالًا كثيرة في المياه فهم الرسل الذين صنعوا أعمال الخلاص في جموع الناس الكثيرة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* لماذا تستفسر هكذا بفضولٍ عن بعض الذين سقطوا من مستوى هذه الأفكار؟ ولماذا يأسوا؟ انظرْ إلى من نجح، واجتاز رحلته بجرأة وثقة وتوفيق، وأبحِرْ أنت في نسيم الروح القدس، ودَعْ المسيح يقودك بمجدٍ إلى النصيب الصالح، لأن أولئك الذين "ينزلون إلى البحر في السفن، العاملون عملًا في المياه الكثيرة"، لا يدعون دوار البحر الذي يصيب آخرين أن يمنعهم من أن يكونوا في النصيب الصالح، بل بالحري يُحَصِّنون قلوبهم إلى النجاح في عملهم الباهر. إن أسخف أمور الحياة أن تعاود أنت ذاتك نفس الفشل الذي أحرزه الآخر لحياده عن منهاج يحتاج إلى إتقان[19].
القديس غريغوريوس النيسي
هُمْ رَأُوا أَعْمَالَ الرَّبِّ،
وَعَجَائِبَهُ فِي الْعُمْقِ [24].
تشهد أعماق المحيطات والبحار لأعمال الرب وعجائبه التي لا تُحصَى.
أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحًا عَاصِفَةً
فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ [25].
بكلمة من الله يأمر الهواء وهو أكثر خفة من الماء، فتتحرك الرياح، وترفع أمواج البحر بقوةٍ شديدة.
يَصْعَدُونَ إِلَى السَّمَاوَاتِ
يَهْبِطُونَ إِلَى الأَعْمَاقِ.
ذَابَتْ أَنْفُسُهُمْ بِالشَّقَاءِ [26].
تذوب نفوس البحارة، عندما يرون الأمواج تصعد بهم كما إلى السماء، ثم تهبط بهم كما إلى أعماق البحر أو المحيط.
* بدون المسيح القائد السماوي لا يستطيع أحد أن يعْبرَ البحر الشرير، بحر قوات الظلمة، وأمواج التجارب المُرَّة، كما هو مكتوب: "يصعدون إلى السماوات ويهبطون إلى الأعماق" (مز 107: 26). ولكن المسيح له معرفة كاملة كقائدٍ، سواء من جهة الحروب أو التجارب، وهو يعْبرُ بالنفس فوق الأمواج الشريرة، كما هو مكتوب: "لأنه فيما هو قد تألم مجرَّبًا يقدر أن يعين المُجرَّبين". (عب 2: 18)[20].
القديس مقاريوس الكبير
يَتَمَايَلُونَ وَيَتَرَنَّحُونَ مِثْلَ السَّكْرَانِ،
وَكُلُّ حِكْمَتِهِمِ ابْتُلِعَتْ [27].
تُبتلع كل أحاسيس البحارة، إذ تهرب منهم القدرة والخبرة أمام عُنْف الأمواج، ويتملكهم الخوف.
فَيَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ فِي ضِيقِهِمْ،
وَمِنْ شَدَائِدِهِمْ يُخَلِّصُهُمْ [28].
إذ يشعر البحارة أنهم فقدوا كل معرفة، كما فقدوا سيطرتهم على السفينة، وتذوب نفوسهم من الخوف لا يعود لهم ملجأ سوى الرب نفسه القادر أن يخلصهم.
يُهَدِّئُ الْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ،
وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا [29].
فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا،
فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْمَرْفَإِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ [30].
ليس من بهجة للإنسان مثلما تحدث عندما يحل الهدوء بعد عاصفة شديدة، وإزالة الخطر، والبلوغ إلى الميناء الذي كانوا يتجهون نحوه.
إن كان البحارة يتهللون بالهدوء الذي يلحق بالعاصفة خلال التدخُّل الإلهي، كم بالأكثر يليق بنا أن نُسَبِّح الله حين يهب نفوسنا هدوءًا وسلامًا بعد الاضطرابات التي تحل بها.
فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ،
وَعَجَائِبِهِ لِبَنِي آدَمَ [31].
* في كل موضع - دون أي استثناء - ليتنا نعترف للرب على رحمته، وليس على استحقاقاتنا، ولا على قوتنا، ولا على حكمتنا. ليكن محبوبًا في كل خلاص لنا، ذاك الذي يهتم بنا في كل ضيقة[21].
القديس أغسطينوس
وَلْيَرْفَعُوهُ فِي مَجْمَعِ الشَّعْبِ،
وَلْيُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ الْمَشَايِخِ [32].
* لترفعه الشعوب وتُسَبِّحه، والشيوخ والتجار والبحارة. فإنه ماذا يفعل في هذا المجمع؟ ماذا يقيم؟ متى يخلصه؟ ماذا يهبه؟ كما أنه يقاوم المتكبرين يعطي نعمة للمتواضعين (يع 4: 6). المتكبرون هم شعب اليهود الأول، والمتعجرفون، الذين يمجدون ذواتهم، معتمدين على أنهم ذرية إبراهيم، وأنه لهذه الأمة أُعطيَتْ وصايا الله (رو 3: 2). هذه الأمور لم تهيئهم للأمور السليمة، وإنما في كبرياء القلب اتسموا بالغرور أكثر من العظمة. ماذا إذن فعل الله، إذ قاوم المستكبرين، يعطي نعمة للمتواضعين، يقطع الأغصان الطبيعية بسبب كبريائها ويُطَعِّم أغصان الزيتون البرية بسبب تواضعها[22].
القديس أغسطينوس
* إن قوله: فليرفعوه" معناه "أخبروا بعظمته وجلاله". ولم يقل: "في مجمع الشعب"، لئلا يُظَن القول أنه لمجمع اليهود فقط الذي كان شعبًا واحدًا. لكنه قال: "مجمع الشعوب" ليخبر أن القول عن الأمم الذين فيهم مجلس الشيوخ، وهم رؤساؤهم وأئمتهم ومُعَلِّموهم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
6. العناية الإلهية

سلطان المُخَلِّص القدير بلا حدود، يعمل لحساب مؤمنيه، في يده أن يُغَيِّرَ حتى قوانين الطبيعة إن استدعى الأمر ذلك.
يَجْعَلُ الأَنْهَارَ قِفَارًا،
وَمَجَارِيَ الْمِيَاهِ مَعْطَشَةً [33].
الله في سلطانه أن يأمر المطر فيتوقف، عندئذ تجف الأنهار، وتتحول مجاري المياه إلى أرض يابسة. هكذا بدون نعمة الله، التي يبعث بها علينا كالمطر لا نحمل ثمر الروح، وتجف أعماقنا.
يرى القديس أغسطينوس أن الأنهار تشير إلى اليهود الذين كان لديهم مياه النبوات، الآن لم يعد بينهم نبي، إذ جفت الأنهار.
صارت مجاري المياه بِرَك مالحة. تبحث فيها عن الإيمان بالمسيح فلا تجد، تبحث عن نبي أو ذبيحة أو هيكل، فلا تجد. لماذا؟ "من شر الساكنين فيها" [34].
وَالأَرْضَ الْمُثْمِرَةَ سَبِخَةً مِنْ شَرِّ السَّاكِنِينَ فِيهَا [34].
تتحول الأرض المثمرة إلى برية قاحلة بلا ثمر، وذلك بسبب شر ساكنيها، إذ يَنزع الشر بركة الرب حتى عن الأرض التي نقطن فيها.
هنا إشارة إلى ما حدث مع سدوم وعمورة التي قيل عنهما: "كجنة الرب كأرض مصر" (تك 13: 10). "فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتًا ونارًا من عند الرب من السماء" (تك 19: 24).
يَجْعَلُ الْقَفْرَ غَدِيرَ مِيَاهٍ،
وَأَرْضًا يَبَسًا يَنَابِيعَ مِيَاهٍ [35].
إن كان الله يسمح بأن تصير الأنهار قفرًا، فمن جانب آخر يجعل القفر جدول مياه يرويه، ويثمر بالبركات.
* كانت (الكنيسة) أولًا عديمة الماء، أما الآن فانفجرتْ فيها أنهار التعاليم الإلهية والمعتقدات السليمة، التي من يُغرَس على مجاريها يكون كالشجرة التي تعطي ثمارها في حينه وورقها لا ينتثر.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
وَيُسْكِنُ هُنَاكَ الْجِيَاعَ،
فَيُهَيِّئُونَ مَدِينَةَ سَكَنٍ [36].
الله لا يُشبِع الجياع فحسب، وإنما يُقِيم منهم مدينة آهلة بالسكان، تتسم بالأمان مع الرخاء.
وَيَزْرَعُونَ حُقُولًا،
وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا،
فَتَصْنَعُ ثَمَرَ غَلَّةٍ [37].
* كرَّامُنا يطلب ثمرًا. إن كان بالحق قَطَعَ الأغصان الأولى لأنها كانت عقيمة، فإننا سنلاقي نفس المعاملة إن كنا غير مُثْمِرين. الثمار أيضًا ليست فقط للجسم، بل وللنفس أيضًا. عندما يخدم الجسم الرب، فإن كلا من النفس والجسم يخدمان الله[23].
القديس جيروم
وَيُبَارِكُهُمْ فَيَكْثُرُونَ جِدًّا،
وَلاَ يُقَلِّلُ بَهَائِمَهُمْ [38].
ثُمَّ يَقِلُّونَ وَيَنْحَنُونَ مِنْ ضَغْطِ الشَّرِّ وَالْحُزْنِ [39].
للأسف إذ يُقَدِّم الله للبشر بركات بسخاءٍ عظيمٍ وينمون ويكثرون جدًا، عوض تقديم ذبائح شكر له، غالبًا ما ينشغلون بالبركات وينغمسون في الملذات ويتجاهلون الرب واهب العطايا.
* هذا القول على اليهود والأمميين الذين قاوموا الرسل وأتباعهم المسيحيين، وهموا على إبادة إيمان المسيح.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
يَسْكُبُ هَوَانًا عَلَى رُؤَسَاءَ،
وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيق [40].
يبذل عدو الخير كل الجهد ليُضَلِّل الرؤساء والقادة، فهو يَعْلم "اضرب الراعي، فتتبدد الرعية". يقول المرتل: "يسكب هوانًا على رؤساء، ويضلهم في تيهٍ بلا طريق" (مز 107: 40).
يظن أصحاب السلاطين أحيانًا أنهم فوق العدالة الإلهية. لقد قتل هيرودس الملك يعقوب بالسيف (أع 12: 2)، وقبض على بطرس ليقتله. وكصاحب سلطان صرخ الشعب: "هذا صوت إله لا صوت إنسان" (أع 12: 22)، ففي الحال ضربه ملاك الرب، لأنه لم يُعْطِ المجد لله، فصار يأكله الدود ومات.
* ألاَّ يرى الإنسان في مثل هذه الأيَّام أن كل شخص يندفع إلى هنا وهناك مُرْتَبِكًا، عندئذ يقتنع بضرورة الطير من هذا الشغب (المعركة)، ويهرب في مأوى معتزلًا بعيدًا عن عواصف الأشرار وظلمتهم.
عندما يحارب الأعضاء بعضهم بعضًا حتى لا تبقى المحبة إلاَّ بين أقليَّة... فإن كلمة "كاهن" تصير اسمًا أجوف، كما قيل: "يسكب هوانًا على رؤساء..." (مز ١٠٧: ٤٠).
وليتها تقف عند حد كونها اسمًا أجوف...! فإن مهابتهم تُطرَد من النفوس ويحل محلها العار.
لقد فتحنا للكل لا أبواب البرّ بل أبواب التعيير وتكوين أحزاب متكبِّرة، فلم نعطِ المكان الأول عندنا لمن يخاف الرب ويمتنع عن النطق بكلمة بطالة، بل أعطيناه لمن يستطيع مقاومة أخيه بطلاقة لسانه علنًا أو خفية، خافيًا وراء لسانه ضررًا وظلمًا، أو نقول بأكثر دقة، إنه يخفي سم الأفاعي.
القديس غريغوريوس النزينزي
وَيُعَلِّي الْمِسْكِينَ مِنَ الذُّلِّ،
وَيَجْعَلُ الْقَبَائِلَ مِثْلَ قُطْعَانِ الْغَنَمِ [41].
يُسَلِّم الرؤساء المتكبرين أنفسهم للمذلة خلال كبريائهم، بينما يتمتع المساكين المتواضعين بالبركات الإلهية، فيجعل من المسكين قبائل عظيمة مثل قطعان الغنم.
* ماذا يعني هذا يا إخوة؟ الرؤساء يُهانون والمساكين يُساعَدون، المتكبرون يُطردَون، والمتواضعون يُسنَدون... هذا المسكين يصير بيوت كثيرة؛ هذا المسكين يصير أممًا كثيرة. وفي نفس الوقت كنائس كثيرة تصير كنيسة واحدة، أمة واحدة، بيت واحد، قطيع واحد[24].
القديس أغسطينوس
يَرَى ذَلِكَ الْمُسْتَقِيمُونَ فَيَفْرَحُونَ،
وَكُلُّ إِثْمٍ يَسُدُّ فَاهُ [42].
يتهلل أولاد الله بالعمل الإلهي الذي يكتم أفواه المتعجرفين، ويبارك المتواضعين ويسندهم.
* يبصر المستقيمون ما اشتهى الأنبياء والصديقون أن يروه، الذين كانوا قبل المسيح، ويفرحون بأعمال رحمة الله وعدله. وأما ذوو الإثم، الذي هو الشيطان وأتباعه فيَسدُّون أفواههم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* يثنى عليها العريس ويقول "عيناك حمامتان" (نش 15:1) "من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه". من ينظر إلى امرأة وليس له عينا الحمام فهو زانٍ. الإنسان الذي يفتقر للعين البسيطة يدخل بائسًا إلى بيت أخيه كاسرًا بذلك الوصية المكتوبة في الأمثال "لا تدخل بيت أخيك في يوم بليتك" (أم 2:27). أما من له عين الحمام فيرى الحق ويستحق الرحمة "يرى ذلك المستقيمون فيفرحون" (مز 42:107). -ومن هو الإنسان الذي يرى الحق إلا صاحب النظرة العفيفة النقية.! لا ينطبق هذا المعنى على العين الجسدية- بل تعمق في داخل قلبك وأبحث بروحك عن الأعين الأخرى التي تستمد نورها من وصايا الله "لأن وصية الرب مضيئة تنير العين" (مز 9:18) ثم قاوم وجاهد لتقتنى ما قيل لك. ومن له العين البسيطة يستطيع إدراك الروح النازل من السماء في شكل حمامة... إن فهمتَ الناموس روحيًا فعيناك حمامتان، كذلك إن فهمتَ الإنجيل حسب روح الإنجيل وبشرت به- تأمل في الإنجيل تجد يسوع شافيًا كل ضعف وكل سقم (مت 23:4) لا في أيام تجسده فقط بل الآن أيضا- ثم أبصره وقد أتى إلى الناس لا في ذلك الوقت بل واليوم أيضًا- وهو حاضر بيننا لأني "هأنذا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت 20:28).
العلامة أوريجينوس
مَنْ كَانَ حَكِيمًا يَحْفَظُ هَذَا
وَيَتَعَقَّلُ مَرَاحِمَ الرَّبِّ [43].
يليق بالمؤمن أن يكون متعقلًا وحكيمًا، فيُدرك خطة الله، ويتعرَّف على مراحمه بفهم، ويتأمل أعماله.
* تحتوي هذه الأقوال على نبوة، لذلك قال النبي إن فهمها يحتاج إلى رجلٍ حكيمٍ لكي يفهمها ويحفظها.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* من هم حكيم؟ يأخذ في اعتباره هذه الأمور؛ ويفهم مراحم الرب... لا يفهم استحقاقاته الذاتية، ولا قوته، ولا سلطانه، بل مراحم الرب[25].
القديس أغسطينوس
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي المزمور 107

لك المجد أيها المُخَلِّص القدير!


* أحمدك مع كل إخوتي من أجل رحمتك الفائقة.
أعترف لك بخطاياي،
وأفضح نفسي أمامك.
فأنت غافر الخطايا، ومُنْقِذ النفوس من الفساد.
على الصليب بذلت دمك الثمين كفارة عن خطاياي.
أوفيت الدين عني.
جمعتني مع كل إخوتي من كل المسكونة.
لتضمنا جميعًا كنيسة مقدسة، تتمتع بالعرس الأبدي.
* حياتي في العالم أشبه بتيه في البرية.
قدَّمتَ لي ذاتك طريقًا،
تحملني فيك، وتُقَدِّمني ابنًا لأبيك.
لن أخشى الجوع في وسط البرية،
إذ قدَّمتَ لي جسدك ودمك أتناولهما حياة أبدية.
لا أخشى تعب البرية،
فنيرك حلو، وحملك خفيف.
عوض الإنهاك في البرية،
أتمتع بالراحة فيك.
عوض مخاطر البرية،
أجدك الملجأ المملوء أمانًا!
* كيف أخشى مذلة العبودية،
وقد فتحتَ لي أبواب المعمودية،
ووهبتني روح البنوة لله أبيك؟
لم تعد الحياة سجنًا مظلمًا،
بل رحلة ممتعة في صحبتك، يا أيها النور الحقيقي.
لا تقدر أبواب الجحيم أن تحبسني.
فقد حطَّمتَ متاريس الهاوية.
وقتلتَ الموت بموتك يا أيها القيامة.
ليس من قيود نحاسية تُمَثِّل ثقلًا على جسدي،
ولا من هموم تقدر أن تُحَطِّم نفسي.
نفسي مع جسدي ينطلقان بروحك القدوس.
يَعْبُران من مجدٍ إلى مجدٍ.
* أعترف لك إنني في غباوة عصيتُ وصيتك.
في جهالة تمرَّدتُ عليك يا كلي الحب!
أصابتني الخطية كمرضٍ فتَّاكٍ.
أنت هو الطبيب السماوي.
أنت هو الدواء واهب الصحة.
من أجلي تجسدتَ وصُلِبتَ وقُمتَ.
أقمني من موت الخطية.
اشفني من جراحات العصيان
* حياتي صارت أشبه بسفينة تبحر في مياه هذا العالم.
هوذا الأمواج عنيفة،
ترفعني إلى فوق لتنزل بي إلى الأعماق.
هوذا العواصف لا تهدأ قط.
من له سلطان على العواصف والأمواج سواك.
قُلْ كلمة يا ملك السلام، يا خالق الطبيعة ومُخَلِّص البشرية.
قُلْ كلمة، فتسير سفينة حياتي بكلمتك.
تتحول رحلتي إلى تسبيح لا ينقطع.
أسير في شركة مع السمائيين.
* عنايتك فائقة يا أيها الراعي الصالح.
بكلمة تُحَوِّل القفر إلى أنهار مملوءة بمياه الروح.
تُحَرِّك الطبيعة لحساب خلاص شعبك.
تعطي المساكين غِنَى عجيبًا.
وتقيم من الضعيف أممًا مقدسة!
هب لي يا رب الحكمة والتَعَقُّل،
فتمتلئ نفسي فرحًا بك،
ولا يهدأ كل كياني عن التسبيح لك!
  رد مع اقتباس
قديم 06 - 03 - 2014, 03:17 PM   رقم المشاركة : ( 109 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 108 - تفسير سفر المزامير
الله ملجأ لنا


يضم هذا المزمور قسميْن: الأول تسبحة [1-5] تطابق ما ورد في مز 57: 7-11. والثاني صلاة [6-13] تطابق ما ورد في مز 60: 5-12. الاختلاف بين هذا المزمور والمزمورين 57 و60 أننا لا نجد قط في هذا المزمور نغمة الحزن والقنوط، وإنما الرجاء والثقة والشكر والفرح[1].
يرى البعض في هذا المزمور تسبحة وصلاة من أجل قيام ونمو مملكة المسيح في كل الأمم.
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مناسبته

غالبًا ما وُضِعَ هذا المزمور ليُسَبِّح به الكهنة في خيمة الاجتماع، وذلك أثناء قيام حرب، حيث يعلنون عن ثقتهم في الله واهب النصرة والمدافع عن شعبه بنفسه.
1. الله ملجأ في الضيق
1-5.
2. الله رجاء شعبه
6-12.
من وحي مزمور 108
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

تَسْبِيحَةٌ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ
* "تسبحة" تشير دومًا إلى عمل الذهن، وأما "مزمور" فتشير إلى عمل الجسم. لكي نُعَبِّر عن هذا التمييز بأكثر وضوح، فإن التسبحة تنطبق على الجانب النظري، والمزمور إلى الجانب العملي، في هذا الفن.
إذ يعلن العنوان أنه تسبحة مزمور، فإن العبارة التالية تستمر بطريقة منطقية سليمة "أُغَنِّي أُسَبِّح في مجدي"[2].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. ملجأ في الضيق

يبدأ المزمور بتسبحة لله، حيث يجد المرتل ملجأً وثباتًا في قلب الله. إنها تسبحة النصرة على كل متاعب الخطر.
ثَابِتٌ قَلْبِي يَا اللهُ.
أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ.
كَذَلِكَ مَجْدِي [1].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "مستعد قلبي يا الله، مستعد قلبي. أُسَبِّح وأُرَتِّل في تمجيدي".
* "مستعد قلبي يا الله، مستعد قلبي" إني مستعد ليس فقط بالعمل، وإنما أيضًا بالقلب والعقل. قلبي مستعد من جهة الرغبة، قلبي مستعد من جهة الخدمة بالعمل[3].
* "أُسَبِّح وأُرَتِّل في مجدي". ببساطة يعني عندما أُسَبِّحك بلحنٍ يا رب، عندما أُرَتِّل لك لا أُقَدِّم لك نفعًا، إنما هو لي وحدي. بالحقيقة يقول مزمور آخر: "لا تحتاج إلى صلاحي" (راجع مز 15: 2). لذلك ما أفعله، إنما أفعله لخيري أنا. إذ أخدمك، هذا مجد لي.
نحن نصوم، فهل نعطي الله شيئًا؟ نفعل هذا من أجل خطايانا.
ننام على مسح. ماذا يفعل الله بهذا؟ أمر واحد فقط، نُخَلِّص نفوسنا، وهذا هو ما يشتهيه. كما أن الطبيب الصالح واللطيف يفرح بمريضه عندما يشفيه هكذا يفعل ربنا[4].
القديس جيروم
* أردف النبي كلمة "مستعد قلبي" مرتيْن، لأنه إن كان الذي يكون عازمًا على قبول مَلِك في منزله يهيئ نوعيْن، أولًا ينظفه من الأوساخ، وثانيًا يُزَيِّنه بنفائس الأمتعة وأفخرها، كذلك المُزْمِع أن يَقْبَل المسيح حالًا في قلبه، ينبغي عليه أن يُطَهِّره باعترافه بذنوبه، ويُجَمِّلَه بزينة الأعمال الحميدة الصالحة. فطوبى لأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله، ويُسَبِّحون ويرتلون له في مجدهم، أعني في فضائلهم الفكرية والعملية التي تمجدهم وتشرفهم في دنياهم وآخرتهم. وأيضًا يكون مجدهم هو المسيح الذي عندما أخذ ما يخصنا نحن نظراء صورته وشركاء مجده.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
اسْتَيْقِظِي أَيَّتُهَا الرَّبَابُ وَالْعُودُ.
أَنَا أَسْتَيْقِظُ سَحَرًا [2].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "استيقظ يا مجدي. استيقظ أيها المزمار والقيثارة. استيقظ وقت السحر".
يريد المرتل أن يُسَبِّح الله في السحر قبل شروق الشمس، مؤكدًا أن الليل لم يعوقه عن التفكير في معاملات الله مع شعبه كما معه هو شخصيًا، فيُقَدِّم باكورة يومه للتسبيح والشكر لله.
يرى القديس جيروم أن الحديث هنا موَّجه أيضًا من الابن المتجسد إلى الآب. بتجسده يعلن كلمة الله أنه يحمل قيثارة تأنسه، ليعزف عليها لحن الحب الإلهي نحو كل البشرية. نزلتْ نفسه إلى الجحيم تعزف لحن النصرة، فتطلق نفوس الراقدين على الرجاء وتُحَرِّرها من العبودية، وتنطلق بها إلى الفردوس.
* كما أن المزمار يحوي أوتارًا كثيرة، وإن انكسر وتر واحد تصير الآلة كلها بلا نفع، هكذا أيضًا في أعمالنا، إن عصينا وصية واحدة ينكسر مزمارنا[5].
* إن كنتَ مزمارًا، إن كنتَ قيثارة، لماذا أنت صامت لا تُمَجِّد الله؟ "استيقظ وقت السحر". لا توجد بركة ولا تسبيح لله في الظلمة، وإنما في النور. إنني أود أن أقول شيئًا مروعًا. فإننا حتى إن قمنا في الليل لنبارك الله في النور. فإن المسيحي ليس له ليل، بل شمس البرّ دومًا مشرقة بالنسبة له[6].
* حسب تفسير آخر، فإن الرب نفسه يقول: "قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعدً. أنا مستعد هنا؛ وأنا مستعد في العالم العتيد. أنا مُخَلِّص على الأرض؛ وأنا مُخَلِّص في السماء. أنا أهب الحياة الأبدية لكل من الملائكة والبشر. "استيقظ أيها المزمار والقيثارة. يُحَدِّث الرب جسمه: المزمار والقيثارة، يا من نزلت إلى الجحيم واستراحت، استيقظ ومَجِّدْ الرب. تأكدوا أنكم تفهمون ما أقول. ليس من يُمسك المزمار والقيثارة يُسَبِّح، وإنما المزمار والقيثارة هما يسبحان الآب. إنه الآب، وهو مُبارَك ومُسَبَّح من الآخرين، أما جسد (المسيح) وناسوته الذي أخذه فيُسَبِّحان الرب[7].
القديس جيروم
* بقوله: "استيقظ يا مجدي"، يستحث وينهض روح النبوة التي كانت فيه لتمجده بالمجد الروحي. وبقوله المزمار والقيثارة ينهض قوى نفسه وحواس جسده، لكي تتفق الجهتان في تسبيح الله بالنظم والانضمام ولقبول الروح القدس. وأيضًا ينهض العهدان القديم والجديد، لكي باتفاق واحد يخبران عن أعمال تجسد ربنا. لأن العهد القديم يحتوي على خبر سابق فيما كان مزمعًا أن يكون. وأما العهد الجديد فيخبر بانجاز النبوات. وقوله "السحر" يوضح الزمان الذي أشرق فيه شمس البرّ الذي هو ربنا يسوع المسيح. أعني وقت تجسده، لأن داود منذ ذلك الحين حتى الانقضاء يُسَبِّح ويرتل لله معنا نحن الذين استنرنا، ونسلك كما في نهارٍ حسن.
قال ايسيشيوس: لما استحث النبي المسيح بقوله: "استيقظ يا مجدي"، يكون كما من قبل ربنا جوابنا له: نعم أنا استيقظ، وأقوم من الأموات كمن من نومٍ مبكرٍ.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
أَحْمَدُكَ بَيْنَ الشُّعُوبِ يَا رَبُّ،
وَأُرَنِّمُ لَكَ بَيْنَ الأُمَمِ [3].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فأعترف لك في الشعوب، يا رب. وأرتل لك في الأمم".
* كأن المرتل يشترك معنا نحن المؤمنين بالمسيح، لأننا إذ نتلو ما يرنم به، يكون قد سبَّح ورتل لله معنا وسط الشعوب بخصوص الخلاص الذي قدَّمه السيد المسيح.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّ رَحْمَتَكَ قَدْ عَظُمَتْ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ،
وَإِلَى الْغَمَامِ حَقُّكَ [4].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لأن رحمتك قد عظمت فوق السماوات، وإلى السحاب حقك".
* لا يوجد مخلوق لا يعتمد على حنو الله. كل واحدٍ منا في حاجة إلى عطف الله. جبرائيل وميخائيل والسيرافيم والشاروبيم. والقوات والسلاطين، جميعهم مُقَدَّسون بالحق، لكنهم يقفون في عوزٍ إلى مراحم خالقهم. لست أُقَلِّل من شأن الملائكة، إنما أعلن عن خالقهم، إذ الملائكة أنفسهم يقدمون له المجد بإرادتهم الحرة وبسرورٍ.
يمكن أيضًا أن نُعَبِّر عما حملته هذه العبارة من فكرٍ بطريقة أخرى: حنوك يرفعنا من الأرض إلى السماء. "وحقك إلى السحاب"... كيف يبلغ حق الله إلى السماء؟ يقول ابن الله: "أنا هو الطريق والحق والحياة" (يو 14: 6). وهو نزل إلى الأرض وتحدث مع البشر (باروخ 3: 38). كيف إذن حق الله في السحاب؟ واضح تمامًا أن النبي يشير إلى الرسل والقديسين.
"قد عظمت فوق السماوات". الله لا يتعظم على الأرض. فإننا إذ نكون أرضيين لا نعَّظم الله، لكن إذ نتحول من أرضيين إلى سمائيين فإننا نعظَّم الله[8].
القديس جيروم
* قوله: "رحمتك قد عظمت فوق السماوات وإلى السحاب" معناه أن رحمتك هي أوسع وأعرض من السماء، وتُغَطِّي جميع خطايانا من فوق. وأن بداية الرحمة على الأرض ومنتهاها إلى السماء.
وأعني أنك ترحم الناس الذين على الأرض، كما جاء أن الأرض مملوءة من رحمتك، ونهاية الذين يُرحَمون هو البلوغ إلى السماء.
أما قوله "إلى السحاب" عن الأنبياء والرسل، فلكونهم مرتفعين وشرفاء، ولأن الله يُمْطِر تعاليمه ليروي الناس برسله وأنبيائه...
قول النبي: "رحمتك عظيمة في السماوات" معناه أن لاهوته يعظمه الملائكة فوق السماوات. وأيضًا قد استعلن عظمته وجلاله للكافة عندما صعدت إلى السماوات، إذ كان يغشاه الناسوت حينما كنت على الأرض، أعني قبل صعودك إلى السماء كان الناس لا يعرفون عظمة لاهوتك. أما الآن فعرفوا أنك إله عظيم في السماوات ومُمَجَّد.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
ارْتَفِعِ اللهُمَّ عَلَى السَّمَاوَاتِ،
وَلْيَرْتَفِعْ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ مَجْدُكَ [5].
بروح النبوة رأى المرتل السيد المسيح صاعدًا إلى السماء فتهللت نفسه، مشاركًا التلاميذ الذين رجعوا من جبل الزيتون إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ.
أدرك المرتل أنه يشترك مع رجال العهد الجديد في التسبيح، إذ صار له رصيد في السماء.
بصعود السيد المسيح رأس الكنيسة الجامعة، صار لكل الجسد من أناس الله في العهدين القديم والجديد حق الانطلاق إلى السماء.
أدرك المرتل أنه في مجدٍ عجيبٍ، إذ صار يرتفع من التراب والمزبلة ليجلس مع أشراف أشراف شعبه، أي مع الطغمات السماوية.
* يحتوي هذا القول على نبوة عن صعود ربنا يسوع المسيح إلى السماوات.
* بصعوده وإرسال روحه القدوس خلَّص أحباءه، أعني بهم الناس الذين من أجل محبته لهم نزل وتجسد وخلَّصهم من الشيطان.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. الله رجاء شعبه

مع ما يمر به الشعب من مخاطرٍ، فإن رجاءه في الله يسكب عليه روح الفرح، ليس فقط عند نوال النصرة، وإنما منذ تبدأ الكارثة. فالله كقائدٍ لشعبه يعبر بهم إلى النصرة الأكيدة. يستريح الشعب ويختفي وسط المخاطر في قلب الله المتسع بالحب.
لِكَيْ يَنْجُوَ أَحِبَّاؤُكَ.
خَلِّصْ بِيَمِينِكَ،
وَاسْتَجِبْ لِي [6].
* لذلك تقول الكنيسة بلسان المختارين: "شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني" (نش 2: 6). تسند الكنيسة رأسها تحت يد الله اليسرى، وكأنها تعني بذلك خيرات الحياة الأرضية، وهي تسندها بفرح الحب الفائق. أما يمين الله التي تعانقها فتعني أن الفرح الأبدي يحيط بها من كل جانب. لذلك يقول سليمان أيضًا: "في يمينها طول أيام، وفي يسارها الغنى والمجد" (أم 3: 16). هنا يبين سليمان أن الغِنَى والمجد يظهران كما ولو كانا مُسَجَّليْن على اليد اليسرى. هكذا يقول صاحب المزامير: "خلص بيمينك، واستجب لي" (مز 108: 6). هنا يشير إلى اليد اليمنى، لأنه يعني أنه يطلب الخلاص الأبدي. لهذا جاء بالمكتوب أيضًا: "يمينك يا رب تحطم العدو" (خر 15: 6). قد يستمتع أعداء الله بالخيرات بيد الله اليسرى، لكن يمين الله تهلكهم. لأنه عادة نرى الأشرار يرتفعون في الحياة الأرضية، أما عند مجيء المجد الأبدي فتقع بهم اللعنة[9].
الأب غريغوريوس (الكبير)

اَللهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِقُدْسِهِ.
أَبْتَهِجُ، أَقْسِمُ شَكِيمَ،
وَأَقِيسُ وَادِيَ سُكُّوتَ [7].
هذا الخلاص لا يُفَرِّح قلوب المؤمنين فحسب، وإنما الله نفسه يقول: "أبتهج". إنه يُسَر بخلاص البشرية، وفي نصرة المؤمنين مجد له، إذ يفرح بهم وبنصرتهم به.
يرى القديس جيروم أن سرّ تسبيح المرتل وتهليل قلبه مسرة الله بالخلاص. ليس من أمر يُسَر به الآب مثل صليب رب المجد يسوع، حيث تحقق الحب الإلهي في أروع صوره. لقد ابتهج الآب بصليب ابنه الوحيد.
تبقى أعمال الصليب وفاعليته سرّ تسبيحنا الدائم. حيث نجد سعادتنا في مشاركتنا المصلوب الآم الحب، وارتفاعنا بالصليب فوق كل اهتمامٍ زمنيٍ.
يرى أيضًا القديس جيروم أن ثمار الصليب المتعددة صارت الأنشودة التي يتغنى بها:
أ. أقسم شكيم: يرى القديس جيروم أن شكيم تعني "أكتاف"، فإن كان السيد المسيح بحبه أحنى ظهره ليحمل على كتفيه الصليب من أجلنا بكل سرور، وهبنا نحن أيضًا أن نحمل معه الصليب على أكتافنا كنيرٍ حلوٍ مفرحٍ.
ب. أقيس وادي الخيام (السكوت): حيث يهب المسيح قديسيه الذين تمتعوا بصليبه معرفة أسراره وهم بعد على الأرض، ولكن كل واحدٍ حسب قامته أو قياسه.

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
* "الله قد تكلم في قدسه" سواء في الهيكل أو في أحد قديسيه، أو في النبي. لقد سُمِعَ في موسى، وسُمِعَ في الرسول، وبالحق أقول لقد تكلم في ابنه. ماذا وعد الله؟ ما تبع ذلك: أبتهج، أقسم شكيم". يقول: لهذا أنا صُلبتُ، كي أُوزِّع شكيم. "شكيم" في لغتنا تعني "أكتاف". والأكتاف من جانب آخر تُستخدَم في العمل. فالمعنى إذن: غاية صَلْبي هو أن أشارك عملي مع قديسيّ. لهذا أنا صُلبتُ، لكي أضع نيري الحلو وحملي الخفيف على أكتاف الناس. هذا تفعله يا رب كما وعدتَ، تتمجد وتقَّسم شكيم[10].
* "وأقيس وادي الخيام"بالحق دخل ربنا ومخلصنا في وادي الدموع هذا، في موضع تواضعنا، في هذا العالم. ومع هذا فإن القديس في هذا العالم لا يزال لا يعرف ما يليق به كما ينبغي، "فإننا نعرف جزئيًا، ونتنبأ جزئيًا" (1 كو 13: 9)[11].
القديس جيروم
* المعنى الروحي هو أن "شكيم" تأويله "المرتفع". فالمُرتفِع على العالميات هو الروح القدس الذي قسم مواهبه على المؤمنين بعد صعود ربنا يسوع المسيح إلى السماء، وقاسها وقدَّرها لكل واحدٍ حسب استحقاقه.
أما وادي الظلال (سكوت)، فتُقَال عن المسكونة كلها التي فيها البلاد منصوبة مثل خيامٍ، جعلها أقسامًا لرؤساء الكنائس ليُدَبِّر كل واحدٍ ما تضمن من كنيسته.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لِي جِلْعَادُ لِي مَنَسَّى.
أَفْرَايِمُ خُوذَةُ رَأْسِي.
يَهُوذَا صَوْلَجَانِي [8].
يرى القديس جيروم أن السيد المسيح يبتهج أيضًا بثمر صليبه، فقد صار له غِنَى عظيم، ليس عن عوزٍ إلى شيءٍ، وإنما لأجل خلاص البشرية وتمتعها بالآتي:
أ. "لي جلعاد": ولما كانت جلعاد تعني "هجرة"، فقد هاجرت الأمم إليه، أو رجعت إليه بعد أن عاشت في مذلة العبودية لإبليس. عادت بروح الحرية متهللة، فتهلل مُخَلِّصها بها.
ب. "لي منسي": فقد سبق فتناست أبوة الله لها. والآن رجعت إليه، تذكر محبته لها.
ج. "يهوذا صولجاني" صارت البشرية في مجدٍ ملوكي تنتسب إلى ملك الملوك، بعد أن صارت "يهوذا" أي "اعتراف"، تعترف بمراحم الله غافر الخطايا.
* "لي جلعاد، لي منسي". ربنا ومخلصنا يبتهج، لأنه عند غنى كثير. معنى "جلعاد" "هجرة". إنه يفرح لأن الأمم هاجرت إليه. "منسي" معناه "نسيان"، وبالتالي نفهم: هذا الابن الذي أخذ ميراثه وبدده ونسى كل ما يخصني، يتذكرني الآن. إنني أدعوه منسي، أي من النسيان، لأنه ينسى لكنه يعود إلى أبيه.
أفرايم" تُفسَّر "مثمر"، يقول: "أفرايم خوذة رأسي". يستخدم هنا الخوذة عوض التاج، لأن ما يُوضع على الرأس هو الإكليل. والكتاب المقدس يستخدم تعبيرات كثيرة بخصوص الإكليل...
لاحظوا ماذا يقول المزمور: صرتم جلعاد، صرتم منسي، لقد هاجر إلى الرب، وبعد نسيانكم رجعتم إلى أبيكم. كونوا أفرايم أيضًا، أي كونوا مثمرين تمارسون أعمالًا صالحة، وبعد ذلك تصيرون إكليل الرب[12].
* "يهوذا صولجاني" فكروا في عظمة المجد التي تنتظر التائب، الآن يهوذا تعني "اعتراف"[13].
القديس جيروم
* كلمة "جلعاد" تأويلها انتقال، و"منسى" معناها "نسيان" و"أفرايم" معناه "خصب الثمر"، "ويهوذا" تأويله "المعترف"... وهذا يدل على أن المسيح يقول بعد ارتفاعه إلى السماء: يخضع لي كل من انتقل من الكُفْرِ إلى الإيمان، ومن نسي أعماله الشريرة السالفة، ومن يخصب ثمره يعمل الفضائل، فهو يترأس على الأعداء، والمُعْتَرِف يصير مثلي ملكًا... وأما بنو موآب الممنوعون من الدخول إلى الهيكل، فمزمعون أن يصيروا من خواصي بحميم المعمودية المقدسة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
مُوآبُ مِرْحَضَتِي.
عَلَى أَدُومَ أَطْرَحُ نَعْلِي.
يَا فَلَسْطِينُ اهْتِفِي عَلَيَّ [9].
جاء النص عن الترجمة السبعينية والقبطية "موآب أنية رجائي".
كانت موآب مع أدوم وعمون من أشد أعداء إسرائيل. وجاءت الشريعة تأمر ألا يدخل أحد من الموآبيين والأموريين في جماعة الرب حتى الجيل العاشر (تث 23: 3-6). لكن المرتل وقد رفع عينيه إلى الصليب رأى موآب تتمتع بمياه المعمودية (المرحضة) التي للرب، فيصيرون أبناء لله، موضع سروره.
موآب الذي كان ثمرة خطية لوط مع ابنته، رمزًا للنجاسة، يُمَثِّل الشيطان، تمتع مع الله بالمصالحة، وترك بنوته لإبليس ليحيا في حضن الرب. هذه هي الآنية المختارة التي يترجاها الرب بقوة صليبه.
أدوم التي تعني الدم أو الأرض تشير إلى آدم الأول الساقط بسبب تمرده على الله، تمتع بنزول كلمة الله متجسدًا، ويحيا في وسط البشرية ليضمه إليه.
أما فلسطين التي كانت في مقاومة مستمرة مع شعبه، تقاوِم عبادة الله الحق، فإذ تؤمن بالمسيح المصلوب تتحول إلى خوروس للهتاف.
هكذا صارت كنيسة المسيح العروس المُقَدَّسة من كل الأمم والشعوب والألسنة.
يرى يوسابيوس أن النعل يشير إلى التجسد، لهذا قال يوحنا المعمدان إنه غير مستحق أن يحل سيور نعله، أي يشرح سرّ تجسده. فعلي أدوم يطرح نعله، أي يسير السيد المسيح بكرازة إنجيله المقدس على البلاد الأممية والقبائل الغريبة مثل أدوم التي تعني أرضًا.
* "موآب مرجل (مرحضته) رجائي" يا له من سرّ عظيم نتعلمه من هذه الكلمات القليلة... فإن موآب تُترجَم "من الأب"... من هو هذا الإنسان الذي من الأب؟ ذاك الذي يفقد أباه، الذي تركه ولم يعد إليه، فلا يستحق أن يُدعَى منسي.
من هو موآب؟ عدو الرب الذي من جنسه حتى إلى الجيل الرابع والعاشر، بل وإلى منتهى العالم لا يدخل إلى كنيسة الرب.
من هو موآب؟ ذاك الذي يولد في جب الظلمة من اتحاد غير طاهر. من اتحاد لوط مع بنتيه، فقد وُلد ابنان: موآب هو الأكبر... في الظلمة في كهفٍ، وليس في الشمس والنور، لهذا فإن موآب هو الاسم الآخر للشيطان الذي لا يفكر في أبيه. حقًا إن إبشالوم الذي اضطهد أباه يمثل أيضًا إبليس.
ولكن بأي معنى يدعى موآب مرحضة رجاء الرب...؟ يقول الرسول: "اللذان أسلمتهما للشيطان لكي يؤدَّبا حتى لا يجدِّفا" (1 تي 1: 20).
الشيطان هو كما يبدو وسيلة الرب للتأديب. الذين لا يسيرون نحو الله في برَّ يُسلَّمون للشيطان... حتى يرجعوا إلى (الرب)...
"على أدوم أطرح نعلي" "أدوم" معناها "من الأرض"، ومن الدم". إله الحب والحنو يطالب ليس فقط السمائيين بل والأرضيين. يصير الفلسطينيون أصدقائي. يقول هذا عنا نحن الذين نؤمن وكنا من الأمم[14].
القديس جيروم
* تخضع أمة موآب لهم، وتصير مثل طشت لغسل أقدامهم، وتمتد إلى بلاد أدوم أقدامهم، وتخضع لهم الأمم الغريبة المتاخمة.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
مَنْ يَقُودُنِي إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُحَصَّنَةِ؟
مَنْ يَهْدِينِي إِلَى أَدُومَ؟ [10].
يشتهي المرتل أن يرى كنيسة العهد الجديد، المدينة الحصينة، وأن يهتدي إلى أدوم التي كانت مُتَغَرِّبة بعبادتها للأصنام، وصارت تحمل الكرازة بالتجسد الإلهي. يفرح بها الرب نفسه، سرّ قوتها، فيقول: "من هي المُشْرِقة مثل الصباح، جميلة كالقمر طاهرة كالشمس مُرْهِبة كجيش بألوية" (نش 6: 10).
يرى القديس جيروم المدينة الحصينة هي الجحيم، من يدخله لا يستطيع الخروج منه. دخله رجال العهد القديم ولم يستطيعوا أن يخرجوا منه. قيل عن يعقوب: "فأبي أن يتعزى، وقال إني أنزل نائحًا إلى الهاوية، وبكى عليه (على ابنه يوسف)" (تك 37: 35). كان للهاوية مدخل، ولم يكن لها مَخْرَج. واحد هو الذي دخل الجحيم وخرج منتصرًا، ربنا يسوع المسيح!
كان داود المرتل كغيره من كل رجال العهد القديم يخشى الموت، لأن الهاوية تنتظرهم، لكن صليب رب المجد يسوع حطَّم متاريس الهاوية وأفرغها من الذين ماتوا على رجاء خلاص الله العجيب!
أَلَيْسَ أَنْتَ يَا اللهُ الَّذِي رَفَضْتَنَا،
وَلاَ تَخْرُجُ يَا اللهُ مَعَ جُيُوشِنَا؟ [11].
حسن أن يعمل الإنسان ويجاهد كجيش قوي، لكن بدون نعمة الله يصير مرفوضًا، وباطلًا ينعم بالنصرة.
الله ملجأ لنا في وسط شدتنا، بنعمته يقود كل طاقاتنا، ويُحَوِّل قلوبنا إلى أورشليم كجيش بألوية (نش 6: 4)، لا تقدر كل قوات ظلمة أن تقتحمها.
* لاحظوا كلمات النبي بدقة. إنه لم يقل: أنت تخرج، وإنما "ولا تخرج يا الله مع جيوشنا؟" تعليم النبي هو هذا: عندما نبذل جهدًا يعيننا الله. هكذا إذن الأمر ليس لمن يشاء، ولا من يسعى، بل لله الذي يرحم (رو 9: 16). هل تفهمون أن هذا القول يعني: إنه ليس لمن يستريح، ولا لمن ينام، بل لله الذي يرحم...؟ من جانبنا يلزمنا أن نشاء وأن نسعى، عندئذ يتراءف علينا. عندما ينام المصارع يفقد النصرة[15].
القديس جيروم
أَعْطِنَا عَوْنًا فِي الضِّيقِ.
فَبَاطِلٌ هُوَ خَلاَصُ الإِنْسَانِ [12].
كثيرًا ما نتذمر في وقت الضيق، بل ونرى في كتابات الآباء مثل مناظرات القديس يوحنا كاسيان سُئل أحد الآباء: لماذا يسمح الله بالضيقات للقديسين؟
الضيق كما يراه القديس أغسطينوس يتم بسماح من الله لأجل بنياننا، فإننا لن نتذوق مراحم الله ورعايته لنا ونتلامس مع محبته مثلما تحل بنا ضيقة، فنصرخ لله ونكتشف أنه ملجأ لنا في ضيقنا.
* أتريد أن يسمع لك الرب في حنو؟ وأنت في ضيق أدعه، فهو يجيبك بلطفٍ. ما لم يكن الإنسان في ضيق لا يقدر أن يدعو الرب للعون. باطل هو عون البشر. "ملعون الرجل الذي يتكل على البشر" (راجع إر 17: 5)[16].
القديس جيروم
بِاللهِ نَصْنَعُ بِبَأْسٍ.
وَهُوَ يَدُوسُ أَعْدَاءَنَا [13].
خلال الناموس الحرفي لم يتمتع الإنسان بالخلاص، بل صار في ضيقٍ، أما وقد جاء كلمة الله متجسدًا فأعطانا روح القوة والغلبة على إبليس وملائكته، أعدائنا الحقيقيين.
* "بالله نصنع ببأسٍ" [13]. لنضع ثقتنا في الله وحده... معك المسيح، فهل لا تزال خائفًا؟ إن كان يُطعِم طيور السماء، فهل تشك في قدرته أن يقوتك أنت أيضًا؟ هل يقوت الشيطان رجاله، ولا يقوت المسيح خدامه...؟ لنطرد عنا كل قلقٍ من قلوبنا، ونقول: "بالله نصنع ببأسٍ". سيكون خبزنا، سيكون ملكنا. "هو يدوس أعداءنا". إنه يكلل، يحارب معنا لجانبنا، وأكثر من هذا ينتصر فينا... عندما نكون شجعان يدوس أعداءنا. لم يقل الكتاب إنه يحارب أو يقتل بل يدوس أعداءنا[17].
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مزمور 108

تسبيحك يملأ كل كياني من مجدك!


* في وسط ضيقي ألجأ إليك فأنت الملجأ الأمين.
يمتلئ قلبي بسلامك،
وتتهلل أعماقي بك.
وينطلق جسدي للعمل والخدمة بروحك القدوس.
أدركتُ بالحق لماذا يعيش السمائيون في عيدٍ لا ينقطع!
فأنت لستَ محتاجًا إلى تسبيح أحد،
إنما التسبيح لك يملأ كيان خليقتك فرحًا لا يُنطَق به!
* أقول مع المرتل: قلبي مستعد يا الله، مستعد قلبي.
بنعمتك أَبغَض قلبي كل دنسٍ ونجاسة،
وصار قَصْرًا ملوكيًا تسكُن فيه.
تسكب عليه من فيض نعمتك، فتفوح رائحة قداستك فيه!
تملأه من نفائس مجدك، وتُزَيِّنه ببهائك العجيب!
اسمحْ لي أن أعلن بكل قوة؟
حلولك يملأ لساني بالتسبيح،
ويفيض بمجدك على أعماقي!
أنت هو مجدي وشبعي وفرحي الذي لا ينقطع!
* إذ أتأمل في حبك تتحول ظلمة الليل إلى نورٍ عجيبٍ!
ينام الجسد ويستريح، أما نورك فيملأ أعماقي بهاءً.
في السحر، عند إشراق الشمس أمسك بالرباب والعود.
اعزفْ على أوتار نفسي المتهللة بك.
فكل ما في داخلي يجد لذَّته في تسبيحك!
* بتجسدك حلّ السَحَر بنا يا شمس البرّ.
فانطلقتْ نفوسنا مع أجسادنا تُسَبِّحك في تناغمٍ عجيبٍ.
* بتأنسك نزلت إلينا،
حوَّلتَ حياتنا إلى قيثارة فريدة،
تعزف عليها بروح الحب الإلهي،
فتهبنا الحياة المُقامَة الدائمة التهليل والتسبيح.
* يا للعجب! تمتع المرتل بروح النبوة.
فرآك قائمًا لتضم الشعوب معًا إلى كنيستك المتهللة.
انطلقَ يُرَنِّم لك وسط الشعوب القادمة إليك.
شاهَد كنيستك قد صارت سماءً جديدة.
فأدرك أن رحمتك رَفَعَتْ الأرضيين إلى العُلَى.
يشترك البشر مع الطغمات السمائية في التسبيح لك.
أُعلِن مجدك في البشر الذين صاروا شِبْه سمائيين.
ارتفعوا من المزبلة، وجلسوا مع الطغمات العلوية في السماء!
* صليبك هو ينبوع التسبيح والفرح.
يفرح الآب ويبتهج، إذ يرى البشرية تسترد جمالها.
أحنت البشرية أكتافها وصارت تُسَبِّح:
مع المسيح صُلبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ.
تمتَّعتْ بمعرفة أسرار السماء كل قدر قياسه.
هاجرتْ إليه، إذ تحررتْ من عبودية إبليس.
عادت تذكر إحسانات أبيها السماوي،
بعد أن سبق فنسيتْ أبوته وبددتْ ميراثها.
صارت تعترف برحمته وتجد مجدها فيه.
اغتسلتْ في مياه المعمودية، وتمتَّعتْ بروح البنوة.
* بصليبك اقتنيتَ كنيستك من كل الشعوب.
من أسباط إسرائيل كجلعاد ومنسى وافرايم ويهوذا،
من هاجر إليك، حيث أدركوا النبوات،
تركوا حرْف الناموس وقَبَلُوه بالروح المحيي.
صاروا ملوكًا أصحاب سلطان،
لا يقوى عليهم إبليس مُقَاوِم الحق.
من الأمم موآب وأدوم وفلسطين وغيرهم
من تمتعوا بالعضوية في جسدك المقدسة.
زالت عنهم روح العداوة والتهبوا بالغيرة المقدسة.
تركوا الأباطيل وعبادة الأوثان، وقَبَلُوا بصليبك الحق الإلهي.
صليبك حوَّل الهاوية إلى مشهد عجيب!
نقف أمامها تلك التي حبستْ نفوس الكل،
وقد تحطَّمتْ أبوابها، وانهارتْ متاريسها.
خرج الذين كانوا كمن في سجنٍ أبديٍ،
متهللين بك يا غالب الهاوية وواهب الأبدية!
* صليبك شدَّد أذرعتنا.
حوَّل قلوبنا إلى أورشليم المهوبة، كجيش بألوية.
صرتَ قائد المعركة ضد إبليس،
ووهبتنا روح القوة واليقين في نصرتك!
لم نعد نخشى العدو،
لأن إبليس يسقط كالبرق من السماء.
وهبتنا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو!
لك المجد يا أيها المصلوب واهب المجد والقوة!
  رد مع اقتباس
قديم 06 - 03 - 2014, 03:21 PM   رقم المشاركة : ( 110 )
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

الصورة الرمزية Mary Naeem

الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,269,752

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو

Mary Naeem متواجد حالياً

افتراضي رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

مزمور 109 - تفسير سفر المزامير
مسيحنا المصلوب!



يكشف هذا المزمور المسياني عن سرّ الصليب. فهو في حقيقته نبوة عن السيد المسيح، وقد وقفتْ خاصته ضده نطلب الخلاص منه، وخانه يهوذا تلميذه بلسانه الشرير وقُبلَته الغاشة، جاءت النبوة في شكل مرثاة يُقَدِّمها المرتل على لسان المسيح المصلوب، فقد كان ناسوته حقيقي، احتمل الآلام، وفي نفس الوقت يكشف عما في داخل قلبه من جراحات، لا من أجل آلامه، وإنما من جل عدم توبة صالبيه. فقد جاء إلى العالم ليُقَدِّم نفسه ذبيحة عن البشرية.
يحملنا المرتل بهذا المزمور الذي وإن كشف عن مرارة الألم إلا أنه يكشف عن عذوبة الحب حتى للمقاومين لنا.
* كل من يقرأ أعمال الرسل بإخلاص يعرف أن هذا المزمور يحوي نبوة عن المسيح. يظهر بوضوح أن ما كُتِبَ هنا: "لتكن أيامه قليلة، ووظيفته ليأخذها آخر" [8] هي نبوة عن يهوذا خائن المسيح[1].

القديس أغسطينوس
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[2]إن هذا المزمور يُربِك الكثيرين متى أُخِذَ حسب معناه الظاهر، فهو بكامله مزمور للعنة، يكشف عن غضب المتكلم، فقد التهب قلبه بالمرارة من جهة مضايقه. لا يقف عند طلب حلول العقوبة عليه، بل يطلب أن يأخذ وظيفته آخر، وألا تحل عليه رحمة الله. يطلب له الموت في سنٍ مُبَكِّر، ويكيل لعائلته النكبات. يصعب على الإنسان أن يرى في قلب داود بن يسى كراهية كهذه ضد أعدائه، مهما كانت عداوتهم له، لكن المزمور في حقيقته وصفًا ونبوة عما يَحَل بيهوذا الذي سلَّم سيده بخيانة مُرَّة. هذا ما أكده بطرس الرسول في حديثه (أع 1: 20).
يرىالقديس يوحنا الذهبي الفم أن ما قدَّمه هنا المرتل يُشْبِه ما قدَّمه يعقوب قبل وفاته حينما تنبأ عما سيحل ببعض أولاده من لعنات، وبآخرين من بركات (تك 49).
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مناسبته

ليس ما يؤكد ما وراء هذا المزمور من مناسبة تاريخية. يظن البعض أن داود النبي وضعه بمناسبة اضطهاد شاول له، أو تمرُّد ابنه أبشالوم عليه مع خيانة أخيتوفل له. في كلا الحالتيْن أظهر داود حبًا عمليًا ومن كل القلب، سواء للملك شاول أو ابنه أبشالوم أو مشيره أخيتوفل. وكان مقابل الحب للثلاثة بغضة وتدابير لقتله بلا سبب. على وجه الخصوص ما فعله أخيتوفل كان صورة مطابقة لما فعله يهوذا مع السيد المسيح.
لم ينشغل الآباء بما وراء المزمور من خلفية تاريخية، لكنهم تطلعوا إليه كعملٍ نبوي خاص بخيانة يهوذا للسيد المسيح، وكراهية اليهود، خاصةً القيادات الدينية له.
حديث القديس بطرس الرسول في وسط التلاميذ بخصوص اختيار رسول آخر عوض يهوذا كما جاء في سفر أعمال الرسل (1: 15-20) يشهد بالآتي:
1. أن كاتب المزمور هو داود النبي (أع 1: 16).
2. أن المزمور قد سبق فأَوْحى به الروح القدس نفسه.
3. ما ورد فيه تحقق حرفيًا في يهوذا.

1. مرثاة أم تسبحة
1.
2. فم غاش وتصرفات شريرة
2-5.
3. مصير الخائن يهوذا
6-20.
4. صرت عارًا عندهم
21-25.
5. فرح بالصليب
26-31.
من وحي مز 109
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ
جاء في الترجمة السبعينية: "لداود للتمام". سبق لنا الحديث عن هذا العنوان "التمام" أنه نبوة عن السيد المسيح (أنظر أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت شرح كلمة "للتمام" أو "التمام" أو "حتى النهاية" في مزامير 4، 5، 6، 8، 9، 12، 81).
يحمل بهذا المزمور عنوان "للتمام"، لأنه يُمَثِّل غاية الناموس أن يملك السيد المسيح على الشعوب روحيًا؛ وربما لأن المزمور يحمل طابعًا أخرويًا أو انقضائي، فإن غاية وجودنا وتاريخنا البشري كله أن يأتي رب المجد ويَحْمِلنا إلى ملكوته الأبدي.
* كلمة "للتمام" (على الانقضاء) كُتِبَتْ لأن بموت المسيح صار لنا الخلاص، وهذه كانت الغاية (النهاية) التي من أجلها جاء المُخَلِّص بالجسد، والتي عنها كتب بطرس الرسول: "نائلين غاية إيمانكم خلاص نفوسكم، الخلاص الذي من أجله فتَّش عنه الأنبياء الذين تنبأوا من أجل النعمة التي لأجلكم، وفتشوا لمن أو في أي وقت استُعلن روح المسيح الذي كان فيهم، إذ سبق فشهد عن آلام السيد المسيح والأمجاد التي بعدها" (أنظر 1 بط 1: 9-11)[3].
البابا أثناسيوس الرسولي
* هذا المزمور من قَبْل ربنا يسوع المسيح، وأقواله ليست دعاء ضد يهوذا الخائن، وضد اليهود الذين صلبوه، بل هو نبوة عن ما كان مُزمِعًا أن يحدث لهم، لذلك جاء في عنوانه "للتمام"، أي لمستقبل وقوعه في تمام الزمن المحدود.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
1. مرثاة أم تسبحة

مع حزن السيد الشديد على تلميذه الذي اختار طريق الخيانة، غير أن الصليب في الخارج عار وخزي، وفي أعماقه تسبحة حب يُقَدِّمها للآب، وفرح قلب بالذين قُدِّمت عنه الذبيحة.
يَا إِلَهَ تَسْبِيحِي لاَ تَسْكُتْ [1].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "اللهم لا تسكت عن تسبيحي".
أعلن السيد المسيح طاعته للآب بكونه آدم الثاني عوض العصيان الذي سقط فيه آدم الأول، كما أعلن حبه للبشرية بلغة العمل في صمتٍ. الآن يطلب من الله أن يتقبل هذه الذبيحة كتسبحة تمجد الآب، فيطلب منه ألا يصمت، بل يسمع له، ويقبلها، حاسبًا خلاص المؤمنين كأنه خلاص له، لأنهم أعضاء جسده.
يبدأ بقوله "يا إله تسبيحي" وسط مرارة المُرّ التي كان يشعر بها بسبب مقاوميه الذين أحبهم، وأحسن إليهم وصلَّى لأجلهم. نرى عيني داود قد تركزتا على الله "إله تسبيحه". بالحق سرّ نقاوة قلب داود وقوته أن قلبه قد انشغل تمامًا بالله المُحْسِن إليه، فصار قيثارة، وتحوَّلتْ كل حياته إلى تسبحة لا تنقطع، حتى وسط آلامه.
* "يا الله، لا تعبر على تسبيحي في صمتٍ". يقول مترجم آخر: "لا تسكت"، أي لا تتغاضى عن العقوبة، بل لتنتقم لما يحدث. أنت مجيد وقدير وقادر على وضع الأمور في نصابها فوق كل شيءٍ[4].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يقول المسيح: "يهوذا خانني، واليهود اضطهدوني وصلبوني، وظنوا أنهم يخلصون مني إلى النهاية". أما أنت يا الله فلا تسكت في تسبيحي. الكنيسة كلها في العالم تُسَبِّح الرب كل يوم وتتم الصلاة الربانية: يا الله لا تسكت في تسبيحي. لتدركوا كرامة الكهنوت! الكهنة يتكلمون، وفي الكهنة يُسَبَّح الله في ابنه[5].
القديس جيروم
* يقول ربنا: أنا يا أبتاه قد جئتُ إلى العالم لأُخبر الناس باسمك، وأُقيم على الأرض تسبحتك. فلا تدَعْ الأشرار أن يسكتوها، ولا يقووا على إزالة الإيمان بك.
أما فم الخاطئ -يقول النبي عن الشيطان- الذي هو سبب قتل المسيح وسائر الخطايا.
أيضًا دعا يهوذا الخائن خاطئًا، لأنه قال لليهود: ماذا تعطوني وأنا أُسَلِّمه إليكم. كما دعاه غاشًا، لأنه يمكرٍ قبَّله، قائلًا: السلام يا معلم.
كذلك فم الخاطئ الغاش هو أفواه الكتبة والفريسيين التي كانوا يفتحونها بالتجاديف على المسيح في مكرٍ وتَمَلُّقٍ عندما كانوا يقولون له: يا معلم إنك تعلم الحق الخ.
أيضًا تكلم عليه بلسانٍ غاش رئيس الكهنة عندما أقسم عليه، قائلًا: أخبرنا إن كنتَ أنت ابن المبارك، وذلك بغشٍ، لأنه لم يكن يقصد أن يخبره بأمره بل يمسك عليه بقوله ليتهمه بالتجديف. وقد أحاطه الشهود الكذبة في المحفل. هذا كله بلا سبب، أي من غير أن يكون عليه علة للبغضة. لأنهم عوض أن يحبوه إذ كان يشفي أمراضهم، ويقيم موتاهم، ويشفي مجانينهم، ويشبع جياعهم، أحالوه إلى بيلاطس وأسلموه للقتل. ومع هذا كان يُصَلِّي من أجلهم على الصليب، قائلًا: يا أبتاه اغفر لهم خطيتهم. أما هم فكانوا يفترون عليه قبل صلبه وبعده أنه طاغٍ وضال، وأنه يثير فتنة، عوض القول بأنه يُعلِّم طريق الحق. أبغضوه عوض محبته لهم واعتنائه بخلاصهم.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
2. فم غاش وتصرفات شريرة

كان داود المرتل يعاني من خداع الأعداء، وقد اتسمتْ كلماتهم بثلاث صفات وهي الشر والخداع والكذب. أما قلبهم فسمته الرئيسية هي الكراهية. قدَّم المرتل حبًا وحنوًا وتلقي بغضة في هذا الموقف كان داود رمزًا للسيد المسيح، الحب ذاته، وموقف خاصته منه.

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
لأَنَّهُ قَدِ انْفَتَحَ عَلَيَّ فَمُ الشِّرِّيرِ،
وَفَمُ الْغِشِّ.
تَكَلَّمُوا مَعِي بِلِسَانِ كَذِبٍ [2].



يقول الإنجيلي: "وكان رؤساء الكهنة والمجمع كله يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا. لأن كثيرين شهدوا عليه زورًا، ولم تتفق شهادتهم، ثم قام قومٌ وشهدوا عليه زورًا، قائلين: "نحن سمعناه يقول إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاث أيام أبني آخر غير مصنوع بأيادٍ. ولا بهذا كانت شهادتهم تتفق" (مر 14: 55-59). لقد شهد الحاكم: "إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم" (مت 27: 24).
* "قد انفتح عليَّ فم الشرير"، لأن الكراهية التي كانت مغطاة بالخداع قد تفجَّرتْ إلى لغة (كلمات).
"تكلموا معي بلسان كذب"، حدث هذا بصورة واضحة عندما مدَحوه بكونه مُعَلِّمًا صالحًا بتملقٍ غادرٍ. في موضع آخر قيل: "الذين يمدحونني كانوا يتحالفون عليّ" (مز 102: 8 LXX). إنهم إذ انفجروا في صراخ: "أصلبه، أصلبه" (يو 19: 6) قيل: "بكلام بغض أحاطوا بيّ" [3].
القديس أغسطينوس
* "لقد فتحوا أفواههم الشريرة والغاشة عليّ". لنفكرْ في يهوذا الخائن وغدره الغاش ضد الرب. لقد جاء إلى الرب عن عمدٍ لكي يخونه ويدعوه "ربوني"، يا سيد (راجع مت 26: 49). هنا نجد مثلًا كاملًا عن فم الخاطئ الغاش.
في حنوي أريد أن أُخَلِّصه؛ لقد تجاوبت مع قُبْلَتِه، فشوقي عظيم أن أتغلب على مكره، لكنه هو مُصِّر على غشه وخيانته لي.
هذه هي قصة يهوذا، على وجه الخصوص، وبصفة عامة هي قصة اليهود. في الوقت الذي صرخوا فيه: أصلبه، أصلبه (يو 19: 6) كانت شفاههم شفاه خاطئة تسيء إلى ربها[6].
* "تكلموا معي بألسنة كاذبة". كنتُ أطلب من أجلهم، وهم كانوا يكيلون لي الشتائم. كانت جراحاتي لأجل شفائهم، وهم تطلعوا إليّ بسخرية[7].
القديس جيروم
بِكَلاَمِ بُغْضٍ أَحَاطُوا بِي،
وَقَاتَلُونِي بِلاَ سَبَبٍ [3].
لقد حمل المقاومون للسيد المسيح عداوة ضده بلا سبب. لم يستريحوا حتى سفكوا دمه.
* "بكلام بغض أحاطوا بيّ".ليس في نيتهم أن يؤمنوا، وإنما فقط أن يهاجموني ويسحقونني. "وقاتلونني بلا سبب"... لم أرتكب جريمة، لهذا لا أستحق هجومهم.
أي عذر لهم أن يحاربونني؟ هل لأني شفيتُ مرضاهم؟ هل لأني أقمتُ أمواتهم إلى الحياة...؟
والأمر الثاني أنهم غير شاكرين. يريدون أن يمحوا اسمي ويبيدوه، ولم يستطيعوا. عندما يتآمر إنسان في بغضة ضد آخر ولا ينجح ولا يحقق ذلك يضطهده بلا سبب[8].
القديس جيروم

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

بَدَلَ مَحَبَّتِي يُخَاصِمُونَنِي.
أَمَّا أَنَا فَصَلاَةً [4].
كانت محبة السيد المسيح للبشرية واضحة خلال أعماله واهتمامه بشفاء كل ضعفات الجسد مع اهتمامه بخلاص نفوسهم، أما هم فردُّوا له محبته بالعداوة. كلما جال يصنع خيرًا تلتهب في داخلهم نيران الحسد والكراهية.
كثيرًا ما كان يقضي الليل في الصلاة، لكي ما يحملنا فيه إلى هذا العمل وسط ضيقاتنا. فتدفعنا مقاومة الأشرار لنا إلى الالتجاء إلى عرش نعمته، فننعم بروح الحب للمقاومين.
جاءت ترجمة "أما أنا فصلاة" هكذا: "أما أنا فكنت أصلي من أجلهم". هذه العبارة تكشف عن قلب داود ومنهجه، فإنه إذ كانت المقاومة ضده من كل جانب، كان ملجأه هو الصلاة، لا لكي يهبه الرب حكمة في التصرُّف فحسب، وإنما لكي يعطيه فهمًا روحيًا وحكمة بالنسبة للمقاومين إليه، فيرجعوا عن الشر الذي في قلوبهم.
* العبارة: "بدل محبتي يخاصمونني" [4] لا توحي بشيء سوى أن المقاومة جاءت من شخص يُحسِنُ إليه، وكان يستحق منه الحب ونوال مكافأة، لكنه قدَّم له ما هو مضاد لهذا...
"أما أنا فكنت أصلي من أجلهم" [4] أترون الوداعة؟ أترون تقوى الروح؟ يقول: إني لم أستخدم أسلحة، ولا أثرت معركة. عوض هذا كنتُ ملجأً لكم، وقُمتُ بمساندتكم، بأعظم أسلحة لها فاعليتها، قدَّمتُ عونًا لا يُغلَب[9].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بدل حنوي الذي قدَّمته بسخاء نحوهم، يفترون عليّ. ولكن ماذا فعلت؟ صلَّيْتُ هذا هو سلاح الرب، هذا هو سلاحنا نحن أيضًا، الصلاة!
إن كان أحد يضطهدنا ويكرهنا، لنفعل هكذا (نصلي)...
ماذا كانت صلاته...؟ يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعْلَمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34)[10].
القديس جيروم
* توجد ستة تصرفات مختلفة يمكننا أن نضعها في أذهاننا:
أ. مقابلة الشر بالخير.
ب. عدم مقابلة الشر بالشر.
ج. مقابلة الخير بالخير.
د. مقابلة الشر بالشر.
هـ. عدم مقابلة الخير بالخير.
و. مقابلة الخير بالشر.
التصرف الأول والثاني خاصان بالصالحين، الأول أفضل من الثاني.
التصرفان الأخيران خاصان بالأشرار، الأخير أشر من السابق له.
التصرفان اللذان في المنتصف يخصان نوع من الشخصيات التي في المنتصف ما بين الصالحين والأشرار.
يليق بنا ملاحظة ذلك في الأسفار المقدسة. ربنا نفسه يرد الخير مقابل الشر، إذ يبرر الفاجر (رو 4: 5). وعندما عُلِّق على الصليب، قال: "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34)[11].
القديس أغسطينوس
وَضَعُوا عَلَيَّ شَرًّا بَدَلَ خَيْرٍ،
وَبُغْضًا بَدَلَ حُبِّي [5].
لم يجد المقاومون في المسيح شرًا ليقاوموا شرًا بشرٍ بروح الانتقام. وإنما إذ قدَّم خيرًا ردوه إليه شرًا، لا بروح الانتقام، وإنما بروح الوحشية والعمل الشيطاني.
هنا يُمَيِّز القديس أغسطينوس بين الإنسان الذي يرد الشر بالشر وبين القاضي الذي يعاقب الشرير، فإنه لا يرد الشر بالشر، إنما يرد الظلم بالعدالة، والعدالة هي بالتأكيد صالحة. حب العدالة أمر نافع حتى للشرير.
* "وضعوا عليّ شرًا بدل خير، وبغضًا بدل حبي" هذا هو جُرْمُهم العظيم. إذ كيف يمكن للمضطهدين أن يضروا من مات بكامل حرية إرادته وليس قهرًا؟ إنما البغضة هي الجريمة الكبرى للمُضطهِد، حتى وإن كان التكفير تحقَّق بإرادة المتألم نفسه. وقد أوضح ذلك بما فيه الكفاية بقوله: "بدل حبي"... وقد أشار إلى هذا الحب في الإنجيل، عندما قال: "كم مرة أرادت أن أجمع أولادك... ولم تريدوا" (مت 23: 37)[12].
القديس أغسطينوس
* أترون مدى الشر؟ أترون مدى شركته في تدبير المكائد؟ أتنظرون التصميم على الشر؟ هذا بالطبع السبب الدافع للسخط أمام الله، عندما يرتكب المجرمون جرائمهم عن عمدٍ، بطريقة محسوبة وفي باعٍ طويلٍ في الممارسة. إنكم ترون أنه إذا تعثر شخص عندما يُفاجأ بأمرٍ أو يُخدَع يختلف عمن يمارس شرًا ضد آخر غير شرير[13].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "وضعوا عليّ شرًا بدل خيرٍ". عندما عُلقتُ على الصليب ترافعت عن الذين كانوا يصلبونني، وهم سخروا مني: "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خَلِّصْ نفسك. ليأت الآن الآب الذي يحبك ويُخَلِّصك" (راجع مت 27: 39-44).
من أجلهم قمتُ من بين الأموات، وهم يقولون: جاء تلاميذه ليلًا وسرقوه (مت 28: 13).
"وبغضًا بدل حبي". فكر مليًّا أيها المسيحي... إن كان الرب قد استقبل المتآمر عليه والخائن بقُبْلة، وصلَّى من أجل مضطهديه، فما هو واجبنا نحو إخوتنا؟[14]
القديس جيروم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
3. مصير الخائن يهوذا

إن كان مصير هذا الخائن جاء في لُغَة صلاة، غير أن المسيح الكلي الحب، الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقْبِلون، لا يشتهي هذا المصير لخائنه. قدَّم المُخَلِّص الحب حتى للذي خانه، لكن الأخير اختار أن يكون في صُحْبَة الشيطان، أي الشرير، وتحت سلطانه. فما حلَّ به وبأُسْرَتِه ليس إلا ثمرة طبيعية فاسدة لما اختاره بإرادته. اختار لنفسه اللعنة، والْتَحَفَ بالشر.
فَأَقِمْ أَنْتَ عَلَيْهِ شِرِّيرًا،
وَلْيَقِفْ شَيْطَانٌ عَنْ يَمِينِهِ [6].
إذ تسلل روح الخيانة إلى فكر يهوذا وقلبه بسبب محبته للمال، أو لأنه لم يحتل المركز الأول بين التلاميذ، أعطى للشيطان أن يحتل مركز القيادة في أعماقه، وعوض أن يرى الرب عن يمينه يقدسه، ترك إبليس يحتل هذا المركز ليوجهه كيفما شاء. قيل عنه إنه شيطان (يو 6: 70)، كما قيل عنه: "دخله الشيطان" (يو 13: 27). سلَّم نفسه لهذا العدو، فقاده مسرعًا به إلى دماره. جعله يمارس الشر بجسارة، وبعد سقوطه فيه حطَّمه باليأس.
* من يرفض الخضوع للمسيح يستحق أن يسيطر الشيطان (الشرير) عليه[15].
القديس أغسطينوس
* "فأقم أنت عليه شريرًا". إذ صليتُ عنهم وأنا على الصليب، وهم رأوا جراحاتي، وأعطيتهم الفرصة للتوبة، لكنهم ليسوا تائبين، ولا يريدونني ملكًا عليهم، فليكن الشيطان ملكًا عليهم.

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب

إنهم لا يريدون الملك يسوع، فليكن لهم الملك باراباس. باراباس الذي اسمه يعني "ابن الأب"، أي ابن الشيطان[16].
* وقف الشيطان عن يمين يسوع لكي يتهمه. على أي الأحوال فإن هذا المزمور لا يعني أن الشيطان يريد مقاومة يهوذا، بل هو بالفعل قد انتصر عليه. في زكريا يريد الشيطان أن يقاوم يمين يسوع (زك 3: 1-3)، أما هو فهو بالفعل ساد على يمين يهوذا[17].
القديس جيروم
* قول النبي هذا... ليس هو دعاء ضد يهوذا الخائن، ولا ضد الذين صلبوا المسيح، لكنه نبوة وعِلْم سابق فيما عتيد أن يكون لهم بسبب خبثهم...
أما قوله "ليقف شيطان عن يمينه"، فمعناه إن كان ليهوذا مفاخر ومواهب رسولية التي هي كرامة اليمين، فهذه المفاخر يقف عليها الشيطان، أي يُتلفها ويفسدها.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
إِذَا حُوكِمَ، فَلْيَخْرُجْ مُذْنِبًا،
وَصَلاَتُهُ فَلْتَكُنْ خَطِيَّةً [7].
ليس ليهوذا حجة يعتذر بها عما فعله عندما يقف في يوم الدينونة، فإنه حتى وإن لم يعرف لاهوته، لكنه رأى عجائبه، كما أحسن إليه بمواهبٍ مثل سائر الرسل، ولا كان عن احتياجٍ ماديٍ، لأن الصندوق كان في عُهْدته.
إذ ارتكب الخطية بجسارته وقف أمام ضميره يحاكم نفسه، فخرج مذنبًا، وعوض تقديم صلاة ندامة وتوبة مع رجاء في مخلصه، تسلَّط عليه اليأس، فسقط في خطية أبشع: عدم الإيمان بالمخلص!
* "فصلاته تكون خطية". لأن الصلاة لا تكون بارة ما لم تكن بالمسيح، ليس فقط لا تمحو الخطية، بل تصير خطية... لو أنه بعد خيانته وندمه صلَّى بالمسيح لطلب المغفرة؛ ولو طلب المغفرة لكان له رجاء؛ ولو كان له رجاء لكانت له الرحمة، وبالتالي ما كان قد شنق نفسه في يأسٍ[18].
القديس أغسطينوس
* لا تدعه يدخل إلى قاعة المحكمة، بل يدخل إلى الدينونة، فإنه حيث توجد مشاورات قضائية، فيكون الأمر غير أكيد، أما إذا كانت هناك دينونة فيكون الحكم قد صدر فعلًا ونُشِرَ. "لتكن دعواه القضائية باطلة". فإن ندامة يهوذا كانت أشر من خطيته. كيف هذا؟ بأن شنق نفسه. هذا الذي خان الله صار شانقًا نفسه... لقد قاوم الرب بالأكثر بشنقه نفسه أكثر من خيانته له. كان يجب أن تكون صلاته توبة، لكنها تحوَّلتْ إلى خطية[19].
القديس جيروم
* كل مؤمنٍ بالمسيح يُمَكِّن قلبه من ذكر شر من أساء إليه، يلعن نفسه في صلاته، لأنه كلما صلَّى يمارس خطيئة. وعن مثله يقول داود النبي في المزمور: "تكون صلاته خطية" (مز 109: 7). لأنه إذا صلَّى يقول: "اغفر لي كما غفرت لمن أساء إليّ" (مت 6: 12)، وهو لم يغفر له[20].
القديس مار أفرام السرياني
* لنحذر من أن نطلب ما لا يجوز طلبه، فماذا ينفعكم لو طلبتم من الله الآب السماوي موت أعدائكم؟! ألم تسمعوا عمَّا ورد في المزمور متنبئًا عن نهاية يهوذا الخائن المؤلمة إذ يقول: "وصلاته فلتكن خطيَّة" (مز ١٠٩: ٧). فإن طلبتم الإثم لأعدائكم، فصلاتكم تكون خطيَّة عليكم[21].
* لكن الكثيرين يسألون مالا ينبغي أن يسألوا، غير عالمين ما هو مناسب لهم. ينبغي أن يَحذر المصلي من أمريْن: ألا يسأل ما لا ينبغي سؤاله، وألا يسأل من لا ينبغي أن يُطلب منه. فينبغي أن لا نطلب شيئًا من الشيطان أو الأوثان أو الأرواح الشريرة. بل ينبغي أن نطلب كل ما نطلبه من الرب إلهنا يسوع المسيح، الله أب الأنبياء والرسل والشهداء، من أبي ربنا يسوع المسيح، من الله خالق السماء والأرض والبحر وكل ما فيهم. ونحذر من أن نطلب منه مالا ينبغي طلبه. فإن كان ينبغي أن نطلب الحياة ماذا ننتفع من طلبها من الأوثان التي لا تسمع ولا تنطق؟ وأيضًا ماذا ينفعكم إن طلبتم من الله الآب الذي في السماوات موت أعدائكم؟ ألم تسمعوا وتقرأوا في المزمور ما تنبئ به عن نهاية يهوذا الخائن المؤلمة إذ يقول: "وصلاته فلتكن خطية" (مز 109: 7)، فإن طلبتم الإثم لأعدائكم تكون صلاتكم خطية[22].
القديس أغسطينوس
* كيف تتجاسر على ملك الملوك ورب الأرباب أثناء الصلاة بعدم الوقوف في مكانٍ واحدٍ بأدبٍ وخشوعٍ، وتتمشى من اليمين إلى الشمال، لتنظر المارين والذاهبين؟ اعلمْ يا هذا أن صلاتك هكذا لا تُعَد صلاة، وهي التي قال عنها النبي: "صلاته فلتكن خطية" (مز 109: 7)[23].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* مَزْج بيلاطس دماء الجليليين بذبائحهم (لو 13: 1-5)، له تفسير رمزي، إذ يبدو أنه يشير إلى الذين تحت سلطان إبليس يُقَدِّمون ذبيحة دنسة، فإن صلاتهم تصير خطية (مز 109: 7). وذلك كما كُتِبَ عن يهوذا الخائن الذي في وسط الذبائح خطَّط لخيانة دم المسيح[24].
القديس أمبروسيوس
* من يمارس الندامة دون إمكانية تصحيح الخطية لا ينتفع شيئًا. إن أخطأ إنسان ضد أخيه بطريقة يمكن بها إصلاح الخطأ يمكن الغفران له. أما إن بقيتْ أثار الخطية، فيصير ندمه باطلًا. هذه الحقيقة يُطَبِّقها المرتل بخصوص يهوذا الكلي البؤس، إذ يقول: "لتكن صلاته خطية" (مز 109: 7)[25].
القديس جيروم
لِتَكُنْ أَيَّامُهُ قَلِيلَةً،
وَوَظِيفَتُهُ لِيَأْخُذْهَا آخَرُ [8].
لا نعرف إلى أي مدى عاش يهوذا بعد تسليم سيده وخيانته له. هل شنق نفسه في يوم صلب السيد المسيح أم بعده بأيام قليلة. لكن كل ما نعرفه أنه لم يحتمل الحياة بعد ارتكابه هذه الجريمة، فأسرع برد الفضة وشنق نفسه، وتحقق فيه قول المرتل: "لتكن أيامه قليلة".
طرد نفسه بنفسه من العمل الرسولي، وترك مكانه لآخر. وقد تحقق ذلك كما ورد في أعمال الرسل (أصحاح 1).
صار يهوذا مثلًا خطيرًا للإنسان الشرير، فمهما طالت أيام حياته، تُحْسَب أيامه قليلة، لأنها لا تحقق الرسالة اللائقة، ويخرج من العالم صفر اليدين، ليس لديه ما يُقَدِّمه أمام الديان!
* إن أيام يهوذا هي الأيام التي ينيرها ربنا الذي هو شمس البرّ، فهذه الأيام قد قلَّت منه.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* لقد صارت أيامه قليلة، أما لياليه فازدادت، لأنه أُخِذَ من الحياة في منتصف أيامه. عَبَرَتْ الشمس عن حياته، بينما اكتنفته الظلمة.
"ووظيفته ليأخذها آخر". أُعلن تفسير ذلك بوضوح في أعمال الرسل (1: 20)... إن كان يهوذا قد فقد وظيفته كرسولٍ، ليحذر الكاهن والأسقف لئلا يفقدان هما أيضًا خدمتهما. إن كان الرسول قد سقط فبأكثر سهولة يسقط الراهب[26].
القديس جيروم
لِيَكُنْ بَنُوهُ أَيْتَامًا،
وَامْرَأَتُهُ أَرْمَلَةً [9].
لا نسمع شيئًا عن أُسْرَة يهوذا؛ غالبًا لم يكن متزوجًا وليس لديه أبناء. فماذا يعني المرتل عن بنيه الأيتام وامرأته الأرملة؟ يرى بعض الآباء أن الأبناء يشيرون إلى ثمر الجسد والروح. يهوذا لم يحمل ثمر الإيمان الحي، لأنه أعطى القفا لله، ورفض أن يقبله أبًا. وحُرِمَ من العُرْس السماوي، فصار متيتمًا ونفسه مُتَرَمِلة!
ولعل الأبناء هنا يشيرون إلى من كانوا ملتصقين به ويعتمدون عليه كأبٍ، أما زوجته فهي مجمع السنهدرين الذي تطوع لخدمته في تسليم السيد المسيح.
إن كان الله يؤكد أن كل إنسانٍ مسئول عن خطاياه، فلا يحمل الابن إثم أبيه (حز 18: 19)، فلماذا تحل اللعنة على أبناء هذا الشرير وزوجته؟ يجيب القديس يوحنا الذهبي الفم: [يدعو هنا الذين يشتركون معه في الشر أبناء، فقد اعتاد الكتاب المقدس كما ترون أن يدعو من يرتبطون معه بالقرابة كما الذين يرتبطون معه بالشر أبناء له، حتى وإن كانوا ليسوا أبناء بالطبيعة. ذلك كما يُقال: "أبناء إبليس" (يو 8: 44). فاليهود لم يكونوا أبناء إبليس بالطبيعة. كيف يمكن أن يكونوا هكذا، بينما هو غير مادي (جسمي) وهم ملتحفون بالجسد؟ ومع هذا فقد اقتنوا هذه القرابة بمشاركتهم له في الشر. هكذا أيضًا رفض نسبهم كأبناء لإبراهيم، قائلًا: "لو كنتم أولاد إبراهيم، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم" (يو 8: 39). حقيقة أن الابن لا يُعاقَب من أجل الأب، ولا الأب لأجل الابن هو أمر واضح لكل أحدٍ فوق كل شيءٍ. هذا وضعه الناموس بوضوح، الاستثناء هو إن قام الأب بتربية ابنه في الشر، عندئذ يُعَاقَب الأب ليس من أجل الابن، وإنما من أجل تهاونه في تربيته كما حدث مع عالي (1 صم 3: 13).]
يرى القديس جيروم أنه لم يُذكَرْ في أي موضع عن يهوذا الخائن أنه كان متزوجًا وله أولاد. لكن زوجته هي المجمع الذي أخذ من يهوذا المهر، الذي هو الثلاثين من فضة، ثمن الخيانة. كما يرى أن اليهود الذين لم يؤمنوا بالسيد المسيح ولا تابوا بعد صلبه قد صاروا أبناء هذا الخائن.
* من تظنون هم بنو يهوذا؟ اليهود... "وامرأته أرملة".
المجمع الذي كان أولًا عروس الله، والذي قيل عنها: "أعطيتها كتاب طلاقها، ورددتها وقلت لها ارجعي إليّ" (راجع إر 3: 8-12). هذا المجمع طلَّقه المُخَلِّص، وصار امرأة يهوذا الخائن. وماذا حدث؟ لم تستلم المهر، بل ردته لرجلها (يهوذا)[27].
القديس جيروم
* أنهم كأيتام ليس لهم مُعِين، ولا حارس، فيزدادون وسط اضطرابهم وعوزهم[28].
القديس أغسطينوس
* إن أولاده التي هي أفكاره قد تغرَّبتْ عن أبيها الذي هو المسيح، وصارت مثل الأيتام، وفقدت نفسه اقترانها بالمسيح، وصارت مُتَرَمِّلة من عناية الله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* لقد ساد الرياء العالم؛ وها هو يزحزح الفضيلة حتى كاد يمحو ذِكْرَها من الوجود... يرتكب المراؤون المُنْكَرات في الغالب لأجل الطمع والربح القبيح. وهاكم يهوذا الاسخريوطي مثل لذلك. فإنه حينما طلب أن يُباع الطيب كان قلبه يفكر في سرقة الثمن (يو 12: 6). وقبل أن يُقبِّل سيده متظاهرًا بمحبته كان متفقًا أن يُسَلِّمَه بهذه القُبْلة (لو 22: 47-48)، حتى استحق اللعنات الهائلة من فم النبي، وهي: "ليقف شيطان عن يمينه. إذا حوكم فليخرج مذنبًا، وصلاته فلتكن خطية..." (مز 109: 6-19)[29].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ليَتِهْ بَنُوهُ تَيَهَانًا وَيَسْتَعْطُوا،
وَيَلْتَمِسُوا خَيْرًا مِنْ خِرَبِهِمْ [10].
ماذا يقصد بهؤلاء الأبناء الذين يتشردون ويبلغون إلى الاستعطاء؟
أ. ربما يعني الأبناء ليس حسب الجسد، وإنما من يتعهدهم ويكرز لهم. هؤلاء الذين سبق فكرز لهم قد تعثروا بسبب خيانته لسيده. فصاروا كمن تشردوا روحيًا، وصاروا في عوزٍ.
ب. جاءت هذه النبوة كتحذير لكل مؤمن، إن ما يفعله إن كان في الرب أو ضد الإيمان له فاعليته في حياة أولاده وبناته. فالإنسان عادةً لا يخاف من أية ضيقة تحل به قدر ما يخاف من حلولها على نسله، لأنهم في عينيه - حتى إن كان شريرًا - أثمن وأعز منه لديه.
يرى القديس جيروم أن بنيه هم اليهود الذين فقدوا الغِنَى الروحي، ولم يعد لهم أنبياء ولا كهنة ولا ذبيحة، صاروا ساقطين بمعنى الكلمة.
لِيَصْطَدِ الْمُرَابِي كُلَّ مَا لَهُ،
وَلْيَنْهَبِ الْغُرَبَاءُ تَعَبَهُ [11].
من هو المُرابي الذي يضع يده على كل ما لدى الإنسان الشرير، ومن هم الغرباء الذين ينهبون تعبه، إلا إبليس وجنوده. إنهم يستخدمون كل مواهب الإنسان وطاقاته وقدراته حتى عواطفه لحساب مملكة الظلمة.
يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن مرابي اليهود هم الجند الرومان الذي نهبوا أعمالهم الظاهرة واقتسموها كما اقتسموا ثياب السيد المسيح عند صلبه، ونهبوا أيضًا أموالهم.
لاَ يَكُنْ لَهُ بَاسِطٌ رَحْمَةً،
وَلاَ يَكُنْ مُتَرَغِّفٌ عَلَى يَتَامَاهُ [12].
إذ لا يرحم الشرير نفسه ولا يبالي بأبديته، لا يتوقع أن يجد من يترفق به أو يعطف عليه. وإذ يسلك بنوه على منواله في طريق الشر، يصيرون كأيتام ليس من يُقَدِّم لهم معروفًا.
* "لا يكن له باسط رحمة، ولا يكن مترغف على يتاماه". في ذلك الحين لم يكن لدى اليهود من يعينهم. أجبني أيها اليهودي. لقد كنتَ في بابل، وكان لك هناك أنبياء: دانيال وحزقيال، وماذا كان حالك إلا أنك عابد أصنام؟ كنتَ في السبي لمدة سبعين عامًا وبعد ذك عدت إلى بلدك. تطلع الآن... لماذا ليس نبي مُرسل إليك؟[30]
القديس جيروم
لِتَنْقَرِضْ ذُرِّيَّتُهُ.
فِي الْجِيلِ الْقَادِمِ لِيُمْحَ اسْمُهُمْ [13].
انقراض الذرية هنا يشير إلى أن الشرير وإن كان يزهو سريعًا غير أن ثمره الشرير لا يدوم طويلًا. فالحق أقوى من الباطل، والنور يُحَطِّم الظلمة ويُبَدِّدها.
يرى القديس جيروم أن هذا تحقق بواسطة تيطس القائد الروماني حيث استولي على أورشليم وقام بتخريبها.
لِيُذْكَرْ إِثْمُ آبَائِهِ لَدَى الرَّبِّ،
وَلاَ تُمْحَ خَطِيَّةُ أُمِّهِ [14].
الإنسان المُقَدَّس في الرب لا يخشى الخطية الجدية، ولا يئن من خطايا أسلافه، إذ يرى على الصليب قوة الذبيحة الغافرة للخطايا. أما الشرير، فبِشَرِّه لا ينتفع من عمل الفداء، لأن شروره وعصيانه امتداد لما فعله أسلافه.
يرى البعض أن والدي يهوذا كانا لصيْن، وقد علَّماه ودرَّباه على السرقة [31].
* لقد أخطأوا في البرية، والرب غفر لهم. الآن ينسبها إليهم التي ارتكبوها، لأنهم صلبوا الرب...
"ولا تُمحَ خطية أمه". من هي أم يهوذا؟ أورشليم التي فرحتْ بالدم، التي قتلت الأنبياء والرب نفسه[32].
القديس جيروم
لِتَكُنْ أَمَامَ الرَّبِّ دَائِمًا،
وَلْيَقْرِضْ مِنَ الأَرْضِ ذِكْرَهُمْ [15].
إذ لا يُظهِر الإنسان رحمة لا يتوقع أن يجد رحمة. حقًا مسيحنا يشتاق أن يُقَدِّم رحمة لكل إنسانٍ حتى بالنسبة لمضطهديه، لكن من لا يحمل في قلبه رحمة لا يقدر أن يَتَقَبَّلَ رحمة المسيح، ولا أن يتفاعل معها.
* "لتكن أمام (عين) الرب دائمًا". بالقول "دائمًا" يعني أنها بلا مغفرة، هنا وفي الحياة العتيدة[33].
القديس أغسطينوس
مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنْ يَصْنَعَ رَحْمَةً،
بَلْ طَرَدَ إِنْسَانًا مِسْكِينًا وَفَقِيرًا،
وَالْمُنْسَحِقَ الْقَلْبِ لِيُمِيتَهُ [16].
من هو الإنسان المسكين والفقير والمنسحق إلا السيد المسيح الذي من أجلنا افتقر، ولم يكن له أين يسند رأسه، وقد طلب اليهود صلْبه وموته. هذا كله قلبه لكي يغنينا بفقره، ويحيينا بموته.
ويرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح صار مستعطيًا (متسولًا)، يطلب من المرأة السامرية: "أعطيني لأشرب" (يو 4: 7)، ويقول على الصليب: "أنا عطشان" (يو 19: 28) وذلك من أجل خلاصنا.
* "من أجل أنه لم يذكر رحمة". من الأفضل فَهْم "لم يذكر" أنها بخصوص الشعب (اليهودي)، فإنهم إن كانوا قد قتلوا المسيح كان يليق بهم أن يذكروا هذا في توبةٍ، ويتعاملون مع أعضائه بالرحمة، هؤلاء الذين أصروا على اضطهادهم[34].
القديس أغسطينوس
* "من أجل أنه لم يذكر أن يظهر رحمة". تعلموا ما هو لطف الرب! إنه يرى يهوذا قادمًا مع الحراس والعسكر، رآه قادمًا ومعه العصي، ويقدم قُبْلَة. جاء ليخون الرب، والرب يقدم قبلَّة، حتى أن ذاك الذي فيه خوف السيد يُقهَر بالحنو.
"بل اضطهد إنسانًا مسكينًا وفقيرًا". من هو هذا إلا الغني الذي افتقر لأجلنا (2 كو 8: 9). دعا الرب نفسه مُعْدَمًا وشحاذًا، فمن من حقه أن يفتخر بثروته؟ لتتعزى أيها الفقير، فالرب فقير معك.
"ومنسحق القلب ليميته". ماذا يعني بالمنسحق القلب ليميته؟ نفس ما يُقال في الإنجيل: "نفسي حزينة حتى الموت" (مت 26: 38). وأيضًا: "يا أبتاه، إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39). أو ربما تعني: كنتُ حزينًا وكنتُ في ألمٍ عميق من أجل مُضْطَهِدي، لأنهم يرفضون أن يتوبوا. كنتُ مُعَلَّقًا على الصليب وبدمي غسلتُ أدناسهم، وهم يرفضون الندمة. هذا هو حزني وانكسار قلبي إنني عاجز عن أن أُخَلِّص الذين يضطهدونني[35].
القديس جيروم
* هذه هي علامة القسوة المتناهية، علامة الوحشية الشديدة عندما لا يُصدِر فقط خططًا، وإنما يمارس هذا ضد من كان حاله يحتاج إلى من يرحمه ويحنو عليه. مثل هذا الشخص في الواقع ينحدر إلى ضراوة الوحوش المفترسة - أو بالحري يبرهن على أنه أبشع منها. الهمجية -فوق كل شيء- هي ممارسة لطبيعة الحيوانات الوحشية. أما هذا الشخص فصادر النبل لممارسة الشر... بينما لدى الوحوش نوعًا من الحب والحنو على من هم من ذات فصيلتها وعلى علاقة بها. مثل هذا لا يحترم الطبيعة العامة، بل يأخذ موقفًا مضادًا ومنحرفًا، بينما كان يلزم أن يُظهِر الرحمة والرفق والإصلاح[36].
القديس يوحنا الذهبي الفم
وَأَحَبَّ اللَّعْنَةَ فَأَتَتْهُ،
وَلَمْ يُسَرَّ بِالْبَرَكَةِ،
فَتَبَاعَدَتْ عَنْهُ [17].
المبدأ الإلهي كما ورد في المزامير: "يعطيك الرب حسب قلبك". فمن يشتهي البركة ينالها، ومن يُسَر باللعنة للآخرين إنما يكيلها لنفسه لا للغير.
إن كان هذا المزمور يُحسَب مزمور لعنة ضد الشرير المُصَمِّم على شره، فإن هذه اللعنة ليست شهوة قلب المرتل، بل هي ثمرة طبيعية للفساد الذي يجلبه الشر. فلا نعجب إن قيل عن الشرير: "وأحب اللعنة فأتته، ولم يُسَر بالبركة فتباعدت عنه" [17].
حقًا إن للخطية لذَّتها وجاذبيتها بالنسبة للشرير، فيُحبها ويَقْبَل لعنتها، ولا يستعذب العشرة مع الله، بل يستثقلها، فلا يُسَر بالبركة الإلهية التي تود أن تقتنيه ويقتنيها، لكنه إذ يرفضها لا تلزمه، بل تبتعد عنه.
* أحب يهوذا اللعنة، سواء بسرقته من الصندوق أو بيعه وخيانته للرب، وأحَب الشعب اللعنة علانية، عندما قالوا: "دمه علينا وعلى أولادنا" (مت 27: 25).
"ولم يُسَر بالبركة، فتباعدت عنه". هكذا بالحقيقة كان يهوذا، إذ لم يحب المسيح، الذي فيه البركة الأبدية، والشعب اليهود يقرون بالأكثر رفضهم للبركة، الذين قيل لهم بذلك الذي استنار بالرب: "ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟" (يو 9: 27)[37].
القديس أغسطينوس
* إن آراءهم وأفكارهم وأعمالهم كلها ملعونة. واللعنة شملتهم مثل الثوب الذي يشمل الجسد كله. وتشدهم كما تشد المنطقة الجسد وتحضره. وهذا منذ الوقت الذي صلبوا فيه المسيح إلى الأبد، إن لم يتوبوا ويرجعوا إلى الله بالإيمان.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* "وأحب اللعنة، فتحل عليه؛ ليس لديه وقت للبركة، فتبتعد عنه" [17] بعد أن طلب (المرتل) حلول كوارث عليه، يظهر أنها ليست من عنده، وإنما مصدرها الشرير نفسه وأصلها منه، رافضًا بأعماله نعمة الله، جالبًا على نفسه الأسى من عند الله[38].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* يا أولادي، هذا لكي لا يعترض أحدٌ على أنّ الله كان قد قرّر أن تُعطَى المقدرة للشيطان، لأنه منذ البدء كان قد منحه قدرةً فائقةً، وما أعطاه له لم يستردّه منه، ولكن ذاك الذي نال هذه المقدرة هو الذي تركها تضيع ليستبدلها بقدرةٍ شريرة. إنه لم يُكتَب أنه رفض البركة، والله أبعدها عنه، بل: "لم يُسَرّ بالبركة، فتباعدت عنه" (مز 109: 17). إذن، لا تظنوا أنّ الله هو منشأ الشرور، لأنّ هذا سيكون لدينونتكم. ولكنّ الشيطان هو الذي اختار بنفسه المقدرة الشريرة والله لم يعرقله. ولهذا أيضًا قيل: "وأحبّ اللعنة فأتته" (مز 109: 17)، وليس أنّ الله هو الذي أعطاها له.
القديس برصنوفيوس
وَلَبِسَ اللَّعْنَةَ مِثْلَ ثَوْبِهِ،
فَدَخَلَتْ كَمِيَاهٍ فِي حَشَاهُ،
وَكَزَيْتٍ فِي عِظَامِهِ [18].
من ينشغل باللعنة، ويطلب الشر للغير، يظن أنها كثوب يرتديه متى أراد ويخلعه بإرادته. هنا يحذرنا المرتل أن من يرتدي هذا الثوب لا يلتصق به فحسب، بل ولا يقدر أن يخلعه متى أراد. إنها تتسلل من الخارج إلى أعماقه حتى تبلغ أحشاءه، بل وعظامه. إنها لن تفارقه ما لم يطلب نعمة الله لكي تعينه وتنشله.
* أظْهَرَ أنه يعمل الشر ببهجة، ويُخَزِّن اللعنة لنفسه، أي العقوبة الأبدية، كما أن البركة أبدية. فالأعمال الشريرة حاليًا هي مسرته تفيض كماءٍ في أحشائه، وزيتٍ في عظامه، وهي تأخذ طابع اللعنة، لأن الله يُعَيِّنها عذابات لمثل هؤلاء الناس[39].
القديس أغسطينوس
* "ولبس اللعنة مثل ثوبٍ، فدخلت كمياه في حشاه، وكزيتٍ في عظامه" [18]. يشير في هذه العبارة إلى قسوة الأسى، ودوام الجزاء، مُعْلِنًا أن الشرور تصدر منهم ومن اتجاههم في حالة كل الذين ينبذون الأعمال الصالحة خلال أعمالهم وتصرفاتهم، بينما يتورطون في نوال الجزاء[40].
القديس يوحنا الذهبي الفم
لِتَكُنْ لَهُ كَثَوْبٍ يَتَعَطَّفُ بِه،ِ
وَكَمِنْطَقَةٍ يَتَنَطَّقُ بِهَا دَائِمًا [19].
إذ تحل اللعنة بالإنسان المُصِر على شره وخبثه، تلتصق به كثوبٍ دائمٍ. يظن حين يخلعها أنه تعرَّى، وكأن اللعنة تصير بالنسبة له للسترة والكرامة، لا يريد الخلاص منها، وهي لا تريد مفارقته.
يرى القديس أغسطينوس أن الثوب المذكور سابقًا [18] هو الثوب الداخلي tunic، والثوب المذكور هنا cloak هو العبادة الخارجية. وكأن اللعنة تحل به من الداخل والخارج.
* يتمنطق الناس لكي يتهيأوا بالأكثر للعمل دون أن تعوقهم ثيابهم. فهو يمنطق نفسه باللعنات، ويخطط للشر ليمارسه بكل حرصٍ، وليس كدافع مفاجئ له، وإنه يتعلم أن يفعل الشر بهذه الطريقة، فيكون دومًا مستعدًا لارتكابه[41].
القديس أغسطينوس
* "لتكن له كثوبٍ يتعطف به، وكمنطقة يتنطق بها دائمًا" [19]... ما يعنيه هو هذا: يمسك الشر بهم (بالأشرار) فلا يستطيعون إحداث أي تغيير، وإنما على العكس يثبت فيهم بقوةٍ ولا يتحرك[42].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هَذِهِ أُجْرَةُ مُبْغِضِيَّ مِنْ عِنْدِ الرَّب،ِّ
وَأُجْرَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ شَرًّا عَلَى نَفْسِي [20].
أجرة الخطية موت، فمن يصنع الشر، مُبْغِضًا الرب نفسه، ماذا يقتني سوى هلاكه. لقد أبغض يهوذا دم المسيح الثمين واستهان به، فلم يجد الدم الذي يغفر له خطاياه.
يرى القديس أغسطينوس أن هذا هو "عمل"، وليس "هذه أجرة"، فإنه بقوله يلبس اللعنة، ويفيض ماءً وزيتًا ويتمنطق بمنطقة، هذه كلها أعمال تنتج لعنات أبدية.
* لقد أضاف هذا ليُظهِر أنه يعاقب الشر ويُصلِح الأشرار، وأن هذا الحُكْم لا يخُص (شرير مُعَيَّن) بل كل الذين يرتكبون ما سبق الإشارة إليه... هذه العقوبة تحلُّ على الذين يقاومونني، المولعين بتدبير المكائد، والمحاربين لي، والمتكلمين بالشر عليّ[43].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
4. صرت عارًا عندهم

صورة لذاك الغني الذي افتقر بإرادته لكي يُغْنِينَا، وجُرح لكي يشفي جراحات نفوسنا. قَبِلَ أن يصير عارًا وموضع سخرية، لكي ننعم بشركة أمجاده الأبدية.
أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ السَّيِّدُ،
فَاصْنَعْ مَعِي مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ.
لأَنَّ رَحْمَتَكَ طَيِّبَةٌ نَجِّنِي [21].
يتحدث هنا الابن الكلمة إلى الآب باسمنا ولحسابنا بكونه شفيعًا لنا.
إن كان الشرير لا يعرف إلا الخبث والكذب والقسوة، ويجد مسرته في تحقيق شهوته هذه، فالله الصالح يجد مسرته في الحب والرحمة.
إذ قَبِلَ السيد المسيح الصليب بإرادته، فإنه وهو قادر أن يقوم من الأموات، يطلب من الآب أن يُخَلِّصَه، لكي فيه نلجأ إلى الآب فيقيمنا مع مسيحنا.
يرى القديس أغسطينوسأن المُتَحَدِّث هنا هو الابن الذي يقول للآب "اصنع معي"، وأن عمل الآب والابن واحد، يعملان معًا بالرحمة نحو آنية الرحمة (رو 9: 23). ويرى أيضًا أنها تعني: كن معينًا لي. فإن كان الابن قد أخذ شكل العبد، فإنه يطلب عون الآب. فهو بكونه الله لا يحتاج إلى عونٍ، إنما وهو في شكل العبد يطلب ذلك.
* كما أن المُتَشَفِّع عن المُذنِب يقول للمتأذي: أنا أخطأت، وأنا أسأت إليك، فأعفِ عني، كذلك ربنا عندما قَبِلَ أن يولد كإنسانٍ ويُختتن ويرضع واتَّخذ كل ما للإنسان ماعدا الخطية وصام وصلَِّى وقرَّب ذبائح لله.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* انظروا إلى تعقله، تطلعوا إلى تواضعه. فمع أن لديه ما يكفي من الأُسس ليطلب (لنفسه الانتقام من المولعين بتدبير المكائد)... إلا أنه يكف عن هذا مُلْتَجِأً فقط إلى حنو الله، بالقول: "اصنع معي من أجل اسمك". وكأنه يقول: "ليس لأني مُسْتَحِقٌ ذلك، وإنما من أجلك أنت، ومن أجل حبك ورحمتك، إذ أنت محب ورحوم هكذا"[44].
القديس يوحنا الذهبي الفم
فَإِنِّي فَقِيرٌ وَمِسْكِينٌ أَنَا،
وَقَلْبِي مَجْرُوحٌ فِي دَاخِلِي [22].
كان قلب داود مُنْسَحِقًا بالأحزان، وجاء رب داود "رَجُل أحزان" (إش 53: 3)، ليس من جُرِحَ مثله، لأنه حَمَلَ كل جراحاتنا وهو القدوس البار. إنه مجروح أيضًا في بيت أحبائه (زك 13: 6).
* يقول الرب إنه فقير لكي يُعَزِّي الفقراء. صار فقيرًا مع الناس لكي لا ييأس أحد من خلاصه بسبب فقره.
"وقلبي مجروح في داخلي"... قلبي مُمَزَّق من الحزن[45].
القديس جيروم
* ألا ترونه مرة أخرى يتوسل لأجل إنقاذه، وليس من أجل استحقاقه أو برِّه، وإنما لأنه قد سقط تحت شرورٍ لا تُحصَى؟
القديس يوحنا الذهبي الفم
كَظِلٍّ عِنْدَ مَيْلِهِ ذَهَبْتُ.
انْتَفَضْتُ كَجَرَادَةٍ [23].
كان داود النبي مِثْل متجولٍ لا مقر له إلى زمان طويل، ولم يكن لربه موضع يسند رأسه فيه (مت 8: 20).
حين فُحِصَ السيد المسيح لكسر ساقيه مقل اللصين دهشوا أنه هكذا مات سريعًا. انتفض كجرادة، ليس لها مسكن ولا عش ولا موضع راحة. تتحرك جماعات الجراد حسبما يوجهها الريح، وأخيرًا تقذف بها الرياح في بحر فتغرق أو في برية فتهلك.
هكذا في ميلاده لم يكن له بيت يولد فيه، وفي موته لم يكن له قبر، إنما قدَّم نيقوديموس قبره الجديد لدفنه.
يرى القديس أغسطينوس أن الجرادة هنا تشير إلى تلاميذه أو أعضاء جسده الذين هربوا عند لحظات الصلب كالجرادة التي تنتقل من موضع إلى آخر.
* "انتفضت" [23]، كيف ذلك؟ اضطهدوني، ورذلوني. طردوني من الناصرة، وذهبتُ إلى كفرناحوم. طُرِدتْ من كفرناحوم، وذهبتُ إلى بيت صيدا، وطُرِدتُ من هناك، وذهبتُ إلى أورشليم. أردتُ أن أُقيمَ مع شعبي، ومن هناك طردوني خارجًا. عاملوني كما لو كنتُ سربًا من الجراد. ماذا فعلتُ؟ هل غضبتُ؟ هل دافعت عن نفسي؟ هل لعنتهم؟ هل تركتهم؟ لا، لم أفعل شيئًا من هذا. ماذا فعلتُ؟ صليت لأجلهم[46].
القديس جيروم
* الجراد المُعَد للخطاة المستحقين التأديب يُعتَبَر بحق طعامًا لائقًا للتوبة. لذلك الخاطئ المتوجه من مكان الخطية إلى مكان التوبة، يطير إلى السماء على أجنحة المغفرة. كان النبي يُعَلِّم هذا عندما قال: "كظل عند المساء، انتفضت كجرادةٍ"[47].
الأب بيتر خروسولوجيوس أسقف رافينا
رُكْبَتَايَ ارْتَعَشَتَا مِنَ الصَّوْمِ،
وَلَحْمِي هُزِلَ عَنْ سِمَنٍ [24].
إنها صورة للسيد المسيح الذي نُقِلَ من دارٍ للمحاكمة إلى دار أخرى، سواء دينية أو مدنية؛ لم يأكل ولم يشرب، بل كان صائمًا، حتى لم يحتمل أن يحمل صليبه، فسقط تحته.
* "ركبتاي ارتعشتا من الصوم، ولحمي هزل من الزيت" [24]. ألا ترون الأسلحة التي أعدَّها ضد المكائد والقسوة الموجهة ضده؟[48]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "ركبتاي ارتعشتا من الصوم". لتسترحْ يا راهب في صومك، فإن الرب نفسه صام...
الجنود الذين لهم قلوب حُرَّة بالصوم هم الجنود الذين يحبهم المسيح. الصوم هو طعامنا ووسيلة قوامنا.
كيف هذا؟ لأنه بالصوم توجد نصرة، وبالنصرة يُقام احتفال. يفتخر الرسول ليس في كثرة الخيرات، بل في ضعفه. "حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 10)[49].
القديس جيروم
* نعرف مما تَقَدَّم أنه عديدة هي الوسائل التي ننال بها مغفرة خطايانا، حتى أن ما من أحد يشتاق نحو خلاص نفسه يتطرق إليه اليأس، لأنه يرى أنه مدعو للحياة بأدوية كثيرة هذا عددها‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!
إذا كنتَ تحتج أنه بالنسبة لضعف الجسد لا تستطيع أن تتخلص من خطاياك بممارسة الصوم، ولا تستطيع أن تقول مع المرتل داود: "ركبتاي ارتعشتا من الصوم، ولحمي هزل عن سِمَنٍ" (مز 24:109)، ولا أن تقول أيضًا معه: "إني قد أكلتُ الرماد مثل الخبز، ومزجتُ شرابي بدموعٍ" (مز 9:102)، إذن عِوض هذا استبدله بجزيل الصدقات[50].
الأب بينوفيوس
وَأَنَا صِرْتُ عَارًا عِنْدَهُمْ.
يَنْظُرُونَ إِلَيَّ،
وَيُنْغِضُونَ رُؤُوسَهُمْ [25].
ليس من كُيِّل له من تعييرات مثل السيد المسيح.
* "صرت عارًا عندهم" خلال موت الصليب. "المسيح افتقدنا من لعنة الناموس، إذ صار لعنة لأجلنا" (غل 3: 13). "ينظرون إليَّ، وينغصون رؤوسهم". لأنهم يتطلعون إلى صليبه دون نظرهم إلى قيامته. تطلعوا حين كانت ركبتاه ضعيفتين، ولم يروا جسده وقد تغيَّر[51].
القديس أغسطينوس
* هذا هو اتجاه الأشرار، فإنهم لا يتركون البار يُعَمِّق روح التكريس فقط، وإنما يواصلون على التوبيخ والاستخفاف والمقاومة ضده[52].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "وأنا صرت عارًا عندهم". حقًا لقد دعوني سامريًا وسخروا بيّ.
"ببعلزبول رئيس الشياطين يُخرِج الشياطين" (لو 11: 15).
"أليس هذا ابن النجار؟ ونحن عارفين إخوته" (راجع مت 13: 55-56).
"يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام" (مر 15: 29).
مرة أخرى: "لنرى هل يأتي إيليا ويُخَلِّصه" (مت 27: 49). إنه ينادي إيلي، إيلي، أي ألهي إلهي، وظنوا أنه ينادي إيليا. انظروا جهالة اليهود! هل ابن الله يستجدى عونًا من إيليا؟
"ينظرون إليّ، وينغضون رؤوسهم" لماذا ينغضون رؤوسهم في سخرية؟ لأنهم بالفعل نفضوا الغبار من أقدامهم[53].
القديس جيروم
* فيما يتعلق باللصيْن اللذيْن صُلِبَا مع يسوع، فقد كُتِبَ عنهما: "أُحصِيَ مع أثمه" (إش 23: 12). كلاهما كانا أثيميْن، لكن أحدهما لم يظل هكذا.
واحد منهما بقي أثيمًا إلى النهاية رافضًا الخلاص.
بالرغم من أن يديه كانتا موثقتيْن، فقد أطلق لسانه بالتجديف. فكانا يسبه مع اليهود الذين كانوا يَعْبُرون ويَهزون رؤوسهم ساخرين بالمصلوب، مُحققين المكتوب: "ينظرون إليّ، وينغضون رؤوسهم" (مز 109: 25)[54].
القديس كيرلس الأورشليمي

تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
5. فرح بالصليب

ليس من فرحٍ مثل بهجة المخلص بخلاص الراجعين إليه. يبدأ المزمور بالتسبيح خلال الصليب، إذ هو تسبحة الحب وينتهي بالتسبيح من أجل الذين يتمتعون بالخلاص.
أَعِنِّي يَا رَبُّ إِلَهِي.
خَلِّصْنِي حَسَبَ رَحْمَتِكَ [26].
* "أعني يا رب إلهي، خلصني حسب رحمتك". تشير هذه العبارة إلى الرأس والجسد، إلى الكل. الرأس بكونه أخذ شكل العبد، والجسد بكونهم العبيد أنفسهم. فإنه وهو منهم يقول لله (الآب): "أعِنِّي" و"خَلِّصني"، وذلك وهو فيهم قال لبولس: "لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 4). الكلمتان التاليتان: "حسب رحمتك" تصفان النعمة المُقَدَّمة مجانًا وليس بحسب استحقاق الأعمال[55].
القديس أغسطينوس
* "خلصني حسب رحمتك" من جانب آخر: "لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو 10: 18) و"ليس أحد يأخذها مني" (يو 10: 18). إذن كيف يطلب رحمة. إنه كإنسانٍ يطلب، وكإله يعطي[56].
القديس جيروم
وَلْيَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ هِيَ يَدُكَ.
أَنْتَ يَا رَبُّ فَعَلْتَ هَذَا [27].
ليس من يفكر جديًا في حياة داود منذ صباه حتى موته دون أن يتلمس يد الله التي كانت دومًا سندًا له وعونًا لخلاصه من أعدائه.
جاءت أحداث الصليب متطابقة مع النبوات عبر العصور، ليُدرِك الكل أن هذا الحدث كان بخطة إلهية فائقة، ولم تحدث اعتباطًا أو نتيجة ظروف مُعَيِّنة.
* "وليَعْلَموا أن هذه هي يدك، أنت يا رب فعلتَ هذا". قال: "ليَعْلَموا" بالنسبة لأولئك الذين لأجلهم كان يصلِّي بينما كانوا ثائرين. فإنهم صاروا مؤمنين به، من كانوا بين جموع الذين نفضوا رؤوسهم ساخرين منه...
لنفهم أن يد الله تعني المسيح، الذي قيل عنه في موضع آخر: "لمن استُعْلِنَتْ ذراع الرب؟" (إش 53: 1)[57]
القديس أغسطينوس
* ما هو معنى: "هذه هي يدك"؟ يدك هي المعونة؛ يدك هي السند. إنه يقول: لست أطلب فقط أن أُخَلِّص، وإنما أطلب لأجلهم أن يعرفوا من الذي يُخَلِّصَني، فأقتني لنفسي غنائم مضاعفة، إكليلًا مزدوجًا، وسُمْعَة سامية[58].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* ما هذا الذي يقوله: "وليَعْلَموا أن هذه هي يدك؛ أنت يا رب فعلت هذا" [27]؟ ليدرك اليهود أنهم لم يغلبوني، إنما هذه هي إرادتي أن أتألم. بجانب هذا، إنني أرغب أن أتألم. لهذا من الجانب البشري الذي لي "أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت" (مز 40: 8). إنها إرادتك وإرادتي أن أتألم، ولا يتم ذلك بسبب خططهم وسلطانهم، إنما أنت وأنا نرغب ذلك... ما ترغب أنت فيه، أنا أيضًا أرغبه. من الضروري أن تأتي هذه العثرة، ولكن ويل للرجل الذي تأتي منه (مت 18: 7)[59].
القديس جيروم
أَمَّا هُمْ فَيَلْعَنُونَ،
وَأَمَّا أَنْتَ فَتُبَارِكُ.
قَامُوا وَخَزُوا،
أَمَّا عَبْدُكَ فَيَفْرَحُ [28].
تصوير رائع لأحداث الصلب، فقد كان الصالبون يكيلون الشتائم له، أما الآب فكان يُسَرُّ بذبيحة الصليب.
قاموا عليه ليصلبوه، لكنه إذ قام صاروا في خزي، أما رب المجد فقد نزل إلى الجحيم وحطَّم متاريسه، وأطلق الأسرى، فتهللوا بخلاصه العجيب، وتهللتْ السماء بهم!
* "أما هم فيلعنون، وأما أنت فتبارك". باطلًا هي لعنة أبناء البشر وكاذبة، فإن مسرتهم هي في الباطل، ويطلبون الكذب (مز 4: 2). أما الله فإنه إذ يبارك يتمم ما يقول.
"والذين يقومون عليَّ يخزون" [28 LXX]. لأن تصوُّرهم أن لديهم سلطان عليّ هو السبب في قيامهم عليَّ. ولكنني إذ أرتفعُ فوق السماوات، ويبدأ مجدي ينتشر في كل الأرض يخزون.
"أما عبدك فيفرح"، إما عن يمين الآب، أو في أعضائه حين يفرحون، وذلك في الرجاء أثناء التجارب، وبالأكثر عندما تنتهي التجارب[60].
القديس أغسطينوس
* هنا يُعلَّم المُستمِع مجموعة من القيَّم. إنه يشير بأنه لا يبالي إن صبُّوا عليه لعنات بشرط أن يباركه الله. لن يصيبه ضرر منهم، بل يرد عليهم العار واللعنات التي يصبونها...
"أما عبدك فيفرح بك (فيك). حسنًا يقول "فيك" حاسبًا أن الفرح ينبع من ذات المصدر، من فيض الخيرات. فإنه لا يمكن لمتاعب أن تضايقني مادام الفرح يحل بيّ من عندك، ويبقى غير مشوبٍ[61].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "أما هم فيلعنون، وأما أنت فتبارك" [28]. هذا ما يحدث إلى هذا اليوم عينه. إنهم يلعنون في المجمع، والرب يبارك في الكنيسة. "والذين يقومون عليّ يخزون، وأما عبدك فيفرح" [28 LXX]. إنهم يقومون ضدي، وأما أنا عبدك فأفرح. كيف أنا عبدك؟ فإنه وإن كان بالطبيعة هو الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، الأمر الملتصق به، لكنه أخلى ذاته، آخذًا طبيعة عبد (في 2: 6-7)[62].
القديس جيروم
لِيَلْبِسْ خُصَمَائِي خَجَلًا،
وَلْيَتَعَطَّفُوا بِخِزْيِهِمْ كَالرِّدَاءِ [29].
بصلبه حسبوا أنهم حققوا شهوة قلوبهم، لكن بقيامته صاروا في خزي؛ كَسَاهُم العار من كل جانب مثل العباءة التي تُغَطِّي جسم الإنسان.
* لاحظ مرة أخرى كيف أنه لا يطلب لهم فقط العقوبة، بل العار، والخزي، ليكون ذلك لهم درسًا لإصلاحهم، وفرصة ليصيروا إلى حالٍ أفضل[63].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* "وليلبسْ الذين يثلبونني العار" [LXX]. ليكن عار عليهم أن يثلبونني، ولكن ليُفهَمْ ذلك أيضًا كبركة، حيث أنهم يُصلَحون.
"وليشتملوا الخزي كالرداء (المزدوج)". بمعنى أنهم يخزون من الداخل والخارج، أمام الله والناس[64].
القديس أغسطينوس
* "ليلبس خصمائي خجلًا". إنه لم يقل: ليهلكوا؛ لم يقل ليبيدوا إلى الأبد، إنما ماذا قال؟ "ليلبسوا خجلًا"، أي ليتحققوا أخطاءهم، ويصيروا في خزي، ويثابروا في توبتهم.
من يتغطى بالخزي يقترب من الخلاص، لأن من يضطرب بإخلاص، ويرتبك يبدأ في التوبة.
تأملوا بعمق أيها الرهبان، إن كان لكم شيء على أخيكم، يلزمكم ألا تكفوا عن التوسل إلى الله من أجله.
الرب صُلب وكان يصلي من أجل صالبيه. لذلك إن سمعتَ كلمة مُفْسِدة، لا تقاوم في غضبك. لا تدع الشمس تغرب على غضبك (أف 4: 26).
"وليتغطوا بخزيهم كعباءة mantle". وهي نوع من العباءة المزدوجة، تُدْعَى في العبرية mail. إنها مزدوجة لأنها تُلَف حول الجسم مرتين...
إنني أتشفع فيهم. ماذا أسأل عنهم؟ ليخجلوا ويرتبكوا حتى يخلصوا. إنهم عرايا. لقد فقدوا سترتي tunic. هب لهم ارتباكًا، هب لهم خزيًا، ودعهم يلتحفون بعبائة مزدوجة من الخزي والارتباك. لا تدعهم يضطربون بجانب واحد بل باثنين لكي يُقَدِّموا توبة عن كل شيءٍ. لم يقل هذا ضد اليهود، وإنما لصالحهم. أتريدون برهانًا على ذلك؟ بطرس كان واحدًا منهم، وبولس كان واحدًا منهم، وكل الرسل كانوا منهم. لقد طُعِّمنا في جذرهم، نحن الأغصان وهم الجذر. لنصلي للرب كما أن الأغصان تخلص هكذا الجذر أيضًا[65].
القديس جيروم
أَحْمَدُ الرَّبَّ جِدًّا بِفَمِي،
وَفِي وَسَطِ كَثِيرِينَ أُسَبِّحُهُ [30].
ذبيحة الصليب مُقَدَّمة عن العالم كله، وهي أغنية أو تسبحة يترنم بها المؤمنون القادمون من كل بلاد العالم.
ليس لدى المؤمنين ما يُقَدِّموه للآب، ولمجده، سوى عمل الابن الخلاصي على الصليب.
يرى القديس أغسطينوسأن المُتَحَدِّث هو السيد المسيح الحاضر في كنيسته يحمد الآب باسم الكنيسة ولحسابها.
* هل يقول: "أحْمَدُ... في وسط كثيرين"، لأن هو مع كنيسته حتى انقضاء العالم (مت 28: 20)، فنفهم من "وسط الكثيرين" أنه سيُكَرَّم بهذه الجموع عينها؟ فإنه يُقَال بأنه سيكون في الوسط، حيث تُقَدَّم له الكرامة الرئيسية. فإن كان القلب كما لو كان وسط الإنسان فليس من وضعٍ يمكن أن يكون أفضل من هذه العبارة: "أحمدك في قلوب الكثيرين". فإن المسيح يسكن في قلوبنا بالإيمان[66].
القديس أغسطينوس
* "أحْمَدُ الرب جدًا بفمي". هذا يُقَال بعد القيامة، وقد سبق أن أُخبِرَتْ الكنيسة بما سيحدث. "وفي وسط الحشد أُسَبِّحه"، ليس في اليهودية وحدها، بل في العالم كله، في الكنيسة، أُسَبِّحك[67].
القديس جيروم
* فم المسيح نحن المؤمنين به، لأننا جسده وأعضاؤه، فشكرنا لله هو خاص به، لأجل هذا يقول "أشكر (أحمد) الرب بفمي، وفي وسط كثيرين أُسَبِّحه". لأنه لم يزل موجودًا بيننا، ومترددًا فينا، إذا كنا نُسَبِّح الله بأعمال مرضية له.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
لأَنَّهُ يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الْمَسْكِين،ِ
لِيُخَلِّصَهُ مِنَ الْقَاضِينَ عَلَى نَفْسِهِ [31].
يجلس عن يمين الآب، ويقوم الآب عن يمين الابن، لأن "اليمين" لا يعني اتجاهًا مكانيًا مُعَيَّنًا، بل هو رمز للقوة، فكل مِنْ الآب والابن الواحد عن يمين الآخر، إذ لا انفصال بين قدرة الآب وقدرة الابن، بل ويُدْعَى الابن نفسه "قوة الآب".
* قيل عن يهوذا: "ليقف الشيطان عن يمينه:؛ فإنه إذ اختار أن يُزيد من غناه ببيعه المسيح. أما هنا فيقف الرب عن يمين الفقير، فيكون الرب نفسه هو غِنَى الفقير.
"يقف عن يمين الفقير" لا ليضاعف سنوات حياته التي ستنتهي يومًا ما، ولا ليزيد مخازنه، ولا يجعله قويًا في الجسد، ولا في أمان من جهة الزمن، إنما يقول: "ليخلص من المُضطهِدين نفسي". الآن تصير النفس في أمان من المُضطهِدين، إن كان لا نوافقهم في الشر. ولا يكون مثل هذا التوافق معهم عندما يكون الرب قائمًا عن يمين المسكين، هذا العون وُهِبَ لجسد المسيح في حالة كل الشهداء القديسين[68].
القديس أغسطينوس
* دُعِيَ ربنا مسكينًا، لأنه اتَّخذ صورة الإنسان المسكين، ولأنه تصرف في العالم بالفقر والمسكنة. ولأن اليهود كانوا يرونه كمسكينٍ. وأيضًا يدعو مَعْشر الناس مسكينًا، فالذي يفعل أعمالًا تستحق اليمين يقوم الله عن يمينه، ويُخَلِّصه من مضطهديه المنظورين وغير المنظورين.
الأب أنسيمُس الأورشليمي
* لأنه يقوم عن يمين المسكين". وقف الشيطان عن يمين يهوذا، وأما الرب فوقف عن يميني. "لتُخَلِّصْ نفسي من القاضين عليّ"... إن كان (المسيح) حزينًا، فهو له عواطفه، لأن الحزن عاطفة. لهذا إن أرادوا أن يقولوا لنا: "إننا نقول إنه ليس له عواطف بشرية أو وجدان، لهذا لم يكن لديه مجال أن توجد فيه خطية" لنجيب عليهم بهذا: أليس له جسد مثلنا أم لا؟ إن قالوا: "له" نجيبهم "إذن لديه عواطف أجسام. كل واحد يفهم ما أقوله". إن أنكروا أن له عواطف أو رغبات الجسد نلتزم بالرد أنه بلا جسم. ولكن يلزمنا أن نؤكد لهم: "إذ له جسم حقيقي مثل جسمنا، لكن ليس له خطايا الجسم"، فإن له أيضًا نفس حقيقية، ولكن ليس له خطايا النفس. ليتنا ندرك ونشكر أن له جسم حقيقي ونفس حقيقية، لأنه إن كان الرب لم يتخذ طبيعة بشرية بكاملها فإنه لم يخلص البشرية. لو أنه اتخذ جسمًا فقط بدون نفس، فهو خلص الجسم دون النفس. لكننا نريد أن أنفسنا تخلص أكثر من جسمنا، لهذا أخذ الرب كل من الجسم والنفس ليُخَلِّص كل منهما، يُخَلِّص الإنسان بكماله كما خلقه[69].
القديس جيروم
* ها أنتم ترون، هذه هي ذبيحة حقيقية، تَقْدِمة حقيقية، حافظين في أذهاننا على الدوام إحسانات الله، ننقشها في تفكيرنا، كارزين بها بكلمات الفم، فنجعل الكثيرين يسمعون عن إحساناته. بهذه الوسيلة، فإن من ينال إحسان حنوه يتمتع بمكافأة عن شُكْرِه، ويربح نعمة أعظم من قِبَل الله، وأيضًا الذين يسمعون عن الإحسانات المُقَدَّمة للغير، يصيرون أكثر غيرة، ويحسبون الإحسانات المُقَدَّمة للآخرين، فرصة أن يقتدوا بهم في الفضيلة[70].
القديس يوحنا الذهبي الفم
تفسير   الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
من وحي مز 109

قلبي مجروح في داخلي!


* أية تسبحة أعذب من عمل الصليب.
كيف يصمت الآب أمام ذبيحة ابنه وحيد الجنس؟!
فتح الرب فمه بالحب العملي،
فدفع بنا إلى حضن أبيه أبناء مُقَدَّسين!
* اختار يهوذا طريق الخيانة بكامل إرادته.
كلماته شريرة وغاشة وكاذبة.
يرُد حُب المُخَلِّص له بالكراهية.
ويُقَدِّم الشر في أبشع صوره،
مقابل الحب الإلهي في أروع لحظاته!
* قلبك يا سيدي مجروح بالحب.
هب لي بسهام حبك جراحاتك الشافية.
بك أحب العالم كله حتى الذين يقاومونني.
بصليبك لا أنشغل بشرور الأشرار،
بل أطلب عنهم ليذوقوا حبك.
كما فعلت بي، لتعمل نعمتك فيهم.
* أسرع يهوذا هاربًا،
لا يريدك تقف عن يمينه فيختبر قوة حبك.
هبْ لي مع كل صباح جديد أترنم، قائلًا:
تَقَدَّمتُ فرأيتُ الرب أمامي في كل حين،
إنه هو عن يميني، فلا أتزعزع!
* ندم يهوذا، لكن لم يرفع عينيه إليك.
فصار ندمه خطية.
عوض الرجوع إليك شنق نفسه.
عوض الالتصاق بصليبك،
ألقى بنفسه تحت عبودية إبليس.
فقد كل ما له وكرامته،
قدَّم نفسه بكل إمكانياتها لسيده إبليس.
اختار الانتحار عوض الحياة الحقيقية.
وألقى بنفسه في اليأس عوض الرجاء.
أحب لعنة إبليس، وابتعد عن مصدر البركات!
قلبك مجروح من أجل كل الساقطين!
أنت الحب كله، لماذا يهرب البشر منك؟!
* على الصليب افتقرتَ وأنت الغني!
من أجلي افتقرتَ، فلا أخجل من فقري.
أراك أقرب إليَّ من نفسي.
أقتنيك، فاغتني بك.
حملتَ العار والخزي عني،
لكي تحملني إلى أمجادك الأبدية.
يا لك من جريح فريد وعجيب.
بجراحتك تداوي جراحات نفسي!
* بصليبك قدَّمتَ رائحة سرور لأبيك.
فرَّحتَ السمائيين بخلاصنا.
أقمتَ لنا موضعًا في الأمجاد الأبدية.
حوَّلتَ حياتنا إلى تسبحة لا تنقطع!
المجد لك يا من بصليبك
وحدَّت السماء مع الأرض،
والسمائيين مع الأرضيين،
وأقمتَ لنا عرسًا أبديًا لا يتوقف!

التعديل الأخير تم بواسطة Mary Naeem ; 06 - 03 - 2014 الساعة 03:30 PM
  رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي رو26:8
تفسير الكتاب المقدس - العهد القديم - القمص تادرس يعقوب سفر نحميا
قصة الكتاب المقدس للأطفال - القمص تادرس يعقوب ملطي
مزمور 1 - تفسير سفر المزامير -القمص تادرس يعقوب
تفسير سفر نشيد الأنشاد القمص تادرس يعقوب مركزه عند اليهود:


الساعة الآن 06:11 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024