رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دراسة عن انجيل يهوذا ونظرة المسيحيه لهذا الانجيل إنجيل يهوذا: دراسة وتحليل (مينا فؤاد freeorthodoxmind 2007) قبل البدء في قراءة هذا المقال أنصح بقراءة هذه الدراسة عن الغنوسية أولاً: إنجيل يهوذا المحتوى: يُقدم إنجيل يهوذا فكراً غنوسياً خالصاً، فهو يكشف عن مسيحاً آخر، معلماً غنوسياً لاصلة له بيسوع العهد الجديد التاريخى. فيسوع بالنسبة لهذا الإنجيل كائناً خيالياً لاوجود له فى الجسد المادى، يختفى ويظهر بعدة أشكال إذ ليس له هيئة محددة أما بالنسبة للتلاميذ- عدا يهوذا- فهم ليسوا من الإله الحقيقى الغير مدرك، بل من الإله الشرير "الصانع Demiurge(Yaldaboath)" إله العهد القديم، لذا فيسوع يختار يهوذا ليكشف له الأسرار المخفية وحده!! ويكشف هذا الإنجيل أيضاً أسطورة غنوسية غامضة mystic تتعلق بخلق الكون cosmology تتعدد فيها الآلهة، فهناك الإله الغير المدرك والغير المعروف pleroma، وهناك الإله المولود الذاتى Barbelo، وأيضاً الإله الشرير خالق العالم المادى إله التلاميذ والعهد القديم Yaldaboath، Sakalas، Demiurge، هذا بالإضافة لسلسلة كبيرة من الأيونات والملائكة. ويتحدث الإنجيل عن شيث Seth- الإبن الثالث لآدم- كتجسد أول للمسيح، فهو كائن إلهى تجسد فى صورة الكائن البشرى. وفى النهاية – كما نعتقد- يقدم خيانة يهوذا ليسوع كعمل طاعة مقدس تمَّ بناء على طلب من يسوع نفسه، كى يتحرر فى النهاية!!. هذا التحليل لمحتوى إنجيل يهوذا، دلَّ العلماء أنه عمل غنوسى ربما يكون قد خرج من دائرة إحدى الفرق الغنوسية، والتى تُدعى الشيثيانيين Sethian. والشيثيانيين هم مجموعة قديمة من الغنوسيين بدأت فى فترة سابقة سابقة لميلاد المسيح، وإتخذوا أفكارهم كمزيج من: 1- التصور الهيلينستى- اليهودى Hellenistic-Jewish، لصوفيا: الحكمة الإلهية، فصوفيا هى الحكمة الإلهية، والتى تختلف عن الإله غير المُدرك، وهى أم الإله الشرير Demiurge خالق العالم المادى، وهى مُنقذة الشرارة الإلهية داخل الإنسان الذى أُسِرَ فى الجسد المادى. 2- التفسير المدراشى Midraschic لسفر التكوين وقصة الخليقة، بجانب كتابات يهودية أخرى. 3- عقيدة المعمودية وممارستها (كطريق للإستنارة). 4- العقيدة المسيحية عن المسيح. 5- الفلسفة الأفلاطونية، والأفلاطونية الحديثة Neo-Platonism حول أصل الأشياء. ولهذا نجد نفس أفكار إنجيل يهوذا فى باقى الكتابات الشيثيانية Sethian texts، والتى تضم رؤيا آدم، أبوكريفا يوحنا، رؤيا نوريا، وإنجيل المصريين. وكباقى الأدب الغنوسى، ينتمى إنجيل يهوذا إلى اللاهوت السلبى (التجريدى) Apophatic(Negative) Theology، الذى يُعرّف الله من خلال صفات سلبية : فهو غير مُدرك، غير مُتحرك، غير ملموس، وغير مرئى لكنه – مثله مثل سابِقَهُ الفكر الشرقى القديم- لايقدم الله من خلال صفات إيجابية أبداً. ويمكن تقسيم أفكار إنجيل يهوذا كالتالى : 1) الله الآب : الله الآب هو مصدر المسيح، لكنه فى نفس الوقت منفصل عنه. فالمسيح هو قادم (منبثق emanated) من عند الإله السامى أول إنبثاقات الغير المُدرك Barbelo. "[قال] له (ليسوع) يهوذا: أنا أعرف من أنت ومن أين أتيت، أنت من العالم الخالد لباربيلو" (إنجيل يهوذا) ونجد نفس هذه الفكرة فى إنجيل توما الأبوكريفى :"أنا هو الذى نال وجوده من غير المنقسم" (توما 3:61) لقد ركّز كاتب إنجيل يهوذا على مصدر السيد المسيح، كى يقدمه كمعلم غنوسى وحده يستطيع أن يقدم المعرفة بعكس باقى التلاميذ الذين هم من مصدر آخر. 2) يسوع المسيح : يبدأ الإنجيل بإستهلال يقدم فيه يسوع كمعلم غنوسى: "الرواية السرية secret account للإعلان الذى تكلم به اللوجوس ΠΛΟΓΟ[C] (أى يسوع) فى حديث مع يهوذا الإسخريوطى" (إنجيل يهوذا). الحديث عن "الرواية السرية"، و"الإعلان"، و"الإستنارة" أى " المعرفة γνῶσις"، هو تعبير يصاحب كافة الكتابات الغنوسية، والتى تًقدّم يسوع كمعلّم غنوسى يختص واحد من تلاميذه بنقل المعرفة السرية عن الملكوت والإله غير المُدرك. وهنا هو يختص يهوذا الإسخريوطى، مثلما فعل مع توما :"هذه هى الكلمات السرية التى فاه بها يسوع الحىّ وكتبها ديدماس يهوذا توما" (إنجيل توما)، ومريم المجدلية: " قال بطرس لمريم: ياأخت أننا نعلم أن الرب قد أحبك أكثر من الباقيين... قولى لنا كلمات المخلص... والتى تعرفينها ولكننا لا تعرفها، ولم نسمع بها. أجابت مريم وقالت ماهو مخفياً عنكم أنا سوف أكرزه لكم" (إنجيل المجدلية 5:5-7). ويسوع المسيح أيضاً فى إنجيل يهوذا يبدو كأنه "كائن خيالى phantom" ليس له هيئة محددة أو جسد مادى: "وغالباً لم يظهر لتلاميذه كما هو، ولكنه وُجدَ بينهم كطفل" (إنجيل يهوذا) نفس التصور نجده أيضاً فى إنجيل فيلبس: "لقد أظهر ذاته كملاك للملائكة وللبشر كإنسان" (فيلبس 2:19). يُقدم إنجيل يهوذا أيضاً معلومات خاطئة عن مكان القبض على السيد المسيح، فهو ليس هنا بستان جثيمانى بل حجرة الضيوف guest room: "تمتم رؤساء كهنتهم لأنه (يسوع) دخل حجرة الضيوف للصلاة... وإقتربوا من يهوذا، وقالوا له: ماذا تفعل هنا؟ أنت تلميذ يسوع. فإجابهم يهوذا كما أرادوا منه وأستلم بعض المال وسلمه لهم" (إنجيل يهوذا). 3) التلاميذ والجيل الفاسد : يشير إنجيل يهوذا إلى مصدر التلاميذ الفاسد: "لاتفعلون ذلك لأنكم تريدون، ولكن لأنه بذلك سيُمجد إلهكم"، "إلهكم الذى بداخلكم"، "ليصل الإثنى عشر إلى الكمال مع إلههم" (إنجيل يهوذا) الإله المقصود هنا ليس هو الإله السامى أو باربيلو، بل هو سكالاس، الإله الصانع، إله العهد القديم الشرير. فالتلاميذ خاضعون له ولسيطرته، لذا فَهمْ لايستطيعون إدراك الأسرار والمعرفة التى يتحدث بها إلى يهوذا. ويُقدم الإنجيل الغنوسى أمراً آخر عن هذا، فالمسيح يتحدث عن الجيل المقدس (غير الفاسد) incorruptible generation، والجيل البشرى (الفاسد) human generation. الأجيال المقدسة النقية فقط هى التى ستعود لمصدرها السماوى، بينما ستفنى الأجيال البشرية: (1) " قال لهم يسوع: ذهبت لجيل آخر عظيم ومقدس. قال له تلاميذه: يارب ماهو هذا الجيل العظيم الأسمى والأقدس منا، والذى ليس من هذا العالم"، "لماذا تفكرون فى قلوبكم فى الجيل القوى والمقدس، الحق [أنا] أقول لكم، ليس أحد مولود من هذا [الأيون] سيرى ذلك [الجيل]" (إنجيل يهوذا) ----- (1) يبدو إنجيل يهوذا فى عديد من أفكاره وكأنه يُقدم تفسيرات أخرى لكلمات المسيح للتلاميذ فى العهد الجديد : "فأجاب يسوع وقال لهم أيها الجيل غير المؤمن والملتوى" (لو 41:9)، "جيل شرير فاسق" (مت 4:16)، راجع أيضاً (مت 39:12)، (لو 29:11)، و(مر 38:8). 4) يهـــوذا : "الرواية السرية للإعلان الذى تَكلَّمَ به اللوجوس (يسوع) فى حديث مع يهوذا الإسخريوطى" (إنجيل يهوذا) يهوذا إذاً هو التلميذ المختار لينقل له يسوع المعرفة الغنوسية، والإستنارة... لكن لماذا يهوذا؟؟ يُحتَمَل أن السبب يكمن فى الإسطورة الشيثيانية الخاصة بالخلق. كان سقوط آدم وحواء وخروجهما من الجنة، هو بمثابة تحرر من سلطة الإله الشرير (إله العهد القديم) وحكامه archons، وبمثابة خلاص لهم. وهكذا يبدو أن الأبطال والمستنيرون هم الذين يتمردون على سلطة إله العهد القديم، لذا تَضُم قائمة الأبطال قايين، وقورح، وأهل سدوم(راجع الرسم التوضيحى للمعتقدات الغنوسية فى الفصل السابق)، وهكذا أيضاً يهوذا. "ولمعرفته ان يهوذا كان يتأمل فى شىء كان مرتفعاً exalted، قال له يسوع :تقدم بعيداً عن الآخرين وسأخبرك بأسرار الملكوت" (إنجيل يهوذا) ويهوذا هو التلميذ الذى سيسلم المسيح حسب رغبة يسوع نفسه، فهذا العمل ليس عمل خيانة، بل عمل طاعة (2) ومحبة سيرتفع به يهوذا: "لكنك ستفوقهم جميعاً، لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى، ها (بالفعل)، قد إرتفع قرنك، وإضطرم غضبك، وظهر نجمك ساطعاً" (إنجيل يهوذا). هكذا يقدم إنجيل يهوذا مفهوماً آخر لخيانته التى أصبحت طاعة ومحبة للمعلم. ------ (2) ربما كان ذلك نتيجة التفسير لكلمات المسيح ليهوذا فى العهد الجديد: "قال له يسوع ما أنت تعمله فأعمله بأكثر سرعة" (يو 27:13) هناك تساؤل، فى المشهد الأول scene 1، الذى يدعو فيه المسيح يهوذا ليحدثه حديثاً خاصاً بعيداً عن الآخيرن، يقول له يسوع: "[36] ولكنك ستحزن كثيراً، لأن أحداً آخر سيحل مكانك ليصل الإثنى عشر [تلميذاً] إلى الكمال مع إلههم" (إنجيل يهوذا) من هو الذى سيحل مكان يهوذا؟! يقول إريك مادر "هل من الممكن أن يكون المقصود هو بطرس الرسول التابع لإله العهد القديم الشرير، والذى ستعتبره الأجيال البشرية الفاسدة أعظم الرسل، ليأخذ حق الرسول الحقيقى يهوذا؟، أم نفهم أن ’’أحداً آخر’’ سيتسبب فى تشويه صورة يهوذا ليٌعتّبرَ خائناً؟"(6)، أم تُرى هو متياس الرسول الذى تمَّ إحتياره بديلاً عن يهوذا مع الإثنى عشر؟. سيبقى هذا لغزاً غامضاً لا يعرفه غير كاتب هذا الإنجيل... 5) قيامة الأجساد : تماماً مثل باقى المعتقد الغنوسى والأديان الشرقية القديمة، ينفى إنجيل يهوذا قيامة الأجساد، ويتحدث عن قيامة للأرواح فقط: "قال يسوع: ستموت أرواح كل جيل البشر. وعندما يتم هؤلاء الناس زمن الملكوت، ويغادرهم الروح(7) (الشرارة الإلهية) ستموت أجسادهم، ولكن أنفسهم ستظل حية وسيتم رفعهم للأعالى" (إنجيل يهوذا). 6) خلق العالم والملائكة : من بداية المشهد الثالث scene 3، والفقرة المرقمة [47] وحتى الفقرة المرقمة [55]، يعْرض إنجيل يهوذا الإسطورة الشيثيانية الغنوسية عن الخلق : "قال يسوع [تعال] حتى أعلمك (ليهوذا) [أسرار] لم يرها أحد قط، لأن هناك يوجد عالم عظيم لاحد له، الذى لم ير وجوده جيل من الملائكة قط، [الذى فيه] يوجد [روح] عظيم غير مرئى" (إنجيل يهوذا). تبدأ الإسطورة بالإله الغير المُدرك والغير مرئى، هذا الإله مرَّ بعدة مراحل من الإنبثاقات emanations، حيث إنبعثت منه عدة أجيال generations، سميت أيونات aeons. أول هذه الأيونات هو باربيلو Barbelo الروح الإلهى المنير المولود الذاتى: "وإنبثق من السحابة ملاك عظيم، الروح الإلهى العظيم المولود الذاتى" (إنجيل يهوذا). وهذا الروح إنبعثت منه أيضاً عدة إنبعاثات أخرى متعددة: "فقال المولود الذاتى: ليات [....] إلى الوجود [....]، وجاء إلى الوجود [....]، ....إلخ" (إنجيل يهوذا). ويظل الإنجيل يتحدث عن سلسلة الإنبثاقات، وهو سكالاس Sakalas وملائكته: "قال سكالاس لملائكته: لنخلق كائناً بشرياً على شكل وعلى صورة. فشكلوا آدم وزوجته حواء، التى تدعى فى السحابة Zoe(أى الحياة)" (إنجيل يهوذا). ثم يتحدث الإنجيل عن الشرارة الإلهية Spark of Divinity- الروح المعطاة من الغير المدرك- التى تسكن فى الإنسان، والتى يبحث الإنسان عن معرفتها: "قال يسوع، لهذا أمر الله ميخائيل أن يعطى البشر أرواحاً كإعارة، ليقدموا خدمة، ولكن الواحد العظيم أمر جبرائيل ليهب أرواحاً للجيل العظيم دون حاكم عليها، هذه هى الروح والنفس" (إنجيل يهوذا). هذه هى مجمل أفكار إنجيل يهوذا، والتى إفترض العلماء أنها تتبع الفكر الشيثيانى- المسيحى Christian-Sethian، وربما قد تتبع أيضاً فكر طائفة sect القاينيين (من قايين ) Cainites (وهم مجموعة خرجت من الفكر الشيثيانى). إلا أن هناك بعض الأمور التى تبدو فى موضع خاطىء : 1) الفكر الشيثيانى الخاص بصوفيا (الحكمة) Sophia يقدمها كمقدسة (غير قابلة للفساد) incorruptible، فهى تمثل المنقذة للروح الإلهية فى الإنسان، وهكذا قدمها الأدب الشيثيانى: "صوفيا الغير قابلة للفساد incorruptible Sophia" (إنجيل المصريين) "صوفيا التى نزلت فى طهارة innocence، لأجل هذا سميت زو Zoe (الحياة)" (أبوكريفا يوحنا) لكن إنجيل يهوذا يصفها "الحكمة الفاسدة corruptible Sophia" (إنجيل يهوذا- فقرة 44) 2) الأمر الثانى هو العقيدة الشيثيانية الخاصة بالمسيح، هو روح ليس له جسد مادى، وهكذا قدمه إنجيل يهوذا فى بدايته: "وغالباً لم يظهر لتلاميذه كما هو، ولكنه وٌجدَ بينهم كطفل" (إنجيل يهوذا) لكن الأمر يبدو غريباً حينما يتم القبض على المسيح فى نهاية الإنجيل، فكيف يتم القبض على جسد خيالى؟!! ربما يكون الإستنتاج الأفضل (حتى الآن)، أن إنجيل يهوذا لا يمثل أدباً شيثيانياً خالصاً، بل ربما يكون عملاً غنوسياً قائماً بذاته كفكر خاص ليس له مثيل بين الأفكار الغنوسية المتعارف عليها، وهذا يُعطى أهمية وقيمة خاصة للمخطوطة. يهوذا الغنوسي في مواجهة يهوذا العهد الجديد: 1 يهوذا الغنوسى : إن صورة يهوذا الإسخريوطىJudas Iscariot، التى نعتقد إنها تطل علينا من هذا المخطوط الغنوسى، هى صورة مختلفة تماماً عما عرفناه عن يهوذا العهد الجديد. يبدو أن المخطوط يُقدم لنا صورة يهوذا التلميذ المفضل لدى يسوع، ويضع خيانته كإتمام لطلب من يسوع نفسه، فالمسيح هو الذى إختار- هذا التلميذ المُفضّل لديه- لكى يُشرّفه بهذه المهمة: أن يُسلّم معلمه كى يتحرر يسوع من هذا الجسد ويعود للعالم الروحانى الذى أتى منه. يُقدم الإنجيل الغنوسى ’’يهوذا’’ على أنه التلميذ الأكثر إستنارة، والأقوى والأجدر بين التلاميذ لذا فهو المستحق لإستقبال " المعرفة γνῶσις": "قال له يسوع: تعال بعيداً عن الآخرين وسأخبرك بأسرار الملكوت" (إنجيل يهوذا) "لما رأى يسوع قلة [معرفتهم، [قال] لهم... [فـ] ليأت أى واحد منكم [قوى بما يكفى] بين الكائنات البشرية، ليُخرج الإنسان الكامل ويقف أمام وجهى، فقالوا جميعاً نحن نملك القوة، لكن أرواحهم لم تجروء على الموقف أمامـ[ه]، عدا يهوذا الإسخريوطى، كان قادراً على الوقوف أمامه" (إنجيل يهوذا) ثم يُصوّر عمل الخيانةbetrayal، كعمل إخلاص obedience حسب رغبة يسوع نفسه: "لكنك (المسيح ليهوذا) ستزيد (ستفوق) عليهم جميعاً لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى" (إنجيل يهوذا) ثم يتحدث على لسان يسوع عن مكافأة يهوذا عن هذا العمل: "إرفع عينيك وأنظر إلى السحابة والنور الذى بداخلها والنجوم المحيطة بها النجم الذى يقود الطريق هو نجمك" (إنجيل يهوذا) هذا التصوّر عن يهوذا، حتى الآن، له مبرره فى الفكر الغنوسى وبالأخص المُعتقد الشيثيانى (والقايينى الخارج عنه)، حيث تُعتبر شخصيات شريرة مثل قايين، وقورح، وأهل سدوم كأبطال من أبطال الغنوسية، فالشر ليس منهم وليس أيضاً من الإله الصالح، لكنه من الإله الشرير خالق العالم الذى قَصَدَ أن يوجد هذا العالم المادى الفاسد ليُسجن فيه الإنسان، وهؤلاء الأشخاص كانوا ضد هذا الإله، والذى قدمه فالنتينوس على أنه إله العهد القديم. يقول القديس إيريناؤس Irenaeus (130-200م) فى "ضد الهراطقة": "البعض أيضاً يقولون أن قايين كان من العالم السامى، ويعترفون أن عيسو، وقورح، وأهل سدوم، وأمثال هؤلاء الأشخاص، مختصين بأنفسهم (أى بالقانيين). وعلى هذا، يضيفون، أنهم هوجموا بواسطة الإله الخالق (إله العهد القديم demiurge)، ومع ذلك لم يتعرض أحد منهم للأذى، لأن صوفيا (الحكمة) كان من عادتها ان تفوز بالذين يخصونها منهم لنفسها. ويعلنون أن يهوذا الخائنكان يعرف هذه الأشياء، وأنه هو وحده يعرف الحق كما لم يعرفه أحد، فقد أكمل سر الخيانة. بواسطته كل الأشياء الأرضية والسماوية هكذا وُضعت فى الحيرة، وقد وضعوا تاريخاً مزيفاً من هذا النوع، والذى أسموه إنجيل يهوذا". 2 يهوذا العهد الجديد : يهوذا إبن سمعان (يو2:13)، أو سمعان الإسخريوطى (يُحتمل أن ’إسخريوطى’ تعنى الذى من ’قاريوت Kerioth’ جنوبى اليهودية) (يو 71:6، يو 26:13). أول ظهور له كان فى إختيار الإثنى عشر (متى 4:10، مر 19:3، لو 16:6)، وبحسب إنجيل الإثنى عشر الأبوكريفى فالمسيح ربما دعا يهوذا عند بحر طبرية (قارن مع مت 18:4-22)، ومنذ هذا الظهور لم يُقدم لنا العهد الجديد صورة واضحة عن شخصية يهوذا الإسخريوطى إلا فى الجزء الأخير من حياة المسيح على الأرض، إذ تنكشف شخصيته ومطامعه فقد كان سارقاً لصندوق المال... يقول إنجيل يوحنا (يو 3:12-6) "فأخذت مريم مناً من طيب ناردين خالص كثير الثمن ودهنت قدمى يسوع ومسحت قدميه بشعرها. فإمتلأ البيت من رائحة الطيب. فقال واحد من تلاميذه وهو يهوذا سمعان الإسخريوطى المزمع أن يُسلمه. لماذا لم يُبع هذا الطيب بثلاث مئة دينار ويُعط للفقراء. قال هذا ليس لأنه كان يبالى بالفقراء بل لأنه كان سارقاً وكان الصندوق عنده وكان يحمل (يستولى) مايُلقى فيه". لكن لماذا أراد يهوذا أن يُسلم الرب يسوع؟ لقد كان يهوذا كسائر التلاميذ ينتظر أن يشرع المسيح فى ثورة سياسية يخلع بها عنهم نير روما، فقد رأى معجزاته وقوته وظن أنه أنه الشخص الذى تتوافر فيه صفات المحرر الثائر، ولا شك أن يهوذا "توقع كباقى التلاميذ (مر 35:10-37) أن يُعطى مركزاً هاماً فى حكومة المسيح الجديدة". وتقول الخلفية التاريخية التى وصلتنا عن يهوذا الإسخريوطى أنه كان عضواً فى جماعة يهودية من الثوار تعمل لطرد الرومان تسمى ’’حملة الخناجر Sicarri (dagger-men)’’. لقد "أساء يهوذا وسائر التلاميذ على السواء فهم رسالة يسوع، فقد توقعوا جميعاً أن يقوم يسوع بحركة سياسية تخلصهم من حكم الرومان"، ولما ظل المسيح يتحدث عن المملكة السماوية ربما شعروا بالغضب والخوف والإحباط. لذا كان إمتداح يسوع للمرأة ساكبة الطيب (مت 13:16، يو 3:12-6) - والذى كان يساوى مبلغاً كبيراً- هو النقطة الفاصلة فى مسيرة يهوذا مع المسيح، فلعله أدرك وقتها أن مملكة المسيح لاأمل لها أن تكون أرضية أو سياسية بل روحية بحتة، فوجد أن جشعة للمال والسلطة والمركز لا يمكن ان يتحقق بإتباع يسوع، لذلك إنطلق بعدها مباشرة ليبحث عن المال وإسترضاء القادة الدينيين بتسليم يسوع. ذهب يهوذا لرؤساء الكهنة ليساومهم إذ قال لهم: "ماذا تريدون أن تعطونى وأنا أسلمه لكم" (مت15:26)، فقد حانت اللحظة الحاسمة للمساومة على المال والسلطة. كانت خيانة يهوذا مبررة إذاً، فهو لم بجد أملاً فى أن يُحقق له المسيح رغباته. لقد "جعل موقف يهوذا البعض يتساءل عن مدى عدالة الله فى سماحُه ان يتحمل إنسان واحد هذا الجرم الفظيع"، لكن هناك حقيقة لايمكن أن نغفلها: لقد إختار بهوذا بمحض إرادته الحرة أن يُسلم إبن الله إلى أيدى الرومان. وبينما كان تسليم يسوع جزء من خطة الله، فليس معناها أن يهوذا كان دُميه فى يد الله. لقد أعلن يهوذا عدم رغبته فى أى مُلك سماوى، لذا كان عليه أن يتحمل تبعات إختياره، فهو الذى أراد ذلك لنفسه، وكان الله سيعلم ما سيختاره يهوذا وسمح به. وفى واقع الأمر لم يفقد يهوذا علاقته بيسوع، لأنه لم يبدأها على الإطلاق، فمنذ البداية ورؤياه عن المسيا المحرر مختلفة تماماً عن رسالة يسوع. وبالرغم من الشر الذى إرتكبه يهوذا، لم يكن الوقت قد فات بعد ليُعلن توبته ويختبر عطية المصالحة التى قدمها الله فى يسوع المسيح، فقد خان بطرس المسيح أيضاً، لكنه رجع وتاب ليقبل المسيح من جديد. وكان إختيار يهوذا البائس أن يُنهى حياته ليرقد فى الجحيم. ويُقدم لنا العهد الجديد فى لغته الأصلية اليونانية صورة واضحة عن إختيار يهوذا: يقول القديس متى البشير (مت 49:26) "فللوقت تقدم (يهوذا) إلى يسوع وقال سلام يا سيدى وقَبّلَه κατεφιλησεν " الكلمة اليونانية κατεφιλησενتُشير إلى قُبله تحمل مشاعر وعواطف دافئة ظاهرياً وهذا الفعل مركب من ’κατα’ أى ’يُقبل’ و ’φιλέω’ أى "يُحب’. وهذا التركيب يُشير إلى أن التحية تتم فى شىء من تأكيد لولاء، أى أن ما تم لم يكُن مجرد قبلة بل سبق ذلك معانقة وإحتضان. بمعنى أن يهوذا يكون قد عانق المسيح وإحتضنه ثم قبله، وكان هذا نوعاً من الخداع، لقد أراد يهوذا أن يقول للمسيح: لقد خيبت أملى وها أنا أنال ما أريد لكن بطريقتى. لكن فى حقيقة الأمر هذا لم يحدث... لم يهنأ يهوذا بشىء، فسرعان "لما رأى يهوذا الذى أسلمه أنه قد دين، نَدَمَ μεταμέλλομαι" (مت 3:27). كلمة ’ندم μεταμέλλομαι’ هنا تختلف عن معنى كلمة ’توبوا μετάνοειτε’ فالفعل ’μεταμέλλομαι’ يحمل معنى التغيير بالنسبة لموضوع ما بعد التفكير والإعتناء به، ولكن بمقارنته بالتوبة ’μετάνοια’، فإن هذا الندم لايرتبط أساساً بمسألة أخلاقية أو بالخطأ ضد الله، ولكنه يرتبط بالضيق والألم بسبب نتائج عمل ما. لقد شعر يهوذا بالذنب نتيجة إدانة المسيح، ربما كان يتوقع أن ينال المسيح البراءة، فجاءت الإدانة صادمة النسبة له، ونتيجة رفضه لكل ماهو سماوى، سيطرت عليه مشاعر الضيق والإختناق فقرر الإنتحار حتى لا يتحمل تبعات عمله أمام عينيه فى صلب المسيح. 3 يهوذا التاريخى : قدم لنا العهد الجديد يهوذا التاريخى، تماماً مثلما قدم لنا المسيح التاريخى، الذى نستطيع وبكل دقة أن نحدد زمن وجوده فى التاريخ (فهو قد ولد فى عهد هيرودس ومات فى عهد بيلاطس). لكن إنجيل يهوذا فشل تماماً فى أن يُقدم لنا دلائل على شخصيات تاريخية، فبينما العهد الجديد يٌقدم لنا عمل الله فى تدبير الفداء وإتمام الخلاص من خلال التاريخ عبر الزمن، يقدم إنجيل يهوذ – مثله مثل باقى الكتابات الغنوسية- أفكاراً وأشخاصاً مجردة من الزمن، لا يمكن ان نتحقق من حقيقة وجودهم فى التاريخ باى صورة من الصور، فقد جعلت الغنوسية من التاريخ ماهو مضاد للغير مُدرك. لكن هل هذا هو ما قصده إنجيل يهوذا بالفعل ؟!! هل كنا على خطأ في فهم ما يقدمه إنجيل يهوذا؟ فى نوفمبر 2001، وبعد عدة شهور من الإعلان عن إنجيل يهوذا، عُقِدَ المؤتمر السنوى لجمعية الأدب الكتابى Society of Biblical Literature (SBL) فىالعاصمة الأمريكية واشنطن. فى هذا المؤتمر خُصِصَت جلسة session 19 نوفمبر لمناقشة إنجيل يهوذا، وحضر هذه الجلسة كل من: 1 John Turner, Nebraska-Lincoln University, أستاذ الدراسات الدينية والتاريخ 2 Elain Pagels, Princeton University,أستاذة الدراسات الدينية وهى التى قامت بترجمة معظم الأناجيل الغنوسية. 3 Karen Kirg 4 Marven Meyer, Chapman University, أستاذ الكتاب المقدس والدراسات المسيحية، وهو الذى قام بترجمة النص القبطى لإنجيل يهوذا إلى الإنجليزية ضمن فريق التحرير والترميم. 5 Craig A.Evans, Acadia Divinty College أستاذ العهد الجديد كل هؤلاء العلماء هم فى الواقع خبراء فى الغنوسية والقبطيات. بدأ Craig Evans الجلسة بتعليق للبروفيسير Painchaud، وهو خبير عالمى من الدرجة الأولى فى اللغة القبطية والدراسات الغنوسية. بحسب Painchaud: "إن الإنجيل (إنجيل يهوذا) يُظهر يهوذا كشخص أحمق من باقى التلاميذ، ولا يصوره كالتلميذ الأقرب لفهم يسوع، بل التلميذ الذى خان المسيح نتيجة فشله كلياً فى فهم قصد يسوع، فحينما قال له يسوع ’لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى’ كان التركيز (لغوياً) على كلمة ’إنسان’. فالغنوسيون يرفضون الذبائح (التقدمات) اليهودية لماديتها، وبينما اليهود يضحون بالحيوانات، فيهوذا سيضحى بإنسان، هكذا يصبح يهوذا قمة المادية الساقطة، لا مثال الحكمة الروحية". بعد تعليق ’إيفانز’ Evans، قام Turner بإنتقاد ترجمة ’مارفن ماير’ Meyer. فقد عملت ترجمة Meyerالإنجليزية على تقديم يهوذا كتلميذ عظيم، بينما فى الحقيقة النص القبطى يقدمه كتلميذ ملعون لهذه الأسباب: 1) حينما يُشير إنجيل يهوذا إلى ’المملكة (الملكوت) kingdom’، والتى سيكون ليهوذا فيها نصيب، توحى ترجمة ’ماير’ أنها شىء حسن على غرار الملكوت السماوى فى الأناجيل القانونية، لكن النص القبطى فى الحقيقة يقصُد مملكة سكالاس. 2) فى الفقرة 46، والتى يسأل يهوذا فيها يسوع عن مصيره جاءت ترجمة ماير هكذا: "What good is it that I've received it? For you've set me apart for that (holy) generation" " ما الخير الذى تسلمته أنا؟ لأنك أبعدتنى لأجل هذا الجيل (المقدس)؟" لكن ’تيرنر’ يصحح الترجمة كالآتى : "What advantage is it I've gained? For you've set me apart from that (holy) generation" "ما الفضل الذى كسبته أنا؟ لأنك أبعدتنى عن هذا الجيل (المقدس)؟" فى ترجمة ’ماير’ يسوع يُبعد يهوذا عن التلاميذ لأجل الجيل المقدس set apart for. أما ’تيرنر’ فيصحح أن يسوع يبعد يهوذا عن الجيل المقدس set apart from. 3) فى السطر (الآية) التالى للفقرة السابقة، جاءت ترجمة ’ماير’ هكذا: "In the last days they'll curse your ascent to the holy [generation]" " فى الأيام الأخيرة سيلعنون صعودك إلى [الجيل] المقدس" لكن ’تيرنر’ يُصحح الترجمة هكذا: "In the last days they'll curse. You'll not ascend to the holy [generation]" "فى الأيام الأخيرة سيلعنون. أنت لن تصعد إلى [الجيل] المقدس" يقول ’تيرنر’ أن هذا الخطأ فى الترجمة جاء نتيجة سوء ترميم للمخطوطة، والذى تم تصحيحة فيما بعد. هكذا تكتمل الصورة (أو هكذا نعتقد)، يقول يسوع ليهوذا:’ أنت لن تصعد إلى الجيل المقدس’ فيرد يهوذا ’ما الفضل الذى كسبته أنا لأنك تبعدنى عن هذا الجيل القدس؟’. 4) ويضيف ’تيرنر’ مؤيداً كلامه، أنه فى الجزء الذى يتحدث فيه يسوع عن خيانة يهوذا: "لكنك ستفوق عليهم جميعاً. لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى"، يقول ’تيرنر’ أن يهوذا سيفوقهم فى فعل الشر، فالفقرة كاملة هكذا: "قال يسوع الحق أقول [لك]، هذا المعمودية [....] إسمى [9 أسطر مفقودة] لأجلى. الحق [أنا] أقول لك، يهوذا، [هؤلاء الذين] يقدمون تضحياتهم لسكالاس [....] الله [3 أسطر مفقودة] كل شىء شرير. لكنك ستفوق عليهم جميعاً. لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى". لقد كانت الأضاحى (الذبائح) الحيوانية بالنسبة للغنوسيون مادية، تُقدم لسكالاس وتمثل الشر، لكن يهوذا هنا سيفوق التلاميذ شراً إذ أنه سيضحى بإنسان أى قمة المادية. كانت تعليقات ’تيرنر’ على ترجمة ’ماير’ قاطعة، حتى أن أحد من الجلوس، وحتى ’ماير’ نفسه لم يعلّق أو يحاول الدفاع عن ترجمته،فقد تيقن أنه أخطأ بالفعل، ربما نتيجة للتسرع فى إظهار الإنجيل للنور. وفى مؤتمر آخر فى بكندا، قام البروفيسير André Gagné- وهو خبير فى اللغة القبطية والكتابات المسيحية القديمة بجامعة أونتاريو بكندا- بالتعليق على ترجمة ماير فى الجزء الخاص بخيانة يهوذا (يمكن الرجوع لتعليقات Gagné على الموقع الخاصة به http://andregagne.ca/): يقول Gagné: "لقد أساؤا فهم ’زمن الفعل tense’. لقد كانت الترجمة سريعة وينقصها الدقة فى رأيى، فى النص الذى يقول فيه يسوع ’لأنك ستضحى بالإنسان الذى يرتدينى’، كان يسوع يتنبأ بما سيفعله يهوذا، فقد جاء الفعل ’ستضحى’ فى زمن ’المستقبل الأول future I’، وهذا الزمن فى اللغة القبطية لايُستخدم كأمر أو طلب أو رجاء مثل زمن ’المستقبل الثالث future III’، بل يُستخدم كتنبُّـأ أو توقّع عما سيحدث فى المستقبل. لقد كان يسوع يتنبأ بما سيفعل يهوذا". إلى هنا إنتهت تعليقات Turner وGagné، ولا تعليق أكثر. فأياً كان ما يقصده هذا الإنجيل حول "خيانة يهوذا"، فما يعنينا بالأكثر انه غنوسى المحتوى، أى بعيد كل البُعد عن الفكر الكتابى المسيحى .... والان نذهب الى المقال الإيمان الذي يفوق كل عقل: الأناجيل الغنوسية والمسيحيات البديلة الإيمان الذي يفوق كل عقل 2. الأناجيل الغنوسية والمسيحيات البديلة ما الذي يقدمه الطرح المتعلق بالمسيحيات البديلة؟ الفكرة تقول أن المجموعات و القطاعات التى سُمِيت لاحقاً بلقب "الهرطقة" (مثل الغنوسية) كانت فى الحقيقة هى الشكل الوحيد المتوفر للمسيحية فى بعض المناطق، بما يعنى أنها كانت الفكر السائد و المهيمن على المجتمعات الموجودة فى هذه المناطق، بمعنى آخر ان بعض المظاهر المعينة للحياة المسيحية التى أعلنها مؤلفى الكنيسة أنها "هرطقة" لم تكن فى الأصل كذلك أبداً، و لكن على الأقل، كانت هنا و هناك هى الشكل الوحيد للدين الجديد، أى أنها كانت هي "المسيحية" ببساطة فى هذه المناطق[1]. و هناك إمكانية أيضاً أن معتنقى فكرهم كانوا هم الأغلبية، و أنهم كانوا ينظرون للأرثوذكسيين بضغينة و إحتقار حيث إعتبروهم مؤمنين غير حقيقيين[2]. القصد هو الإدعاء بأن المسيحية الأولى لم يكن لها شكل مُوحد أو عقيدة موحدة، وأنه لم يكن هناك وجود لشىء مثل "الأرثوذكسية" قبل القرن الرابع من تاريخ الكنيسة[3]. أبرز تلك الأشكال من المسيحية والتي يشار إليها كمسيحية بديلة للمسيحية الأرثوذكسية[4] هي الغنوسية. (تابع بالأسفل) تعريف الغنوسية: فى الحقيقة لايمكن تقديم الغنوسية كديانة معينة، ولا كفلسفة عملية مجردة abstract، وإنما يمكن ذلك عن طريق الإفتراض الأساسى الذى تقوم عليه الغنوسية وهو : "الرغبة فى المعرفة الحقة،لا كمجرد إستدلال (عقلى مجرد) كالفلسفة، بل بإتحاد العارف بالمعروف، وغايتها معرفة الله بهذه الصورة"[5]. لم تظهر الغنوسية كدعوة مفاجئة يمكن تحديدها بوقت معين فى التاريخ، لكن ظهورها جاء من خلال توافق تدريجى تم بين الثقافة الهيلينية Hellenic – والتى إنتشرت فى بدايات القرن الرابع قبل الميلاد مع فتوحات الإسكندر الأكبر- وبين الديانات والفلسفات الشرقية، ثم فى وقت لاحق بتوافق آخر مع اليهودية فالمسيحية. كان نتيجة إلتقاء العالم الهيلينى وفارس والعالم الشرقى : الفلسفة الهيلينستية Hellenistic[6]، والتى كانت إحدى ثمارها هى: الغنوسية (gnōsis)γνῶσις أى عقيدة الخلاص بالمعرفة[7]. وهذا التعريف مبنى على الإشتقاق اللفظى Etymology لكلمة: (gnōsis)γνῶσις، وهى كلمة يونانية تعنى: "معرفة، علم، فطنة لما تم إداركه فى عالم التجربة، أو من خلال الحواس"[8]، مشتقة من أصل هندو-أوروبى gnō، و بالسنسكريتية Sanskrit "bodhi" [ والذى إشتقت منها البوذية Buddhism] والتى تعنى أيضاً معرفة باطنية أو إستنارة[9]. والكلمتان تشيران إلى نفس معنى المعرفة الخفية esoteric knowledge التى تأتى من مصدر داخلى فى الإنسان عن طريق الإختبار النفسى العميق. يقول ق/تادرس يعقوب ملطى: "إًستخدم هذا المصطلح كثيراً فى الديانات المقارنة ليكشف عن نزعة قديمة الأصالة لتأكيد الدراية بالأسرار الإلهية Mystics، يتحقق هذا إما عن طريق خبرة مباشرة بالإعلان أو الإندماج فى السّر، أو التقليد السرى لفئة معينة لمثل هذا الإعلان"[10]. ففى الثقافة الهيلينستية Hellenistic إتخذ الناس موقفاً جديداً نحو العالم والذى تضمّن الشك skeptism فى الوصول للحقيقة المتعلقة بالعالم، والحقائق الأخرى على طول الخطوط العقلانية[11]، وبالإعتقاد أن البشر يختبرون العالم والتاريخ كمصير لايمكن إختراقه، ولايستطيعون التأثير فيه، بل سُلموا إليه كعبيد بلا حول ولا قوة. العالم سجن أكثر منه موطن، لذا يحن البشر للحرية والهروب من الإلتزامات المفروضة عليهم فى عالم غريب. وأحد طرق الهروب هذه يكمن فى المعرفة γνῶσις. هذا الطريق ليس إختراقاً عقلى للموضوعات بالفكر المنطقى logic، لكنه من خارج الكون، من مصدر إلهى ... والوسائل التى بها يستطيع الشخص أن يكتسب معرفة هذا الواقع الآخر (الخارج عن الكون) تتضمن الإيمان بأسرار مقدسة والسحر والتصوف والتأمل النصف فلسفى[12]. إذاً الغنوسية Gnosticismهى معرفةْ γνῶσις الشخص لنفسه، لطبيعته الحقيقية التى توضح العلاقة المتنافرة لطريقة وجوده على الأرض وفى التاريخ. إنها تُظهر للإنسان طريق عودته للخلاص من خلال معرفته لذاته[13]. إن التبرير اللائق للخلاص بالمعرفة قدمته الغنوسية فى مزيج عجيب إنتقائي توفيقى eclectic & syncretistic جمع بين الأديان الشرقية القديمة والفلسفة اليونانية ثم فى وقت لاحق اليهودية والمسيحية. هذا التبرير تُخبرنا به الأسطورة الغنوسية عن: التاريخ المأساوى للنفس، فبداية النفس كانت إلهية، لكنها أُسرت وقُيدت بالمادة التى هى معادية لله. لذا لا يستطيع البشر الشعور بالمواطنة فى هذا الكون، لايوجد أى شىء مشترك بين الكون المادى وإله النفس. لهذا البشر يصابون بشوق يائس مبهم لأن يتركوا هذا العالم، والشخص الأقل إرتباطاً بالكون هو الأكثر شوقاً لكن ما إذ إستسلم شخص بالكامل للكون فلن يبقى أمل لخلاصه. وتبدأ عملية الخلاص (أى تحرير الروح عن طريق المعرفة الخفية esoteric) عندما يُستقبل هذا الشوق – وكنتيجة لنداء خارجى- بتعليم عن الإله المجهول هناك. فإذا كان النداء مسموعاً فليس هناك أى شىء يمنع عودة النفس الإلهية إلى اللاهوت وان تؤلّه. معتقدات الأفكار الغنوسية: هذا الفكر الغنوسى كان لابد له أن يتجسد فى صورة عقيدة dogma ما، لها أساسها من القصص والأساطير التى تبررها وتؤيدها وتقدم لها الأساس الميتافيزيقى الملائم الذى يُعد الأذهان لقبولها كفكر منطقى، وساعد على هذا خصوبة الديانات الشرقية القديمة بهذه الأساطير. وكبداية، وضعت الغنوسية الله فى قمة الوجود الغير المدرك : الملىء ληρωμα(pleroma) Fullness، وفى إقترابها إليه جعلت من مصدر لأرواح متضائلة فى الإلوهية إنبثقت منه emanated أطلقوا عليها إسم أيوناتαιωνος(aeons)،وأراخنة (رؤساء) archons[14] أهمها وأولها هو باربيلو Barbello. وتقول النصوص الغنوسية أن احد هذه الأيونات، الحكمة σοφια(Sophia)أرادت ان ترتفع إلى مقام الله، فطُردت وصدرت عنها روح (أيون) شريرة تُسمى بعدة اسماء منها: الصانع Demiurge(craftsman)، Sakalas، Yaldaboath،Sabaoth. وهذا الروح الشرير (والذى إُعتبر فيما بعد أنه إله العهد القديم) خلق المادة والعالم المنظور، ثم حبس الأنفس البشرية فى أجساد مادية فكوّن الإنسان. لكن مبدأ الوجود الغير مدرك πληρωμα(pleroma)أرسل الروح ليسكن فى الإنسان وهكذا أصبح الإنسان يحمل فى داخلة شرارة إلهية spark of divinity، لكنه يجهل وجودها نتيجة وجوده فى الجسد المادى، وعند الموت تتحرر هذه الشرارة الإلهية بالمعرفة، ولكن إن لم يضل الإنسان لهذه المعرفة فإن الروح أو هذه الشرارة تندفع عائدة فى أجساد اخرى Reincarnation. بعد ذلك ظهر المسيح[15]، الذى يُعرفه البعض بأنه الكلمة λογος(logos)، منبثقًاً من الإله الغير مدرك حاملاً معه نور المعرفة γνῶσις الذى إنتشرت نورانية تعالميه إلى الخاصة من الأجيال الممتلئة بالروح الإلهية. هذه الأسطورة هى تبرير حتمى للثنائية الغنوسية dualism: "الله والمادة"، "إله الخير وإله الشر". فالعالم المادى مغاير ومضاد تماماً للإله الأعلى أو الخير المطلق. لكن هناك سؤال ربما نسأله: ماهى تلك المعرفة التى كان يعرفها الغنوسيون؟، في الواقع لم تقدم لنا الغنوسية إجابة عن هذا الأمر، لكنها ربما أخبرتنا أنها معرفة متعلقة بالذات الإنسانية، بالشرارة الإلهية داخل الإنسان. لكن ماهى بالتحديد هذه المعرفة، فنحن لانعرف. إن تعقيدات عالم الغنوسية كبيرة جداً، فمعتقداتهم واسعة ومتعددة للغاية، وعلى مدى سنوات حاول العلماء طرح عدة انظمة وتصنيفات للغنوسية،ولكن لم يحذ اى منها بقبول. وعموماً إرتبطت الغنوسية المصرية (والتى أفرزت مكتبة نجع حمادى) بمعلمى الإسكندرية فى القرن الثانى: فالنتينوس وباسيليدس، اللذان بلورا فكراً دينياً معقداً يستند إلى الأفكار الكلاسيكية الوثنية بعد ان ألباساها ثوباً مسيحياً بالمزاوجة بينهما وبين ماورد فى الكتاب المقدس. المسيحيات البديلة: أولا: معظم الأناجيل والكتابات الغنوسية التي اكتشفت يرجع تاريخها إلي القرنين الثاني والثالث، أي إلي فترة لاحقة للكتابات المسيحية المعتبرة، فيما عدا إنجيل توما (والذي لانجد فيه أي أثر للميثولوجيا الغنوسية) الذي ربما ترجع أصوله إلي فترة عصر الرسل او قرب ذلك[16]. ثانياً: هناك تنوع شديد في الأفكار بين تلك الكتابات التي تدعى غنوسية، بل هناك أيضا تضاد في الأفكار، هناك مدارس مختلفة ومنفصلة عن بعضها، حتى فيما يتعلق بنظرتها عن يسوع: فهناك كتابات تضع فرْقاً بين يسوع Jesus والمسيح Christ، فالمسيح له مصدر إلهى منبثق منه، يقول يسوع الغنوسى عن نفسه: "أنا هو الذى نال وجوده من غير المنقسم" (إنجيل توما 3:61)، أما الإنسان يسوع هو مجرد جسد بشرى حلّ عليه المسيح وقت العماد ليتكلم من خلاله ثم فارقه وقت الصلب. كتابات أخرى قالت بأن يسوع المسيح لم يكن إنساناً على الإطلاق، بل ظهر فى جسد خيالى ليس له وجود مادى، أى أن الملامح البشرية للمسيح كانت مجرد طيف Phantom لذا كان يظهر بصور مختلفة، يقول إنجيل فيلبس "لقد أظهر ذاته لهم جميعاً: هو أظهر ذاته كعظيم للعظيم، كصغير للصغير، هو أظهر ذاته كملاك للملائكة وللبشر كإنسان" (فيلبس 2:19)، وهكذا قدّمه أيضاً إنجيل يهوذا: "وغالباً لم يظهر لتلاميذه كما هو ولكنه وُجدَ بينهم كطفل". وعلى هذا الإختلاف حول يسوع المسيح، إختلفت أيضاً الأناجيل الغنوسية حول تصويرها لحادثة الصلب. لكن النقطة الأساسية في التعليم الكريستولوجي- بالرغم من الإختلافات بين هذه الكتابات- هي انها لا تقدم يسوع كفادي ومخلص لكن يسوع الغنوسي جاء معلما ليفتح الطريق للأستنارة، يقول يسوع الغنوسى: "إنى قلت أسرارى الغامضة لهولاء الذين يستحقون أسرارى الغامضة" (توما 1:62)، فهدف المسيح الغنوسى إذاً يختلف عن هدف المسيح الإنجيلى، ففكرة يسوع الإله المتجسد في الأناجيل هي فكرة فدائية خلاصية في الأساس. فاللاهوت الغنوسى هو: أنثروبولوجى Anthropocentric، يُركز على الإنسان الداخلى كمركز له وليس على الله، بينما اللاهوت المسيحي هو Theocentric أي يُركز على الله الكلمة المتجسد كمركز له. ثالثًا: نحن لا نجد إنتشارًا جغرافيًا واسعًا لهذه الكتابات والأفكار بل ظهرت في أماكن محدودة جدًا مثل صعيد مصر (نجع حمادي) رابعًا: برغم أن هذه الكتابات تقدم أقوالاً وتعاليمًا تُنسَب ليسوع، إلا أنها لا تخبرنا أي شئ عن شخصية يسوع التاريخية. نحن لا نستطيع أن نضع سيرة ذاتية لحياة يسوع في التاريخ، أو نتخيله إنسانًا عاديًا في حياته اليومية من خلال هذه الأناجيل، ببساطة لأنه لا توجد معلومات تُذكر عن شخصية يسوع التاريخي. من غير المنطقي أن نؤمن بتعاليم لا تحمل لنا واقع تاريخي، اللاهوت يقع في فخ النظريات والمثاليات لو لم ينطلق من واقع تاريخي. إن أي وحي إلهي ينُقل للإنسان الكائن في التاريخ، وبالتالي يجب أن يكون مبني على أسس تاريخية. وهذه الكتابات لا تٌقدم الله في التاريخ، ولا يسوع في إطار زمني، وذلك على عكس اناجيل العهد الجديد التي تقوم على أحداث إلهية حيث يتدخل الله في التاريخ البشري من خلال تجسد إبنه[17]. خامسًا: مصطلح :غنوسية هو مصطلح عام ومفتوح وغير متفق على تعريفه حتى الآن، في الواقع ان أول من صك هذا المصطلح هو اللاهوتي الروتستانتي هنري مور عام 1669م كإسم جدلي للهرطقة[18]. لكن الصفات العامة للفكر الغنوسي يمكن تلخيصها في: الإستنارة أو الخلاص بالمعرفة: الإستنارة تأتى من الشرارة الإلهية الموجودة فقط داخل أفراد معينين من البشر[19]. إذاً بالتأكيد لا يمكن قبول الطرح المتعلق بوجود مجموعة من المسيحيات المتوازية نجحت المسيحية الأرثوذكسية في القضاء عليها. الدلائل الواردة إلينا من الأربعة أناجيل وكتابات الأباء في القرنين الأول والثاني تثبت عكس ذلك تماماً، بالإضافة أن الغنوسية لم تكن قد تشكلت وظهرت بعد غير أنها في الأساس ليست متوافقة على عقيدة واحدة كما شرحنا بالأعلى. بالإضافة وكما يقول بن ويزرنجتون: أنه لا يوجد أى وثائق ترجع للقرن الأول الميلادى تدعم النظريات المختلفة حول وجود أشكال متعددة و مختلفة للمسيحية فى القرن الأول الميلادى[20]. اللاهوت المسيحي في مواجهة الفكر الغنوسي: إن الأسئلة الجوهرية التى تُحدد خط أى ديانة هى: "من أنا؟!"، " لماذا أنا موجود؟ّ!"، و "من هو الله؟!".... وبينما الإجابة عن هذه الأسئلة هى التى تحدد مستوى تقارب الفكر الإنسانى بين الديانات، لكنها فى الوقت ذاته تحدد مستقبل الإنسان الأبدى. وفى إطار الإجابة عن هذه الأسئلة قَدَمت لنا مسيحية الكتاب المقدس فارقاً كبيراً بين الإنسانية وخالقها، فالله هو الآخر الكلى، بينما الغنوسية ناقضت ذلك. فاللاهوت الغنوسى يرتكز على الإنسان Anthropocentric، يُركز على الإنسان الداخلى كمركز له وليس على الله، لذا فالمشكلة الروحية العظمى- فى نظر الغنوسية- هى الجهل لا الخطية[21]، وعلى هذا الأساس ينتظر الغنوسى مرسلاً messenger لا مُخلّصاً savior، ليرشده إلى المعرفة الذاتية γνῶσις التى هى معرفة الإله نفسه : فالذات والإله متشابهان... وهكذا تبدأ الغنوسية فى فقدان الطريق منذ الخطوات الأولى فى سعيها نحو إجابة أسئلة الحياة المصيرية حول الإنسان والله، وبينما المسيحية تبدأ من الله متوجهة نحو الإنسان فى طريق مباشر، تبدأ الغنوسية من الإنسان متوجهة نحو الله لذا فهى تضل الطريق. لهذا إنتهى الفكر الغنوسى تماماً حيث إنتهى مُلهَمه الفكر الشرقى القديم إلى وحدة الوجود Pantheism: "أنا الكل والكل خرج منى والكل إلىّ يعود. إشطروا الخشب فأنا هناك، إرفعوا الحجارة وسوف تجدونى هناك" (إنجيل توما 1:77-3)، فالنتيجة تنتمى إلى الجوهر نفسه الذى ينتمى إليه السبب. لكن الوحى الإلهى يقول: "وبينما يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء وأبدلوا مجد الله الذى لايفنى بشبه صورة الإنسان الذى يفنى" (رو23:1). وفى حين قدّمت الغنوسية مواجهة بين العالم المادى الشرير بطبيعته، وبين الإله الصالح الذى يدعو البشر للصعود إليه بعد ان يتحرروا من المادة، كان تأكيد المسيحية على واحدانية الله الخالق المحب. إن التعددية وثنائية إله الخير وإله الشر تجعل من الحياة حلبة ملاكمة بين هذه القوات كل منها يحاول الفوز كى يثبت أنه الأقوى، وهكذا يضيع معنى الحياة ويضيع معها الإنسان فلا تصير له قيمة، فهو مجرد ضحية للصراع بين الآلهة. ويزداد الإنسان حقارة فى الفكر الغنوسى، لقد كان تحقير الغنوسية للمادة هو محاولة أخرى للوصول إلى الإله الغير مدرك، فالإنسان ينتزع خير ما فيه من صفات ليزيد من خصب تلك الصورة التى يحاول إبتداعها عن الله مثلما يقول فويرباخ Feuerbach[22]، وهو إسلوب يتصور الله دائماً فوق كل شىء وأى شىء... فوق الإنسان ذاته، إسلوباً يصور الله دائماً إلهاً يمتلك كل المميزات، بينما الإنسان يبقى دائماً هو الفقير والضعيف والعاجز، وبدلاً من يلتقى الإنسان بالله رفيقاً على درب الحياة، ينفى إنسانيته ويقلل منها فى سبيل تعظيم الله[23]، ويصبح الإنسان فى طبيعته المادية الجسدية شريراً بأصله، وليزداد الفارق بين صورة الإنسان الذى خُلق على صورة الله، وبين الله. وهكذا لم تنجح الغنوسية فى أن تمنح الإنسان إنسانيته بل أسهمت كغيرها من الفلسفات والديانات فى سلب الإنسان إنسانيته. بينما المسيحية أعادت للإنسان ما سلبته منه الأفكار الأخرى، وهو تحرير الإنسان من كل ما يعوق إنسانيته، حتى من المعتقدات الدينية والطقوس المقيدة التى سقط منها المعنى فصارت فرائض مجردة... وبّدَلَت مفاهيمنا عن الطاهر والنجس والزواج وعلاقات البشر ببعضهم عن العطاء وعن الحب.... فى شخص يسوع الثائر، بلغ الإله قمة صورته التى كان ينبغى أن يعيها البشر ويدركوا ملامحها، الإله الذى لايبغى البشر عبيداً أو خداماً لأوامره على خلاف تصورات البشر[24]. لقد قدّس يسوع المادة والجنس البشرى بكل ضعفاته، إذ هو يلمس أبراصاً ومرضى وخطاة وموجوعين: "الجسد... للرب والرب للجسد" (1كو 13:6)، "ألستم تعلمون أن أجسادكم هى أعضاء للمسيح" (1كو 15:6)، "إن الجسد والروح كليهما يكوّنان الإنسان، فالروح بدون الجسد لا تصنع إنساناً" (أثيناغوراس- فى قيامة الأموات 10)، لكن الغنوسية طرحت الجنس البشرى بعيداً عن الإله: العالم المادى هو من عمل قوات العالم السفلي: "وبعدها قال سكالاس (الإله الشرير) لملائكته لنخلق كائناً بشريًا" (إنجيل يهوذا). إن الله البعيد تماماً عن الإنسان، الذى قدمته الغنوسية، هو إله ضد الإنسان[25] إذ أن وجود الإنسان يزيح وجود الله بعيداَ، فالمادة الشر. لكن الإله الحقيقى يقول عنه بولس الرسول: "... مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيداً لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع 27:17-28)، "فإننا نحن ذرية الله" (أع 29:17). يقول الأب هنرى بولاد: "الله يزاد وجوداً فى الوجود، ووجوده أقوى وأعمق وأحق فى المخلوقات منه فى الفراغ الذى حولها... الله موجود فى المخلوقات قبل أن يكون فى الفراغ، والوجود هو مزيد من وجود الله، إذاً حين يزداد هذا الوجود ويزداد فى النمو يزداد الله تمجيداً، فهو يتمجد فى كل ماهو ينمو وينطلق ويحيا"[26]، ويضيف قائلاً "إن كنا نريد أن نُبَشِر كل الأمم فدافعنا إلى ذلك ليس هو الإيمان بالله وحده، بل أيضاً إيماننا بالإنسان لأن المسيحية تُعلن قيمة الإنسان اللامحدودة، إننا نعلن رؤية الله كأب ورؤية الإنسان كصورة له". لقد كتب القديس يوحنا رسالته الأولى وكأنه فى مواجهة مع الغنوسية "وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه جاء فى الجسد فليس من الله" (1يو 3:4). وحينما تخبطت الغنوسية بعد ان قدمت إلها آخر شرير خالق للمادة، وبعيد كل البعد عن الإله الخيّر، أصبحت فى مأزق: فكيف للمادة الفاسدة أن تصل للإله السامى؟ّ!، لذا فقد وضعت شرارة إلهية (روح) Spark of Divinity من ذلك الإله داخل الإنسان، فصارت الذات والإله متشابهان فهما من نفس المصدر. لقد أدى هذا إلى أحد أمرين: إما أن الله هو مجرد بشر فائق Superman، أو أن الإنسان هو إله god. لم تُقدم الغنوسية جديداً، فهى مثلها مثل غيرها محاولة للوصول إلى الماوراء... إلى الغير مُدرك... إلى سر الوجود. إن ما قدمته الغنوسية هو محاولة أخرى يائسة إلى الوصول إلى الله عن طريق الإنسان، إلاأن الفيلسوف فويرباخ Feuerbachقد يكشف زيف هذه الطريقة إذ يقول: "إن الإنسان هو الذى خلق الله على صورته ومثاله... إن الله هو مرآة الإنسان وصنيعة خيال البشر"[27]. إن طلب فيلبس فى (يو8:14-10) "أرنا الآب وكفانا"، يكشف عن إحتياج عميق لدى كل إنسان، إحتياج إلى التعرف على الله الذى فشل الإنسان فى كل محاولاته للوصول إليه بنفسه، فكيف يصل المحدود إلى غير المحدود، وكيف يصل الُمدرك إلى غير المُدرك. إن الطفل لايمكن أن يتعرف على أبيه دون أن يكشف له الأب عن ذاته، فكيف يكون الأمر بين الله والإنسان؟!!، فــ "القدير لا نُدركه" (أى 23:37). يقول الوحى الإلهى: "أثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم" (أش 1:59)، كانت هذه نتيجة سقوط الإنسان، وبداية المشكلة، إبتعد عن الله وإظْلْم تحت تأثير الخطية. لذا أصبح من الضرورى أن يكْشف الله نفسه للإنسان وأن يقوده إلى معرفته. إن الله يسعى للإنسان فى المقام الأول، ووفقاً لهذا الأساس تواصلت العلاقة بين الله والإنسان وتصاعدت عبر الزمن: إله خالق كُلّى الإقتدار يحب فيرعى، ويُوصى ويُلهم ويُوحى، وإنسان مخلوق على صورته كشبهه يَعقِل ويَختَبِر ويزداد مع الأيام معرفة وإستنارة. وقَدَم لنا الكتاب المقدس صورة هذه المعرفة عن الله تدريجياً كشىء فشىء عن لقاء شخصى مع الله يبدأ من الله متجهاً نحو الإنسان، إلى أن بلغت العلاقة بينهما غايتها ومنتهاها بالظهور الإلهى فى شخص يسوع المسيح، يقول يوستينوس الشهيد: "يُعتبر المسيحى أسمى من أى تعليم آخر لأن اللوغوس الإلهى صار إنساناً فى المسيح" (حوار مع تريفو 26. 1)[28]، إذ أنه لا يمكننا أن نعرف الله حقاً إلا عبر يسوع المسيح: "من رآنى فقد رأى الآب... أنا فى الآب والآب فيَّ" (يو 9:14، 10). يقول الفيلسوف باسكال: "ليس هناك مجال للبحث عن الله خارج المسيح، فبواسطة المسيح وفيه نَثبِت وجود الله، إذ تَحَقَقَ لنا فى شخصه إتحاد الله بالإنسان"... لقد ظلّ الإنسان بعد سقوطه يسأل عن حقيقة الإله وأصل الوجود والحياة، لكن إبتعاده عن مصدر النور الحقيقى جعله يفقد كل إستنارة ويضل الطريق عن الإله الحقيقى، لذا كلما إزداد بحثاً عن الإله داخل نفسه كلما زاد تيهاً وإبتعاداً عن هذا الإله، يقول القديس أثناسيوس الرسولى: "ذهن البشر قفز مبتعداً عن الله، وكان لابد انه وسط هذه الظلمة الداخلية أن يُعلن الله عن ذاته للإنسان لأنه النور، ولايستطيع إلا مصدر النور أن يَرُد الإستنارة للإنسان" (الرسالة إلى الوثنيين 1:9)، ويضيف "ماذا كان يمكن أن يتم سوى تجديد الخليقة التى وُجدت على صورة الله مرة أخرى؟، ولكى يستطيع البشر أن يعرفوه مرة أخرى؟، ولكن كيف كان ممكناً لهذا الأمر أن يَحدُث إلا بحضور نفس صورة الله ومخلصنا يسوع المسيح" (تجسد الكلمة 7:13)، ويقول القديس إكليمندس السكندرى: "إقبل المسيح، إقبل البصيرة، إقبل نوره لكى تعرف الله والإنسان". إن معرفة الله إرتبطت دائماً بأعمال الله التى يُعلن فيها عن ذاته. يبدأ سفر التكوين بعبارة "فى البدء خلق الله"، لم تكن "فى البدء الله خلق" لأن الله لايستطيع أن يُعرّف بنفسه، فنحن لانستطيع أن نصل إليه سوى بعمله، وفى (2مل 15:5) يتعرف نعمان السريانى على إله إسرائيل من خلال شفاءه من مرض البرص، ويقول أيوب الصديق: "فإسأل البهائم فتعلمك وطيور السماء فتخبرك، أو كلّم الأرض فتعلمك ويحدثك سمك البحر. من لا يَعلَم من كل هؤلاء أن يد الرب صنعت هذا" (أى 7:12-9). لكن المعرفة الغنوسية تنكب على البحث عن الله إبتداء من الإنسان متجهة نحو الله، إنها تبحث عن الله الموجود داخل الإنسان لذا فهى تنغمس فى التأملات الغيبية لطبيعة الأشياء، لتضل بعيداً عن الله، وكما يقول لوقيانوس الصورى: "مأساة القديم ليس فقط فى أنه يفقد علاقته بالواقع، بل وفى عجزة أن يكون النموذج والمثال الصالح لما يحدث فى الحياة الإنسانية" (سقوط الآلهة- الكتاب الأول 1/21). وفشلت الغنوسية ثانية حينما لم تستطع إدراك طبيعة يسوع الإله الحقيقى المُعلن للإنسان، فقدمت يسوع المعلم الغنوسى الذى أتى كدليل ليفتح مدخل للفهم الروحى، لذا فهو يتحدث عن الإستنارة والمعرفة ويؤكد على فساد المادة بطبيعتها: "أنا قلت أسرارى الغامضة لهولاء الذين يستحقون أسرارى الغامضة" (إنجيل توما 1:12)، لكن يسوع العهد الجديد جاء مخلصاً لا معلماً، أتى ليخلصنا من خطايانا، لذا فهو يتحدث عن الخطية والتوبة ويؤكد على صلاح الخليقة التى لم يلوثها سوى خطية البشر. ويسوع الحقيقى- مسيح العهد الجديد- هو يسوع الرب إبن الله بطريقة فريدة ومتميزة عن باقى الإنسانية، فهو أتى بصورة إنسانية ليخلصها: "انه أبدى رغم أنه جاء ليولد من العذراء، انه سوف يُشرق مثل النور الأبدى فى أورشليم" (يوستينوس، حوار مع تريفو 24:13)، لكن الغنوسية قدمت لنا تشابهاً بين المسيح والإنسان، فقد أخذوا وجودهم من نفس الجوهر: "من يشرب من فمى يكون مثلما أنا، وأنا سأكون هذا الإنسان" (من أقوال يسوع- إنجيل توما 1:8). قدمت العقيدة الغنوسية الخلاص بالمعرفة، بينما قدمت العقيدة المسيحية الخلاص بالفداء. لكن أيهما يُخلّص؟!!، فى الغنوسية النفس يمكنها أن تبلُغ إلى الإله الأسمى من خلال معرفة الإختبار وإيقاظ الشرارة الإلهية داخل الإنسان، إننا هنا لا نشترك فى الإله من خلال إبنه، بل من خلال القبس الإلهى الذى فينا، فالمعرفة الموجودة داخل الإنسان هى التى تُخلصه: "الذى عرف الكل ولكن فشل فى معرفة ذاته ينقصه كل شىء" (إنجيل توما 1:67)، أما العقيدة المسيحية فتُعلمنا أن الخلاص هو بكفارة دم المسيح، من خلال الإيمان والإتحاد به. لكن لماذا لا تَصلُح المعرفة الذاتية؟، يقول القديس مقاريوس الكبير: "إن ملكوت الظلمة أى الرئيس الشرير، لما أسُر الإنسان فى البدء قد غمر النفس وكساها بقوة الظلمة ولوثها بكُليتها، وأخذ بكُليتها أسيرة إلى ملكوته، ولم يدع عضواً واحداً منها حراً منه، لا الأفكار ولا القلب ولا الجسد" (العظة الثانية)، لقد إنفصلنا عن الله وصرنا فى الظلمة، وكان لابد من إصلاح علاقتنا بالله ولم يكن ممكنناً أن ننجح وحدنا فى صنع المصالحة، لذا يقو الوحى الإلهى: "الله صالحنا لنفسه بيسوع المسيح" (2كو 18:5-21).... نعم، هكذا يٌخبرنا داود النبى عن قدرتنا البشرية العاجزة أن تُدرك الله وحدها: "إختبرنى يا الله...وإنظر إن كان فىّ طريق باطل وإهدنى طريقاً أبدياً" (مز 23:139-24). فشلت الغنوسية فى تحرير الإنسان، وفشل إنجيل يهوذا أن يقدم خلاصاُ منطقياً يناسب حالة الإنسان الساقط ... لكن الكتاب المقدس يقول: "إن حرركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحراراً" (يو 36:8). [1] Paul Trebilco, Christian Communities in Western Asia Minor into the Early Second Century: Ignatius and Others as Witnesses Against Bauer, JETS 49/1, March 2006, p. 17 [2] Paul Trebilco, Christian Communities in Western Asia Minor into the Early Second Century, p.17 [3] راجع الفصل الثالث: نيقية يسوع والأناجيل، حيث يناقش هذه النقطة [4] الإرثوذكسية يُقصد بها هنا المسيحية السليمة (الكتابية) والتي تتمثل في الإيمان بالقانون النيقاوي، وليس الإرثوذكسية الطائفة. [5] د/ القمص اسكندر لوقا اسكندر، المسيحية والتاريخ، القاهرة 1997 [6] " تنقسم الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الهيلينية Hellenic ويُقصد بها فلسفة ما قبل سقراط حتى أرسطو، والفلسفة الهيلينستية Hellenistic التى جاءت بعد أرسطو وتعبر عن المزج بين الفكر اليونانى والفكر الشرقى القديم " أوليفر ليمان، مستقبل الفلسفة فى القرن الوحد والعشرين، عالم المعرفة، الكويت 2004 [7] New Catholic Encyclopedia, Vol. 6, 2nd Edition, Thomson Gale 2003, Entry: Gnosticism [8] فيرلين د.فيربروج، القاموس الموسوعى للعهد الجديد،القاهرة 2006 [9] Edward Irons, Encyclopedia of Buddhism, Facts on File 2008, Entry: Bodhi [10] ق/تادرس يعقوب ملطى، شفرة دافنشى، القاهرة 2006 و New Catholic Ency.: Gnosticism [11] فيرلين د.فيربروج، القاموس الموسوعى للعهد الجديد [12] نجد هذه الأفكار عند الفلاسفة الهنود حيث شددوا على الدوام على ان الممارسة العملية هى المحك النهائى للحقيقة [13] فيرلين د.فيربروج، القاموس الموسوعى للعهد الجديد، بحسب الأوبانيشاد Upanishad الهندوسة "أن على الشخص أن يصبح مُدرِكَاً للطاقة الداخلية ووسائل تسخيرها لبلوغ التحرر، ومن هنا كان للمعرفة أهمية فائقة" جون كولر، الفكر الشرقى القديم ، عالم المعرفة. [14] فكرة الإنبثاقات emanations هذه مأخوذة من الأفيستا الزرادشتية، كذلك أيضاً أسطورة خلق العالم والتى ستاتى فيما بعد مأخوذة عن الكابلا اليهودية Jewish Cabala. [15] " كان الهبوط نحو المادة والصراع من أجل الخلاص، هو مادفع الغنوسيون إلى الإعتقاد فى مخلص سماوى،وهذه الفكرة هى التى دفعتهم نحو المسيحية فقد وجودوا مخلصهم فى المسيح" إيران فى عهد الساسانيين، أرثر كريستنسن، الألف كتاب الثانى [16] Darerell L. Bock, The Missing Gospels: Unearthing the Truth behind Alternative Christianities, Thomas Nelson 2006, p. 6 [17] إنظر: لماذا تجسد الله في الجزء الأول من الباب الثالث [18]Darerell L. Bock, The Missing Gospels: Unearthing the Truth behind Alternative Christianities, Thomas Nelson 2006, p. 15 [19] Wouter J. Hanegtaaff, editor, Dictionary of Gnosis and Western Esotericism, Brill 2006, p. 404 [20] ويزرنجتون مع الإيمان العلمي (19 يناير 2010) http://scholarly-faith.blogspot.com/2010/01/blog-post_19.html [21] John D.Lierman, The Gospel of Judas, The religion & society report, Vol. 23, Nov. 11, 2007 [22] Ludwig Feuerbach, The Essence of Christianity, trans. By George Eliot, MSAC Philosophy Group 2008, p.2 [23] نادر ناشد، مشكلة الله، القاهرة 1998 [24] نادر ناشد، مشكلة الله، القاهرة 1998 [25] لا يمكن أن نفصل جسد الإنسان عن روحه، فكما قال أثيناغوراس "الروح بدون جسد لاتصنع إنساناً"، وهكذا أيضاُ فى قيامة الأموات النهائية سيقوم الأموات بأجساد ممجدة لا بأرواح فقط، لذا فحينما تكون الغنوسية ضد الجسد الإنسانى فهى أيضاً ضد الروح الإنسانية. [26] الأب هنرى بولاد، الإنسان والطون والتطور بين العلم والدين، القاهرة 2000 [27] Ludwig Feuerbach, The Essence of Christianity, trans. By George Eliot, MSAC Philosophy Group 2008, p.28 [28] ANF, Vol. 1 |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|