مَثَل "الفعلة في الكرم"
بقلم نيافة الأنبا رافائيل
نُصلي دائمًا في صلاة الغروب قائلين: "احسبني مع أصحاب الساعة الحادية عشر".. مَنْ هم أصحاب الساعة الحادية عشر؟
لقد شرح السيد المسيح كيف سيُعطي الفرصة لكل إنسان مهما فاتته الفرصة، لكي يدخل في عِشرة وعلاقة حب مع شخصه القدوس المبارك، وأنه في اليوم الأخير سيكافيء الكل بالدخول إلى الأبدية السعيدة. هذا الشرح قاله السيد المسيح في مَثَل الفعلة، والذي ورد بإنجيل متى الأصحاح (20: 1-16).
ظروف شرح المَثَل:
في أعقاب قصة الشاب الغني الذي مضى حزينًا، لأنه كان ذا أموال كثيرة، قال الرب يسوع لتلاميذه: "الحقَّ أقول لكم: إنه يَعسُر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات!" (مت19: 23)، "فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟" (مت19: 27).
لقد تركنا كل شيء: الأهل والمهنة والبيت والممتلكات... لكي نتبعك ونصير تلاميذًا لكَ، فما هي المكافأة؟
لقد أجاب الرب يسوع بثلاث إجابات:
(1) "أنتم الذين تبعتموني، في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضًا على اثنيْ عشر كرسيًّا تدينون أسباط إسرائيل الاثنيْ عشر" (مت19: 28).
(2) "ليس أحد تركَ بيتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أُمًّا أو امرأة أو أولادًا أو حقولاً، لأجلي ولأجل الإنجيل، إلا ويأخُذ مِئة ضِعف الآن في هذا الزمان، بيوتًا وإخوة وأخوات وأمهات وأولادًا وحقولاً، مع اضطهادات، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية" (مر10: 29-30).
(3) "ولكن كثيرون أوَّلون يكونون آخِرين، وآخِرون أوَّلين" (مت19: 30).
ولكي يشرح كيف أن الأولين (الأنبياء وقديسي العهد القديم) صاروا آخرين، وكيف أن الآخرين (الرسل الذين جاءوا متأخرين) صاروا أولين.. سرد لنا مَثَل الفعلة.
المَثَل:
رجل رب بيت استأجر فعلة للعمل في كرمه منذ الصباح الباكر، واتفق معهم على دينار في اليوم، ثم استأجر فعلة آخرين في السواعي الثالثة والسادسة والتاسعة ثم الحادية عشر. وفي المساء أعطى الجميع دينارًا واحدًا لكل فرد. تذمر الأولون لأنهم اعتقدوا أنه ساواهم بالذين لم يتعبوا، فتكلم صاحب الكرم مع أحدهم قائلاً: "يا صاحِبُ، ما ظَلمتُكَ! أما اتَّفقت معي على دينار؟ فخُذ الذي لكَ واذهب، فإني أُريد أن أُعطي هذا الأخير مِثلكَ" (مت20: 13-14). وشرح بذلك السيد المسيح أن الأبدية ستُعطى للآخرين كما للأولين.
التفسير والتأمل:
رب البيت: هو الرب يسوع له كل المجد.
الفعلة: هم المسيحيون والخدام وكل مَنْ يدخل في عِشرة حيَّة شخصية حقيقية مع الرب يسوع.
خروج رب البيت ليستأجر الفعلة: برهان مبادرة الله في اختيار أبنائه وأحبائه وخدامه، وأن الفرصة متاحة للجميع إلى آخر النهار، أي آخر العمر أو آخر الزمان.
السواعي: تبارى الآباء في شرحها، فمنهم مَنْ قال إنها ترمز إلى مراحل عمر الإنسان: (باكر: الطفولة)، (الثالثة: الفتوة)، (السادسة: الشباب)، (التاسعة: الرجولة والنضج)، (الحادية عشر: الشيخوخة).
فمن البشر مَنْ عرف المسيح منذ الطفولة المبكرة، لأنه وُلد في بيت مسيحي تقي. ومنهم مَنْ تعرَّف عليه في مراحل أخرى، وحتى الذي عرفه في الشيخوخة سيأخذ نفس الأُجرَةَ.
وهناك آباء آخرون اعتبروا هذه السواعي هي رموز لعصور تعامل الله مع البشر:
ففي باكر دعا آدم في الخليقة، وفي الثالثة دعا نوحًا بعد الطوفان، وفي السادسة دعا إبراهيم للخروج معه، وفي التاسعة دعا موسى وأعطاه الناموس، وفي الحادية عشر ظهر لنا ليدعونا نحن المسيحيين.
وآباء آخرون ربطوا ما بين هذه السواعي الخمس وحواس الإنسان الخمس:
فجعلوا باكرًا لحاسة اللمس، حيث قالت حواء عن الشجرة: "لا تأكُلا منه ولا تمَسّاهُ" (تك3: 3)، وفي الساعة الثالثة جعلوها لحاسة الشم حيث "تَنَسَّم الرب رائحة الرضا" (تك8: 21) بسبب ذبيحة نوح، والساعة السادسة لحاسة التذوق حيث أكل الله مع إبراهيم والملائكة، والساعة التاسعة لحاسة السمع حيث سمع موسى لصوت الله، أما الحادية عشر فهي لحاسة الرؤية حيث رأت البشرية الله متجسدًا.
البطالون:
لقد وصف المَثَل الناس الذين لم يعملوا في كرم الرب أنهم (بطالون)، وهذا طبيعي لأن مَنْ لا يعمل عمل الرب سيجد نفسه حتمًا يعمل الأعمال البطالة التي للشيطان والعبادات الوثنية التي يشوبها الفراغ والتفاهة والخطية...
نقطة بيضاء:
لكن يُحسب لهؤلاء (البطالين) أنهم لم يفقدوا رجاءهم في أن يستأجرهم أحد.. لقد وقفوا في سوق العمال طول النهار على أمل أن يرجعوا إلى بيوتهم ومعهم مؤونة أولادهم. إنهم لم يمتنعوا عن العمل، ولم يؤجلوا مع رب البيت، بل حينما سمعوا أطاعوا، وذهبوا وهم غير مؤملين أن يأخذوا إلا القليل، الذي كان كثيرًا في نظرهم بالمقارنة بأصحاب الساعة الأولى الذين استصغروا العطية والمكافأة.
إن هؤلاء هم النفوس العطشى لسماع صوت الرب وكلمته، وعطشى للاندماج في المجال الكنسي، وقد قصرنا نحن الخدام نحوهم ولم ندعوهم.
لمَّا كان المساء:
إنه نهاية العمر، أو لحظة المجيء الثاني حيث المحاسبة. إنها الساعة الجميلة للنفوس التي تعبت وقد اشتاقت لتنال الأُجرَةَ، وهي أيضًا ساعة مُرَّة للنفوس المتراخية التي تنتظر العقوبة المُرَّة.
الأُجرَةَ:
كانت الأُجرَةَ المتفق عليها هي دينار، والدينار يحمل صورة الملك، وكأن السيد المسيح يعدنا أنه عندما نتعب معه سنأخذ صورته، وقد شرح هذا مُعلِّمنا يوحنا اللاهوتي في رسالته: "أيها الأحِباء، الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهَر بَعد ماذا سنكون. ولكن نَعلَم أنه إذا أُظهِرَ نكون مِثلهُ، لأننا سنَراهُ كما هو" (1يو3: 2).
هذه الصورة سنتمتع بها بالحقيقة في الأبدية، وسيأخذها الجميع.. حقًا هناك في السماء درجات في الأمجاد "لأنَّ نَجمًا يَمتازُ عن نَجمٍ في المَجدِ" (1كو15: 41)، وقال السيد المسيح: "في بيتِ أبي مَنازِل كثيرة" (يو14: 2)، ولكننا سنشترك جميعًا في دينار واحد هو الحياة الأبدية، والصورة البهية التي سنكون عليها.
تذمروا على رب البيت:
لم يكن تذمرهم لأنهم لم يأخذوا، بل تذمروا لأن الآخرين أخذوا!!! يا للعين الشريرة!! انظروا أيضًا الأسلوب الذي تكلَّم به المُتذمرون إذ قالوا عن شركائهم: "هؤُلاءِ الآخِرونَ". لقد قالوها باستهزاء واحتقار، بينما خاطبهم السيد بقوله: "يا صاحِبُ".
إن السبب في هذا التذمر هو الإحساس بالبر الذاتي والإنجاز، والعمل بروح الأجير وليس بروح الابن، والانشغال بالآخرين دون الانشغال بالمسيح نفسه وبعمله المقدس.
كثيرون منا يقعون في نفس الخطأ عندما نتباهى بأقدميتنا في الخدمة وطول الزمان الذي قضيناه مع الرب، ونستصغر أو نحتقر (المستجدين) في الخدمة وعشرة المسيح. إن هذا الافتخار الباطل هو "الذبابُ المَيتُ يُنَتنُ ويُخَمرُ طيبَ العَطّارِ" (جا10: 1).
مكافأة الله هي نعمة:
لقد علَّمنا السيد المسيح أنه حتى ولو عملنا كل البر فنحن عبيد بطالون، لذلك سيتساوى المُبكِّر مع المتأخِر، وسنأخذ جميعنا الأُجرَةَ على سبيل النعمة وليس على سبيل الدين (كأننا نداين الله؟!!).
إن مقاييس الله ليست كمقاييس الإنسان.. الله ينظر إلى القلب والحب وإخلاص النيَّة وليس لطول الزمان أو المظاهر الخارجية.
م
ن
ق
و
ل