خواطر أرثوذكسية في احتفالنا بتجسد الكلمة – 2
-1-
سجَّل لنا لوقا البشير الجانب التاريخي لميلاد الكلمة المتجسد (لوقا ص 1)، ولكنه لم يكن يسجِّل لنا تاريخ عيد ميلاد، بل تجسد ابن الله. عيد الميلاد -كما درجنا على القول- هو بداية حياة أي إنسان، وهي بداية لها نهاية، ولكن ابن الله كان كائناً قبل أن يولد بالجسد “لا بداءة أيام ولا نهاية لحياته” (عب 7: 3)، فهو لم يبدأ في زمان مثل زمان بدء أي إنسان، ولم ينتهِ بالصلب، بل عاد بالقيامة ليفتح آفاق الحياة والتاريخ على نهاية هي القيامة، وليس على زمان ينقضي، بل زمان شهد -في مُلك أوغسطس قيصر- ميلاد ابن الله، ولم يسجل الزمان نهاية حياته، بل قيامته وصعوده وحلوله الإلهي في حياة كل مسيحي، وحلوله الإلهي الدائم في الكون؛ لأن الكلمة Logos الخالق لم ينتهِ بالتجسد؛ لأن تدبير الخلاص لم يحصر حضور الكلمة في الكون كله بتجسده، بل أعلن تجسده محبته الفائقة للإنسان، وهي محبة خاصة، وتبقى محبته للخليقة باقية كما كانت قبل التجسد. أظهر هذه المحبة بالتعامل الخاص مع الماء والرياح والطعام وغيرها، كمانح للبركة، ولكن محبته للإنسان جعلت لقب “محب البشر” يتصدر كل صلاة في الليتورجية؛ لأننا في الليتورجية ندخل هذه العلاقة الشخصية التي ننال فيها شركة محبته.
-2-
لا أذكر تاريخ نشر كتاب “صدى النبوات”، وهو كتابٌ أحدث بلبلةً كبيرة، فقد كنت شاباً أدرس في الاكليريكية القسم النهاري، وقد حاول المؤلف قراءة أحداث تاريخية في شرقنا العربي من خلال صفحات كُتب الأنبياء في العهد القديم، محور الكتاب كله هو أن دولة اسرائيل 1948 لا زال لها وجود في تدبير الله، وأن عودة اليهود هي إتمام للنبوات. وقد سبق نشر الكتاب -في أدبيات الشيع التي خرجت من رحم حركة الإصلاح- دعوات للبحث عن أدلة تاريخية تؤكد صدق الأسفار المقدسة، وتزامَن هذا مع دعوات أخرى عن عودة اليهود، بالإضافة إلى دراسة خاطئة لفصول 9-11 من رسالة رومية للقديس بولس اليهودي المتنصر. وفي أوساط هذه الشيع كانت عبارات مختارة من أسفار العهد القديم كلها كانت تاريخياً عن العودة من سبي بابل، ولكنها أُخذت على أنها على قيام دولة إسرائيل 1948.
لا يوجد في العهدين معاً، ولا في العهد القديم ذاته أية إشارة إلى قيام دولة إسرائيل. هذا موضوع سياسي بحت لعدة أسباب خاصة بالإيمان المسيحي:
أولاً: إن المسيح رب الحياة، أعطى لنفسه لقب ابن الانسان الذي سوف تخضع له كل الشعوب حسب نبوة دانيال (7: 13)، وهو خضوع الإيمان، لا خضوع لقوة عسكرية، بل لأنه جاء من أجل كل البشر “أبناء الله المتفرقين” (يوحنا 11: 51)، وهو سوف يجمع هؤلاء إلى “واحد”، لا إلى أرض أو مكان جغرافي.
ثانياً: إن إصحاحات رومية 9 – 11 تحتاج إلى قراءة متأنية: ولاحظ قوة عبارات الرسول: “ليس جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون”، “ولا لأنهم من نسل إبراهيم هم جميعاً أولاد (إبراهيم)” (9: 6) ويقول الرسول إن مولد اسحق المعجزي “ليس أولاد الجسد هم أولاد الله” (9: 8)، فقد انتهى الانتماء العرقي، “بل أولاد الموعد يحسبون نسلاً”. وبعد أن يناقش الرسول اختيار يعقوب، يؤكد أن الدعوة لكل الجنس البشري “دعانا نحن أيضاً ليس من اليهود فقط، بل من الأمم” (9: 24).
ثم في الإصحاح العاشر يؤكد بعبارة لا يجب أن تفوت: ” .. غاية الشريعة هي المسيح” (10: 4)، وهي عبارة لها ما ينسجم معها في (غلا 3: 24) كانت الشريعة مؤدبنا إلى المسيح.
في الاصحاح الحادي عشر، يؤكد عدم رفض إسرائيل (القديم)، ولكن لاحظ: “كذلك في الزمان الحاضر أيضاً (زمان كرازة بولس)، قد حصلت بقية (من الذين آمنوا) حسب اختيار النعمة” (11: 5)، لكن باقي الاصحاح هو عن عودة مَن يريد العودة إلى الإيمان بالإنجيل: “من جهة الإنجيل هم أعداء من أجلكم، وأما من جهة الاختيار، فهم أحباء من أجل الآباء” (11: 28)، ويجب أن نقرأ هذا مع غلاطية (4: 21-31). ولاحظ أن بولس اليهودي يعتبر اليهود هم أولاد هاجر، وهاجر هي رمز إلى “جبل سيناء الوالد للعبودية”، وهو يقابل “أورشليم الحاضرة” (4: 25)، وهنا يضع الرسول مفتاح تاريخ الأسباط، وهو أن الولادة حسب الجسد لا قيمة لها؛ لأن الولادة الجديدة في المعمودية لا تعطي ميزةً لأحد، بل كل الذين اعتمدوا هم واحد في المسيح “ليس يهودي ولا يوناني …”، أمَّا بقية العبارة، فقد تاهت من دعاة التشيع وقادة الشيع: “إن كنتم للمسيح، فأنتم نسل إبراهيم وحسب الموعد (وهو اسم الروح القدس) ورثة (المواعيد لا الأرض)” (غلا 3: 28)، وينتهي الرسول إلى أن مَن يؤمن هو ابنُ سارة، وهي رمز السماء.
ثالثاً: من ينفرد برسالة بولس إلى رومية ويترك باقي الرسائل يقع في أخطاءٍ جسيمة، ولذلك في العبرانيين يضع الرسول اللمسات الأخيرة:
1- تغيُّر الكهنوت لأن الرب جاء من سبط يهوذا (7: 11).
2- وعندما تغيَّر الكهنوت، تغيَّرت الشريعة (7: 12) ولكن لا زال عندنا من لا يعرف ذلك!!!
3- صار يسوع ضامناً لعهد افضل (7: 22).
4- صار يسوع رئيس كهنة بخدمةٍ أفضل؛ لأنه وسيطٌ لعهدٍ أعظم، وقد تثبَّت على مواعيد أفضل (8: 6).
5- ولأن هذا العهد الجديد قد سبق ووعد به الرب في (ارميا 31: 31)، فقد صار العهد الأول قديماً. “أما ما قد صار قديماً، فقد شاخ وهو قريب من الزوال” (عب 8: 13).
6- كل ما جاء في العهد الأول هو فرائض جسدية (مؤقتة) موضوعة إلى وقت الاصلاح (9: 14).
7- الشريعة هي ظل النور وليس الحقيقة، ولذلك كل الذبائح مرفوضة، وكل تقدمات الشريعة لم يُسر بها الله (10: 8). والمحصِّلة:
- ينزع الأول والعهد الأول وكل ما فيه، لكي يثبت الثاني.
إذن، إسرائيل 1948 ليست هي اسرائيل في العهد القديم. هي هوية سياسية، وهي هوية 1948 أو التي لها جذور في يهودية الشتات. لا مكان لها في نبوات العهد القديم. وعيد تجسد الرب يجب أن يدعونا إلى مراجعة حقيقية لِمَا استقر في وعي البعض ونقله إلينا بعض قيادات الأخوة والشيع الإنجيلية الأخرى. فقد جاء التجسد بعهدٍ جديد، ليس هو كتابُ العهد الجديد، بل هو الرب يسوع نفسه، وهذا هو مجمل الرسالة إلى العبرانيين، وأيضاً الرسالة إلى غلاطية، وصرخات رسالة كولوسي.
-3-
إن عيد ميلاد الرب بالجسد، ليس دعوةً للانغلاق ورفض ما نظن أنه غير مسيحي. ليس للمتجسد دين، رغم أنه وُلِدَ في أحضان اليهودية. ولذلك كانت رسالة المسيح يسوع المولود في أحضان اليهودية، هي “للعالم”، وهي “ملكوت الله” الذي يعطي من الله، والذي يقبل العطية هم أولئك:
المساكين بالروح – الرحماء – صانعي السلام – الأنقياء الذين لا يعرفون ولا يعطون للرفض وهو جذر الكراهية مكاناً في القلب – الذين يحبون الأعداء – يباركون الذين يلعنون.
لقد جاء الرب ليملك من على عرشٍ بلا قوة، فقد ظهر أولاً في المزود، ثم في الصليب والقبر والقيامة. هذه هي دعائم الملكوت. وثانياً يعطي لمن يقبل، الميلاد الجديد الذي ينزع “الانتماء العرقي”، ويعطي الاتحاد بالثالوث، لمن يسلك حسب شريعة المصلوب، وهي شريعة المحبة الباذلة؛ لأنها طريق القيامة من موت حقيقي.
والبشر، كلُّ البشر هم الذين نالوا هذه الدعوة، والذين سلكوا “الطريق” هم الذين لهم ذات رؤية يسوع، فالآخر مدعوٌّ، ويظل مدعوَّاً دائماً والرفض لا يلغي الدعوة.
-4-
من يؤمن بالتجسد لا يقرأ العهد القديم قراءة يهودية محورها الشريعة وموسى، بل عليه أن يرى في العهد الجديد، النور الذي يشرح سبب وجود الظل. وما أعظم الخطأ أن نظن أنَّ الظلَّ هو سبب وجود النور، وأن نضع يسوع رب الحياة تحت حكم الشريعة، ونشرح الخلاص والتبني وميراث الملكوت من خلال الشريعة، حتى لا تصبح النعمة مجرد كلمة، عندما يكون ربُّ النعمة نفسه خاضعاً للشريعة