ما دمت غير محبوب، سأبقى غير مفهومٍ لذاتي"
"الله محبة". يعلن الإنجيلي يوحنا في رسالته الأولى، ثم يتابع قائلاً: "لا خوف في المحبة بل المحبة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج". في المحبة الحقيقية لا يوجد فردية، لا يوجد غيرة. المحبة الحقيقية منفتحة وليست منغلقة. هذا يعني أن الله ليس محبة بمعنى المحبة الذاتية التي تعود على ذاتها. الله ليس وحدة منغلقة بل إنه اتحاد. الله محبة بمعنى المحبة الموزَّعة والمشتركة، المحبة المتبادلة لثلاثة أشخاص في واحد.
عندما كان الآباء الكبادوكيون في القرن الرابع يصفون الله، فإن إحدى كلماتهم الأساسية كانت "Κοινωνία" التي تعني الشركة، المساهمة، أو العلاقة. كما يقول القديس باسيليوس الكبير في إحدى مؤلفاته عن الروح القدس، "الاتحاد في الرأس الإلهي يكمن في الشركة، في العلاقة الداخلية بين الأقانيم". وهذا ما تؤكده عقيدة الثالوث: الله محبة مشتركة وليس محبة ذاتية. الله انفتاح، تبادل، تضامن، إعطاء ذات.
إذا أردنا تطبيق ما سبق على الناس المخلوقين على صورة الله، فكما أن "الله محبة" بحسب الإنجيليّ يوحنا فإن "الإنسان محبة" كما يقول الإنكليزي العظيم نبي القرن الثامن عشر ويليام بليك. الله محبة، ليس محبة ذاتية وإنما محبة متبادلة، والأمر نفسه يصحّ على الشخص الإنساني بما أننا مخلوقين على صورة الله.
الله شركة، علاقة، مساهمة؛
كذلك أيضاً الشخص الإنساني عندما يكون على الصورة الثالوثية. الله انفتاح، تبادل، تضامن، إعطاء ذات. والأمر نفسه ينطبق علينا عندما نعيش بطريقة ثالوثية بحسب الصورة الإلهية.
هناك كتاب للفيلسوف البريطاني، جون ماكموري، عنوانه أشخاص في علاقة، نُشر عام 1961. يؤكد ماكموري فيه أن العلاقة هي أحد مكوّنات الشخصية. حيث لا يوجد شخص حقيقي ما لم يكن له على الأقل علاقة مع شخص آخر ويتواصل كل منهما مع الآخر. بكلمات أخرى، أحتاجك لكي أكون أنا. كل ذلك صحيح لأن الله ثالوث.
تبعاً لذلك نستطيع القول أن الكلمة المميزة للإنسان ليست "أنا" وإنما "نحن". إن كنا نقول طوال الوقت "أنا، أنا، أنا"، فنحن لا ندرك حقيقة شخصيتنا. ما سبق ذكره يُعبَّر عنه في قصيدة لـ والتر دي لامير، تسمى "نابليون":
ما هو العالم، أيها الجنود؟
إنه أنا:
أنا، هذا الثلج المتواصل،
هذه السماء الشمالية،
أيها الجنود، هذه الوحدة التي نمرّ فيها
هي أنا.
سواء أكان نابليون كذلك أم لا، الأمر الذي يشير إليه دي لامير صحيح بالتأكيد. التمركز حول الذات هو في النهاية برودة وعزلة. إنه صحراء. ليس صدفةً أنه في الصلاة الربية، ذلك النموذج من الصلاة التي أعطانا إياها الله والتي هي أساس ما يجب أن نكون عليه، الضمير المتصل "نا" يرد ثماني مرات كما ترد كلمة نحن مرة واحدة. بينما لا يرد أبداً في الصلاة الربية أي ذكر للضمير "ياء" المتكلّم أو "لي" أو "أنا".
في أوائل القرن السابع عشر، بدايات عصر الفلسفة الحديثة ، طرح الفيلسوف ديكارت قوله المأثور الشهير:"أنا أفكر إذاً أنا موجود". وتبعاً لذلك النموذج، دار كم كبير من النقاش حول مفهوم الشخصية الإنسانية وفكرة الوعي الذاتي، الإدراك الذاتي. لكن مشكلة ذلك النموذج أنه لا يقدّم عنصر العلاقة. لذا عوضاً عن القول "أنا أفكر إذاً أنا موجود" ألا يجب علينا نحن المسيحيين المؤمنين بالثالوث أن نقول "أنا أحب إذاً أنا موجود"؟ أو بالأحرى ألا يجب علينا أن نقول "أنا محبوب إذاً أنا موجود"؟
إحدى القصائد الحديثة التي أحبها بشكل خاص، لديها نفس العنوان تماماً، "أنا محبوب إذاً أنا موجود". هي للشاعرة الإنكليزية كاثلين راين. دعوني أقتبس منها بعض الكلمات:
لأني أحب
تسكب الشمس إشعاعاتها الذهبية الحية
تسكب ذهبها وفضتها على البحر.
لأني أحب
تنمو السراخس خضراء والعشب أخضر
وتنمو الأشجار مضاءةً بنور الشمس الشفاف.
لأني أحب
يتدفق النهر إلى نومي كل الليل،
عشرات الآلاف من الكائنات الحيّة تغفو بين ذراعيّ،
والنائم يصحو، وما يزال للتدفّق بقية.
هذا هو مفتاح الشخصية وفقاً للصورة الثالوثية. ليس وعي ذاتي منعزل، وإنما علاقة في محبة متبادلة. على حد قول اللاهوتي الكبير الأب ديمتري ستانيلواي، "ما دمت غير محبوب، سأبقى غير مفهومٍ لذاتي".
عندها إن فكّرنا بالصورة الإلهية، يجب ألا نفكر فقط بالبعد العمودي لكوننا على صورة الله، يجب أن نفكر أيضاً بالأثر الثالوثي، مما يعني أن الصورة لها بعد أفقي مع إخوتي البشر. ربما التعريف الأفضل للحيوان الإنساني هو "خليقة قادرة على المحبة المتبادلة على مثال صورة الله الثالوث القدوس". إذاً هذا هو جوهر شخصيتنا: ملازمة الواحد للآخر، السكنى في الآخرين.
ماقاله السيد المسيح في صلاته إلى الآب خلال العشاء الأخير له معنى عميق في فهمنا للشخصانيّة: "ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا". (يوحنا 17: 21). تماماً. الحب المتبادل بين الأقانيم الثلاثة الإلهية يُرى كنموذج للشخصية الإنسانية. هذا أمر جوهري لخلاصنا. نحن هنا على الأرض لكي نعيد خلال الزمن خلق المحبة التي تعبر إلى الأبدية بين الآب والابن والروح القدس.