الغاية من التجلّي:
وكانت غايته من ذلك إظهار حقيقته لتلاميذه، حيث أثبت لهم بأنه الإله المحجوب بالجسد، وأنه حقاً المسيح ابن اللّه الحي، النور من النور، فقبل حوالي أسبوع اعترف به بطرس أحد هؤلاء التلاميذ الثلاثة بأنه المسيح ابن اللّه الحي، كان ذلك في ضواحي قيصرية فيلبس. «من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم، ويتألّم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل وفي اليوم الثالث يقوم. فأخذه بطرس إليه وابتدأ ينتهره قائلاً حاشا لك يا رب. لا يكون لك هذا، فالتفت وقال لبطرس اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنك لا تهتمّ بما للّه لكن بما للناس» (مت 16: 21 ـ 23 ومر 8: 31 ـ 33).
وكذلك ليجبر قلوب تلاميذه المنكسرة، ويثبتهم على الإيمان به ويعيد إليهم السلام الروحي فيتمكّنوا من تحمّل المشقّات في المستقبل في سبيل نشر بشارته الإنجيلية. وقد انتخب ثلاثة منهم ليشاهدوا إحدى الوقائع المهمة من حياته على الأرض، وليشهدوا بعدئذ بذلك، لأنه على فم شاهدين أو ثلاثة تثبت كل شهادة وتقوم كل كلمة (تث 17: 6 ومت 18: 16).
التلاميذ الثلاثة المختارون:
فاختار سمعان بطرس هامة الرسل ومقدامهم الذي اعترف قبل أسبوع قائلاً: «أنت المسيح ابن اللّه الحي»(مت 16: 16 ومر 8: 29 ولو 9:20)، ويعقوب ويوحنا ابني زبدي الغيورين اللذين سمّاهما بُوانرجَس أي ابني الرَّعد (مر 3: 17) وإن يعقوب هذا سيكون أول من سينال إكليل الشهادة من الرسل الإثني عشر، ويوحنا رسول المحبة الذي دعي التلميذ المحبوب واستحق أن يرى ما لم تره عين، ويسمع ما لم تسمع به أذن، وكتب بعدئذ رؤياه، وهو آخر من بقي على قيد الحياة من الرسل، وتحمّل المشقّات.
هؤلاء التلاميذ الثلاثة: بطرس، ويعقوب، ويوحنا. كان قد اختصهم الرب وميّزهم عن سائر الرسل في حادثة إحياء ابنة يايريس (مر 5: 37 ـ 40) وسوف نراهم معه أيضاً في بستان الجثسيماني قبل آلامه وصلبه، ونسمعه يقول لهم: إن نفسي حزينة حتى الموت. فامكثوا أنتم هنا واسهروا معي ثم يبتعد قليلاً ويخرّ على وجهه على الأرض ويصلي (مت 26: 37 ـ 39 ومر 14: 33 ـ 35).
جبل التجلي:
صعد الرب يسوع بتلاميذه هؤلاء الثلاثة، إلى جبل عالٍ منفردين، أما التسعة الباقون فتركهم مع الجمهور في أسفل الجبل، وكان ذلك الجبل جبل تابور حسب رأي آبائنا السريان وأغلب علماء النصرانية. أو جبل الشيخ (حرمون) على رأي الآخرين. ويسمي بطرس جبل التجلّي بعدئذ «الجبل المقدس» (2بط 1: 17و18).
تغيير هيئة الرب يسوع:
لما بلغ الأربعة قمة الجبل في آخر النهار، انفرد الرب يسوع عن تلاميذه الثلاثة وبدأ يصلي، وفيما كان يصلي تغيّرت هيئته، وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه تلمع كالنور وبيضاء جداً كالثلج، لا يقدر قصّار على الأرض أن يبيِّض مثل ذلك. لقد كشف الرب عن جزء ضئيل من أشعة مجده السماوي أمام تلاميذه هؤلاء الثلاثة بقدر ما تتحمل طبيعتهم كبشر رؤية مجده تعالى.
يقول مار سويريوس الكبير (ت 583): «لم يتغيّر شكل جسد الرب يسوع، بل تغيّر لونه فصار نيراً بالمجد الباهر حتى أن التلاميذ انبهروا فلم يستطيعوا النظر إليه، فقد شاء تعالى أن يظهر بهاء مجده فسطعت أنواره، وأشرقت، فبهر بريقها أعين الرسل فسقطوا على وجوههم. وقد وقع التغيير على الهيئة المنظورة لا على رسم جوهره. ويختلف هذا التغيير عن تغيير وجه موسى لما نزل من الجبل في العهد القديم (خر 34: 29 ـ 35) فإن التغيير قد لحق وجه موسى فاستنار والنور الذي أنار وجهه كان خارجاً عنه. أما السيد المسيح فقد كان النور نابعاً منه «لأنه هو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتٍ إلى العالم»(يو 1: 8 و 9).
ظهور موسى وإيليا:
وظهر مع الرب يسوع موسى وإيليا بمجد، موسى الذي أتى بالناموس إلى الشعب، وإيليا الذي أتى بالشعب إلى الناموس، موسى كليم اللّه والنبي العظيم الذي اتّصف بالحلم والوداعة، ومات قبل هذا الحادث بألف وخمسمائة سنة، ودفنه اللّه في رأس جبل نبو ولا يعرف قبره، وإيليا النبي الغيور الذي سمي بالنبي الناري الذي حارب الشر بضراوة، وناهض عبادة الأوثان، والذي لم يمت بل هو حي، وقد صعد إلى السماء بمركبة نارية قبل حادثة التجلي بألف سنة.
يقول القديسون مار سويريوس الكبير (ت 538) ومار يعقوب السروجي الملفان (ت 521) ومار يعقوب الرهاوي (ت 708) إن إيليا نزل بالجسد إلى الجبل، لأنه لم يمت موتاً طبيعياً بعد. وهو لا يزال حياً. أما موسى فيقول عنه مار سويريوس «لعل نفسه قد تمثّلت بهيئة شخص كما كان الملائكة يتراءون للأنبياء في شكل رجال». وقال عنه مار يعقوب الرهاوي «إن نفس موسى تراءت بهيئة جسده». أما مار يعقوب السروجي الملفان فيقول: «إن موسى قد قام حقاً (بالجسد الممجد) وجاء إلى الجبل بأمر ربنا، بعد أن بلي جسده الطبيعي وصار رميماً».
من هنا نعلم أن ظهور موسى بشكل منظور يدل على إمكانية الأرواح في أن تتجسّد، حيث تتّخذ لها جسداً أثيرياً تظهر فيه وهو كالجسد الذي تتّخذه الملائكة عندما تظهر للبشر، كما حدث مثلاً حيث أن ابراهيم أضاف ملائكة وغسل أرجلهم، وأعدّ لهم مائدة (تك 18: 19) وكما حدث ليعقوب عندما ظهر له ملاك في شكل إنسان وصارعه (تك 32: 24)، وكما ظهر الملاك جبرائيل لزكريا الكاهن في هيكل البخور وبشّره بحبل امرأته بيوحنا المعمدان (لو 1: 11 ـ 20) وكما ظهر أيضاً الملاك جبرائيل ذاته للعذراء مريم وبشّرها بالحبل بالرب يسوع (لو 1: 26 ـ 38). وليس الجسد الأثيري من طبيعة أجسادنا، ولكن يُكوَّن من الأثير تكويناً مؤقتاً فتظهر الروح بوساطته سواء كانت هذه الروح ملاكاً أم روح إنسان فتتحقّق بوساطته الغاية من ظهورها، ثم يصرف هذا الجسد الأثيري ويختفي من نظر البشر، هذا ما عناه الرسول بولس بقوله: «يوجد جسم حيواني ويوجد جسمٌ روحاني وأجسامٌ سماوية وأجسامٌ أرضية» (1كو 15: 44و40).
قال مار أفرام السرياني (ت 373): «لقد جاء الرب بموسى وإيليا لأنهما زعيما العهد القديم». ولا غرو فقد اعتبرا ركني العهد القديم وكانت لهما مكانة مرموقة في قلوب المؤمنين. وقد جاء بهما الرب ليبين لتلاميذه أنه رب الأحياء والأموات، فموسى من الأموات وإيليا من الأحياء.
الحديث الذي دار بين الرب يسوع وموسى وإيليا:
وكان موسى وإيليا يخاطبانه عن انطلاقه الذي كان مزمعاً أن يتمّمه في أورشليم، أي عن موته العتيد في سبيل فداء البشرية، وقد استعمل بعض كتبة العهد الجديد كلمة انطلاق أو خروج كناية عن الموت (2 بط1: 15) فيقول الرسول بولس: «لي اشتياق أن أنطلق وأكون مع المسيح ذلك أفضل» (في 1: 21 ـ 25) واستعملت كلمة خروج في العهد القديم كناية عن تحرّر الشعب من عبودية فرعون. وكما كان ذلك الشعب قد خرج باختياره كذلك فإن المسيح مات باختياره على الصليب ليحرّر البشرية من عبودية إبليس والموت والخطية.
وفي ظهور موسى وإيليا وكلاهما مع السيد المسيح عن انطلاقه دلالة على أن رسالتيهما قد انتهتا إذ قد جاء المسيح المنتظر الذي وعد موسى الشعب أن الرب يقيمه لهم. وذكرت النبوات أيضاً أن إيليا يسبق مجيء المسيح، وقد جاء إيليا كما قال الرب «لأن جميع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبّأوا، وإن أردتم أن تقبلوا فهذا إيليا المزمع أن يأتي»(مت 11: 13و14) وعنى الرب بذلك يوحنا المعمدان الذي جاء «بروح إيليا وقوته» (لو 1: 17) كما ذكر الملاك جبرائيل لأبيه زكريا.
وكان للرب يسوع ولموسى وإيليا أمور عديدة مشتركة، فكل منهم له علاقة بجبل وبرية، وكل منهم صام أربعين يوماً، وهم يمثّلون الكنيسة بعهديها القديم والجديد. ولكن يسوع يختلف عن موسى وإيليا بكونه رأس الكنيسة. وفي هذا الظهور إذ أعلن هؤلاء الثلاثة عن انطلاق أحدهم الذي كان مزمعاً أن يتمّمه في أورشليم، وعن عمل الفداء والكفارة التي كان عتيداً أن يقوم بها عن البشرية، بهذا الإعلان تمّم الناموس والأنبياء، فختم الناموس وأتمّ نبوات الأنبياء، وانتهت بذلك مهمة موسى وإيليا، وبدأ العهد الجديد، عهد النعمة والكمال بالمسيح يسوع مخلص العالم. أما بطرس واللذان معه فقد كانوا مثقلين بالنوم، لا يقوى أحدهم على فتح عينيه من شدّة النور، فلما استيقظوا تعجّبوا إذ رأوا مجد يسوع الأسنى، والرجلين الواقفين معه (مت 17: 3 ومر 9: 4 ولو 9: 30و31). وكم كانت بهجتهما عظيمة برؤية موسى وإيليا النبيين العظيمين اللذين كان شعب العهد القديم يكرّمهما إلى درجة تقرب من العبادة. وكان هذان النبيان مسربلين بمجد سماوي، وكأن أشعة يسوع شمس البر قد جللتهما فاستنارا كما يستنير القمر بنور الشمس، وقد عرفهما التلاميذ الثلاثة بإلهام الروح القدس ومن مجرى الحديث الذي دار بينهما وبين الرب يسوع.
نصب المظال في الجبل:
وتأسف التلاميذ على الوقت الذي قضوه في النوم فقد خسروا التمتّع برؤية المجد الإلهي مدة أطول. وإذ لاحظوا أن موسى وإيليا يهمَّان بالانصراف، حاول بطرس إيقافهما فقال ليسوع «يارب جيد أن نكون ههنا. فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال. لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة»(مت 17: 4) «لأنه لم يكن يعلم ما يتكلّم به إذ كانوا مرتعبين»(مر 9: 6).
«يارب جيد أن نكون ههنا» درج هذا القول على ألسنة المؤمنين في كل آن ومكان، حيثما حضروا في أماكن الصلاة ودور العبادة، ولا غرو فقد قال صاحب المزامير «ما أحلى مساكنك يا رب الجنود. تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالإله الحي. العصفور أيضاً وجد بيتاً والسنونةُ عُشاً لنفسها حيث تضع أفراخها. مذابحك يا رب الجنود ملكي وإلهي. طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك» (مز 84: 1 ـ 4). هذا ما تمنّاهه بطرس، جيد أن نكون مع المسيح في مجده الأسنى!
السحابة:
واستجابت السماء طلبة بطرس، يقول متى: «وفيما هو يتكلّم إذا سحابة نيّرة ظلّلتهم وصوت من السحابة قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا. ولما سمع التلاميذ سقطوا على وجوههم وخافوا جداً»(مت 17: 5و6).
كثيراً ما رافق الظهور الإلهي ظهور سحابة، وكثيراً ما سمعنا الرب الإله يتكلّم من سحابة، فعندما تجلّى الرب على جبل سينا وأعطى شريعته لموسى كليمه «نزل الرب في السحاب» (خر 34: 5 وعد 12: 5) وجاء في سفر الخروج (16: 10) لما كلم الرب موسى أمام الجماعة «وإذا مجد الرب قد ظهر في السحاب» ويقول النبي داود في مزاميره: «يا رب إلهي قد عظمت جداً مجداً وجلالاً.. اللابس النور كثوب.. الجاعل السحاب مركبته الماشي على أجنحة الريح» (مز 104: 1 ـ 3) وقال أشعيا: «هوذا الرب راكب على سحابة سريعة»(اش 19: 1).
فالسحابة النيرة التي ظهرت في التجلّي وظللت الرب يسوع وموسى وإيليا وبطرس ويعقوب ويوحنا (مت 17: 5 ومر 9: 7 ولو 9: 34) لم تكن ظاهرة طبيعية ولم تكن كسائر السحب التي تظهر في السماء، ولكنها كانت مركبة من نور للرب الإله، ومظهر لتجلّي الآب السماوي. وسنرى السحابة عندما يصعد الرب يسوع إلى السماء حيث يقول لوقا عنه: «ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون. وأخذته سحابة عن أعينهم»(أع 1: 9). ولما سيأتي ثانية بمجده العظيم والملائكة معه سيأتي على سحاب السماء (مت 24: 39) ويقول صاحب الرؤيا: «هوذا يأتي مع السحاب وستنظره كل عين»(رؤ 1: 7).
والذي يلاحظ في حادثة التجلّي أن السحابة وصفت بأنها نيِّرة بعكس السحاب الذي ظهر في سينا في العهد القديم، ذلك أن العهد الجديد هو عهد نور وسلام لا عهد خوف ورعدة.
أما خوف التلاميذ وسقوطهم على وجوههم فهو من شدة أشعة النور الباهر، وممّا لا يزال راسباً في عقولهم وقلوبهم من خوف من الظهور الإلهي لأنه قيل «ليس أحد يرى الرب ويحيا» (أنظر قض 13: 22 مع خر 16: 21 واش 6: 5) وظهور السحابة في حالة كهذه دلالة على ظهور الرب الإله.
الصوت:
وسمع من السحابة صوت قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا»(مت 17: 5و6)، جاء الصوت من الآب السماوي ليعلن للتلاميذ ما أعلنه سابقاً على نهر الأردن يوم عماد الرب يسوع حيث سمع صوت الآب قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»(مت 3: 16و17 ومر 1: 10و11 ولو 3: 21و22).
في الأسبوع الماضي اعترف به سمعان بطرس بأنّه المسيح ابن اللّه الحي، فأعطى الرب الطوبى لسمعان بطرس لأن لحماً ودماً لم يعلنا له ذلك بل الآب الذي في السموات، والآن صوت الآب من السماء يثبت صحة شهادة بطرس وصدقها، لتثبيت التلاميذ على التمسّك بهذه العقيدة السمحة ألا وهي «أنه يسوع هو المسيح ابن اللّه الحي».
وكان الصوت من السماء صوت شهادة وأمر وطاعة، فما دام يسوع هو المسيح ابن اللّه، وجب علينا لا أن نؤمن به فقط بل أيضاً أن نطيعه. لذلك فالصوت يأمرنا قائلاً: «فله اسمعوا». لأنه المشرع بل هو الشريعة وقد قال عن نفسه أنّه الطريق والحق والحياة. فإذا سمعتم صوتاً مخالفاً لصوته وأمراً لا ينسجم وأوامره الإلهية فلا تعيروا لذلك أذناً صاغية بل صموا آذانكم عن الضالين والمضلّين، وتذكّروا أمر اللّه لأبوينا الأولين، وعدم تصديقهما لوصيته تعالى، وعدم تأدية الطاعة له إذ خدعهما إبليس فسقطا. فلنحذر لئلا نسقط في خطية التمرّد، وعدم الطاعة، وعلينا ألاّ نصغي إلى تعليم بشر ما لم يكن ذلك التعليم موافقاً لتعاليم معلمنا الإلهي يسوع المسيح ابن اللّه الحي.
جاء الصوت قائلاً «له اسمعوا» مع أن التلاميذ رأوا أولاً الرب يسوع ومعه موسى وإيليا، ولكن السماء لم تقل اسمعوا لهم بصيغة الجمع بل «له اسمعوا» بصيغة المفرد فهو الإله الأحد الذي لا يشاركه بسلطته الإلهية أحد، وبمجيئه إلى العالم وتجسّده قد فدانا، واشترانا، وصرنا له وهو لنا، وانتهى عهد موسى وإيليا اللذين مثّلا الناموس والأنبياء، بل ختم على العهد القديم الذي يدعى بالناموس والأنبياء، وجاء العهد الجديد عهد الكمال، عهد المسيح يسوع ابن اللّه الذي به وحده الخلاص. لذلك أعلنت السماء وجوب الطاعة له قائلة «له اسمعوا».
يسوع وحده:
وبينما كان الرسل الثلاثة ساقطين على وجوههم خوفاً ارتفعت السحابة واختفى معها النبيّان موسى وإيليا، وانتهت بذلك رسالتهما. وعاد وأخفى الرب يسوع بهاء مجده الإلهي الذي كشف لتلاميذه قبساً منه، وجاء إلى تلاميذه ولمسهم قائلاً: «قوموا لا تخافوا، فرفعوا أعينهم ونظروا حولهم ولم يروا أحداً إلاّ «يسوع وحده» فتأكّدوا أن السماء عنته وحده لما قالت «له اسمعوا» فهو الكل في الكل. وحيد الآب الذي لا شريك له، ولا حاجة إلى غيره. يسوع وحده مصدر النبوة ورب الأنبياء والرسل.
وبينما هم نازلون من الجبل أوصاهم المخلص قائلاً لا تعلموا أحداً بما رأيتم حتى يقوم ابن الإنسان من الأموات (مت 17: 9) إذ لم يكن الوقت قد حان لإعلان هذه الحقيقة الإلهية لسائر الناس لأنهم لم يكونوا مستعدّين لقبولها وغيرها من الحقائق الإلهية التي تفوق إدراك العقل البشري، ولأن غاية الرب من كشف شيء من مجده الإلهي أمام تلاميذه هي تثبيت هؤلاء التلاميذ على الإيمان به.
تأثير حادثة التجلي في حياة الرسل الثلاثة:
لم تكن حادثة التجلّي من الحوادث البسيطة التي تمرّ أمام الإنسان مرور الكرام دون أن تترك تأثيراً في أذهانهم، ولكنها كانت من الحوادث التي تنطبع وقائعها بدقة في ذهن الإنسان وتثبت فيه ولا تغادره البتة، بل يظهر أثرها في دقائق وقائع حياته.
فالرسل الثلاثة بمشاهدتهم الرب يسوع يتجلّى على الجبل، ورؤيتهم باكورة المجد الإلهي الذي سيتنعّم به الأبرار في السماء، رسخت الذكرى في أذهانهم وظهرت في حياتهم الروحية وكتاباتهم، فهذا يوحنا يقول في إنجيله «ورأينا مجده مجداً كوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً»(يو 1: 14) «الذي كان منذ البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا... فإن الحياة أظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا الذي رأيناه، وسمعناه نخبركم به»(1يو 1: 1و2).
وهذا الرسول بطرس يكتب في رسالته الثانية قائلاً: «لأننا لم نتبع خرافات مصنَّعة إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه بل قد كنا معاينين عظمته لأنه أخذ من اللّه الآب كرامة ومجداً إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى قائلاً هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء إذ كنا معه في الجبل المقدس»(2بط 1: 16 ـ 18).
أما الرسول يعقوب فإن ذكرى التجلّي لم تبرح ذهنه لذلك وقد تمعّن في المجد السماوي استخفّ بالأرض والأرضيات واعتبر العذاب بل حتى الموت ربحاً في سبيل الإيمان بالمسيح وربح المسيح فكان أول شهيد بين الرسل. ولا غرو فمن يفتكر في السماء ويطمح إلى السكنى مع المسيح يهون عليه بذل حياته في سبيل المسيح. وبهذا الصدد يقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: «إن المسيح ذاته وضع نصب عينيه سرور السماء فتحمّل الصليب»(عب 12: 3) وما سرور السماء هذا إلاّ «ما أعده اللّه للذين يحبّونه، ما لم تره عين ولا سمعت به أذن ولا خطر على قلب بشر...»(1كو 2: 9) وقد رأت أعين التلاميذ الثلاثة جزءاً منه، وسمعت آذانهم صوت الآب فشهدوا بذلك وكانت شهاداتهم حقاً. ولم يغب عن أذهانهم ذلك المشهد العجيب فكانوا يتوقون لبلوغ الكمال المسيحي لينالوا المجد الذي كان التجلي مثالاً له.
دروس تعلمناها من حادثة التجلّي:
حقيقة الخلود والحياة الأبدية:
كانت الخرافات الوثنية قد تسرّبت إلى صلب الديانة اليهودية فشوّهت بعض العقائد حتى أن بعض الفرق اليهودية أنكر عقيدة الخلود، والحياة الأبدية، وأخذ برأي القائلين: لنأكل ونشرب فغداً نموت، ومن جملة هؤلاء الصدوقيون الذين أنكروا خلود الروح، والقيامة العامة، فكانت حادثة التجلّي خير درس للرسل الثلاثة الذين سيكونون فيما بعد قادة روحيين ومعلّمين بارزين في الكنيسة المسيحية، فقد شاهدوا موسى حياً وتبيّنوا أن هناك حياة بعد الموت وأن روح موسى خالدة لم تمت. ولا عجب فقد أفحم الرب يسوع الصدوقيين بقوله: «وأما من جهة قيامة الأموات أفما قرأتم ما قيل لكم من قبل اللّه القائل. أنا إله ابراهيم وإله اسحق وإله يعقوب ليس اللّه إله أموات بل إله أحياء» (مت 22: 31و32). والرسل لا ينسون هذا أبداً، وقد جاءت حادثة التجلّي برهاناً عملياً لإثبات حقيقة خلود الروح، إذ رأوا بأم أعينهم موسى وسمعوه يكلّم الرب يسوع، وهم يعلمون أن موسى قد مات قبل ألف وخمسمائة سنة ودفن في جبل نبو، وأخفي قبره عن شعبه.
كما اتّضح للرسل الثلاثة أن الأبرار المنتقلين إلى العالم الآخر يعرفون بعضهم بعضاً معرفة تامة، ويعلمون بما يجري على الأرض، فقد كان موسى وإيليا يخاطبان الرب يسوع عن انطلاقه الذي كان عتيداً أن يتمّمه في أورشليم، أي عن صلبه وموته الكفاري وقيامته وكأن كل شيء كان واضحاً لديهما.
وإن الرسل الثلاثة برؤيتهم موسى بهيئة جسد ممجّد علموا أن بإمكان الروح أن تعود لتتّحد بالجسد، وهذه الروح المرتبطة بجسد أرضي في هذه الحياة ستتّحد بهذا الجسد في الحياة الثانية بعد أن يتحوّل هذا الجسد إلى جسد روحاني ممجّد. تماماً كما رأينا الرب يسوع بعد قيامته من بين الأموات، كيف كان يظهر لتلاميذه في العلية والأبواب مغلقة بل كيف قام من القبر والحجر الكبير موضوع على باب القبر. وبهذا الخصوص يطرح الرسول بولس سؤالاً قائلاً: «كيف يُقام الأموات وبأي جسم يأتون؟» (1كو 15: 35 ـ 44). وجواب ذلك أننا سنكون على شبه هيئة المسيح التي ظهر بها على جبل التجلّي، أي على شبه جسده الممجّد.
ولكن لا بدّ من أن نذكر أن ربنا يسوع المسيح في مجيئه الثاني سيظهر بصورة أروع جداً ممّا ظهر بها في التجلّي، فهنا تجلّى بصورة بسيطة ليتمكّن تلاميذه من رؤيته. أما في النهاية فسيأتي بمجد أبيه مع ملائكته القديسين. وبما أن أجسادنا ستكون على شبه جسده الممجّد فإننا سنتمكّن من رؤيته وجهاً لوجه. بعد أن يسمع جميع من في القبور صوته فيقوم الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة، وسيجلس على كرسي مجده ليدين الأحياء والأموات.
والدرس الخالد الذي تعلّمه التلاميذ الثلاثة وعلينا أن نتعلّمه نحن أيضاً من التجلّي هو أن لا إكليل مجد دون إكليل شوك، ولا قيامة دون موت، ولا نعيم مع المسيح دون تحمّل الآلام في سبيله. فنحن كثيراً ما نتوق إلى حياة السعادة الأبدية ونرغب في أن ننالها دون أي جهد أو تعب، كما رغب في ذلك بطرس وهو على الجبل فقال للرب: «يا رب جيد أن نكون ههنا. فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة»(مت 17: 4). ويقول مرقس وهو يذكر قول بطرس «لأنه لم يكن يعلم ما يتكلّم به»(مر 9: 6). لأنه لو علم لميَّز أنه ليس بالإمكان أبداً نيل المجد دون احتمال الآلام. وليس بالإمكان أن نرث ملكوت اللّه دون أن نسعى للحصول عليه بالإيمان والأعمال الصالحة. ولا يمكن أن نعزل تابور عن الجلجلة، والتجلي عن الصلب والموت، فإذا أردنا أن نملك مع المسيح علينا أن ندخل من الباب الضيق، ونسير في الطريق الصعبة «لأننا بضيقات كثيرة ينبغي لنا أن ندخل ملكوت الله» (أع 14: 21) «ومن أصدق ما يقال أنّا إنْ متنا مع المسيح فسنحيا معه، وإن صبرنا فسنملك معه، وإن أنكرناه فسينكرنا هو أيضاً» (2تي 2: 11).
فلنتصور دائماً تجلي الرب على الجبل، ونسمع صوت الآب يأمرنا بطاعة ابنه الحبيب فنسعى لبلوغ الكمال الإنجيلي وقمة الفضائل المسيحية ونسلك بموجب أوامره الإلهية لنتمجّد معه في الحياة الأبدية.