اندماج في موت يسوع وقيامته
الأب منير سقّال
مقدمـة
" وهكذا قد طعم البشر بالعماد على سر المسيح الفصحي : فماتوا معه ، ودفنوا وقاموا ، ويقبلون روح تبني الأبناء ( الذي به ندعوه أبانا ) ( روم 8/15 ) ويصيرون هكذا عبدة حقيقيين يبحث الآب عنهم " ( ل 6 ) . "
هل تعلم ما " العماد " ؟ ما معنى " عمّد " ؟ اطرح السؤال على أول طفل تلتقيه ، فالجواب معروف . عمّد يعني صرنا مسيحيين ، أو ، دشّن . وقد أخذنا اسماً لأننا اعتمدنا . فالعماد كسر ، هو للمسيحي بدء . هو باب الدخول في الكنيسة ، باب الخلاص ، باب سائر الأسرار . إنما علينا أن ننظر أولاً إلى الموضوع من عل . لنعد إلى البدء .
في البدء خلق الله الإنسان على صورته ومثاله ، وقد سبق وأعد له بمحبة مهد البشر " وروح الله يرف على المياه " ( تك ) ، فكان الإنسان غارقاً ومعمداً بمحبة وعطف الله ويعيش من روحه . وهو لم يخلق الإنسان إلا ليحبه، لكي يجعله يحيا بحياته ، يحيا حياة إلهية ، يحيا إلى الأبد ، وهذا ما ندعوه الخلاص . وهذا لا يعطينا شيئاً بل يغيرنا ، يحولنا إلى كائن جديد ، إلهي . هذه الحقيقة الجديدة هي " الاشتراك في الطبيعة الإلهية " ( 2 بطر 1/4 ) ، كيف ذلك ؟ من المسيح . نحن مدعوون لنصير واحداً مع المسيح : ابن الله ، وحيد الآب ، لنصير واحداً معه ، في كيانه ، في حياته ، في موته وقيامته . من هنا أهمية اللقاء بالمسيح يسوع والتحول معه إلى شخص واحد . سر اللقاء هذا يتم في الكنيسة سر المسيح ، نلتقي به في طقوس الأسرار وفي العماد أولاً . سر الولادة إلى الحياة الجديدة. وهذه الولادة هي إذن قليل من الماء وكثير من الروح القدس ( لقاء يسوع مع نيقوديمس ) وليس بمقدور الماء الحلول محل الروح ، فالروح يهب حيث يشاء ، وهو يريد أن يخلص جميع البشر .
أسماء سر المعمودية
لهذا السر العظيم المقدس أسماء متعددة استعملها الآباء القديسون للدلالة على مفعولها الظاهري والباطني ، وهذا أهمها :
سر المعمودية
إن الفعل باليونانية يعني " غطس ، غسل " فالعماد تغطيس أو غسل ، ورمزية الماء كعلامة تطهير أو حياة ، كثيرة الشيوع في تاريخ الأديان ، فلا غرابة إن وجدناها في الأسرار الوثنية ، إلا أن أوجه الشبه بينها وبين السر المسيحي خارجية فقط ، ولا تتصل بالحقائق العميقة . " شاءت رحمته أن يخلصنا بغسل الميلاد الثاني والتجديد الآتي من الروح القدس " ( تي 3/5 ) ، " اغسلني فأبيض أفضل من الثلج " ( مز 50 ) . ويقول القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس ( 10 ) : لا أريد أن تجهلوا ، أيها الأخوة ، أن آباءنا كانوا جميعهم تحت حماية الغمام ، وجميعهم عبروا البحر وجميعهم تعمدوا لموسى في الغمام وفي البحر . معنى هذا أن الخلاص الشامل هو في المسيح " وكانوا يشربون من صخرة واحدة : " المسيح " ، في موته وقيامته ، مركز الكون الحي بالنسبة إلى ما قبله و إلى ما بعده . فالكل قد " غطس " في حدث الخلاص ، في يسوع المسيح ، هذا السر يوضحه عماد الماء ولكنه ليس ملك الذين يحتفلون به ، فهذا " لأجل كثيرين " .
حدث الخلاص هذا هو عماد دم يسوع المسيح ، الذي هو عماد العالم . " أتستطيعون أن تشربوا الكأس التي سأشربها ؟ وان تعتمدوا بالعماد الذي سأعتمد به ؟ " ( مر 10/38 ) سوف يسيل دمي عليّ ، وأنا غاطس في الموت والقبر ، هذه الساعة هي ساعتي ، هي عماد سيد العالم ، إذاً ساعة عماد العالم ، سوف يغطس جميع البشر في حدث الخلاص هذا ، سوف يغطسون مع المسيح وفي يسوع المصلوب ويلاقونه بالقيامة : " هذا ليس فقط بالنسبة إلى الذين يؤمنون بالمسيح ، بل بالنسبة إلى جميع الناس ذوي الإدارة الطيبة الذين تعمل النعمة في قلوبهم بنوع غير منظور ، إذ بما أن المسيح مات عن الجميع وبما أن دعوة الإنسان الأخيرة هي حقاً فريدة ، أي إلهية يجب أن نؤمن بأن الروح القدس يقدم للجميع ، بشكل يعرفه الله ، إمكانية اشتراكهم في السر الفصحي . " ( المجمع الفاتيكاني الثاني ) .
سر الاستنارة
الحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي ، وان يعرفوا من أرسلت ، يسوع المسيح . " ( يو 17/3 )
إن النعمة عاجلاً أم آجلاً ستوعي الضمير في هذا العالم أم في الآخر ، وهذه النعمة تستدعي جواباً حراً فتخلق " معرفة " – " استنارة " . وهذا هو بالضبط الاسم الذي كان الأقدمون يعطونه لعماد الماء ، في العماد يكتشف الإنسان وجه المسيح ويصبح السيد بالنسبة إليه ، فيه تنكشف صداقة الله تدريجياً للإنسان من خلال قلب المسيح ، وهذا الكشف لا يتم من دون الآب والروح ، هذا الكشف يتم في الكنيسة وبالكنيسة . لها أعطى المسيح رسالة ونعمة " اذهبوا وتلمذوا وعمدوا … " ( متى 28/19 ) ، والكنيسة بالمعمودية تدخلنا في سحابة النور ، أساس الاكتشاف والمعرفة ، أي الشركة في صميم الحياة الإلهية ، ونصبح حقاً أبناء النور ، أي المسيح الذي قال : أنا نور العالم . " فالمسيح إذاً هو وحده الوسيط وطريق الخلاص ، هو حاضر معنا في جسده الذي هو الكنيسة ، من هنا ضرورة الكنيسة ذاتها حيث يدخل الناس من باب العماد . " ( المجمع الفاتيكاني الثاني ) .
سر الولادة الثانية الجديدة
هكذا دعاه يسوع إذ قال : " إن لم تولدوا ثانية بالماء والروح فلن تدخلوا ملكوت السماء " إن هذا السر هو بدء الحياة الحقيقية ، فتهيئ الإنسان بكامل كيانه للحياة السعيدة التي يهبها الله للذين يحبونه ، كما يتكيّف المولود الجديد للحياة التي سيعيشها على الأرض . فالولادة الجديدة هذه تفترض ما تفترضه الولادة الطبيعية أي أنها عطية مجانية من الله " محبة الله لنا في هذا أننا لم نكن نحن أحببنا الله أولاً ، بل هو أحبنا ، فأرسل ابنه كفّارة عن خطايانا. " ( يو 4/10 ) المعمودية هي ولادة ثانية لأنها خلق جديد ، خلق يحدثه المسيح بفضل آلامه وموته وقيامته : " وعليه فإن كان أحد في المسيح ، فهو خليقة جديدة فالقديم قد اضمحل ، وكل شيء قد تجدد " ( 2 كور 5/17 ) .
مفاعيل سر العماد
" لقد غدونا بالعماد شبيهين بالمسيح " لأننا جميعاً قد اعتمدنا بروح واحد لنكون جسداً واحداً " ( 1 كو 12/13 ) ، فهذا الطقس المقدس يرمز إلى وحدتنا مع موت المسيح وقيامته ويحققها " ( ك 7 ) .
بالعمـاد نصبح شعب الله ، أبناء الله " بالتبني " ( غل 4/5 ) ، لا صورياً بل حقاً : انظروا أية محبة منحنا الآب حتى ندعى أولاد الله ، ونحن في الواقع كذلك ( 1يو 3/1 ) . ومن خصائص العماد أنه :
توبة :
توبة إلى يسوع في الإيمان ، التوبة في يسوع في حياة جديدة . عبور إلى حياة القائمين من الموت .
دعوة إلى اسم يسوع :
لم يعد يوحنا هو الذي يعمد لمغفرة الخطايا ، بل هو يسوع الذي يعمد لكي يعطي الروح وحياة القائم من الموت .
يتم بالروح القدس :
الذي هو عطية المسيح المائت والقائم من الموت . فالمعمد تغطّس في الحدث الأساسي الذي هو فصح المسيح : موته وقيامته وعودته إلى أبيه من حيث يرسل .
وهو يتم بالكلمة :
التي تعني عطية الله وبالعمل الرمزي – الماء – الذي تغنيه وتجعله " كلمة منظورة " .
انضمام إلى الشعب الجديد :
الذي بدأ يوم العنصرة .
" وهكذا – كما يقول رتزنغر – بإمكان ماء العماد أن يمثل سر الصليب وان يعيد اختبارات الموت والخلاص ، وهذه الاختبارات تبشر بالصليب ، مركز كل تاريخ الخلاص ، فالعماد هو أكثر من اغتسال وتطهير ، وان كان هذا المعنى متضمناً في رمز الماء ، العماد باسم يسوع المصلوب يتطلب أكثر مما يقدر الغسل البسيط أن يحقق ، ابن الله الوحيد الذي مات وقام . "
العماد هو الدخول في العائلة
عندما نقتبل العماد ، ندخل في الكنيسة . ولد في العائلة إنسان جديد ، حجر جديد أضيف إلى بناية جسد المسيح هذه التي هي الكنيسة . هذا أهم ما في العماد : الدخول إلى وفي عائلة الله ، أي في جماعة يسوع المسيح ، الكنيسة. في هذا الصدد يجب تصويب بعض الأفكار التي تشدد على محو الخطيئة الأصلية . يقول رتزنغر : العماد يؤسس جماعة تحمل اسم الآب والابن والروح القدس ، هذه الجماعة تعني انهم يؤلفون من الآن فصاعداً وحدة جديدة ، وتجعلهم يسكنون معاً . فالعماد أساساً هو الدخول في عائلة الله . وقد تكلم المجمع الفاتيكاني خمس عشرة مرة على العماد دون أن يذكر مرة واحدة الخطيئة الأصلية ويقول :
بالعماد يصبح الإنسان واحداً من الابن والقائم من الموت : يصبح عضواً للمسيح . يقبل إذاً الروح البنوي الذي به يصبح ابناً لله ، وهو يشرك المعمّد في كهنوت المسيح الملكي والنبوي ، ويكرسه بطابع العماد ، هذا الطابع – العماد – الذي لا يمحى هو علامة سرية تجعله شبيهاً بالمسيح وعضواً في الكنيسة : إنه طابع العائلة . وبكلمة : اندمج المعمّد الجديد بالابن ، في شراكة الاقانيم الإلهية الثلاثة وفي جماعة المؤمنين المنظورة أي شعب الله .
الخطيئة الأصلية
لو حددنا أن العماد هو " السر الذي يمحو الخطيئة الأصلية " لابتعدنا عن الحقيقة . هذا اللاهوت الخاص بالخطيئة الأصلية وبالعماد ليس تقليدياً في الكنيسة ولا يجد جذوره في الكتاب المقدس ، بل علمه القديس اغسطينوس : العماد يمحو الخطيئة الأصلية التي تطبع كل إنسان منذ ولادته . نحن لا ننكر الخطيئة الأصلية ، ولكن اقتصار العماد على محو الخطيئة الأصلية يؤدي إلى طريق مسدودة وإلى التباس . بينما يجب أن ننظر إلى الناحية الإيجابية . فالنور هو الذي يرينا الظلمة إذ يخلصنا منه ، فالاتحاد الذي يدخلنا فيه العماد يكشف التفرقة التي يجنبنا إياها . " المعمودية هي … رباط الوحدة السري القائم بين الذين تجددوا به " ( ح م 22 ) ، العماد إذاً هو أصلاً الانتماء إلى جسد المسيح، إلى العيلة الإلهية " أبناء حبل بهم من الروح القدس ومولودون من الله " ( ك 64 ) ، هذا الانتماء هو المفعول الأول وهو الذي يمحو الخطيئة الأصلية ، كما أن حلول النور هو الذي يقصي الظلمة ، كما يمحو الخطايا الشخصية عند البالغين لكن الميل إلى الشر يبقى في المعمدين .
العماد انضمام إلى الوحدة المسيحية
إن الإنجيل يظهر لنا المسيح يؤلف حواليه جماعة مؤمنين وأخوة يربيهم على المحبة ، ويترك لنا كنيسة رسالتها أن تكون علامة الخلاص . والخلاص هو أن نبني الوحدة ، وحدة الروح القدس بين أفراد البشرية كما هي بين الاقانيم الثلاثة ، يشهد بذلك كتاب أعمال الرسل " وانضم في ذلك اليوم … وكانوا كلهم متحدين … برأي واحد … وكان الرب كل يوم يزيد عدد الذين أنعم عليهم بالخلاص ( 2/41 – 47 ) ، ويذكرنا بولس الرسول " أننا تعمدنا في روح واحد لكي نؤلف جسداً واحداً " ( 1 كور 12/13 ) ، وكما يقول القديس يوحنا العماد يطعمنا على المسيح لكي نؤلف معه ومع بعضنا البعض الكرمة الواحدة ذات الأغصان العديدة . فالعماد نعمة اتحاد " وحدة مع " . به ندخل في وحدة مع الروح الذي يضعنا في وحدة حياة مع الآب والابن الذي هو أخونا ، هذا الروح هو هذا الاتحاد بالذات ، يجعلنا بنين وبنات لوالد هذه الحياة السرية التي هي حياة الابن بالذات ، عطاء يفيض من حب الله . هذا الاتحاد بالآب وبالآخرين هو الذي يمحو الخطيئة بطريقة آلية كما يمحو الاتحاد الانقسام .
العماد يشركنا في موت المسيح وقيامته المجيدة
" هل تجهلون أننا جميع من اعتمدوا للمسيح ، قد اعتمدنا في موته ؟ فلقد دفنا معه بالمعمودية لنموت فنحيا حياة جديدة ، كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب . فإذا اتحدنا به في موت يشبه موته فكذلك تكون حالنا في قيامته . " ( روم 6/3 و 4 ) ، أن العماد يميت ويخلص في آن واحد ، هو الطوفان المهلك ومخلص نوح ومن معه، هو الصليب الذي نموت عليه لنحيا مع المسيح . أنه موت رمزي لا حقيقي كموت الجسد ، فعندما يغطّس المعتمد يعني أنه مات ودفن ، مات لنوع من الحياة ، حياة الجسد ، فيتقبل سر الصليب فيعلق على المسيح بمساميره فلا ينسلخ عنه . وخروجه من تحت الماء يعني قيامته من الموت ، قام لنوع آخر من الحياة ، حياة النعمة ، نزل إلى الماء وهو إنسان العالم ، إنسان الموت ، وصعد من الماء وهو إنسان المسيح القائم من بين الأموات ، انه اصطبغ أي تغير شكله : نحن الذين اصطبغنا في يسوع المسيح اصطبغنا في موته … " فلست أنا أحيا بعد ، بل هو المسيح يحيا فيّ . " ( غل 2/19 ) .
قابل السر وشَرطَي القبول
إن العماد هو لكل إنسان ، لان الله خلق الإنسان ليحبه ويظهر فيه عجائب رحمته ، ومحبته هي إرادته " بأن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون " ( 1 تي 2/4 ) . والشرطان الأساسيان هما : الإيمان بيسوع المسيح والكنيسة . فالإيمان بالمسيح شرط أساسي لصحة السر وهذا من المنطق لأن المعمودية تجعلنا مع المسيح جسداً واحداً ، تصهرنا بذاته وتشركنا بحياته . والشرط الثاني : أن يؤمن المعتمد بالكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية ، لأنه بالعماد يدخل المعتمد في شعب الله ، يدخل في العائلة المقدسة التي هي الكنيسة التي أسسها المسيح كسر الخلاص ، فضلاً عن ذلك لا نستطيع أن نعرف المسيح على حقيقته إلا في الكنيسة وبالكنيسة . " وانهم ينتمون إلى المسيح ، لانهم في حضن الكنيسة تجددوا بالعماد والإيمان ، ليكونوا للمسيح بحياتهم وأعمالهم الجديدة . " ( ن ر 21 ) .
معمودية واحدة
" هناك جسد المسيح الواحد ،الكنيسة ، وروح واحد ورجاء واحد للجميع ورب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة . " ( افسس 4/4 ) .
" الحق الحق أقول لكم ما من أحد يعاين ملكوت السماوات ما لم يولد من الماء والروح . " ( يو 3/5 ) .
إن كان الله يريد أن يخلص جميع الناس وان كان قد بذل نفسه فداء عن الجميع ، وان كان العماد ضرورياً للخلاص ، هل يعني ذلك أن الخلاص يستحيل على من سبقوا المسيح ومن ، بعده ، لم يسمعوا شيئاً عنه ولا عن العماد ؟ تكلم المسيح عن الماء والروح ، إننا نعرف أين يتجه الماء وهو رهن الجاذبية ، أما الروح " فيهب حيث يشاء " لا نعرف من أين يأتي ولا إلى أين يذهب ، هذه هي حالة المولود بالروح . وهذا الروح هو الذي يقود العالم إلى الخلاص كيفما شاء .
إنها معمودية واحدة ، إنما لهذه المعمودية الواحدة ثلاث صيغ :
معمودية الدم :
الاستشهاد . هذه هي المعمودية " المسيحية " التي عاشها المسيح في آلامه " عليّ أن أقبل معمودية الآلام وما أضيق صدري حتى تتم " ( لو 12/50 ) هو نموذج العماد ، إذ هو قمة الحب وشهادة الإيمان " اغتسل " بدمه، أعطى حياته . ما من حب أعظم من هذا …
معمودية الماء :
العماد الطقسي الرسمي .
معمودية الشوق :
أو معمودية الصدق كما يقو اللاهوتي زندل ، هذا العماد لا يتطلب أية معرفة واضحة بيسوع المسيح أو بالكنيسة أو بعماد الماء . هو عماد الروح وحده الذي يهب حيث يشاء ويوحي لكل أحد بدء إرادة طيبة ، وهو خاصّة كل الذين لا يرفضون بعناد ما يصل إليهم من نور . يقول المجمع " هذا ليس فقط بالنسبة إلى الذين يؤمنون بالمسيح ، بل بالنسبة إلى جميع الناس ذوي الإرادة الطيبة " ، إذ أن غالبية الناس لن يعرفوه في هذه الحياة . وعماد الشوق هذا ، هو غير الشوق إلى العماد ، لأن البشرية التي لم يصلها الإنجيل لا تعرف العماد . ولكي " يغطس " جميع هؤلاء الناس في حدث الخلاص ، أي لكي يعتمدوا بالشوق ، يكفيهم بعض الضمير . ذاك الذي يدعو كل إنسان لكي يصنع ما يظن أن من واجبه أن يصنعه . كل إنسان يتبع ببساطة ضميره هو معمّد بعماد الشوق . لأن هذه الأنوار ، مهما كانت ضعيفة هي عملياً إرادة الله في حياته . ومن يعمل الحق يأتي إلى النور .
هذه التأكيدات ليست ثانوية ولا نتردد في إقتبالها ، فإذا كان المعمدون في الماء هم وحدهم في المسيح يسوع ، فهو ليس إذاً مخلص أكثرية الناس ، ليس سيد هذا العالم . " حقاً إن الله ، لكونه خالقاً ، هو أب . ولكونه خالق الجميع وكلاّ بمفرده ، " الله هو أب للجميع وأب كل بمفرده ، يملك على الجميع ويعمل في الجميع ويسكن في الجميع." ( افس 4/6 ) للجميع بمفرده يعطي ابنه المتجسد كأخ في الإنسانية وكقائد إلى الخلاص ، للجميع ولكل بمفرده يعطي هذا الابن حياته ودمه وموته ، إلى الجميع وإلى كل بمفرده يرسل هذا الابن القائم من الموت روحه . كل إنسان ، في يوم من الأيام ، أجاب " نعم " بحسب الأنوار المعطاة له ، يدخل في عهد الخلاص . لذلك لا يتلكأ الروح عن الهبوب في كل مكان يرجو أن يخلق فيه قليلاً من الإيمان ، هذا الإيمان الغامض الذي ندعوه الإرادة الحسنة حتى إن كل من آمن يجد الحياة الأبدية .
عماد الأطفال
" يقترب طالبو العماد من المياه التي يجب أن تكون جارية ونقيّة ، ثم يخلعون ملابسهم ، ويعمّد الأطفال أولاً ، وإذا استطاع هؤلاء أن يجيبوا عن أنفسهم فليكن ، وإلا فيجيب ذووهم أو أحد أفراد أسرتهم عنهم " ( أقدم النصوص المسيحية ، التقليد الرسولي ، القرن الثالث ) .
عماد الأطفال درجت عليه الكنيسة المقدسة منذ العهد الرسولي حتى أيامنا . ومن بين الآباء قال القديس ايريناوس : إن المسيح أتى بشخصه إلى الأرض ليخلص البشر جميعاً دون استثناء ، أي كل الذين يولدون به ثانية لله، أي الرضّع والأطفال والأولاد والشباب والشيوخ .
- أما تصدي بعضهم لعماد الأطفال بحجة أن الطفل قد ينفسد بعد عماده عند بلوغه سن الرشد ، فهي حجة واهية، لأنه قد يحصل أيضاً أن بعض من قبلوا العماد راشدين ينفسدون أو يجحدون الإيمان .
- والذين يتذرعون بأن لا ذكر في العهد الجديد لوجوب عماد الأطفال ، نقول لهم أن الكتاب المقدس لا يحرمهم منه ، بل على نقيض ذلك يقول المسيح : دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم . ثم باركهم ووضع يديه عليهم .
- أما من يحتج بأن لا إيمان لهم شخصي ، فيجيب المجمع : ولئن كان الأطفال لا يستطيعون الجهر شخصياً بإيمانهم ، فذلك لا يمنع الكنيسة من أن تمنحهم هذا السر على إيمانها هي ، هذا الإيمان المتمثل في شخص العراب .
- ويعترض البعض مدعين أن معمودية الأطفال تشكل خرقاً لمبدأ الحرية فمن التعدي على كرامة الإنسان أن تفرض عليه للمستقبل واجبات دينية قد يضطر فيما بعد إلى رفضها ، فعلى الأهل الوقوف على الحياد والامتناع عن كل ضغط .
إن لفي هذا الموقف ضلالة ، إذ لا وجود لحرية بشرية صرف ، لا تقيدها أية شروط ، فحتى على الصعيد الطبيعي ينوب الأهل عن أولادهم في اختيارات لا بد منها لحياتهم ولتوجيهها شطر القيم الحقيقية . فهذا الموقف الحيادي اختيار سلبي يحرم الطفل خيراً جوهرياً . وننسى بالأخص ، عندما ندعى ذلك ، إن كل إنسان حتى غير المعمد عليه التزامات نحو الله لا يمكن انتزاعها ، تأتي المعمودية فتؤيدها وتثبتها وتسمو بها إلى التبني الإلهي إلى حرية مجد أبناء الله . ومن الواضح أن الطفل – وقد بلغ سن الرشد – يمكنه أن ينكر الإلزامات الناجمة عن المعمودية . على الأهل آنذاك أن لا ييأسوا ، فبالرغم من الظواهر ، لابد لبذور الإيمان الموضوعة في نفسه من أن تعود إلى الحياة ، ولسوف يساعد الأهل على ذلك بصبرهم وحبهم ، وبصلاتهم وشهادة إيمانهم الأصلية .
- في حال وجود اهلين قليلي الإيمان أو يمارسون شعائرهم الدينية في المناسبات أو حتى اهلين غير مسيحيين … في هذه الحال يجتهد الكاهن بحوار بعيد النظر ومليء بالتفاهم في إذكاء اهتمام الاهلين بالسر الذي يطلبون . فالكنيسة لا يمكنها النزول عند رغبة مثل هؤلاء الأهل إلا إذا أكدوا أن الطفل ، بعد معموديته سوف يحظى بالتربية التي يستدعيها السر . ولها أمل وطيد بأن المعمودية سوف تعطي ثمارها .
… والآن يا رب ، أنظر بحب إلى كنيستك وفجر فيها نبع العماد ، وبهذه المياه فليعط الروح القدس نعمة المسيح لكي يغتسل الإنسان ، المخلوق على صورتك ، من الادناس التي تشوه هذه الصورة ، وليولد من الماء والروح لحياة أبناء الله الجديدة … نسألك ، يا رب ، بنعمة ابنك ، أن تأتي قوة الروح القدس على هذه المياه لكي ينهض للحياة مع المسيح كل من يعتمد ويدفن مع المسيح ، بيسوع المسيح ربنا ، آمين