المسيح يُرسلنا لبشارة الملكوت
قال يسوع المسيح لتلاميذه الأطهار:
وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين "أنه قد اقترب ملكوت السماوات".
لقد حدّد يسوع موضوع الكرازة ألا وهو "التوبة"، بكونها طريق الملكوت السماوي. وقد سبق فعرّفنا التوبة
أنها ليست جانبًا سلبيًا، أي مجرد تخلِّي عن الشرّ ورفض كل خطيّة، وإنما هي عمل إيجابي فعّالاً في حياة المؤمن، وهو قبول عمل الروح القدس فينا الذي يهب ويعطي ويشبع!....
*التوبة هي تغيير لاِتّجاه القلب الداخلي والفكر وكل طاقات الإنسان، فبعدما كانت متّجهة نحو الأرضيّات تصير في المسيح يسوع ربّنا بالروح القدس متّجهة نحو ملكوت السماوات.
* بمعنى آخر فيما يرفض الإنسان الخطيّة وكل ما هو غريب عن الله إذ به ينعم بالله السماوي نفسه وكل ما له من نعمٍ وهباتٍ مشبعةٍ.
*كأن التوبة هي تفريغ وامتلاء بغير انقطاع، ترك وأخذ، جوع وشبع في نفس الوقت.
* لا يريدنا الله أن نسلك في حالة حرمان وكبت، وإنما بالعكس خلال التوبة يريدنا أن نعيش في حالة شبع وفرح وتهليل وتمتّع بالأمور الفائقة، فيسلك الإنسان على الأرض بفكر سماوي.
* بهذا نستطيع أن نميّز بين التوبة العاملة فينا بالروح القدس، والتوبة التي هي من صنع أنفسنا.
* الأولى تدخل بنا إلى ملكوت السماوات، فنعيش مع الآب في ابنه بالروح القدس.
* أمّا الثانية فهي حرمان ممّا هو أرضي ، دون تمتّعٍ بما هو سماوي.
* الأولى توَلِّد فرح الروح ومحبّته وسلامه... الخ.
* والثانية توَلِّد حزنًا شديداً وضيقًا في القلب وقلقًا ومرارة.
* الأولى تنطلق بالنفس من مجدٍ إلى مجدٍ لتبلغ إلى أعلى السماوات،
* والثانية تنحدر بالإنسان من سئ إلى أسوة فيعيش في هبوط مستمرٍ يدفع به إلى الهاوية!
إمكانيّات الكرازة
"اشفوا مرضى، طهِّروا بُرصًا، أقيموا موتى، اخرجوا شيّاطين،
مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا.
لا تقتنوا ذهبًا ولا فضّة ولا نحاسًا في مناطقكم.
ولا مذودًا للطريق ولا ثوبين ولا أحذية ولا عصا، ".
* قبل أن يسألهم عدم اقتناء ذهب أو فضّة أو نحاس، قدّم لهم إمكانيّات جبّارة تسندهم في الخدمة من شفاء للمرضى وتطهير للبرص وإقامة الموتى وإخراج الشيّاطين. وكأن السيّد لم يحرمهم من الأمور الزمنيّة إلا بعد أن قدّم لهم كنوز محبّته العميقة.
* يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: (إذ أراد أن يدرّبهم على كل الكمال طلب منهم ألا يفكّروا فيما يخص الغد... فإن كان يرسلهم كمعلّمين للعالم كله، هذا جعلهم وهم بشر ملائكة، مبرّرا إيّاهم من كل اهتمام أرضي حتى لا ينشغلوا إلا باهتمام واحد وهو التعليم، بل بالأحرى أراد أن يحرّرهم حتى من هذا الأمر بقوله:
"لا تهتمّوا كيف أو بما تتكلّمون".
* يلتزم التلميذ ألا يقتني شيئًا، فإن السيّد المسيح هو ذهبه وفضّته ونحاسه وطعامه وثوبه وطريقه وعصاه.
* السيّد المسيح هو ذهبنا، فإن كان الذهب في الكتاب المقدّس يُشير إلى الحياة السماويّة، فإن المسيح هو سرّ الدخول بنا إلى الحياة السماويّة، أو هو كنزنا السماوي الذي يسحب قلبنا إليه.
السيّد المسيح هو فضّتنا، فإن كانت الفضّة ترمز لكلمة الله (مز 12: 6)، فإنه بالحق حكمة الله الحيّ الذي يعمل فينا وبنا لكي يدخلنا إلى حضن أبيه.
وهو نحاسنا، نلبسه فنصير به أقوياء ندك الطريق فلا تقدر العثرات أن تعوقنا عن الملكوت.
وهو الطعام الذي به نقتات فنعيش في حالة شبع دائم، فلا نشتهي الزمنيّات ولا نطلب ملذاتها. وهو الثوب الذي به نلتحف فيسترنا في عينيّ الآب، ونُحسب كأبرار في دمه الطاهر.
إنه طريقنا الذي به ننطلق إلى أبيه لنحيا معه في أحضانه، شركاء في المجد الأبدي.
إنه العصا التي حطّمت الشيطان خلال الصليب، فصار لنا الغلبة والنصرة.
إذن لم يحرم السيّد المسيح تلاميذه من شيء، مقدّمًا نفسه سرّ شبع لكل احتياجاتهم.
أما بخصوص الأحذية، فإنها إذ تُصنع من جلد الحيوانات الميّتة ترمز إلى الأعمال الشرّيرة المهلكة، لهذا يقول القدّيس جيروم:
(لأنه عندما ألقى الجند القرعة على ثياب السيّد لم يكن معها أحذية ينزعونها عنه. لأنه وإن مات السيّد بالجسد لكن لم يوجد فيه أعمال ميّتة).
يمكننا أن نقول بأن الإمكانيّات التي قدّمها السيّد لتلاميذه هي إمكانيّات التوبة في أعلى صورها، فإنهم إذ يقتنون السيّد المسيح نفسه عِوض الذهب والفضّة والنحاس والمذود والثياب والعصا، فيكون هو كل شيء بالنسبة لهم، يستطيعون أن يطالبوا العالم بالتوبة، أي قبول المخلّص كمصدر شبع لهم عِوض الخطيّة التي قدّمت لهم الضيّق والعوز والمرارة.
*لا يستطيع المبشر بالسيّد المسيح أن يقدّم للآخرين السيّد المسيح كسِر غِنى النفس وشفائها، بينما يرتبط هو بأمور العالم ويستعبد نفسه لها!.
* يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على هذه الوصيّة الإلهيّة للتلاميذ الكارزين بقوله:
(إنه يَقطع كما بمنجل محبّة المال التي تنمو دائمًا في القلوب البشريّة) لكنّه وهو يقطع وهبهم البديل الذي به يستطيع الرسول بطرس أن يقول:
"ليس لي فضّة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإيّاه أعطيك؛ باسم يسوع المسيح الناصري قم وامش" (أع 3: 6).
لم يعطه مالاً لكنّه أعطاه باسم السيّد صحّة التي هي أفضل من المال.
كما يُعلّق أيضًا ذات القدّيس بقوله:
(للكنيسة ذهب لا لكي تخزنه، وإنما لتوزِّعه وتنفقه على المحتاجين).
سلوكهم أثناء البشارة
"وأيّة مدينة أو قرية دخلتموها فافحصوا من فيها مستحق. وأقيموا هناك حتى تخرجوا.
وحين تدخلون البيت سلّموا عليه.
فإن كان البيت مستحقًا فليأتِ سلامكم عليه.
ولكن إن لم يكن مستحقًا فليرجع سلامكم إليكم".
عندما يدخلون مدينة أو قرية يبحثوا عن بيت له سمعته الطيّبة ويقيموا فيه، ولا ينتقلوا من بيت إلى آخر حتى لا تتحوّل خدمة الكلمة إلى خدمة المجاملات، وإنما يركِّزون فكرهم وجهدهم في العمل التبشيري وحده.
هذا ومن جانب آخر أراد السيّد لهم أن يعيشوا بلا همّ، ليس فقط لا يقتنون ذهبًا أو فضّة أو نحاسًا، وإنما أيضًا لا يضطربون من جهة الخدمة نفسها؛ عليهم أن يقدّموا الكلمة كما هي ولا يضطربوا إن رفضها أحد! إنهم كارزون فحسب لكن الله هو الذي يعمل بهم وفيهم.
رفض العالم لهم
إن كانت رسالة التلاميذ هي إعلان السلام الروحي الداخلي بالمصالحة مع الآب في ابنه ربّنا يسوع بروحه القدّوس، فتتصالح النفس أيضًا مع الجسد ويتصالح الإنسان مع أخيه، لكن الأشرار لا يحتملون المصالحة، ولا يقبلون الحب فيواجهونه بالشراسة، إذ يقول:
"ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب".
يُعلّق القدّيس أغسطينوس على هذا القول الإلهي هكذا:
(تأمّلوا يا إخوتي ما يفعله ربّنا يسوع! تصوّروا لو أن ذئبًا واحدًا ذهب وسط غنم كثير مهما بلغ عددهم بالآلاف... أفلا يرتعب جميع الغنم بالرغم من عدم قدرة هذا الذئب على افتراسهم جميعًا؟
فكم تكون مشورة ربّنا يسوع المسيح، التي يشجّعنا بها، إذ لا يلقي بذئب وسط غنم، بل يُلقي بالغنم وسط الذئاب؟...
إنه لم يطلب منهم أن يقتربوا من الذئاب، بل يكونوا في وسطهم. حقًا لقد كان هناك قطيع صغير من الغنم، لكن إذ افترستها الذئاب الكثيرة تحوّلت الذئاب إلى غنم).
وفي مرارة يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم أيضًا فيقول:
(لنخجل إذ نفعل نحن العكس فنقف كذئاب ضدّ أعدائنا!
مادمنا نحن غنم، فإنّنا سنغلب بالرغم من وجود ربْوة من الذئاب تجول حولنا لافتراسنا، أمّا إذا صرنا ذئابًا فسنهزم إذ يفارقنا عون راعينا، الذي لا يعول الذئاب بل الغنم